وبعد، فلماذا كثر ذكر الحظ في أدبنا وخصوصا الشعر منه؟ ما وجدت لذلك سببا غير تواكل شعرائنا وأدبائنا حتى ملئوا شعرهم أنينا وطنينا، والذي يظهر لي أننا نحن جميعا اتكاليون ننتظر أن يأتينا الرغيف إلى البيت ثم لا نكلف أنفسنا غير أكله ...
قلت في نفسي: لعل الشعر الشرقي كله يتحدث عن الحظ تحدث شعرائنا ويعزو إليه الإخفاق في الحياة، فرحت أنظر في كلام شعراء التوراة فما رأيت كلمة الحظ وردت فيها - على ضخامتها - إلا أربع مرات:
واحدة عن أيوب: «وفوق الظهيرة يقوم حظك»، وأخرى في سفر الأمثال: «عندي الغنى والكرامة قنية فاخرة وحظ»، وثالثة في سفر الأمثال أيضا: «التابع للعدل والرحمة يجد حياة، حظا وكرامة»، ورابعة في شعر أشعيا: «هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا.»
أما كلمة نصيب كما يفهمها الناس اليوم - أي بمعنى الحظ - فلم ترد قط عندهم، وهذا ما جعلني أعتقد أننا نحن وحدنا نؤمن بالحظ هذا الإيمان المطلق فنعزو إليه كل توفيق وكل إخفاق.
ولا تنس تكالبنا على حطام الدنيا فهو الذي يجعلنا نسمي النذل صاحب حظ إذا وقع على المال الحرام ولم يعف عنه، لست من أصحاب المروءة إذا أكلت مال السحت، وأنت أتعس الناس إذا اؤتمنت وخنت، فنعم الحظ حظك إذا كان ما أصبته حلالا زلالا! وما أتعس جدك إذا فرحت بلقطة وقعت في يدك فالتهمتها وعددت ذلك حظا وحللتها، بينما ضميرك يصرخ: ردها ...!
وبعد، فأنا لست ممن يؤمنون بالحظ، لا أومن إلا بكلمة واحدة، أومن بليس للإنسان إلا ما سعى.
أنت تؤمن بالحظ وكأني بك تومئ برأسك: نعم، إذن الدنيا في رأيك قسمة ونصيب، وعلى هذا اتفقنا يا صاحب، فأرجو منك ألا تقوم من فراشك غدا، ابق نائما، ومتى غابت الشمس نتحاسب، أريد أن أعرف أي حظ ساق إليك الرزق إلى البيت، وماذا سقط عليك من السماء من من وسلوى، وماذا أطلعت لك الأرض من خيرات ... طبعا لا شيء، إذن الإيمان بالحظ خرافة كبيرة، وليس الرزق مطرا تجود به السماء.
الرزق يا صاحبي كامن بين مخالب المصاعب، ولا ينتزعه من بين براثنها إلا كل جبار، فإذا كنت تشكو قلة فداو نفسك بالكد والجد، إياك أن تقف! فالوقوف موت، اعمل ولا تيأس.
لا تصدق ذلك الخامل ابن الرومي فلو كان سعى كان رعى، ولكن ابن الرومي يريد العصفور محلوقا منتوفا مشويا ملفوفا برغيف، ولولا القليل لالتمس من يمضغه له، وما هكذا تكون الرجال.
فبحياتك إذا كنت ذا أولاد لا تذكر الحظ على مسامعهم لئلا تربي شبابا فاترين مائعين يقصرون في أول العقبة، خبرهم عن الذين خابوا في الحياة وأبوا أن يتراجعوا، حدثهم عن الذين سقطوا في الميدان مرات ثم نهضوا وجروا وظلوا يقعون ويقومون حتى بلغوا الغاية.
Page inconnue