Explication du Diwan d'Al-Mutanabbi
شرح ديوان المتنبي
Genres
بع وعند التعمق الزلل
وهاك شيئا يرجع إليه ذلك التعقيد الذي نراه في بعض شعر المتنبي. هو أن أبا الطيب له حساد كثيرون من أهل الفضل ومن فحولة الشعراء وأعيان البيان يتعثر بهم على أبواب سيف الدولة في حلب، وتقع عينه عليهم أنى ذهب - في الشام وفي مصر وفي بغداد وفي فارس - وكانوا له بالمرصاد يتلمسون له الهفوة والمأخذ. وكان كثير ممن يمدحهم كذلك شعراء أدباء - وناهيك بسيف الدولة وابن العميد - فكان لذلك كله - يحتشد لكثير من قصائده ويتعمل لها، ويتنطس في ألفاظه ومعانيه، ويحتفل، ويمعن في الاحتفال إلى ما وراء طبعه؛ فيجيء بعض نظمه كزا جافا معقدا حرم طلاوة الطبع ورونقه، وفقد نصف الجمال الشعري.
وهنا لا نرى مندوحة من أن نعرض لشيء لم يفطن إليه أحد، أو فطنوا إليه ولم يصفوه، أو وصفوه ولكن لم يصفوه الوصف الذي هو به أليق، ذلك أن المتنبي - للأسباب التي أسلفناها، ولسبب آخر سنبينه - تراه في أكثر شعره ينقصه التعبير الشعري، ويظهر لك ذلك إذا أنت وازنت بينه وبين إمامه في الصنعة والاحتفال بالمعنى - وهو أبو تمام.
وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة العرب وهي: «إنما حبيب أبو تمام كالقاضي العدل: يضع اللفظ موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر، والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه، ويتحرج خوفا على دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهرا وعنوة، كالشجاع الجريء: يهجم ما يريده، ولا يبالي ما لقي ولا حيث وقع.» ا.ه.
فأنت إذا نظرت إلى أبي تمام تجد الفحولة والجزالة والقوة، وترى المعاني الدقاق وترى الصنعة - من الجناس والمطابقة وما إليهما - وترى - مع ذلك كله - التعبير الشعري؛ أي ترى النصاعة والإشراق، ووضوح المعالم، واطراد النظام، وتساوق الأغراض، وإحكام الأداء، والروعة، والجمال، والروح القوي الذي يطالعك من بين فقره، ومن هنا يفضل أبو تمام أبا الطيب.
قال ابن الأثير: «وهؤلاء الثلاثة - أبو تمام، والبحتري، والمتنبي - هم لات الشعر، وعزاه، ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.
أما أبو تمام: فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلم، ففوق كل ذي علم عليم.
وأما أبو عبادة البحتري: فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.» ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي: فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما: وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه، ما أدى إليه عيانه، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
Page inconnue