أقبلت يوما على عملي وكأني منصب عليه انصبابا، فما أفقت من غفلتي هذه حتى أحسست أن الأضلاع تكاد تهبط على الأحشاء، وشعرت بأن نبضات القلب كخيل الطراد لا أستطيع لها عدا، واعتراني سأم لم أجد وسيلة تنقذني منه غير ترك القلم وإطباق الكتاب، فنهضت أتفرج ولم أدر أنني أطبقت الكتاب الصغير لأفتح الكتاب الأعظم، رأيت زهرة حنت رأسها لتسلم الروح، فقدت نضارتها بعدما كانت تسحر النواظر وتنعش العقول، فقادني تداعي الأفكار إلى طور الشباب زهرة الحياة.
لا يفتر ثغر هذه الزهرة في الصباح ليستقبل قطرات الندى حتى تكويه حرارة شمس الواقع القاسية، فيلفح الحر نضارة تلك الزهرة الحالمة فتذوي وتذبل، عراك مستمر وتنازع دائم، الليالي تطارد الأيام والأعوام تدوس الإنسان بقدم لا تبقي عليه ولا تذر.
ومن الزهرة تحول نظري إلى شجرة كانت الناس تقيل في ظلها الوارف وتأكل من ثمارها الدانية ، وهي بثوبها النضير الأوراق والعيون عالقة بها ترجو أن تظفر الأيدي بما تسد به الأفواه والبطون، فتذكرت كيف يلتف الناس حول من يبتسم له الدهر سيدا كان أو مسودا، حتى إذا هبط من القمة إلى الوادي ارفض الناس عنه لا يذكرون ماضيه، ولا ما أغدق عليهم من أياديه.
ثم رأيت قصبة تميل مع الهواء كيفما مال لا تهاب الزوابع ولا يهلع فؤادها من هياج الإعصار، فرأيتها تمثل حياة الناس الذين يتقلبون مع كل ريح ويلبسون لكل ساعة لبوسها، فلا يضيقون ذرعا بحال من الأحوال، يمشون مع التيار مؤثرين السلامة والعافية، وينحنون إلى الأرض حتى تعود العاصفة إلى خدر أمها، لا يعنيهم إلا أن يعيشوا آكلين شاربين ومن الهم خالين.
ومن القصبة تحول نظري إلى السنديانة العنيدة الرابضة على جبين الرابية تهزأ بالرياح وتعبس في وجه الزوابع الهائجة، تلوح بأغصانها كأنها تشير بعناد قائلة: لا أنحني فافعلي ما شئت، تتماسك كلما زمجرت الزوبعة فلا تلين لها ولا تتراخى، وظلت تجاهد حتى سقطت بعض أغصانها، وعاد إليها سكونها وطمأنينتها، ولا تبالي بما فقدت لأنها ثبتت في النضال وخرجت ظافرة، فذكرتني بنضال النفوس الكبيرة من أجل القضايا الخالدة.
ولاحت لي بقعة صغيرة من الأرض لبست ثوبا أرجوانيا من شقائق النعمان، فما دنوت منها حتى كرهتها، وما أكره القلوب السوداء في هذا المجتمع! تلك القلوب التي فيها الحقد والبغض، والتي لا تعرف إلا الانتقام، ولا تنسى سيئة، ودها خب ونفاق، وابتسامها دمل مفتوح ينهار منه القيح والصديد، حناجرها قبور مفتحة وسم الأفاعي تحت شفاهها.
ورأيت كلبا على مزبلة ينهش كل ما وصل إليه فلا يعف عن شيء مهما كان قذرا، فتمثلت ذلك البخيل الذي يفني حياته بجمع الأموال يأكل ولا يطعم، لا يفتح يده لنجدة، ولا يهتز لإسعاف، ولا يحسن إلى فقير، درهمه عفريت في قمقم سليماني، وديناره في حبس الدم، همه أن ينال ولو الخسيس لأن ذلك من طبعه.
ورأيت طائرة تخترق الفضاء مروعة النسور، وما غابت عن نظري وراء الغيوم حتى رأيتها تنقض كالكوكب الذري وتتحطم على صخرة الوادي، فتمثلت الجبابرة الذين يرتفعون ويرتفعون حتى إذا ما انطفأت النار أو نفد البنزين أو طرأ خلل على المحركات هبطوا إلى الحضيض إما أمواتا وإما مهشمين.
ورأيت الأسهم النارية تشق كبد الظلام محلقة صعدا في الجو، ثم لم تلبث أن عادت حيث كانت، فتمثلت ذاك المتكبر الذي يرفع رأسه ويصعد على أجنحه الوهم ويحسب نفسه أنه ارتقى أعلى ذروات المجد، ولكنه مهما شمخ بأنفه فلا بد من أن يسقط ويعفر جبينه بالتراب، ويلوي رأسه كالسهم عند هبوطه.
ورأيت ظلمة الليل الموحشة بعدما كنت مبتهجا بنور القمر، كان يسكب علي نوره الحالم فلما فقدته شعرت شعورا كاملا بقول أبي فراس في بيته المشهور، وعرفت أنه لا بد من هذا وتلك، وأن الحياة لا تطيب على نمط واحد.
Page inconnue