أدى هذا العدل بين الناس جميعا إلى اطمئنانهم جميعا وأدى حزم أبي بكر وحمله تبعة الأمر كاملة إلى مهابتهم إياه وإكبارهم له كان عمر بن الخطاب أقرب المشيرين إلى قلبه وأرجحهم رأيا عنده، وكان عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم موضع تقديره واحترامه، لا يقطع في أمر برأي مشورتهم لكنه لم يكن مع ذلك يلقي على أحد منهم تبعة، ولم يكن يتوارى وراء مشورتهم ليدفع عن نفسه لوما، ولقد رأيته كيف خالف الجماعة في بعث أسامة، وكيف أبدى من الحزم وقوة العزم في محاربة المرتدين ما جعل مشيريه كلهم يقرون من بعد بسداد رأيه وبعد نظره؛ ثم رأيته كيف خالف ابن الخطاب في خالد بن الوليد حين مقتل مالك بن نويرة وكيف كان يستخير الله في كل شيء، فإذا خار له في أمر لم يرجع عنه ولم يتراجع لأي اعتبار دونه.
ولم يغير تزايد تبعاته من شظف عيشه، بل زاده انصرافا عن كل ما يرفه به عن نفسه كان حين مقامه بالسنح لا يأبى على نفسه ألوانا من الرفه تعينه على الحياة والجهد فيها؛ فكان يغدو إلى المدينة وربما ركب فرسه وعليه إزار ورداء ممشق فيصلي بالناس؛ وكان يستريح بالسنح أحيانا فيصلي عمر بهم وكان يقيم بداره صدر النهار يوم الجمعة يصبغ رأسه ولحيته، ثم يذهب إلى المدينة يخطب الناس ويؤمهم للصلاة أما مذ أقام بالمدينة لتزايد أعباء الدولة فقد تم تفرغه لشئون المسلمين وإن فاته ما يرفه عنه وأقام مع تزايد هذه الأعباء لا يتخذ لنفسه خادما في داره ولا في أعمال الدولة ثم كان يجلس في المسجد حيث كان يجلس رسول الله، يسمع للناس ويحدثهم، ويستشيرهم ويشير عليهم، ويقضي فيما يعرض عليه من شتى الشئون.
وكان على إيثاره الشظف شديد البر بالفقراء والضعفاء كان يشتري الأكسية ويفرقها على الأرامل في الشتاء ، وكان يرعى الفقراء والمساكين بنفسه في سر من الناس كان عمر بن الخطاب يتعهد امرأة عمياء بالمدينة ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها ألفاها قد قضيت حاجاتها وترصد عمر يوما، فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مئوتها، لم تصرفه عن ذلك الخلافة وجسامة تبعاتها وقال عمر حين رآه: «أنت هو لعمري!» ولا حاجة إلى القول بأن مثال أبي بكر كان أسوة عماله في سائر بلاد شبه الجزيرة، وأن طمأنينة العرب إلى عدل الخليفة وإنصافه، وإلى بره ورحمته، وإلى حكمته وحسن سياسته، كانت من العوامل ذات الخطر في نجاح سياسته.
وكان أبو بكر مطمئنا من جانبه إلى النجاح كل الاطمئنان لقد وعد الله ورسوله لينصرن دينه، ووعد الله حق وقد نصر الله المسلمين في حروب الردة، وها هي ذي جيوشهم بالعراق يسايرها النصر حيث سارت، ويفيء النصر عليها من المغانم ما جعل قبائل العرب أشد على الحرب إقبالا وقد رأيت ما استفاء المسلمون بالعراق ولم يكن يرسل للخليفة من هذا الفيء إلا خمسه، أما أربعة الأخماس فكانت توزع بين الجند في ميادين القتال وكان لأهل الجند في مختلف القبائل من حظ رجالهم نصيب يغري من تخلف على أن يخف إلى الميدان ليكون له ولأهله مثله هذا إلى ما غرسه الإسلام في النفوس من حب الاستشهاد لذلك كان أبو بكر مطمئنا إلى إقبال القبائل على الحرب إذا دعيت إليها، لا تضن عليها بتضحية، بل تخف إليها سراعا يجذبها حب الاستشهاد، وتغريها مغانم النصر.
وكان أبو بكر يعلم ما للحرص على الاستشهاد في نفس الأكثرين من أثر لا يقاس إليه إغراء الفيء وهل نسيت صيحات الأبطال الذين اندفعوا إلى الوطيس في معركة اليمامة، لا يشك أحدهم في أنه ملاق ربه، وهو بهذا اللقاء سعيد كل السعادة! وحب الاستشهاد هو الذي أملى على خالد بن الوليد ما كتبه إلى هرمز وإلى غيره من الفرس يقول لهم: «لقد جئنكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» وهم يقبلون على الاستشهاد؛ لأنه طريق الجنة؛ إذ يغفر الله للمجاهد في سبيله كل ذنوبه وقد كان أحدهم يرى صاحبه يتخطفه الموت من صفوف القتال فيرى في استشهاده آية الرضا من الله عنه، ويتمنى لنفسه مثل هذا الحظ من رضا ربه قوم ذلك حرصهم على الموت طبيعي أن توهب لهم الحياة في أسمى مكان من العز والسؤدد، وأن يطمئن خليفة رسول الله إلى نصرهم، وأن يبعثهم إلى الشام يفتحونه كما فتح إخوانهم العراق.
على أن إغراء الفيء لم يكن بالأمر الذي يستهان به فهو في فطرة البدوي منذ خلقه، ولن يزال في فطرته أبد الدهر، وقد رأيت خالد بن الوليد حين وقف بعد غزاة أليس بالعراق يقول لجنده: «إنه إذا لم يكن في العراق إلا هذا الثراء الضخم وهذا الفيء الذي يعد في بلاد العرب حلما لكفى مغريا بالحرب» ولقد كانت القبائل التي ارتدت تعض أصابعها ندما على ما فعلت مما حرمها الاشتراك في حروب العراق والذين أقاموا على إسلامهم في أنحاء شبه الجزيرة كثيرون ولن يتردد هؤلاء في إجابة الدعوة إلى الجهاد متى وجهها الخليفة إليهم، ولن يكونوا إذا غزوا الشام إلا أبطالا فاتحين.
لذلك كله لم يتغير عزم أبي بكر على غزو الشام حين دعا القوم إلى التجهز إليه فسكتوا متأثرين بقول عبد الرحمن بن عوف: «إنها الروم وبنو الأصفر، حد حديد وركن شديد!» بل بدأ يستنفر الناس، وكتب إلى أهل اليمن يقول لهم: «أما بعد، فإن الله كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا خفاقا وثقالا؛ قال: «وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله» فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، فسارعوا إلى ذلك وعسكروا وخرجوا وحسنت في ذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم».
لقيت هذه الدعوة أذنا سميعة فما كاد رسول الخليفة يتلوها حتى خف ذو الكلاع الحميري إلى فرسه وسلاحه ونهض في قومه ومن عسكر معه من جموع اليمن وسار يطلب المدينة كذلك خف قيس بن هبيرة المرادي في مذحج وجندب بن عمرو الدوسي في الأزد، وحابس بن سعد الطائي في طيء، بينما كان رسول أبي بكر إلى اليمن قد بلغها وأقام يتحدث إلى أهلها، وبينما كان أهل اليمن في استعدادهم ومسيرتهم، كان أبو بكر يستنفر إليه من حوله من المهاجرين والأنصار وأهل مكة وغيرهم يجمعهم ليوفدهم إلى الشام.
وقد اختلفت الروايات: متى بدأ أبو بكر يسير هذه الجيوش، وأي جيش كان أولها، ومن هم الأمراء الذين اجتمعوا إليه، ومن من الأمراء أقام حيث هو ثم توجه إلى الشام طوعا لأمر الخليفة، واضطراب الروايات في أمر الشام يزيد على اضطرابها في فتح العراق وفي حروب الردة.
2
Page inconnue