142

Siddiq Abu Bakr

الصديق أبو بكر

Genres

والضمير الإنساني لا يزال قريبا من طوره الذي كان عليه في القرن السادس المسيحي، فهو لم يشب بعد عن الطوق، لذلك لا تفتأ الحرب تشب لأغراض دون ما قامت حروب الردة وحروب الفتح في العراق والشام لتحقيقه، ترتفع الصيحة للحرية وللعدل وللإخاء، فيلقي الناس بكل سمعهم للمنادي بها، ويبذلون حياتهم فداء لها، وتدوي آلات الدمار لنصرتها، فإذا وضعت الحرب أوزارها، توقع الناس أن تظلهم المبادئ التي قاتلوا في سبيلها، لكن ما تحقق من هذه المبادئ لم يزد يوما على طيف تتبدى وراءه حقيقة نحيفة، هي على نحافتها مبهمة غير واضحة المعالم. من ثم بقيت الشرور التي شكا الناس منها تثقل حتى اليوم كواهلهم، ولم تفد مبادئ الحرية والعدل والإخاء من تضحيات الإنسانية إلا قليلا، أما الثمرة الكبرى للحروب الطاحنة فقد آل معظمها إلى الذين يؤمنون بحق الجسد في النعمة والمتاع، والذين يبتغون الجاه والمال ويكنزون الذهب والفضة، ولا يرون بأسا في أن يرووا غلتهم للمتاع وظمأهم للمال بما أريق من دماء الإنسانية، وما بذل من مهج وأرواح فداء للعدل والإخاء والحرية.

وسبب ذلك ما قدمنا من أن الضمير الإنساني لا يزال أدنى إلى الطفولة، والطفولة كثيرة العثرات، لكن عثرات الطفل لم تصده يوما عن أن يعود فيمشي ليعثر من جديد.

وهذه العثرات هي التي تعلمه كيف يحفظ توازنه حتى تصل به إلى أن يسير مستقيما سوي القامة، يسرع الخطا إلى فتوة الشباب ثم إلى حكمة الرجولة، ولعل عثرة قاسية تكب الناشئ على وجهه تكون أجدى عليه وأقوى أثرا في تقويم سيرته، ولقد كانت كبوة فارس والروم من العثرات القاسية التي صادفت الإنسانية؛ لذلك كان قيام الإسلام ونهوض الإمبراطورية الإسلامية من أقوى البواعث على تقدم الضمير الإنساني إلى ناحية نضجه.

وآية ذلك أن الإسلام إنما استرعى سمع الناس فدانوا به؛ لأنه يصور مثل الإنسانية الأعلى، ويسمو بالحرية وبالكرامة الإنسانية إلى أرفع الذرا، فهو لا يجعل للناس إلها غير الله، هم عباده وحده جل شانه، لا يملك لهم أحد غيره نفعا ولا ضرا، ولا مثوبة ولا عقابا، وما يصيبهم في هذه الحياة أو يصيبون فيها يجزيهم الله عنه الجزاء الأوفى، فليعملوا إذن مطمئنين إلى حريتهم، لا يريدون إلا وجهه، فإذا أصابهم ظالم بمكروه فالويل لظالمهم من ربه، وإذا رأوا منكرا فليزيلوه، وليعلموا أن الله من ورائهم محيط.

لماذا كتب القدر الحكيم منذ الأزل في لوحه، فاصطفى الله نبيه الكريم من شبه جزيرة العرب دون غيره من أرجاء العالم؟!

ليس في مقدورنا، ولا في مقدور غيرنا، أن نقطع برأي حاسم في الجواب عن هذا السؤال، فنحن جميعا لم نؤت من العلم إلا قليلا، لكن ذلك لا يمنعنا من تلمس سنن الكون والاجتهاد لإدراك ما يقع بمشيئة الله فيه، وما يقع في حياة الإنسانية وجماعاتها يخضع لهذه السنن الثابتة كما يخضع لها سائر ما في الكون مما برأ الله، فمن الحق علينا أن نحاول تفسير الظاهرات الاجتماعية على ضوء هذه السنن، وإن كنا لا نطمع اليوم، وعلمنا الإنساني كما هو، في أن نعرف ما يطويه غيب المستقبل للجماعات الإنسانية على النحو الذي نستطيع أن نعرف به ما سيكون من أمر الأفلاك ودوراتها.

والذي يهدينا إليه الاجتهاد جوابا عن هذا السؤال أن حضارة العالم استقرت في الأجيال الأولى من حياة الإنسانية، وإلى القرن السادس المسيحي، في مصر وآشور واليونان ورومية، ثم امتدت منها إلى ما وراءها؛ وأن العقل الإنساني بلغ من النضج في هذه المناطق ما لم يبلغه في غيرها، مما يسر الضمير الإنساني أن يستقيظ فيها ويبزغ فجره، ولذلك وجهت الإمبراطوريتان فارس والروم مصاير العالم في ذلك العهد، ونهضتا بعبء الحضارة فيه، فلما آن لهاتين الإمبراطوريتين أن تهرما كانت شبه جزيرة العرب هي المنطقة المستقلة عنهما، المتصلة مع ذلك بهما، المتداخلة فيهما، ومهما يكن من أمر هذا الهرم الذي أصابهما فالدعوة إلى المثل الأعلى أدنى إلى أن تستجاب فيهما، وأن تمتد منهما إلى ما وراءهما، هذه كلها أحداث كتبت منذ الأزل في لوحد القدر، فلا غرو أن يكتب معها منذ الأزل أن يقوم الداعي إلى المثل الأعلى في أدنى الأرض من الإمبراطوريتين وأكثرها مع ذلك استقلالا عنهما، فالاستقلال هو الكفيل بحرية العقل، وبأن يستجيب الناس آخر الأمر للدعوة إلى الحق.

وكذلك اصطفى الله للقيام بهذه الدعوة نبيه من أهل شبه الجزيرة، ومن بلد هو أكثر بلاد شبه الجزيرة استقلالا، وأوفر هذه البلاد لذلك العهد عزة وكرامة.

ودعا محمد قومه إلى التوحيد وإلى المبادئ التي يتحقق بها مثل الإنسانية الأعلى، ثم بلغ دعوته إلى عاهلي الإمبراطوريتين فارس والروم ودعاهما إلى ما جاء به من الحق، بذلك أقام الحد الفاصل بين الحق والباطل، وحذر الناس حين دعاهم إلى الحق ممن يخادعون الناس باسمه، ثم ترك من بعده أصحابه الذين عزروه في حياته ونصروه، والذين أدركوا ما جاء به وامتثلوه.

وأنت قد رأيت كيف بلغ أبو بكر من سمو الإدراك لهذه المبادئ ما مكنه من أن يقيم في نفسه الحد بين الحق لذاته والمنافع العاجلة التي يسعى إليها من يخادعون الناس باسم الحق؛ ورأيته كيف أصر على أن ينصر الحق لذاته ولو قام لنصرته وحده، وإذا بلغ سمو الإدراك من نفس هذا المبلغ، فذلك الدليل على نضج الضمير غاية النضج، ولو أن الإنسانية كلها بلغت يوما هذا النضج لما شبت الحرب بين بنيها، ولاستجاب الله دعوة الذين يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا أنت السلام ومنك السلام، أحينا ربنا بالسلام!»

Page inconnue