فلو كان في قلوبنا قدر حبة خردل من الرحمة، لفكرنا بمكافحة البؤس المنتشر حولنا قدر ما نستطيع، متذكرين فلس الأرملة الذي عظمه صاحب العيد، فأي منا لا يستطيع أن يبذل فلسا احتفاء بعيد المعلم؟ فخير هدية ميلادية هي تلك التي تبذل في سبيل المشردين.
أذنان ولسان واحد
منذ بضع عشرات من السنين وأنا صاحب هاتين الأذنين، أما كيف لم يلفتا نظري إلا البارحة فهذا فوق علمي، وأما كيف انسقت إلى هذا التفكير أو انجررت إليه، فهذا من حق القارئ العزيز أن يعرفه؛ لأنه صاحب أذنين مثلي، فإذا أعار قولي انتباها فسوف يشغل باله ما شغل بالي من أمر هاتين الأذنين، إني أؤكد له أن أذني غير طويلتين ولا قصيرتين، بل هما كما يقول المثل: «وخير الأمور الوسط.»
والآن هاكم الحكاية: صرفت نهارا كاملا مفتشا عن موضوع ما، فما وقعت عيني على صورة تسر القارئ وتعجبني، على كثرة صور الحياة وتعددها، فلا تنقضي دقيقة حتى تطوي وتنشر صورا صالحة للمعرض والمتحف؛ فالحياة لا تكل ولا تمل ولا تصاب بتصلب الشرايين وضعف القلب مثلنا، إنها تجري وتجرينا معها في مضمارها وإلى غايتها.
استعرضت صورا كثيرة من صور البشر فرأيت الكثيرين من أبطالي، ولكنني لم تعجبني صورة أحد منهم، فأفلس نهاري ومسائي وألقيت سلاح التفكير، واندمجت بفراشي أتخبأ فيه من وجه تلك الفكرة فلا تقع علي عينها، ولكنها ركبت كتفي كأن لها عندي دينا، ومن محاسن الصدف أو مساوئها وجعتني أذني وجعا أغراني بحكها، فرحت أفركها وأدلكها وهي تقول: «هات ما عندك» حتى كبرت في يدي. وتناولت مرآة صغيرة أضعها عادة حد رأسي، فرأيت أذني قد احمرت وكادت تفخر على أختها بالكبر، وإن كان الكبر في الأذن غير محمود؛ لأنه يشد القرابة بيننا وبين صاحب أنكر الأصوات ... تأملت بالمحكوكة وأختها فجاءني فكر لا أدري كيف جاء عفوا، وإذا بي أسأل نفسي: «لماذا خلقت ذا أذنين، أما كانت تكفيني واحدة؟!»
ظننت أنني أسمع أكثر فسددت إحداهما بأصبعي، فإذا القصة مع الأذنين غيرها مع العينين، فقلت إذ ذاك: «لأمر ما ركبت هاتان الأذنان في هذا الرأس الذي يتعبني حمله منذ عرفت الخير والشر.» وأردت أن أنام ولكنني ما قدرت كأن في أذني برغوثا.
وأطفأت المصباح فما جاء النوم، فضوأت وأخذت أحد كتب مخدتي فما استطاع تحويل تفكيري عن هاتين الأذنين، طار النوم، وتذكرت ما أصاب صاحب لحية طويلة مع بنت خبيثة أو ساذجة لا أدري؛ هال الفتاة استبداد لحية ضيفهم الجبارة واحتلالها صدره العريض، فسألته سؤالا بسيطا: «أين تضع لحيتك عندما تنام، تحت اللحاف أو فوقه؟» فسببت له قلقا مركبا، لولا يصيب أحد رجال الدول لأذيعت النشرات الطبية عن صحته في كل ساعة.
أطرق الكاهن يفكر، وفتحت الصبية عينيها وأذنيها وفمها، أصغت بكل حواسها لتسمع الجواب فكانت كأنها تحدث غائبا عن الحضرة، وظل صاحب اللحية البحترية مرتبكا محيرا، هزته الفتاة هزة اضطرب لها وقالت: «غفيت؟ ما جاوبتني!»
فتنهد كمن حذف عن ظهره حملا ثقيلا وقال لها: «أمهليني يا بنتي، غدا أجاوبك.» وظل يفكر، ثم بارح المكان وهو ما زال يفكر.
وجاء الليل وجاء الويل، ما نام صاحبنا تلك الليلة، تحير أين يضع لحيته، وضعها تحت اللحاف فتضايق مقدمه - كما قال عنترة - وما عرف النوم، وجعلها فوق اللحاف فرآها ممتدة مفرشة.
Page inconnue