الفصل الثالث
العرب حين وفاة النبي
بينما يختلف أهل المدينة ثم يتفقون على بيعة أبي بكر إذا النعاة يسرعون إلى القبائل يحملون إليها النبأ بوفاة النبي، والواقع أنه لم يسر نبأ في بلاد العرب بسرعة البرق ما سار النبأ بوفاة رسول الله، ولم يلبث العرب حين ذاع النبأ فيهم أن اشرأبت أعناقهم من كل صوب يريدون أن يلقوا عن عواتقهم سلطان المدينة، وأن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل مبعث محمد إليهم وانتشار أمره فيهم، لذلك ارتد العرب في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وكثر أعداء المسلمين؛ فأصبح هؤلاء لفقد نبيهم كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية.
لقد رأيت ما نجم بالمدينة بين المهاجرين والأنصار من نزاع على خلافة الرسول، ولولا حكمة أبي بكر وعمر وما أراده الله لدينه من النصر لما انحسم النزاع كما انحسم، ولما انتهى إلى النتيجة الموفقة التي انتهى إليها.
ولم يكن ما حدث بالمدينة بالشيء المذكور إذا قيس بما حدث بغيرها؛ فقد هم أهل مكة أنفسهم بالردة عن الإسلام حتى خافهم عتاب بن أسيد عامل رسول الله على أم القرى فتوارى منهم، ولولا أن قام فيهم سهيل بن عمرو فقال لهم بعد أن ذكر وفاة النبي: «إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه.» لترددوا في موقفهم، على أن سهيلا أضاف إلى هذا الإرهاب ترغيبا كان له أثره، أضاف: «والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»، ولعل هذه الكلمة كانت أقوى أثرا في نفوسهم من التهديد، وكانت لذلك سبب رجوعهم عن ردتهم، فقد رأوا الأمر بالمدينة آل إلى أبي بكر وإلى أبناء مكة من قريش، فاطمأنوا إلى ما ذكره سهيل من حديث رسول الله، واستمسكهم بالإسلام وأقاموا عليه.
وهمت ثقيف بالطائف أن ترتد، فقام عثمان بن أبي العاص عامل النبي عليهم فقال: «يا أبناء ثقيف! كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد.» وذكرت ثقيف موقف النبي منها بعد حنين، وذكرت ما بينها وبين مكة من أواصر النسب والقربى، فاستمسكت بالإسلام، ولعل قيام أبي بكر بالخلافة ونهوض أهل مكة إلى جانبه في أمرها، قد كان له من الأثر في ثقيف مثل ما كان له في أم القرى.
كذلك ثبتت القبائل المقيمة بين مكة والمدينة والطائف على إسلامها، ثبتت عليه مزينة وغفار وجهينة وبلي وأشجع وأسلم وخزاعة، أما سائر العرب فاضطرب أمرهم، فارتد منهم من كان عهدهم بالإسلام قريبا، ومن لم تكن نفوسهم قد أشربت تعاليمه، وتبلبلت عقائد سائرهم، ثم كان خيرهم من بقي على الإسلام ولم يرض مع ذلك عن بقاء السلطان لأهل المدينة مهاجريهم والأنصار، هؤلاء رأوا في أداء الزكاة جزية تفرضها المدينة عليهم، وتأباها نفوسهم التي ألفت الاستقلال عن كل سلطان، وهم إنما أدوها منذ أسلموا إلى الرسول الذي يوحى إليه، والذي اصطفاه الله من بين عباده نبيا، أما وقد اختار النبي جوار ربه، فأهل المدينة جميعا لا يفضلونهم في شيء، وليس لهم ما كان للنبي من حق في المطالبة بها.
كانت القبائل التي أبت إيتاء الزكاة هي القبائل القريبة من المدينة من عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة، أما الذين قصت ديارهم عن المدينة فكانوا أكثر إلحاحا في ردتهم، وكان أكثرهم يتابعون رجالا منها ادعوا النبوة، كطليحة في بني أسد، وسجاح في بني تميم، ومسيلمة في اليمامة وذي التاج لقيط بن مالك في عمان، هذا إلى ما كان من أتباع طائفة كبيرة من أهل اليمن للأسود العنسي، ومتابعتهم إياه إلى حين مقتله، ثم إمعانهم بعد ذلك في الفتنة والانتقاض إلى آخر حروب الردة.
وليست ترجع هذه الصورة في انتقاض الحواضر والبوادي على سلطان قريش وفي ردتها عن الإسلام إلى موقعها الجغرافي من المدينة وكفى، بل ترجع كذلك إلى عوامل عربية وأخرى أجنبية، بدت آثارها وبرزت في الفترة الأخيرة من حياة الرسول.
Page inconnue