بعد ست سنوات من هجرة المسلمين إلى المدينة أذن محمد في الناس بالحج إلى البيت العتيق، وبلغ قريشا مسيرة القوم، فأقسموا لا يدخل محمد مكة عليهم عنوة، وأقام محمد وأصحابه بالحديبية بظاهر مكة، وهو مستمسك بالسلام، رافض كل دعوة إلى منازلة قريش، معلن أنه جاء حاجا ولم يجئ غازيا، وتبادل مع قريش الرسل، وانتهى الأمر بينه وبينهم إلى عهد رضي به أن يرجع عنه عامه وأن يعود إليهم العام الذي يليه.
غضب كثير من المسلمين، بينهم عمر بن الخطاب، لتراجعهم ورجوعهم، ورأوا في هذا العهد إعطاء للدنية في دينهم، أما أبو بكر فآمن وصدق بحكمة رسول الله، فلما نزلت سورة الفتح آمن الناس جميعا بأن عهد الحديبية كان فتحا مبينا، وبأن أبا بكر كان الصديق في هذه، كما كان في غيرها من مواقفه.
كانت الدعوة الإسلامية تزداد على الأيام كمالا؛ وكان المسلمون بالمدينة يزدادون بذلك بأسا وقوة، وكان من مظاهر قوتهم أن حاصروا اليهود في خيبر وفدك وتيماء، وأخضعوهم لسلطانهم، تمهيدا لإجلائهم عن بلاد العرب، ثم كان من مظاهر قوتهم وكمال الدعوة أن أرسل محمد إلى الملوك والأمراء بفارس، وبزنطية، ومصر، والحيرة، واليمن، وما جاور بلاد العرب أو دخل فيها من الإمارات، يدعوهم إلى الإسلام، فأما المظهر الأسنى لهذا الكمال وهذه القوة، فذلك فتح مكة، وحصار الطائف، بهذا كله تألق نور الدين الجديد في شبه الجزيرة، وجاوزها إلى الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا قابضتين على ناصية العالم في ذلك العصر: الروم، وفارس، وبذلك اطمأن الرسول والمسلمون إلى نصر الله، وإن استمسكوا بخطة الحذر، حتى لا يدهمهم من أية ناحية من يحاول أن يغشى على هذا النور أو أن يضعف سلطانه.
وحين رأت العرب هذه القوة جاءت وفودهم تترى من أنحاء شبه الجزيرة، تعلن إيمانها بالدين الجديد، أليس هذا الداعي إليه قد كان وحيدا فريدا، وها هو ذا قد انتصر على اليهود، وعلى النصارى، وعلى المجوس، وعلى المشركين!! وهل ينتصر إلا الحق! وهل آية أدل على أن دعوته هي الحق الخالص من انتصاره على هؤلاء جميعا، وهو لا يبتغي عليهم سلطانا، ولا يطلب إليهم إلا أن يؤمنوا بالله، وأن يعملوا الصالحات!! هذا منطق إنساني أقره الناس في كل زمن وآمنوا به أينما وجدوا وهو منطق يقره العقل ما أثبتت السنون قوة حجته فلم يغلبه غالب.
وأذن الله أن يتم المسلمون فروض دينه، والحج تمام هذه الفروض، لكن تتابع الوفود لم يتح لرسول الله أن يغادر المدينة إلى بيت الله الحرام، لذلك أمر أبا بكر أن يحج بالناس، فخرج في ثلاثمائة من المسلمين، حجوا وطافوا وسعوا، وفي هذا الحج أعلن علي بن أبي طالب إلى الناس - أو أعلن أبو بكر في رواية أخرى - أن لا يحج بعد ذلك العام مشرك، ثم أجل الناس أربعة أشهر، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ومن يومئذ إلى اليوم، وإلى ما يشاء الله، لم يحج إلى البيت الحرام مشرك، ولن يحج إليه مشرك.
وفي السنة العاشرة من الهجرة، حج رسول الله حجة الوداع، وحج أبو بكر معه، وسار
صلى الله عليه وسلم ، وصحبه نساؤه جميعا، وتبعه من العرب مائة ألف أو يزيدون، ولم يطل مقام النبي بالمدينة بعد عوده من الحج، حتى أمر بتجهيز جيش لجب إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين، ومنهم أبو بكر وعمر، وعسكر هذا الجيش بالجرف، ثم ترامى إليه أن رسول الله مرض، فلم يتحرك إلى غرضه؛ لأن المرض اشتد بالنبي شدة أثارت مخاوف الناس عليه.
ولما ثقل عليه المرض أمر أن يصلي أبو بكر بالناس. روي عن عائشة أنها قالت: «لما ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! ... فقالت له حفصة، فقال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس! فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا.»
وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي، وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس، وكان عمر جهير الصوت، فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة، فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون!» ولقد ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده بما أنه قد أمره بالصلاة مكانه؛ فالصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
Page inconnue