1 - أبو بكر في حياة النبي
2 - بيعة أبي بكر
3 - العرب حين وفاة النبي
4 - بعث أسامة
5 - قتال من منعوا الزكاة
6 - التهيؤ لحروب الردة
7 - طليحة وغزوة البزاخة
8 - سجاح ومالك بن نويرة
9 - غزوة اليمامة
10 - بقية حروب الردة
Page inconnue
11 - التمهيد للفتح وللإمبراطورية
12 - فتح العراق
13 - بين العراق والشام
14 - فتح الشام
15 - المثنى في العراق
16 - جمع القرآن
17 - حكومة أبي بكر
18 - مرض أبو بكر ووفاته
خاتمة
تقدير وشكر سجل المراجع
Page inconnue
1 - أبو بكر في حياة النبي
2 - بيعة أبي بكر
3 - العرب حين وفاة النبي
4 - بعث أسامة
5 - قتال من منعوا الزكاة
6 - التهيؤ لحروب الردة
7 - طليحة وغزوة البزاخة
8 - سجاح ومالك بن نويرة
9 - غزوة اليمامة
10 - بقية حروب الردة
Page inconnue
11 - التمهيد للفتح وللإمبراطورية
12 - فتح العراق
13 - بين العراق والشام
14 - فتح الشام
15 - المثنى في العراق
16 - جمع القرآن
17 - حكومة أبي بكر
18 - مرض أبو بكر ووفاته
خاتمة
تقدير وشكر سجل المراجع
Page inconnue
الصديق أبو بكر
الصديق أبو بكر
تأليف
محمد حسين هيكل
«لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.»
حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم
بقلم محمد حسين هيكل
يؤرخ العالم الإسلامي كله بهجرة النبي العربي
Page inconnue
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة، والسر في اختيار هذا الحادث العظيم مبدأ للتاريخ الإسلامي أنه مبدأ نصر الله رسوله على الذين حاربوا دعوته في البلد الحرام ثم مكروا به ليقتلوه، وكان الصديق أبو بكر هو وحده صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هذه الهجرة، ولما مرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مرضه الأخير، فلم يقو على الصلاة بالمسلمين، أمر أبا بكر أن يقوم في الصلاة بهم مقامه، ولم يرض أن يقوم عمر بن الخطاب هذا المقام.
وإنما اختار النبي أبا بكر ليصحبه في الهجرة، وليصلي بالمسلمين مكانه؛ لأن أبا بكر كان أول المسلمين إيمانا بالله ورسوله، وأكثرهم في سبيل إيمانه تضحية، ولأنه حرص منذ أسلم على معاونة النبي
صلى الله عليه وسلم
في الدعوة لدين الله وفي الدفاع عن المسلمين، ولأنه كان يؤثر النبي على نفسه، ويقف إلى جانبه في كل موقف؛ ثم إنه كان، إلى قوة إيمانه، من أدنى الناس إلى كمال الخلق، ومن أحب الناس إلى الناس وأكثرهم إلفا لهم ومودة.
لا عجب، وذلك بعض شأنه، أن يبايعه المسلمون خليفة لرسول الله، ولا عجب، وتلك مواقفه، أن ينصر الإسلام وينشر ظل الله في الأرض، فيكون التأريخ له مبدأ التأريخ للإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من بعد في الشرق وفي الغرب، إلى الهند والصين في آسيا، وإلى مراكش والأندلس في إفريقية وأوربا، والتي وجهت الحضارة الإنسانية وجهة لا يزال العالم متأثرا بها إلى اليوم.
Page inconnue
ولقد جال بخاطري، منذ فرغت من كتابي «حياة محمد»
صلى الله عليه وسلم
و«في منزل الوحي»، أن أقوم بدراسات في تاريخ هذه الإمبراطورية الإسلامية، وفي أسباب عظمتها وانحلالها، وإنما أغراني بالتفكير في هذا الأمر أن الإمبراطورية الإسلامية كانت أثرا لتعاليم النبي العربي وسنته، أما وقد درست حياته
صلى الله عليه وسلم ، ورأيت نتائج هذه الدراسة جديرة بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها، فإن دراسة هذه الإمبراطورية وأطوارها ما يزيدنا قدرا للتأسي بالرسول وتعاليمه، وما ييسر لنا حظا جديدا من العلم بهذه الحياة الباهرة الجلال يزيد العلماء اقتناعا بما دعوت إليه من إمعان البحث فيما تنطوي عليه من حقائق نفسية، وأخرى روحية، ما يزال العلم يقف بوسائله حائرا دونها، لا يستطيع أن يثبتها بأدلته، ولا يستطيع مع ذلك أن ينفيها، وهي من بعد قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوم سلوكه فيها.
وأغراني بهذا التفكير كذلك ما أعتقده من أن معرفة الماضي هي وحدها التي تطوع لنا تطوير المستقبل وتوجيه جهودنا أثناءه إلى الغاية الجديرة بالإنسانية؛ فالماضي والحاضر والمستقبل وحده لا سبيل إلى انفصامها، ومعرفة الماضي هي وسيلتنا لتشخيص الحاضر، ولتنظيم المستقبل؛ كما أن معرفة الطبيب ماضي مريضه خير وسائل التشخيص والعلاج.
والحاضر الذي تمخضت عنه الإمبراطورية الإسلامية يتناول بنوع خاص كل الشعوب التي تتكلم العربية ، وتؤمن لذلك بأنها تمت لأهل شبه الجزيرة بصلة ونسب، ومصر مركز الدائرة من هذه الشعوب؛ تمتد حولها فلسطين وسوريا والعراق إلى الشرق، وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش إلى الغرب، ويتناول هذا الحاضر بنوع عام جميع الشعوب التي تدين بالإسلام في آسيا وإفريقية وأوربا، لا جرم وماضي الإمبراطورية الإسلامية يربط على الزمان هذه الأمم والشعوب كافة أن تكون دراسته موضع عنايتها جميعا، وأن يرى كل منها صورته إلى أربعمائة وألف سنة خلت ماثلة في هذه الدراسة، وأن يتعرف من طريقها الأسباب التي أدت إلى ما أصاب هذه الصورة من شوه أو فساد، وأن يلتمس الوسيلة من طريق هذا التعرف لرد الصورة إلى جلالها الأول وبهائها المضيء.
وإني لأفكر في هذه الأمور وفيما يتصل بها إذ رغب إلي جماعة ممن أبدوا الرضا عن «حياة محمد» أن أتناول حياة خلفائه الأولين بالبحث، وأن أفرد لطائفة من أبطال المسلمين في العهد الأول تراجم مستفيضة، أسجل في كل واحدة منها سيرة واحد من هؤلاء الأبطال، ولئن أرضى مطلب هؤلاء الأصحاب نفسي وتملق رضاي عنها لقد أشفقت عليها مما طلبوا؛ فهو أمر يقصر دون إتمامه الجهد، وتنوء بإحسانه جماعة متضافرة.
وكانت الترجمة لعمر بن الخطاب مما أكثر الحديث فيه قوم رأوا سيرة الفاروق غرة في جبين التاريخ الإسلامي، قلت عند ذلك في نفسي: وما لي لا أبدأ بسيرة الصديق فأدرسها وأعرضها على النحو الذي عرضت به «حياة محمد»! لقد كان أبو بكر صفي محمد
صلى الله عليه وسلم
وخليله، وكان أكثر أصحابه اتصالا به، وكان لذلك أكثرهم تتبعا لتعاليمه وامتثالا إياها، وهو بعد رجل رقيق الخلق، رضي النفس، وإليه ينتسب عشرات الألوف ومئاتها من المسلمين المنتشرين في أنحاء الأرض، ثم إنه، إلى رفقه ورقته، هو الخليفة الأول، وهو الذي أقر الإسلام حين حاول المرتدون من العرب أن يقوضوا ركنه أو يثلموا متنه، كما أنه هو الذي مهد للفتح وللإمبراطورية، فلعلي، إذا وفقت لتدوين سيرته على النحو الذي أرجو أكون قد عبدت الطريق لكتابة تاريخ هذه الإمبراطورية كله أو بعضه، فأبلغ بذلك ما يريد الله أن أبلغه من هذا الغرض العظيم، وأمهد السبيل لمن شاء أن يتمه أو يأخذ فيه من جديد على نحو أدنى إلى الكمال.
Page inconnue
ولو أني قر بي الجهد عند سيرة أبي بكر لكفاني ذلك ولاغتبطت به، وحسبك أن تتلو ما حدث في عهد الخليفة الأول لتسكن إليه وتستقر عنده، إن فيما رواه المؤرخون من وقائع هذا العهد لما ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب، بل الإكبار والإجلال، وأخشى أن أقول إنها تدعو إلى التقديس، أنت لا ترى هذه المعاني مصورة في أي من الكتب الأولى؛ لكن روايتها للحوادث تبرزها وإن لم تنطق بها، وتجلوها بينة واضحة وإن لم تذكرها ولم تحدث عنها.
فهذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر وإلى المشاركة، البائس في بؤسه، والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة.
أين كانت هذه العبقرية التي انطوت عليها نفس أبي بكر أثناء حياة الرسول؟
عدت بالذاكرة إلى سيرة أبي بكر قبل خلافته، واستحضرت مواقفه من رسول الله، فبدت لي في ثوب جديد من الجلال تحيط بها هالة من عظمة تواضعت إلى جانب عظمة الرسول وجلاله؛ لكنها برزت أمامي بكل بهائها وجلالها حين قرنت صاحبها إلى سائر أصحاب رسول الله ومن اتبعه من المسلمين، فأين مواقفهم، على جلالها وعظمتها، من مواقفه أول الرسالة، وحين كانت قريش تنال رسول الله بالإساءة والأذى، وحين كان حديث الإسراء، وأول الهجرة، وفي مكافحة دسائس اليهود بيثرب؟!! إن كل موقف من هذه المواقف لكفيل وحده بأن يؤرخ لرجل وأن يثبت اسمه في كتاب الخلود، وعظمة أبي بكر مع ذلك هي العظمة الصامتة التي تأبى أن تتحدث عن نفسها؛ لأنها عظمة الروح وعظمة الإيمان الحق بالله وبما أوحى إلى رسوله
صلى الله عليه وسلم .
ثم ماذا؟ ثم إن رواية الحوادث في عهد أبي بكر تشهد له بحسن الرأي وبعد النظر، فهو حين فكر في غزو الفرس وفي غزو الروم لأول ما اطمأن إلى موقف المسلمين من حروب الردة في بلاد العرب، قد رأى في مبدأ المساواة الذي جاء الإسلام به قوة جديدة لا تستطيع فارس ولا تستطيع بزنطية أن تواجهها، فهذا المبدأ جدير بأن تهوي إليه نفوس الناس جميعا في هاتين الإمبراطوريتين اللتين قامتا على حكم الفرد وعلى نظام الطوائف وعلى التفاوت بين الناس، ليكن لكل من الإمبراطوريتين ما تشاء من عدد وعدة؛ فإن فكرة المساواة والعدل أقوى من كل قوة، والحكم القائم على أساس هذه الفكرة جدير بأن يكسب الناس إليه ما كان الإنصاف أساسه، لذلك لم يصد أبا بكر عن غزو العراق وغزو الشام ما كان من اختلاف طائفة من كبار الصحابة معه في الرأي، بل أمر بهذا الغزو مطمئنا إلى أن الله معينه وناصره، ولذلك نصح إلى من بعثهم على رأس هذا الغزو أن يتمسكوا بالمساواة وبالإنصاف والعدل لا يحيدون عنها قيد أنملة.
تتجلى هذه المعاني واضحة كل الوضوح من خلال الحوادث التي رواها المؤرخون الأولون عن هذا العهد القصير العظيم الذي تولى الصديق فيه أمر المسلمين؛ ويزيد ما كتبه المستشرقون بعض هذه المعاني وضوحا بما أوردته كتبهم من ملاحظات، وما حاولت أن تفسر به بعض الحوادث.
وهذه المعاني هي التي تجعل هذا العهد القصير خليقا أن يفرد له سفر مستقل يصور ذاتيته الخاصة وتكوينه التام.
وأنا أقصد ما أقول حين أذكر أن عهد الصديق له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، فهو على اتصاله بعهد الرسول قبله وبعهد عمر بعده، يمتاز بطابع يشخصه، فعهد الرسول كان عهد وحي من عند الله، أكمل الله به للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، وعهد عمر كان عهد تنظيم للحكم الذي استقرت قواعده، وللإمبراطورية التي تفتحت أبوابها، أما عهد أبي بكر فكان فترة الانتقال العصيبة الدقيقة التي تربط بين هذين العهدين، وتتميز مع ذلك عن كل منهما، بل تتميز عن كل عهد عرفه الناس في تاريخ الحكم واستقراره، وفي تاريخ الأديان وانتشارها.
في هذه الفترة الدقيقة صادفت أبا بكر صعاب بلغت من الشدة أن أثارت مخاوف المسلمين جميعا في أول عهده، فلما تغلب بفضل إيمانه عليها، وأمده الله بالتوفيق والنصر فيما تلاها، تولى عمر بن الخطاب سياسة المسلمين، فدبر أمورهم، وأقام بينهم عدلا وطد قواعد ملكهم، وجعل دول العالم تدين طائعة لسلطانهم.
Page inconnue
أثارت الصعاب التي صادفت أبا بكر مخاوف المسلمين؛ ذلك لأن الوحدة العربية التي تمت في عهد الرسول لم تلبث أن اضطربت حين وفاته، بل لقد بدأت نذر هذا الاضطراب قبل أن يختار الله رسوله إليه، تنبأ مسيلمة بن حبيب باليمامة وبعث رسله إلى النبي بالمدينة يقولون له: إن مسيلمة نبي مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون»، وتنبأ الأسود العنسي باليمن وادعى السحر، وجعل يدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد، وتقدم إلى نجران ونشر في ذلك الأصقاع سلطانه، وبعث محمد إلى أعماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، هذا إلى أن العرب الذين آمنوا بالتوحيد ونبذوا عبادة الأوثان لم يدر بخاطر أحدهم أن تعقب وحدتهم الدينية وحدة سياسية؛ بل إن كثيرا منهم راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى، فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله، وأن أعلن أكثر القبائل عدم الإذعان لسلطان المدينة، وعدوا الزكاة إتاوة مفروضة فامتنعوا من أدائها.
استطارت هذه الثورة عقب وفاة الرسول في بلاد العرب جميعا بسرعة مروعة كما تستطير النار في الهشيم، وبلغت أنباؤها أهل المدينة ممن حول أبي بكر بعد أن بايعوه، فتولاهم الدهش واختلفوا ما يصنعون، وكان رأي قوم، بينهم عمر بن الخطاب، ألا يقاتلوا الذين منعوا الزكاة ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولعلهم أرادوا بذلك ألا يزيدوا عدد عدوهم فيتغلب عليهم، ولم يعدهم الله ما وعد رسوله من النصر، وليس ينزل الوحي على أحد منهم بعد أن اختار الله إليه خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن أبا بكر أصر على قتال من منعوا الزكاة كما أصر على قتال من ارتدوا، فكانت حروب الردة التي استطالت عاما وبعض عام.
ولم تكن حروب الردة غزوات اشتبك فيها بضع مئين من جيش الخليفة وبضع مئين من خصومه، بل كانت بعضها طاحنة اشترك فيها عشرات الألوف من كل جانب، وقتل فيها المئات بل الألوف من هؤلاء ومن أولئك، ثم كان لها في تاريخ الإسلام أثر حاسم، ولو أن أبا بكر نزل على رأي من لم يريدوا هذه الحروب لساد الاضطراب بلاد العرب، ولما قامت الإمبراطورية الإسلامية، ولو أن جيوش أبي بكر لم تنتصر في هذه الحروب لكانت العاقبة أدهى وأمر، ولتغير في الحالين مجرى التاريخ في العالم كله، لذلك لا يكون غاليا من يقول: إن أبا بكر، بموقفه من ردة العرب وبانتصاره فيها، قد وجه تاريخ العالم، وكان يد الله في بعث الحضارة الإنسانية خلقا جديدا.
فلولا انتصار أبي بكر في حروب الردة لما بدأ غزو العراق وغزو الشام، ولما سارت جيوش المسلمين مظفرة تفتح الإمبراطوريتين الرومية والفارسية لتقيم الإمبراطورية الإسلامية على أنقاضهما، ولتحل الحضارة الإسلامية محل حضارتهما، ولولا حروب الردة، واستشهاد من استشهد من الصحابة لإحراز النصر فيها، لخيف ألا يسارع عمر فيشير على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الجمع هو الذي أدى إلى توحيد القراءة بلغة مضر في عهد عثمان، فظل كتاب الله الكريم أساسا ثابتا لكلمة الحق، ودعامة متينة للحضارة الإسلامية، ولولا نصر الله المسلمين في حروب الردة لخيف ألا يقر أبو بكر نظام الحكم في المدينة ليقيمه عمر من بعده على أساس من الشورى، سداه العدل والرحمة، ولحمته البر والتقوى.
هذه أحداث جليلة تمت في فترة قصيرة لم تعد سبعة وعشرين شهرا، ولعل قصر هذه الفترة هو الذي دعا بعضهم أن يتخطاها إلى عهد عمر، ظنا منهم أن أشهرا معدودات لا تتسع لعظائم تغير وجه العالم، ولو أن هؤلاء ذكروا أن الثورات التي نقلت الإنسانية أطوارا تمت كلها في مثل هذه الفترة، وأن العالم جعل يمتثل مبادئ هذه الثورات بعد ذلك شيئا فشيئا ويفيد منها لرقي الإنسانية في توجهها إلى الكمال، لما سارعوا إلى الانتقال من عهد الثورة الروحية التي أعلنها رسول الله في العالم كله إلى الإمبراطورية المترامية الأطراف التي دانت لهذه الثورة، دون أن يقفوا مليا عند هذه الفترة التي يحاول العرب فيها أن يقوموا برد الفعل في وجه ما جاء محمد به، شأنهم في ذلك شأن الناس في كل زمان ومكان؛ إذ يحاربون المبادئ الجديدة يحاولون إطفاء نورها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
كيف استطاع أبو بكر أن يواجه الصعاب التي استفتحت عهده، وأن يثبت لها ويتغلب عليها، وأن يبدأ التمهيد للفتح وللإمبراطورية وهذه الصعاب قائمة؟ لقد كانت لصفاته الذاتية أثر كبير في ذلك لا ريب، لكن هذه الصفات وحدها ما كانت لتبلغ به ما بلغ لولا صحبته الرسول عشرين سنة كاملة؛ ولذا يجمع المؤرخون على أن عظمة الصديق في خلافته تتصل بعظمته في صحبة الرسول أوثق اتصال، فهو قد أشرب أثناء الصحبة روح الدين الذي جاء به محمد، وأدرك مقاصده وأغراضه كاملة إدراك إلهام لا يتطرق إليه الخطأ ولا الريب، ومما أشربه وأدركه بإلهامه أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده، هذه حقيقة روحية أدركها كثيرون من عصور شتى، لكنهم أدركوها بعقولهم، أما أبو بكر فأدركها بقلبه، ورآها بعينه ماثلة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي عمله.
وهذا الإيمان الصادق بالحق هو الذي دفعه ليخالف أصحابه في أمر المرتدين، ويصر على قتالهم وإن خرج إليهم وحده، وما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف وحيدا يدعو إلى الله بمكة فيخالفه أهل مكة جميعا، ثم يغرونه بالمال والملك وعظمة الجاه، ثم يحاربونه يبتغون بذلك أن يصدوه عن الحق الذي يدعو إليه، فلا يفتر عن أن يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!»
وما له لا يفعل وقد رأى النبي في أعقاب أحد، وبعد أن انتصرت قريش على جيوش المسلمين ممن شهدا أحدا، ويتعقب قريشا، وينزل حمراء الأسد ويقيم بها ثلاثة أيام، يوقد النار طول ليله، حتى تزعزعت همة قريش وانصرفت إلى مكة، وقد استرد المسلمون من مكانتهم ما زعزعته أحد!
Page inconnue
ثم ما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف صبح حنين في عدد قليل من أصحابه ينادي في جيش المسلمين إذ يولون الأدبار: «أين أيها الناس، أين!» وهذه الألوف المؤلفة تفر تولاها الفزع، فلما عرف الناس موقف النبي وسمعوا نداء العباس: «يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، إن محمدا حي فهلموا.» تصايحوا من كل جانب: «لبيك، لبيك»، وارتدوا إلى المعركة مستبسلين!
أي تأس كهذا التأسي يلهم المرء أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده!! وأي رجل له من الإيمان ما لأبي بكر لا يضاعف تأسيه بالرسول قوة نفسه فيجعله من عناصر الوجود الحاسمة القاهرة! هذه هي القوة الروحية التي لا سلطان لشيء في الحياة عليها، والتي لا تعرف الضعف ولا التردد، ولا يغلبها لذلك غالب!
وهذه الأسوة الروحية التي التمسها أبو بكر في رسول الله، والتي جعلت للمسلمين الغلب على المرتدين من سائر العرب، قد دفعت إلى نفوس المسلمين جميعا حمية سمت بهم إلى إيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصرا دونه كل نصر، وأنت ستقرأ في هذا الكتاب من آيات ذلك ما قل في التاريخ نظيره، لقد كان المسلمون في عهد رسول الله مطمئنين إلى النصر؛ لأن الله وعد به رسوله، فكان يمده بالملائكة، وكان يوحي إليه ما يحقق وعده جل ثناؤه، أما في عهد أبي بكر، وقد انتهى الوحي باختيار الله إليه رسوله، فقد أصبح الإيمان وحده، وأصبح التأسي برسول الله وبخليفته في السمو بهذا الإيمان إلى ما فوق كل اعتبار في هذه الحياة الدنيا، وأصبح الاستشهاد في سبيل هذا الإيمان، سر القوة، وسر النصر، وسر الرقي بما تنطوي عليه نفوسنا من معان إنسانية رفيعة إلى غاية الكمال الإنساني.
هذه حقيقة روحية استلهمها الصديق من تأسيه بالنبي، فجلتها لنا أعمال المسلمين في خلافته وبتوجيهه على نحو من الوضوح يجعلنا نلمسها وكأنها أمر مادي تقع عليه الحواس بمقدار ما تمتثله الروح، ونحن نلمس هذه الحقيقة الروحية في حروب الردة كما نلمسها في فتح العراق وفي فتح الشام، فلولا هذا الإيمان ما استطاع المسلمون، على قلتهم، أن يتموا في عهد الخليفة الأول ما تم من جلائل الأعمال، وما مهد للإمبراطورية الإسلامية العظيمة.
وقد استلهم أبو بكر من تأسيه بالرسول، إلى جانب هذه الحقيقة الروحية، حقيقة اجتماعية بعيدة الأثر في حياة الأمم، فكل أمة تعتز بنفسها، وتطمئن إلى قوتها، وتشعر بأن عليها رسالة واجبة الأداء للعالم، وبأن العالم يجب أن يسمع لهذا الرسالة - مثل هذه الأمة التي لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
وتضافر هاتين الحقيقتين، الروحية والاجتماعية، قد كان في كل العصور والأمم أساسا لفوز الشعوب التي تندفع متأثرة بسلطانهما ولنجاح الرسالة التي تدعو هذه الشعوب لها.
والأمر كذلك بخاصة إذا قامت هذه الرسالة على أساس من الدعوة إلى نبذ العلم، والحرص على عدل قوامه المساواة الصحيحة بين الناس، ولطالما قامت إمبراطوريات على هذه الأساس في مختلف حقب التاريخ، ولطالما تداعت إمبراطوريات بعد قيامها؛ لأنها حادت عن هذه الطريق، فاتخذ خصومها انحرافا عنها وسيلة لمناوأتها ومقاومتها.
والمساواة سدى الإسلام، وهو لذلك إمبراطوري اللحمة، هذه حقيقة ندركها اليوم بعقولنا كما أدركها كثير ممن سبقونا بعقولهم، ثم لم يستطيعوا ولم نستطع أن نحتفظ بالإمبراطورية الإسلامية في العالم لظروف خاصة بنا أو خارجة عن إرادتنا، أما أبو بكر فأدركها بإلهامه وآمن بها عن يقين، فدفع المسلمين لتنفيذها، فأقروها في العالم فاستقرت أجيالا وقرونا.
أدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام في صفاء جوهره دين مساواة بين الناس جميعا، فالدعوة به لم توجه إلى قوم بعينهم، وإنما وجهت إلى الناس كافة، وقد اصطفى رسول الله في حياته موالي رفعهن إلى أعز مكانة وأسماها، كما أقر جماعة من العجم على حكم العرب، فسلمان الفارسي كان من خاصته المقربين، وزيد بن ثابت، مولاه الذي اشترته خديجة ثم وهبته له فأعتقه وتبناه، كان القائد في غزوة مؤتة، كما كان على رأس أعمال كثيرة قبلها، وأسامة ابنه هو الذي عقد له الرسول قبل مرضه الأخير لواء جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار، ومن بينهم أبو بكر؛ وقد أقر
صلى الله عليه وسلم
Page inconnue
بازان الفارسي على حكم اليمن، ولم يكن الناس يتفاوتون عند رسول الله لعروبتهم ولا لمكانة قبائلهم، وإنما كانوا يتفاوتون بأعمالهم، وكان من أصحاب مشورة رسول الله ومن أولي الرأي بين المسلمين شبان أبرزهم إلى الصف الأول حسن إيمانهم وجميل بلائهم في سبيل الله، وكانت سيرة رسول الله هذه بعض ما أمر الله به في كتابه؛ إذ فاضل بين الناس بالتقوى، وإذ جعل جزاءهم رهنا بعملهم، وإذ رفع بعضهم فوق بعض درجات بهذا العمل وهذه التقوى، لا جرم، وتلك سنة رسول الله، أن يخفف العرب من غلواء نعرتهم الجنسية، وإن أقاموا على اعتزازهم بها، وإن جعلوا اصطفاء الله نبيه من بينهم حجتهم على سمو مكانتها، ولا جرم أن يتخذ أبو بكر من هذه المساواة الإسلامية بين الناس وبين الأجناس سنته، فتكون القوة التي تنهزم أمامها جيوش الفرس وجيوش الروم.
وأدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام إمبراطوري في جوهره، فالدعوة إليه لم تنحصر في العرب، بل هي دعوة إلى الحق موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، أما وذلك مداها، وقد وجه النبي رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، فحق على كل من آمن بهذا الدين أن يدعو إليه، وأن ينشر كلمته هدى للناس ورحمة، ولكل مسلم في رسول الله أسوة حسنة، لقد أذاع رسول الله الدعوة في الناس على اختلاف أجناسهم، فلينشر خلفاؤه هذه الدعوة في أنحاء الأرض جميعا، وليجاهدوا في سبيل حريتها، لا يستكرهون أحدا ولا يقبلون من أحد أن يصدهم عن الحق الذي اهتدوا إليه، وليجعلوا العالم كله ميدان دعوته إلى هذا الحق وإن أصابهم في سبيل الله ما أصابهم؛ فإن استشهدوا فلهم عند الله جزاء الشهداء.
هذه المبادئ الجوهرية التي قامت دعوة النبي العربي على أساسها، والتي أدركها أبو بكر أدق الإدراك بإلهامه لما كان من صحبته رسول الله وتشبعه بتعاليمه، هي التي طوعت للصديق أن يذلل ما استفتح عهده من صعاب وأن يتغلب عليها، وهي التي أسرعت بالإمبراطورية الإسلامية إلى أنحاء العالم وأظلت أمما كثيرة منه بلوائها، ولقد ظلت هذه الأمم أجيالا متعاقبة ناهضة بعبء الحضارة في العالم، ثم أدركها الهرم الذي يدرك الأمم والإمبراطوريات، ثم تولتها السنة الطويلة التي تقابل موت الأفراد.
أفيرجع هذا الهرم ثم هذه السنة الطويلة إلى أن المبادئ الجوهرية تبين فسادها، أم يرجعان إلى أن الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية جحدت هذه المبادئ وأخذت بنقيضها فأصابها الهرم والاضمحلال بصنيعها؟! ذلك كل تاريخ الإمبراطورية الإسلامية في قيامها وعظمتها وتدهورها، وهو تاريخ جدير بأن يدور على طريقة من البحث العلمي الوثيق الذي لا يعرف التعصيب ولا يرضاه، والذي يرمي إلى تحليل الحوادث وردها إلى أسبابها تحليلا يقره العقل ويتفق لذلك وما ركب في الطبيعة الإنسانية من نزوع روحي إلى الكمال، ومن تشبث مع ذلك بأهداب هذه الحياة الدنيا تدعونا إليه أهواؤنا وشهواتنا، فتحول بيننا وبين إدراك الغاية التي نبغي من هذا الكمال.
لا أراني في حاجة إلى أن أقول إن هذا الهرم وهذه السنة يرجعان إلى جحود الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية للمبادئ الجوهرية التي قامت هذه الإمبراطورية على أساسها، مبادئ الإسلام في صفاء جوهره، ذلك أمر يلمسه المحقق المنصف لتاريخ هذه الإمبراطورية، ويراه في أطواره المتصلة منذ بدأ الخلاف بين المسلمين من أهل شبه الجزيرة إلى أن جسمت الفرقة بين العرب والعجم شقة هذا الخلاف، وفتحت به الأبواب واسعة للتدهور والانحلال.
ليس يتسع هذا التقديم لتفصيل هذا الأمر ولا لإجماله، فحسبي هذه الإشارة إليه، ولأقف هنا في حدود العهد القصير العظيم، عهد الصديق أبي بكر، ولأسجل ما كنت أشعر به من فيض المسرة حين تأريخي له، وأكبر رجائي أن أكون فيما كتبت عنه قد أرضيت في نفسي حب الحق، وبلغت بعض ما أردت من رسم الصورة التي حاولتها دقيقة، فيها من الحياة ما يبعث الماضي مجلوا على صفحة الحاضر، وأقول بعض ما أردت؛ لأنني كنت أحس دائما أن هذه الصورة ينقصها شيء غير قليل من الكمال لم يتسن لي أن أصل إليه لأسباب مختلفة.
وإنني لتضاعف غبطتي لو أن كتابي هذا نقل إلى نفس قارئه صورة واضحة من عهد الصديق خليل النبي العربي وصفيه، قد يشوب مطمعي هذا بعض الغلو، فلعهد الصديق - كما قدمت - صورة خاصة تامة التكوين يستشفها الإنسان من خلال ما كتب عنه ويتصورها في كمال بهائها، لكن البلوغ بصورة ما حد الكمال محتاج إلى جهد متصل يتعاقب على الأجيال، ويتناوله التمحيص من نواحيه المختلفة، ولم يبذل من الجهد في أمر الصديق وعهده ما يدني من هذا الكمال؛ فهو لا يزال مفتقرا إلى جهود جديدة يتضافر فيها البحث والتمحيص مع الموازنة بالعصر الذي عاش الصديق فيه، وبحياة الأمم صاحبة الأثر في هذا العصر، ولست في ريب من أن هذه الجهود ستبذل عما قريب، وستعاون على تمام الصورة التي تظهر هذا العهد واضحا، مجلوة بينة تفاصيله.
وعهد الصديق أحوج إلى هذا الجهد من غيره من العهود، فالمراجع العربية القديمة التي تتحدث عنه يشوبها اضطراب يجعل تتبع الحوادث المروية فيها عسيرا في بعض الأحيان كل العسر، ثم إنها كثيرا ما تثبت روايات هي أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ، وقد يجد الإنسان في موازنة بعض هذه المراجع ببعض ما يعينه على تمحيص الحوادث، لكنها تتواتر روايتها أحيانا لحوادث يقف الإنسان منها موقف الحيرة، فلا يسعه أن يثبتها مع الإشارة إلى ما يخالجه من الريبة فيها.
وإني لأجد للمؤرخين الأولين أبلغ العذر عما شاب رواياتهم من اضطراب كان له أثره في جهود من بعدهم إلى عصرنا الحاضر، فهذه الفترة التي تولى الصديق فيها أمر المسلمين كانت فترة جهاد أي جهاد، حمل فيها كل من آمن بالله ورسوله عبئا عظيما لتأييد الدعوة إلى دين الله وما جاء به رسوله من عنده، اندفع هؤلاء جميعا إلى ميادين النضال، يجاهدون في سبيل الله، يقتلون ويقتلون، مستهينين بالحياة ونعمائها، مؤثرين البأساء، صابرين على الضراء، واهبين أنفسهم لله، لا يبتغون عن جهادهم أجرا إلا مثوبته جل شأنه، لم يكن يوم من أيامهم ينقضي في طمأنينة أو أمن، ولم يكن أحد منهم يفكر في أمسه؛ لأن غده يطالبه بأكثر مما عمل في ذلك الأمس، لذلك لم يفرغ أحد لتدوين ما حوته هذه الفترة من جسام الحوادث تدوينا منظما؛ وإنما تناقل الناس من بعد أنباءها يرويها بعضهم لبعض، ويتناقلها عن بعض، ثم لا يروونها ويتناقلونها بمثل ما يروون به ما حدث في عهد الرسول من تقديس وإجلال، وكيف يفعلون وقد كانوا في شغل متصل بالفتح وتنظيم الإمبراطورية التي تزداد كل يوم فسحة وسعة!! لذلك كان لا بد لمؤرخ هذا العهد من تقليب الروايات وموازنتها واقتناص الحقيقة من خلالها، وهذا جهد شاق حاوله الأقدمون على طريقتهم، ومع تقديرنا لجهدهم وإكبارنا لشأنهم، فإنهم لم يبرزوا عهد الصديق وحكمه في صورة يجلو وضوحها ما انطوى عليه من قوة تقف النظر وتبهر اللب وتثير في النفس غاية الإعجاب.
وحسبك أن ترجع إلى سجل المراجع التي أخذنا عنها هذا الكتاب، وأن تتلو فصوله لتقدر مبلغ الدقة فيما نقوله عن المتقدم منها، فبعض هذه المراجع لا يتعرض - إلا لماما - لأمور جليلة الخطر ترويها المراجع الأخرى مفصلة أدق التفصيل، فالطبري وابن الأثير والبلاذري لا يكادون يتعرضون لجمع القرآن؛ وجمع القرآن من جلائل الأعمال التي ازدان بها عهد الصديق إن لم يكن أجلها، وما يتعرض له هؤلاء المؤرخون من رواية الحوادث عن حروب الردة وعن فتح العراق ثم فتح الشام يقع عليه الخلاف بينهم، بل ترد الروايات المختلفة في أمره في الكتاب الواحد من كتبهم، حتى ليحار الإنسان أي الروايات يأخذ وأيها يدع، والخلاف على الزمن الذي حدثت فيه الوقائع لا يقل عن الخلاف في تصوير الوقائع جسامة، وكثيرا ما يكون تحديد التاريخ لبعض هذه الوقائع مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة، ونسبة بعض الحوادث إلى بعض محير كذلك، فالطبري يروي أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة، وأنت تكاد تظن إذ تقرأ هذا التعاقب الزمني أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر في العراق، لكن شيئا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحملك على الريبة في هذا التعاقب، فإذا زدت في التدقيق تبينت أن فتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة، وأن فتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في العراق وتتوقع غزوات فيه جديدة.
Page inconnue
ولا يقف مثار الحيرة عند هذا، فكثيرا ما يتعذر تتبع الحوادث في تسلسلها الجغرافي، بل إن بعض الروايات ليتنافى مع هذا التسلسل، دع عنك تغير أسماء الأماكن وما في تشابه بعضها من مثار جديد للحيرة، ولقد طبع بعض المستشرقين خرائط الإدريسي القديمة كما رسمها، وشفعوها بخرائط رسموها على النحو المألوف لنا، فسهل ذلك علينا معرفة الأماكن ومواقع بعضها من بعض، ولئن يسر ذلك لنا أن نحقق ما كان عسيرا تحقيقه فيما مضى، لقد أثار الريب في بعض الروايات حتى ليتعذر تصديقها، لذلك وقف بعض المؤرخين لعهد أبي بكر مترددين لا يكادون يصدقون ما يقرءون، وكأنما صرف ذلك كله غير واحد ممن أرادوا التأريخ للإسلام عن التصدي لهذه الأمور، فاكتفوا من عهد أبي بكر بإلمامات لا تصوره صورة كاملة تبرز كل ما لهذا العهد من جلال، وما له من تاريخ الإسلام وفي قيام الإمبراطورية الإسلامية من أثر حاسم.
أضف إلى هذا الاضطراب في المراجع أنها لا تتحدث عن الصديق أيام خلافته ما تتحدث عن خالد بن الوليد وعن القواد الذين دخلوا الشام وأقاموا به حتى جاءهم خالد من العراق ففتح وإياهم دمشق وهدم بعبقريته الحربية كل قوة معنوية للروم، وأنت إذ تقرأ هذه المراجع يكاد يخيل إليك أن أبا بكر قد أقام بالمدينة لا يشغله أمر عن العبادة، وهذا خطأ فاحش، فكل ما تم في عهد الصديق كان الصديق روحه ومصدره. أشرنا إلى ما كان بينه وبين عمر وطائفة من المسلمين من خلاف على قتال المرتدين ومن منعوا الزكاة، وإلى أنه تشبث بقتالهم ولو خرج إلى هذا القتال وحده، وسترى حين تتلو فصول هذا الكتاب أنه هو الذي دفع خالد بن الوليد ليسير إلى العراق يعزز قوات المثنى بن حارثة الشيباني، وأنه هو الذي دعا العرب في أنحاء شبه الجزيرة إلى فتح الشام، فلما أبطأ أبو عبيدة ومن معه من القواد عن التقدم فيه أمدهم هو بخالد بن الوليد، وفي أثناء ذلك كان هو الذي ينظم بيت المال، ويقسم الفيء بين المسلمين، ويولي العمال ويهيمن على أعمالهم، وقد بلغ به هذا التفرغ لشئون الدولة أن انقطع عن التفكير في كل شيء سواها من أموره الخاصة ومن أمور أهله وعياله، وهذا التفرغ التام لشئون الدولة، دقيقها وجليلها، هو الذي طوع له أن يتم في فترة وجيزة ما لا يتمه غيره في سنوات، بل ما قل أن يتمه غيره، ولعل سببا آخر كان ذا أثر فيما قدمنا عن موقف الرواة والمؤرخين من أبي بكر وعهده؛ فهم قد حسبوا أن صحبته الرسول عشرين سنة كاملة، واصطفاءه
صلى الله عليه وسلم
إياه حتى ليقول: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.» - حسبوا أن هذا وذاك أجل من كل ما تم في خلافته، ولا مرية في أن مكان الصديق من رسول الله لها في تقديرنا جميعا أجل أثر وأعظم مقام، لكن خلافة الصديق كانت حلقة أتمت هذا الأثر الجليل وتوجته.
لم يكن عمل الصديق في خلافته أقل جلالا من صحبته رسول الله، بل إنه كان في عهد الرسول ثاني اثنين، أولهما صفي الله لنبوته ومن خصه الله برسالته وأوحى إليه كتابه بينات من الهدى والفرقان، فالعبء الذي حمله أبو بكر أيام الرسالة كان عبء التابع المؤمن الذي لم تتلجلج قوة إيمانه بالله ورسوله، أما العبء الذي حمله بعد أن اختار الله رسوله إليه فحمله على أنه أول رجل في المسلمين وخليفة رسول الله بينهم، لم يكن فيه تابعا يدلي بالمشورة، بل كان متبوعا يشير أصحابه عليه، كما كان يشير هو ومن معه على رسول الله، وقد حمل هذا العبء بإيمان وأمانة وصدق، جزاه الله وجزى المسلمين عنه أحسن الجزاء، فإذا كان صدق أبي بكر في صحبة رسول الله من أسمى مظاهر العظمة الإنسانية القائمة على دعامة متينة من الإيمان السليم، فتجرد أبي بكر في خلافته للدفاع عن دين الله وللدعوة إليه ولإقامة الإمبراطورية الإسلامية لا يقل في جلال سموه عن صحبته الرسول وإيمانه الصادق به وبكل ما أوحاه الله إليه، وتاريخ خلافته جدير لذلك بأن يفصل أدق التفصيل.
هذا الاضطراب في المراجع، وهذا التأثر في تصوير عهد الخليفة الأول بعوامل لا يقر النقد التاريخي الكثير منها، قد كان له ما رأيت من أثر في كتب المتقدمين، ثم كان له أثره فيما تلاه ذلك من جهود من أخذوا عنهم وحاولوا أن يستنبطوا صورة الحقيقة كاملة من كتبهم، ولقد بلغ هذا التأثر ببعض المتأخرين أن جعلهم لا يقفون عند عهد أبي بكر إلا لماما ثم يتخطونه إلى عهد عمر فيطيلون الوقوف عنده، بل لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما، وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العالم كله، ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب، فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتم له كدين خلافة الصديق لعهد الرسول وإتمامها له.
على أن الدراسات التي تمت والكتب التي وضعت عن أبي بكر وعهده في العصور الأخيرة كانت أدنى إلى الدقة والإنصاف، ومن الحق علي أن أشيد بما كان للمستشرقين من فضل السبق إلى هذه الدقة وإلى هذا الإنصاف، على تحيز بعضهم تحيزا دفعت إليه العاطفة الدينية، فقد صنف «الأب ماريني» كتابه عن «خلفاء محمد» في القرن الثامن عشر؛ وصنف «كوسان دبرسفال» مؤلفه «رسالة في تاريخ العرب» في أوائل القرن التاسع عشر؛ وكتاب «السير وليم ميور» عن «الخلافة الأولى» يرجع إلى سنة 1883، وفي أثناء ذلك، وإلى وقتنا الحاضر، لم يبرح المستشرقون في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول يمحصون العهود الإسلامية المختلفة تمحيصهم غيرها من عصور التاريخ في مختلف أنحاء العالم.
أما وقد ذكرت جهود المستشرقين، فمن الحق علي أيضا أن أذكر جهود المؤرخين المسلمين والعرب، وما كان من إنصافهم عهد الصديق ومحاولتهم الدقة في أمره.
أرخ السيد رفيق العظم لهذا العهد منذ بضع عشرات من السنين في الجزء الأول من كتابه «أشهر مشاهير الإسلام»: وكان متأثرا بطريقة الأقدمين في كثير من مواقفه، وتحدث المرحوم «الشيخ محمد الخضري بك» فقال في ختام محاضرته له: «إنا نقول في ذلك قولا صريحا: لولا أبو بكر وعزيمته القوية، بعد معونة الله وتأييده، ما كان تاريخ المسلمين يسير سيره الذي عرف، حصل ذلك في وقت استولى فيه الذهول على أفئدة المسلمين كافة حتى أقواهم شكيمة وأشدهم قلبا.»
وأفرد الأستاذ «عمر أبو النصر» الجزء الأول من كتابه «خلفاء محمد» للصديق وعهده، كذلك تحدث المرحوم «الشيخ عبد الوهاب النجار» وغيره من المؤرخين عن هذا العهد حديثا جديرا بالتقدير.
Page inconnue
والآن، وقد وفقني الله لوضع هذا الكتاب، فهل تتيح لي الأقدار أن أردفه بآخر عن عهد عمر، وبثالث وبرابع حتى أتم ما دار بخاطري أن أقوم به من دراسات في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية؟ ذلك أمر علمه عند ربي، لقد استقر مني العزم أن أدون لعهد عمر، لكن بين العزم والتنفيذ مدى أرجو الله أن ييسره لي، مع صدق يقيني بقوله تعالى:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (الكهف: 23، 24).
وأختم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفق العلماء والباحثين لمتابعة البحث في حياة الصديق وفي عهد خلافته، حتى تتم ببحوثهم الصورة التي حاولت أن أجلوها في هذا الكتاب، وأحمد الله لما صادفني من التوفيق فيما حاولت. من الله الهدى، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله.
الفصل الأول
أبو بكر في حياة النبي
ليس فيما انحدر إلينا من الروايات عن نشأة أبي بكر الأولى ما يعاون على تعرف شخصيته في هذا الطور من حياته، فما يروى عن طفولته وعن صباه لا غناء فيه، وما يروى عن أبيه وعن أمه لا يعدو ذكر اسميهما، وذكر ما كان من أبيه بعد أن أصبح أبو بكر رجلا من كبار المسلمين له في حياة أبيه أثر، ولا أثر لأبيه في حياته، وإنما يعنى المؤرخون من أمره بذكر قبيلته ومكانتها من قريش، شأنهم في ذلك كشأنهم في غيره مما يتصل بتاريخ العرب؛ إذ يرون في نسبتهم إلى قبيلة من القبائل ما يفسر بعض طباعهم وأخلاقهم، وقد يكون ذلك حسنا، وقد يراه المؤمنون بمبدأ الوراثة صالحا لتحقيق مذهبهم، وإن رأى غيرهم من المبالغة في تقديره ما يصرفهم عن الدقة في تمحيصه.
وأبو بكر من قبيلة تيم بن مرة بن كعب؛ فهو يلتقي في نسبه بالنبي
صلى الله عليه وسلم
ويرتفع إلى عدنان، وكان لكل من القبائل المقيمة بمكة اختصاص بأمر يتصل أو لا يتصل بمناصب الكعبة، فكان لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ولبني عبد الدار اللواء والحجابة والندوة، وذلك قبل أن يولد هاشم جد النبي ، أما قيادة الجيوش فكانت لبني مخزوم أجداد خالد بن الوليد، وكانت الديات والمغارم لتيم بن مرة، وقد آل أمر الديات في الجاهلية إلى أبي بكر حين استدعاه فتولى الزعامة في قبيلته؛ لذلك كان إذا احتمل شيئا منها فسأل قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.
وقد رويت في الإشادة بذكر تيم ومكانتها من قبائل العرب روايات تقصها كتب المتأخرين، ذكروا أن المنذر بن ماء السماء طلب امرأ القيس بن حجر الكندي فأجاره المعلى التيمي؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
Page inconnue
أقر حشا امرئ القيس بن حجر
بنو تيم، مصابيح الظلام
ولهذا البيت سمي بنو تيم «مصابيح الظلام».
على أن ما تنسبه الروايات المختلفة لبني تيم من الصفات لا يختلف عما ينسب لغيرها من القبائل، ولا يميزها لذلك بطابع خاص يفيد المؤرخ أو يدل على صفة بذاتها فيمن ينسب إليها، فهذه الروايات تنسب إلى تيم من صفات الشجاعة والكرم والمروءة والنجدة وحماية الجار وما إليها ما تشترك القبائل العربية التي تعيش تحت سماء شبه الجزيرة في التمدح به والانتساب إليه.
لهذا لم يقف مؤرخو أبي بكر عند قبيلته أكثر مما ذكرت؛ وإنما بدءوا روايتهم بذكره وذكر أبويه، ثم تخطوا طفولته وصباه إلى شبابه وإلى ما كان يزاوله فيه من عمل، ذكروا أن اسمه عبد الله بن أبي قحافة، وأن أبا قحافة أبوه، واسمه عثمان بن عامر، وأن أم الخير أمه، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر، وروي أنه كان يدعى قبل الإسلام عبد الكعبة، فلما أسلم دعاه رسول الله عبد الله، وقيل إنه كان يسمى عتيقا؛ لأنه لم يكن يعيش لأمه ولد، فنذرت أمه إن ولد لها ولد أن تسميه عبد الكعبة، وتتصدق به عليها، فلما عاش أبو بكر وشب سمي عتيقا، كأنه أعتق من الموت، على أن الرواة يذهبون إلى أن عتيقا لم يكن اسمه وإنما كان لقبا غلب عليه لبياض لونه، وتذهب رواية أخرى إلى أن عائشة ابنته سئلت: لم سمي أبو بكر عتيقا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله فقال: هذا عتيق الله من النار، أو لأن أبا بكر أقبل يوما ومعه طائفة من أصحابه فقال رسول الله: «من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا.» أما كنية أبي بكر التي لزمته حياته فلم تذكر الروايات سببها، وإن ذكر بعض المتأخرين استنباطا أنه كني بها؛ لأنه بكر بالإسلام قبل غيره.
وقد عاش أبو بكر في طفولته وصباه عيش أمثاله بمكة، فلما تخطى الصبا إلى الشباب عمل في التجارة بزازا يبيع الثياب، فوفق كل التوفيق، وقد تزوج صدر شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله وأسماء، وأسماء هي التي لقبت من بعد ذات النطاقين، وتزوج بعد قتيلة أم رومان بنت عامر بن عويمر، فاستولدها عبد الرحمن وعائشة، ثم تزوج بالمدينة من حبيبة بنت خارجة، ثم من أسماء بنت عميس فولدت له محمدا، وكانت تجارته أثناء ذلك تزداد سعة وتزيده ربحا وثراء.
ولعل شخصه وخلقه كانا من أسباب نجاحه في هذه التجارة، فقد كان أبيض اللون، نحيفا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، كذلك وصفته ابنته عائشة أم المؤمنين، وكان رجلا رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينا، لا يغلبه الهوى ولا تملكه الشهوة، وكان، لرزانته وحسن رأيه ورجاحه عقله، لا يشارك قومه في كثير من عقائدهم وعاداتهم، ذكرت عائشة أنه لم يشرب خمرا في جاهلية ولا إسلام، هذا على ما كان من حب أهل مكة الخمر وإدمانهم لها، وكان نسابة، حسن الحديث، لطيف المعاشرة، وصفه ابن هشام صاحب السيرة فقال: «كان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يؤتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته.»
وكان يعيش بمكة في الحي الذي تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ويعيش فيه التجار النابهون الذين تذهب تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام وإلى اليمن، ومقامه بهذا الحي هو الذي ربط بينه وبين محمد بروابط الألفة بعد أن تزوج محمد من خديجة وانتقل إلى دارها، وكان أبو بكر يصغر محمدا بسنتين وأشهر، وأكبر الظن أن التقارب في السن والاشتباك في العمل والاتفاق في سكينة النفس ورضا الخلق، وفي الرغبة عما تزاول قريش من عادات وعقائد - أكبر الظن أن هذا كله كان ذا أثر في مودة محمد وأبي بكر مودة يختلف الرواة إلى أي حد توثقت عراها قبل أن يبعث محمد رسولا، فقد ذكر بعضهم أنها كانت وثيقة العرى قبل البعث، وأن توثق عراها ذو أثر في سبق أبي بكر إلى الإسلام، أما غير هؤلاء فيذكرون أن صلة الرجلين لم تتوثق إلا من بعد، وأن مودتهما الأولى كانت مودة جوار وتوافق في الميول ليس غير، ولعل أصحاب هذا الرأي يؤيدونه بما عرف من حب محمد العزلة والانقطاع عن الناس سنوات طويلة قبل بعثته، فلما بعثه الله واختاره لرسالته ذكر أبا بكر ورجاحة عقله، فتحدث إليه ودعاه إلى الواحد الأحد؛ ولم يتردد أبو بكر أن أجاب داعي الله، ومن يومئذ توثقت الصلة بين الرجلين، ثم زادها صدق أبي بكر في الإيمان بمحمد ورسالته متانة وقوة، كانت عائشة تقول: «ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية.»
ومنذ اليوم الأول شارك أبو بكر محمدا في الدعوة لدين الله، وكان إلف قومه إياه وحبهم الجلوس إليه والاستماع لحديثه، ذا أثر في استجابة المسلمين الأولين لهذه الدعوة، فقد تابع أبا بكر على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، كما أسلم من بعدهم، بدعوة أبي بكر، أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون من أهل مكة.
وقد يعجب الإنسان كيف لا يتردد أبو بكر في قبول الدعوة إلى الإسلام أول ما وجهها محمد إليه، وكيف بلغ من عدم تردده أن يقول عنه رسول الله من بعد: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم
Page inconnue
1
حين ذكرته له وما تردد فيه.» وليس كل العجب أن محمدا ذكر له التوحيد ودعاه إليه فاستجاب له، بل أكبر العجب أن محمدا قص عليه حديث حراء والوحي الذي نزل عليه، فلم يتردد في تصديقه، وإنما يزيل عجبنا، أو يخفف منه، أن أبا بكر كان من حكماء مكة الذين يرون عبادة الأصنام حمقا ومينا، وأنه كان يعرف من أمر محمد وأمانته وصدقه ورجحان عقله ما لم يدع في نفسه موضعا للريبة فيما قص عليه مما رأى وسمع، وبخاصة لأنه رأى في هذا الذي قصه الرسول عليه ما يتفق وموجب الحكمة وما لا يتردد العقل في تصديقه والأخذ به، على أن ما يزول من عجبنا لا يغير من تقديرنا جرأة أبي بكر في إقدامه ومجاوزته المعروف للناس في موقف دعا غيره ممن وجهت الدعوة إليهم للنظر والتردد والتماس الأناة والروية، وجرأة أبي بكر وإقدامه أجدر بالتقدير؛ لأنه كان تاجرا تقتضيه تجارته الحساب لصلاته بالناس وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم خشية ما يجره ذلك على معاملاته من سيئ الأثر، فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينا باطلا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه التماسا للعافية، وجرا للمنفعة، وحرصا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في الخاصة والمثقفين منهم، بل إنك لتجده فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة، لا جرم، وقد كان موقف أبي بكر منذ اللحظة الأولى ما ذكره رسول الله، أن يكون موضع التقدير غاية التقدير، والإعجاب غاية الإعجاب.
وقيام أبي بكر بالدعوة إلى الإسلام أدعى إلى العجب، فلعل تاجرا مثله يقتنع بصدق محمد كان يقنع بتصديقه سرا ولا يظهر الناس على شيء من أمره حتى تظل تجارته متصلة، ولعل محمدا كان يقنع منه بذلك ويحمده له، فأما أن يظهر أبو بكر إسلامه، وأن يدعو إلى الله ورسوله، وأن يصل من دعوته إلى إقناع المسلمين الأولين بتصديق محمد ومتابعته على دينه، فذلك ما لا عهد للناس به إلا فيمن سمت أنفسهم إلى حيث تقدر الحق لذاته، وترتفع به فوق منافع الحياة، وترى في تأييده والدعوة إليه ما يصغر من شأن الدنيا وعرضها وإن عظم، ولقد كان ذلك شأن أبي بكر في صحبته محمدا منذ أسلم إلى أن اختار الله محمدا، وإلى أن توفي أبو بكر من بعده.
وإني لأذكر ما كان لإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب من أثر في توطيد كلمة الإسلام، وكيف أيد الله بهما دين الحق، لما عرف عنهما من قوة بأس، ومضاء عزم، وصلابة تخيف من يناوئها، ثم أذكر الصديق وإسلامه فلا أتردد في القول بأنه أول من أيد الله به دينه، فهذا الرجل الرضي النفس، الوديع الخلق، الرقيق الطبع، حتى لتسرع الدمعة إلى عينه لمرأى الألم يصيب غيره، قد بلغت قوة إيمانه بالدين الجديد، وبالرسول الذي جاء به من عند الله، مبلغا لا تدانيه قوة ولا يتغلب عليه سلطان، وهل كقوة الإيمان في الحياة شيء! وهل كسلطانه في الحياة سلطان! والذين يحسبون أن قوة البطش وسلطان البأس لهما في الحياة الأثر البالغ يتورطون في أفحش الخطأ، فالنفس الراضية المطمئنة إلى إيمانها بالحق، الداعية إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، المتخذة من وداعة الخلق، ورقة الطبع، ومشاركة الضعيف والبائس في ألم البؤس والضعف في غيرها من النفوس فتطبعها بطابعها وتصوغها على غرارها، ولقد كان ذلك أثره (رضي الله عنه) في السنوات الأولى من الدعوة المحمدية، وبقي ذلك أثره إلى أن تولى الخلافة وإلى أن مات.
فهو لم يقف من تأييد الدعوة عند التحدث إلى أصحابه وإقناعهم بها، ولم يكفه أن يبذل للضعفاء والبائسين من رضا نفسه ووداعة خلقه ما يعزيهم عما كان خصوم الدعوة يرهقونهم به من أذى وتعذيب، بل كان ينفق من ماله، وكان يصطفي بهذه النفقة أولئك الضعفاء والبائسين ممن هداهم الله إلى الحق فأذاقهم أعداء الحق الضر وابتلوهم بألوان البأساء، وحسبك أن تعلم أنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته، وأنه أقام بعد إسلامه يتجر فيجني وارف الربح، فلما هاجر إلى المدينة بعد عشر سنوات لم يكن له من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم، أما سائر ما كان عنده وما ادخر من بعد، فقد ذهب في سبيل الدعوة إلى الله والدعوة لدينه ولرسوله، وأيسر ذلك ما افتدى به الضعفاء والأرقاء الذين أسلموا، فعذبهم سادتهم بإسلامهم، وأذاقوهم الهون ألوانا.
رأى أبو بكر يوما بلالا الحبشي قد ألقاه سيده على الرمل في لظى الشمس، ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت؛ لأنه أسلم، ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر «أحد أحد»، عند ذلك اشتراه أبو بكر وأعتقه، وعذب عامر بن فهيرة، فاصطفاه أبو بكر راعيا لأغنامه، واشترى كثيرا كذلك من الموالي الذين يعذبون، رجالا ونساء، وأعتقهم.
على أن أبا بكر لم يسلم من أذى قريش، كما لم يسلم محمد من هذا الأذى، على رغم مكانته من قومه ومنع بني هاشم له، ولم ير أبو بكر قريشا تؤذي محمدا إلا وقف دونه وعرض حياته للذود عنه، روى ابن هشام أن شر ما نال قريش من رسول الله قد كان بعد أن عاب دينهم وسب آلهتهم، فقد اجتمعوا في الحجر يوما «فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : نعم! أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر (رضي الله عنه) دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط .»
وليس هذا الموقف شيئا إلى جانب غيره من المواقف التي تجلى فيها إيمان أبي بكر بمحمد وبرسالته إيمانا لا يلين ولا يتزعزع، وهذا الإيمان هو الذي جعل غير واحد من المستشرقين يتراجع دون اتهام النبي بما يتهمه به غلاتهم، فما كان أبو بكر في رزانته ورجاحة عقله ليصل إلى هذا الإيمان لو لم يتنزه كل عمل من أعمال الرسول عن كل شبهة، وبخاصة في ذلك الوقت الذي كان الرسول فيه موضع الاضطهاد من قومه، وهذا الإيمان الذي امتلأت به نفس أبي بكر هو الذي وقى الإسلام أن ينصرف الناس عنه عندما حدثهم رسول الله بحديث الإسراء.
Page inconnue
فقد تحدث محمد إلى أهل مكة بأن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه صلى هناك، وسخر المشركون من هذا الحديث، وساور الريب فيه طائفة ممن أسلموا، وقال يومئذ غير واحد: هذا والله الأمر البين! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!! وارتد كثير ممن أسلموا، وتردد كثيرون وذهبوا إلى أبي بكر لما يعلمونه من إيمانه وصحبته محمدا، فذكروا له ما يقوله عن الإسراء، قال أبو بكر وقد تولاه الدهش لما سمع: «إنكم تكذبون عليه.» قالوا: «بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس.» قال أبو بكر: «والله لئن كان قد قاله لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.» وجاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد الأقصى قال أبو بكر: «صدقت يا رسول الله.» ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
أفخطر ببالك يوما أن تسأل: ترى لو أن أبا بكر ارتاب كما ارتاب غيره في حديث الرسول عن الإسراء، فما عسى أن يحدث من أثر هذه الريبة في حياة الدين الناشئ؟ وهل قدرت ما قد يؤدي ذلك إليه من تضاعف عدد المرتدين، ومن بلبلة العقيدة في نفس غيرهم من المسلمين؟ وهل ذكرت كيف ثبتت إجابة أبي بكر عقائد الكثيرين، وكيف حفظت للإسلام يومئذ مكانته؟ إن كنت قد سألت وقدرت وذكرت فلا ريب أنك لم تتردد من بعد في الحكم بأن الإيمان الصادق أقوى سلطانا في الحياة من قوى البطش والبأس جميعا، وأن كلمة أبي بكر هذه كانت عناية الله بدينه الحق، وأنها نصرته وأيدته أكثر مما أيدته قوة حمزة وعمر من قبل، وهي لذلك حقيقة بأن تجعل لأبي بكر في تاريخ الإسلام المكان الذي جعله الرسول له حين قال: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وكلمة أبي بكر في الإسراء تدل على إدراك تام للوحي والرسالة لا يؤتاه كثيرون، وتريك حكمة الله في أن يختاره الرسول صفيه يوم اصطفى الله رسوله ليبلغ الناس رسالته، وهي كذلك الحجة البالغة على أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخلد أثرها على الزمان بفضل الله، فلا سلطان للزمان عليه ولا يأتي عليه النسيان.
أقام أبو بكر من بعد حديث الإسراء يرعى تجارته في حدود ما تحتاج إليه من جهد العارف بمداخلها ومخارجها، وينفق وقته في صحبة الرسول، وفي حماية الضعفاء الذين أسلموا، وفي دفع أذى قريش عنهم، وفي دعوة من تلين قلوبهم للإسلام، هذا وقريش تشتد في أذى النبي وفي أذى أبي بكر وسائر المسلمين، ولم يدر بخاطر الصديق أن يهاجر مع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينهم،
2
بل ظل مع محمد بمكة يجاهد معه في سبيل الدعوة إلى دين الله، ويتلقى عنه ما يوحي الله إليه ليذيعه في الناس، ويبذل من رضا نفسه ومن طيبة خلقه ومن حر ماله كل ما يستطيع بذله، لخير من أسلم، ولهداية من لم يسلم.
وما كان أحوج المسلمين بمكة يومئذ إلى هذ الجهد وإلى هذه الرعاية من أبي بكر! فقد كان محمد يتلقى وحي ربه، وكان قد يئس من استجابة أهل مكة لدعوته، فوجه همه إلى القبائل يعرض نفسه عليها ويدعوها إلى الله، وقد ذهب إلى الطائف يستنصر أهلها فردوه ردا غير جميل، وكان في اتصاله بربه دائم التفكير في رسالته والدعوة إليها وفي الوسيلة لنجاح هذه الدعوة، هذا إلى أن قريشا لم تسكت قط عنه ولم تنقطع عن مناوأته، إزاء ذلك كله أخذ أبو بكر نفسه بالتفكير في أمر المسلمين المقيمين بمكة، وفي تنظيم الوسائل للسهر على طمأنينتهم.
ولئن لم تذكر كتب السيرة ولم يذكر من أرخو لأبي بكر من عمله في ذلك ما فيه غناء، إنني مع هذا لترتسم في نفسي صورة واضحة من عنايته ومن اتصاله الدائم بحمزة وبعمر وبعثمان وبكل ذي رأي في المسلمين أو سلطان لدفع أذى قريش عن الضعفاء الذين أسلموا، بل إنني لأتصور ما كان من اتصاله بغير المسلمين ممن أقاموا على دينهم ثم كانوا لا يرون إنه من الحق لقريش أن تناوئ من لا يقرها على عقيدتها في الأصنام وعبادتها، ولقد رأينا في سيرة الرسول كثيرين من هؤلاء قاموا يدفعون عن المسلمين أذى قريش؛ ورأينا الذين قاموا في نقض الصحيفة إذ تعاهدت قريش على مقاطعة محمد وأصحابه وعلى محاصرتهم حتى احتموا ثلاث سنوات تباعا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، لا يتصلون بالناس ولا يستحدثون إليهم إلا في الأشهر الحرم، ويقيني أن أبا بكر قد كان له في تحريك هؤلاء الذين لم يتابعوا محمدا على دينه، والذين غضبوا مع ذلك لما يصيبه من أذى قريش، أثر بالغ أدركه برفقه وحسن حديثه وجميل عشرته.
وما قام به أبو بكر من حماية المسلمين إبان نشأة الدين هو الذي زاده من محمد قربا، وهو الذي ربط بين الرجلين برابطة إخاء في الإيمان جعلت محمدا يصطفيه خليلا، فلما أذن الله لدينه أن ينتصر بقوة أهل يثرب بعد بيعتي العقبة، أذن محمد لأصحابه في أن يهاجروا إليها، كما أذن لهم من قبل في أن يهاجروا إلى الحبشة، ولم تعرف قريش أيهاجر محمد مع أصحابه إلى يثرب، أم يظل كما ظل بها حين هجرة المسلمين إلى الحبشة؟ أعرف أبو بكر من مقصد محمد ما لم تعرف قريش؟ كل ما يروى عن ذلك أن أبا بكر استأذن محمدا في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا.» ولم يزد على ذلك.
ها هنا تبدأ صفحة أخرى من صحف الإيمان القوي الراسخ بالله ورسوله، فقد كان أبو بكر يعلم أن قريشا قامت، منذ عرفت بهجرة المسلمين إلى يثرب، ترد كل ما استطاعت رده منهم إلى مكة لتفتنه عن دينه، أو تعذبه وتنكل به، ثم إنه علم أن المشركين اجتمعوا بدار الندوة يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فإن هو صحب محمدا في هجرته فأقدمت قريش على قتل الرسول قتلت أبا بكر لا محالة معه، مع ذلك لم يتردد حين استمهله محمد، بل شاعت الغبطة في أنحاء نفسه وأيقن أنه إن يهاجر مع الرسول يجعل الله له بذلك من الفضل والفخر ما لا يعدله فضل ولا فخر، وإن يقتل معه فإنما هو الاستشهاد الذي يجزى صاحبه جنة الخلد.
Page inconnue
ومن يومئذ أعد أبو بكر راحلتين وأقام ينتظر مصيره ومصير صاحبه، وإنه لفي بيته ذات مساء إذ أقبل محمد كدأبه كل مساء، وأخبره أن الله أذن له في الهجرة إلى يثرب، ورغب الصديق إلى رسول الله أن يكون رفيقه في الهجرة، فأجابه إلى ما طلب، وعاد محمد إلى بيته وفتيان قريش يحاصرونه مخافة أن يفر، وأسر محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، ففعل، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج في غفلة من فتية قريش إلى دار أبي بكر، فإذا هو يقظ ينتظره، وخرج الرجلان من خوخة في ظهر الدار وانطلقا جنوبا إلى غار ثور فاختبآ فيه.
وأطلقت قريش فتيانها في كل واد وفي كل جبل، يبحثون عن محمد ليقتلوه، فلما بلغوا ثورا تسلقه أحدهم إلى الغار، لعله أن يعثر به، وتصبب أبو بكر عرقا حين سمع تناديهم، وأمسك أنفاسه وبقي بلا حراك به وأسلم لله أمره، أما محمد فظل فيما كان فيه من ذكر الله والصلاة له، واقترب أبو بكر من صاحبه وألصق به نفسه، فهمس محمد في أذنه: «لا تحزن، إن الله معنا.»
وأدار الفتى القرشي بصره فيما حول الغار فرأى العنكبوت نسجت على فوهته، فانصرف يقول لأصحابه الذين سألوه ما له لم يذهب إليه: «إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد.» وانصرف الفتية قافلين يعضون البنان ندما، فلما بعدوا نادى محمد: «الحمد لله، الله أكبر!» وازداد أبو بكر بما رأى إيمانا وتثبيتا.
أفكان فزع أبي بكر حتى ليتصبب منه العرق ويمسك أنفاسه ويلتصق برسول الله بعض ما دعا إليه حب الحياة والحرص عليها، فهو يخشى على نفسه أن يصيبه المكروه؟ أم إنه لم يفكر في نفسه ما فكر في رسول الله، وإنه كان يود لو يفتدي رسول الله بنفسه إن استطاع؟ روى ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: «انتهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلمس الغار لينظر فيه سبعا أو حية، يقي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنفسه.» وذلك كان شأنه في تلك اللحظة الدقيقة من حياته حين كان يسمع إلى فتيان قريش، فيهمس في أذن النبي: «لو بصر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» لم يكن يفكر فيما قد يصيبه، وإنما كان يفكر في رسول الله وفي مصير الدين الذي يدعو إليه بأمر ربه لو أن هؤلاء الفتية ظفروا به فقتلوه، بل لعله لم يفكر في شيء بذاته تلك اللحظة، وإنما كان شأنه شأن الأم تخشى الخطر على ابنها، فهي ترتجف وتفزع ويتولاها الهلع ثم لا يساعفها عقلها برأي أو تفكير، فإذا دنا الخطر منها ألقت بنفسها في وجهه تريد أن تصده أو تموت دونه، أم إن أبا بكر كان أشد من هذه الأم هلعا وأكثر منها استهانة بالخطر إذا أقبل؛ لأن إيمانه بالله ورسوله كان أقوى من حب الحياة ومن فطرة الأمومة ومن كل ما تحسه نفوسنا أو يدور بخواطرنا، وما بالك بإيمان تجسم أمامه في رسول الله فتجسمت معه كل المعاني المقدسة في أعظم صورها قدسية وأسماها روحانية! أتصور الساعة أبا بكر في مجلسه ورسول الله إلى جانبه، وأتصور الخطر محدقا بهما مقبلا عليهما، فلا يسعفني خيالي بمثال يبرز كل ما في هذه الصورة الفذة من حياة لا نظير لها في كل صور الحياة.
قص التاريخ نبأ أشخاص وهبوا أنفسهم فداء زعيم من الزعماء أو ملك من الملوك، وفي عصرنا اليوم زعماء يقدسهم الناس، فهم أحب إليهم من أنفسهم، لكن موقف أبي بكر بالغار يختلف عن ذلك كل الاختلاف، وهو لذلك جدير بالتحليل يقوم به أشد علماء النفس دقة، وأكثرهم في التصوير براعة، فأين إيمان الناس بالزعماء أو الملوك من إيمان الصديق بالرسول الذي اصطفاه الله فأوحى إليه دينه الحق!! وأين لذلك افتداء الناس ملوكهم وزعماءهم مما جال بخاطر الصديق في هذه اللحظة التي خشي فيها الخطر على حياة الرسول، ثم كان أشد خشية ألا يدفع الخطر دافع؟!! هذا مقام من السمو لا سبيل للرقي إلى تصويره؛ ولذا أمسك كتاب السيرة عن الحديث فيه أو كادوا.
Page inconnue
وسكن الناس عن الرجلين وتولاهم اليأس من العثور عليهما، فخرجا من مخبئهما وارتحلا، يواجهان ما في الطريق من أخطار لا تقل عما تعرضا له بالغار، وحمل أبو بكر ما بقي له من ربح تجارته خمسة آلاف درهم، فلما بلغا المدينة وتلقى الناس رسول الله ببشر دونه كل بشر، بدأ أبو بكر حياته فيها كأي رجل من المهاجرين، وإن ظلت له مكانته من رسول الله، مكانة الخليل والصديق والوزير المشير.
ونزل أبو بكر بالسنح من ضواحي المدينة على خارجة بن زيد من بني الحارث من الخزرج، فلما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار كان أبو بكر وخارجة أخوين، وأدرك أبا بكر أهله وأبناؤه الذين كانوا بمكة فاستعان بهم على الحياة، فقد عملت أسرته - كما عملت أسرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - في الزراعة في أراضي الأنصار، مزارعة مع ملاكها، ولعل خارجة بن زيد كان في هؤلاء الملاك؛ فقد توثقت الصلة بينه وبين أبي بكر من بعد، فتزوج ابنته حبيبة وجاءت منه بأم كلثوم، وكانت حبيبة حاملا بها حين وفاته.
ولم تقم أسرة أبي بكر معه بدار خارجة بن زيد بالسنح، بل أقامت أم رومان وابنتها عائشة وسائر أبناء أبي بكر بالمدينة، بدار تجاور دار أبي أيوب الأنصاري حيث نزل النبي، وكان هو يتردد عليهم، جاعلا معظم إقامته بالسنح مع زوجه الجديدة.
وبعد قليل من مقامه بالمدينة أصابته الحمى التي أصابت أكثر الذين هاجروا إليها من أهل مكة، بسبب ما بين موطنهم ومهجرهم من تفاوت في الهواء؛ فهواء مكة صحراوي جاف، وهواء المدينة رطب لكثرة ما فيها من مياه وزروع، يروى عن عائشة أن أباها أصابه من هذه الحمى رهق حتى لكان يهذي لشدة ما نزل به منها.
فلما اطمأن إلى موطنه الجديد، وإلى كدح أهله كدحا أغناه عن الأنصار، وجه كل همه إلى معاونة الرسول في تثبيت دعوته وتوطيد مركز المسلمين، لا يألو في ذلك جهدا ولا يضن بتضحية.
ولقد كان الغضب لا يعرف إلى هذا الرجل الوادع سبيلا إلا حين يرى خصوم الدعوى من اليهود والمنافقين يسخرون منها أو يكيدون لها، كان رسول الله قد عقد بين اليهود والمسلمين عهدا أن يكون لكل حرية الدعوة إلى دينه، وأن يباشر من شعائره ما يشاء، وكانت اليهود قد حسبت أول الأمر أنها قادرة على أن تكسب المسلمين من أهل مكة ليكونوا عونا لهم على الأوس والخزرج، فلما سقط في أيديهم وعجزوا عن التفريق بين المهاجرين والأنصار، بدءوا يكيدون للمسلمين ويسخرون من دينهم، اجتمع رهط من يهود على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ودخل عليهم أبو بكر فرآهم كذلك، فقال لفنحاص: «ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم! إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل.» قال فنحاص وعلى شفتيه ابتسامة السخر والتهكم: «والله، يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا!» وإنما يشير فنحاص بعبارته هذه إلى قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245)، فلما رأى أبو بكر أن الرجل يستهزئ بقول الله ووحيه إلى نبيه، لم يملك نفسه أن ضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: «والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله!»
أليس عجبا أن تكون في أبي بكر هذه الحدة وهو من هو؛ لين طبع ورقة خلق ووداعة نفس، وأن تكون فيه وقد جاوز الخمسين!
وهذه الغضبة على فنحاص تذكرنا بغضبة مثلها، كانت له قبلها بأكثر من عشر سنين، ذلك حين غلبت الفرس الروم؛ والفرس مجوس، والروم أهل كتاب، فقد حزن المسلمون لتهكم المشركين بهم وزعمهم أن الروم غلبت؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، وتحدث مشرك في الأمر أمام أبي بكر وألح في الحديث فاغتاظ أبو بكر وراهنه عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام، ذلك يدل على أنه لم يكن شيء في الحياة يثير ثائرة أبي بكر أو يهيج غضبه إلا ما اتصل بعقيدته وبإيمانه الصادق بالله ورسوله، كان هذا دأبه وهو في الأربعين، وظل هذا دأبه حين جاوز الخمسين، وحين تولى الخلافة من بعد ودبر أمر المسلمين.
وهذا الإيمان الصادق قد ملك على أبي بكر كل مشاعره في كل أطوار حياته منذ اتبع الرسول، وأنت تستطيع أن تفسر كل أحواله وكل أعماله وتصرفاته إذا نظرت إليها من هذه الناحية المعنوية، أما ما خلاها فقد كان ضعيف الأثر عنده؛ فلا تجارته، ولا أسرته، ولا أهواؤه، ولا شيء مما يتأثر به الناس في الحياة ومما كان يتأثر به كثير من المسلمين في ذلك العهد، قد كان ذا سلطان عليه، بل كان قلبه، وكان عقله، وكانت روحه، خالصة كلها لله ورسوله، وكانت كلها الإيمان الذي بلغ من مراتب الإيمان عليها، مراتب الصديقين، وحسن ذلك مقاما!
Page inconnue
انظر إليه بعد ذلك في غزوة بدر: عدل المكيون صفوفهم، وعدل النبي صفوف المسلمين للقتال، وبنى المسلمون عريشا للنبي في المؤخرة، بإشارة سعد بن معاذ، حتى إذا لم يكن النصر في جانبهم لحق رسول الله بالمدينة، وأقام أبو بكر مع النبي في العريش يرقب معه سير المعركة، فلما ابتدأت، ورأى محمد كثرة عدوه وقلة رجاله، استقبل القبلة واتجه: فاتجه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده، ويهتف به أن يتم له النصر ويقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!»
وما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، ولم يطمئن حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه من بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
هذا موقف الرسول: لم يطمئن إلى انتصار رجاله القليلين على أعدائه الكثيرين، حتى اتصلت روحه بسر من ربه أراه النصر، وكشف أمامه حجب هذا اليوم الحاسم في حياة الإسلام، أما أبو بكر فظل إلى جانب الرسول ممتلئا إيمانا بأن الله لا ريب ناصر دينه، ممتلئا مع إيمانه بالنصر إعجابا بالرسول في مناجاة ربه، وإشفاقا على الرسول لشدة خوفه من مصير ذلك اليوم، وهذا ما دعاه، والرسول ينادي ويناشد ويستنجز ربه ما وعده، ويكرر ذلك ويعيده حتى سقط رداؤه، أن يهيب به وهو يرد الرداء على منكبيه: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك!»
ألف الناس في كثير من المؤمنين بعقيدة لا يمارون فيها ولا يداجون، أن يبلغ منهم التعصب لعقيدتهم مبلغا يجعلهم أشداء لا يهنون، غلاظا لا يلينون، بل إن منهم لكثيرين لا يطيقون النظر إلى وجوه من يخالفونهم في هذه العقيدة، هؤلاء يرون أن الإيمان الحق يقتضيهم هذا التعصب وهذه الشدة والغلظة، أما الصديق فكان، على جلال إيمانه وعظم تعصبه لهذا الإيمان وشدته فيه شدة لا تهن ولا تتردد، بعيدا عن الغلظة، قريبا إلى اللين، عفوا عند القدرة، محسنا متى تم لإيمانه النصر، بذلك جمع في قلبه بين مبدأين من أسمى المبادئ الإنسانية: حب الحق، والرحمة، ففي سبيل الحق كان يستهين بكل شيء، وبالحياة قبل كل شيء، فإذا علت كلمة الحق، غلب فيها جانب الرحمة، وانقلب مؤمنا بها إيمانه من قبل بالحق، ضعيفا لها حتى لتذرف عينه الدمع ترسله مدرارا.
تم النصر للمسلمين في بدر، فرجعوا إلى المدينة ومعهم أسرى قريش، وكان هؤلاء يطمعون في الحياة، وفي العود إلى مكة، وإن أغلوا الفداء، لكنهم كانوا يخشون شدة محمد وبطشه بهم بعد الذي أذاقوه وأصحابه سنوات مقامه بينهم، قال بعضهم لبعض: «لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه.» وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: «يا أبا بكر، إن فينا الآباء، والإخوان، والعمومة، وبني العمومة؛ وأبعدنا قريب، كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا.» فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فتحدثوا إليه بمثل حديثهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا ولم يجب، وأقام أبو بكر نفسه شفيع هؤلاء القرشيين المشركين عند رسول الله، فجعل يستعطفه عليهم ويلين قلبه لهم، ويدفع حجج عمر في الشدة بهم، ويذكر ما بينهم وبين النبي من قرابة، وهو إنما صنع ما صنع من ذلك لما فطر عليه من طيب القلب والإيمان بالرحمة كإيمانه بالحق والعدل، ولعله كان يرى بعين بصيرته أن لسلطان الرحمة الغلب آخر الأمر، وأن الناس ينزلون على حكم صاحبها وعلى عقيدته ما رأوها رحمة إنسانية سامية، مبرأة من الضعف، منزهة عن الهوى، لا تحركها في النفس إلا القوة والقدرة، وإلا سلطان الإنسان على نفسه سلطانا يكبح من بطش القوة ويلين من عسف القدرة.
كانت غزوة بدر مبدأ حياة جديدة للمسلمين، وكانت كذلك مبدأ اتجاه جديد في حياة أبي بكر، بدأ المسلمون ينظمون سياستهم إزاء قريش وإزاء من ناوأهم من القبائل المحيطة بهم، وبدأ أبو بكر يشتغل مع النبي بهذا التنظيم أضعاف شغله بحماية المسلمين أيام مقامه بمكة، فقد كان المسلمون جميعا يعلمون أن قريشا لن يهدأ لها بال حتى تأخذ بثأرها من بدر؛ وكانوا يعلمون أنهم في حاجة إلى حماية دعوتهم الناشئة، وإلى دفع كل معتد عليهم، فلا بد من التقدير لذلك كله، وتدبير الأمر له، وما كان لأبي بكر، وموقفه من رسول الله ما رأيت، أن يشغل نفسه من بعد بغير هذا التقدير والتدبير، حتى لا تكون فتنة داخلية في المدينة بتحريض اليهود والمنافقين، وحتى لا يغزو المدينة غاز من الخارج.
والحق أن نصر المسلمين ببدر قد أعز كلمتهم، فحرك في نفوس منافسيهم حقدا عليهم أي حقد، حرك في نفوس اليهود حفائظ كانت ساكنة، وحرك في قلوب القبائل المجاورة للمدينة مخاوف كانت مطمئنة، ولم يكن بد، لاتقاء ما ينجم عن هذا وذاك، من سياسة حكيمة، وتقدير دقيق، ومشاورة متصلة بين النبي وأصحابه، وقد اتخذ النبي من أبي بكر وعمر وزيرين يمحص على ضوء ما بينهما من تباين في الطبع مع صدق المشورة، ما ينظم به سياسته الناشئة، هذا مع مشاورته غيرهما من سائر المسلمين، مشاورة كان لها أثرها الكبير في جمع الكلمة، وفي توزيع التبعة على الجميع، توزيعا يشعر كل واحد بأن عليه منها قسطا ونصيبا.
وكان من أثر ما تحرك من حفائظ اليهود أن حاصر المسلمون منهم بني قينقاع وأجلوهم عن المدينة، وكان من أثر ما تحرك من مخاوف القبائل أن جعل المحيطون بالمدينة يجتمعون للاعتداء عليها، فإذا سمعوا بخروج محمد إليهم ولوا فرارا وملئت قلوبهم رعبا.
وكانت هذه الأنباء تصل مكة، فلا تصد قريشا عن التفكير في الثأر لبدر، ولقد ذهبت تلتمس هذا الثأر، فالتقت بالمسلمين عند أحد، فدارت الدائرة وجه النهار عليها لكن مصير اليوم تغير حين خالف رماة المسلمين أمر النبي، وتركوا مواقفهم وانطلقوا يغنمون مع الغانمين، فقد اهتبل خالد بن الوليد الفرصة؛ فأوقعت قريش بالمسلمين فاضطربوا؛ وأصيب النبي بحجارة كان المشركون يقذفونها، فوقع لشقه، وأصيب في وجهه، وتنادت قريش أنه مات، ولولا أن أحاط به من أبطال المسلمين من افتدوه بأنفسهم وأرواحهم، لكان لله في خلقه من يومئذ شأن غير الشأن، ومن يومئذ صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في غزواته وحين مقامه بالمدينة، وأنت تذكر أن حياة المسلمين، إلى أن استقر لهم الأمر بعد فتح مكة وإسلام ثقيف بالطائف، قد كانت حياة غزو، ودفع للغزو، أو استعداد لدفعه، دع عنك الغزوات الصغرى التي كانت أدنى إلى المناوشات، فقد كان اليهود، وعلى رأسهم حيي بن أخطب، لا يفتئون يؤلبون على المسلمين، وكانت قريش تبذل جهد الطاقة لإضعافهم والقضاء على سلطانهم، فكانت غزوات بني النضير والخندق وبني قريظة وما تخللها من الغزوات الصغرى، أثر سياسة اليهود وحقد قريش.
صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في هذه المواقف والمواقع جميعا، وهو أشد ما يكون برسالته إيمانا وتصديقا، فلما اطمأن رسول الله إلى منعة المدينة وآن له أن يوجه خطته توجيها جديدا يمهد الله به لإكمال دينه، كان لأبي بكر مواقف زادت المسلمين اقتناعا بأنه الرجل الذي يلي رسول الله مكانة من نفوسهم، وسموا في تقديرهم.
Page inconnue
بعد ست سنوات من هجرة المسلمين إلى المدينة أذن محمد في الناس بالحج إلى البيت العتيق، وبلغ قريشا مسيرة القوم، فأقسموا لا يدخل محمد مكة عليهم عنوة، وأقام محمد وأصحابه بالحديبية بظاهر مكة، وهو مستمسك بالسلام، رافض كل دعوة إلى منازلة قريش، معلن أنه جاء حاجا ولم يجئ غازيا، وتبادل مع قريش الرسل، وانتهى الأمر بينه وبينهم إلى عهد رضي به أن يرجع عنه عامه وأن يعود إليهم العام الذي يليه.
غضب كثير من المسلمين، بينهم عمر بن الخطاب، لتراجعهم ورجوعهم، ورأوا في هذا العهد إعطاء للدنية في دينهم، أما أبو بكر فآمن وصدق بحكمة رسول الله، فلما نزلت سورة الفتح آمن الناس جميعا بأن عهد الحديبية كان فتحا مبينا، وبأن أبا بكر كان الصديق في هذه، كما كان في غيرها من مواقفه.
كانت الدعوة الإسلامية تزداد على الأيام كمالا؛ وكان المسلمون بالمدينة يزدادون بذلك بأسا وقوة، وكان من مظاهر قوتهم أن حاصروا اليهود في خيبر وفدك وتيماء، وأخضعوهم لسلطانهم، تمهيدا لإجلائهم عن بلاد العرب، ثم كان من مظاهر قوتهم وكمال الدعوة أن أرسل محمد إلى الملوك والأمراء بفارس، وبزنطية، ومصر، والحيرة، واليمن، وما جاور بلاد العرب أو دخل فيها من الإمارات، يدعوهم إلى الإسلام، فأما المظهر الأسنى لهذا الكمال وهذه القوة، فذلك فتح مكة، وحصار الطائف، بهذا كله تألق نور الدين الجديد في شبه الجزيرة، وجاوزها إلى الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا قابضتين على ناصية العالم في ذلك العصر: الروم، وفارس، وبذلك اطمأن الرسول والمسلمون إلى نصر الله، وإن استمسكوا بخطة الحذر، حتى لا يدهمهم من أية ناحية من يحاول أن يغشى على هذا النور أو أن يضعف سلطانه.
وحين رأت العرب هذه القوة جاءت وفودهم تترى من أنحاء شبه الجزيرة، تعلن إيمانها بالدين الجديد، أليس هذا الداعي إليه قد كان وحيدا فريدا، وها هو ذا قد انتصر على اليهود، وعلى النصارى، وعلى المجوس، وعلى المشركين!! وهل ينتصر إلا الحق! وهل آية أدل على أن دعوته هي الحق الخالص من انتصاره على هؤلاء جميعا، وهو لا يبتغي عليهم سلطانا، ولا يطلب إليهم إلا أن يؤمنوا بالله، وأن يعملوا الصالحات!! هذا منطق إنساني أقره الناس في كل زمن وآمنوا به أينما وجدوا وهو منطق يقره العقل ما أثبتت السنون قوة حجته فلم يغلبه غالب.
وأذن الله أن يتم المسلمون فروض دينه، والحج تمام هذه الفروض، لكن تتابع الوفود لم يتح لرسول الله أن يغادر المدينة إلى بيت الله الحرام، لذلك أمر أبا بكر أن يحج بالناس، فخرج في ثلاثمائة من المسلمين، حجوا وطافوا وسعوا، وفي هذا الحج أعلن علي بن أبي طالب إلى الناس - أو أعلن أبو بكر في رواية أخرى - أن لا يحج بعد ذلك العام مشرك، ثم أجل الناس أربعة أشهر، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ومن يومئذ إلى اليوم، وإلى ما يشاء الله، لم يحج إلى البيت الحرام مشرك، ولن يحج إليه مشرك.
وفي السنة العاشرة من الهجرة، حج رسول الله حجة الوداع، وحج أبو بكر معه، وسار
صلى الله عليه وسلم ، وصحبه نساؤه جميعا، وتبعه من العرب مائة ألف أو يزيدون، ولم يطل مقام النبي بالمدينة بعد عوده من الحج، حتى أمر بتجهيز جيش لجب إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين، ومنهم أبو بكر وعمر، وعسكر هذا الجيش بالجرف، ثم ترامى إليه أن رسول الله مرض، فلم يتحرك إلى غرضه؛ لأن المرض اشتد بالنبي شدة أثارت مخاوف الناس عليه.
ولما ثقل عليه المرض أمر أن يصلي أبو بكر بالناس. روي عن عائشة أنها قالت: «لما ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! ... فقالت له حفصة، فقال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس! فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا.»
وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي، وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس، وكان عمر جهير الصوت، فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة، فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون!» ولقد ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده بما أنه قد أمره بالصلاة مكانه؛ فالصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
Page inconnue