ترى أيكون هذا الاختلاف البعيد بيننا أساسه خلاف في المعاني التي ننسبها إلى ما نستخدمه من الألفاظ؟ فإني ألاحظ في حديثنا ثلاث كلمات ضخمة شغلت جبابرة العقول في تحديد معانيها، وهي «تصوف» «معرفة» «حقيقة»؟ لا بد إذن من تحديد المراد بهذه الكلمات على وجه الدقة، قبل القول إن كان المتصوف يعرف أو لا يعرف الحقيقة. والمثل الأعلى أن يتفق المتناقشان على تحديد دقيق لمعاني الألفاظ قبل المضي في البحث. فإن تعذر ذلك؛ بين كل منهما ما يقصد إليه حين يستخدم هذه اللفظة أو تلك، وفي كلتا الحالتين لن يطول بينهما خلاف فيما أعتقد؛ لأنهما إن كانا يدوران في دائرة واحدة من المعاني، فاتفاقهما هين ميسور. وأما إن وجد أنهما يتكلمان بلسانين مختلفين؛ فلا سبيل بينهما إلى نقاش. •••
وقبل أن أوضح وجهة نظري، أحب أن أعترف لأستاذنا الفاضل بأنني أعاني ما أعانيه من شقاء العيش ومرارته، مذ أخذت نفسي أخذا صارما جازما بأن أفهم عن المتكلمين أو الكاتبين بمدلولات ألفاظهم. فقل ما شئت يا سيدي في مقدار ما أفسد ذلك علي من متعة القراءة أو الحوار؛ لأني أحاول عند كل عبارة أن أفهم - ذلك بالطبع إن كنت أعلم عن المتكلم أو الكاتب نية الجد فيما يقول - والفهم عندي معناه أن أتخذ من هذه الألفاظ التي أمامي أصابع تشير إلى أشياء، فما أكثر يا سيدي ما ألوي العنق؛ لأرى هذا الذي يشير إليه المتكلم أو الكاتب بألفاظه، فلا أرى شيئا، وأبوء من قراءتي بما هو شر من الفشل الذريع؛ إذ إني كثيرا ما أنحو باللائمة إلى نفسي، وأنزل عليها سخطا وغضبا أن ركبت على هذا النحو الذي يحول بينها وبين رؤية ما يراه كثيرون من أفضل المفكرين.
لكن الحب الفطري الذي يكنه الإنسان لنفسه، سرعان ما يثور في نفسي ليدفع عنها هذا الاتهام؛ فلست أطلب بدعا حين أبحث عن مدلولات الألفاظ؛ ليتسنى لي فهم ما يقال، فها أنت ذا ترى الناس في حياتهم اليومية العملية لا يفهم بعضهم عن بعض إلا على هذا الأساس. وكيف كان صاحبي ليفهمني حين قلت له منذ حين إن «المعطف ثمنه عشرون جنيها» إلا إذا استطاع أن يجد لكل لفظة من هذه الألفاظ مدلولها بين ما يرى من الأشياء وما بينها من علاقات؟ ولو قلت له إن «المرطف ثمنه عشرون جنيها» كان من حقه أن يسألني: «ما هذا المرطف الذي تتحدث عنه؟» ثم كان من واجبه نحو نفسه ألا يطمئن إلى ما أقوله له إلا إذا أظهرته خبرته على شيء يسميه الناس مرطفا مما يمكن أن تدفع في شرائه الجنيهات.
بل ها أنت ذا ترى العلماء في شتى ضروب العلم لا يتفاهمون إلا على هذا الأساس بعينه. فلو قال قائل منهم: إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة الجاذبية، كان حتما عليه أن يوضح المراد بلفظ الجاذبية، ولمن يستمع له أن ينظر إلى أجرام المجموعة الشمسية؛ ليرى هل يقوم بينها هذا الذي يسميه القائل جاذبية أو لا يقوم. وسواء وجده مخطئا أو مصيبا، فكلامه مفهوم ما دام يحدد له معاني ألفاظه على نحو يتيح له أن يري أأخطأ في قوله أم أصاب. أما إن قال إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة «اللاذبية»، وسألته ماذا تكون هذه اللاذبية، فأجاب إنها ليست مما يقع في حدود الخبرة الحسية، كان من حقي، بل كان من واجبي، أن أصم عنه أذني ولا أعبأ بما يقول؛ لأن قوله عندئذ لا يزيد على خليط من موجات صوتية، لا يحمل إلى السامع معنى على الإطلاق. •••
وأستاذنا الدكتور أبو العلا عفيفي يقظ متنبه فيما يجري به قلمه، فتراه يحدد لك ألفاظه ما وسعه التحديد؛ فهو في مقالتيه هاتين عن الصوفية ومعرفتهم للحقيقة، يبين في مواضع شتى ما يريده بالصوفية، وما يريده بالمعرفة، وما يريده بالحقيقة.
وللقارئ ها هنا أن يسألني: وماذا تريد منه بعد هذا التحديد لما يريد؟ وجوابي هو: أني لم أفهم اللغة التي استخدمها في تحديداته تلك، وكانت عندي بمنزلة «المرطف» و«اللاذبية»، ومن حقي إذن أن أستفسر ماذا يراد على وجه الدقة بهذه الألفاظ؛ ليتسنى لي الحكم على ما يقال بالخطأ أو بالصواب.
فالصوفية عند أستاذنا الدكتور صنف من الناس «ملهم متصل بالعالم الروحي». هذا زعم يزعمه لك زاعم. أليس من حقك، بل من واجبك أن تعلم إن كان في زعمه هذا مصيبا أو مخطئا؟ لكنك لكي تعلم ذلك؛ فلا سبيل إلا أن تكون هذه الألفاظ دالة على أشياء مما عسى أن يقع في خبرتك، وإذن فمن حقك - بل من واجبك - أن تسأل: أين أرى هذا العالم الروحي لأستيقن من صدق القول بأن الصوفي قد اتصل به، كما تسأل الذي يزعم لك أن «إفرست» وصل إلى قمة الهملايا، أو أن «أمندسن» كشف عن القطب الجنوبي. أين هذه الهملايا؟ وأين ذلك القطب الجنوبي؟ لكنك إذا سألت: أين هذا العالم الروحي؟ وما صفاته؟ ليتاح لي أن أفهم معنى قولك إن الصوفي «متصل بالعالم الروحي» أجابك الدكتور أبو العلا في أولى مقالتيه بأن «الحقيقة» ليست هي هذا الواقع المحسوس، أو العالم الخارجي الظاهر، وأنك إذا تشبثت بهذا الواقع المحسوس كنت «أقل نضجا في العقل والروح» (وهي دعوى لا أعرف كيف يستطيع الدكتور أبو العلا إثباتها؟)
الفرض في الكلام أن ينقل المتكلم خبرا إلى سامعه، ولو لم يكن في الكلام خبر ينبأ به؛ لوجب على المتكلم - منطقيا - أن يزم شفتيه صامتا. والشرط الأساسي في الخبر أن يكون مما يمكن وصفه بصدق أو كذب. فإن نطقت لي بكلمات زعمت أنها خبر، ثم استحال علي أن أصف كلامك هذا بصدق أو كذب، لا عجزا مني، بل نتيجة لازمة عن طبيعة كلامك نفسه، فليس كلامك - إذن - مما يصح أن يقال عنه إنه خبر، وليس لك الحق من الوجهة المنطقية أن تحرك لسانك قط بهذا الكلام.
والصوفي يزعم لنا هذه الدعوى: «أنا على اتصال بالعالم الروحي» وسأسأله: أين هذا العالم وما أوصافه؟ فيجيب: يستحيل عليك أن تعرف؛ لأنك لست مركبا على نحو ما ركبت أنا ... إذن فكلامه هذا ليس بالخبر، بل ليس بالكلام إطلاقا؛ لأنه شبيه بقول القائل إن بين أجرام المجموعة الشمسية «لاذبية»، فإن سألته: وما «اللاذبية»؟ أجابك بأنها يستحيل أن تقع في خبرتك.
بل كلامه هذا شبيه بالمحموم أو المخمور الذي يزعم لك أنه يرى أرانب خضراء تجري أمامه، فان أنكرتها عليه كان جوابه - بحق - إنه يستحيل عليك إدراكها إلا إذا كنت في مثل ما هو فيه من حمى أو من سكر بالخمر. ولست أنكر أبدا على المحموم أو المخمور رؤيته للأرانب الخضر، لكني أخضع زعمه هذا للتحقيق، فإن كان ما يستحيل تحقيقه، كان «حالة خاصة» لا يجوز أن تأخذ بيننا موضع الأقوال العلمية، بل لا يجوز فيها الكلام إطلاقا إلا على سبيل الترنم بأنغام الكلام، وهكذا قل في «الحالة الخاصة» التي يحسها الصوفي.
Page inconnue