145

Chemins et Méthodes

سبل ومناهج

Genres

وكذلك البحث في التربية بصورة عامة، فهو لا يطعم من جوع ولا يؤمن من خوف، فالتربية تختلف باختلاف الناس وبيئاتهم، لا يستفيد الناس من قوانين التربية العامة إلا إذا رجعوا إلى عصر المغاور والكهوف فصارت أهدافهم ومثلهم العليا واحدة، ومن يعتمد على هذه المبادئ العامة المدونة في الكتب فهو كمن يعتمد على كتب الزراعة الأوروبية، يترجمها بدقة ليعمل بها في بلاده ناسيا أن لكل تربة خواص، ولكل مناخ تجارب خاصة، فلا يصلح في هذا ما ينجح في ذاك.

وماذا تنفع الكتب التربوية بل ماذا تفيدنا هذه الألقاب العلمية الضخمة عند بعضنا ما دامت الأستاذية لم تبلغ عندنا بعد درجة يثنى عليها؟ فهي أولى وسائل المرتزقة، إذا ضاقت مسالك العيش على حملة البكالوريا والليسانس ولوا وجوههم شطر المدارس ودخلوها لاجئين ... فتوليهم تعليم الفتيان بعد إلقاء نظرة عابرة على شهادتهم، ومنهم من يقبلون بلا شهادة ... كانوا أول من أمس تلاميذ تفرك آذانهم عند كل شذوذ، وصاروا اليوم أساتذة، والويل لك إذا خاطبت أحدهم ب «يا معلم»، فهو لا يرضيه على حداثة عهده إلا لقب أستاذ.

وإذا كان المعلم - كما هي الحال - جاهلا الطبيعة الإنسانية، ولا عدة له إلا ما قرأه من نظريات، هذا إذا كان قرأ، وما جمعه وكدسه من معلومات، هذا إذا كان جمع؛ فأنى له تدريب فتيان يجهل هو الدرب مثلهم؟ بل من أين له الوصول إلى مطاوي نفس تلميذه إذا لم يعد إعدادا فنيا لمهمته؟ فالتعليم فن قبل أن يكون علما، والجمهور عندنا يعبر عن هذا بقوله: المعلم الفلاني أسلوبه ممتاز يفيد تلاميذه.

إن علم التربية والتعليم لا يكلف المعلم إلا تنبيه غرائز تلاميذه وإثارتها، فما عليه إلا أن يفتح لهم الأبواب دون أن يلجها هو قبلهم، فالمعلم الحديث مرشد ومعين لا يجديه علمه الغزير في مهمته الصعبة إن لم تطغ عليه خصلة التعاون مع تلميذه ليأخذ بيده إلى الهدف، فالمعلم المستبد برأيه، المعلم الذي يملي مذاهبه إملاء على تلاميذه لا ينفع أمته، إن تلك المذاهب تدخل من أذن وتخرج من أذن، فعلى التلميذ أن يبحث ويجد بمعونة أستاذ وإرشاده؛ لأن الذي يجده التلميذ بنفسه يبقى، أما الذي يسمعه من معلمه فيذهب.

ليس على المدرسة إخراج بيانيين ورياضيين ومؤرخين، ولكن مهمتها تكوين رجال للوطن بواسطة هذه العلوم. والمعلم لا يعطي صفات وطرقا يتبعها الطالب، بل يخلق فيه ضميرا حيا يرشده في مهنته، فكل شخص يعلم بلا إيمان تربوي هو شخص بلا روح، كما يقول دركايم. فهدف المعلم الأول أن يخلق نفسا في الجسد الذي يعلمه، ولا يقدر على دخول هذا الجسد أحد سواه. إن عملا كهذا يستغرق حياة بكاملها، فكيف يقوم به من لم يكن معلما لو لم تضق به الدنيا، وهو لاط الآن في إحدى المدارس ينتظر أن تمر العاصفة ويفتح الله عليه ...

المعلم جندي، والجندي الجوعان لا يضرب بسيف السلطان؛ لأنه لا يأكل خبزه. فإذا أردنا أن ننشئ وطنا فما علينا إلا أن نشبع المعلم ونشعره أنه عيال على الوطن.

أما كيف تعلمنا نحن؟ وكيف صرنا رجالا، إذا كنا صرنا؟ فهذا ما يحيرني، لا بل يشككني بعلم التربية الحديث الذي أتكلم عنه.

أذكر ولا أنسى واحدا من معلمي الأفاضل، كان كاهنا في جبته رائحة أعزب الدهر، كث اللحية، متجهم الوجه كأنه المعري كما رسمه جبران، له كف مثل المدرى، أصابعه مصفرة وسبابته مثل ململمة الفيل، يدخن بلا انقطاع، كأن سيكارته نار المجوس التي لم تنطفئ إلا ليلة المولد الشريف، يتغلغل الدخان في لحيته ثم ينبعث منها رويدا رويدا كأنها حطب الموقد قبل اشتعاله، ولكنها ما اشتعلت كما كنا نتوقع، نعم بلغت النار أقصى عقب سيكارته فأخذت بعض شيء من شاربه الذي أكله داء الثعلب، فكح وعرفنا إذ ذاك أن له أسنانا ...

كان مولعا بأكل الليمون ملتوتا بالسكر، والليمون في نهر الجوز رخيص، وفي مدرسة مار يوحنا مارون سكر كثير، والرئيس راض عن حضرة الأستاذ يثق بعلمه الغزير، فهو يعرف الصبان والخضري والأشموني بشعره وبعره، ما دخل الصف يوما إلا سبقته إليه سلة الليمون وصحن السكر وحزمة من السكاير، دخان بلدي كوراني يشرقط مثل البارود، والأستاذ - أيده الله - يؤثر إشعال سيكارته من القداحة والصوانة فتملأ غرفة الصف رائحة الصوفان.

كانوا في ذلك الزمان يفتتحون كل درس بصلاة «الأبانا» ويختمونه ب «السلام»، فنصلي عند كل أستاذ وفي كل صف، وأذكر أن أستاذنا كان يصلب باليمنى محتفظا ببقية سيكارته باليسرى، وما تنتهي الصلاة حتى يولجها في ذلك الثقب الذي يذكر بأصبع الربيع بن زياد فنترحم على لبيد.

Page inconnue