ومع ذلك فإنا نورد هنا حادثة من الحوادث يشهد بها التاريخ ولا يستطاع إنكارها بحال من الأحوال وقعت على اليهود في يثرب، وكان يقطن بها منهم كثيرون، وكانوا والعرب هنالك لغة عربية واحدة فصحى، وكانت فيهم كما كان لغيرهم ملكة الشعر حتى النساء.
تلك الحادثة هي كما جاء في كتاب الأغاني للأصفهاني بالجزء التاسع عشر بالوجه 94 بالطبعة الأميرية سنة 1285 هجرية:
إن الأوس والخزرج كانت بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاء؛ لأن المدينة ليست بلاد نعم، وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع، وليس للرجل منهم إلا الأغداق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات ، والأموال لليهود، فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينا، ثم إن مالك بن العجلان وفد إلى أبي جبيلة الغساني، وهو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه وعن منزلتهم، فأخبره بحالهم وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدا إلا غلبوا أهله عليه، فما بالكم؟ ثم أمره بالمضي إلى قومه، وقال له: أعلمهم أني سائر إليهم. فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم بأمر أبي جبيلة، ثم قال لليهود: إن الملك يريد زيارتكم فأعدوا نزلا. فأعدوه، وأقبل أبو جبيلة سائرا من الشام في جمع كثيف حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض.
ثم أرسل إلى الأوس والخزرج، فذكر لهم الذي قدم له، وأجمع يمكر باليهود حتى يقتل رءوسهم وأشرافهم، وخشي إن لم يمكر بهم أن يتحصنوا في آطامهم
1
فيمنعوا منه حتى يطول حصاره إياهم، فأمر ببنيان حائر
2
واسع فبني، ثم أرسل إلى اليهود أن أبا جبيلة الملك قد أحب أن تأتوه، فلم يبق وجه من وجوه القوم إلا أتاه، وجعل الرجل يأتي معه بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم، فلما اجتمعوا ببابه أمر رجالا من جنده أن يدخلوا الحائر الذي بني، ثم يقتلوا كل من يدخل عليهم من اليهود، ثم أمر حجابه أن يأذنوا لهم في الحائر، ويدخلوهم رجلا رجلا، فلم يزل الحجاب يأذنوا لهم كذلك ويقتلهم الجند الذين في الحائر حتى أتوا على آخرهم، ثم إن اليهود أقاموا زمنا بعدما صنع بهم أبو جبيلة ما صنع، والبعض منهم يعترض ويناوئ، فقال مالك بن العجلان لقومه: والله ما أثخنا اليهود غلبة كما نريد، فهل لكم أن أصنع لكم طعاما، ثم أرسل في مائة من أشراف من بقي من اليهود، فإذا جاءوني فاقتلوهم جميعا؟ فقالوا: نفعل. فلما جاءهم رسول مالك قالوا: والله لا نأتيهم أبدا وقد قتل أبو جبيلة منا من قتل. فقال لهم مالك: إن ذلك كان على غير هوى منا، وإنما أردنا أن نمحوه وتعلموا حالكم عندنا. فأجابوه، فجعل كلما دخل عليه رجل منهم أمر به مالك فقتل، حتى قتل منهم بضعة وثمانين رجلا، ثم إن رجلا منهم أقبل حتى قام على باب مالك فتسمع فلم يسمع صوتا، فقال: أرى أسرع ورد وأبعد صدر. فرجع وحذر أصحابه الذين بقوا فلم يأت منهم أحد.
هذه هي الحادثة أولا وثانيا، ومنها يفهم كم قتل من اليهود خيانة وغيلة، فقد كان بالمدينة منهم بنو عكرمة، وبنو ثعلبة، وبنو محمر، وبنو زغور، وبنو قينقاع، وبنو زيد، وبنو النضير، وبنو قريظة، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو الفصيص - وفي رواية: القصيص بالقاف.
ولا بد أن كان منهم - كما قدمنا - من كان من الشعراء، والمقام مقام مثول بين يدي الملك له ما له من واجب الترحيب والإكرام والمدح والثناء بالشعر والشعراء.
Page inconnue