إن هذا الموضوع «حول عالم أفضل» الذي كثر التحدث عنه في هذه الأيام، يوجه الكاتب إلى التفكير بخلق عالم مثالي لا شر فيه. وعندي أنا أن الشر ضربة لازب بخلاف ما قال النابغة في ممدوحيه الغساسنة، وإذا عدنا إلى ما وراء التاريخ رأينا أن آلهة البشر الأولى كانت آلهة حرب، وتلك الآلهة هي التي خلقت هانيبال والإسكندر، وبالرغم عن أحلام أشعيا وأفلاطون بعالم فاضل منقى من جميع أدران الشر.
فإذا نظرنا في أساطير الأولين رأينا أن آلهة فينيقية واليونان وجميع الآلهة القدماء آلهة تتطاحن فتزعج السموات والأرض، يقاتل بعضها بعضا قتالا لا هوادة فيه، يخلقون العدد اللازمة ارتجالا؛ لأنهم آلهة يقولون للشيء كن فيكون.
فهذا هركيل - الذي عبدته فينيقية زمنا طويلا - زعمت أساطير الأولين أنه زحف على المغرب بجيوش لا تحصى جمعها من كل جهات المشرق، وكان هو على رأس تلك الجيوش الجرارة، فافتتح قبرس والجزائر المجاورة وجزر الأرخبيل وبلاد اليونان، وكل ما عمر ربنا من بلدان فاستولوا عليها، ثم عاد هركيل بعد تلك الحرب الأولى العظمى ليموت حتف أنفه في قادش.
ولم يكتفوا بفحول الآلهة الذكور فجعلوا مينرفا إلهة حرب، زعموا أنها ولدت من جوبيتر فخرجت من دماغه لتجعل ربة الحكمة والفنون الحربية، حتى زعم فانيلون - وهو يكاد يكون من المعاصرين بالنسبة إلى العصور التي نتحدث عنها - فوصف لنا جمال وجه منيرفا كأنه كان معاصرا لها، فقال إنه لم يكن فتانا يهيج الشهوات في الناظر إليه كجمال فينيس، ولكنه كان جمالا طبيعيا خاليا من التصنع يحرك على الاحتشام، وكل ما فيها كان موقرا شريفا مملوءا من العزة والشهامة. يقول هذا فانيلون متحدثا عن إلهة خرافية كأنه جاد غير هازل، والأساطير تجعل شعار هذه الإلهة مجنا ودرعا مصنوعين من جلد أحد الجبابرة الذي غلبته، وهوميروس شاعر اليونان الأعظم جعلها مدربة ومساعدة لليونان في حرب طروادة.
ثم يأتي مارس إله الحرب العظيم فيكون في عون الطرواديين، وقد قال في وصفه الشاعر أشيل: إنه إله ميال إلى الإتلاف والخراب، ولا شيء مقدسا لدى قساوته وتحت يده الثقيلة، وبالاختصار حميت المعركة، وانتقلت ساحتها من بين بني البشر فصارت بين آلهتهم ومعبوداتهم، وها هي منيرفا ترمي الإله مارس بحجر فجرحته، فضج ضجة عشرة آلاف رجل ... ولما سقط على الأرض غطى بجسده مساحة سبعة فدادين.
وتنتقل فكرة الحرب في ظلمات تلك العصور حتى تبلغ عصر بني إسرائيل، فإذا إلههم إله حرب أيضا يصفونه بأنه ينتصر لقومه وينتقم لهم، كما جاء في سفر الخروج، يقول الرب: «إني نحو نصف الليل أخرج في وسط مصر، فيموت كل بكر في أرض مصر؛ من بكر فرعون الجالس على كرسيه إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكر بهيمة. خذوا باقة من زوفا واغمسوها في الدم ومسوا العتبة العليا، حتى إذا اجتاز الرب ورأى الدم على العتبة يعبر عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم ليضرب.»
وها هو داود يترنم في زبوره، يسبح ويمجد «يهوه» ويسميه دائما رب الجنود فيقول: «في ضيقي دعوت الرب، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه؛ فارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال، صعد دخان من أنفه ونار من فمه آكلة، برد وجمر نار، أرسل سهامه فشتتهم، وبروقا كثيرة فأزعجهم.»
وفي مزمور آخر يقول في وصفه: «الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال، ويكسر الرب أرز لبنان، كما يقول داود، إكراما لسواد عيون شعبه إسرائيل.»
ويتطوح داود فيقول لربه: «خاصم يا رب مخاصمي، وقاتل مقاتلي، امسك مجنا وترسا وانهض إلى معونتي، واشرع رمحا وصد تلقاء مطاردي.»
وفي مكان آخر يقول أيضا: «عجت الأرض، زعزعت الممالك، أعطى الرب صوته فذابت الأرض، رب الجنود معنا ...»
Page inconnue