والذي أريد أن أعترض به على الكندي وأمثاله هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة؛ فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة، لا فيلسوف.
كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يطلب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين. ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك؛ كان عابثا واستحق سخرية الساخرين. إنما واجب الفلسفة الصحيح هو نقد وتحليل، نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهما لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهما لما يقولون.
وسيقول لنا المستنكر: ولماذا توضح للعلماء والرياضيين ألفاظهم؟ أليس العلماء والرياضيون أقدر منك على تحديد معنى اللفظ الذي يستخدمون؟ وأجيبه أن نعم، هم أقدر في بعض الأحوال، بل هم يصنعون ذلك لأنفسهم في معظم الأحيان، لكن العالم أو الرياضي إذا ما تناول اللفظ الذي يستخدمه بالتعريف والتحديد والنقد والتحليل كان بذلك فيلسوفا إلى جانب كونه عالما أو رياضيا، وليس ما يمنع أن يكون الرجل الواحد عالما وفيلسوفا في آن معا. إن «أينشتين» حين حدد معنى كلمة «آنية» - أي وقوع حادثين في لحظة واحدة - كان في ذلك فيلسوفا إلى جانب كونه من أعلام الرياضة البارزين.
وسيقول المستهين بثقال الأحمال: أهذا كل ما تريده من الفيلسوف الذي تقوس ظهره وطالت لحيته؟! وجوابي على مثل هذا المستهين هو أن كلمة واحدة قد تتطلب لتحديد معناها فحول العقول في كل العصور، ثم هي لا تصل إلى معناها! هل تدري فيم كتب أفلاطون جمهوريته؟ كتبها ليحلل لفظة واحدة هي «العدالة»! وإذا لم يعجبك مثل هذا القول فنبئني بربك - ولك عند الله الثواب - ما معنى هذه الألفاظ الآتية: مادة، عقل، إحساس، شعور، زمان، مكان؟ ومن هذه مئات وألوف يستخدمها الرياضي أو العالم، فيأتي الفيلسوف أو الرياضي نفسه، والعالم نفسه إن أراد الواحد منهما أن يكون فيلسوفا كذلك؛ ليحلل ما وراء هذه الألفاظ، كي يسير البحث العلمي على هدى وصراط مستقيم.
ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون، إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في العدل مرة وفي الدفاع مرة! هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو بحث تحليلي له أوضاع وشروط ... ماذا أريد أن أقول للقارئ في مقال؟ إن موعدي معه في ذلك كتاب.
أكاد أوقن أن كثيرين - وكثيرين ممن يشتغلون بالفلسفة دراسة وتدريسا بنوع خاص - سينكرون علي ما ذهبت إليه، وسيقولون: وماذا أنت صانع بهذه «المشكلات» التي أخذ الفلاسفة في حلها منذ نشأت على وجه الأرض فلسفة؟ وأعود فأؤكد لهؤلاء أن الأمر لا يعدو أحد اثنين؛ فإما أن تكون تلك «المشكلات» مسائل حقيقية عما في الكون من أشياء، وعندئذ فهي من شأن العلم وحده يقول فيها قوله ويبحث فيها بطريقته، وإما أن تكون «مشكلات» زائفة بمعنى أنها أسئلة لا تحتمل الجواب ؛ لأنها كلام فارغ من المعني، وإنما خدع به الناس حين رأوه يتخذ هيئة السؤال كما يقررها علم النحو، لا كما يقررها منطق العقل. إذا سألتك مثلا: ما لون الفضيلة أهو أحمر أم أصفر؟ كم تساوى زوايا الإنسان؛ هل تساوى قائمتين أو أكثر؟ فبماذا تجيب؟ إنك لن تجيب، وستعلم أني لست جادا في السؤال؛ لأن سؤالي لا يحمل معنى يتفق مع طبيعة المنطق، على الرغم من أنه يتخذ صيغة يرضاها علم النحو، لكن النكبة الكبرى هي أن بعض الأسئلة يخدع الناس، فيكون فارغا من المعنى كهذه الأسئلة التي سقتها إليك، غير أن فراغها من المعنى لا يكون بهذا الوضوح، فترى الناس ينفقون أعمارا وأعمارا في محاولة الجواب ولا جواب! خذ هذا السؤال مثلا: ماذا وراء الطبيعة؟ ... لن أحدثك عن ضخامة الجهد الذي بذله «الفلاسفة» في سبيل الجواب. والأمر في حقيقته هو ألا سؤال، وإذن فلا ينبغي أن يكون جواب. شرط السؤال أن يكون جوابه مما يمكن عليه التحقيق، وشرط التحقيق أن تكون مادة الجواب مما يمكن أن يقع في حدود التجربة الإنسانية، وما عدا ذلك هراء في هراء.
وسيقول المستنكر مرة أخرى: ليست الميتافيزيقا إلا هذه المسألة وأضرابها، فماذا أنت قائل؟ قولي هو أن الميتافيزيقا أسطورة من أساطير الأولين - وكثير من الآخرين - وها هنا تأتي قصة القطة السوداء؛ فقد قيل عن الفيلسوف الذي يجعل همه مثل هذا البحث العقيم، إنه رجل أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود.
التصوف والمعرفة
نشر الأستاذ الفاضل الدكتور أبو العلا عفيفي مقالين في عددين متتاليين من مجلة الثقافة، ذهب فيهما إلى أن الصوفية من بين رواد الحقيقة، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فزعم «أنهم وفقوا حيث أخفق غيرهم إلى معرفة الحقيقة». ومعنى ذلك أنهم وحدهم دون سائر عباد الله قد عرفوا هذا الذي يتحرق الإنسان شوقا إلى عرفانه، مذ خلقه الله إنسانا، ورزقه فكرا ووجدانا.
قرأت المقالتين قراءة المتمهل المتأني؛ لأنه لو كان الأستاذ الفاضل يبسط فيهما رأيه ، إذن فشقة الخلاف بيني وبينه بعيدة بعد ما بين الأرض والسماء ؛ فبينا هو يرى الصوفي قادرا بصوفيته على إدراك الحقيقة كاملة شاملة، أراه أنا - بما هو صوفي - لا يعرف من تلك الحقيقة كثيرا ولا قليلا، أراه لا يعرف شيئا على الإطلاق. أقول إني قرأت المقالتين قراءة المتمهل المتأني؛ لأنني إن لم أجد فيما يكتبه الدكتور أبو العلا عن التصوف ما يردني عن وجهتي، فما أحسبني واجدا ذلك عند أي كاتب عربي آخر، لكني فرغت من قراءتي دون أن أجد ما يضطرني إلى التحول من رأي إلى رأي، والانتقال من مذهب إلى مذهب.
Page inconnue