Poésie et pensée : études en littérature et philosophie
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
وليس هذا هو مجال الإفاضة في هذا القول ؛ لأن الذي يعنينا الآن هو أن هؤلاء المفكرين «الشاعريين» كانوا من أقوى الأسباب التي أغرته بالإقبال على شرح قصائد هلدرلين (إلى جانب أسباب أخرى قومية لا أشك فيها) وبيان قيمته الكبرى كشاعر مفكر، لا بل كشاعر الشعراء الذي عكف أكثر من أي شاعر سواه على تأمل ماهية الشعر، وبالتالي ماهية اللغة والوجود. فهو عنده شاعر الشعر الذي حقق ماهيته، وسكن حيث يتجلى نور الوجود، ويكشف الحجاب عن سره. وهو الذي أحس محنة «الليل الكوني» الذي نعيش فيه كما لم يحسه أحد قبله ولا بعده. وهو الذي شعر بأن الرب قد تخلى عن البشر وانطفأ بريقه الذي يشرق عليهم - وهو ما يسميه هيدجر نسيان الوجود - كما لم يشعر به أحد غيره، وكان هذا النسيان عنده هو محنة المحن.
فكر هلدرلين في الوجود نفسه، ولم يحبس نفسه في أسر الموجود. وعلينا أن نفك قيودنا، وننصت لندائه إن أردنا حقا أن نخرج من محنة الليل الذي يدثر الكون. فالوجود قريب منا كما يقول الشاعر في قصيدة «العودة»، ولكنه في نفس الوقت بعيد، ولذلك لا نكف عن البحث عنه.
والشاعر يتغنى بالوطن في أكثر من قصيدة. والوطن الذي يتغنى به ليس هو الوطن الجغرافي، بل هو القرب من الأصل والمنبع. وهو يتمنى أن يعود إليه؛ لأن من العسير - كما يقول في قصيدة «التجوال» - أن يهجر المكان من كان قريبا من الأصل، ولأن التغني بالوطن هو صنعته ورسالته، ولأن العودة للوطن ليست إلا القرب من أصل كل الموجودات، أي من الوجود نفسه. وهو لا يقترب منه بالشعر فحسب، بل إن الشعر نفسه هو القرب من الأصل؛ لأنه هو الذي يعبر عن فرحة القرب من سره الذي يتجلى ويحتجب، ويهب نفسه ويبخل بها في آن واحد. بهذا تمتزج الفرحة بالحزن، وتختلط السعادة بالهم.
ولكن هذا الشعر لا «يقول» شيئا عن الأصل. وكيف يتسنى له أن يسمي ما لا سبيل إلى تسميته؟ فليكن الشعر إذن غناء، لا بل عزفا على الأوتار. وليكن في نفس الوقت فكرا أو تفكرا فيما يقال عن الأصل والسر.
والشعر عند هلدرلين هو أكثر المشاغل براءة، ولكنه في نفس الوقت أشدها خطرا.
فهو شكل من أشكال اللعب، يخلق عالمه من الصور والأخيلة بحرية وبلا قيد، ولكنه يخلقها من «مادة» اللغة، واللغة هي أخطر ما أعطي للإنسان، بها يخلق ويبدع، ويقوض ويحطم، وعن طريقها يرجع من جديد إلى الأم والمعلمة الخالدة التي لقنته أسمى ما لديها من جوانب الألوهية، وهو الحب الذي يرعى ويصون، ولكن الشعر لعب خطر أيضا؛ لأنه يجمع البشر ويضمهم في «أساس» وجودهم، ويشعرهم بالراحة في ظله، ويبعدهم عن مشاغل الحياة اليومية وضجيجها ومتاعبها.
لكن الشعر يقال وينطق بالكلمات. واللغة إذن هي مجال «أكثر المشاغل براءة» وهي في نفس الوقت أخطر ما وهب الإنسان من خيرات - لا لأنها تستطيع بالكلمة أن تعبر عن أصدق الأشياء وأسماها، أو أحقرها وأدناها، بل لأنها هي الشهادة على انتمائه للموجود بكليته، أي الشهادة على إمكان التاريخ نفسه. وهي كذلك أخطر ما وهب الإنسان؛ لأنها تتحمل مسئولية الكشف عن الوجود، فتشعله حماسا إذا حضر، أو تملؤه هما وخيبة أمل إذا غاب.
واللغة ليست مجرد أداة للتفاهم، ومن يقول بهذا يبتعد عن حقيقتها وجوهرها. إنها هي التي تكفل للإنسان إمكانية أن يظل منفتحا للوجود، وبهذا تضمن له أن يصبح موجودا تاريخيا.
وحيث تكون اللغة يكون العالم، أي تكون دائرة الأعمال والقرارات والمسئوليات، وكذلك دائرة الضلال والضجيج والعسف والعطب والاضطراب.
اللغة ليست أداة، وإنما هي «الحدث» الذي يتحكم في أعلى إمكانات الإنسان. وماهية الشعر لا يمكن على هذا الأساس أن تفهم بالرجوع إلى ماهية اللغة، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ لا بد أن تفهم ماهية اللغة بالرجوع إلى ماهية الشعر نفسه؛ لأنه هو «اللغة الأم» أو اللغة الأولى التي تؤسس الوجود بالكلمة.
Page inconnue