مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
سيرة المتنبي
ترجمة المتنبي
شراح المتنبي
قافية الهمزة
قافية الباء
قافية التاء
قافية الجيم
قافية الحاء
قافية الدال
قافية الذال
قافية الراء
قافية الزاي
قافية السين
قافية الشين
قافية الضاد
قافية حرف العين
قافية الفاء
قافية القاف
قافية الكاف
قافية اللام
قافية الميم
قافية النون
قافية الهاء
قافية الياء
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
سيرة المتنبي
ترجمة المتنبي
شراح المتنبي
قافية الهمزة
قافية الباء
قافية التاء
قافية الجيم
قافية الحاء
قافية الدال
قافية الذال
قافية الراء
قافية الزاي
قافية السين
قافية الشين
قافية الضاد
قافية حرف العين
قافية الفاء
قافية القاف
قافية الكاف
قافية اللام
قافية الميم
قافية النون
قافية الهاء
قافية الياء
شرح ديوان المتنبي
شرح ديوان المتنبي
تأليف
عبد الرحمن البرقوقي
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد: فهذا شرح ديوان المتنبي
1
أخرجه بعد شرحي ديوان حسان الذي أخرجته في العام الماضي، ورآه القراء وعرفوا من مقدمته ما كابدت فيه، وفي الحق: إني لم أعان في المتنبي ما عانيت في حسان - على بعد ما بينهما - وذلك أن المتنبي رب المعاني الدقاق - كما قال - فللذهن في شعره جولان، وما دام هناك ذهن يلفف، وذوق يستدق، وملكة بيانية، وبصر بمذاهب الشعر: أمكن إدراك ما يترامى إليه مثل المتنبي، ولو بشيء من الجهد اللذ، والتعب المريح، ذلك إلى أن المتنبي مخدوم، وشروحه متوافرة، ومادته زاخرة، فكان شرحه لذلك يكاد يكون هينا لينا، لا إرهاق فيه لخاطر، ولا إعنات لروية.
وهنا قد يبدو لك أن تقول: وإذا كان المتنبي مخدوما وشروحه متوافرة - كما تزعم - فعلام هذا الشرح، وما حاجتنا إليه؟ فعلى رسلك يا هذا. فالمتنبي وإن كانت شروحه كثيرة إلا أنها كثرة قلة؛ ذلك أن المتنبي وإن كان من حسن حظه أن شرحه وعلق عليه، ونقده وتعصب له وعليه، نيف وخمسون أديبا، بيد أن المتداول من شروحه إنما هو العكبري والواحدي واليازجي حسب. أما الواحدي: فلأنه لم يطبع إلا في أوربة وفي الهند فقط، كانت لذلك نسخة قليلة التداول في أيدي الناطقين بالضاد لندرته وغلاء ثمنه، ومن ثم كان في حكم غير المتداول. ثم هو - الواحدي - ومثله العكبري كلاهما موضوع ذلك الوضع الخلق البالي العقيم - بعثرة الأبيات وإثبات البيت ثم شرحه، وهكذا دواليك - وضع لا يتفق ومزاج هذا الجيل، ولا سيما من يبتغي حفظ الديوان واستظهاره، هذا إلى التحريف الكثير الذي ألم بالواحدي والعكبري معا، وهنا لا يسع المرء إلا أن يأسف كل الأسف وتتقطع نفسه حسرات جراء ذلك الداء الخبيث العياء الذي ألم - ولا يزال يلم - بالمطبوعات العربية - داء التصحيف والتحريف - حتى لا يكاد يسلم منه كتاب عربي، فذهب بجمال التواليف وشوه خلقها، وصار بها إلى حيث تنبو عنها الأحداق، وتتجافى عن قراءتها الأذواق، ويتخاذل الذهن، ويتراجع الفكر، ولست أدري: ما مصدر هذا الداء، ولا من تقع عليه تبعة هذا الجرم: هل هو الناسخ؟ - بل الماسخ - [ولقد حاولت - أخيرا - أن أنسخ رسالة في سرقات المتنبي بدار الكتب المصرية، وكلفت أحد الناسخين في تلك الدار بنسخها، ولما أتم نقل الكراسة الأولى ذهبت إليه وأخذنا نقابل ما نسخ على الأصل، فوجدت الأصل لا يكاد يوجد فيه بيت صحيح، ووجدت ما نسخ منه ضغثا على إبالة ... فما كان إلا أن انصرفت نفسي عن المسألة برمتها] ... أم هو الطابع وجهله وتهاونه؟!
ولقد لقيت الألاقي في تصحيح «بروفات» - أو تجارب - المتنبي، ومن قبله حسان، حتى لا أكون مغاليا إذا قلت: إن الجهد الذي يبذل في سبيل التأليف أهون على المرء من الجهد الذي يقاسى في سبيل التصحيح.
وتصور مقدار ما يعرو الإنسان من المضض والامتعاض حين يرى الكتاب - بعد هذا العناء الذي يبذل في التصحيح - لم يسلم من الأغاليط، ولا تنس أن المؤلف قد لا يفطن إلى الخطإ المطبعي أثناء التصحيح ويمر به مرا، وعذره في ذلك واضح: وهو أنه إنما يقرأ ما في ذهنه، لا ما هو بين عينيه، ومن هنا كان له - للمؤلف - هو الآخر نصيب من هذا الخطأ وإن كان عذره في ذلك قائما ...
أقول: إن عيب الواحدي والعكبري هو ما ذكرت: وضع لا يتفق وروح العصر، وتحريف كثير شائع في الكتابين، ذلك إلى هفوات تلحق كلا على حدته، وقصور أو تقصير أو إقصار يلم بساحته؛ فإذا أردت أن تجتزئ بالعكبري - مثلا - وتستغني به عن غيره فإنه لا يغني كل الغناء، وكذلك الواحدي، ويزيد الواحدي على العكبري أنه لا يحفل بتفسير المفردات ولا بالإعراب، وبأنه لا يفسر كثيرا من الأبيات، فكأنه موضوع للمنتهين، ولذلك لا يؤاتي الشادين. أما اليازجي أو اليازجيان - الشيخ ناصيف وابنه الشيخ إبراهيم - فهما - على فضلهما الذي لا ينكر، وعلى ما طنطن به الثاني في ذيل الشرح، مما قد يخرج منه القارئ وهو مفعم يقينا بأن هذا الشرح هو سيد الشروح، وهو وحده الشرح الذي طبق المفصل وأصاب مقطع الحق وأوفى على الغاية، أقول: إنهما - على الرغم من ذلك - يصدق عليهما قول الواحدي في ابن جني: وأما ابن جني فإنه من الكبار في صنعة الإعراب والتصريف، والمحسنين في كل واحد منهما بالتصنيف، غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلد حماره، ولج به عثاره ... نعم، وحسبك أن ترجع إلى ما قالاه - أي اليازجيان - في شرح هذا البيت على انسجامه ووضوحه وروعته:
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب
قالا: يذم الدنيا. يعني أنها دار شقاء حتى إن من لا هم له لا يخلو فيها من العذاب، فما الظن بصاحب الهموم؟! ولست أدري: كيف لم يفطنا إلى معنى هذا البيت وهو من الوضوح والجلاء، كما ترى؟ ... على أنهما - في شرحهما عامة، لا في شرح هذا البيت - لم يحيدا عن الواحدي والعكبري قيد أنملة؛ فهما عمدتاهما، وعليهما معولهما، فإذا هما حاولا أن يتفصيا منهما، ويستقلا بالشرح دونهما، ويأتيا بشيء من عندهما: زلت قدماهما، وكبا جواداهما، أو تبلد حماراهما، ووقعا في مثل ما وقعا في هذا البيت ...
ذلك: إلى أن القسم الذي تولى شرحه الشيخ ناصيف قصر فيه ومرض ولم يتعرض لشرح المعاني، وإنما اقتصر على شرح المفردات، وإلى أنهما - اليازجيين - تركا كثيرا من شعر المتنبي الذي يريان فيه خمشا لوجه الأدب، وإلى أنهما لم يتعرضا لسرقات المتنبي وذكر الأشباه والنظائر أصلا، وهذه مزية من المزايا قد وفيناها حقها في هذا الشرح ...
على أنا لا نبخس الناس أشياءهم، ولا ننكر خصائص الطبائع البشرية وما قد يعروها الخطرة بعد الخطرة: من الفتور والانتكاس، وانغلاق الذهن، وتبلد الحس، وإظلام البصيرة، وغئور الروح، وخمود الذكاء، حتى لقد يخفى أحيانا على العليم الألمعي وجه الصواب وهو منه على حبل الذراع وطرف الثمام - كما يقولون - فيعتسف الطريق، ويتخبط تخبط العشواء ...
وهذا ابن جني - الإمام العالم المجتهد الثبت الثقة، بل فيلسوف اللغة العربية، العليم بخصائصها، الطب البصير بدقائقها - تراه في شرحه على المتنبي على الرغم من ذلك، ومن أنه كان معاصرا للمتنبي - متعصبا له محاميا عنه، وكان إذا سأل المتنبي سائل عن معنى بيت من أبياته يقول: اسألوا الشارح - يعني ابن جني - وكان ابن جني يراجع المتنبي في كثير من شعره ويستوضحه المعنى الذي يغزوه، وبرغم ذلك تراه في كثير من المواضع - كما قال الواحدي - وقد تبلد حماره، ولج به عثاره.
وهكذا تتبعت جميع من تعرض للمتنبي بالشرح أو النقد - كابن فورجه، والعروضي، والتبريزي، وابن وكيع، وابن القطاع، وابن الأفليلى - فوجدت لهم جميعا بجانب حسناتهم سيئات، وإلى سدادهم زلات وهفوات.
وهذا حقا من غريب طبائع البشر؛ فسبحان من تفرد بالكمال!
ولقد وجدت ذلك من نفسي؛ مع أن الطريق معبد، والمادة متوافرة؛ فقد أكون - في بعض الأوقات - مستجما، نشيطا، مهزوزا، مرهف الطبع، مصقول الذهن، صافي الحس، منبسط النفس؛ فأشرح ما أشرح - من قوافي المتنبي - فآتي بما أرضى به عن نفسي، ويعروني له من الطرب ما يستخفني، وأكون في أوقات أخرى منقبض النفس، مظلم الحس، مغلق الذهن، فدما، بليدا، لا أكاد أذهن شيئا، وأكون مضطرا إلى العمل؛ فأشرح - وأنا على هذه الحال - بعض الأبيات، ثم أعود في وقت أكون فيه على جمام من نفسي إلى ما شرحت، وأنظر ماذا قلت، فأدهش: كيف يصدر هذا من رجل له بقية من فهم؟ وأتهم نفسي، حتى لا أكاد أصدق أن شيئا من هذا ند به القلم ...
ثم لا تنس اختلاف القرائح والأفهام والنزعات، وأن هذا ينزع في تفكيره نزعة لغوية، وذاك نزعة نحوية، وذلك نزعة فلسفية منطقية، وآخر قد تأثر بالأدب والفن وحسن التخيل، وأن هذا أصح تمييزا من ذاك، وأنفذ بصيرة، وأبعد مدارك، وأصفى نفسا، وألطف حسا، وأكثر ألمعية، إذا أذنت أذناه شيئا شاءهما ذهنه. فإذا هم أراغوا تأويل بيت من أبيات المعاني الدقاق: تشعبت آراؤهم، وذهب كل في تأويله مذهبا قد يباين مذهب الآخر، تبعا لتباين قرائحهم ومحصولاتهم، كما قال المتنبي:
ولكن تأخذ الآذان منه
على قدر القرائح والعلوم
وإليك شيئا يحور إليه سر هذا التباين الذي نرى بين الشراح في تأويلاتهم لمثل شعر أبي الطيب. ذلك أن المتنبي كان رجلا ماكرا باقعة داهية، فكان من دهائه يعمد إلى بعض المعاني التي سبق إليها، فيحاول أن يبعد بها عن أصلها ويعميها على الناظر فيها ويريغها ويديرها عن ذلك حتى لا يفطن إلى أن غيره أبو عذر هذا المعنى، فيلجأ إلى التعمية والجمجمة والتعقيد والإبهام؛ لأن تلك طريقته - كما سنبينه - فيجيء البيت متنافر اللحمة متناثر التعبير، لا يشف ظاهره عن باطنه، ولا يتجاوب أوله وآخره، حتى لكأنه ضرب من الرقى، فيظن بعض الشراح أن هناك معنى دقيقا عميقا فيكد ذهنه، ويجهد فكره، ويسافر في طلب المعنى أميالا، وهو لا يفوت أطراف بنانه، وينضي إليه رواحل ذهنه وهو على حبل ذراعه، فيعتسف ويشتط وينحرف عن جادة الصواب، كما قال المتنبي:
أبلغ ما يطلب النجاح به الط
بع وعند التعمق الزلل
وهاك شيئا يرجع إليه ذلك التعقيد الذي نراه في بعض شعر المتنبي. هو أن أبا الطيب له حساد كثيرون من أهل الفضل ومن فحولة الشعراء وأعيان البيان يتعثر بهم على أبواب سيف الدولة في حلب، وتقع عينه عليهم أنى ذهب - في الشام وفي مصر وفي بغداد وفي فارس - وكانوا له بالمرصاد يتلمسون له الهفوة والمأخذ. وكان كثير ممن يمدحهم كذلك شعراء أدباء - وناهيك بسيف الدولة وابن العميد - فكان لذلك كله - يحتشد لكثير من قصائده ويتعمل لها، ويتنطس في ألفاظه ومعانيه، ويحتفل، ويمعن في الاحتفال إلى ما وراء طبعه؛ فيجيء بعض نظمه كزا جافا معقدا حرم طلاوة الطبع ورونقه، وفقد نصف الجمال الشعري.
وهنا لا نرى مندوحة من أن نعرض لشيء لم يفطن إليه أحد، أو فطنوا إليه ولم يصفوه، أو وصفوه ولكن لم يصفوه الوصف الذي هو به أليق، ذلك أن المتنبي - للأسباب التي أسلفناها، ولسبب آخر سنبينه - تراه في أكثر شعره ينقصه التعبير الشعري، ويظهر لك ذلك إذا أنت وازنت بينه وبين إمامه في الصنعة والاحتفال بالمعنى - وهو أبو تمام.
وإني لأذكر كلمة لأحد نقدة العرب وهي: «إنما حبيب أبو تمام كالقاضي العدل: يضع اللفظ موضعها، ويعطي المعنى حقه، بعد طول النظر، والبحث عن البينة، أو كالفقيه الورع: يتحرى في كلامه، ويتحرج خوفا على دينه، وأبو الطيب كالملك الجبار: يأخذ ما حوله قهرا وعنوة، كالشجاع الجريء: يهجم ما يريده، ولا يبالي ما لقي ولا حيث وقع.» ا.ه.
فأنت إذا نظرت إلى أبي تمام تجد الفحولة والجزالة والقوة، وترى المعاني الدقاق وترى الصنعة - من الجناس والمطابقة وما إليهما - وترى - مع ذلك كله - التعبير الشعري؛ أي ترى النصاعة والإشراق، ووضوح المعالم، واطراد النظام، وتساوق الأغراض، وإحكام الأداء، والروعة، والجمال، والروح القوي الذي يطالعك من بين فقره، ومن هنا يفضل أبو تمام أبا الطيب.
قال ابن الأثير: «وهؤلاء الثلاثة - أبو تمام، والبحتري، والمتنبي - هم لات الشعر، وعزاه، ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء.
أما أبو تمام: فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب، ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام، فخذ مني في ذلك قول حكيم، وتعلم، ففوق كل ذي علم عليم.
وأما أبو عبادة البحتري: فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق، وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري.» ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأعرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية، ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
وأما أبو الطيب المتنبي: فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولا لست فيه متأثما، ولا منه متلثما: وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة فيصف لسانه، ما أدى إليه عيانه، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقساما خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها؛ فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلت عرضه غرضا لسهام الأقوام.» ا.ه. كلام ابن الأثير.
وقد آن لنا أن نقول: إن هذا الذي يعاب على أبي الطيب ويظن أنه يتخونه ويشينه: هو على الحقيقة سر من أسرار شاعريته؛ لأن مرجعه التوليد الذي لا يؤتاه إلا الشاعر المطلق، فالكلام إنما هو من الكلام وإنما يستحق الشاعر هذا اللقب بالتوليد، وبطريقته في التوليد تقوم طريقته في الشعر؛ فمن ثم يختلف الشعراء، ويمتاز واحد من واحد، وتبين طريقة من طريقة وإن تواردوا جميعا على معنى واحد يأخذه الآخر منهم عن الأول.
ولقد يأتي مائة شاعر بالمعنى الذي لا يختلف في الطبيعة ولا في السياق ولا في الفهم، فيديرونه في مائة بيت تكون في مائة ديوان، ومع ذلك ترى أحوالهم فيه متباينة، وصناعتهم في أخذه مختلفة، وتراهم قد تناولوه بوجوه كثيرة تحقق فيه عمل أمزجتهم، وتلقي عليه اختلاف أزمانهم، وتجري به في طرق حوادثهم، كأنه مع كل منهم قد ولد ونشأ
2
فهو مع هذا قوي، ومع الآخر جبار، ومع الثالث ضعيف، ومع رابع متهالك، وتارة بدين، وأخرى هزيل، وثالثة بينهما، وهكذا، ولولا ذلك لم يكن الكلام إلا تكرارا، وبطل فيه عمل العقل، وأصبح رثا باليا، وذهب مع الذاهبين الأولين، ولم يبق فيه لشاعر إلا إقامة الوزن، ولو كان هذا لنسخ لقب الشاعر من الأرض، ولم تعد للبيان صناعة، ولا بقيت في القرائح مادة إلهية من الإلهام.
وشأن المتنبي كالشأن في نوابغ الدنيا: فالشاعر النابغة لا يمهر بإرادته، ولا ينبغ بأن يخلق في نفسه مادة ليست فيها، وإنما هو يولد مهيئا بقوى لا تكون إلا فيه وفي أمثاله، وهو زائد بها على غيره ممن لم يرزق النبوغ - كما يزيد الجوهر على الحجر أو الفولاذ على الحديد، أو الذهب على النحاس - ثم تتفاوت هذه القوى في النوابغ ؛ فتتنوع وتتباين، وتعمل فيها أحوالهم وأزمانهم وحوادثهم، ومن ثم يجتمع لكل منهم شخصية، ويستقل منها بطريقة ومذهب؛ فإذا تناول معنى من المعاني تناوله على طريقته: فإما حذف منه، وإما زاد فيه، وإما غيره وقلبه، وإما صب على حذوه معنى جديدا يلم به أو يشبهه، أو لا يكون فيه إلا أنه جاء على طريقه حسب. فكثيرا ما يقرأ النابغة كلاما لغيره، أو يتأمل خاطرا، أو يشهد أمرا؛ فإذا كل ذلك قد أوحي إليه وانعكس على مرآة ذهنه بمعان مبتكرة طريفة لا تشبه ما كان بسبيله وجها من الشبه - لا قريبا ولا بعيدا - وليس فيها إلا أنها جاءت من ذلك الطريق، وهو بعد لم يتعمل لها ولم يتكلف ولم يصنع شيئا، وإنما هو تلقى من ذهنه وتلقى ذهنه من قوة لا يدري ما هي ولا أين هي؟
وكما يختار النبي يختار النابغة - وليس كل الناس أنبياء، ولا كلهم نوابغ - ولا يصنع النبي أكثر من أن يتلقى عن الوحي، وكذلك يتلقى النابغة عن البصيرة، وهي تكون فيه هو وحده بمقام الملك من الملائكة أو الشيطان من الشياطين، على حين تكون في سواه بمقام الإنسان من الناس، فالرجل الذكي أشبه بإنسانين: أحدهما هو، والآخر بصيرته، وهو بذلك أقوى من غيره، ولكن النابغة - وبصيرته أشبه بإنسان وملك، أو إنسان وشيطان - فهو دائما أقوى من القوة، وهو دائما متصل بشيء فوق الإنسانية.
وإذا تقرر هذا: فليس للنابغة اختيار فيما يأتي به، وليس عليه إلا أن يأخذ ما يؤتاه كما يتهيأ له على طريقته، ومن هنا ترى المتنبي يأتي أحيانا بالتعقيد المستكره واللفظ المتكلف، وتراه يتعسف ويتخبط ويسف، ومع ذلك لا ينفي مثل هذا من شعره ولا يحذفه، وهو قادر على أن يغنى عنه وليس في حاجة إليه، ولكنه بعض طريقته التي انطبع عليها، فلا يستطيع حين يجيئه الرديء أن يجعله جيدا، وليس إلا أن يأخذه كما هو؛ لأنه هو الذي انبثق له عن الجيد، كما تضرم النار من مادة، فإذا هي شعل ودخان، ثم تضرمها من مادة أخرى فإذا هي لهب صاف يتألق؛ ولو أنك أردتها من المادة الأولى كما تجيء من الثانية لأطفأتها وذهب دخانها ونارها معا.
وهذا سر لم يتنبه إليه أحد ممن كتبوا عن المتنبي، فاشدد يدك عليه، وادرس المتنبي على هذه الطريقة، فستجده نابغة في جيده ورديئه، وستجده لا يستطيع غير المستطاع، وستجد طريقته كأنما فرضت عليه فرضا؛ لأنه كذلك ألهم، وعلى ذلك ركب طبعه، وكان ظلامه ظلاما؛ لتسطع فيه النجوم. •••
أما الإفاضة في ترجمة المتنبي ونشأته وأخلاقه وما إلى ذلك، فلا يأتي أحد بجديد ... وقد أصبح المتنبي - دون غيره من شعراء العربية - كأنه في غير حاجة إلى الترجمة؛ إذ هو كالقطعة من تاريخ الأدب، فالكلام عنه متداول مشهور، وهذا بعض ما اختص به؛ فقد تحتاج مع شعر كل شاعر إلى ترجمته، ولكنك لا تحتاج من أبي الطيب إلا إلى شعره، وترى شعره ترجمة روحه، ولذلك اجتزأنا في هذه الكلمة بيان سره الشعري، ثم أنت - بعد ذلك - في حقيقة الرجل؛ أي شعره وشرح شعره الذي نقدمه إليك ... •••
وبعد؛ فأما هذا الشرح فلا يلقين في روعك أنه بدع في الشروح، وأنه شيء مبتكر جديد، وهل غادر الشراح من متردم؟ وإنما كل مزية هذا الشرح أنه تلاقت فيه كل الشروح بعد شيء من التهذيب والتنقيح والتحوير، أو بعد أن خلصت من عكرها خلاص الخمر من نسج الفدام - كما يقول أبو الطيب - وبذلك توافر فيه ما لم يتوافر لأي شرح من شروح المتنبي على حدته، فليس يغني عنه شرح، ولكنه هو - بحمد الله - يغني عن سائر الشروح؛ فهو كما يقول أبو الطيب:
يدل بمعنى واحد كل فاخر
وقد جمع الرحمن فيه المعانيا
عبد الرحمن البرقوقي
12 جمادى الأولى 1349ه
5 أكتوبر سنة 1930م
هوامش
مقدمة الطبعة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله «أما بعد» فلما أمضيت النية - سنة 1349ه/سنة 1930م - على أن أضع شرحا على ديوان أبي الطيب المتنبي، وأخذت في معالجة هذا العمل، وكان الناشر إذ ذاك يحفزني حفزا، ولا يكاد يبلعني ريقي، وكان يتناول مني «أصول» هذا الشرح دراكا «أولا بأول» ويقدمه إلى المطبعة نيئا لم تنضجه نار التثبت والروية، وأخيرا تمثل بالطبع ولم يمض على وضعه وطبعه أكثر من عشرة أشهر، لما حدث هذا طفقت أقلب النظر في هذا الكتاب وأعيد الكرة، الخطرة بعد الخطرة، وكلما أنعمت النظر في الشرح بدا لي ما يسوء ويكمد، ويحز في الكبد، من أخطاء مطبعية، وتقصير في شرح بعض الأبيات، وهنيات من هذا القبيل، شأن كل عمل لم يتريث فيه، ولم يوف حقه من الأناة والتحقيق ... فلم يك مني إلا أن صححت النسخة التي بين يدي، وتناولتها بالتنقيح والتهذيب، والحذف والزيادة، وتداركت جميع المآخذ، حتى إذا قدر لهذا الشرح أن يعاد طبعه، طبع على هذه النسخة.
وما زلت على هذه الحال مستعصما بالصبر حتى نفدت نسخ هذه «الطبعة»، ولم يك بد من إعادة طبع هذا الديوان، فكانت فرصة جميلة مؤاتية أحيت ميت الأمل، وحفزتني إلى استئناف العمل، فكان أن وجهت عزيمتي إلى التوسع في هذا الشرح وجعله شرحا وافيا من كل نواحيه، شرحا أورد فيه جميع تفاسير الشراح، وأقوال النقاد، وأستوعب مزايا كل الشروح، وليس ذلك أثرة مني واستبدادا بالمتنبي، ولكنه حب الكمال، وما يسمونه المثل الأعلى ... فلقد رأيت بعض الشراح قد اختصر الطريق، واكتفى بتفسير الكلمات اللغوية، وبعضهم قد جعل وكده الإعراب وما يتعلق بالأبيات من جهة النحو والتصريف، وآخرين قصروا عنايتهم على إيراد السرقات والأشباه والنظائر. بيد أن هذه الأشباه - ومثلها الشواهد النحوية التي أوردها العكبري، ومن قبله الإمامان: أبو الفتح بن جني، والواحدي - تحتاج هي الأخرى إلى الشرح والتفسير ... ورأيت في بعض عبارات القدامى من الشراح غموضا يجمل أن يوضح أو يستبدل به غيره، مما يوائم أذهان هذا الجيل ... فكان كل أولئك مما حفزني إلى الاحتفال والاحتشاد لهذا الشرح ... فكان أن أوردت فيه جميع تفاسير الشراح - من متقدمين ومتأخرين - وأقوال نقدة المتنبي - من متعصبين له ومتعصبين عليه - وأكثرت من إيراد الشواهد، والأشباه والنظائر، وشرحت ما غمض من هذه الشواهد والأشباه ، ومن عبارات الشراح، فضلا عن تصحيح الأخطاء التي ألمت بالشرح الأول، حتى أربى هذا الشرح على الشروح كلها مجتمعة، وحتى صار هذا الشرح شرحا للمتنبي، وشرحا لشروح المتنبي ...
على أنني لا أدعي أن الكمال الذي نشدت قد تحقق، وحسبي أني لم آل جهدا، ولم أدخر وسعا، وإن كان جهد المقل، وغاية المستطيع، ورحم الله العماد الأصفهاني حين يقول: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل ... وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر. «وأما بعد» فلمناسبة هذا الشرح الجديد، والاحتشاد فيه، والعمل على جعله مغنيا عما عداه: رأيت أن أتبسط شيئا في سيرة المتنبي - ولا سيما ما كان منها عونا على معرفة المناسبات والظروف التي قيلت فيها قوافيه - وكذلك رأيت أن أترجم شراح المتنبي ممن ورد ذكرهم في هذا الشرح، وإتماما للفائدة جمعت أمثال المتنبي وحكمه وألحقتها بهذه الكلمة.
وإنما نترامى بهذا كله إلى أن يكون هذا الكتاب - ديوان المتنبي وشرحه ومقدماته - كفيلا بتحقيق كل ما يصبو إليه دارس شعر المتنبي.
وإني أسأله - سبحانه - أن يهبه من السلامة ما يحقق له رضا المنصفين، ويضفي عليه من القبول ما يعم به انتفاع المتأدبين، إنه سبحانه بذلك كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الرحمن البرقوقي
1357ه/سنة 1938م
سيرة المتنبي
نسبه
هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار الجعفي الكندي الكوفي، أو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي ... إلخ، كما روى الخطيب وابن خلكان، وروى بعض المؤرخين: أحمد بن محمد ... إلخ.
وجعفي جد المتنبي:
1
هو جعفي بن سعد العشيرة من مذحج من كهلان من قحطان، وكندة التي ينسب إليها، محلة بالكوفة، وليست كندة القبيلة كما ظن بعضهم خطأ.
وكان والد المتنبي يعرف بعبدان السقاء، يسقي الماء لأهل المحلة، أما جدته لأمه فهي همدانية صحيحة النسب، وكانت من صلحاء النساء الكوفيات، وكان جيرانهم بالكوفة من أشراف العلويين، وكان لأبي الطيب منهم خلصاء وأصدقاء.
ولم يذكر المتنبي في شعره نسبه أو قبيلته، ولا أشار إلى والده أو جده، وإنما ذكر جدته لأمه، وكان يدعوها والدته، في أشعار منها:
أمنسي الكون وحضرموتا
ووالدتي وكندة والسبيعا
وقد روى الخطيب عن علي بن المحسن عن أبيه قال: «وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به، وقال: أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني.»
على أن المتنبي قد دافع عن نسبه هذا، في القصيدة التي مطلعها:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله
أول حي فراقكم قتله
وإن يكن لم يذكره، وإنما أشاد بآباء له عظام، في قصيدته هذه، وفي مواضع أخرى من شعره، دون أن يذكر رحله أو عشيرته أو قبيلته.
ولم يكن المتنبي يعنى بأن يعرف عنه إلا أنه المتنبي، لا يفخر بقبيلة، إنما تفخر به القبيلة التي هو منها، قال في إحدى قصائد الصبا:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وقال في رثاء جدته لأمه:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
ويقول بعض مؤرخي الأدب العربي: إن بعض شعر المتنبي قد يدل على عصبية يمانية، فأكثر ممدوحيه في أيامه الأولى من قبائل يمانية، مدح شجاع بن محمد الأزدي، وعلى بن أحمد الطائي، وغيرهم، ومدح التنوخيين في اللاذقية، وقال للحسين بن إسحاق التنوخي يمدحه - بعد أن هجاه بعض الناس ونسب الهجاء إلى المتنبي:
أبت لك ذمي نخوة يمنية
ونفس بها في مأزق أبدا ترمي
على أن ذلك الذي يكتم نسبه عن الناس فينسى الناس ذلك النسب، والذي يختلف المؤرخون في تسمية آبائه، ليس ذا نسب نابه على كل حال، ثم إن خلط كندة التي ولد بها المتنبي، بكندة القبيلة، شيء يحقق خمول نسب شاعرنا الكبير وتفاهته، وهو - على الرغم من كل أولئك - عربي قح، عريق في عروبته، فلا يعيبه أن كان من بيت فقير.
أسرته
ولقد اتفقت روايات المؤرخين على أن أبا المتنبي كان سقاء، وقد هجاه ابن لنكك البصري لما سمع بقدومه بغداد راجعا من مصر فقال:
لكن بغداد جاء الغيث ساكنها
نعالهم في قفا السقاء تزدحم
وقال شاعر آخر:
أي فضل لشاعر يطلب الفض
ل من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الما
ء وحينا يبيع ماء المحيا
وروي أن والد المتنبي سافر به إلى الشام، وتنقل به بين حضرها وباديتها ومدرها ووبرها، وردده في القبائل.
على أن الثابت الذي ينطق بأن والد المتنبي لم يكن رجلا نابه الشأن - كما يرجح الرواة - أنه مات فما رثاه ولده بكلمة واحدة.
أما والدة المتنبي، فلم يذكر الرواة عنها شيئا، ويرجح أنها ماتت في حداثته قبل سفره إلى الشام، وأما جدته لأمه فقد تقدم ذكرها، وهي التي تفردت من بين أسرته جميعا برثائه لها واحترامه الفخم. قال إبان اعتقاله:
بيدي أيها الأمير الأريب
لا لشيء إلا لأني غريب
ولأم لها إذا ذكرتني
دم قلب في دمع عين يذوب
وتلك هي جدته التي أخبرنا في شعره - كما أخبرنا الرواة - أنها ماتت فرحا بكتاب جاءها منه بعد غيبة طويلة مؤيسة، وإنك لواجد أثرها البليغ في حياته وسيرته، ولامس ثورة نفسه وحزنه عليها في قصيدته التي مطلعها:
ألا لا أري الأحداث مدحا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
وأجمع رواة أخبار المتنبي على أن مولده كان في محلة كندة، إحدى محلات الكوفة، سنة ثلاث وثلاثمائة من الهجرة، وهذا هو كل ما نعرفه من أخبار نشأته الأولى اللهم إلا النزر الذي لا ينقع غلة، جاء في الإيضاح أنه «اختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف العلويين، فكان يتعلم دروس العربية شعرا ولغة وإعرابا» وكان - إلى جانب ذلك - يختلف إلى الوراقين ليفيد من كتبهم، وقد تميز منذ الطفولة بالذكاء وقوة الحفظ، واشتهر بحبه للعلم والأدب، وقد لزم الأدباء والعلماء، وأكثر ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم.
ومما يستطرف هنا ما ذكره بعض الرواة عن قوة الحفظ في المتنبي، وهي أن أحد الوراقين أخبره أن أبا الطيب كان عنده يوما، فجاءه رجل بكتاب نحو من ثلاثين ورقة لييعه، فأخذ أبو الطيب الكتاب وأقبل يراجع صفحاته، فلما مل صاحب الكتاب ذلك استعجله قائلا: يا هذا لقد عطلتني عن بيعه، فإن كنت تبغي حفظه في هذه الفترة القصيرة، فذلك بعيد عليك. قال المتنبي: فإن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال الرجل: أعطيكه. قال الوراق: فأمسكت الكتاب أراجع صفحاته والغلام يتلو ما به حتى انتهى إلى آخره، ثم استلبه فجعله في كمه ومضى لشأنه.
وروي أن المتنبي صحب الأعراب في البادية فعاد إلى الكوفة عربيا صرفا، أما مدة إقامته فيها فهي أكثر من سنتين، قال العلوي: إنه أقام في البادية سنين، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أنه أقام فيها سنتين، ويرجح أن مغادرة المتنبي إلى البادية كانت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، حينما أغار القرامطة على الكوفة، ويرجح كذلك أنه غادر الكوفة مرة أخرى سنة خمس عشرة وثلاثمائة عندما عاود القرامطة الغارة وهزموا جيش الخلافة، وقد كان لذلك أثر بين في نفس المتنبي فاض في بعض أحاديثه وأشعاره.
وقد رحل المتنبي بعد ذلك إلى بغداد. جاء في «الصبح المنبي»: أن أبا الطيب قال: «وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد.» وإنه وإن لم يذكر المؤرخون موعد ذهابه إلى بغداد، فمن الراجح أنه ذهب إليها سنة تسع عشرة وثلاثمائة فقد جاء في النجوم الزاهرة في حوادث تلك السنة: أن القرامطة أغاروا على الكوفة فرحل أهلها إلى بغداد. فليس بعيدا أن تكون هجرة المتنبي إلى بغداد مع الراحلين إليها من أهل الكوفة، ومن المحتمل أيضا أن يكون المتنبي قد ذهب إلى بغداد قبل ذلك مرة أو مرات.
ويبين - بعد ذلك - من سيرة المتنبي، ومن روايات المؤرخين، أن ثقافة الشاعر العربي لم تكن جماع ما تلقاه في كتاب الكوفة، وما أفاده من مصاحبة الأعراب في البادية، وما تعلمه في بغداد فحسب؛ بل لقد زاد على ذلك أنه هاجر إلى العلماء وصاحبهم، فدرس على السكري ونفطويه وابن دستويه، ولقي كذلك أبا بكر محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه، ولقي بعده من أصحابه أبا القاسم عمر بن سيف البغدادي، وأبا عمران موسى، وأنه «طلب الأدب وعلم العربية، ونظر في أيام الناس، وتعاطى قول الشعر من حداثته حتى بلغ الغاية التي فاق فيها أهل عصره، وطاول شعراء وقته.»
رحلته إلى الشام
وكانت رحلة أبي الطيب إلى الشام سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كما يقول المعري في رسالة الغفران، وفي دائرة المعارف الإسلامية: أنه رحل إلى بغداد سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم رحل بعد ذلك إلى الشام، ويقول بعض شراح الديوان: إن القصيدة التي مطلعها:
ذكر الصبا ومراتع الآرام
جلبت حمامي قبل يوم حمامي
نظمها الشاعر في رأس عين، وأرجأ قولها إلى أن لقي سيف الدولة بإنطاكية، ولا ريب أن مرور الشاعر برأس عين كان في إبان ذهابه إلى الشام، وقد كان ذلك سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة؛ فإن صح هذا، يكون المتنبي قد رحل إلى الشام وسنه ثماني عشرة سنة.
وقد وضع الواحدي في شرحه القصيدة التي أولها:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا
في القصائد الشامية؛ أي إنها وما بعدها إلى الكافوريات، قيلت في الشام، أما ما قبلها، فقيل في العراق، وليس ما قبلها بكثير.
ولم يبد شاعرنا الكبير حنانا إلى وطنه العراق، الذي سلخ فيه ثماني عشرة سنة من عمره، وإنما ذكره في بعض قصائده، وذكر أن وطن الإنسان هو الأرض التي حل فيها فلقي خيرا وصحابا، ويبدو أن وطنه ذلك قد نبا به، وضاق بآماله وأحلامه وطموحه.
ولم تكن رحلة المتنبي إلى الشام ومكثه به وقوله الشعر، إلا في طلب المجد والسؤدد ورفعة الشأن، ولا ندري أسافر إليها وحده، أم سافر في صحبة والده؟
وجدير بنا، قبل أن نمضي في ترجمة شاعرنا إبان إقامته في الشام، أن نلمع إلى الحالة السياسية بها في هذه الفترة؛ لما لها من أثر كبير في حياة الشاعر وسيرته.
فلقد كانت الشام - على عهد المتنبي - مقسمة بين الأخشيد وابن رائق، ثم بين الأخشيد وسيف الدولة، وقد استمرت المنازعات عليها منذ سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر بالله العباسي، وقد ولى محمد بن طغج على الرملة، ثم أضاف إليه دمشق سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، وكانت حلب في أيدي ولاة يرسلون من بغداد، ثم ولي محمد بن طغج مصر أيضا ثم عزل عنها، وفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في عهد الراضي بالله العباسي عظم أمر ابن طغج، فأعيدت ولايته على مصر، وامتد سلطانه على الشام كلها، وخلع طاعة الخليفة؛ فأرسل إليه ابن رائق، فاستولى على الشام وولى ابن يزداد حلب، ثم دمشق، وكان الأخشيد قد استقر على الرملة، فسير جيشا يقوده كافور إلى الشام، فهزم ابن يزداد واستولى على حلب، ثم استقر سلطان الأخشيد على الشام كلها، وفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة استولى سيف الدولة على حلب، وبقي الأخشيديون في دمشق.
وقد مدح أبو الطيب من رجال هذه الوقائع مساور بن محمد الرومي، والحسين بن عبد الله بن طغج، وهو ابن أخي الأخشيد، وطاهر العلوي، قال في مساور القصيدتين اللتين مطلعاهما:
جللا كما بي فليك التبريح
أغذاء ذا الرشإ الأغن الشيح (و)
أمساور أم قرن شمس هذا
أم ليث غاب يقدم الأستاذا
ويعني الشاعر بلفظة «الأستاذ»: كافورا.
وكانت طريق أبي الطيب إلى الشام هي طريق الجزيرة، فمر برأس عين وانتهى إلى منبج، حيث أقام يمدح جماعة من رؤساء العرب، وأول قصائده الشامية في الديوان يمدح بها سعيد بن عبد الله الكلابي المنبجي - وهي القصيدة التي أشرنا إليها من قبل - ثم مدح الشاعر جماعة أخرى في منبج وطرابلس وغيرهما من بلاد الشام الشمالية.
ولا نحب أن نمضي قدما في سيرة الشاعر، دون أن نقف بحادثة ادعائه النبوة، وهي الحادثة التي أثرت أكبر التأثير في صوغ سيرته في كتب الأدب؛ لنعلم أحقا كان ذلك أم كذبا ؟ فإن كان كذبا فلماذا لقب بالمتنبي ؟ •••
لا جدال في أن أبا الطيب سجن بالشام في أيام شبابه، فقد أجمع على ذلك رواة سيرته جميعهم - كما أنبأ به في شعره - أما سبب سجنه فذلك ما اختلف فيه الرواة بعضهم مع بعض، وما اختلف فيه أبو الطيب، مع رواة سيرته، ويقول الخطيب البغدادي: إن أبا الطيب «لما خرج إلى كلب وأقام فيهم ادعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي، إلى أن أشهد عليه بالشام بالكذب في الدعويين، وحبس دهرا طويلا، وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق.» ويقول أيضا رواية عن خلق يتحدثون: «إنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الأخشيدية، فقاتله وأسره، وشرد من اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب، وحبسه في السجن حبسا طويلا فاعتل وكاد أن يتلف، حتى سئل في أمره؛ فاستتابه وكتب عليه وثيقة أشهد عليها فيها ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام.»
ويروي المعري في رسالة الغفران: أنه لما حصل في بني عدي، وحاول أن يخرج فيهم، قالوا له - وقد تبينوا دعواه: ها هنا ناقة صعبة، فإن قدرت على ركوبها أقررنا أنك مرسل، وأنه مضى إلى تلك الناقة وهي رائحة في الإبل فتحيل، حتى وثب على ظهرها فنفرت ساعة، وتنكرت برهة، ثم سكن نفارها، ومشت مشى الممسحة، وأنه ورد الحلة وهو راكب عليها، فعجبوا له كل العجب، وصار ذلك من دلائله عندهم.
وروى كذلك: أنه كان في ديوان اللاذقية، وأن بعض الكتاب انقلبت على يده سكين الأقلام، فجرحته جرحا مفرطا، فتفل عليها أبو الطيب من ريقه وشد عليها، وقال للمجروح: لا تحلها في يومك، وعد له أياما وليالي، فقبل الكاتب ذلك وبرئ الجرح، فصاروا يعتقدون فيه النبوة، ويقولون: إنه كمحيي الأموات.
وفي الصبح المنبي: أن أبا الطيب قدم اللاذقية بعد نيف وعشرين وثلاثمائة فأكرمه معاذ، ثم قال له: والله إنك لشاب خطير تصلح لمنادمة ملك كبير. فقال : ويحك! أتدري ما تقول؟ أنا نبي مرسل؛ ثم تلا عليه جملة من قرآنه - وهو مائة وأربع عشرة عبرة - ثم أراه معجزة، فمنع المطر عن بقعة وقف فيها، فأصاب المطر ما حولها ولم تصبها قطرة، فبايعه معاذ، وعمت بيعته كل مدينة في الشام، ثم إنه لما شاع ذكره، وخرج بأرض سلمية من عمل حمص قبض عليه ابن علي الهاشمي، وأمر النجار بأن يجعل في رجليه وعنقه قرمتين من خشب الصفصاف، وقد كتب أبو الطيب من حبسه إلى الوالي:
بيدي أيها الأمير الأريب ... ... ... إلخ
تلك بعض الروايات التي ألصقت بأبي الطيب دعوى النبوة، وهي روايات واضحة الكذب واهية الأسانيد؛ فأما أولاها: فدعوى النبوة فيها مقحمة إقحاما تسبقها وتعقبها دعوى العلوية، فكأنما صح في ذهن جمهرة الرواة أنه تنبأ فجعلوا في رواياتهم مصداق ما سمعوه وصح في أذهانهم، وأما الثانية: فهي رواية عن خلق يتحدثون، وهذه مقطوع ببطلانها مقضي بكذبها، فأحاديث الخلق دائما مزوقة الجوانب موشاة الحواشي، بالكذب القصصي الشيق، واما رواية المعري: فهي حديث خرافة أيضا، لا تقرر شيئا، إلا أنه قام بالمعجزات وأن الناس صدقوا به، وذلك شيء بعيد الحدوث، بل مستحيله أيضا؛ فلو أن المتنبي تنبأ فعلا فمن المقطوع به أن أحدا من الناس لم يؤمن بنبوته، وأما رواية معاذ فناطقة بالكذب الصريح والتلفيق البين؛ لأن فيه قرآنا ومعجزات وتصديقا بدعوته، وحديثا مفككا يناقض أوله آخره.
والذي يسهل على التصديق ويدخل في نطاق الواقع من أيسر سبيل أن أبا الطيب لقب بالمتنبي؛ لبعض أبيات من شعره، ولتعاليه وتعاظمه، ففي الديوان قطعة جاء قبلها «وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي على ما كان قد شاهد من تهوره فقال:
أيا عبد الإله معاذ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي»
وليس في هذه القطعة إلا المخاطرة ومصاولة الخطوب في سبيل ما يطمح إليه من المجد والسؤدد، وليس فيها ذكر لدعوى النبوة أو إشارة إلى خارق المعجزات التي حفلت بها الرواية السابقة.
ويقول الثعالبي: إنه بلغ من كبر نفسه وبعد همته أنه دعا قوما من رائشي نبله، على الحداثة في سنه، والغضاضة من عوده، وحين كاد يتم أمر دعوته، تأدى خبره إلى والي البلدة، ورفع إليه ما هم به من الخروج، فأمر بحبسه وتقييده.
وهذه رواية معقولة مقنعة مسايرة للمنطق والصدق، وقد روى الثعالبي بعد ذلك أنه «يحكى أنه تنبأ في صباه، وفتن شرذمة بقوة أدبه وحسن كلامه.» وهو يقصد بذلك أن يشير إلى ما تجاذبه الناس من حديث التنبؤ، وما لاكته الألسن من خرافة قصصية مشوقة.
وروى الخطيب عن التنوخي: «فأما أنا فسألته بالأهواز سنة 354ه عند اجتيازه بها إلى فارس في حديث طويل جرى بيننا عن معنى المتنبي؛ لأني أردت أن أسمع منه هل تنبأ أم لا؟ فأجابني بجواب مغالط لي، وهو أن قال: هذا شيء كان في الحداثة.»
ويقول ابن جني في شرحه: «وكان قوم قد وشوا به إلى السلطان في صباه وتكذبوا عليه، وقالوا له: قد انقاد له خلق كثير من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه فاعتقله، وضيق عليه، فكتب إليه يمدحه.»
أما رأي ابن جني في تلقيبه بالمتنبي فهو قوله:
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
وذلك رأي نميل إلى الأخذ به. فواضح من قصيدته في الاعتقال ومطلعها:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقد قدود الحسان القدود
إن التهمة التي ألصقت بالمتنبي لم تكن ادعاءه النبوة، وإنما كانت دعوى أخرى تكشف عنها العقيدة، ويعترف بها الشاعر ولا يحاول إنكارها، وهي اتهامه «بالعدوان على العالمين» أي بالخروج على السلطان.
ويصح كذلك أن يكون سبب تسمية بالمتنبي ذلك البيت:
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
وليس أيسر من أن يسمع حاسدوه هذا الشعر فيلقبوه بالمتنبي، وفي أيامنا هذه من أمثال ذلك كثير في الصحف والمجلات، فإذا أطلق عليه هذا اللقب وذاع وسرى في الناس، ثم مضت مدة رجع فيها الناس إلى الاستقصاء استطاع أصحاب الخيالات القصصية أن يخلقوا قصة طريفة يفسرون بها هذا اللقب، ويسندون فيها إليه ادعاء النبوة . •••
ونعود إلى سيرة المتنبي فنقول:
كان سجنه سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، أو في السنة التي بعدها، ويؤخذ ذلك من أنه قال في قصيدته التي أرسلها من سجنه إلى الوالي يمدحه:
فولى بأشياعه الخرشني
كشاء أحس زئير الأسود
والخرشني هو: بدر الخرشني والي حلب من قبل الخليفة العباسي، وثابت في كتب التاريخ أن الأخشيد استولى على حلب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بعد أن تركها الخرشني إلى بغداد، فإن كان أبو الطيب يقصد بهذا البيت نزوح الخرشني إلى بغداد، قبل استيلاء الأخشيد على حلب؛ فيكون سجنه في هذه السنة أو في التي تليها.
ولقد لبث أبو الطيب بالشام خمس عشرة سنة، وهو دائم الترحال غير مستقر على حال، يقصد الممدوحين، فيخيبون أمله، فتثور نفسه، وتتحكم كبرياؤه، ثم يعود فيكبت النفس الأبية، ويمسك كبرياءه بيده، وتلجئه الحاجة الملحة إلى معاودة المدح، وقد مدح أثناء ذلك اثنين وثلاثين رجلا بأربع وأربعين قصيدة، ومنهم التنوخيون باللاذقية، وبدر بن عمار الأسدي نائب ابن رائق في طبرية، ومساور بن محمد الرومي والي حلب، وقد لزم التنوخيين وابن عمار زمنا، وأكثر البلاد نصيبا من مدائحه: منبج، وإنطاكية، واللاذقية، وطبرية، ومدح كذلك في طرابلس، وطرسوس، وجبل جرش ودمشق، والرملة.
وقد نظم في تلك المدة خمس قصائد لنفسه، يعرب فيها عن مطامعه ويفخر ويثور، وهي القصائد التي أبانت عن آماله وأوضحت عن أحلام نفسه الكبيرة. •••
ولم يفد أبو الطيب من مديحه إلا العطاء النزر، على كثرة ما بالغ واحتفل. روى ياقوت في معجم الأدباء: أن المتنبي لما مدح محمد بن زريق الطرسوسي بقصيدته:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا
ثم انثنيت وما شفيت نسيسا
وصله عليها بعشرة دراهم. فقيل له: إن شعره حسن. فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح، ولكن أزيده لقولك هذا عشرة دراهم، فكانت صلته عليها عشرين درهما، وروى الثعالبي: أن عليا بن منصور الحاجب أعطى أبا الطيب دينارا حينما مدحه بقصيدته:
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
فسميت القصيدة الدينارية، وروي كذلك أن أبا الطيب مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم، ولكن الذي لا ريب فيه، أن كبار الممدوحين أعطوه عطاء ضخما، يلائم شعره ومكانته. •••
ولقد كان المتنبي في عهده هذا، يبغي المجد والسؤدد، ويلهج بالملك، ويبني صروح الآمال الجسام. قال في صباه:
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى
تساوى المحايي عنده والمقاتل
وعند ما لامه معاذ اللاذقي على توعده قال:
أيا عبد الإله معاذ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي
وكثير جدا من شعره ينحو هذا المنحى ويسلك هذا السبيل، وكان يرى الوسيلة إلى الملك الكفاح والقتال ومصارعة الخطوب، وقد جاء ذلك في شعره في غير موضع، فإذا عاقته الأيام عن ذلك، وتوانى عن إدراك أحلامه العريضة، لام نفسه وأنبها تأنيبا.
والذي يقرأ الديوان يدرك أن المتنبي كان يستعمل هذا الضرب من ذكر الآمال، وطلب المجد والسؤدد، في أول قصائده التي يمدح بها كما كان الشعراء يستفتحون قصائدهم بالنسيب، وقد جرى على ذلك في قصيدته التي مدح بها علي بن إبراهيم التنوخي، والتي مطلعها:
أحاد أم سداس في أحاد
لليلتنا المنوطة بالتناد
وكذلك في قصيدته التي مدح بها المغيث بن علي بن بشر العجلي، والتي مطلعها:
فؤاد ما تسليه المدام
وعمر مثل ما تهب اللئام
وبلغ من ولع شاعرنا بهذا اللون من ألوان الكلام، وقلة مبالاته بالناس أنه توعد بقتل الممدوحين أيضا، وذلك في قصيدة يمدح بها محمد بن عبد الله الخصيبي.
وفي شعر المتنبي: أنه حارب في سبيل غايته، وعارك وقتل، ولا ندري متى حارب ومن قتل، ولعل ذلك وهم وسوس به إليه شيطانه النافر الجامح.
ومن عجب أن ذلك الشاعر الطامح إلى الملك والسلطان، الذي وسع صدره هذه الآمال الكبار، كان فقيرا معسرا لم ينل من حياته عيشا رغدا، يقول في إحدى قصائد صباه:
أين فضلي إذا قنعت من الده
ر بعيش معجل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز
ق قيامي وقل عنه قعودي
ويقول بعض القصيدة الدينارية:
أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيا مطرت علي مصائبا
ويقول الثعالبي: إن أبا الطيب كان يجشم نفسه أسفارا أبعد من آماله، لا يستقر ببلد ولا يسكن إلى أحد، وكان من وفرة ما لاقى في سبيل غايته من مشقة، وشح ما لقي من مكافأة، وطول ما عانى ونصب، يكره الدنيا ومن فيها، ويخالها بناسها حربا عليه، وليس يغيب عن الذهن ما قاله في تحقير الناس، من شعر ممعن في الذم، قال:
أذم إلى هذا الزمان أهيله
فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد
إلى آخر الأبيات.
وليس يخفى أنه كان متعاليا على الناس، شديد الاعتداد بنفسه، والإيمان بحقه على أهل زمانه، ونحسبه كان محقا في ذلك، وإلا لما حفل الناس به إلى يومنا هذا، ولما سعى إليه الممدوحون بدل أن يسعى إليهم. يقول في إحدى قصائد صباه:
إن أكن معجبا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد
إلى آخر ما هو من هذا القبيل.
ولم يكن أبو الطيب يتغنى بالثورة والمجد عبثا، ولا كان عاجزا يمني نفسه بالقول دون الفعل، وإنما كان يسعى لآماله سعي المشيح المجد، فلقد هم بالثورة وترقب لها الفرص، ثم سكت عن أشباه ذلك بعد أن بارح عتبة الصبا، وأوغل في سني الرجولة الحكيمة، فتركزت آماله في عقله الباطن، وراح يعمل على تحقيقها في هدوء ويقين وثقة بالنجاح، وقد استمر يمني النفس، ويبسط أمامها سبل الأمل الباسم الخلاب، حتى قتل الزمان هذا الأمل في رأسه وخياله؛ فآب صامتا محتملا يشكو لنفسه مطل الزمان، ولا يشكو لبني الإنسان، فهو يراهم دونه بكثير. •••
تلك كانت حالة الشاعر في بلاد الشام، منذ ألقى بها عصا التسيار، حتى سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، بيد أنه على سوء حاله وإغراقه في شكوى الزمان، قد سار ذكره ونبه شأنه، وبسط شعره سلطانه على الناطقين بالضاد، حتى رغب في مدائحه الأمراء والحاكمون، فدعاه الحسن بن عبيد الله بن طغج إلى الرملة ليمحدحه - وهو أخو الأخشيد كما قدمنا - ثم تيسر له سبيل الاتصال بأبي العشائر بن حمدان، فمهد له الوصول إلى سيف الدولة علي بن حمدان، الذي هيأ له السعادة والمجد ، وأعانه على الدخول في زمرة الخالدين، وكان له على خطوب الأيام خير معين.
وكان لقاء الشاعر للحسن بن طغج في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة؛ إذ أرسل إليه رسوله بركوبة يركبها، فامتنع الشاعر عليه، فأقسم ألا يبرحه، فدخل أبو الطيب فكتب قصيدة وعاد ومدادها لم يجف، ثم ركب مع الرسول، فدخلا على ابن طغج فأنشده إياها، وهي:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم
علمت بما بي بين تلك المعالم
وكان هذا أول شعر للمتنبي أجيز عليه إجازة كبيرة. جاء في الإيضاح: «أن المتنبي حدث بأنه أعطي من أجلها ألف دينار، وقد أقام الشاعر مدة عند ابن طغج، وفي الديوان غير هذه القصيدة: أرجوزة قصيرة، وثلاث وعشرون قطعة قصيرة أكثرها بيتان، وقد قيلت قطعتان منها بعد عشر سنين من هذا التاريخ، حين مر الشاعر بالرملة قاصدا مصر وهما قوله:
ترك مدحك كالهجاء لنفسي
وقليل لك المديح الكثير
و
ماذا الوداع وداع الوامق الكمد
هذا الوداع وداع الروح للجسد» •••
ومدح أبو الطيب في الرملة أيضا أبا القاسم طاهر بن الحسين بن طاهر العلوي، وفي شرح المعري وشروح أخرى: أن ابن طغج سأل الشاعر مدح أبي القاسم مرات عدة، وألح عليه في ذلك كثيرا فكان يمتنع، ثم سأله الأمير قصيدة في أبي القاسم بدل قصيدة كان يريدها لنفسه فرضي أبو الطيب، ولما ذهب الشاعر إلى أبي القاسم ومعه حاشية، وجده في فريق من أشراف قومه يجلس على سريره، وقد نزل لأبي الطيب عن سريره ولقيه بعيدا، وأقبل عليه يحدثه ويؤنسه ويجلسه على سريره، ثم يجلس هو بين يديه، وقد كان ذلك بدعا في المديح حقا، فلم يسمع أحد قبل أبي الطيب أن شاعرا جلس الممدوح بين يديد، وهذه القصيدة هي:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب
وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب •••
ويجمل بنا أن نشير هنا إلى أنه لما غلب العباسيون على أمرهم، وأصبح الخلفاء في أيدي القواد والأمراء، نشأت في قبائل العرب أربع دول: هي بنو حمدان بالموصل وحلب (317-394ه) وبنو مرداس، وبنو المسيب، وبنو مريد، وإنما يعنينا من هذه الدول دولة بني حمدان التغلبيين، التي أنجبت سيف الدولة الحمداني، وتنسب هذه العشيرة إلى حمدان أحد رؤساء بني تغلب، وهو ابن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد، يقول المتنبي:
وحمدان حمدون، وحمدون حارث
وحارث لقمان، ولقمان راشد
وكان للحمدانيين نفوذ وسلطان إبان الخلافة العباسية منذ سنة 260، وولي أمراؤهم ولايات كثيرة، وكان علي سيف الدولة الحمداني يملك واسطا وما حولها، ثم أخذ لنفسه بسيفه مملكة من الأخشيديين في شمال الشام، واستولى على حلب وحمص سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة كما تقدم، وكانت له وقائع مع الأخشيديين، وقد استولى على دمشق والرملة بعد موت الأخشيد، ثم غلب عليهما، فاصطلح مع الأخشيديين على أن تكون له حلب ولهم دمشق، وتزوج بنت الأخشيد، واستمر له الملك ولذريته حتى أخذه الفاطميون.
وفي تاريخه: أنه صمد للروم يحاربهم عن العرب، فكانت له معهم وقائع قبل أن يملك حلب، فلما استقر له الملك وبسط يده على المدائن كان عليه أن يحمي ذمار ملكه، وأن يناضل عن بني دينه ولغته، وأن يقيم عرشه على السيوف المسلطة والدماء المراقة، وقد استطاع أن يقف وحده عشرين عاما شوكة وخازة في جسم الروم، وسيفا مشهرا يذود عن العروبة والإسلام. لم تمض منها سنة واحدة إلا كان له فيها حروب ونضال، فقدر له النصر مرات عدة، وأوغل في بلادهم سنة 339 حتى قارب القسطنطينية، وقدر له كذلك أن يلقى الهزائم المرة، وكان شر هزائمه واقعة سنة 351 التي زحف فيها الروم على حلب، فذبحوا فيها وقتلوا تقتيلا، ونهبوا دار الأمير وخربوها.
على أن سيف الدولة - الذي أصيب بفالج في يده ورجله سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة - لم يقعده ذلك عن حرب الروم، فثأر منهم، وانتصر عليهم في السنة التالية.
وكان ذلك الأمير الأديب الشاعر شجاعا في انتصاره وهزيمته معا، ماضي العزيمة، عظيم البلاء، وقد توفي في حلب سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ودفن في ميافارقين.
وأضاف فتى الحرب والنضال إلى شجاعته وأدبه كرما وسماحة بالغة، فكان مقصد العلماء والأدباء والشعراء، وقبلة آمالهم ومحط رحالهم، فيروى أنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء مثل ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر وفحول الأدب والعلم.
وممن قصده من الشعراء - غير أبي الطيب - أبو فراس، وأبو العباس النامي، وعلي بن عبد الله الناشئ، والسري الرفاء، وكثيرون غيرهم، وبلغت مدائحه عشرات الألوف من الأبيات، اختار منها بعض الأدباء عشرة آلاف بيت وجمعوها في كتاب، وصحبه من الأدباء كثيرون أيضا منهم ابن خالويه وأبو علي الفارسي، وأهداه أبو الفرج الأصفهاني كتاب الأغاني فأعطاه ألف دينار، ولجأ إليه كذلك الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي وعاش في كنفه، وكان سخاؤه يشمل من بعد عنه، وله شعر يدل على أنه شاعر مطبوع، ونقد يدل على سلامة الذوق والعلم بلغة الضاد. •••
وبارح شاعرنا الرملة سنة 336 قاصدا إنطاكية، مارا ببعلبك، وكان فيها علي بن عسكر، فخلع عليه، وسأله أن يقيم عنده، فمدحه بأربعة أبيات، ورحل إلى إنطاكية فمدح فيها أبا العشائر بالقصيدة التي مطلعها:
أتراها لكثرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي
ثم مدحه بثلاث قطع أخرى، وأنشأ في إنطاكية كذلك أرجوزة أولها:
ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرة العوائق
وذلك عندما شهد الثلج يكسو أديم الأرض، ويغشى الربا والوهاد.
وأثناء إقامته في إنطاكية، أغار عليها بانس المؤنسى - قائد الأخشيديين - وفوجئ أبو العشائر فقاتل عن نفسه حتى بلغ حلب، فقال المتنبي قصيدته:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
ثم رجع أبو العشائر إلى إنطاكية، وكان أبو الطيب عاد إلى الرملة، فلما سمع بقدومه خرج يقصده، فلما غدا بطرابلس أراده إسحاق بن كيغلغ على مدحه - وكان جاهلا - وكان بعض الناس قد أغروه به، وقالوا: إنما يترك مدحك استصغارا لك، فلما راسله يستمدحه احتج أبو الطيب بيمين ألا يمدح أحدا إلى مدة، فأخذ عليه الطرق حتى تنقضي المدة، فهجاه أبو الطيب بقصيدة أملاها على من يثق به، ولما ذاب الثلج عن لبنان خرج إلى دمشق، وأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا فأعجزهم، ثم ظهرت القصيدة، وقد أقذع فيها المتنبي وأفحش إلى جانب ما أودعها من الحكمة الرائعة.
ولما بلغ الشاعر إنطاكية، لقي أبا العشائر ومدحه بقصيدتين وثماني قطع. •••
وأراد الله للشاعر الكبير أن يلقى ممدوحه الكبير، وأن يمتزج تاريخهما على مر العصور والأيام، فقد كان أبو العشائر بن حمدان واليا على إنطاكية من قبل سيف الدولة، فلما قدم الأمير إنطاكية سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قدم أبو العشائر إليه أبا الطيب، وأثنى عليه، ولم يشأ أبو الطيب أن يمدح الأمير إلا بعد أن اشترط عليه ألا ينشده وهو واقف، وألا يقبل الأرض بين يديه، فقبل سيف الدولة شروطه، وكانت مما تميز به المتنبي على الشعراء جميعا، ومما أوحت به إليه نفسه الطموح التي لا تقبل الهوان، فقد تعود أن يتخذ من ممدوحيه أصدقاء له وصحابا، وكان سيف الدولة سمح النفس كريم الخلق، فمن الهين عليه أن يتخذ المتنبي صديقا صدوقا، وأن يكون هو له نعم الصاحب أيضا، فهو الشاعر المجيد الذي يستطيع أن يشيد بمآثره، ويخلد بطولته، كما رأى المتنبي أن سيف الدولة هو الأمير العربي الذي يجدر بدرره الغوالي وآياته الخالدات؛ بل إنه لشاعر المجد الذي يبغي مصاحبته شاعر اللفظ والبيان، قال المتنبي:
شاعر اللفظ خدنه شاعر المجد
كلانا رب المعاني الدقاق
وقال:
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه
فإنك معطيه وإني ناظم
وصحب أبو الطيب سيف الدولة ثماني سنوات، نظم فيها اثني عشر وخمسمائة وألف بيت، في ثمان وثلاثين قصيدة، وإحدى وثلاثين قطعة: منها أربع عشرة قصيدة في وصف وقائعه مع الروم، وأربع في وقائعه مع العرب، وخمس عشرة في المدح المجرد عن وصف الوقائع، وخمس في الرثاء، ومن القطع اثنتان في حوادث الروم، والباقي في مقاصد مختلفة، يضاف إلى كل هذا قصيدة:
ذكر الصبا ومراتع الآرام
جلبت حمامي قبل يوم حمامي
نظمها الشاعر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في ثلاثة وثلاثين بيتا، وألحقها بمدائح سيف الدولة، وقد اتفقت روايات المؤرخين على أنه قالها في ذلك التاريخ، ولكن الدكتور عبد الوهاب عزام لا يميل إلى تصديق ذلك مرتكنا على أسباب وجيهة، يراها القارئ في كتابه عن المتنبي الذي اعتمدنا عليه في تلخيص هذه السيرة.
وقد مدح الشاعر سيف الدولة غير ذلك بقصيدتين، وعزاه عن أخته بأخرى، وذلك بعد أن رجع إلى العراق.
وكان سيف الدولة يغدق على شاعره أيما إغداق، ويكرمه ويبالغ في العطف عليه وإكبار شأنه، فكان يعطيه كل عام ثلاثة آلاف دينار، وكان يمنحه غير ذلك عطايا أخرى ومكافآت. قال المتنبي قطعته:
موقع الخيل من نداك طفيف
ولو أن الجياد فيها ألوف
حين سأله الأمير عن فرس يرسله إليه، وقال قطعته:
اخترت دهماءتين يا مطر
ومن له في الفضائل الخير
حين خيره في فرسين، إحداهما دهماء والأخرى كميت، وقال قطعته:
فعلت بنا فعل السماء بأرضه
خلع الأمير وحقه لم نقضه
في خلع أنفذها إليه، وقال قطعته:
أيا راميا يصمي فؤاد مرامه
تربي عداه ريشها لسهامه
وهو خارج إلى أقطاع أقطعه إياه الأمير في معرة النعمان، وجاء في الشروح ذكر لهدايا جمة منحها الأمير للشاعر بعد أن تصالحا إثر تنافرهما.
وينطق شعر المتنبي في سيف الدولة، بالغبطة والرضا، ويفيض بالشكر الأوفر، يقول:
أسير إلى إقطاعه في ثيابه
على طرفه من داره بحسامه
وقد سكن أبو الطيب إلى صحبة الأمير الكريم، وطاب له زمانه، فسكت عن حديث الثورة والقتل الذي غمر شعره الأول وفاض في كل قصائده إلا قليلا، وكان يصحبه في أغلب حروبه، فتمكن من وصفها وصف الشاهد كما بين في الديوان.
ثم ... ثم أراد الله مرة أخرى أن يفرق بين الرجلين، وأن يتم ما خطه في أم الكتاب ... وذلك بعد ثماني سنوات لبثها الشاعر في كنف الأمير كانت أولى قصائد مدحه فيها:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
وذلك سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وكانت آخر قصيدة في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وهي:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
وأما سبب فرقة الصديقين فهو حسد أكل قلوب شعراء سيف الدولة والمحيطين به غير أبي الطيب، وهو كذلك ضيق الأمير ذرعا بالشاعر المتعالي الذي لا يقول فيه القصيدة إلا بعد أن يطلبها ويستعجلها أشهرا طوالا.
أجل: فلقد كان حول سيف الدولة شعراء كثر ينشدون الخير والنعمة، وكانت شمس المتنبي غالبة على شموسهم؛ فلا غرو أن ينقموا عليه ويحسدوه، سيما وهو المتكبر المتعالي، الضارب في ذرى الأنفة والكبرياء، الفخور بشعره، والمتفرد وحده برضى الأمير وإيثاره، وذلك الشاعر الذي يقول:
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مقول
لا يستطيع أن يلقى من شاعر آخر حبا أو وفاء أو إخلاصا.
على أن من غير الشعراء كثيرين كانوا ينقمون عليه كذلك، ويحسدون مكانته عند الأمير، وعظمته بين الناس. قال المتنبي:
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
ولا مراء في أن أولئك الشعراء قد غلبهم حسد أبي الطيب فبيتوا له المكائد وناصبوه العداء، يقول الشاعر العملاق:
وفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
ويقول غير ذلك كثيرا بين يديك في صفحات الديوان.
هذا، وكان سيف الدولة مغرما بشعر أبي الطيب، يود أن يسمع كل يوم قصيدة له في مدحه، وكان الشاعر ينظم أربع قصائد في كل سنة أو خمسا غير القطع، فكان الأمير يغضب عليه. فنحن نرى في الديوان قصيدة قيلت في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وأخرى قيلت يوم الأضحى من تلك السنة، وبين التاريخين زهاء خمسة أشهر، نظم الشاعر فيها سبع قطع وقصائد قصيرة يعتذر في اثنتين عن تأخير مدحه.
وجاء في الصبح المنبي: أن أبا فراس قال للأمير: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تغدق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره.»
وفي شرح ابن جني: «وكان سيف الدولة إذا تأخر عن مدحه شق عليه، وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فلا يجيب أبو الطيب أحدا عن شيء، فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة ... إلخ.»
وقويت النفرة بين الرجلين ، فأنشد الشاعر قصيدته المشهورة:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده ألم
وقد اضطرب المجلس عند إنشاد هذه القصيدة، وثارت حاشية الأمير مطالبة بدمه، فرخص الأمير في ذلك، حتى كاد الشاعر يهلك. يقول الشاعر في السامري - وهو أحد كتاب الأمير، وكان قد طالب بدمه:
أسامري ضحكة كل راء
فطنت وكنت أغبى الأغبياء
إلى آخر الأبيات.
ولما خرج أبو الطيب بعد ذلك لقي عناء كبيرا من رجال سيف الدولة: وقد أشهر سيفه فيهم حتى اخترقهم ولم يصنعوا به شيئا، وأرسل أبو العشائر جماعة من غلمانه وقفت في سبيل الشاعر ففرقهم بسيفه ولم يصبه منهم أذى، وفي ذلك يقول:
ومنتسب عندي إلى من أحبه
وللنبل حولي من يديه حنيف
ثم عاد أبو الطيب إلى المدينة مستخفيا فأقام عند بعض أصدقائه وراسل الأمير، فأنكر الأمير أنه أمر له بسوء، وكتب الشاعر الأبيات:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا
فداه الورى أمضى السيوف مضاربا
ثم دخل الشاعر دار الأمير بعد تسعة عشر يوما، ودخل على الأمير؛ فخلع عليه، ورحب به، وسأله عن حاله، فقال: رأيت الموت عندك أحب من الحياة عند غيرك؛ فقال: بل يطيل الله بقاءك؛ ثم ركب الشاعر، وأتبعه الأمير هدايا؛ فقال القصيدة:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
دعا فلباه قبل الركب والإبل •••
على أن الشاعر كان يهدد بالفراق قبل ذلك، فقد أشار إليه في القصيدة:
دروع لملك الروم هذي الرسائل
يرد بها عن نفسه ويشاغل
وتبرم في قصيدته:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
وقد صرح الشاعر بكل ما في نفسه بعد أن رحل إلى كافور، وفي قصائده التي مدحه بها تعريض بسيف الدولة والحمدانيين، يراه القارئ واضحا في الديوان؛ من ذلك قوله لكافور:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
على أنه لم يشأ أن يخفي ذلك عن سيف الدولة نفسه، فقد صارحه به في القصيدة التي أرسلها إليه من العراق إجابة لدعوته، وذلك بعد أن مدحه بقصيدتين، وهي:
فهمت الكتاب أبر الكتب
فسمعا لأمر أمير العرب
من أجل ذلك فارق المتنبي سيف الدولة، ولو أنه من المعقول أيضا أن تكون آماله الواسعة في السلطان هي التي حملته إلى مصر، يبغي ما عز عليه في رحاب بني حمدان، ويقول ابن جني: إن المتنبي قد اعترف بأن قصيدته:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
كانت وداعا ... ويا له من وداع.
ولم يكن سيف الدولة على علم بأن وجهة المتنبي بعد مبارحته إياه ستكون مصر، فقد استأذنه الشاعر في الرحيل إلى إقطاعه فأذن له، وكان أبو الطيب يبيت في نفسه أمرا: أن يبرح حدود مملكة سيف الدولة، وأن ينشد بابا آخر غير بابه. جاء في شرح المعري: «فأجمع رأيه على الرحيل من حلب، فلم يجد بلدا يأوي إليه أولى من دمشق؛ لأن حمص من عمل سيف الدولة.» وقال في الصبح المنبي ما يقارب ذلك، وواضح من هذا أن المتنبي لم يرض أن يستأذن سيف الدولة في الرحيل خوف ألا يأذن له، ولا ريب أن سيف الدولة لم يكن ليأذن له، وقد يكون المتنبي أوجس خيفة من بطش الأمير، فلا يبعد عليه ذلك وهو الذي عرض بغدره - بعد - في إحدى الكافوريات.
وسار المتنبي من حلب إلى دمشق، فانتقل من مملكة سيف الدولة الحمداني إلى مملكة أبي المسك كافور الإخشيدي، وقد لبث الشاعر في دمشق مدة، ثم دعاه كافور إليه فسار إلى مصر؛ ويذهب بعضهم إلى أن أبا الطيب لبث في دمشق متلكئا لا يريد الذهاب إلى كافور، فلما دعاه كافور إليه مرتين لم يستطع إلا الذهاب، وهم بذلك يضعون مقدمة للهجاء المر الذي هجا به الشاعر كافورا بعد أن مدحه خير مديح ... ولكن الواضح أن أبا الطيب لم يخرج من بلاد سيف الدولة إلا قاصدا أبا المسك كافورا دون غيره، ولذلك يروى أن والي كافور على دمشق أراده على مدحه - لما كان نازلا ببلده - فلم يرض ذلك، وثابت أن أبا الطيب - لما نزل الرملة في طريقه إلى مصر، ولقي فيها أميرها الحسن بن عبد الله بن طغج - لم يقل فيه مدحا، إلا قطعتين صغيرتين تقدم ذكرهما، وهما:
ترك مدحك كالهجاء لنفسي
وقليل لك المديح الكثير (و)
ماذا الوداع وداع الوامق الكمد
هذا الوداع وداع الروح للجسد
وكان قد مدحه من قبل، ويغلب على الظن أن الشاعر لم يشأ أن يمدح أحدا قبل كافور وهو في طريقه إليه، وأنه كان سائرا إلى هناك عن عمد، ونية مبيتة وأمر محزوم.
فأما كافور الأخشيدي هذا، فلا مندوحة من أن نوجز تاريخه في لمحة خاطفة، وهو تاريخ لا نخال القارئ إلا عالما به.
هو مولى أسود كان لمحمد بن طغج الأخشيد، ومحمد بن طغج كان واليا من قبل المقتدر بالله العباسي على دمشق سنة ثماني عشرة وثلاثمائة، ثم ضم إليه الراضي بالله مصر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ولقبه بعد ذلك «الأخشيد» واستتب الأمر له ولذريته في مصر إلى عهد الفاطميين.
ويقول صاحب النجوم الزهراء: إن الأخشيد اشترى كافورا بثمانية عشر دينارا من بعض رؤساء مصر، وأعتقه، ثم رقاه حتى جعله من كبار القواد؛ لما رأى منه الحزم والعقل وحسن التدبير، ولما أضحى كافور قائد الجيوش الأخشيدية حارب ابن رائق، ثم سيف الدولة في الشام، وقد قدمنا أن أبا الطيب ذكره في مدحه لمساور بن محمد.
وعندما توفي الأخشيد أخذ كافور البيعة لابنه أنوجور وعاد به إلى مصر، وقد ظن سيف الدولة أن موت الأخشيد يمكنه من دمشق، فاستولى عليها وتقدم إلى الرملة، ولكن كافورا - وكان الحاكم الفعلي - سار إليه فهزمه وأخرجه من حلب، ثم اصطلحا، فأخذ سيف الدولة حلب، وأخذ أنوجور دمشق، وتوفي أنوجور سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فاجتهد كافور في أن يبقى الأمر لبني الأخشيد، ونجح في ذلك؛ إذ نال من الخليفة المطيع لله تولية لعلي بن الأخشيد مكان أخيه، على أن علي بن الأخشيد لم يلبث أن مات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وبقيت مصر أياما بغير أمير - وكان أمرها في يد كافور - فاتفق أعيانها على تأميره ، فأصبح بذلك هو السلطان - اسما وفعلا - حتى توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وعمره خمسة وستين سنة بعد أن حكم مصر وقسما من الشام اثنتين وعشرين سنة.
وكان كافور الأخشيدي داهية في السياسة، شجاعا حكيما، استطاع أن يكسب صداقة العباسيين والفاطميين معا، ويقال: إنه هو الذي أخر غزو جيوش المعز لمصر حتى مات، فخلى لها السبيل، وإن حزمه وكياسته جعلت منه سياسيا قديرا، وداهية خطيرا، وكان له - إلى هذا - بصر بالعربية والأدب، وكان محبا للعلماء والأدباء، يقرب الشعراء ويجزيهم، وكان دينا متواضعا، سخيا كثير الهبات والخلع والعطايا والصدقات.
ولا بأس من أن نقول: إن كافورا الذي عرفه التاريخ السياسي، غير كافور الذي عرفه كثيرون من رواة تاريخ الأدب؛ فمن هؤلاء من صوره في أقبح الصور، متأثرا بما لطخه به أبو الطيب من صفات أودعها كل نقمة وبغضاء؛ فمن الخير أن نعرف الرجل على حقيقته، ولا ننكر عليه مكانته وفطنته وكفايته؛ لنسير في سيرة شاعرنا - بعد ذلك - سير المحايد غير المحابي أو المتجني. •••
وقدم أبو الطيب مصر في جمادى الثانية سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فأقام بها أربع سنين ونصف سنة، حتى بارحها في ذي الحجة سنة خمسين وثلاثمائة، وقد مدح كافورا حين قدم عليه بقصيدته:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وختم مدائحه بقصيدة أنشدها سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وبقي بعد ذلك سنة وشهرين لم ينشده شيئا، وبين فاتحة مدائحه وخاتمتها أربعة أشهر وثلاث سنين مدح فيها المتنبي كافورا بتسع قصائد وقطعتين، فيها كلها سبعون وثلاثمائة بيت، وهو ربع ما مدح به سيف الدولة.
وكانت بغية أبي الطيب من ذهابه إلى أبي المسك، أن يقطعه ضيعة أو إمارة، وكان شديد الأمل في ذلك عظيم الرجاء، ولكن رجاءه خاب، وأمله تبخر وطواه الهواء - وسيبين كل ذلك بعد - وظاهر في مدائح أبي الطيب الأولى لكافور، أنه لم يكن كارها لمدحه، ولا مسوقا إليه عن رهبة أو مثلها، فهو يكشف في أولى قصائده عن حزنه من صديقه الأول الذي غدر به، وهو سيف الدولة، وعن أمله الواسع في صديقه الجديد كافور، وقد رضي الوقوف بين يديه مبالغة في تعظيمه وابتغاء معونته، ولن ننسى أن نقول إن كافورا عندما نزل أبو الطيب في مصر أخلى له دارا، وكفله، وأضافه، وخلع عليه، وفي هذه القصيدة أشار الشاعر إلى سيف الدولة وإلى بني حمدان في مواضع مختلفة، وأطنب في مدح أبي المسك، ثم لمح إلى غايته فلم يشأ أن يخفيها، يقول:
إذا كسب الناس المعالي بالندى
فإنك تعطي في نداك المعاليا
وغير كثير أن يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
وفي الشهر التالي قال أبو الطيب قصيدته الثانية يهنئ بها كافورا بدار بناها، وهي التي أولها:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدنى من البعداء
وأنا منك لا يهنئ عضو
بالمسرات سائر الأعضاء
وتلك كانت طريقة المتنبي في المدح، لا يغفل نفسه والإشادة بها، وإشراكها مع الممدوح فيما يغدق عليه من صفات طيبات.
وفي هذه القصيدة يقول الشاعر:
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ويقول المعري: «ولما أنشده أبو الطيب حلف ليبلغه جميع ما في نفسه، وإنه لأكذب ما يكون إذا حلف.»
ثم بعد شهرين، قال أبو الطيب يمدح الأستاذ أبا المسك كافور قصيدته:
من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
وفيها يقول أيضا:
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوب
ثم أنشد الشاعر كافورا في عيد الأضحى قصيدته الرابعة:
أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
وفيها بين الشاعر عن آلام نفسه؛ لأنه قصر عما يبتغيه، وبدأ بالشكوى الخفية والبينة من مطل أبي المسك، ولا ريب أن كافورا كان قد وعد الشاعر فعلا بولاية، فهو هنا يستنجزه وعده، ويسأله أن يجربه فيقول:
ووعدك فعل قبل وعد لأنه
نظير فعال الصادق القول وعده
ثم بعد ثلاثة أشهر من ذلك قال الشاعر قصيدته الخامسة، وكان فرس المتنبي قد جرح فحزن عليه، فتبين كافور ذلك وأرسل له فرسا أدهم، وأول القصيدة:
فراق ومن فارقت غير مذمم
وأم ومن يممت خير ميمم
وفي هذه القصيدة يعاود الشاعر مدح سيف الدولة، وذكر الحمدانيين بالخير، كأنما ضاق بكافور ووعده، وفي آخرها يقول:
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها
وصيرت ثلثيها انتظارك فاعلم
ثم قال الشاعر بعد ذلك قصيدة حكمية مدح فيها كافورا، وذلك إثر شقاق كان بين أبي المسك وبين الأمير أنوجور انتهى بالصلح.
على أن حال أبي الطيب لا يطيب لها أن تسير في طريق واحدة أو تستقر على وتيرة، فها هو يمل انتظار بغيته، ويطفح الكيل فلا يستطيع اصطبارا، وها هو يقول - بعد أن أرسل إليه أبو المسك ستمائة دينار ذهبا عسى أن تلهيه عن رجائه - قصيدته:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
وذلك في عيد الفطر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة؛ أي بعد مقام الشاعر بمصر سنة وشهرين، وفي هذه القصيدة - كما يبين من الديوان - يندم أبو الطيب على مبارحته سيف الدولة وقصده كافورا، ويعتب فيها على سيف الدولة وعلى بني حمدان، ثم يختمها بمدح كافور؛ لعلمه بأنها ستبلغه وإن لم ينشده إياها.
وهنا أخذت النفرة بين الرجلين مظهرا واضحا، فقد سكت الشاعر عن المديح، بعد أن كان يواصل قصائده غير وان ولا متمهل، ثم يضطر بعد ذلك لإنشاده، وذلك أن كافورا كان قد ولى شبيبا العقيلي الخارجي عمان والبلقاء وما يليها، فخرج على كافور وسار إلى دمشق في جيش كثيف ودخل المدينة، وفي غمرة من الهرج والمرج ألفى شبيب ميتا، فارتاع جيشه، وهرب جنده وتفرقوا، ولم يعرف الناس كيف مات، وجاءت الأخبار مصر فطالب كافور أبا الطيب بأن يذكر هذا في شعره؛ فقال قصيدته التي مطلعها:
عدوك مذموم بكل لسان
وإن كان من أعدائك القمران
وذلك في جمادى الثانية سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وإنك لواجد - من قراءة القصيدة - أن الشاعر الذي سكت عن مدح أبي المسك ثمانية أشهر، ثم لقيه في هذه القصيدة، لم يكن مادحا، وإنما كان كمن يقصد الهجاء، وكأنما أراد أن يؤبن القتيل ويرثيه بدل أن يغتبط لمقتله.
ثم انقطع المتنبي بعد هذه القصيدة المريبة عن مدح أبي المسك سنة وأربعة أشهر، وأصابته في أثناء ذلك حمى فقال قصيدته:
ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام
وقد عرض فيها بكافور، وبخله، ومنعه عن الرحيل عن مصر، وأعجب بها أهل مصر برغم أنها ساءت كافورا لما بلغته.
وفي أثناء ذلك أيضا اتصل المتنبي بأبي شجاع فاتك الملقب بالمجنون، وقد كان روميا، وأسر وربي في فلسطين، ثم اغتصبه كافور من سيده بالرملة بلا ثمن فأعتقه صاحبه، فكان معه في عدة المماليك، كريم النفس، حر الطبع، بعيد الهمة، ويقول المعري: إنه كان في أيام كافور مقيما بالفيوم، أنفة من الأسود، وحياء من الناس أن يركب معه، وأنه مرض وأحوجته العلة إلى دخول مصر فدخلها، وأن أبا الطيب لم يتمكن من عيادته على أن فاتكا كان يسأل عنه ويراسله بالسلام، وأنه لما لقي أبا الطيب في الصحراء أهداه هدية قيمتها ألف دينار ذهبا، ثم أتبعها هدايا بعدها، ويقول ابن خلكان: إن الفيوم كان إقطاعا لفاتك، وإن أبا الطيب كان يسمع بكرمه وشجاعته، ولا يستطيع أن يقصده خشية كافور، ثم استأذن كافورا في مدحه فأذن له، ويروى أن ذلك كان بعد استقرار ما بين فاتك والأستاذ كافور.
ويظهر أن الشاعر لم يرغب في مدح فاتك - مع ما بينه وبين كافور من المنافسة - إلا ليأسه من أبي المسك، وقد مدح أبو الطيب فاتكا في جمادى الثانية سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بقصيدته:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وفي هذه القصيدة تعريض بكافور.
ثم عاود أبو الطيب مدح كافور، بعد أن انقطع عن ذلك ستة عشر شهرا كاملة، وبعد أن قال قصيدة الحمى التي تقدم ذكرها، وبعد أن تعرض لكافور في مدح فاتك، ويرى بعض المؤرخين أن عودة أبي الطيب إلى مديح كافور كانت خارجة عن إرادته، فقد طالبه كافور بذلك فلم يستطع إلا إجابته، وقد يكون تطلع كافور إلى مدح الشاعر قد أحيا في نفسه الرجاء فعاد يلقي آخر سهم، وينفض عن نفسه اليأس والإشفاق من أن يخيب، وأما القصيدة فهي:
منى كن لي إن البياض خضاب
فيخفى بتبييض القرون شباب
وفيها يتحدث الشاعر عن نفسه وعن آماله، وعن وعد كافور له في غالب أبياتها، ويمدحه فيها باثني عشر بيتا.
ثم بقي أبو الطيب بمصر بعد هذه القصيدة سنة وشهرين دون أن يمدح كافورا فما كان يلقاه إلا أن يركب فيسير معه في الطريق؛ لئلا يوحشه، وكان الشاعر ضيف كافور مدة مقامه في مصر، فكان ذلك هو الصلة بينهما بعد انقطاع الشاعر عن مدحه وحضور مجلسه.
وواضح غاية الوضوح من شعر المتنبي في كافور، أنه لم يكن يبغي منه مالا فحسب، بالغا ما بلغت قيمة ذلك المال، وإنما كان يبغي ضيعة أو ولاية كما تقدم، يقول:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
ولو أنه كان يطلب المال لأعطاه كافور فوق ما أعطاه، ألوفا مؤلفة، ونحسب أن كافورا لم يدر بذهنه أن يقطعه هذا الذي يريد، وإن كان يعده ويمطله فذلك شيء من التلطف والمداجاة، وقال بعض الشراح: إنه قال لأبي الطيب: «أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك؟» ولا نخاله قال ذلك، وإن كان من السهل أن يفكر فيه، ويقول بعض الشراح أيضا: إن كافورا كان ينوي إقطاعه ما يريد، وقد حلف له بذلك، ولكن أمورا بدرت من الشاعر لم تلق رضاه، منها: أنه ذكر سواده في قصائده، وكان كافور يكره ذلك غاية الكراهة، ولا نظن ذلك سببا معقولا، فقد ذكر الشاعر سواد الممدوح في مواضع طرب لها كافور واهتز لها، وكان ذلك منذ أول عهد الشاعر بمدحه، فلو أدرك منه امتعاضا من هذا؛ لما كرره في قصائده بعد ذلك.
وليس بعيدا أن يكون كافور كره من الشاعر إلحاحه في طلبه، ومداومته على التذكير بالوعد في لغة يصح أن تسمى توبيخا وتأنيبا، فصح في عزمه ألا ينيله طلبته، ثم إن تمادي الشاعر في أشباه ذلك، ورثائه لشبيب في القصيدة التي تقدم ذكرها، وتعريضه بكافور في قصيدة الحمى، ومدحه لفاتك، كل أولئك كان سببا في أن يخيب أمل الشاعر في بغيته، وأن يجعل بينه وبينها سدا، وكانت صراحة المتنبي وعلو نفسه، يأبيان له إلا أن يقول ما يجول بخاطره، فلم يشأ إلا أن يقول ما قال، داخلا في نطاق التوبيخ، لا الاستعطاف والطلب الذليل.
ومما كان له أثر بين في خيبة الشاعر في أمله في كافور، أنه لم يشأ أن يمدح الوزير ابن الفرات، كما مدحه شعراء آخرون؛ ليكون له عونا يساعده على بلوغ غايته ومبتغاه، وكان الوزير ابن الفرات هذا، وزيرا خطيرا من أسرة وزراء، ومحدثا أديبا ميالا لأهل العلم والأدب.
وكان أبو الطيب في آخر مقامه بمصر، يود الرحيل ويبغي الفكاك من ذلك النطاق المضروب، فلقد طالما ردد ذلك في قصائده، ولقد طالما تبرم بمطل كافور وضاق به ذرعا ... ولكن كافورا كان يمسكه عن الرحيل، ويضع حوله العيون.
وليس خافيا أن كافورا - لما نزل الشاعر بمصر - أنزله دارا، وأغدق عليه من ماله وأغرقه في عطائه، وقد حسب أن ذلك يكفيه، فلما طالبه الشاعر بولاية أو ضيعة، وعده إجابة طلبه، ثم خاف كافور الشاعر، حين أدرك علو نفسه، ولمس بعد أمانيه، وعلم ما حفل به ماضيه من حبس وادعاء النبوة ... وما إلى ذلك، وقد أدرك القارئ أن الشاعر بدأ يستعجل الوعد، ويندد بالمماطلة، بعد بقائه بمصر ثلاثة أشهر ليس غير، وأدرك كذلك أنه سكت عن مديح كافور - بعد أن قال قصيدة شبيب والقصيدة الأخرى الأخيرة - سنة وشهرين، وأنه ذكر الرحيل في شعره مرات عدة، كأنما كان كافور يحرص على ألا يفلته، ابتغاء مدحه من ناحية، واتقاء هجوه من أخرى ... بل إنه لمن الثابت أن كافورا منعه عن الرحيل منعا، ففي هجاء الشاعر له من بعد ما ينطق بذلك في صراحة وبيان، وجاء في شرح المعري وشروح أخرى: أن الشاعر كتب إلى كافور يستأذنه في المسير إلى الرملة؛ ليتنجز مالا بها، وأراد أن يعرف رأيه في مسيره؛ فأجابه: لا، والله، أطال الله بقاءك، لا نكلفك المسير، ولكن ننفذ رسولا يأتيك به، فلما قرأ الجواب قال أبياته التي أولها:
أتحلف لا تكلفني مسيرا
إلى بلد أحاول فيه مالا
ولما ضاق صدر الشاعر الكبير بذلك الذي لقيه بمصر، ولم يطق بعده اصطبارا، رحل إلى الكوفة رحيل هارب لا رحيل مودع مشيع، فلم يعد له ما يتعزى به بعد وفاة أبي شجاع فاتك، الذي اتخذه صديقا مؤنسا طوال مدة بقائه بمصر بعد سكوته عن مديح كافور، وكانت وفاة فاتك في شوال سنة خمسين وثلاثمائة، وقد لبث الشاعر بعدها شهرين يدبر لرحيله، جاء في شرح المعري وشروح أخرى: «وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق، ولا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج ودفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل لعشر ليال، وتزود لعشرين.»
وفي ليلة عيد الأضحى قال الشاعر قصيدته الحزينة الثائرة التي مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
وقد هجا فيها كافورا هجاء مرا، وعرض بإمساكه إياه عن الرحيل.
وقد انتهز أبو الطيب غفلة كافور، وانشغاله بالعيد، وبما يصحب العيد من سنن، وهم بأخذ طريقه التي بيت سلوكها، ولما اجتاز أبو الطيب بلبيس نزل على عبد العزيز بن يوسف القيسي فأضافه وأكرمه وسيره، وقد كتب إليه الشاعر أبياته التي أولها:
جزى عربا أمست ببلبيس ربها
بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
وكان الشاعر يعرف عبد العزيز من قبل، وله فيه أبياته الثلاثة التي أولها:
لئن مر بالفسطاط عيشي فقد حلا
بعبد العزيز الماجد الطرفين
ولا ريب في أن كافورا ثار لما بلغته القصيدة التي قالها الشاعر ليلة العيد، ولا ريب كذلك أنه غضب لرحيله، وتوجس خيفة من هجائه المر الذي سوف يلاحق بعضه بعضا، ويقول بعض الرواة: إن كافورا أتبع الشاعر بالخيل والرجل، وكتب إلى عماله؛ ليسدوا عليه الطرق.
وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجة الطير حتى خرج إلى مساء يعرف بنحل بعد أيام، فلقي عنده في الليل ركبا وخيلا صادرة عن كافور فأخذهم وتركهم، ولما قرب من النقاب رأى رائدين لبني سيلم على قلوصين، فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما، فذكرا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين، فلما أمنهما استبقاهما ورد عليهما متاعهما، وسار معهما حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل، فأكرمه ملاعب بن أبي النجم وذبح له، ثم غدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس، وهناك أكرمه عفيف المعنى وذبح له. ثم غدا من عنده فسار يومه وبعض ليلته، وعند الصباح دخل حسمى، وهي أرض طيبة خصبة، وبها جبال شاهقة.
وكان بنو فزارة شاتين بها، فنزل الشاعر بقوم من عدي فزارة، وطاب له المقام فلبث شهرا. ثم ظهر له فساد عبيده - وكان كافور قد كتب لمن حوله من العرب ووعدهم - فأنفذ رسولا إلى فتى بني فزارة ثم من بني مازن، وهم قوم يؤثر عنهم رعاية الجوار. ثم سار إليه في الليل، والقوم لا يعلمون رحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض فأخذ طريق البياض حتى بلغ رأس الصوان قتوقف، وأنفذ رسولا إلى عرب بين يديه، وأراد أحد عبيده أن يخونه فضرب أبو الطيب وجهه بالسيف، وأمر الغلمان فقطعوه، وفي ذلك العبد قال أبو الطيب:
أعددت للغادرين أسيافا ... ... ... إلخ
ويقول ارتجالا في هجاء وردان:
إن تك طيئ كانت لئاما
فألأمهم ربيعة أو بنوه
إلى آخر الأبيات.
وكان رسول أبي الطيب قد عاد إليه وليس معه خبر عن العرب التي طلبها، فسار على بركة الله إلى دومة الجندل، وذلك لإشفاقه من أن تكون عليه عيون بحسمى تعلم أنه يريد البياض، وورد الشاعر البويرة بعد ثلاث ليال، ولما توسط الشاعر بسيطة - وهي أرض بقرب الكوفة - رأى بعض عبيده ثورا، فقال: هذه منارة الجامع، ونظر آخر إلى نعامة، فقال: هذه نخلة، فضحك أبو الطيب وقال:
بسيطة مهلا سقيت القطارا
تركت عيون عبيدي حيارى
إلى آخر الأبيات.
وورد العقدة بعد ليال، واجتاز ببني جعفر بن كلاب وهو بالبرية فبات فيهم، ثم دخل الكوفة في شهر ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
ولم يسلك أبو الطيب من مصر إلى الكوفة الطريق المعهودة، فقد سار «على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل الأواجن» كما يقول صاحب الإيضاح، وهو بذلك يؤيد ما ادعى في شعره من الجرأة والدربة على الأسفار بالليل والنهار.
وكانت أولى قصائد الشاعر في الكوفة هي التي أولها:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدى كل ماشية الهيدبى
وقد عدد فيها المواضع التي مر بها في سيره، وفخر، وهجا كافورا ... وقد استغرقت رحلته من الفسطاط إلى الكوفة ثلاثة أشهر، وكان رجوع الشاعر الفحل إلى بلده ومسقط رأسه بعد غيبة طويلة عدتها ثلاثون سنة.
ولم يستطع الشاعر - وقد بارح الديار المصرية - أن ينسى صديقه أبا شجاع فاتك، ولا أن يحرر قلبه من التحسر عليه والأسى لفقده، ولم يستطع كذلك إلا أن يفيض نقمة على كافور وكراهة وبغضاء، وقد رثى فاتكا في ثلاث قصائد. أنشأ أولاها بعد خروجه من مصر، وأولها:
الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصي طيع
وأنشأ ثانيتها في الكوفة، وقد أخرج تفاحة من الند عليها اسم فاتك، وأولها:
يذكرني فاتكا حلمه
وشيء من الند فيه اسمه
وأنشأ الثالثة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، بعد خروجه من بغداد، وأولها:
حتام نحن نساري النجم في الظلم
وما سراه على خف ولا قدم
وشاء الشاعر أن يهجو كافورا أقذع الهجاء، وأن يطلق من صدره جذوة مشتعلة من النقمة البالغة، وذلك لأنه لم ينل عنده ما يبتغي، ولأنه وعده فأخلفه، ولأنه حبسه عن الرحيل، ولأنه - في كل ذلك - أهله لشماتة الأعداء والحاسدين.
وقد ضمن الشاعر ثلاث قصائد - تضمنت أغراضا أخرى - هجاء كافور وهي قصيدة العيد التي تقدم ذكرها، والقصيدة التي وصف فيها سيره من مصر إلى الكوفة، والقصيدة العينية التي رثى بها فاتكا، وقد تقدم ذكرهما أيضا. ثم ضمن هجاءه كذلك، القطعة التي رثى بها فاتكا حين أذكرته به تفاحة الند.
وخصص الشاعر غير ذلك - لهجاء كافور - ست قطع فيها أربع وأربعون بيتا. منها القطعة التي أولها:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
ومنها القطعة التي أولها:
أنوك من عبد ومن عرسه
من سلط العبد على نفسه
ومنها القطعة التي أولها:
وأسود أما القلب منه فضيق
نخيب وأما بطنه فرحيب
وقد نظمت في شوال سنة خمسين وثلاثمائة.
ومنها القطعة التي أولها:
لو كان ذا الآكل أزوادنا
ضيفا لأوسعناه إحسانا
وقد نظمت حينما هم بالرحيل عن مصر. •••
وكانت العراق لما قدمها أبو الطيب في أيدي بني بويه، وقد نشأت دولة بني بويه هذه في أوائل القرن الرابع الهجري، فتعاون الإخوة الثلاثة: علي والحسن وأحمد على التسلط في فارس والعراق، واستولى أصغرهم أحمد على بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة؛ فمنحهم الخليفة المستكفي بالله الولاية على ما بأيديهم، ولقب عليا عماد الدولة، والحسن ركن الدولة، وأحمد معز الدولة. وبقي ملك بني بويه على العراق حتى سنة سبع وأربعين وأربعمائة حين استولى عليه السلاجقة.
ولم يكد معز الدولة يمكث في العراق أسابيع، حتى خلع الخليفة وسمل عينيه، وولى مكانه الخليفة المطيع، وانتقل بذلك الملك جملة من أيدي الخلفاء إلى أيدي البويهيين، وكان ذلك إيذانا بالخراب والدمار، وانتشار الظلم والطغيان، والفوضى الآخذة بالعنان.
وقدم أبو الطيب العراق بعد ستة عشر عاما من استيلاء معز الدولة عليها، وأقام بالكوفة التي هجرها من قبل مرارا فرارا من القرامطة والأعراب، فشهد بعد سنتين غارة بني كلاب عليها، وشارك هو في الحرب والدفاع عنها.
وكان يلي الوزارة الحسن بن محمد المعروف بالوزير المهلبي، وكان أديبا شاعرا اجتمع حوله أدباء، منهم القاضي التنوخي، وأبو الفرج الأصفهاني، وشعراء منهم السري الرفاء، وكان جوادا مسرفا كلفا باللهو والمجون.
وقد لبث أبو الطيب بالعراق ثلاث سنين منذ قدمها حتى غادرها إلى فارس سنة أربع وخمسين - وكانت إقامته بالكوفة - وقد سافر في أثناء ذلك إلى بغداد مرة أو يزيد. ثم قدمها بعد في طريقه إلى فارس، ولا ندري ما فعله بالكوفة إلا ما يحصل بقوله الشعر، ففي جمادى الثانية سنة ثلاث وخمسين هجا ضبة بن يزيد العيني، ويروى أن ابن يزيد العيني هذا جاء من سفاح، يغدر بكل من نزل به وأكل معه وشرب، وكان أبو الطيب قد نزل بالطف بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد، واستركبوه فلزمه السير معهم، فدخل العبد الحصن، وأخذ يشتمهم أياما من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمي أبا الطيب ويشتمه، وأراد القوم أن يجيبوه بمثل ألفاظه، وسألوا أبا الطيب ذلك فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضا لم يفهم، ولم يعمل فيه عمل التصريح؛ فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو فقال ... إلخ.
وفي هذه القصيدة أقذع المتنبي غاية الإقذاع، وفاض حقده فغمر القصيدة وأفعمها.
وجاء في شرح ابن جني: أن أبا الطيب أنكر إنشاد هذه القصيدة، وقال الواحدي مثل ذلك.
ثم وقعت بعد ذلك حوادث بالكوفة اشترك فيها أبو الطيب وقاتل، ومدح قائد الجيش الذي قدم من بغداد؛ لصد غارة الأعراب من بني كلاب على الكوفة، وكان أبو الطيب قبل قدوم ذلك القائد يقود الجيش المدافع عن المدينة لعدة أيام، فلما حضر جيش بغداد كان بنو كلاب قد رحلوا عن الكوفة، فنزل القائد وأنفذ إلى أبي الطيب ثيابا نفيسة من ديباج وخز، فأنشده هذه القصيدة في الميدان وهما على فرسيهما، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين، وأول القصيدة:
كدعواك كل يدعي صحة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
وخرج أبو الطيب من الكوفة - قبل أن يبرحها إلى فارس - في شعبان سنة اثنتين وخمسين، قاصدا بغداد، وفيها لقي الوزير المهلبي، ويرجح أنه أقام بها من جمادى الآخرة إلى شعبان، أو قبل ذلك بقليل، وقد نزل فيها بدار علي بن حمزة البصري اللغوي الذي روى ديوانه، وبقي ضيفه إلى أن رحل عنها، ولم يطل فيها مقامه.
وكان ببغداد معز الدولة بن بويه والوزير المهلبي.
وقد زار أبو الطيب المهلبي، وجلس معه مرتين، ولكنه لم يمدحه، ولا هو مدح معز الدولة، وقد كان أبو الطيب يود مدح المهلبي، وأن يتخذه سبيلا إلى معز الدولة، وإنما صده عن ذلك ما سمعه عنه من تماديه في السخف واستهتاره واستيلاء أهل الخلاعة عليه، وقد أغرى المهلبي بالمتنبي شاعرا ماجنا هو ابن حجاج فعلق بلجام دابته وقد تكأكأ الناس عليه، وأخذ ينشده:
يا شيخ أهل العلم فينا ومن
يلزم أهل العلم توقيره
فلم يحفل به المتنبي، وانصرف إلى منزله.
وقد كان الوزير المهلبي راغبا في مدح أبي الطيب، مغيظا محنقا من إغفاله إياه، وقد روي أنه أحضر علي بن يوسف البقال فأنشده في حضرة المتنبي، فقال المتنبي: «ما رأيت ببغداد من يجوز أن يقطع عليه اسم شاعر إلا ابن البقال.»
ولما كان الوزير المهلبي وسيلة الشاعر إلى معز الدولة، فإن الشاعر لم يجد إلى معز الدولة من سبيل، ولم يمدحه تبعا لذلك.
ولم يشأ المهلبي أن ينسى إساءة الشاعر إليه وإغفاله إياه، فأغرى به جماعة من شعراء بغداد، حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه، ومنهم ابن الحجاج، وابن سكرة الهاشمي، والحاتمي. فلم يجبهم المتنبي ولا حفل بهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني قد فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
وقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول
إلى آخر الأبيات.
وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
ومما كان بين أبي الطيب وبين أعوان المهلبي ما حكاه الحاتمي من مناظرته لأبي الطيب ببغداد، ولا ريب أن الحاتمي كذب في ذلك على خصمه، وبالغ في دعواه إرضاء للمهلبي، وقد قال ياقوت عن الحاتمي هذا: إنه كان مبغضا لأهل العلم، وفي الفترة التي أقامها الشاعر ببغداد، قرئ عليه ديوانه وسمعه جماعة، منهم علي بن حمزة البصري، وابن جني، والقاضي أبو الحسن المحاملي.
وشاء الله أن يعاود قلب الشاعر الكبير الحنين إلى الأمير العربي الجليل سيف الدولة بن حمدان، فإنه لما سمع سيف الدولة بخروج أبي الطيب من مصر مراغما كافورا، وبلوغه الكوفة، كاتبه معرضا برجوعه إلى حلب، ثم أهدى إليه هدايا متعاقبة. فأجابه أبو الطيب في شوال سنة اثنتين وخمسين بقصيدته التي مطلعها:
ما لنا كلنا جو يا رسول
أنا أهوى وقلبك المتبول
وفيها يبين حزن الشاعر، ومعاودته مدح الأمير الهمام، وقد قالها لما بلغه خروج سيف الدولة - وهو مريض - للقاء الروم، ورجوعهم عن غزو طرسوس.
ثم توفيت أخت سيف الدولة الكبرى في جمادى الثانية سنة اثنتين وخمسين، وورد العراق خبرها، فقال الشاعر في شعبان قصيدته:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
كناية بهما عن أشرف النسب
فكان لهذا الرثاء أبلغ الأثر في نفس سيف الدولة، فأرسل إلى الشاعر هدية ومالا وأمانا بخطه وكتابا يستدعيه، فكتب أبو الطيب في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين قصيدته التي مطلعها:
فهمت الكتاب أبر الكتب
فسمعا لأمر أمير العرب
وبعد أن عاد الشاعر إلى الكوفة ولبث فيها عاود الذهاب إلى بغداد، في طريقه إلى فارس قاصدا ابن العميد، وقد بارح بغداد للمرة الثانية في صفر سنة أربع وخمسين، وذلك بعد مبارحته لها في المرة الأولى بسنة وخمسة أشهر، وقد أخذ طريق الأهواز وبها لقيه التنوخي، وبلغ أرجان في الشهر نفسه. فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن؛ فضرب بيده على صدره، وقال: تركت ملوك الأرض يتعبدون بي، وقصدت رب هذه المدرة فما يكون منه؟ ثم وقف بظاهر المدينة، وأرسل غلاما على راحلته إلى ابن العميد، ودخل عليه، وقال: مولاي أبو الطيب خارج البلد، فثار من مضجعه ثم أمر حاجبه باستقباله. فركب واستركب من لقيه في الطريق، فتلقوا الشاعر وقضوا حقه وأدخلوه البلد، فدخل على أبي الفضل بن العميد فقام له، وطرح له كرسي عليه وسادة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقا إليك يا أبا الطيب.
وقد أفرد أبو الفضل له دارا نزلها، وكان يغشى أبا الفضل كل يوم ويؤاكله، وابن العميد هذا - كما لا يخفى - هو الأديب الكبير أبو الفضل ابن العميد، وزير عضد الدولة، وقد كان أبو الفضل ناقما على الشاعر من قبل لأنه لم يمدحه، وكان يريد أن يخمل ذكره، حتى إنه ليروى أن بعض أصحابه دخل عليه يوما قبل دخول المتنبي فوجده واجما - وكانت أخته قد ماتت - فظنه واجدا لأجلها، فسأله الخبر، فقال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمل ذكره، وقد ورد علي نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
ويروى أن ابن العميد لم يرسل إلى المتنبي ليدعوه، ولكن الذي لا ريب فيه أنه فرح بمقدمه وطرب لمدحه، فذلك كان أملا من آماله، وأمنية من أمنياته المعسولات.
وقد لبث الشاعر شهرين عند ابن العميد، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه، ويتعجب من حفظه، وغزارة علمه، ومدحه الشاعر بثلاث قصائد، كانت أولاها القصيدة التي مطلعها:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك ما لم يجر دمعك أو جرى
وكانت ثانيتها القصيدة التي مدحه بها في النوروز، وهي التي أولها:
جاء نيروزنا وأنت مراده
وورت بالذي أراد زناده
وفيها يتواضع الشاعر ويتحذر، كأنما أحس بأنه يخاطب بها أديبا كبيرا متميزا على غيره من الممدوحين:
وبعد هذه القصيدة - وقبل القصيدة الثالثة - قطعتان قال الشاعر إحداهما حين ورد، كتاب من أبي الفتح بن أبي الفضل ابن العميد، وأولها:
بكتب الأنام كتاب ورد
فدت يد كاتبه كل يد
وثانيتهما قالها يصف مجمرة رآها عند ابن العميد، وأولها:
أحب امرئ حبت الأنفس
وأطيب ما شمه معطس
ثم تأتي بعد ذلك القصيدة الثالثة، التي يودع فيها الشاعر أبا الفضل ابن العميد، وهي التي مطلعها:
نسيت وما أنسى عتابا على الصد
ولا خفرا زادت به حمرة الخد
وما كاد المتنبي - بعد قصيدة الوداع - يتأهب للرحيل إلى أهله بالكوفة حتى جاء ابن العميد كتاب من عضد الدولة في طلب المتنبي، فأنبأه ابن العميد به فقال: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل: عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به، فأجاب: بأني ملقى من هؤلاء الملوك أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عرضا فانيا، ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه. فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث، فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن.
وكان عضد الدولة بصيرا بالأدب، له شعر جيد، وكانت دولة بني بويه عامة دولة للأدب العربي، فتولى الوزارة لهم ابن العميد والصاحب والمهلبي.
وسار المتنبي من أرجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي صاحب كتاب حدائق الآداب، ثم دخل البلد فأنزل دارا مفروشة، ولما نفض غبار السفر واستراح ركب إلى عضد الدولة فتوسط الدار وانتهى إلى قرب السرير فقبل الأرض واستولى قائما، وقال: شكرت مطية حملتني إليك، وأملا وقف بي عليك.
وأنشأ أبو الطيب عند عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة وقطعة، وأولى هذه القصائد هي:
أوه بديل من قولتي واها
لمن نأت والبديل ذكراها
وهي التي يعزي بها عضد الدولة في وفاة عمته، وكانت قد توفيت ببغداد، وثانية القصائد هي التي أولها:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
وفيها يحن الشاعر إلى العربية التي افتقدها في فارس فما وجد لها أثرا.
ووصل عضد الدولة الشاعر صلات كثيرة، قدرت بأكثر من مائتي ألف درهم، ولما استأذنه في المسير أمر أن يخلع عليه ويقاد إليه ويوصل بالمال الكثير، وقد ظهر أثر ذلك في شعر المتنبي.
وأقام أبو الطيب في شيراز زهاء ثلاثة أشهر، وقرئ عليه ديوانه، ثم أنشد قصيدة الوداع في شعبان سنة أربع وخمسين، وفيها يطنب في شكر الأمير، ويرغب في الرجوع إليه، ويحن إلى أهله، ثم يتوقع أن شرا سيصيبه في طريقه، وهي القصيدة التي أولها:
فدى لك من يقصر عن مداكا
فلا ملك إذن إلا فداكا
وكان خروج أبي الطيب من شيراز، في الثامن من شعبان، قاصدا بغداد فالكوفة، وسار الشاعر بمراكبه وأحماله وغلمانه حتى بلغ الأهواز، فقطع بذلك واحدا وخمسين فرسخا، ثم سار خمسين فرسخا أخرى حتى بلغ واسط ونزل بها، وبين واسط وبغداد زهاء أربعين فرسخا، كان على الشاعر أن يجتازها قبل أن يصل مدينة السلام، وعلى الطريق إليها بلاد ذكر منها في الروايات التي وردت عن مقتل أبي الطيب: النعمانية، ودير العاقول، والصافية؛ فأما النعمانية فهي في وسط الطريق، وهي قائمة اليوم على الشاطئ الغربي من دجلة، وإلى الجنوب الشرقي من «دير العاقول» وعلى مقربة منه دير قنى أو «قنة» وهو يبعد عن الشاطئ قليلا، وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخا، وأمام دير العاقول «الصافية» وهي على فرسخين جنوب شرقي دير العاقول.
وسار أبو الطيب من واسط قاصدا بغداد في طريقه إلى الكوفة في اليوم السابع عشر من رمضان، وفي ذلك اليوم كتب عنه علي بن حمزة البصري - على روايته - القصيدتين الأخيرتين في شعره.
وبلغ جبل بعد أن قطع زهاء سبعة عشر فرسخا، فنزل عند أبي نصر الجبلي، ثم أخذ طريقه حتى أصبح حيال النعمانية، ثم سار فمر بجرجرايا على أربعة فراسخ من الجنوب الشرقي من دير العاقول، وتقدم بعد ذلك حتى قارب الصافية وبينه وبين بغداد ستة عشر فرسخا، وهنالك خرج عليه فاتك بن أبي جهل الأسدي خال ضبة بن يزيد الذي هجاه أبو الطيب، وكان فاتك في نيف وثلاثين فارسا رامحين وناشبين، ولا ريب أنه كان يتربص لأبي الطيب؛ لينتقم لابن أخته ضبة، وليستولي على ما يحمله معه من ثروة، فقد روي أنه ومن معه كانوا ممن يقطعون طريق الحجاج.
وكان مع أبي الطيب ابنه محسد وغلمانه، وقد وصفهم من قبل في قصيدة رثاء فاتك الميمية، وفي قصيدة توديع ابن العميد، ولا شك أن غلمانه هؤلاء كانوا أقل عددا من عدوهم.
وقاتل الشاعر الشجاع حتى قتل، وقتل ابنه، ويقول صاحب الإيضاح: إنهم «قتلوا كل من معه» وإن كان ذلك يبدو بعيدا، ويروى أن أبا النصر قال : «ولما صح خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلمانه، وذهبت دماؤهم هدرا.»
ومن المرجح أن اليوم الذي أودى فيه الشاعر هو يوم الأربعاء الثامن والعشرون من رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة هجرية.
وقد رثى أبا الطيب من معاصريه، أبو الفتح عثمان بن جني بقصيدة أولها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب
وصوحت بعد ري دوحة الكتب
2
ورثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بأربعة أبيات رواها الثعالبي في اليتيمة، وأولها:
لا رعى الله سرب هذا الزمان
إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ورثاه ثابت بن هارون الرقي النصراني، وحرض عضد الدولة على عقاب من قتلوه بقصيدة أولها:
الدهر أخبث والليالي أنكد
من أن تعيش لأهلها يا أحمد
وقبل أن نختم سيرة المتنبي، نقول: إنه تزوج بعد سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ولكنا لا ندري متى تزوج، وكان له عيال حن إليهم في شعره وتشوق للقائهم، وقد ورد في أخبار المتنبي ذكر لابنه محسد، ولم يرد ذكر لغيره، ويرجح أن زوجه كانت من الشام. •••
ذلكم كان أبو الطيب المتنبي، الشاعر الذي خلد مع فنه الخالد وشعره الشاعر، ولا ريب أن القارئ أدرك من مجمل سيرته ما كان يدين به من خلق واضح الحدود، بين المعالم، فقد كان الشاعر - كما يبين في شعره - متكبرا أبيا معجبا بعيد الهمة، وكان شجاعا عظيم الإقدام، وقد سيطرت عليه أخلاقه هذه ولعبت بحياته، فجعلته متعاليا عن شعراء وقته عزوفا عن مسايرتهم في اللهو والمجون ومعاقرة الخمر، وكان كذلك صادق القول صريحه، قال علي بن حمزة: إنه لم يكذب قط، ومن آثار هذا أنه كان ينفر من التكلف ويفضل البداوة على التحضر.
وكان أبو الطيب عدا ذلك، حاقدا على الناس، يحقرهم، ويطوي كشحه لهم على الموجدة والضغينة، وذلك أثر من آثار اعتداده بنفسه وطموحه إلى السؤدد، ثم قصوره عن بلوغ أمله، على أنه - برغم هذا - كان وفيا لأصدقائه محبا لهم متأسيا لفراقهم، جازعا لموتهم، ثم كان في كل هذا حزين الطبع، ثائرا، يتنزى قلبه ألما وحسرة على ما أمل وفشل.
ومما أثر عن المتنبي أنه كان بخيلا، حريصا على المال؛ ليبلغ به غايته، ويستعين به على تحقيق آماله الجسام، وأحلامه الواسعة.
ولا نحسب الشاعر - ولم تسعده الحال في حياته على تحقيق مراده - إلا بالغا المبالغ في مماته، وواجدا فوق ما أمل وأراد، وكفاه خلودا أن يظل على الأيام صاحب الذكر الدائم، الباقي بقاء الضاد.
هوامش
ترجمة المتنبي
بقلم أحد معاصريه
وقد استحسنا - لمناسبة كتاب إيضاح المشكل من شعر المتنبي الذي ورد ذكره في هذه السيرة، لمصنفه أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني - أن نورد هنا ترجمة هذا الأصفهاني لأبي الطيب المتنبي. قال عبد القادر البغدادي صاحب خزانة الأدب: وهذه ترجمة المتنبي نقلتها من كتاب «إيضاح المشكل لشعر المتنبي من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني» وهذا الإيضاح قاصر على شرح ابن جني لديوان المتنبي، يوضح ما أخطأ فيه من شرحه، وهو ممن عاصر ابن جني، وألف الإيضاح لبهاء الدولة بن بويه قال: «وقد بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومغتربه، وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختتم أمره، ومقدمه على الملك - نضر الله وجهه - بشيراز وانصرافه عنه، إلى أن وقعت مقتلته بين دير قنة، والنعمانية، واقتسام عقائله وصفاياه ... حدثني ابن النجار ببغداد: أن مولد المتنبي كان بالكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف بيت، من بين رواء ونساج.
واختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العلوية
1
شعرا ولغة وإعرابا؛ فنشأ في خير حاضرة، وقال الشعر صبيا، ثم وقع إلى خير بادية - بادية اللاذقية، وحصل في بيوت العرب، فادعى الفضول الذي نبز به، فنمى خبره إلى أمير بعض أطرافها - فأشخص إليه من قيده وسار به إلى محبسه، فبقي يعتذر إليه ويتبرأ مما وسم به، في كلمته التي يقول فيها:
فما لك تقبل زور الكلام
وقدر الشهادة قدر الشهود
وفي جود كفك ما جدت لي
بنفسي ولو كنت أشقى ثمود
وقد هجاه شعراء وقته ، فقال الضبي:
الزم مقال الشعر تحظ بقربة
وعن النبوة، لا أبا لك، فانتزح
تربح دما قد كنت توجب سفكه
إن التمتع بالحياة لمن ربح
فأجابه المتنبي:
أمري إلي فإن سمحت بمهجة
كرمت علي فإن مثلي من سمح
وهجاه غيره فقال:
أطللت يا أيها الشقي دمك
بالهذيان الذي ملأت فمك
أقسمت لو أقسم الأمير على
قتلك قبل العشاء ما ظلمك
فأجابه المتنبي:
همك في أمرد تقلب في
عين دواة من صلبه قلمك
وهمتي في انتضاء ذي شطب
أقد يوما بحده أدمك
فاخس كليبا واقعد على ذنب
وأظل بما بين أليتيك فمك
وهو في الجملة خبيث الاعتقاد، وكان في صغره وقع إلى واحد يكني أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل، وأما ما يدل عليه شعره فمتلون، وقوله:
هون على بصر ما شق منظره
فإنما يقظات العين كالحلم
مذهب السوفسطائية، وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ، وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
مذهب الفضائية، وقوله في أبي الفضل بن العميد:
فإن يكن المهدي من بان هديه
فهذا، وإلا فالهدى ذا، فما المهدي
مذهب الشيعة، وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
إلا على شجب، والخلف في الشجب
فقيل: تخلد نفس المرء باقية
وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
فهذا من يقول بالنفس الناطقة، ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية، والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأسلمه الله - عز وجل - إلى حوله وقوته، وجد في الضلالات مجالا واسعا، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحا. ثم جئنا إلى حديثه وانتجاعه، ومفارقته الكوفة أصلا، وتطوافه في أطراف الشام، واستقرائه بلاد العرب، ومقاساته للضر وسوء الحال، ونزارة كسبه، وحقارة ما يوصل به، حتى إنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد - وكان لقي المتنبي دفعات في حال عسره ويسره - أن المتنبي قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم ، وأنشد في قوله مصداقا لحكايته:
انصر بجودك ألفاظا تركت بها
في الشرق والغرب من عاداك مكبوتا
فقد نظرتك حتى حان مرتحل
وذا الوداع، فكن أهلا لما شيتا
وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أول شعر قلته وابيضت أيامي بعده، قولي:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم
علمت بما بي بين تلك المعالم
فإني أعطيت بها بدمشق مائة دينار ... ثم اتصل بأبي العشائر، فأقام ما أقام ثم أهداه إلى سيف الدولة، فاشترط أنه لا ينشد إلا قاعدا وعلى الوحدة، فاستحملوه وأجابوه إليه. فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل، وعد ما طلبه استحقاقا.
وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني: أن المتنبي أسقط من شعره الكثير، وبقي ما تداوله الناس ... وأخبرني الحلبي أنه قيل للمتنبي: معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي. فأجاب المتنبي: الشعر جادة، وربما وقع حافر على حافر، وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين، ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما، فلما قتل توزعت دفاتره، فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس علي، وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه، وسمعت من قال: إن كافورا لما سمع قوله:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
يلتمس ولاية صيداء. فأجابه: لست أجسر على توليتك صيداء؛ لأنك على ما أنت عليه، تحدث نفسك بما تحدث؛ فإن وليتك صيداء، فمن يطيقك؟!
وسمعت أنه قيل للمتنبي: قولك لكافور:
فارم بي حيثما أردت فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ليس قول ممتدح ولا منتجع، إنما هو قول مضاد! فأجاب المتنبي إلى أن قال: هذه القلوب، كما سمعت أحدها يقول:
يقر بعيني أن أرى قصد القنا
وصرعى رجال في وغى أنا حاضره
وأحدها يقول:
يقر بعيني أن أرى من مكانها
ذرا عقدات الأجرع المتقاود
ثم أقام المتنبي عند سيف الدولة على التكرمة البليغة: في إسناء الجائزة، ورفع المنزلة، ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم، وتأثل حالا في جنبته بعد أن كان حويلة، وكان سيف الدولة يستحب الاستكثار من شعره والمتنبي يستقله ، وكان ملقى من هذه الحال، يشكوها أبدا، وبها فارقه حيث أنشده:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
وآخرها:
بأي لفظ يقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
وقال في أخرى:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
أراه غباري ثم قال له الحق!
فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى أقطاعه؛ فأذن له وامتد باسطا عنانه إلى دمشق، إلى أن قصد مصر فألم بكافور، فأنزله وأقام ما أقام، إلا أن أول شعره فيه دليل على ندمه لفراق سيف الدولة، وهو:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
حتى انتهى إلى قوله:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
وأخبرني بعض المولدين ببغداد، وخاله أبو الفتح يتوزر لسيف الدولة، أن سيف الدولة رسم لي التوقيع إلى ديوان البر بإخراج الحال فيما وصل به المتنبي، فخرجت بخمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين.
ثم لما أنشد الثانية كافورا خرجت موجهة يشتاق سيف الدولة، وأولها:
فراق، ومن فارقت غير مذمم
وأم، ومن يممت خير ميمم
وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الأخشيدي من الفيوم - وهي وبيئة، فنبت به واجتواها - وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جنيبة منعلة بالذهب؛ فسماه أهل مصر بفاتك المجنون. فلقيه المتنبي في الميدان على رقبة من كافور فقال:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
فوصل إليه من أنواع صلاته وأصناف جوائزه ما تبلغ قيمته عشرين ألف دينار، ثم مضى فاتك لسبيله، فرثاه المتنبي وذم كافورا:
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع!
فاحتال بعده في الخلاص من كافور، فانتهز الفرصة في العيد - وكان رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم، وتعد فيه الخلع والحملانات وأنواع المبار، لرابطة جنده وراتبة جيشه، وصبيحة العيد تفرق، وثاني اليوم يذكر له من قبل ومن رد واستزاد - فاهتبل المتنبي غفلة كافور، ودفن رماحه برا، وسار ليلته، وحمل بغاله وجماله وهو لا يألو سيرا وسرى هذه الليلة مسافة أيام؛ حتى وقع في تيه بني إسرائيل؛ إلى أن جازه على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل، والمناهل الأواجن، ونزل الكوفة، وقال يقص حاله:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدا كل ماشية الهيذبى
وفيها يقول:
ضربت بها التيه ضرب القما
ر: إما لهذا، وإما لذا
ثم مدح بالكوفة دلير بن لشكروز، وأنشده في الميدان؛ فحمله على فرس بمركب ذهب.
وكان السبب في قصده، أبا الفضل بن العميد - على ما أخبرني أبو علي بن شبيب القاشاني - وكان أحد تلامذتي، ودرس علي بقاشان سنة ثلاثمائة وسبعين وتوزر للأصبهبد بالجبل وأبوه أبو القاسم توزر لوشمكير بجرجان - عن العلوي العباسي نديم أبي الفضل بن العميد الذي يقول فيه:
أبلغ رسالاتي الشريف، وقل له:
قدك اتئد أربيت في الغلواء
إن المعروف المطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل، وسار إلى خراسان وحمل القصيدة، أعني قصيدة المتنبي إلى أبي الفضل، وزعم أنه رسوله، فوصله أبو الفضل بألفي درهم، واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد، فقال: رجل يعطي لحامل شعري هذا، فما تكون صلته لي؟ وكان ابن العميد يخرج في السنة من الري خرجتين إلى أرجان، يجبي بها أربع عشرة مرة ألف ألف درهم. فنما حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرجان، فلما حصل المتنبي ببغداد نزل ربض حميد، فركب إلى المهلبي، فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه، وصاعد خليفته دونه، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني، فأنشدوا هذا البيت:
سقى الله أمواها عرفت مكانها
جراما وملكوما وبذر فالغمرا
وقال المتنبي: هو جرابا، وهذه أمكنة قتلتها علما، وإنما الخطأ وقع من النقلة! فأنكره أبو الفرج، قال الشيخ: هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جراما، بالميم، وهو الصحيح وعليه علماء اللغة، وتفرق المجلس عن هذه الجملة، ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل ، وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف ، واستهتاره بالهزل، واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس صعب الشكيمة حادا مجدا فخرج، فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق لجام دابته في صينبة الكرخ وقد تكابس الناس عليه من الجوانب، وابتدأ ينشد:
يا شيخ أهل العلم فينا ومن
يلزم أهل العلم توقيره
فصبر عليه المتنبي ساكنا ساكتا، إلى أن نجزها، ثم خلى عنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله، وقد تيقن استقرار أبي الفضل ابن العميد بأرجان وانتظاره له فاستعد للمسير.
وحدثنا أبو الفتح عثمان بن جني عن علي بن حمزة البصري قال: كنت مع المتنبي لما ورد أرجان، فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي، وقصدت رب هذه المدرة، فما يكون منه! ثم وقف بظاهر المدينة، وأرسل غلاما على راحلته إلى ابن العميد، فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيب المتنبي خارج البلد - وكان وقت القيلولة، وهو مضطجع في دسته - فثار من مضجعه واستثبته، ثم أمر حاجبه باستقباله، فركب واستركب من لقيه في الطريق، ففصل عن البلد بجمع كثير، فتلقوه وقضوا حقه وأدخلوه البلد. فدخل على أبي الفضل، فقام له من الدست قياما مستويا، وطرح له كرسي عليه مخدة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقا إليك يا أبا الطيب، ثم أفاض المتنبي في حديث سفره، وأن غلاما له احتمل سيفا وشذ عنه، وأخرج من كمه عقيب هذه المفاوضة درجا فيه قصيدته:
باد هواك صبرت أو لم تصبرا
فوحى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاس فيه مائتا دينار، وسيف غشاؤه فضة، وقال: هذا عوض عن السيف المأخوذ، وأفرد له دارا نزلها، فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبا الفضل كل يوم، ويقول: ما أزورك إكبابا إلا لشهوة النظر إليك! ويؤاكله، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه، ويتعجب من حفظه وغزارة علمه، فأظلهم النيروز فأرسل أبو الفضل بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب وما سمعته دونه، فلم يحر جوابا، إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئا ومعتذرا فقال:
هل لعذري إلى الهمام أبي الفض
ل قبول، سواد عيني مداده
فأخبرني البديهي، سنة ثلاثمائة وسبعين: أن المتنبي قال بأرجان: الملوك قرود يشبه بعضهم بعضا، على الجودة يعطون، وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار، سوى توابعها، وهو من أجاود زمان الديلم، وكذلك أبو المطرف وزير مرداويج، قصده شاعر من قزوين فأنشده وأمله مادة نفقة يرجع بها إلى بلده، فكتب إليه أبياتا أولها:
أأقلام بكفك أم رماح
وعزم ذاك، أم أجل متاح
فقال أبو المطرف: أعطوه ألف دينار، وكذلك أبو الفضل البلعمي وزير بخارى أعطى المطراني الشاعر على قصيدته التي أولها:
لا شرب إلا بسير الناي والعود
خمسة عشر ألف دينار، وكذلك خلف صاحب سجستان، أعطى أبا بكر الحنبلي خمسة آلاف دينار على كلمة فيه، وكان سيف الدولة لا يملك نفسه، وكان يأتيه علوي من بعض جبال خراسان كل سنة فيعطيه رسما له جاريا على التأبيد، فأتاه وهو في بعض الثغور، فقال للخازن: أطلق له ما في الخزانة، فبلغ أربعين ألف دينار، فشاطر الخازن وقبض عشرين ألف دينار، إشفاقا من خلل يقع على عسكره في الحرب، وأخبرني بعض أهل الأدب أنه تعرض سائل لسيف الدولة وهو راكب، فأنشده في طريقه:
أنت علي وهذه حلب
قد فنى الزاد وانتهى الطلب
فأطلق له ألف دينار، وتعرض سائل لأبي علي بن إلياس وهو في موكبه فأمر له بخمسمائة دينار، فجاءه الخازن بالدواة والبياض، فوقع بألفي دينار؛ فلما أبصره الخازن راجعه فيها فقال أبو علي: الكلام ريح، والخط شهادة، ولا يجوز أن يشهد علي بدون هذا ...
ثم إن أبا الطيب المتنبي لما ودع أبا الفضل بن العميد، ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه، فعرفه ابن العميد فقال المتنبي: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به، فأجاب بأني ملقى من هؤلاء الملوك: أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عرضا فانيا، ولي ضجرات واختيارات، فيعوقونني عن مرادي، فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجود! فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث. فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن. فسار المتنبي من أرجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز، استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب. فلما تلاقيا وتسايرا، استنشده فقال المتنبي: الناس يتناشدون فاسمعه. فأخبر أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي. فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدا كل ماشية الهيدبى
ثم دخل البلد فأنزل دارا مفروشة، ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى، وأنشده أبياتا من كلمته، وهي:
فلما أنخنا ركزنا الرما
ح حول مكارمنا والعلا
وبتنا نقبل أسيافنا
ونمسحها من دماء العدا
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
فقال عضد الدولة: هونا، يتهددنا المتنبي! ...
ثم لما نفض غبار السفر واستراح، ركب إلى عضد الدولة؛ فلما توسط الدار انتهى إلى قرب السرير مصادمة، فقبل الأرض، واستوى قائما وقال: شكرت مطية حملتني إليك، وأملا وقف بي عليك. ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر، وعن علي بن حمدان، فذكره وانصرف وما أنشده. فبعد أيام حضر السماط وقام بيده درج، فأجلسه عضد الدولة وأنشد:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
فلما أنشدها وفرغوا من السماط، حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية الأمنان من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد فرسه الملقب بالمجروح - وكان اشتري له بخمسين ألف شاة - وبدرة دراهمها عدلية، ورداء حشوه ديباج رومي مفصل، وعمامة قومت بخمسمائة دينار، ونصلا هنديا مرصع النجاد والجفن بالذهب، وبعد ذلك كان ينشده في كل حدث يحدث قصيدة، إلى أن حدث يوم نثر الورد. فدخل عليه والملك على السرير في قبة يحسر البصر في ملاحظتها، والأتراك ينثرون الورد، فمثل المتنبي بين يديه، وقال: ما خدمت عيني قلبي كاليوم؟ وأنشأ يقول:
قد صدق الورد في الذي زعما
أنك صيرت نثره ديما
كأنما مائح الهواء به
بحر حوى مثل مائه عنما
فحمل على فرس بمركب، وألبس خلعة ملكية، وبدرة بين يديه محمولة، وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إليه، وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه، فقال: كنت حاضره، وقام ابنه يلتمس أجرة الغسال، فأحد المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال! يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء: يطبخ قدره، وينعل فرسه، ويغسل ثيابه؟ ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة.
وورد كتاب أبي الفتح ذي الكفايتين بن أبي الفضل - وكان من أجاود زمان الديلم، فرق في يوم واحد بشبديز قرميسين، ألفين وخمسمائة قطعة إبريسم - ومضمونه كتاب الشوق إلى لقاء المتنبي وتشوفه إلى نظرته فأجابه المتنبي:
يكتب الأنام كتاب ورد
فدت يد كاتبه كل يد
فلما عاد الجواب إلى أبي الفتح، جعل الأبيات سورة يدرسها، ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه ... فقال أبو محمد بن أبي الثبات البغدادي:
لوارد شعر كذوب البرد
أتانا به خاطر قد جمد
فأقبل يمضغه بعضنا
وهم السنانير أكل الغدد
وقالوا: جواد يفوق الجياد
ويسبق من عفوه المقتصد
ولو ولي النقد أمثاله
لظلت خفافيشنا تنتقد
فاستخف أبو الفتح به وجره برجله ففارقهم وهاجر إلى أذربيجان، والأمير أبو سالم ديسم بن شادكويه على الإمرة، فاتصل به وحظي عنده على غاية الإكرام.
وقال عضد الدولة: إن المتنبي كان جيد شعره بالغرب، فأخبر المتنبي به فقال: الشعر على قدر البقاع ...
وكان عضد الدولة جالسا في البستان الزاهر يوم زينته، وأكابر حواشيه وقوف. فقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكاري: ما يعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين. فقال عضد الدولة: لو حضر المتنبي لناب عنهما، فلما أقام مدة مقامه وسمع ديوان شعره. ارتحل وسار بمراكبه وظهوره وأثقاله وأحماله إلى أن نزل الجسر بالأهواز، وأخبرنا أبو الحسن السوسي في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي، وورد علينا المتنبي ، ونزل عن فرسه ومقوده بيده، وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق، وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة فحضرته أنا وقلت: قد أقمت للشيخ نزلا. فقال المتنبي: إن كان تم فآتيه. ثم جاءه فاتك الأسد بجمع وقال: قدم الشيخ في هذه الديار وشرفها بشعره، والطريق بينه وبين دير قنة خشن قد احتوشته الصعالكة، وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي: ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق! فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا، سبعين رجلا ورصد له، فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته، وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه، وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وجز رأسه، وصبوا أمواله يتقاسمونها بطرطورة:
وقال بعض من شاهده: إنه لم تكن فيه فروسية، وإنما كان سيف الدولة سلمه إلى النخاسين والرواض بحلب، فاستجرأ على الركض والحضر فأما استعمال السلاح فلم يكن من عمله.
وجملة القول فيه: أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر، وكل ما في كلامه من «الغريب المصنف» سوى حرف واحد هو في «كتاب الجمهرة» وهو قوله:
يطوي المجلحة العقد
2
وأما الحكم عليه وعلى شعره: فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه؛ وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به، يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البدع، وفي متن شعره وهي، وفي ألفاظه تعقيد وتعويص.» ا.ه كلامه مع بعض اختصار.
هوامش
شراح المتنبي
وإليك تراجم بعض شراح المتنبي، ممن ورد ذكرهم في هذا الشرح ... وقولنا هنا: «شراح المتنبي» إنما هو ضرب من التسامح؛ لأن منهم من لم يضع شرحا بالمعنى المتعارف؛ أي إنهم لم يضعوا شروحا تامة كاملة، وإنما تصدوا لشرح بعض مشكلات الأبيات، أو لنقد بعض الشراح فيما ذهبوا إليه من شرح وتفسير أو لسرقات المتنبي، مثل أبي السعادات بن الشجري ، وابن فورجه، وأبي الفضل العروضي، وابن وكيع، والصاحب ابن عباد، وأبي بكر الخوارزمي، ولم نتبسط في هذه التراجم، ولم ننهج فيها منهجا تحليليا يخرج بنا عما قصدنا إليه منها وهو التعريف بمن تتعثر بأسمائهم في هذا الشرح حتى تكون على بصيرة تامة بكل ما يتصل بهذا الشاعر المحظوظ، ومن ثم لم نعد أن نسرد لك في هذه التراجم تاريخ مولد المترجم له، وتاريخ وفاته، وطرفا من أخباره وسيرته وتواليفه ومكانته العلمية وآراء الناس فيه.
ابن جني
أظنني في غير حاجة إلى التعريف بأن أبا الفتح عثمان بن جني هو أول من شرح المتنبي، فله بذلك فضل السبق، ومن ثم كان حقيقا بأن نبدأ بترجمته ... •••
جاء في معجم الأدباء لياقوت وفي وفيات الأعيان لابن خلكان ما تلخيصه:
أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي: كان أبوه جني مملوكا روميا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي - أقول: فهو إذن من أبناء يونان، لا من أبناء عدنان، وبعبارة أخرى: هو من أبناء الموالي، شأنه شأن أكثر حملة العلم، ونوابغ الشعراء والأدباء في الإسلام - وإلى أصله أشار بقوله:
فإن أصبح بلا نسب
فعلمي في الورى نسبي
على أني أئول إلى
قروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا
أرم الدهر ذو الخطب
1
أولاك دعا النبي لهم
كفى شرفا دعاء نبي
ولد ابن جني بالموصل قبل الثلاثين والثلاثمائة للهجرة، وتوفي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة 392ه ببغداد، وكان أبو الفتح ممتعا بإحدى عينيه، وما أظرفه حين يقول لأحد أصدقائه:
صدودك عني ولا ذنب لي
دليل على نية فاسده
فقد وحياتك مما بكيت
خشيت على عيني الواحده
ولولا مخافة ألا أراك
لما كان في تركها فائده
وحدثوا أنه صحب أبا علي الفارسي
2
أربعين سنة، وكان السبب في صحبته له: أن أبا علي اجتاز بالموصل، فمر بالجامع وأبو الفتح في حلقة يقرئ النحو وهو شاب، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف فقصر فيها، فقال له أبو علي: تزببت وأنت حصرم ... فسأل عنه، فقيل له: هذا أبو علي الفارسي، فلزمه من يومئذ، واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله، وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه؛ فلما مات أبو علي تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد، فأخذ عنه كثير من أعلام العلماء ... وحدث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني يحضر بحلب عند المتنبي كثيرا، ويناظره في شيء من النحو من غير أن يقرأ عليه شيئا من شعره، أنفة واستكبارا لنفسه، وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس ... وسئل المتنبي بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدو كاثراه
له ياءي حروف أنيسيان
3
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضرا لفسره ... وكان لابن جني من الولد علي وعال وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء قد خرجهم والدهم وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط ... ولابن جني شعر - ولكنه كسائر شعر العلماء - فمنه:
غزال غير وحشي
حكى الوحشي مقلته
رآه الورد يجني الور
د فاستكساه حلته
وشم بأنفه الريحا
ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريحه الصهبا
ء فاختلسته نكهته
4
وقال الباخرزي في دمية القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما له، وما كنت أعلم أنه ينظم القريض، أو يسيغ ذلك الجريض
5
حتى قرأت له مرثية في المتنبي أولها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب
وصوحت بعد ري دوحة الكتب
6
ما زلت تصحب في الجلى إذا انشعبت
قلبا جميعا وعزما غير منشعب
7
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره
تمطو بهمة لا وان ولا نصب
8
من للهواجل يحيي ميت أرسمها
بكل جائلة التصدير والحقب
9
قباء خوصاء محمود علالتها
تنبو عريكتها بالحلس والقتب
10
أم من لبيض الظبا توكافهن دم
أم من لسمر القنا والزغف واليلب
11
أم للجحافل يذكي جمر جاحمها
حتى يقربها من جاحم اللهب
12
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها
بالنظم والنثر والأمثال والخطب
أم للصواهل محمرا سرابلها
من بعد ما غربت معروفة الشهب
13
أم للمناهل والظلماء عاطفة
يواصل الكر بين الورد والقرب
14
أم للقساطل تعتم الحزون بها
أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب
15
أم للملوك يحليها ويلبسها
حتى تمايس في أبرادها القشب
16
باتت وسادي أطراب تورقني
لما غدوت لقى في قبضة النوب
17
عمرت خدن المساعي غير مضطهد
كالنصل لم يدنس يوما ولم يصب
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت
خوص الركائب بالأكوار والشعب
ومن شعر ابن جني:
رأيت محاسن ضحك الربيع
أطال عليها بكاء السحاب
وقد ضحك الشيب في لمتي
فلم لا أبكي ربيع الشباب
أأشرب في الكأس، كلا وحاشا
لأبصره في صفاء الشراب
ومنه:
تحبب أو تذرع أو تأبى
فلا والله لا أزداد حبا
أخذت ببعض حبك كل قلبي
فإن رمت المزيد فهات قلبا
قال ياقوت: وقرأت بخط الشيخ أبي منصور بن الجواليقي: قال لنا أبو زكريا: رأيت بخط ابن جني: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الفرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ علي أعرابي «طيبى لهم وحسن مآب» فقلت: «طوبى» فقال: «طيبى» فقلت ثانيا: «طوبى» فقال: «طيبى» فلما طال علي قلت: «طوطو» فقال الأعرابي: «طي طي» أما ترى إلى هذه النحيزة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها حتى أنه استكره على تركها فأبى إلا إخلادا إليها! ونحو ذلك قال عمرو الكلبي وقد أنشد بعض أهل الأدب:
بانت نعيمة والدنيا مفرقة
وحال من دونها غيران مزعوج
فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مزعج، فجفا ذلك عليه، وقال يهجو النحويين:
ماذا لقينا من المستعربين ومن
قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها
بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصبا
وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرضوا بين عبد الله من حمق
وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم
وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كل قولي مشروحا لكم فخذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرض لا تشب بها
نار المجوس ولا تبنى بها البيع
قال ابن جني: وعلى نحو ذلك فحضرني قديما بالموصل أعرابي عقيلي جوثي تميمي، يقال له محمد بن العساف الشجري، وقلما رأيت بدويا أفصح منه، فقلت له يوما - شغفا بفصاحته والتذاذا بمطاولته، وجريا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته: كيف تقول: «أكرم أخوك أباك» فقال كذاك، فقلت له: أفتقول: «أكرم أخوك أبوك» فقال: لا أقول «أبوك» أبدا فقلت: فكيف تقول: «أكرمني أبوك» فقال كذاك، قلت: ألست تزعم أنك لا تقول «أبوك» أبدا؟ فقال «إيش هذا؟ اختلفت جهتا الكلام» فهل قوله اختلفت جهتا الكلام. إلا كقولنا نحن هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولا! فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تقطع به عبارتهم.
أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال: سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ: «ولا الليل سابق النهار» فقلت له: ما أردت؟ قال: أردت سابق النهار، فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن أي أقوى وأفصح، ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء؛ أحدها: أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم، والثاني: أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نص أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: «أردت كذا» وهو خلاف ما لفظ به، والثالث: أنهم قد ينطقون بالشيء وغيره أقوى منه استلانة وتخفيفا، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزن؛ أي أقوى وأعرب.
قال ابن جني: وسألت الشجري صاحبنا، هذا الذي قد مضى ذكره، قلت له: كيف يا أبا عبد الله تقول: «اليوم كان زيد قائما؟» فقال: كذلك، فقلت: فكيف نقول: «اليوم إن زيدا قائم؟» فأباها البتة، وذلك أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها؛ لأنها إنما تأتي أبدا مستقبلة قاطعة لما قبلها عما بعدها وما بعدها عما قبلها، قلت له يوما ولابن عم له يقال له غصن - وكان أصغر منه سنا وألين لسانا: كيف تحقران «حمراء» فقالا: حميراء، قلت: فصفراء قالا : «صفيراء» قلت: «فسوداء» قالا: «سويداء» واستمررت بهما في نحو هذا، فلما استويا عليه دسست بين ذلك «علباء» فقلت: «فعلباء» فأسرع ابن عمه على طريقته فقال: «عليباء» وكان الشجري يقولها معه، فلما هم بفتح الباء استرجع مستنكرا فقال إه «عليبى» وأشم الفتحة دائما للحركة في الوقف، وتلك عادة ...
قال ابن جني: فسألته يوما: يا أبا عبد الله، كيف تجمع محرنجما - وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله: يكسر فيقول: حراجم، أم يصحح فيقول: محرنجمات، فذهب هو مذهبا غير ذين فقال: «وإيش فرقه حتى أجمعه؟» وصدق، وذلك أن المحرنجم هو المجتمع: يقولها مارا على شكيمته غير محس لما أريده منه والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا: إذا أنت مررت بإبل محرنجمة وأخرى محرنجمة، وأخرى محرنجمة. تقول: مررت بإبل ماذا؟ فقال - وقد أحس الموضع - «يا هذا هكذا أقول: مررت بإبل محرنجمات» وأقام على التصحيح البتة استيحاشا من تكسير ذوات الأربعة لمصاقبتها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها لا سيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تعتد في كثير من المواضيع اعتداد الأصول حتى إنها لتلزم لزومها نحو: كوكب، وحوشب،
18
وضيون،
19
وهزنبران،
20
ودودرى،
21
وقرنفل، وهذا موضع يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه، والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته، وسألته يوما كيف تجمع سرحانا؟ فقال: سراحين، قلت: فدكانا، قال: دكاكين قلت: فقرطانا، قال: قراطين، قلت: فعثمان، قال عثمانون، قلت: هلا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين؟ فأباها البتة وقال: «إيش ذا؟ أرأيت إنسانا يتكلم بما ليس من لغته؟ والله لا أقولها أبدا.» استوحش من تكسير العلم إكثارا له لا سيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز فيه فعالين نحو: سكران وغضبان ...
ونكتفي بهذا المقدار من التعريف بأبي الفتح بن جني شارح المتنبي، وإذا أردت الزيادة والوقوف على فهرس مؤلفاته فارجع إلى معجم الأدباء ج12 طبعة فريد الرفاعي.
الواحدي
وهذا الإمام أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري أحد شراح المتنبي هو - كما قال ياقوت وابن خلكان وغيرهما - الإمام المصنف المفسر النحوي أستاذ عصره، وواحد دهره، أنفق صباه، وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاف على أعلام الأمة، وتتلمذ لأبي الفضل العروضي،
22
وقرأ النحو على أبي الحسن الضرير القهندزي، ولازم مجالس الثعلبي
23
في تحصيل التفسير ... ثم أخذ في التصنيف، وقعد للإفادة والتدريس سنين، وتخرج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرءوا عليه، وبلغوا محل الإفادة، وكان حقيقا بكل احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرائه على الأئمة المتقدمين وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بماضيهم. قال الحسن بن المظفر النيسابوري: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري هو الذي قيل فيه:
قد جمع العالم في واحد
عالمنا المعروف بالواحدي
قال ومن غرر شعره:
أيا قادما من طوس أهلا ومرحبا
بقيت على الأيام ما هبت الصبا
لعمري لئن أحيا قدومك مدنفا
بحبك صبا في هواك معذبا
يظل أسير الوجد نهب صبابة
ويمسي على جمر الغضا متقلبا
فكم زفرة قد هجتها لو زفرتها
على سد ذي القرنين أمسى مذوبا
وكم لوعة قاسيت يوم تركتني
ألاحظ منك البدر حين تغيبا
وعاد النهار الطلق أسود مظلما
وعاد سنا الإصباح بعدك غيهبا
وأصبح حسن الصبر عني ظاعنا
وحدد نحوي البين نابا ومخلبا
فأقسم لو أبصرت طرفي باكيا
لشاهدت دمعا بالدماء مخضبا
مسالك لهو سدها الوجد والجوى
وروض سرور عاد بعدك مجدبا
فداؤك روحي يا ابن أكرم والد
ويا من فؤادي غير حبيه قد أبى
وأنشد له:
تشوهت الدنيا وأبدت عوارها
وضاقت علي الأرض بالرحب والسعه
وأظلم في عيني ضياء نهارها
لتوديع من قد بان عني بأربعه
فؤادي وعيشي والمسرة والكرى
فإن عاد عاد الكل والأنس والدعه
وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة البسيط: وأظنني لم آل جهدا في أحكام أصول هذا العلم حسب ما يليق بزمننا هذا وتسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله - وله الحمد - حتى اقتبست كل ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانه، وأخذته من معادنه، أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله،
24
وكان قد خنق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار، وقرأ عليهم وروى عنهم كأبي منصور الأزهري، روى عنه كتاب التهذيب وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري، وأبا القاسم الأسدي، وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري، وأبا الحسن الرخجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الأصم وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المصنفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عابني شيخي - رحمه الله - يوما وقال: إنك لم تبق ديوانا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرؤه على هذا الرجل الذي تأتيه البعداء من أقصى البلاد، وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار - يعني الأستاذ الإمام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي - فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجد وتعب، لم أرم في غرض التفسير من كثب، ثم لم أغب زيارته في يوم من الأيام حتى حال بيننا قدر الحمام.
وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيبتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرس في، وتوسم الخير لدي، فتجرد لتخريجي، وصرف وكده إلى تأديبي، ولم يدخر عني شيئا من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأفلاذه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخصني بكتابه الكبير في علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية لابن مهران، ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي، وكان واحد دهره، وباقعة عصره، في علم النحو، لم يلحق أحد مما سمعناه شأوه في معرفة الإعراب، ولقد صحبته مدة في مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده، وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي - رحمه الله - وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران، ثم ذهبت إلى الإمامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري، وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم، وأشير إليهما بالأصابع في علو السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما، وأخذت من كل واحد منهما حظا وافرا بعون الله وحسن توفيقه، وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي السفوي عنه
25
وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج بحق روايته عن ابن مقسم عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير، ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي - رحمه الله - وكان خير العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء، بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم، وله التفسير الملقب بالكشف والبيان عن تفسير القرآن، الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار.
فسار مسير الشمس في كل بلدة
وهب هبوب الريح في البر والبحر
وأصفقت عليه كافة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقروا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أنه منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته؛ ليستدل بها على أنه كان بحرا لا ينزف، وغمرا لا يسبر، وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء، منها: تفسيره الكبير وكتابه المعنون بالكامل في علم القرآن وغيرهما، ولو أثبت المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطأتها طال الخطب ومل الناظر، وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب - أرجو أن يمدني الله فيه بتوفيقه - مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارة في صدره حتى يخرجه من ظلمة الريب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضا في صنعة الأدب والنحو، مهتديا بطرق الحجاج، مارحا في سلوك المنهاج، فأما الجذع المرخى من المقتبسين، والريض الكز من المبتدئين، فإنه مع هذا الكتاب كمزاول غلقا ضاع عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء ليل خانه المصباح:
يحاول فتق غيم وهو يأبى
كعنين يريد نكاح بكر
ثم قال بعد كلام: إن هذا الكتاب عجالة الوقت، وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حل وارتحل وإن أنسئ الأجل، وأرخي الطول، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار أردفته بكتاب أنضجه بنار الروية، وأردده على رواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته، ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعول في تيسير ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت.
ابن فورجه
قال ياقوت - ونقله السيوطي في بغية الوعاة: هو محمد بن حمد بن محمد بن عبد الله بن محمود بن فورجه - بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم - البروجردي، أديب فاضل مصنف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يرد فيه على أبي الفتح بن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجودا سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ومن شعره:
أيها القاتلي بعينيه رفقا
إنما يستحق ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي
أنا واللائمون فيك فداكا
إن لي غيرة عليك من اسمي
إنه دائما يقبل فاكا
هذا وقد ضبطه ابن شاكر صاحب فوات الوفيات. هكذا: ابن فوزجه فقال: بضم الفاء وسكون الواو وفتح الزاي وتشديد الجيم.
ابن القطاع الصقلي
قال ابن خلكان: هو أبو القاسم علي بن جعفر ... إلى آخر النسب قال: كان أحد أئمة الأدب خصوصا اللغة، وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال ، أحسن فيه كل إحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطية، وإن كان ذلك قد سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعى، وفيه دلالة على كثرة اطلاعه وله عروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة في المختار من شعر شعراء الجزيرة، وكتاب لمح الملح، جمع فيه خلقا من شعراء الأندلس، وكانت ولادته في العاشر من صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة بصقلية، وقرأ الأدب على فضلائها كابن البر اللغوي وأمثاله، وأجاد في النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمسمائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الرواية ومن شعره في ألثغ:
وشادن في لسانه عقد
حلت عقودي وأوهنت جلدي
عابوه جهلا بها فقلت لهم
أما سمعتم بالنفث في العقد
وله من قصيدة:
فلا تنفدن العمر في طلب الصبا
ولا تشقين يوما بسعدى ولا نعم
ولا تندبن أطلال مية باللوى
ولا تسفحن ماء الشئون على رسم
فإن قصارى المرء إدراك حاجة
وتبقى مذمات الأحاديث والإثم
ومن شعره في غلام اسمه حمزة:
يا من رمى النار في فؤادي
وأنبط العين بالبكاء
اسمك تصحيفه بقلبي
وفي ثناياك برء دائي
اردد سلامي فإن نفسي
لم يبق منها سوى الذماء
وارفق بصب أتى ذليلا
قد مزج اليأس بالرجاء
أنهكه في الهوى التجني
فصار في رقة الهواء
وله شعر كثير، وتوفي بمصر في صفر سنة خمس عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
ابن الإفليلي
كان هذا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا بن مفرج بن يحيى بن زياد بن عبد الله بن خالد بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري المعروف بابن الإفليلي
26
إماما من أئمة النحو واللغة، ترجمه ابن خلكان في بضعة أسطر، وذكره ابن بسام عرضا كذلك، قال في بضعة أسطر لمناسبة تعرض ابن شهيد له في رسالة التوابع والزوابع إذ قال ابن شهيد: وأما أبو القاسم الإفليلي فإنه من نفسي مكين، وحبه بفؤادي دخيل، على أنه متحامل علي، ومنتسب إلي ... فقال ابن بسام نقلا عن ابن حيان المؤرخ: كان ابن الإفليلي الذي به عرض قد بذ أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان العربي والضبط لغريب اللغة في أشعار الجاهلية والإسلام والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيورا على ما يحمل من ذلك الفن كثير الحسد فيه، راكبا رأسه في الخطأ البين إذا أنشب فيه، يجادل عليه ولا يصرفه صارف عنه، وعدم علم العروض ومعرفته مع احتياجه إليه وكمال صناعته به، فلم يكن له رسوخ فيه، وكان لحق الفتنة البربرية ومضى الناس من حائر وظاعن، فازدلف إلى الأمراء الكائنين بقرطبة من آل حمود إلى أن نال الجاه، واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي بعد ابن برد، فوقع كلامه نائيا عن البلاغة؛ لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلمين، فلم يجر في أساليب الكتاب المطبوعين، فزهد فيه، وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة إلا شرحه ديوان المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه أيام هشام المرواني في جملة من تتبع من الأطباء في وقته كابن عاصم والساسي والحمار وغيرهم، وطلب ابن الإفليلي وسجن بالمطبق، ثم أطلق ... وقال ابن خلكان: كان متصدرا بالأندلس لإقراء الأدب، وكان حافظا للأشعار ذاكرا للأخبار وأيام الناس، وكان عنده من أشعار أهل بلاده قطعة صالحة، وكان أشد الناس انتقادا للكلام، صادق اللهجة، حسن المغيب، صافي الضمير، وكانت ولادته في شوال سنة 352، وتوفي يوم السبت 13 ذي القعدة سنة 441، ودفن في صحن مسجد خرب عند باب عامر بقرطبة.
الصاحب بن عباد
هو الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. قال ابن خلكان: كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه، أخذ الأدب عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما، وقال أبو منصور الثعالبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر؛ لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله ومعاليه، وجهد وصفى يقصر عن أيسر فواضله ومساعيه ... ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله.
وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر
موصولة الإسناد بالإسناد
يروي عن العباس عباد وزا
رته وإسماعيل عن عباد
وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء؛ لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب ابن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة وبقي علما عليه.
وذكر أبو إسحاق الصابي في كتاب التاجي: أنه إنما قيل له الصاحب؛ لأنه صحب مؤيد الدولة بن بويه منذ الصبا، وسماه الصاحب، فاستمر عليه هذا اللقب، واشتهر به، ثم سمي به كل من ولي الوزارة بعده، وكان أولا وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في شعبان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بجرجان استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن علي فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلا عنده ومعظما نافذ الأمر، وأنشده أبو القاسم الزعفراني يوما أبياتا نونية من جملتها:
أيا من عطاياه تهدي الغنى
إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين
كسى لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في
صنوف من الخز إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لو علمت أن الله - سبحانه وتعالى - خلق مركوبا غير هذا لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص، وعمامة، ودراعة، وسراويل، ومنديل، ومطرف، ورداء، وكساء، وجورب، وكيس، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكم، واجتمع عنده من الشعراء ما لم يجتمع عند غيره ومدحوه بغرر المدائح، وكان حسن الأجوبة رفع الضرابون من دار الضرب إليه رقعة في مظلمة مترجمة بالضرابين، فوقع تحتها: في حديد بارد. وكتب بعضهم إليه ورقة أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه فوقع فيها: هذه بضاعتنا ردت إلينا. وحبس بعض عماله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يوما فاطلع عليه فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته: فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخسئوا فيها ولا تكلمون، ونوادره كثيرة.
وصنف في اللغة كتابا سماه المحيط وهو في سبعة مجلدات رتبه على حروف المعجم كثر فيه الألفاظ وقلل الشواهد، فاشتمل من اللغة على جزء متوفر، وكتاب الكافي في الرسائل، وكتاب الأعياد، وفضائل النيروز، وكتاب الإمامة يذكر فيه فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويثبت إمامة من تقدمه، وكتاب الوزراء، وكتاب الكشف عن مساوئ شعر المتنبي، وكتاب أسماء الله تعالى وصفاته، وله رسائل بديعة ونظم جيد فمنه قوله:
وشادن جماله
تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي
فقلت قبل شفتي
وله في رقة الخمر:
رق الزجاج وراقت الخمر
وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
وحكى أبو الحسين محمد بن الحسين الفارسي النحوي: أن نوح بن منصور أحد ملوك بني سامان كتب إليه ورقة في السر يستدعيه؛ ليفوض إليه وزارته، وتدبير أمر مملكته، فكان من جملة أعذاره إليه: أنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من التحمل؟ وأخباره كثيرة.
قال ابن خلكان: وكان مولده لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة بأصطخر وقيل بالطالقان، وتوفي ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة بالري، ثم نقل إلى أصبهان - رحمه الله تعالى - ودفن في قبة بمحلة تعرف بباب دزيه، وهي عامرة إلى الآن، وأولاد بنته يتعاهدونها بالتبييض.
قال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلا يقول لي: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه فلم أدر بما أبدأ منها؟ وقد خفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، فقلت: قل، فقال:
ثوى الجود والكافي معا في حفيرة
فقلت:
ليأنس كل منهما بأخيه
فقال:
هما اصطحبا حيين ثم تعانقا
فقلت:
ضجيعين في لحد بباب دزيه
فقال:
إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم
فقلت:
أقاما إلى يوم القيامة فيه
ذكر هذا البياسي في حماسته، ورأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت له مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه من الباب صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة، وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس وقعد للعزاء أياما، ورثاه أبو سعيد الرستمي بقوله:
أبعد ابن عباد يهش إلى السرى
أخو أمل أو يستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته
فما لهما حتى المعاد معاد
وتوفي والده أبو الحسن عباد بن العباس في سنة أربع أو خمس وثلاثين وثلاثمائة - رحمه الله تعالى - وكان وزير ركن الدولة بن بويه، وهو والد فخر الدولة ووالد عضد الدولة فناخسرو ممدوح المتنبي، وتوفي فخر الدولة في شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، ومولده في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، والطالقاني - بفتح الطاء المهملة وبعد الألف لام مفتوحة ثم قاف - وبعد الألف الثانية نون: هذه النسبة إلى الطالقان، وهو اسم لمدينتين؛ إحداهما بخراسان والأخرى من أعمال قزوين، والصاحب المذكور أصله من طالقان قزوين، لا طالقان خراسان.
أبو بكر الخوارزمي
هو أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي - وهو كما قال ابن خلكان - ابن أخت أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ - قال ابن خلكان: كان أحد الشعراء المجيدين الكبار المشاهير، وكان إماما في اللغة والأنساب أقام بالشام مدة وسكن بنواحي حلب، وكان يشار إليه في عصره، ويحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد وهو بأرجان فلما وصل إلى بابه قال لأحد حجابه: قل للصاحب على الباب أحد الأدباء، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب وأعلمه، فقال الصاحب: قل له قد ألزمت نفسي أن لا يدخل علي من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب وأعلمه بذلك، فقال له أبو بكر: ارجع إليه وقل له: هذا القدر من شعر الرجال أم من شعر النساء؟ فدخل الحاجب فأعاد عليه ما قال، فقال الصاحب: هذا يكون أبا بكر الخوارزمي فأذن له في الدخول، فدخل عليه فعرفه وانبسط له، وأبو بكر المذكور له ديوان رسائل وديوان شعر، وقد ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة، وذكر قطعة من نثره ثم أعقبها بشيء من نظمه فمن ذلك قوله:
رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا
مقيما وإن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه
أغب وإن زاد الضياء أقاما
ومن شعره أيضا:
يا من يحاول صرف الراح يشربها
ولا يفك لما يلقاه قرطاسا
الكاس والكيس لم يقض امتلاؤهما
ففرغ الكيس حتى تملأ الكاسا
وفيه يقول أبو سعيد أحمد بن شهيب الخوارزمي:
أبو بكر له أدب وفضل
ولكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخل
فمن وقت الصباح إلى المساء
وملحه ونوادره كثيرة.
ولما رجع من الشام سكن نيسابور، ومات بها في منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه: أنه توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راض فعمل فيه:
لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت
يداه بالجود حتى أخجل الديما
فإنه خطرات من وساوسه
يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فبلغ ابن عباد ذلك، فلما بلغه خبر موته أنشده:
أقول لركب من خراسان قافل
أمات خوارزميكم قيل لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره
ألا لعن الرحمن من كفر النعم
العميدي «صاحب الإبانة عن سرقات المتنبي»
قال ياقوت: أبو سعيد محمد بن أحمد بن محمد العميدي: أديب نحوي لغوي مصنف، سكن مصر.
قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعيد العميدي: له أدبيات ... مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، قال: وكان العميدي يتولى ديوان الترتيب، وعزل عنه - كما ذكر الروذباري - في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر، ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الإنشاء بمصر في أيام المستنصر، استخدم فيه عوضا من ولي الدولة بن خبران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الذهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة. قال: وله تصانيف في الأدب، منها: كتاب تنقيح البلاغة في عشرة مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم وعليه خطه، وقد قرئ عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكتاب الإرشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور، وكتاب انتزاعات القرآن، وكتاب العروض، كتاب القوافي كبير.
قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود بن الدليل الصواف بمصر قال: أنشدنا أبو سعيد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي
مقر عبادة إلا القرافه
لئن لم يرحم المولى اجتهادي
وقلة ناصري لم ألق رافه
ابن وكيع
وهذا ابن وكيع هو - كما قال ابن خلكان والثعلبي - أبو محمد الحسن بن علي بن أحمد بن خلف بن حيان بن صدقة بن زياد الضبي، المعروف بابن وكيع التنيسي ... شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بين فيه سرقات أبي الطيب، سماه المنصف، وكان في لسانه عجمة، ومن شعره:
سلا عن حبك القلب المشوق
فما يصبو إليك ولا يتوق
جفاؤك كان عنك لنا عزاء
وقد يسلي عن الولد العقوق
وله أيضا:
إن كان قد بعد اللقاء فودنا
باق ونحن على النوى أحباب
كم قاطع للوصل يؤمن وده
ومواصل بوداده يرتاب
وله أيضا:
لقد شمت بقلبي
لا فرج الله عنه
كم لمته في هواه
فقال لا بد منه
وقد ألم بهذا المعنى بعضهم فقال:
لا رعى الله عزمة ضمنت لي
سلوة القلب والتصبر عنه
ما وفت غير ساعة ثم عادت
مثل قلبي تقول لا بد منه
ومثله قول أسامة بن منقذ:
لا تستعر جلدا على هجرانهم
فقواك تضعف عن صدود دائم
واعلم بأنك إن رجعت إليهم
طوعا وإلا عدت عودة راغم
وقال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ مرتضى الدين أبا الفتح نصر بن محمد بن مقلد القضاعي الشيزري المدرس كان بتربة الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بالقرافة لابن وكيع المذكور:
لقد قنعت همتي بالخمول
وصدته عن الرتب العاليه
وما جهلت طعم طيب العلا
ولكنها تؤثر العافيه
فأنشدني لنفسه على البديهة:
بقدر الصعود يكون الهبوط
فإياك والرتب العاليه
وكن في مكان إذا ما سقطت
تقوم ورجلاك في العافيه
ولابن وكيع أيضا:
أبصره عاذلي عليه
ولم يكن قبل ذا رآه
فقال لي: لو هويت هذا
ما لامك الناس في هواه
قل لي إلى من عدلت عنه
فليس أهل الهوى سواه
فظل من حيث ليس يدري
يأمر بالحب من نهاه
قال ابن خلكان: وكنت أنشدت هذه الأبيات لصاحبنا الفقيه شهاب الدين محمد ولد الشيخ تقي الدين عبد المنعم المعروف بالخيمي، فأنشدني لنفسه في المعنى:
لو رأى وجه حبيبي عاذلي
لتفاصلنا على وجه جميل
وهذا البيت من جملة أبيات، ولقد أجاد فيه وأحسن في التورية، ولابن وكيع كل معنى حسن، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لسبع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بمدينة تنيس، ودفن في المقبرة الكبرى في القبة التي بنيت له بها رحمه الله تعالى.
ووكيع بفتح الواو وكسر الكاف وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها عين مهملة، وهو لقب جده أبي بكر محمد بن خلف، وكان نائبا في الحكم بالأهواز لعبدان الجواليقي، وكان فاضلا نبيلا فصيحا من أهل القرآن والفقه والنحو والسير وأيام الناس وأخبارهم، وله مصنفات كثيرة، فمنها: كتاب الطريق، وكتاب الشريف، وكتاب عدد آي القرآن والاختلاف فيه، وكتاب الرمي والنضال، وكتاب المكاييل والموازين ... وغير ذلك، وله شعر كشعر العلماء، وتوفي يوم الأحد لست بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثمائة ببغداد.
وقال ابن قانع: توفي عبدان الأهوازي سنة سبع وثلاثمائة بعسكر مكرم رحمه الله تعالى؛ والتنيسي بكسر التاء المثناة من فوقها وكسر النون المشددة وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها سين مهملة نسبة إلى تنيس مدينة بديار مصر بالقرب من دمياط.
الخطيب التبريزي
هو أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي المعروف بالخطيب، قال ابن خلكان: كانت له معرفة تامة بالأدب، من النحو واللغة وغيرهما، قرأ على الشيخ أبي العلاء المعري، وأبي القاسم عبد الله بن علي الرقي، وأبي محمد الدهان اللغوي ... وغيرهم من أهل الأدب، وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي، ومن أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الله بن يوسف الدلال الساوي البغدادي، وأبي القاسم عبد الله بن علي ... وغيرهم، وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد، والحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر وأبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وأبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأندلسي ... وغيرهم من الأعيان، وتخرج عليه خلق كثير وتتلمذوا له، وذكره الحافظ أبو سعيد السمعاني في كتاب الذيل وكتاب الأنساب وعدد فضائله، ثم قال: سمعت أبا منصور محمد بن عبد الملك بن الحسن بن خيرون المقرئ يقول: أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي ما كان بمرضي الطريقة، وذكر عنه أشياء. ثم قال: وذاكرت أنا مع أبي الفضل محمد بن ناصر الحافظ بما ذكره ابن خيرون فسكت عنه وكأنه ما أنكر ما قال، ولكن كان ثقة في اللغة وما كان ينقله.
وصنف في الأدب كتبا كثيرة مفيدة: منها شرح الحماسة، وكتاب شرح ديوان المتنبي، وكتاب شرح سقط الزند وهو ديوان أبي العلاء المعري، وشرح المعلقات السبع، وشرح المفضليات، وله تهذيب غريب الحديث، وتهذيب إصلاح المنطق، وله في النحو مقدمات حسنة والمقصود منها أسرار الصنعة وهي عزيزة الوجود، وله كتاب الكافي في علم العروض والقوافي، وكتاب في إعراب القرآن، سماه الملخص، رأيته في أربعة مجلدات، وشروحه لكتاب الحماسة ثلاث أكبر وأوسط وأصغر، وله غير ذلك من التآليف، ودرس الأدب بالمدرسة النظامية ببغداد، وكان سبب توجهه إلى أبي العلاء المعري: أنه حصلت له نسخة من كتاب التهذيب في اللغة تأليف أبي منصور الأزهري في عدة مجلدات لطاف، وأراد تحقيق ما فيها، وأخذها عن رجل عالم باللغة فدل على المعري فجعل الكتاب في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوبا فنفذ العرق من ظهره إليها فأثر فيها البلل، وهي ببعض الوقوف ببغداد، وإذا رآها من لا يعرف صورة الحال فيها ظن أنها غريقة وليس بها سوى عرق الخطيب المذكور، وكان الخطيب قد دخل مصر في عنفوان شبابه فقرأ عليه بها الشيخ أبو الحسن طاهر بن بابشاذ النحوي من اللغة، ثم عاد إلى بغداد واستوطنها إلى الممات.
وكان يروي عن أبي الحسن محمد بن المظفر بن محيريز البغدادي جملة من شعره، فمن ذلك قوله على ما حكاه السمعاني في كتاب الذيل في ترجمة الخطيب، وهي من أشهر أشعاره:
خليلي ما أحلى صبوحي بدجلة
وأطيب منه بالصراة غبوقي
شربت على الماءين من ماء كرمة
فكانا كدر ذائب وعقيق
على قمري أفق وأرض تقابلا
فمن شائق حلو الهوى ومشوق
فما زلت أسقيه وأشرب ريقه
وما زال يسقيني ويشرب ريقي
وقلت لبدر التم تعرف ذا الفتى
فقال نعم هذا أخي وشقيقي
وهذه الأبيات من أملح الشعر وأطرفه، والبيت الأخير منها يستمد من معنى قول أبي بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة الأندلسي في مدح المعتمد بن عباد صاحب إشبيليه من جملة قصيدة طويلة:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي
شقيقي إلا أنه الساكن العذب
ما كفاه أنه جعله شقيق البحر حتى رجحه عليه فقال: الساكن العذب والبحر مضطرب مالح، وهذا من خالص المدح وأبدعه، وأول هذه القصيدة:
بكت عند توديعي فما علم الركب
أذاك سقيط الطل أم لؤلؤ رطب
وتابعها سرب وإني لمخطئ
نجوم الدياجي لا يقال لها سرب
وهي قصيدة طويلة، وللخطيب أيضا:
فمن يسأم من الأسفار يوما
فإني قد سئمت من المقام
أقمنا بالعراق على رجال
لئام ينتمون إلى لئام
وقال الخطيب: كتب إلي العميد الفياض:
قل ليحيى بن علي
والأقاويل فنون
غير أني لست من يك
ذب فيها ويخون
أنت عين الفضل إن
مد إلى الفضل عيون
أنت من عز به الفض
ل وقد كاد يهون
فقت من كان وأتعب
ت لعمري من يكون
قد مضى فيك قران
ومضى قبل قرون
وإذا قيس بك الكل
فصحو ودجون
وإذا فتش عنهم
فالأحاديث شجون
قد سمعنا ورأينا
فسهول وحزون
ووزنا بك من كا
ن فقيل وقيون
أين شيبان وأزد
كل ما زال ظنون
إنك الأصل ومن دو
نك في العلم غصون
إنك البحر وأعيا
ن ذوي الفضل عيون
ليس كالسيف وإن حل
في الحكم جفون
ليس كالقدح المعلى
ليس كالبيت الحجون
ليس كالجد وإن آ
نس هزل ومجون
ليس في الحسن سواء
أبدا بيض وجون
ليس كالأبكار في اللط
ف وإن راقتك عون
قلت للحساد كونوا
كيف شئتم أن تكونوا
سبق الزائد بالفضل
فعزوا أو فهونوا
دمت ما خالف في
الحد حراك وسكون
وتلقاك المنى ما
قر بالطير الوكون
إن ودي لك عما
يصم الود مصون
ليس لي فيه ظهور
تتنافى أو بطون
بل لقلبي فيك صب
بالمصافاة يكون
غلق الرهن وقد تغ
لق في الحب رهون
ومن الناس أمين
في هواه وخئون
وقال ابن الجواليقي: قال لنا شيخنا الخطيب أبو زكريا: فكتبت أنا إلى العميد الفياض المذكور هذه الأبيات:
قل للعميد أخي العلا الفياض
أنا قطرة من بحرك الفياض
شرفتني ورفعت ذكري بالذي
ألبستنيه من الثنا الفضفاض
ألبستني حلل القريض تفضلا
فرفلت منها في علا ورياض
إني أتيتك بالحصى عن لؤلؤ
أبرزته من خاطر مرتاض
وبخاطري عن مثل ذاك توقف
ما إن يكاد يجود بالأبعاض
العارض البحر الغطامط جدول
أم درة تنقاس بالرضراض
يا فارس النظم المرصع جوهرا
والنثر يكشف غمة الأمراض
يرمي به الغرض البعيد وقد غدا
فكري يقصر عن مدى الأغراض
لا تلزمني من ثنائك موجبا
حقا فلست لحقه بالقاضي
فلقد عجزت عن القريض وربما
أعرضت عنه أيما إعراض
أنعم علي ببسط عذري إنني
أقررت عند نداك بالإنفاض
وكانت ولادته سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، وتوفي فجأة يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسمائة ببغداد، ودفن في مقبرة باب أبرز - رحمه الله تعالى - وبسطام بكسر الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفتح الطاء المهملة وبعد الألف ميم.
العكبري
أما الإمام العكبري فهو أبو البقاء عبد الله بن أبي عبد الله الحسين بن أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الأصل البغدادي المولد والدار الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير الملقب محب الدين، أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وعن غيره من مشايخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد المعروف بابن البطي ومن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهما، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه، وكان الغالب عليه علم النحو، وصنف فيه مصنفات مفيدة، وشرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وديوان المتنبي، وله كتاب إعراب القرآن الكريم في مجلدين، وكتاب إغراب الحديث لطيف، وكتاب شرح اللمع لابن جني، وكتاب اللباب في علل النحو، وكتاب إعراب شعر الحماسة، وشرح المفصل للزمخشري شرحا مستوفى، وشرح الخطب النباتية والمقامات الحريرية، وصنف في النحو والحساب، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد وهو حي وبعد صيته، وكانت ولادته سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ليلة الأحد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وستمائة ببغداد، ودفن بباب حرب، رحمه الله تعالى.
والعكبري بضم العين المهملة وسكون الكاف وفتح الباء الموحدة وبعدها راء، هذه النسبة إلى عكبرا وهي بليدة على دجلة فوق بغداد بعشرة فراسخ، خرج منها جماعة من العلماء وغيرهم.
ابن الشجري
هو الشريف أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني المعروف بابن الشجري البغدادي. قال ابن خلكان: كان إماما في النحو واللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها كامل الفضائل متضلعا من الأدب صنف فيه عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب الأمالي، وهو أكبر تآليفه وأكثرها إفادة أملاه في أربعة وثمانين مجلسا، وهو يشتمل على فؤاد جمة من فنون الأدب، وختمه بمجلس قصره على أبيات من شعر أبي الطيب المتنبي تكلم عليها، وذكر ما قاله الشراح فيها، وزاد من عنده ما سنح له، وهو من الكتب الممتعة، ولما فرغ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبد الله المعروف بابن الخشاب والتمس فيه سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه ورد عليه في مواضع من الكتاب ونسبه فيها إلى الخطأ، فوقف أبو السعادات المذكور على ذلك الرد فرد عليه في رده وبين وجوه غلطه وجمعه كتابا وسماه الانتصار، وهو على صغر حجمه مفيد جدا وسمعه عليه الناس، وجمع أيضا كتابا سماه الحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام الطائي، وهو كتاب غريب مليح أحسن فيه، وله في النحو عدة تصانيف: ما اتفق لفظه واختلف معناه، وشرح اللمع لابن جني، وشرح التصريف الملوكي، وكان حسن الكلام حلو الألفاظ فصيحا جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث بنفسه على جماعة من الشيوخ المتأخرين مثل أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد القاسم الصيرفي، وأبي علي محمد بن سعيد بن شهاب الكاتب وغيرهما، وذكره الحافظ أبو سعيد بن السمعاني في كتاب الذيل وقال: اجتمعنا في دار الوزير أبي القاسم علي بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئا من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه، وقرأت عليه جزءا من أمالي أبي العباس ثعلب النحوي.
وحكى أبو البركات عبد الرحمن بن الأنباري النحوي في كتابه الذي سماه مناقب الأدباء: أن العلامة أبا القاسم محمودا الزمخشري لما قدم بغداد قاصدا الحج في بعض أسفاره مضى إلى زيارة شيخنا أبي السعادات ابن الشجري فمضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه
فلما التقينا صغر الخبر الخبر
ثم أنشده بعد ذلك:
كانت مساءلة الركبان تخبرنا
عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وهذان البيتان منسوبان إلى أبي القاسم محمد بن هانئ الأندلسي، وينسبان إلى غيره أيضا؛ قال ابن الأنباري: فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لما قدم عليه زيد الخيل قال له: «يا زيد ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي، غيرك.» قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر والزمخشري بالحديث وهو رجل أعجمي؟ وكان ابن الشجري نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن والده الطاهر وله شعر حسن، فمن ذلك قصيدة يمدح بها الوزير نظام الدين أبا نصر المظفر بن علي بن محمد بن جهير وأولها:
هذي السديرة والغدير الطافح
فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي الذي إن ضله ال
ساري هداه نشره المتفاوح
هل عائد قبل الممات لمغرم
عيش تقضى في ظلالك صالح
ما أنصف الرشأ الضنين بنظرة
لما دعا مضنى الصبابة طامح
شط المزار به وبوئ منزلا
بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن يعطفه النسيم وفوقه
قمر يحف به ظلام جانح
وإذا العيون تساهمته لحاظها
لم يرو منه الناظر المترواح
ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا
فيه مراتع للمها ومسارح
ظللنا به نبكي فكم من مضمر
وجدا أذاع هواه دمع سافح
برت السنون رسومها فكأنما
تلك العراص المقفرات نواضح
يا صاحبي تأملا حييتما
وسقى دياركما الملث الرائح
أدمى بدت لعيوننا أم ربرب
أم خرد أكفالهن رواجح
أم هذه مقل الصوار رنت لنا
خلل البراقع أم قنا وصفائح
لم يبق جارحة وقد واجهننا
إلا وهن لها بهن جوارح
كيف ارتجاع القلب من أسر الهوى
ومن الشقاوة أن يراض القارح
لو بله من ماء ضارج شربة
ما أثرت للوجد فيه لواقح
ومن ها هنا يخرج إلى المديح فأضربت عنه خوف الإطالة، ولم يكن المقصود إلا إثبات شيء من نظمه ؛ لتستدل به على طريقته فيه، ومن شعره أيضا:
هل الوجد خاف والدموع شهود
وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تفني شئونك بالبكا
وقد حد حدا للبكاء لبيد
وإني وإن خفت قناتي كبرة
لذو مرة في النائبات جليد
وفيه إشارة إلى أبيات لبيد بن ربيعة العامري، وهي:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فقوما فنوحا بالذي تعلمانه
ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا صديقه
أضاع ولا خان العهود ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وإلى هذا أشار أبو تمام الطائي بقوله:
ظعنوا فكان بكاء حول بعدهم
ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
وقال الشريف أبو السعادات المذكور، أنشدني أبو إسماعيل الحسين الطغرائي لنفسه:
إذا ما لم تكن ملكا مطاعا
فكن عبدا لمالكه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا
كما تهواه فاتركها جميعا
هما سببان من ملك وترك
ينيلان الفتى الشرف الرفيعا
فمن يقنع من الدنيا بشيء
سوى هذين عاش بها وضيعا
وكان بين أبي السعادات المذكور وبين أبي محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن حكينا البغدادي الحريمي الشاعر المشهور تنافس جرت العادة بمثله بين أهل الفضائل، فلما وقف على شعره عمل فيه قوله:
يا سيدي والذي يعيذك من
نظم قريض يصدا به الفكر
ما لك من جدك النبي سوى
أنك ما ينبغي لك الشعر
وكانت ولادته في شهر رمضان سنة خمسين وأربعمائة، وتوفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ودفن من الغد في داره بالكرخ من بغداد، رحمه الله تعالى.
والشجري بفتح الشين المعجمة والجيم وبعدها راء: هذه النسبة إلى شجرة، وهي قرية من أعمال المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشجرة أيضا اسم رجل قد سمت به العرب ومن بعدها، وقد انتسب إليه خلق كثير من العلماء وغيرهم، ولا أدري إلى من ينتسب الشريف المذكور منهما، هل هو نسبة إلى القرية أم إلى أحد أجداده كان اسمه شجرة؟ والله أعلم.
القاضي الجرجاني
هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي بن إسماعيل الجرجاني، قال ياقوت: كان أريبا أديبا كاملا، مات بالري يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وهو قاضي القضاة بالري حينئذ، وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وقال: ورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة مع أخيه أبي بكر، وأخوه إذ ذاك فقيه مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحلم، فسمعا معا الحديث الكبير، ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذكر في الدنيا،
27
وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبو علي القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة، وأبو الفضل العارض، راجلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي، فاستدعي من قزوين وولي قضاء القضاة بالري، وله يقول الصاحب بن عباد، وقد أنشأ عهدا للقاضي عبد الجبار على قاضي الري:
إذا نحن سلمنا لك العلم كله
فدعنا وهذي الكتب نحسن صدورها
فإنهم لا يرتضون مجيئنا
بجزع إذا نظمت أنت شذورها
28
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به
29
وشمخ بأنفه بالانتماء إليه، وطوف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقي مشايخ وقته وعلماء عصره، وله رسائل مدونة، وأشعار مفننة، وكان جيد الخط مليحا يشبه بخط ابن مقلة، ومن شعره:
أفدي الذي قال وفي كفه
مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي
قلت: فمي باللثم يجنيه
ومنه:
يقولون لي فيك انقباض وإنما
رأوا رجلا في موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم
ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما زلت منحازا بعرضي جانبا
من الذم أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى
ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برق لاح لي يستفزني
ولا كل أهل الأرض أرضاه منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما
بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟
إذن فابتياع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس تعظما
ولكن أذلوه جهارا ودنسوا
محياه بالأطماع حتى تجهما
ومنه:
وقالوا: اضطرب في الأرض فالرزق واسع
فقلت: ولكن مطلب الرزق ضيق
إذا لم يكن في الأرض حر يعينني
ولم يك لي كسب فمن أين أرزق؟
ومنه:
أحب اسمه من أجله وسميه
ويتبعه في كل أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدا فأحبهم
وكلهم طاوي الضمير على حربي
ومنه:
قد برح الشوق بمشتاقك
فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه
فإنه خاتم عشاقك
وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القرآن المجيد، كتاب تهذيب التاريخ، كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور:
أيا قاضيا قد دنت كتبه
وإن أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطة في حسنه
لعقد معاليك كالواسطه
ومن شعره:
وما تطعمت لذة العيش حتى
صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العل
م فلم أبتغي سواه أنيسا!
إنما الذل في مخالطة النا
س فدعهم وعش عزيزا رئيسا
ومن سائر شعره قوله:
إذا شئت أن تستقرض المال منفقا
على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها
عليك وإنظارا إلى زمن اليسر
فإن فعلت كنت الغني وإن أبت
فكل منوع بعدها واسع العذر
وحدث الثعالبي عن أبي نصر التهذيبي قال: سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوما من دار الصاحب وذلك قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له
مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه
فكأنما أهدي له أخلاقه
قال وسمعته يقول: إن الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه لي بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوما من فرط تحفيه بي وتواضعه لي؛ فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده
وأمده من فعلك الحسن
فالعز مطلوب وملتمس
وأعزه ما نيل في الوطن
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل
ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى:
يا ليت قومي يعلمون * بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين
قال الثعالبي: القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز، حسنة جرجان، وفرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري: وينظم عقد الإتقان، والإحسان في كل ما يتعاطاه، «وأنشد بيت الصاحب المقدم ذكره» وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض، وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء علما، وفي الكمال عالما، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به، وحل منه محلا بعيدا في رفعته، قريبا في أسرته، وسير فيه قصائد أخلصت على قصد، وفرائد أتت من فرد، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل، وتقلد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته، من الولاية والعطلة، وترقى محله إلى قضاء القضاة بالري، فلم يعزله إلا موته، رحمه الله تعالى.
وعرض علي أبو نصر المصعبي كتابا للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب، في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصيد والتشبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش - دام علوه - من كتبي ما أعلم أني لم أؤد فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل، وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني: فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافرا وقاطنا، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالإلمام. فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده؛ فإن عن له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله؛ ليتعجل انكفاؤه إلي بما رسم - أدام الله أيامه - من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بذرقة
30
إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق بتعرف النهج فيها، فإن رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجل رده فإني ما غاب كالمضل الناشد، وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.
ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوئ المتنبي، عمل القاضي أبو الحسن كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره، فأحسن وأبدع، وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ، وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح.
وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما، ومن شعره:
انثر على خدي من وردك
أودع فمن يقطفه من خدك
ارحم قضيب البان وارفق به
قد خفت أن ينقد من قدك
وقل لعينيك، بنفسي هما
يخففان السقم عن عبدك
وله:
وفارقت حتى ما أسر بمن دنا
مخافة نأي أو حذار صدود
فقد جعلت نفسي تقول لمقلتي
وقد قربوا - خوف التباعد - جودي
فليس قريبا من يخاف بعاده
ولا من يرجى قربه ببعيد
وله يستطرد:
من عاذري من زمن ظالم
ليس بمستحي ولا راحم؟
يفعل بالإخوان أحداثه
فعل الهوى بالدنف الهائم
كأنما أصبح يرميهم
عن جفن مولاي أبي القاسم
وقال يذكر بغداد ويتشوقها:
يا نسيم الجنوب بالله بلغ
ما يقول المتيم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد
ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالرقاد عندي سهاد
مذ نأيتم والعيش عندي لمام
فعلى الكرخ فالقطيعة فالشط
فباب الشعير مني السلام
يا ديار السرور لا زال يبكي
بك في مضحك الرياض غمام
رب عيش صحبته فيك غض
وجفون الخطوب عني نيام
في ليال كأنهن أمان
من زمان كأنه أحلام
وكأن الأوقات فيها كئوس
دائرات وأنسهن مدام
زمن مسعد وإلف وصول
ومنى يستلذها الأوهام
كل أنس ولذة وسرور
بعدما بنتم علي حرام
وله في ذلك:
سقى جانبي بغداد أخلاف مزنة
تحاكي دموعي صوبها وانحدارها
فلي منهما قلب شجاني اشتياقه
ومهجة نفس ما أمل ادكارها
سأغفر للأيام كل عظيمة
لئن قربت بعد البعاد مزارها
وله في ذلك:
أراجعة تلك الليالي كعهدها
إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها؟
وصحبة أحباب لبست لفقدهم
ثياب حداد يستجد خليعها
إذا لاح لي من نحو بغداد بارق
تجافت جفوني واستطير هجوعها!
وإن أخلفتها الغاديات رعودها
تكلف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كل غمامة
يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان أنس تحالفت
لواحظها ألا يداوى صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدي
بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحن إليها كل قلب كأنما
يشاد بحبات القلوب ربوعها
فكل ليالي عيشها زمن الصبا
وكل فصول الدهر فيها ربيعها
وله في ذلك:
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن
لولا التحمل لم أنفك أندبه
وصاحب ما صحبت الصبر مذ بعدت
دياره وأراني لست أصحبه
في كل يوم لعيني ما يؤرقها
من ذكره ولقلبي ما يعذبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه
ويستمر على ظلمي وأعتبه
حتى أوت لي النوى من طول جفوته
وسهلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما البعاد دهاني بل خلائقه
ولا الفراق شجاني بل تجنبه
وله في التخلص:
أوما انثنيت عن الوداع بلوعة
ملأت حشاك صبابة وغليلا؟
ومدامع تجري فتحسب أن في
آماقهن بنان إسماعيلا
وله من قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم
وقمنا لتوديع الفريق المغرب
تلقين أطراف السجوف بمشرق
لهن وأعطاف الخدور بمغرب
فما سرن إلا بين دمع مضيع
ولا قمن إلا بين قلب معذب
كأن فؤادي قرن قابوس راعه
تلاعبه بالفيلق المتناشب
وله في الصاحب من قصيدة:
وما بال هذا الدهر يطوي جوانحي
على نفس محزون وقلب كئيب
تقسمني الأيام قسمة جائر
على نضرة من حالها وشحوب
كأني في كف الوزير رغيبة
تقسم في جدوى أغر وهوب
وله من قصيدة في الصاحب:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها
إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألفت
خواطرك الألفاظ بعد شرادها
وإن نحن حاولنا اختراع بديعة
حصلنا على مسروقها ومعادها
وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من المرض:
بك الدهر يبدي ظله ويطيب
ويقلع عما ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربما
ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كل يوم للمكارم روعة
لها في قلوب المكرمات وجيب؟
تقسمت العلياء جسمك كله
فمن أين فيه للسقام نصيب؟
إذا ألمت نفس الوزير تألمت
لها أنفس تحيا بها وقلوب
ووالله لا لاحظت وجها أحبه
حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوبا ما أراه بوجهه
ولكنه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيمت
وعما قليل تبتدي فتصوب
تهلل وجه المجد وابتسم الندى
وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقة
ولا زال فيها من ظلالك طيب
وله:
على مهجتي تجني الحوادث والدهر
فأما اصطباري فهو ممتنع وعر
كأني ألاقي كل يوم ينوبني
بذنب وما ذنبي سوى أنني حر
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي
أضيق به ذرعا فعندي له الصبر
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى
وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرما
علي الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل: هذا اليسر عاينت دونه
مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدموا بالوفر قدمت قبلهم
بنفس فقير كل أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له
مطامعه في كف من حصل التبر
وله:
سقى الغيث أو دمعي - وقل كلاهما -
لها أربعا، جور الهوى بينها عدل
بحيث استرق الدعص وانبسط النقى
وحيث تناهى الحقف وانقطع الرمل
أكثر من أوصافها وهي واحد
ولكن أرى أسماءها في فمي تحلو
وفي ذلك الخدر المكلل ظبية
لكل فؤاد عند أجفانها ذحل
إذا خطرات الريح بين سجوفها
أباحت لطرف العين ما حظر البخل
تلقت بأثناء النصيف لحاظنا
وقالت لأخرى: ما لمستهتر عقل؟
أفي مثل هذا اليوم يمرح طرفه
وأعداؤنا حول وحسادنا قبل؟
ومدت لإسبال السجوف بنانها
فغازلنا عنها الشمائل والشكل
أبو العلاء المعري
وهل يتوقع منا قارئ هذه التراجم أن نترجم له شاعر الحكماء وحكيم الشعراء أبا العلاء المعري، وهو أعرف من أن يعرف، وقد أحاط المتأدبون بسيرته وعبقريته علما؟ وحسبنا أن ننبه هنا إلى أنه ولد سنة 363 وتوفي سنة 449، وأنه وضع شرحا لشعر المتنبي وسماه اللامع العزيزي، واختصر ديوان أبي تمام وشرحه وسماه ذكرى حبيب، وديوان البحتري، وسماه «عبث الوليد» وديوان المتنبي، وسماه معجز أحمد، وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم.
قال ابن خلكان: وأخذ عنه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأبو زكريا التبريزي - أحد شراح المتنبي وقد ترجمنا له - وغيرهما، والله أعلم.
هوامش
قافية الهمزة
قال - وقد طلب إليه سيف الدولة إجازة أبيات لأبي ذر سهل بن محمد الكاتب:
1
القلب أعلم يا عذول بدائه
وأحق منك بجفنه وبمائه
2
فومن أحب لأعصينك في الهوى
قسما به وبحسنه وبهائه
3
أأحبه وأحب فيه ملامة
إن الملامة فيه من أعدائه
4
عجب الوشاة من اللحاة وقولهم
دع ما براك ضعفت عن إخفائه
5
ما الخل إلا من أود بقلبه
وأرى بطرف لا يرى بسوائه
6
إن المعين على الصبابة بالأسى
أولى برحمة ربها وإخائه
7
مهلا فإن العذل من أسقامه
وترفقا فالسمع من أعضائه
8
وهب الملامة في اللذاذة كالكرى
مطرودة بسهاده وبكائه
9
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
10
إن القتيل مضرجا بدموعه
مثل القتيل مضرجا بدمائه
11
والعشق كالمعشوق يعذب قربه
للمبتلى وينال من حوبائه
12
لو قلت للدنف الحزين فديته
مما به لأغرته بفدائه
13
وقي الأمير هوى العيون فإنه
ما لا يزول ببأسه وسخائه
14
يستاسر البطل الكمي بنظرة
ويحول بين فؤاده وعزائه
15
إني دعوتك للنوائب دعوة
لم يدع سامعها إلى أكفائه
16
فأتيت من فوق الزمان وتحته
متصلصلا وأمامه وورائه
17
من للسيوف بأن تكون سميها
في أصله وفرنده ووفائه
18
وعلي المطبوع من آبائه
19
واستزاده سيف الدولة فقال أيضا:
عذل العواذل حول قلب التائه
وهوى الأحبة منه في سودائه
20
يشكو الملام إلى اللوائم حره
ويصد حين يلمن عن برحائه
21
وبمهجتي يا عاذلي الملك الذي
أسخطت كل الناس في إرضائه
22
إن كان قد ملك القلوب فإنه
ملك الزمان بأرضه وسمائه
23
الشمس من حساده والنصر من
قرنائه والسيف من أسمائه
24
أين الثلاثة من ثلاث خلاله
من حسنه وإبائه ومضائه
25
مضت الدهور وما أتين بمثله
ولقد أتى فعجزن عن نظرائه
26
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي، وكان قوم قد هجوه، وعزوا الهجاء إلى أبي الطيب فكتب إليه يعاتبه، فكتب أبو الطيب إليه:
أتنكر يا ابن إسحاق إخائي
وتحسب ماء غيري من إنائي
27
أأنطق فيك هجرا بعد علمي
بأنك خير من تحت السماء
28
وأكره من ذباب السيف طعما
وأمضى في الأمور من القضاء
29
وما أربت على العشرين سني
فكيف مللت من طول البقاء
30
وما استغرقت وصفك في مديحي
فأنقص منه شيئا بالهجاء
31
وهبني قلت هذا الصبح ليل
أيعمى العالمون عن الضياء
32
تطيع الحاسدين وأنت مرء
جعلت فداءه وهم فدائي
33
وهاجي نفسه من لم يميز
كلامي من كلامهم الهراء
34
وإن من العجائب أن تراني
فتعدل بي أقل من الهباء
35
وتنكر موتهم وأنا سهيل
طلعت بموت أولاد الزناء
36
وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي الكاتب، وكان يذهب إلى التصوف
37 .
أمن ازديارك في الدجى الرقباء
إذ حيث أنت من الظلام ضياء
38
قلق المليحة وهي مسك هتكها
ومسيرها في الليل وهي ذكاء
39
أسفي على أسفي الذي دلهتني
عن علمه فبه علي خفاء
40
وشكيتي فقد السقام لأنه
قد كان لما كان لي أعضاء
41
مثلت عينك في حشاي جراحة
فتشابها كلتاهما نجلاء
42
نفذت علي السابري وربما
تندق فيه الصعدة السمراء
43
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت
وإذا نطقت فإنني الجوزاء
44
وإذا خفيت على الغبي فعاذر
أن لا تراني مقلة عمياء
45
شيم الليالي أن تشكك ناقتي
صدري بها أفضى أم البيداء
46
فتبيت تسئد مسئدا في نيها
إسآدها في المهمه الإنضاء
47
أنساعها ممغوطة وخفافها
منكوحة وطريقها عذراء
48
يتلون الخريت من خوف التوى
فيها كما يتلون الحرباء
49
بيني وبين أبي علي مثله
شم الجبال ومثلهن رجاء
50
وعقاب لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء
51
لبس الثلوج بها علي مسالكي
فكأنها ببياضها سوداء
52
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة
سال النضار بها وقام الماء
53
جمد القطار ولو رأته كما ترى
بهتت فلم تتبجس الأنواء
54
في خطه من كل قلب شهوة
حتى كأن مداده الأهواء
55
ولكل عين قرة في قربه
حتى كأن مغيبه الأقذاء
56
من يهتدي في الفعل ما لا تهتدي
في القول حتى يفعل الشعراء
57
في كل يوم للقوافي جولة
في قلبه ولأذنه إصغاء
58
وإغارة فيما احتواه كأنما
في كل بيت فيلق شهباء
59
من يظلم اللؤماء في تكليفهم
أن يصبحوا وهم له أكفاء
60
ونذيمهم وبهم عرفنا فضله
وبضدها تتبين الأشياء
61
من نفعه في أن يهاج وضره
في تركه لو تفطن الأعداء
62
فالسلم يكسر من جناحي ماله
بنواله ما تجبر الهيجاء
63
يعطي فتعطى من لهى يده اللهى
وترى برؤية رأيه الآراء
64
متفرق الطعمين مجتمع القوى
فكأنه السراء والضراء
65
وكأنه ما لا تشاء عداته
متمثلا لوفوده ما شاءوا
66
يا أيها المجدى عليه روحه
إذ ليس يأتيه لها استجداء
67
احمد عفاتك لا فجعت بفقدهم
فلترك ما لم يأخذوا إعطاء
68
لا تكثر الأموات كثرة قلة
إلا إذا شقيت بك الأحياء
69
والقلب لا ينشق عما تحته
حتى تحل به لك الشحناء
70
لم تسم يا هارون إلا بعدما اق
ترعت ونازعت اسمك الأسماء
71
فغدوت واسمك فيك غير مشارك
والناس فيما في يديك سواء
72
لعممت حتى المدن منك ملاء
ولفت حتى ذا الثناء لفاء
73
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا
للمنتهى ومن السرور بكاء
74
أبدأت شيئا منك يعرف بدؤه
وأعدت حتى أنكر الإبداء
75
فالفخر عن تقصيره بك ناكب
والمجد من أن تستزاد براء
76
فإذا سئلت فلا لأنك محوج
وإذا كتمت وشت بك الآلاء
77
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة
للشاكرين على الإله ثناء
78
وإذا مطرت فلا لأنك مجدب
يسقى الخصيب وتمطر الدأماء
79
لم تحك نائلك السحاب وإنما
حمت به فصبيبها الرحضاء
80
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا
إلا بوجه ليس فيه حياء
81
فبأيما قدم سعيت إلى العلا
أدم الهلال لأخمصيك حذاء
82
ولك الزمان من الزمان وقاية
ولك الحمام من الحمام فداء
83
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو
عقمت بمولد نسلها حواء
84
وغنى المغني في دار الأمير أبي محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج فأحسن فقال:
ماذا يقول الذي يغني
يا خير من تحت ذي السماء
85
شغلت قلبي بلحظ عيني
إليك عن حسن ذا الغناء
86
وبنى كافور دارا بإزاء الجامع الأعلى على البركة، وطالب أبا الطيب بذكرها فقال:
إنما التهنئات للأكفاء
ولمن يدني من البعداء
87
وأنا منك لا يهنئ عضو
بالمسرات سائر الأعضاء
88
مستقل لك الديار ولو كا
ن نجوما آجر هذا البناء
89
ولو ان الذي يخر من الأم
واه فيها من فضة بيضاء
90
أنت أعلى محلة أن تهنى
بمكان في الأرض أو في السماء
91
ولك الناس والبلاد وما يس
رح بين الغبراء والخضراء
92
وبساتينك الجياد وما تح
مل من سمهرية سمراء
93
إنما يفخر الكريم أبو المس
ك بما يبتني من العلياء
94
وبأيامه التي انسلخت عن
ه وما داره سوى الهيجاء
95
وبما أثرت صوارمه البي
ض له في جماجم الأعداء
96
وبمسك يكنى به ليس بالمس
ك ولكنه أريج الثناء
97
لا بما يبتني الحواضر في الري
ف وما يطبي قلوب النساء
98
نزلت إذ نزلتها الدار في أح
سن منها من السنا والسناء
99
حل في منبت الرياحين منها
منبت المكرمات والآلاء
100
تفضح الشمس كلما ذرت الشم
س بشمس منيرة سوداء
101
إن في ثوبك الذي المجد فيه
لضياء يزري بكل ضياء
102
إنما الجلد ملبس وابيضاض الن
نفس خير من ابيضاض القباء
103
كرم في شجاعة وذكاء
في بهاء وقدرة في وفاء
104
من لبيض الملوك أن تبدل اللو
ن بلون الأستاذ والسحناء
105
فتراها بنو الحروب بأعيا
ن تراه بها غداة اللقاء
106
يا رجاء العيون في كل أرض
لم يكن غير أن أراك رجائي
ولقد أفنت المفاوز خيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
107
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
108
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
109
وقال يذكر خروجه من مصر وما لقي في طريقه، ويهجو كافورا:
ألا كل ماشية الخيزلى
فدا كل ماشية الهيذبى
110
وكل نجاة بجاوية
خنوف وما بي حسن المشى
111
ولكنهن حبال الحياة
وكيد العداة وميط الأذى
112
ضربت بها التيه ضرب القما
ر إما لهذا وإما لذا
113
إذا فزعت قدمتها الجياد
وبيض السيوف وسمر القنا
114
فمرت بنخل وفي ركبها
عن العالمين وعنه غنى
115
وأمست تخيرنا بالنقا
ب وادي المياه ووادي القرى
116
وقلنا لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتربان ها
117
وهبت بحسمى هبوب الدبو
ر مستقبلات مهب الصبا
118
روامي الكفاف وكبد الوهاد
وجار البويرة وادي الغضى
119
وجابت بسيطة جوب الردا
ء بين النعام وبين المها
120
إلى عقدة الجوف حتى شفت
بماء الجراوي بعض الصدى
121
ولاح لها صور والصباح
ولاح الشغور لها والضحى
122
ومسى الجميعي دئداؤها
وغادى الأضارع ثم الدنا
123
فيا لك ليلا على أعكش
أحم البلاد خفي الصوى
124
وردنا الرهيمة في جوزه
وباقيه أكثر مما مضى
125
فلما أنخنا ركزنا الرما
ح فوق مكارمنا والعلا
126
وبتنا نقبل أسيافنا
ونمسحها من دماء العدا
127
لتعلم مصر ومن بالعراق
ومن بالعواصم أني الفتى
128
وأني وفيت وأني أبيت
وأني عتوت على من عتا
129
وما كل من قال قولا وفى
ولا كل من سيم خسفا أبى
130
ولا بد للقلب من آلة
ورأي يصدع صم الصفا
131
ومن يك قلب كقلبي له
يشق إلى العز قلب التوى
132
وكل طريق أتاه الفتى
على قدر الرجل فيه الخطا
133
ونام الخويدم عن ليلنا
وقد نام قبل عمى لا كرى
134
وكان على قربنا بيننا
مهامه من جهله والعمى
135
لقد كنت أحسب قبل الخصي
ي أن الرءوس مقر النهى
136
فلما نظرت إلى عقله
رأيت النهى كلها في الخصى
137
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا
138
بها نبطي من اهل السواد
يدرس أنساب أهل الفلا
139
وأسود مشفره نصفه
يقال له أنت بدر الدجى
140
وشعر مدحت به الكركدن
بين القريض وبين الرقى
141
فما كان ذلك مدحا له
ولكنه كان هجو الورى
142
وقد ضل قوم بأصنامهم
فأما بزق رياح فلا
143
وتلك صموت وذا ناطق
إذا حركوه فسا أو هذى
144
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
145
وعاب قوم عليه علو الخيام، فقال
146 :
لقد نسبوا الخيام إلى علاء
أبيت قبوله كل الإباء
147
وما سلمت فوقك للثريا
ولا سلمت فوقك للسماء
148
وقد أوحشت أرض الشام حتى
سلبت ربوعها ثوب البهاء
149
تنفس والعواصم منك عشر
فتعرف طيب ذلك في الهواء
150
وقال يهجو السامري
151 :
أسامري ضحكة كل راء
فطنت وأنت أغبى الأغبياء
152
صغرت عن المديح فقلت أهجى
كأنك ما صغرت عن الهجاء
153
وما فكرت قبلك في محال
ولا جربت سيفي في هباء
154
هوامش
قافية الباء
وقال يمدح سيف الدولة وهو يسايره إلى الرقة وقد اشتد المطر بموضع يعرف بالثديين:
لعيني كل يوم منك حظ
تحير منه في أمر عجاب
1
حمالة ذا الحسام على حسام
وموقع ذا السحاب على سحاب
2
وزاد المطر فقال:
تجف الأرض من هذا الرباب
ويخلق ما كساها من ثياب
3
وما ينفك منك الدهر رطبا
ولا ينفك غيثك في انسكاب
4
تسايرك السواري والغوادي
مسايرة الأحباء الطراب
5
تفيد الجود منك فتحتذيه
وتعجز عن خلائقك العذاب
6
وأمره سيف الدولة بإجازة هذا البيت:
خرجت غداة النفر أعترض الدمى
فلم أر أحلى منك في العين والقلب
7
فقال:
فديناك أهدى الناس سهما إلى قلبي
وأقتلهم للدارعين بلا حرب
8
تفرد بالأحكام في أهله الهوى
فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب
9
وإني لممنوع المقاتل في الوغى
وإن كنت مبذول المقاتل في الحب
10
ومن خلقت عيناك بين جفونه
أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب
11 «وقال يعزيه عن عبده يماك التركي، وقد مات بحلب سنة أربعين وثلاثمائة»:
لا يحزن الله الأمير فإنني
سآخذ من حالاته بنصيب
12
ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى
بكى بعيون سرها وقلوب
13
وإني وإن كان الدفين حبيبه
حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي
14
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوب
15
تملكها الآتي تملك سالب
وفارقها الماضي فراق سليب
16
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
17
وأوفى حياة الغابرين لصاحب
حياة امرئ خانته بعد مشيب
18
لأبقى يماك في حشاي صبابة
إلى كل تركي النجار جليب
19
وما كل وجه أبيض بمبارك
ولا كل جفن ضيق بنجيب
20
لئن ظهرت فينا عليه كآبة
لقد ظهرت في حد كل قضيب
21
وفي كل قوس كل يوم تناضل
وفي كل طرف كل يوم ركوب
22
يعز عليه أن يخل بعادة
وتدعو لأمر وهو غير مجيب
23
وكنت إذا أبصرته لك قائما
نظرت إلى ذي لبدتين أديب
24
فإن يكن العلق النفيس فقدته
فمن كف متلاف أغر وهوب
25
كأن الردى عاد على كل ماجد
إذا لم يعوذ مجده بعيوب
26
ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا
غفلنا فلم نشعر له بذنوب
27
وللترك للإحسان خير لمحسن
إذا جعل الإحسان غير ربيب
28
وإن الذي أمست نزار عبيده
غني عن استعباده لغريب
29
كفى بصفاء الود رقا لمثله
وبالقرب منه مفخرا للبيب
30
فعوض سيف الدولة الأجر إنه
أجل مثاب من أجل مثيب
31
فتى الخيل قد بل النجيع نحورها
يطاعن في ضنك المقام عصيب
32
يعاف خيام الريط في غزواته
فما خيمه إلا غبار حروب
33
علينا لك الإسعاد إن كان نافعا
بشق قلوب لا بشق جيوب
34
فرب كئيب ليس تندى جفونه
ورب كثير الدمع غير كئيب
35
تسل بفكر في أبيك فإنما
بكيت فكان الضحك بعد قريب
36
إذا استقبلت نفس الكريم مصابها
بخبث ثنت فاستدبرته بطيب
37
وللواجد المكروب من زفراته
سكون عزاء أو سكون لغوب
38
وكم لك جدا لم تر العين وجهه
فلم تجر في آثاره بغروب
39
فدتك نفوس الحاسدين فإنها
معذبة في حضرة ومغيب
وفي تعب من يحسد الشمس نورها
ويجهد أن يأتي لها بضريب
40
وقال يمدحه، ويذكر بناء مرعش سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
41
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا
فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا
42
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة
لمن بان عنه أن نلم به ركبا
43
نذم السحاب الغر في فعلها به
ونعرض عنها كلما طلعت عتبا
44
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبا
45
وكيف التذاذي بالأصائل والضحى
إذا لم يعد ذاك النسيم الذي هبا
46
ذكرت به وصلا كأن لم أفز به
وعيشا كأني كنت أقطعه وثبا
47
وفتانة العينين قتالة الهوى
إذا نفحت شيخا روائحها شبا
48
لها بشر الدر الذي قلدت به
ولم أر بدرا قبلها قلد الشهبا
49
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى
ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
50
لقد لعب البين المشت بها وبي
وزودني في السير ما زود الضبا
51
ومن تكن الأسد الضواري جدوده
يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا
52
ولست أبالي بعد إدراكي العلا
أكان تراثا ما تناولت أم كسبا
53
فرب غلام علم المجد نفسه
كتعليم سيف الدولة الطعن والضربا
54
إذا الدولة استكفت به في ملمة
كفاها فكان السيف والكف والقلبا
55
تهاب سيوف الهند وهي حدائد
فكيف إذا كانت نزارية عربا
56
ويرهب ناب الليث والليث وحده
فكيف إذا كان الليوث له صحبا
57
ويخشى عباب البحر وهو مكانه
فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبا
58
عليم بأسرار الديانات واللغى
له خطرات تفضح الناس والكتبا
59
فبوركت من غيث كأن جلودنا
به تنبت الديباج والوشي والعصبا
60
ومن واهب جزلا ومن زاجر هلا
ومن هاتك درعا ومن ناثر قصبا
61
هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم
وأنك حزب الله صرت لهم حزبا
62
وأنك رعت الدهر فيها وريبه
فإن شك فليحدث بساحتها خطبا
63
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
ويوما بجود يطرد الفقر والجدبا
64
سراياك تترى والدمستق هارب
وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
65
أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا
وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
66
كذا يترك الأعداء من يكره القنا
ويقفل من كانت غنيمته رعبا
67
وهل رد عنه باللقان وقوفه
صدور العوالي والمطهمة القبا
68
مضى بعدما التف الرماحان ساعة
كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا
69
ولكنه ولى وللطعن سورة
إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا
70
وخلى العذارى والبطاريق والقرى
وشعث النصارى والقرابين والصلبا
71
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاما بها صبا
72
فحب الجبان النفس أورده التقى
وحب الشجاع النفس أورده الحربا
73
ويختلف الرزقان والفعل واحد
إلى أن يرى إحسان هذا لذا ذنبا
74
فأضحت كأن السور من فوق بدئه
إلى الأرض قد شق الكواكب والتربا
75
تصد الرياح الهوج عنها مخافة
وتفزع منها الطير أن تلقط الحبا
76
وتردي الجياد الجرد فوق جبالها
وقد ندف الصنبر في طرقها العطبا
77
كفى عجبا أن يعجب الناس أنه
بنى مرعشا تبا لآرائهم تبا
78
وما الفرق ما بين الأنام وبينه
إذا حذر المحذور واستصعب الصعبا
79
لأمر أعدته الخلافة للعدا
وسمته دون العالم الصارم العضبا
80
ولم تفترق عنه الأسنة رحمة
ولم يترك الشام الأعادي له حبا
81
ولكن نفاها عنه غير كريمة
كريم الثنا ما سب قط ولا سبا
82
وجيش يثني كل طود كأنه
خريق رياح واجهت غصنا رطبا
83
كأن نجوم الليل خافت مغاره
فمدت عليها من عجاجته حجبا
84
فمن كان يرضي اللؤم والكفر ملكه
فهذا الذي يرضي المكارم والربا
85
وقال فيما كان يجري بينهما من معاتبة مستعتبا:
86
من القصيدة الميمية:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا
فداه الورى أمضى السيوف مضاربا
87
وما لي إذا ما اشتقت أبصرت دونه
تنائف لا أشتاقها وسباسبا
88
وقد كان يدني مجلسي من سمائه
أحادث فيها بدرها والكواكبا
89
حنانيك مسئولا ولبيك داعيا
وحسبي موهوبا وحسبك واهبا
90
أهذا جزاء الصدق إن كنت صادقا
أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا
91
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه
محا الذنب كل المحو من جاء تائبا
92
وقال، وقد عرض على سيف الدولة سيوف مذهبة، وفيها سيف غير مذهب فأمر بإذهابه:
أحسن ما يخضب الحديد به
وخاضبيه النجيع والغضب
93
فلا تشيننه بالنضار فما
يجتمع الماء فيه والذهب
94
وتشكى سيف الدولة من دمل فقال فيه:
أيدري ما أرابك من يريب
وهل ترقى إلى الفلك الخطوب
95
وجسمك فوق همة كل داء
فقرب أقلها منه عجيب
96
يجمشك الزمان هوى وحبا
وقد يؤذى من المقة الحبيب
97
وكيف تعلك الدنيا بشيء
وأنت لعلة الدنيا طبيب
98
وكيف تنوبك الشكوى بداء
وأنت المستغاث لما ينوب
99
مللت مقام يوم ليس فيه
طعان صادق ود صبيب
100
وأنت الملك تمرضه الحشايا
لهمته وتشفيه الحروب
101
وما بك غير حبك أن تراها
وعثيرها لأرجلها جنيب
102
مجلحة لها أرض الأعادي
وللسمر المناحر والجنوب
103
فقرطها الأعنة راجعات
فإن بعيد ما طلبت قريب
104
أذا داء هفا بقراط عنه
فلم يعرف لصاحبه ضريب
105
بسيف الدولة الوضاء تمسي
جفوني تحت شمس ما تغيب
106
فأغزو من غزا وبه اقتداري
وأرمي من رمى وبه أصيب
وللحساد عذر أن يشحوا
على نظري إليه وأن يذوبوا
107
فإني قد وصلت إلى مكان
عليه تحسد الحدق القلوب
108
وأحدث بنو كلاب حدثا بنواحي بالس، وسار سيف الدولة خلفهم وأبو الطيب معه، فأدركهم بعد ليلة بين ماءين يعرفان بالغبارات والخرارات فأوقع بهم وملك الحريم فأبقى عليه، فقال أبو الطيب بعد رجوعه من هذه الغزوة - وأنشده إياها في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة:
بغيرك راعيا عبث الذئاب
وغيرك صارما ثلم الضراب
109
وتملك أنفس الثقلين طرا
فكيف تحوز أنفسها كلاب
110
وما تركوك معصية ولكن
يعاف الورد والموت الشراب
111
طلبتهم على الأمواه حتى
تخوف أن تفتشه السحاب
112
فبت لياليا لا نوم فيها
تخب بك المسومة العراب
113
يهز الجيش حولك جانبيه
كما نفضت جناحيها العقاب
114
وتسأل عنهم الفلوات حتى
أجابك بعضها وهم الجواب
115
فقاتل عن حريمهم وفروا
ندى كفيك والنسب القراب
116
وحفظك فيهم سلفي معد
وأنهم العشائر والصحاب
117
تكفكف عنهم صم العوالي
وقد شرقت بظعنهم الشعاب
118
وأسقطت الأجنة في الولايا
وأجهضت الحوائل والسقاب
119
وعمرو في ميامنهم عمور
وكعب في مياسرهم كعاب
120
وقد خذلت أبو بكر بنيها
وخاذلها قريظ والضباب
121
إذا ما سرت في آثار قوم
تخاذلت الجماجم والرقاب
122
فعدن كما أخذن مكرمات
عليهن القلائد والملاب
123
يثبنك بالذي أوليت شكرا
وأين من الذي تولي الثواب
124
وليس مصيرهن إليك شينا
ولا في صونهن لديك عاب
125
ولا في فقدهن بني كلاب
إذا أبصرن غرتك اغتراب
126
وكيف يتم بأسك في أناس
تصيبهم فيؤلمك المصاب
127
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
128
وإنهم عبيدك حيث كانوا
إذا تدعو لحادثة أجابوا
129
وعين المخطئين هم وليسوا
بأول معشر خطئوا فتابوا
130
وأنت حياتهم غضبت عليهم
وهجر حياتهم لهم عقاب
131
وما جهلت أياديك البوادي
ولكن ربما خفي الصواب
132
وكم ذنب مولده دلال
وكم بعد مولده اقتراب
133
وجرم جره سفهاء قوم
وحل بغير جارمه العذاب
134
فإن هابوا بجرمهم عليا
فقد يرجو عليا من يهاب
135
وإن يك سيف دولة غير قيس
فمنه جلود قيس والثياب
136
وتحت ربابه نبتوا وأثوا
وفي أيامه كثروا وطابوا
137
وتحت لوائه ضربوا الأعادي
وذل لهم من العرب الصعاب
138
ولو غير الأمير غزا كلابا
ثناه عن شموسهم ضباب
139
ولاقى دون ثايهم طعانا
يلاقي عنده الذئب الغراب
140
وخيلا تغتذي ريح الموامي
ويكفيها من الماء السراب
141
ولكن ربهم أسرى إليهم
فما نفع الوقوف ولا الذهاب
142
ولا ليل أجن ولا نهار
ولا خيل حملن ولا ركاب
143
رميتهم ببحر من حديد
له في البر خلفهم عباب
144
فمساهم وبسطهم حرير
وصبحهم وبسطهم تراب
145
ومن في كفه منهم قناة
كمن في كفه منهم خضاب
146
بنو قتلى أبيك بأرض نجد
ومن أبقى وأبقته الحراب
147
عفا عنهم وأعتقهم صغارا
وفي أعناق أكثرهم سخاب
148
وكلكم أتى مأتى أبيه
فكل فعال كلكم عجاب
149
كذا فليسر من طلب الأعادي
ومثل سراك فليكن الطلاب
150
وقال يرثي أخت سيف الدولة، وقد توفيت بميافارقين، وورد خبرها إلى الكوفة، فكتب أبو الطيب بهذه المرثية إليه من الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة:
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
كناية بهما عن أشرف النسب
151
أجل قدرك أن تسمي مؤبنة
ومن يصفك فقد سماك للعرب
152
لا يملك الطرب المحزون منطقه
ودمعه وهما في قبضة الطرب
153
غدرت يا موت كم أفنيت من عدد
بمن أصبت وكم أسكت من لجب
154
وكم صحبت أخاها في منازلة
وكم سألت فلم يبخل ولم تخب
155
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
156
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
157
تعثرت به في الأفواه ألسنها
والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
158
كأن فعلة لم تملأ مواكبها
ديار بكر ولم تخلع ولم تهب
159
ولم ترد حياة بعد تولية
ولم تغث داعيا بالويل والحرب
160
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت
فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
161
يظن أن فؤادي غير ملتهب
وأن دمع جفوني غير منسكب
162
بلى وحرمة من كانت مراعية
لحرمة المجد والقصاد والأدب
163
ومن مضت غير موروث خلائقها
وإن مضت يدها موروثة النشب
164
وهمها في العلى والمجد ناشئة
وهم أترابها في اللهو واللعب
165
يعلمن حين تحيا حسن مبسمها
وليس يعلم إلا الله بالشنب
166
مسرة في قلوب الطيب مفرقها
وحسرة في قلوب البيض واليلب
167
إذا رأى ورآها رأس لابسه
رأى المقانع أعلى منه في الرتب
168
وإن تكن خلقت أنثى لقد خلقت
كريمة غير أنثى العقل والحسب
169
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها
فإن في الخمر معنى ليس في العنب
170
فليت طالعة الشمسين غائبة
وليت غائبة الشمسين لم تغب
171
وليت عين التي آب النهار بها
فداء عين التي زالت ولم تؤب
172
فما تقلد بالياقوت مشبهها
ولا تقلد بالهندية القضب
173
ولا ذكرت جميلا من صنائعها
إلا بكيت ولا ود بلا سبب
174
قد كان كل حجاب دون رؤيتها
فما قنعت لها يا أرض بالحجب
175
ولا رأيت عيون الإنس تدركها
فهل حسدت عليها أعين الشهب
176
وهل سمعت سلاما لي ألم بها
فقد أطلت وما سلمت من كثب
177
وكيف يبلغ موتانا التي دفنت
وقد يقصر عن أحيائنا الغيب
178
يا أحسن الصبر زر أولى القلوب بها
وقل لصاحبه يا أنفع السحب
179
وأكرم الناس لا مستثنيا أحدا
من الكرام سوى آبائك النجب
180
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما
وعاش درهما المفدي بالذهب
181
وعاد في طلب المتروك تاركه
إنا لنغفل والأيام في الطلب
182
ما كان أقصر وقتا كان بينهما
كأنه الوقت بين الورد والقرب
183
جزاك ربك بالأحزان مغفرة
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب
184
وأنتم نفر تسخو نفوسكم
بما يهبن ولا يسخون بالسلب
185
حللتم من ملوك الناس كلهم
محل سمر القنا من سائر القصب
186
فلا تنلك الليالي إن أيديها
إذا ضربن كسرن النبع بالغرب
187
ولا يعن عدوا أنت قاهره
فإنهن يصدن الصقر بالخرب
188
وإن سررن بمحبوب فجعن به
وقد أتينك في الحالين بالعجب
189
وربما احتسب الإنسان غايتها
وفاجأته بأمر غير محتسب
190
وما قضى أحد منها لبانته
ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
191
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
إلا على شجب والخلف في الشجب
192
فقيل تخلص نفس المرء سالمة
193
وقيل تشرك جسم المرء في العطب
ومن تفكر في الدنيا ومهجته
أقامه الفكر بين العجز والتعب
194
وأنفذ إليه سيف الدولة كتابا بخطه إلى الكوفة يسأله المسير إليه، فأجابه بهذه الأبيات، وأنفذها إليه ميافارقين، وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة:
195
فهمت الكتاب أبر الكتب
فسمعا لأمر أمير العرب
196
وطوعا له وابتهاجا به
وإن قصر الفعل عما وجب
197
وما عاقني غير خوف الوشاة
وإن الوشايات طرق الكذب
198
وتكثير قوم وتقليلهم
وتقريبهم بيننا والخبب
199
وقد كان ينصرهم سمعه
وينصرني قلبه والحسب
200
وما قلت للبدر أنت اللجي
ن ولا قلت للشمس أنت الذهب
201
فيقلق منه البعيد الأناة
ويغضب منه البطيء الغضب
202
وما لاقني بلد بعدكم
ولا اعتضت من رب نعماي رب
203
ومن ركب الثور بعد الجوا
د أنكر أظلافه والغبب
204
وما قست كل ملوك البلاد
فدع ذكر بعض بمن في حلب
205
ولو كنت سميتهم باسمه
لكان الحديد وكانوا الخشب
206
أفي الرأي يشبه أم في السخا
ء أم في الشجاعة أم في الأدب
207
مبارك الاسم أغر اللقب
كريم الجرشى شريف النسب
208
أخو الحرب يخدم مما سبى
قناه ويخلع مما سلب
209
إذا حاز مالا فقد حازه
فتى لا يسر بما لا يهب
210
وإني لأتبع تذكاره
صلاة الإله وسقي السحب
211
وأثني عليه بآلائه
وأقرب منه نأى أو قرب
212
وإن فارقتني أمطاره
فأكثر غدرانها ما نضب
213
أيا سيف ربك لا خلقه
ويا ذا المكارم لا ذا الشطب
214
وأبعد ذي همة همة
وأعرف ذي رتبة بالرتب
215
وأطعن من مس خطية
وأضرب من بحسام ضرب
216
بذا اللفظ ناداك أهل الثغور
فلبيت والهام تحت القضب
217
وقد يئسوا من لذيذ الحياة
فعين تغور وقلب يجب
218
وغر الدمستق قول العدا
ة أن عليا ثقيل وصب
219
وقد علمت خيله أنه
إذا هم وهو عليل ركب
220
أتاهم بأوسع من أرضهم
طوال السبيب قصار العسب
221
تغيب الشواهق في جيشه
وتبدو صغارا إذا لم تغب
222
ولا تعبر الريح في جوه
إذا لم تخط القنا أو تثب
223
فغرق مدنهم بالجيوش
وأخفت أصواتهم باللجب
224
فأخبث به طالبا قهرهم
وأخبث به تاركا ما طلب
225
نأيت فقاتلهم باللقاء
وجئت فقاتلهم بالهرب
226
وكانوا له الفخر لما أتى
وكنت له العذر لما ذهب
227
سبقت إليهم مناياهم
ومنفعة الغوث قبل العطب
228
فخروا لخالقهم سجدا
ولو لم تغث سجدوا للصلب
229
وكم ذدت عنهم ردى بالردى
وكشفت من كرب بالكرب
230
وقد زعموا أنه إن يعد
يعد معه الملك المعتصب
231
ويستنصران الذي يعبدان
وعندهما أنه قد صلب
232
ليدفع ما ناله عنهما
فيا للرجال لهذا العجب
233
أرى المسلمين مع المشركي
ن إما لعجز وإما رهب
234
وأنت مع الله في جانب
قليل الرقاد كثير التعب
235
كأنك وحدك وحدته
ودان البرية بابن وأب
236
فليت سيوفك في حاسد
إذا ما ظهرت عليهم كئب
237
وليت شكاتك في جسمه
وليتك تجزي ببغض وحب
238
فلو كنت تجزي به نلت من
ك أضعف حظ بأقوى سبب
239
وقال في صباه ارتجالا، وقد عذله أبو سعيد المجيمري
240
على تركه لقاء الملوك:
أبا سعيد جنب العتابا
فرب رائي خطأ صوابا
241
فإنهم قد أكثروا الحجابا
واستوقفوا لردنا البوابا
242
وإن حد الصارم القرضابا
والذابلات السمر والعرابا
يرفع فيما بيننا الحجابا
243
وقال في صباه ارتجالا لبعض الكلابيين وهم على شراب:
لأحبتي أن يملئوا
بالصافيات الأكوبا
244
وعليهم أن يبذلوا
245
وعلي أن لا أشربا
حتى تكون الباترا
ت المسمعات فأطربا
246
وقال يرثي محمد بن إسحاق التنوخي، وينفي الشماتة عن بني عمه:
247
لأي صروف الدهر فيه نعاتب
وأي رزاياه بوتر نطالب
248
مضى من فقدنا صبرنا عند فقده
وقد كان يعطي الصبر والصبر عازب
249
يزور الأعادي في سماء عجاجة
أسنته في جانبيها الكواكب
250
فتسفر عنه والسيوف كأنما
مضاربها مما انفللن ضرائب
251
طلعن شموسا والغمود مشارق
لهن وهامات الرجال مغارب
252
مصائب شتى جمعت في مصيبة
ولم يكفها حتى قفتها مصائب
253
رثى ابن أبينا غير ذي رحم له
فباعدنا منه ونحن الأقارب
254
وعرض أنا شامتون بموته
وإلا فزارت عارضيه القواضب
255
أليس عجيبا أن بين بني أب
لنجل يهودي تدب العقارب
256
ألا إنما كانت وفاة محمد
دليلا على أن ليس لله غالب
257
وقال يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي:
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا
لأهله وشفى أنى ولا كربا
258
عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا
من العقول وما رد الذي ذهبا
259
سقيته عبرات ظنها مطرا
سوائلا من جفون ظنها سحبا
260
دار الملم لها طيف تهددني
ليلا فما صدقت عيني ولا كذبا
261
ناءيته فدنا أدنيته فنأى
جمشته فنبا قبلته فأبى
262
هام الفؤاد بأعرابية سكنت
بيتا من القلب لم تمدد له طنبا
263
مظلومة القد في تشبيهه غصنا
مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
264
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها
وعز ذلك مطلوبا إذا طلبا
265
كأنها الشمس يعيي كف قابضه
شعاعها ويراه الطرف مقتربا
266
مرت بنا بين تربيها فقلت لها
من أين جانس هذا الشادن العربا
267
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى
ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
268
جاءت بأشجع من يسمى وأسمح من
أعطى وأبلغ من أملى ومن كتبا
269
لو حل خاطره في مقعد لمشى
أو جاهل لصحا أو أخرس خطبا
270
إذا بدا حجبت عينيك هيبته
وليس يحجبه ستر إذا احتجبا
271
بياض وجه يريك الشمس حالكة
ودر لفظ يريك الدر مخشلبا
272
وسيف عزم ترد السيف هبته
رطب الغرار من التأمور مختضبا
273
عمر العدو إذا لاقاه في رهج
أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
274
توقه فمتى ما شئت تبلوه
فكن معاديه أو كن له نشبا
275
تحلو مذاقته حتى إذا غضبا
حالت فلو قطرت في الماء ما شربا
276
وتغبط الأرض منها حيث حل به
وتحسد الخيل منها أيها ركبا
277
ولا يرد بفيه كف سائله
عن نفسه ويرد الجحفل اللجبا
278
وكلما لقي الدينار صاحبه
في ملكه افترقا من قبل يصطحبا
279
مال كأن غراب البين يرقبه
فكلما قيل هذا مجتد نعبا
280
بحر عجائبه لم تبق في سمر
ولا عجائب بحر بعدها عجبا
281
لا يقنع ابن علي نيل منزلة
يشكو محاولها التقصير والتعبا
282
هز اللواء بنو عجل به فغدا
رأسا لهم وغدا كل لهم ذنبا
283
التاركين من الأشياء أهونها
والراكبين من الأشياء ما صعبا
284
مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي
هام الكماة على أرماحهم عذبا
285
إن المنية لو لاقتهم وقفت
خرقاء تتهم الإقدام والهربا
286
مراتب صعدت والفكر يتبعها
فجاز وهو على آثارها الشهبا
287
محامد نزفت شعري ليملأها
فآل ما امتلأت منه ولا نضبا
288
مكارم لك فت العالمين بها
من يستطيع لأمر فائت طلبا
289
لما أقمت بإنطاكية اختلفت
إلي بالخبر الركبان في حلبا
290
فسرت نحوك لا ألوي على أحد
أحث راحلتي الفقر والأدبا
291
أذاقني زمني بلوى شرقت بها
لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
292
وإن عمرت جعلت الحرب والدة
والسمهري أخا والمشرفي أبا
293
بكل أشعث يلقى الموت مبتسما
حتى كأن له في قتله أربا
294
قح يكاد صهيل الخيل يقذفه
295
عن سرجه مرحا بالغزو أو طربا
فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي
والبر أوسع والدنيا لمن غلبا
296
وقال يمدح علي بن منصور الحاجب:
297
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
298
المنهبات قلوبنا وعقولنا
وجناتهن الناهبات الناهبا
299
الناعمات القاتلات المحييا
ت المبديات من الدلال غرائبا
300
حاولن تفديتي وخفن مراقبا
فوضعن أيديهن فوق ترائبا
301
وبسمن عن برد خشيت أذيبه
من حر أنفاسي فكنت الذائبا
302
يا حبذا المتحملون وحبذا
واد لثمت به الغزالة كاعبا
303
كيف الرجاء من الخطوب تخلصا
من بعد ما أنشبن في مخالبا
304
أوحدنني ووجدن حزنا واحدا
متناهيا فجعلنه لي صاحبا
305
ونصبنني غرض الرماة تصيبني
محن أحد من السيوف مضاربا
306
أظمتني الدنيا فلما جئتها
مستسقيا مطرت علي مصائبا
307
وحبيت من خوص الركاب بأسود
من دارش فغدوت أمشي راكبا
308
حال متى علم ابن منصور بها
جاء الزمان إلي منها تائبا
309
ملك سنان قناته وبنانه
يتباريان دما وعرفا ساكبا
310
يستصغر الخطر الكبير لوفده
ويظن دجلة ليس تكفي شاربا
311
كرما فلو حدثته عن نفسه
بعظيم ما صنعت لظنك كاذبا
312
سل عن شجاعته وزره مسالما
وحذار ثم حذار منه محاربا
313
فالموت تعرف بالصفات طباعه
لم تلق خلقا ذاق موتا آيبا
314
إن تلقه لا تلق إلا قسطلا
أو جحفلا أو طاعنا أو ضاربا
315
أو هاربا أو طالبا أو راغبا
أو راهبا أو هالكا أو نادبا
316
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها
فوق السهول عواسلا وقواضبا
317
وإذا نظرت إلى السهول رأيتها
تحت الجبال فوارسا وجنائبا
318
وعجاجة ترك الحديد سوادها
زنجا تبسم أو قذالا شائبا
319
فكأنما كسي النهار بها دجى
ليل وأطلعت الرماح كواكبا
320
قد عسكرت معها الرزايا عسكرا
وتكتبت فيها الرجال كتائبا
321
أسد فرائسها الأسود يقودها
أسد تصير له الأسود ثعالبا
في رتبة حجب الورى عن نيلها
وعلا فسموه علي الحاجبا
322
ودعوه من فرط السخاء مبذرا
ودعوه من غصب النفوس الغاصبا
هذا الذي أفنى النضار مواهبا
وعداه قتلا والزمان تجاربا
323
ومخيب العذال فيما أملوا
منه وليس يرد كفا خائبا
324
هذا الذي أبصرت منه حاضرا
مثل الذي أبصرت منه غائبا
325
كالبدر من حيث التفت رأيته
يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا
326
كالبحر يقذف للقريب جواهرا
جودا ويبعث للبعد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوءها
يغشى البلاد مشارقا ومغاربا
أمهجن الكرماء والمزري بهم
وتروك كل كريم قوم عاتبا
327
شادوا مناقبهم وشدت مناقبا
وجدت مناقبهم بهن مثالبا
328
لبيك غيظ الحاسدين الراتبا
إنا لنخبر من يديك عجائبا
329
تدبير ذي حنك يفكر في غد
وهجوم غر لا يخاف عواقبا
330
وعطاء مال لو عداه طالب
أنفقته في أن تلاقي طالبا
331
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه
لا تلزمني في الثناء الواجبا
332
فلقد دهشت لما فعلت ودونه
ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
333
وقال يمدح بدر بن عمار ارتجالا، وهو على الشراب والفاكهة والنرجس حوله:
إنما بدر بن عمار سحاب
هطل فيه ثواب وعقاب
334
إنما بدر رزايا وعطايا
ومنايا وطعان وضراب
335
ما يجيل الطرف إلا حمدته
جهدها الأيدي وذمته الرقاب
336
ما به قتل أعاديه ولكن
يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
337
فله هيبة من لا يترجى
وله جود مرجى لا يهاب
338
طاعن الفرسان في الأحداق شزرا
وعجاج الحرب للشمس نقاب
339
باعث النفس على الهول الذي لي
س لنفس وقعت فيه إياب
340
بأبي ريحك لا نرجسنا ذا
وأحاديثك لا هذا الشراب
341
ليس بالمنكر إن برزت سبقا
غير مدفوع عن السبق العراب
342
وجلس بدر بن عمار يلعب بالشطرنج، وقد كثر المطر، فقال أبو الطيب:
ألم تر أيها الملك المرجى
عجائب ما رأيت من السحاب
تشكى الأرض غيبته إليه
وترشف ماءه رشف الرضاب؟
343
وأوهم أن في الشطرنج همي
وفيك تأملي ولك انتصابي
344
سأمضي والسلام عليك مني
مغيبي ليلتي وغدا إيابي
345
وقال في لعبة أحضرت مجلس بدر على صورة جارية، وأديرت فوقفت حذاء بدر رافعة رجلها، وكانت ترقص بحركات:
يا ذا المعالي ومعدن الأدب
سيدنا وابن سيد العرب
أنت عليم بكل معجزة
ولو سألنا سواك لم يجب
346
أهذه قابلتك راقصة
أم رفعت رجلها من التعب؟
وقال يمدح علي بن محمد بن سيار بن مكرم التميمي، وكان يحب الرمي بالنشاب ويتعاطاه، وكان له وكيل يتعرض للشعر، فأنفذه إلى أبي الطيب يناشده، فتلقاه وأجلسه في مجلسه، ثم كتب إلى علي يقول:
ضروب الناس عشاق ضروبا
فأعذرهم أشفهم حبيبا
347
وما سكني سوى قتل الأعادي
فهل من زورة تشفي القلوبا؟
348
تظل الطير منها في حديث
ترد به الصراصر والنعيبا
349
وقد لبست دماءهم عليهم
حدادا لم تشق لها جيوبا
350
أدمنا طعنهم والقتل حتى
خلطنا في عظامهم الكعوبا
351
كأن خيولنا كانت قديما
تسقى في قحوفهم الحليبا
352
فمرت غير نافرة عليهم
تدوس بنا الجماجم والتريبا
353
يقدمها وقد خضبت شواها
فتى ترمي الحروب به الحروبا
354
شديد الخنزوانة لا يبالي
أصاب إذا تنمر أم أصيبا
355
أعزمي طال هذا الليل فانظر
أمنك الصبح يفرق أن يئوبا؟
356
كأن الفجر حب مستزار
يراعي من دجنته رقيبا
357
كأن نجومه حلي عليه
وقد حذيت قوائمه الجبوبا
358
كأن الجو قاسى ما أقاسي
فصار سواده فيه شحوبا
359
كأن دجاه يجذبها سهادي
فليس تغيب إلا أن يغيبا
360
أقلب فيه أجفاني كأني
أعد به على الدهر الذنوبا
361
وما ليل بأطول من نهار
يظل بلحظ حسادي مشوبا
362
وما موت بأبغض من حياة
أرى لهم معي فيها نصيبا
363
عرفت نوائب الحدثان حتى
لو انتسبت لكنت لها نقيبا
364
ولما قلت الإبل امتطينا
إلى ابن أبي سليمان الخطوبا
365
مطايا لا تذل لمن عليها
ولا يبغي لها أحد ركوبا
366
وترتع دون نبت الأرض فينا
فما فارقتها إلا جديبا
367
إلى ذي شيمة شعفت فؤادي
فلولاه لقلت بها النسيبا
368
تنازعني هواها كل نفس
وإن لم تشبه الرشأ الربيبا
369
عجيب في الزمان وما عجيب
أتى من آل سيار عجيبا
370
وشيخ في الشباب وليس شيخا
يسمى كل من بلغ المشيبا
371
قسا فالأسد تفزع من قواه
ورق فنحن نفزع أن يذوبا
372
أشد من الرياح الهوج بطشا
وأسرع في الندى منها هبوبا
373
وقالوا ذاك أرمى من رأينا
فقلت رأيتم الغرض القريبا
374
وهل يخطي بأسهمه الرمايا
وما يخطي بما ظن الغيوبا
375
إذا نكبت كنانته استبنا
بأنصلها لأنصلها ندوبا
376
يصيب ببعضها أفواق بعض
فلولا الكسر لاتصلت قضيبا
377
بكل مقوم لم يعص أمرا
له حتى ظنناه لبيبا
378
يريك النزع بين القوس منه
وبين رميه الهدف المهيبا
379
ألست ابن الألى سعدوا وسادوا
ولم يلدوا امرأ إلا نجيبا
380
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هونا
وصاد الوحش نملهم دبيبا
381
وما ريح الرياض لها ولكن
كساها دفنهم في الترب طيبا
382
أيا من عاد روح المجد فيه
وعاد زمانه التالي قشيبا
383
تيممني وكلك مادحا لي
وأنشدني من الشعر الغريبا
384
فآجرك الإله على عليل
بعثت إلى المسيح به طبيبا
385
ولست بمنكر منك الهدايا
ولكن زدتني فيها أديبا
فلا زالت ديارك مشرقات
ولا دانيت يا شمس الغروبا
386
لأصبح آمنا فيك الرزايا
كما أنا آمن فيك العيوبا
387
وقال يصف مجلسين لأبي محمد الحسن بن عبد الله بن طغج ، قد انزوى أحدهما عن الآخر ليرى من كل واحد منهما ما لا يرى من صاحبه:
المجلسان على التمييز بينهما
مقابلان ولكن أحسنا الأدبا
388
إذا صعدت إلى ذا، مال ذا رهبا
وإن صعدت إلى ذا، مال ذا رهبا
389
فلم يهابك ما لا حس يردعه
إني لأبصر من شأنيهما عجبا
390
وقال، وقد استقل في القبة، ونظر إلى السحاب:
تعرض لي السحاب وقد قفلنا
فقلت إليك إن معي السحابا
391
فشم في القبة الملك المرجى
فأمسك بعدما عزم انسكابا
392
وأشار إليه طاهر العلوي بمسك وأبو محمد حاضر فقال:
الطيب مما غنيت عنه
كفى بقرب الأمير طيبا
يبني به ربنا المعالي
كما بكم يغفر الذنوبا
393
وقال، وقد استحسن عين باز في مجلسه:
أيا ما أحيسنها مقلة
ولولا الملاحة لم أعجب
394
خلوقية في خلوقيها
سويداء من عنب الثعلب
395
إذا نظر الباز في عطفه
كسته شعاعا على المنكب
396
وقال يمدح أبا القاسم طاهر بن الحسين العلوي:
397
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب
وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
398
فإن نهاري ليلة مدلهمة
على مقلة من بعدكم في غياهب
399
بعيدة ما بين الجفون كأنما
عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
400
وأحسب أني لو هويت فراقكم
لفارقته والدهر أخبث صاحب
401
فيا ليت ما بيني وبين أحبتي
من البعد ما بيني وبين المصائب
402
أراك ظننت السلك جسمي فعقته
عليك بدر عن لقاء الترائب
403
ولو قلم ألقيت في شق رأسه
من السقم ما غيرت من خط كاتب
404
تخوفني دون الذي أمرت به
ولم تدر أن العار شر العواقب
405
ولا بد من يوم أغر محجل
يطول استماعي بعده للنوادب
406
يهون على مثلي إذا رام حاجة
وقوع العوالي دونها والقواضب
407
كثير حياة المرء مثل قليلها
يزول وباقي عيشه مثل ذاهب
408
إليك فإني لست ممن إذا اتقى
عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
409
أتاني وعيد الأدعياء وأنهم
أعدوا لي السودان في كفر عاقب
410
ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم
فهل في وحدي قولهم غير كاذب
411
إلي لعمري قصد كل عجيبة
كأني عجيب في عيون العجائب
412
بأي بلاد لم أجر ذؤابتي
وأي مكان لم تطأه ركائبي
413
كأن رحيلي كان من كف طاهر
فأثبت كوري في ظهور المواهب
414
فلم يبق خلق لم يردن فناءه
وهن له شرب ورود المشارب
415
فتى علمته نفسه وجدوده
قراع الأعادي وابتذال الرغائب
416
فقد غيب الشهاد عن كل موطن
ورد إلى أوطانه كل غائب
417
كذا الفاطميون الندى في بنانهم
أعز امحاء من خطوط الرواجب
418
أناس إذا لاقوا عدى فكأنما
سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب
419
رموا بنواصيها القسي فجئنها
دوامي الهوادي سالمات الجوانب
420
أولئك أحلى من حياة معادة
وأكثر ذكرا من دهور الشبائب
421
نصرت عليا يا ابنه ببواتر
من الفعل لا فل لها في المضارب
422
وأبهر آيات التهامي أنه
أبوك وأجدى ما لكم من مناقب
423
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله
فماذا الذي تغني كرام المناصب
424
وما قربت أشباه قوم أباعد
ولا بعدت أشباه قوم أقارب
425
إذا علوي لم يكن مثل طاهر
فما هو إلا حجة للنواصب
426
يقولون تأثير الكواكب في الورى
فما باله تأثيره في الكواكب
427
علا كتد الدنيا إلى كل غاية
تسير به سير الذلول براكب
428
وحق له أن يسبق الناس جالسا
ويدرك ما لم يدركوا غير طالب
429
ويحذى عرانين الملوك وإنها
لمن قدميه في أجل المراتب
430
يد للزمان الجمع بيني وبينه
لتفريقه بيني وبين النوائب
431
هو ابن رسول الله وابن وصيه
وشبههما شبهت بعد التجارب
432
يرى أن ما ما بان منك لضارب
بأقتل مما بان منك لعائب
433
ألا أيها المال الذي قد أباده
تعز فهذا فعله في الكتائب
434
لعلك في وقت شغلت فؤاده
عن الجود أو كثرت جيش محارب
435
حملت إليه من لساني حديقة
سقاها الحجى سقي الرياض السحائب
436
فحييت خير ابن لخير أب بها
لأشرف بيت في لؤي بن غالب
437
وقال يمدح كافورا سنة ست وأربعين وثلاثمائة - وهي من محاسن شعره:
من الجآذر في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
438
إن كنت تسأل شكا في معارفها
فمن بلاك بتسهيد وتعذيب
439
لا تجزني بضنى بي بعدها بقر
تجزي دموعي مسكوبا بمسكوب
440
سوائر ربما سارت هوادجها
منيعة بين مطعون ومضروب
441
وربما وخدت أيدي المطي بها
على نجيع من الفرسان مصبوب
442
كم زورة لك في الأعراب خافية
أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
443
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
444
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها
وخالفوها بتقويض وتطنيب
445
جيرانها وهم شر الجوار لها
وصحبها وهم شر الأصاحيب
446
فؤاد كل محب في بيوتهم
ومال كل أخيذ المال محروب
447
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
448
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
449
أين المعيز من الآرام ناظرة
وغير ناظرة في الحسن والطيب
450
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
451
ولا برزن من الحمام ماثلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
452
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
453
ومن هوى الصدق في قولي وعادته
رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
454
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
455
فما الحداثة من حلم بمانعة
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
456
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل اكتهال أديبا قبل تأديب
457
مجربا فهما من قبل تجربة
مهذبا كرما من غير تهذيب
458
حتى أصاب من الدنيا نهايتها
وهمه في ابتداءات وتشبيب
459
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
460
إذا أتتها الرياح النكب من بلد
فما تهب بها إلا بترتيب
461
ولا تجاوزها شمس إذا شرقت
إلا ومنه لها إذن بتغريب
462
يصرف الأمر فيها طين خاتمه
ولو تطلس منه كل مكتوب
463
يحط كل طويل الرمح حامله
من سرج كل طويل الباع يعبوب
464
كأن كل سؤال في مسامعه
قميص يوسف في أجفان يعقوب
465
إذا غزته أعاديه بمسألة
فقد غزته بجيش غير مغلوب
466
أو حاربته فما تنجو بتقدمة
مما أراد ولا تنجو بتجبيب
467
أضرت شجاعته أقصى كتائبه
على الحمام فما موت بمرهوب
468
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم
إلى غيوث يديه والشآبيب
469
إلى الذي تهب الدولات راحته
ولا يمن على آثار موهوب
470
ولا يروع بمغدور به أحدا
ولا يفزع موفورا بمنكوب
471
بلى يروع بذي جيش يجدله
ذا مثله في أحم النقع غربيب
472
وجدت أنفع مال كنت أذخره
ما في السوابق من جري وتقريب
473
لما رأين صروف الدهر تغدر بي
وفين لي ووفت صم الأنابيب
474
فتن المهالك حتى قال قائلها
ماذا لقينا من الجرد السراحيب
475
تهوي بمنجرد ليست مذاهبه
للبس ثوب ومأكول ومشروب
476
يرى النجوم بعيني من يحاولها
كأنها سلب في عين مسلوب
477
حتى وصلت إلى نفس مححبة
تلقى النفوس بفضل غير محجوب
478
في جسم أروع صافي العقل تضحكه
خلائق الناس إضحاك الأعاجيب
479
فالحمد قبل له والحمد بعد لها
وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
480
وكيف أكفر يا كافور نعمتها
وقد بلغنك بي يا كل مطلوبي
يا أيها الملك الغاني بتسمية
في الشرق والغرب عن وصف وتلقيب
481
أنت الحبيب ولكني أعوذ به
من أن أكون محبا غير محبوب
482
وقال يمدحه في شوال سنة سبع وأربعين وثلاثمائة:
483
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب
وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
484
أما تغلط الأيام في بأن أرى
بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب
485
ولله سيري ما أقل تئية
عشية شرقي الحدالى وغرب
486
عشية أحفى الناس بي من جفوته
وأهدى الطريقين التي أتجنب
487
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب
488
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب
489
ويوم كليل العاشقين كمنته
أراقب فيه الشمس أيان تغرب
490
وعيني إلى أذني أغر كأنه
من الليل باق بين عينيه كوكب
491
له فضلة عن جسمه في إهابه
تجيء على صدر رحيب وتذهب
492
شققت به الظلماء أدني عنانه
فيطغى وأرخيه مرارا فيلعب
493
وأصرع أي الوحش قفيته به
وأنزل عنه مثله حين أركب
494
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
وإن كثرت في عين من لا يجرب
495
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
496
لحا الله ذي الدنيا مناخا لراكب
فكل بعيد الهم فيها معذب
497
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة
فلا أشتكي فيها ولا أتعتب
498
وبي ما يذود الشعر عني أقله
ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب
499
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه
وإن لم أشأ تملي علي وأكتب
500
إذا ترك الإنسان أهلا وراءه
ويمم كافورا فما يتغرب
501
فتى يملا الأفعال رأيا وحكمة
ونادرة أحيان يرضى ويغضب
502
إذا ضربت في الحرب بالسيف كفه
تبينت أن السيف بالكف يضرب
503
تزيد عطاياه على اللبث كثرة
وتلبث أمواه السحاب فتنضب
504
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب
505
وهبت على مقدار كفي زماننا
ونفسي على مقدار كفيك تطلب
506
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
507
يضاحك في ذا العيد كل حبيبه
حذائي وأبكي من أحب وأندب
508
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم
وأين من المشتاق عنقاء مغرب
509
فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم
فإنك أحلى في فؤادي وأعذب
510
وكل امرئ يولي الجميل محبب
وكل مكان ينبت العز طيب
511
يريد بك الحساد ما الله دافع
وسمر العوالي والحديد المذرب
512
ودون الذي يبغون ما لو تخلصوا
إلى الموت منه عشت والطفل أشيب
513
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكموا
وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبوا
514
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها
ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
515
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا
لمن بات في نعمائه يتقلب
516
وأنت الذي ربيت ذا الملك مرضعا
وليس له أم سواك ولا أب
517
وكنت له ليث العرين لشبله
وما لك إلا الهندواني مخلب
518
لقيت القنا عنه بنفس كريمة
إلى الموت في الهيجا من العار تهرب
519
وقد يترك النفس التي لا تهابه
ويخترم النفس التي تتهيب
520
وما عدم اللاقوك بأسا وشدة
ولكن من لاقوا أشد وأنجب
521
ثناهم وبرق البيض في البيض صادق
عليهم وبرق البيض في البيض خلب
522
سللت سيوفا علمت كل خاطب
على كل عود كيف يدعو ويخطب
523
ويغنيك عما ينسب الناس أنه
إليك تناهى المكرمات وتنسب
524
وأي قبيل يستحفك قدره
معد بن عدنان فداك ويعرب
525
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
526
وتعذلني فيك القوافي وهمتي
كأني بمدح قبل مدحك مذنب
527
ولكنه طال الطريق ولم أزل
أفتش عن هذا الكلام وينهب
528
فشرق حتى ليس للشرق مشرق
وغرب حتى ليس للغرب مغرب
529
إذا قلته لم يمتنع من وصوله
جدار معلى أو خباء مطنب
530
وقال يمدحه، وأنشده إياها في شوال سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وهي آخر ما أنشده، ولم يلقه بعدها:
منى كن لي أن البياض خضاب
فيخفى بتبييض القرون شباب
531
ليالي عند البيض فوداي فتنة
وفخر وذاك الفخر عندي عاب
532
فكيف أذم اليوم ما كنت أشتهي
وأدعو بما أشكوه حين أجاب
533
جلا اللون عن لون هدى كل مسلك
كما انجاب عن ضوء النهار ضباب
534
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبه
ولو ان ما في الوجه منه حراب
535
لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبق في الفم ناب
536
يغير مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
537
وإني لنجم تهتدي بي صحبتي
إذا حال من دون النجوم سحاب
538
غني عن الأوطان لا يستفزني
إلى بلد سافرت عنه إياب
539
وعن ذملان العيس إن سامحت به
وإلا ففي أكوارهن عقاب
540
وأصدى فلا أبدي إلى الماء حاجة
وللشمس فوق اليعملات لعاب
541
وللسر مني موضع لا يناله
نديم ولا يفضي إليه شراب
542
وللخود مني ساعة ثم بيننا
فلاة إلى غير اللقاء تجاب
543
وما العشق إلا غرة وطماعة
يعرض قلب نفسه فيصاب
544
وغير فؤادي للغواني رمية
وغير بناني للزجاج ركاب
545
تركنا لأطراف القنا كل شهوة
فليس لنا إلا بهن لعاب
546
نصرفه للطعن فوق حوادر
قد انقصفت فيهن منه كعاب
547
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب
548
وبحر أبو المسك الخضم الذي له
على كل بحر زخرة وعباب
549
تجاوز قدر المدح حتى كأنه
بأحسن ما يثنى عليه يعاب
550
وغالبه الأعداء ثم عنوا له
كما غالبت بيض السيوف رقاب
551
وأكثر ما تلقى أبا المسك بذلة
إذا لم تصن إلا الحديد ثياب
552
وأوسع ما تلقاه صدرا وخلفه
رماء وطعن والأمام ضراب
553
وأنفذ ما تلقاه حكما إذا قضى
قضاء ملوك الأرض منه غضاب
554
يقود إليه طاعة الناس فضله
ولو لم يقدها نائل وعقاب
555
أيا أسدا في جسمه روح ضيغم
وكم أسد أرواحهن كلاب
556
ويا آخذا من دهره حق نفسه
ومثلك يعطى حقه ويهاب
557
لنا عند هذا الدهر حق يلطه
وقد قل إعتاب وطال عتاب
558
وقد تحدث الأيام عندك شيمة
وتنعمر الأوقات وهي يباب
559
ولا ملك إلا أنت والملك فضلة
كأنك سيف فيه وهو قراب
560
أرى لي بقربي منك عينا قريرة
وإن كان قربا بالبعاد يشاب
561
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا
ودون الذي أملت منك حجاب
562
أقل سلامي حب ما خف عنكم
وأسكت كيما لا يكون جواب
563
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيان عندها وخطاب
564
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
565
وما شئت إلا أن أدل عواذلي
على أن رأيي في هواك صواب
566
وأعلم قوما خالفوني فشرقوا
وغربت أني قد ظفرت وخابوا
567
جرى الخلف إلا فيك أنك واحد
وأنك ليث والملوك ذئاب
568
وأنك إن قويست صحف قارئ
ذئابا ولم يخطئ فقال ذباب
569
وإن مديح الناس حق وباطل
ومدحك حق ليس فيه كذاب
570
إذا نلت منك الود فالمال هين
وكل الذي فوق التراب تراب
وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا
له كل يوم بلدة وصحاب
571
ولكنك الدنيا إلي حبيبة
فما عنك لي إلا إليك ذهاب
572
ومر في صباه برجلين قد قتلا جرذا وأبرزاه يعجبان الناس من كبره فقال:
لقد أصبح الجرذ المستغير
أسير المنايا صريع العطب
573
رماه الكناني والعامري
وتلاه للوجه فعل العرب
574
كلا الرجلين اتلا قتله
فأيكما غل حر السلب
575
وأيكما كان من خلفه
فإن به عضة في الذنب
وقال يهجو ضبة بن يزيد العتبي:
576
ما أنصف القوم ضبه
وأمه الطرطبه
577
رموا برأس أبيه
وباكوا الام غلبه
578
فلا بمن مات فخر
ولا بمن نيك رغبه
579
وإنما قلت ما قل
ت رحمة لا محبه
580
وحيلة لك حتى
عذرت لو كنت تيبه
581
وما عليك من القت
ل إنما هي ضربه
582
وما عليك من الغد
ر إنما هو سبه
583
وما عليك من العا
ر إن أمك قحبه
584
وما يشق على الكل
ب أن يكون ابن كلبه
ما ضرها من أتاها
وإنما ضر صلبه
ولم ينكها ولكن
عجانها ناك زبه
585
يلوم ضبة قوم
ولا يلومون قلبه
وقلبه يتشهى
ويلزم الجسم ذنبه
لو أبصر الجذع شيئا
أحب في الجذع صلبه
586
يا أطيب الناس نفسا
وألين الناس ركبه
587
وأخبث الناس أصلا
في أخبث الأرض تربه
وأرخص الناس أما
تبيع ألفا بحبه
كل الفعول سهام
لمريم وهي جعبه
588
وما على من به الدا
ء من لقاء الأطبه
589
وليس بين هلوك
وحرة غير خطبه
590
يا قاتلا كل ضيف
غناه ضيح وعلبه
591
وخوف كل رفيق
أباتك الليل جنبه
592
كذا خلقت ومن ذا ال
ذي يغالب ربه
593
ومن يبالي بذم
إذا تعود كسبه
أما ترى الخيل في النخ
ل سربة بعد سربه
594
على نسائك تجلو
فعولها منذ سنبه
595
وهن حولك ينظر
ن والأحيراح رطبه
596
وكل غرمول بغل
يرين يحسدن قنبه
597
فسل فؤادك يا ضب
أين خلف عجبه
598
وإن يخنك لعمري
لطالما خان صحبه
599
وكيف ترغب فيه
وقد تبينت رعبه
600
ما كنت إلا ذبابا
نفتك عنا مذبه
601
وكنت تفخر تيها
فصرت تضرط رهبه
وإن بعدنا قليلا
حملت رمحا وحربه
602
وقلت ليت بكفي
عنان جرداء شطبه
603
إن أوحشتك المعالي
فإنها دار غربه
604
أو آنستك المخازي
فإنها لك نسبه
605
وإن عرفت مرادي
تكشفت عنك كربه
606
وإن جهلت مرادي
فإنه بك أشبه
607
وقال يعزي أبا شجاع عضد الدولة بعمته، وقد توفيت ببغداد:
آخر ما الملك معزى به
هذا الذي أثر في قلبه
608
لا جزعا بل أنفا شابه
أن يقدر الدهر على غصبه
609
لو درت الدنيا بما عنده
لاستحيت الأيام من عتبه
610
لعلها تحسب أن الذي
ليس لديه ليس من حزبه
611
وأن من بغداد دار له
ليس مقيما في ذرى عضبه
612
وأن جد المرء أوطانه
من ليس منها ليس من صلبه
613
أخاف أن تفطن أعداؤه
فيجفلوا خوفا إلى قربه
614
لا بد للإنسان من ضجعة
لا تقلب المضجع عن جنبه
615
ينسى بها ما كان من عجبه
وما أذاق الموت من كربه
616
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربه
617
تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هي من كسبه
618
فهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه
619
لو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يسبه
620
لم ير قرن الشمس في شرقه
فشكت الأنفس في غربه
621
يموت راعي الضأن في جهله
موتة جالينوس في طبه
622
وربما زاد على عمره
وزاد في الأمن على سربه
623
وغاية المفرط في سلمه
كغاية المفرط في حربه
624
فلا قضى حاجته طالب
فؤاده يخفق من رعبه
625
أستغفر الله لشخص مضى
كان نداه منتهى ذنبه
626
وكان من عدد إحسانه
كأنه أفرط في سبه
627
يريد من حب العلى عيشه
ولا يريد العيش من حبه
628
يحسبه دافنه وحده
ومجده في القبر من صحبه
629
ويظهر التذكير في ذكره
ويستر التأنيث في حجبه
630
أخت أبي خير أمير دعا
فقال جيش للقنا لبه
631
يا عضد الدولة من ركنها
أبوه والقلب أبو لبه
632
ومن بنوه زين آبائه
كأنها النور على قضبه
633
فخرا لدهر أنت من أهله
ومنجب أصبحت من عقبه
634
إن الأسى القرن فلا تحيه
وسيفك الصبر فلا تنبه
635
ما كان عندي أن بدر الدجى
يوحشه المفقود من شهبه
636
حاشاك أن تضعف عن حمل ما
تحمل السائر في كتبه
637
وقد حملت الثقل من قبله
فأغنت الشدة عن سحبه
638
يدخل صبر المرء في مدحه
ويدخل الإشفاق في ثلبه
639
مثلك يثني الحزن عن صوبه
ويسترد الدمع عن غربه
640
إيما لإبقاء على فضله
إيما لتسليم إلى ربه
641
ولم أقل مثلك أعني به
سواك يا فردا بلا مشبه
642
وقال في صباه يهجو القاضي الذهبي:
لما نسبت فكنت ابنا لغير أب
ثم امتحنت فلم ترجع إلى أدب
سميت بالذهبي اليوم تسمية
مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب
643
ملقب بك ما لقبت ويك به
يا أيها اللقب الملقى على اللقب
644
وقال يهجو وردان بن ربيعة الطائي، وقد كان أبو الطيب نزل به في أرض حسمى منصرفه من مصر؛ فاستغوى وردان عبيد أبي الطيب ، فجعلوا يسرقون له من أمتعته؛ فلما شعر أبو الطيب بذلك ضرب أحد عبيده بالسيف فأصاب وجهه، وأمر الغلمان فأجهزوا عليه:
لحا الله وردانا وأما أتت به
له كسب خنزير وخرطوم ثعلب
645
فما كان فيه الغدر إلا دلالة
على أنه فيه من الأم والأب
646
إذا كسب الإنسان من هن عرسه
فيا لؤم إنسان ويا لؤم مكسب
647
أهذا اللذيا بنت وردان بنته
هما الطالبان الرزق من شر مطلب
648
لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيئ
فلا تعذلاني رب صدق مكذب
649
هوامش
قافية التاء
وأنفذ إليه سيف الدولة قول الشاعر:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تجلت
1
وسأله إجازته، فقال أبو الطيب والرسول واقف ارتجالا:
لنا ملك لا يطعم النوم همه
ممات لحي أو حياة لميت
2
ويكبر أن تقذى بشيء جفونه
إذا ما رأته خلة بك فرت
3
جزى الله عني سيف دولة هاشم
فإن نداه الغمر سيفي ودولتي
4
وقال في صباه عند وداعه بعض الأمراء:
انصر بجودك ألفاظا تركت بها
في الشرق والغرب من عاداك مكبوتا
5
فقد نظرتك حتى حان مرتحلي
وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا
6
وقال مرتجلا يمدح بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي:
فدتك الخيل وهي مسومات
وبيض الهند وهي مجردات
7
وصفتك في قواف سائرات
وقد بقيت وإن كثرت صفات
8
أفاعيل الورى من قبل دهم
وفعلك في فعالهم شيات
9
وقال يمدح أبا أيوب أحمد بن عمران:
سرب محاسنه حرمت ذواتها
داني الصفات بعيد موصوفاتها
10
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي
بشرا رأيت أرق من عبراتها
11
يستاق عيسهم أنيني خلفها
تتوهم الزفرات زجر حداتها
12
وكأنها شجر بدت لكنها
شجر جنيت الموت من ثمراتها
13
لا سرت من إبل لو اني فوقها
لمحت حرارة مدمعي سماتها
14
وحملت ما حملت من هذي المها
وحملت ما حملت من حسراتها
15
إني على شغفي بما في خمرها
لأعف عما في سراويلاتها
16
وترى الفتوة والمروة والأبو
ة في كل مليحة ضراتها
17
هن الثلاث المانعات لذتي
في خلوتي لا الخوف من تبعاتها
18
ومطالب فيها الهلاك أتيتها
ثبت الجنان كأنني لم آتها
19
ومقانب بمقانب غادرتها
أقوات وحش كن من أقواتها
20
أقبلتها غرر الجياد كأنما
أيدي بني عمران في جبهاتها
21
الثابتين فروسة كجلودها
في ظهرها والطعن في لباتها
22
العارفين بها كما عرفتهم
والراكبين جدودهم أماتها
23
فكأنما نتجت قياما تحتهم
وكأنهم ولدوا على صهواتها
24
إن الكرام بلا كرام منهم
مثل القلوب بلا سويداواتها
25
تلك النفوس الغالبات على العلى
والمجد يغلبها على شهواتها
26
سقيت منابتها التي سقت الورى
بيدي أبي أيوب خير نباتها
27
ليس التعجب من مواهب ماله
بل من سلامتها إلى أوقاتها
28
عجبا له حفظ العنان بأنمل
ما حفظها الأشياء من عاداتها
29
لو مر يركض في سطور كتابة
أحصى بحافر مهره ميماتها
30
يضع السنان بحيث شاء مجاولا
حتى من الآذان في أخراتها
31
تكبو وراءك يا ابن أحمد قرح
ليست قوائمهن من آلاتها
32
رعد الفوارس منك في أبدانها
أجرى من العسلان في قنواتها
33
لا خلق أسمح منك إلا عارف
بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
34
غلت الذي حسب العشور بآية
ترتيلك السورات من آياتها
35
كرم تبين في كلامك ماثلا
ويبين عتق الخيل في أصواتها
36
أعيا زوالك عن محل نلته
لا تخرج الأقمار عن هالاتها
37
لا نعذل المرض الذي بك شائق
أنت الرجال وشائق علاتها
38
فإذا نوت سفرا إليك سبقنها
فأضفت قبل مضافها حالاتها
39
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا
ما عذرها في تركها خيراتها
40
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا
ما عذرها في تركها خيراتها
41
أعجبتها شرفا فطال وقوفها
لتأمل الأعضاء لا لأذاتها
42
وبذلت ما عشقته نفسك كله
حتى بذلت لهذه صحاتها
43
حق الكواكب أن تزورك من عل
وتعودك الآساد من غاباتها
44
والجن من ستراتها والوحش من
فلواتها والطير من وكناتها
45
ذكر الأنام لنا فكان قصيدة
كنت البديع الفرد من أبياتها
46
في الناس أمثلة تدور حياتها
كمماتها ومماتها كحياتها
47
هبت النكاح حذار نسل مثلها
حتى وفرت على النساء بناتها
48
فاليوم صرت إلى الذي لو أنه
ملك البرية لاستقل هباتها
49
مسترخص نظر إليه بما به
نظرت وعثرة رجله بدياتها
50
هوامش
قافية الجيم
وقال يمدح سيف الدولة: وقد صف الجيش في منزل يعرف بالسنبوس، وركب قاصدا سمندو:
لهذا اليوم بعد غد أريج
ونار في العدو لها أجيج
1
تبيت بها الحواصن آمنات
وتسلم في مسالكها الحجيج
2
فلا زالت عداتك حيث كانت
فرائس أيها الأسد المهيج
3
عرفتك والصفوف معبآت
وأنت بغير سيفك لا تعيج
4
ووجه البحر يعرف من بعيد
إذا يسجو فكيف إذا يموج
5
بأرض تهلك الأشواط فيها
إذا ملئت من الركض الفروج
6
تحاول نفس ملك الروم فيها
فتفديه رعيته العلوج
7
أبالغمرات توعدنا النصارى
ونحن نجومها وهي البروج
8
وفينا السيف حملته صدوق
إذا لاقى وغارته لجوج
9
نعوذه من الأعيان بأسا
ويكثر بالدعاء له الضجيج
10
رضينا والدمستق غير راض
بما حكم القواضب والوشيج
11
فإن يقدم فقد زرنا سمندو
وإن يحجم فموعده الخليج
12
هوامش
قافية الحاء
وقال يعتذر إليه، وقد تأخر مدحه عنه، فظن أنه عاتب عليه:
أدنى ابتسام منك تحيا القرائح
وتقوى من الجسم الضعيف الجوارح
1
ومن ذا الذي يقضي حقوقك كلها
ومن ذا الذي يرضي سوى من تسامح
2
وقد تقبل العذر الخفي تكرما
فما بال عذري واقفا وهو واضح
3
وإن محالا - إذ بك العيش - أن أرى
وجسمك معتل وجسمي صالح
4
وما كان تركي الشعر إلا لأنه
تقصر عن وصف الأمير المدائح
وقال في صباه، وقد بلغ عن قوم كلاما:
أنا عين المسود الجحجاح
هيجتني كلابكم بالنباح
5
أيكون الهجان غير هجان
أم يكون الصراح غير صراح
6
جهلوني وإن عمرت قليلا
نسبتني لهم رءوس الرماح
7
وقال يمدح مساور بن محمد الرومي:
جللا كما بي فليك التبريح
أغذاء ذا الرشإ الأغن الشيح
8
لعبت بمشيته الشمول وغادرت
صنما من الأصنام لولا الروح
9
ما باله لاحظته فتضرجت
وجناته وفؤادي المجروح
10
ورمى وما رمتا يداه فصابني
سهم يعذب والسهام تريح
11
قرب المزار ولا مزار وإنما
يغدو الجنان فنلتقي ويروح
12
وفشت سرائرنا إليك وشفنا
تعريضنا فبدا لك التصريح
13
لما تقطعت الحمول تقطعت
نفسي أسى وكأنهن طلوح
14
وجلا الوداع من الحبيب محاسنا
حسن العزاء وقد جلين قبيح
15
فيد مسلمة وطرف شاخص
وحشى يذوب ومدمع مسفوح
16
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى
شجر الأراك مع الحمام ينوح
17
وأمق لو خدت الشمال براكب
في عرضه لأناخ وهي طليح
18
نازعته قلص الركاب وركبها
خوف الهلاك حداهم التسبيح
19
لولا الأمين مساور بن محمد
ما جشمت خطرا ورد نصيح
20
ومتى ونت وأبو المظفر أمها
فأتاح لي ولها الحمام متيح
21
شمنا وما حجب السماء بروقه
وحرى يجود وما مرته الريح
22
مرجو منفعة مخوف أذية
مغبوق كاس محامد مصبوح
23
حنق على بدر اللجين وما أتت
بإساءة وعن المسيء صفوح
24
لو فرق الكرم المفرق ماله
في الناس لم يك في الزمان شحيح
25
ألغت مسامعه الملام وغادرت
سمة على أنف اللئام تلوح
26
هذا الذي خلت القرون وذكره
وحديثه في كتبها مشروح
27
ألبابنا بجماله مبهورة
وسحابنا بنواله مفضوح
28
يغشى الطعان فلا يرد قناته
مكسورة ومن الكماة صحيح
29
وعلى التراب من الدماء مجاسد
وعلى السماء من العجاج مسوح
30 •••
يخطو القتيل إلى القتيل أمامه
رب الجواد وخلفه المبطوح
31
فمقيل حب محبه فرح به
ومقيل غيظ عدوه مقروح
32
يخفي العداوة وهي غير خفية
نظر العدو بما أسر يبوح
33
يا ابن الذي ما ضم برد كابنه
شرفا ولا كالجد ضم ضريح
34
نفديك من سيل إذا سئل الندى
هول إذا اختلطا دم ومسيح
35
لو كنت بحرا لم يكن لك ساحل
أو كنت غيثا ضاق عنك اللوح
36
وخشيت منك على البلاد وأهلها
ما كان أنذر قوم نوح نوح
37
عجز بحر فاقة ووراءه
رزق الإله وبابك المفتوح
38
إن القريض شج بعطفي عائذ
من أن يكون سواءك الممدوح
39
وذكي رائحة الرياض كلامها
تبغي الثناء على الحيا فتفوح
40
جهد المقل فكيف بابن كريمة
توليه خيرا واللسان فصيح
41
وقال يصف لعبة على صورة جارية:
جارية ما لجسمها روح
بالقلب من حبها تباريح
42
في كفها طاقة تشير بها
لكل طيب من طيبها ريح
43
سأشرب الكأس عن إشارتها
ودمع عيني في الخد مسفوح
44
وأراد الانصراف من عند سيف الدولة ليلا فقال:
يقاتلني عليك الليل جدا
ومنصرفي له أمضى السلاح
45
لأني كلما فارقت طرفي
بعيد بين جفني والصباح
46
وجرى حديث وقعة أبي الساج مع أبي طاهر صاحب الأحساء، فذكر أبو الطيب ما كان فيها من القتل، فهال بعض الجلساء ذلك وجزع منه، فقال أبو الطيب لأبي محمد بن طغج ارتجالا:
أباعث كل مكرمة طموح
وفارس كل سلهبة سبوح
47
وطاعن كل نجلاء غموس
وعاصي كل عذال نصيح
48
سقاني الله قبل الموت يوما
دم الأعداء من جوف الجروح
49
وأرسل أبو العشائر بازيا على حجلة فأخذها فقال المتنبي:
وطائرة تتبعها المنايا
على آثارها زجل الجناح
50
كأن الريش منه في سهام
على جسد تجسم من رياح
51
كأن رءوس أقلام غلاظ
مسحن بريش جؤجؤة الصحاح
52
فأقعصها بحجن تحت صفر
لها فعل الأسنة والصفاح
53
فقلت لكل حي يوم موت
وإن حرص النفوس على الفلاح
54
هوامش
قافية الدال
وقال يمدح سيف الدولة، ويرثي ابن عمه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، وقد توفي في حمص سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة:
ما سدكت علة بمورود
أكرم من تغلب بن داود
1
يأنف من ميتة الفراش وقد
حل به أصدق المواعيد
2
ومثله أنكر الممات على
غير سروج السوابح القود
3
بعد عثار القنا بلبته
وضربه أرؤس الصناديد
4
وخوضه غمر كل مهلكة
للذمر فيها فؤاد رعديد
5
فإن صبرنا فإننا صبر
وإن بكينا فغير مردود
6
وإن جزعنا له فلا عجب
ذا الجزر في البحر غير معهود
7
أين الهبات التي يفرقها
على الزرافات والمواحيد
8
سالم أهل الوداد بعدهم
يسلم للحزن لا لتخليد
9
فما ترجي النفوس من زمن
أحمد حاليه غير محمود
10
إن نيوب الزمان تعرفني
أنا الذي طال عجمها عودي
11
وفي ما قارع الخطوب وما
آنسني بالمصائب السود
12
ما كنت عنه إذ استغاثك يا
سيف بني هاشم بمغمود
13
يا أكرم الأكرمين يا ملك الأم
لاك طرا يا أصيد الصيد
14
قد مات من قبلها فأنشره
وقع قنا الخط في اللغاديد
15
ورميك الليل بالجنود وقد
رميت أجفانهم بتسهيد
16
فصبحتهم رعالها شزبا
بين ثبات إلى عباديد
17
تحمل أغمادها الفداء لهم
فانتقدوا الضرب كالأخاديد
18
موقعه في فراش هامهم
وريحه في مناخر السيد
19
أفنى الحياة التي وهبت له
في شرف شاكرا وتسويد
20
سقيم جسم صحيح مكرمة
منجود كرب غياث منجود
21
ثم غدا قيده الحمام وما
تخلص منه يمين مصفود
22
لا ينقص الهالكون من عدد
منه علي مضيق البيد
23
تهب في ظهرها كتائبه
هبوب أرواحها المراويد
24
أول حرف من اسمه كتبت
سنابك الخيل في الجلاميد
25
مهما يعز الفتى الأمير به
فلا بإقدامه ولا الجود
26
ومن منانا بقاؤه أبدا
حتى يعزى بكل مولود
27
وقال يمدحه، ويذكر هجوم الشتاء الذي عاقه عن غزو خرشنة، ويذكر الواقعة:
عواذل ذات الخال في حواسد
وإن ضجيع الخود مني لماجد
28
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
29
متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى
محب لها في قربه متباعد
30
إذا كنت تخشى العار في كل خلوة
فلم تتصباك الحسان الخرائد
31
ألح علي السقم حتى ألفته
ومل طبيبي جانبي والعوائد
32
مررت على دار الحبيب فحمحمت
جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد
33
وما تنكر الدهماء من رسم منزل
سقتها ضريب الشول فيها الولائد
34
أهم بشيء والليالي كأنها
تطاردني عن كونه وأطارد
35
وحيد من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
36
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
سبوح لها منها عليها شواهد
37
تثنى على قدر الطعان كأنما
مفاصلها تحت الرماح مراود
38
محرمة أكفال خيلي على القنا
محللة لباتها والقلائد
39
وأورد نفسي والمهند في يدي
موارد لا يصدرن من لا يجالد
40
ولكن إذا لم يحمل القلب كفه
على حالة لم يحمل الكف ساعد
41
خليلي إني لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد
42
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة
ولكن سيف الدولة اليوم واحد
43
له من كريم الطبع في الحرب منتض
ومن عادة الإحسان والصفح غامد
44
ولما رأيت الناس دون محله
تيقنت أن الدهر للناس ناقد
45
أحقهم بالسيف من ضرب الطلى
وبالأمن من هانت عليه الشدائد
46
وأشقى بلاد الله ما الروم أهلها
بهذا وما فيها لمجدك جاحد
47
شننت بها الغارات حتى تركتها
وجفن الذي خلف الفرنجة ساهد
48
مخضبة والقوم صرعى كأنها
وإن لم يكونوا ساجدين مساجد
49
تنكسهم والسابقات جبالهم
وتطعن فيهم والرماح المكايد
50
وتضربهم هبرا وقد سكنوا الكدى
كما سكنت بطن التراب الأساود
51
وتضحي الحصون المشمخرات في الذرى
وخيلك في أعناقهن قلائد
52
عصفن بهم يوم اللقان وسقنهم
بهنريط حتى ابيض بالسبي آمد
53
وألحقن بالصفصاف سابور فانهوى
وذاق الردى أهلاهما والجلامد
54
وغلس في الوادي بهن مشيع
مبارك ما تحت اللثامين عابد
55
فتى يشتهي طول البلاد ووقته
تضيق به أوقاته والمقاصد
56
أخو غزوات ما تغب سيوفه
رقابهم إلا وسيحان جامد
57
فلم يبق إلا من حماها من الظبا
لمى شفتيها والثدي النواهد
58
تبكي عليهن البطاريق في الدجى
وهن لدينا ملقيات كواسد
59
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
60
ومن شرف الإقدام أنك فيهم
على القتل موموق كأنك شاكد
61
وأن دما أجريته بك فاخر
وأن فؤادا رعته لك حامد
62
وكل يرى طرق الشجاعة والندى
ولكن طبع النفس للنفس قائد
63
نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
64
فأنت حسام الملك والله ضارب
وأنت لواء الدين والله عاقد
65
وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه
تشابه مولود كريم ووالد
66
وحمدان حمدون وحمدون حارث
وحارث لقمان ولقمان راشد
67
أولئك أنياب الخلافة كلها
وسائر أملاك البلاد الزوائد
68
أحبك يا شمس الزمان وبدره
وإن لامني فيك السهى والفراقد
69
وذاك لأن الفضل عندك باهر
وليس لأن العيش عندك بارد
70
فإن قليل الحب بالعقل صالح
وإن كثير الحب بالجهل فاسد
71
وقال يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، أنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما:
لكل امرئ من دهره ما تعودا
وعادات سيف الدولة الطعن في العدا
72
وأن يكذب الإرجاف عنه بضده
ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
73
ورب مريد ضره ضر نفسه
وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
74
ومستكبر لم يعرف الله ساعة
رأى سيفه في كفه فتشهدا
75
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا
على الدر واحذره إذا كان مزبدا
76
فإني رأيت البحر يعثر بالفتى
وهذا الذي يأتي الفتى متعمدا
77
تظل ملوك الأرض خاشعة له
تفارقه هلكى وتلقاه سجدا
78
وتحيي له المال الصوارم والقنا
ويقتل ما يحيي التبسم والجدا
79
ذكي تظنيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
80
وصول إلى المستصعبات بخيله
فلو كان قرن الشمس ماء لأوردا
81
لذلك سمى ابن الدمستق يومه
مماتا وسماه الدمستق مولدا
82
سريت إلى جيحان من أرض آمد
ثلاثا لقد أدناك ركض وأبعدا
83
فولى وأعطاك ابنه وجيوشه
جميعا ولم يعط الجميع ليحمدا
84
عرضت له دون الحياة وطرفه
وأبصر سيف الله منك مجردا
85
وما طلبت زرق الأسنة غيره
ولكن قسطنطين كان له الفدا
86
فأصبح يجتاب المسوح مخافة
وقد كان يجتاب الدلاص المسردا
87
ويمشي به العكاز في الدير تائبا
وما كان يرضى مشي أشقر أجردا
88
وما تاب حتى غادر الكر وجهه
جريحا وخلى جفنه النقع أرمدا
89
فلو كان ينجي من علي ترهب
ترهبت الأملاك مثنى وموحدا
90
وكل امرئ في الشرق والغرب بعدها
يعد له ثوبا من الشعر أسودا
91
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده
وعيد لمن سمى وضحى وعيدا
92
ولا زالت الأعياد لبسك بعده
تسلم مخروقا وتعطى مجددا
93
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى
كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا
94
هو الجد حتى تفضل العين أختها
وحتى يصير اليوم لليوم سيدا
95
فيا عجبا من دائل أنت سيفه
أما يتوقى شفرتي ما تقلدا
96
ومن يجعل الضرغام بازا لصيده
تصيده الضرغام فيما تصيدا
97
رأيتك محض الحلم في محض قدرة
ولو شئت كان الحلم منك المهندا
98
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا
99
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
100
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
101
ولكن تفوق الناس رأيا وحكمة
كما فقتهم حالا ونفسا ومحتدا
102
يدق على الأفكار ما أنت فاعل
فيترك ما يخفى ويؤخذ ما بدا
103
أزل حسد الحساد عني بكبتهم
فأنت الذي صيرتهم لي حسدا
104
إذا شد زندي حسن رأيك فيهم
ضربت بسيف يقطع الهام مغمدا
105
وما أنا إلا سمهري حملته
فزين معروضا وراع مسددا
106
وما الدهر إلا من رواة قلائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
107
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
108
أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما
بشعري أتاك المادحون مرددا
109
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصدى
110
تركت السرى خلفي لمن قل ماله
وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
111
وقيدت نفسي في ذراك محبة
ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا
112
إذا سأل الإنسان أيامه الغنى
وكنت على بعد جعلنك موعدا
113
وقال بمصر وهو يريد سيف الدولة:
فارقتكم فإذا ما كان عندكم
قبل الفراق أذى بعد الفراق يد
إذا تذكرت ما بيني وبينكم
أعان قلبي على الشوق الذي أجد
114
وقال في صباه يمدح محمد بن عبيد الله العلوي المشطب:
أهلا بدار سباك أغيدها
أبعد ما بان عنك خردها
115
ظلت بها تنطوي على كبد
نضيجة فوق خلبها يدها
116
يا حاديي عيرها وأحسبني
أوجد ميتا قبيل أفقدها
117
قفا قليلا بها علي فلا
أقل من نظرة أزودها
118
ففي فؤاد المحب نار جوى
أحر نار الجحيم أبردها
119
شاب من الهجر فرق لمته
فصار مثل الدمقس أسودها
120
بانوا بخرعوبة لها كفل
يكاد عند القيام يقعدها
121
ربحلة أسمر مقبلها
سبحلة أبيض مجردها
122
يا عاذل العاشقين دع فئة
أضلها الله كيف ترشدها؟!
123
ليس يحيك الملام في همم
أقربها منك عنك أبعدها
124
بئس الليالي سهرت من طربي
شوقا إلى من يبيت يرقدها
125
أحييتها والدموع تنجدني
شئونها والظلام ينجدها
126
لا ناقتي تقبل الرديف ولا
بالسوط يوم الرهان أجهدها
127
شراكها كورها ومشفرها
زمامها والشسوع مقودها
128
أشد عصف الرياح يسبقه
تحتي من خطوها تأيدها
129
في مثل ظهر المجن متصل
بمثل بطن المجن قرددها
130
مرتميات بنا إلى ابن عبي
د الله غيطانها وفدفدها
131
إلى فتى يصدر الرماح وقد
أنهلها في القلوب موردها
132
له أياد إلي سابقة
أعد منها ولا أعددها
133
يعطي فلا مطلة يكدرها
بها ولا منة ينكدها
134
خير قريش أبا وأمجدها
أكثرها نائلا وأجودها
135
أطعنها بالقناة أضربها
بالسيف جحجاحها مسودها
136
أفرسها فارسا وأطولها
باعا ومغوارها وسيدها
137
تاج لؤي بن غالب وبه
سما لها فرعها ومحتدها
138
شمس ضحاها هلال ليلتها
در تقاصيرها زبرجدها
139
يا ليت بي ضربة أتيح لها
كما أتيحت له محمدها
140
أثر فيها وفي الحديد وما
أثر في وجهه مهندها
141
فاغتبطت إذ رأت تزينها
بمثله والجراح تحسدها
142
وأيقن الناس أن زارعها
بالمكر في قلبه سيحصدها
143
أصبح حساده وأنفسهم
يحدرها خوفه ويصعدها
144
تبكي على الأنصل الغمود إذا
أنذرها أنه يجردها
لعلمها أنها تصير دما
وأنه في الرقاب يغمدها
145
أطلقها فالعدو من جزع
يذمها والصديق يحمدها
146
تنقدح النار من مضاربها
وصب ماء الرقاب يخمدها
147
إذا أضل الهمام مهجته
يوما فأطرافهن تنشدها
148
قد أجمعت هذه الخليقة لي
أنك يا ابن النبي أوحدها
149
وأنك بالأمس كنت محتلما
شيخ معد وأنت أمردها
150
فكم وكم نعمة مجللة
ربيتها كان منك مولدها!
151
وكم وكم حاجة سمحت بها!
أقرب مني إلي موعدها
152
ومكرمات مشت على قدم ال
بر إلى منزلي ترددها
153
أقر جلدي بها علي فلا
أقدر حتى الممات أجحدها
154
فعد بها لا عدمتها أبدا
خير صلات الكريم أعودها
155
وقال أيضا في صباه:
كم قتيل كما قتلت شهيد
ببياض الطلا وورد الخدود
156
وعيون المها ولا كعيون
فتكت بالمتيم المعمود
157
در در الصبا أأيام تجري
ر ذيولي بدار أثلة عودي
158
عمرك الله هل رأيت بدورا
طلعت في براقع وعقود
159
راميات بأسهم ريشها الهد
ب تشق القلوب قبل الجلود
160
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
161
كل خمصانة أرق من الخم
ر بقلب أقسى من الجلمود
162
ذات فرع كأنما ضرب العن
بر فيه بماء ورد وعود
163
حالك كالغداف جثل دجوجي
أثيث جعد بلا تجعيد
164
تحمل المسك عن غدائرها الري
ح وتفتر عن شنيب برود
165
جمعت بين جسم أحمد والسق
م وبين الجفون والتسهيد
166
هذه مهجتي لديك لحيني
فانقصي من عذابها أو فزيدي
167
أهل ما بي من الضنى بطل صي
د بتصفيف طرة وبجيد
168
كل شيء من الدماء حرام
شربه ما خلا دم العنقود
169
فاسقنيها فدى لعينيك نفسي
من غزال وطارفي وتليدي
170
شيب رأسي وذلتي ونحولي
ودموعي على هواك شهودي
171
أي يوم سررتني بوصال
لم ترعني ثلاثة بصدود
172
ما مقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهود
173
مفرشي صهوة الحصان ولكن
ن قميصي مسرودة من حديد
174
لأمة فاضة أضاة دلاص
أحكمت نسجها يدا داود
175
أين فضلي إذا قنعت من الده
ر بعيش معجل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز
ق قيامي وقل عنه قعودي
176
أبدا أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمتي في سعود
177
ولعلي مؤمل بعض ما أب
لغ باللطف من عزيز حميد
178
لسري لباسه خشن القط
ن ومروي مرو لبس القرود
179
عش عزيزا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
180
فرءوس الرماح أذهب للغي
ظ وأشفى لغل صدر الحقود
181
لا كما قد حييت غير حميد
وإذا مت مت غير فقيد
182
فاطلب العز في لظى وذر الذل
ل ولو كان في جنان الخلود
183
يقتل العاجز الجبان وقد يع
جز عن قطع بخنق المولود
184
ويوقى الفتى المخش وقد خو
ض في ماء لبة الصنديد
185
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
186
وبهم فخر كل من نطق الضا
د وعوذ الجاني وغوث الطريد
187
إن أكن معجبا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد
188
أنا ترب الندى ورب القوافي
وسمام العدا وغيظ الحسود
189
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
190
وأهدى إليه عبيد الله بن خلكان - من خراسان - هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل، فرد إليه الجامة وكتب عليها هذه الأبيات بالزعفران:
أقصر فلست بزائدي ودا
بلغ المدى وتجاوز الحدا
191
أرسلتها مملوءة كرما
فرددتها مملوءة حمدا
192
جاءتك تطفح وهي فارغة
مثنى به وتظنها فردا
193
تأبى خلائقك التي شرفت
أن لا تحن وتذكر العهدا
194
لو كنت عصرا منبتا زهرا
كنت الربيع وكانت الوردا
195
وقال يمدح شجاع بن محمد الطائي المنبجي:
اليوم عهدكم فأين الموعد؟
هيهات ليس ليوم عهدكم غد!
196
الموت أقرب مخلبا من بينكم
والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
197
إن التي سفكت دمي بجفونها
لم تدر أن دمي الذي تتقلد
198
قالت وقد رأت اصفراري: من به
وتنهدت، فأجبتها: المتنهد
199
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها
لوني كما صبغ اللجين العسجد
200
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى
متأودا غصن به يتأود
201
عدوية بدوية من دونها
سلب النفوس ونار حرب توقد
202
وهواجل وصواهل ومناصل
وذوابل وتوعد وتهدد
203
أبلت مودتها الليالي بعدنا
ومشى عليها الدهر وهو مقيد
204
برحت يا مرض الجفون بممرض
مرض الطبيب له وعيد العود
205
فله بنو عبد العزيز بن الرضا
ولكل ركب عيسهم والفدفد
206
من في الأنام من الكرام ولا تقل:
من فيك شأم سوى شجاع يقصد
207
أعطى فقلت لجوده: ما يقتنى
وسطا فقلت لسيفه: ما يولد
208
وتحيرت فيه الصفات لأنها
ألفت طرائقه عليها تبعد
209
في كل معترك كلى مفرية
يذممن منه ما الأسنة تحمد
210
نقم على نقم الزمان يصبها
نعم على النعم التي لا تجحد
211
في شانه ولسانه وبنانه
وجنانه عجب لمن يتفقد
212
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
موت فريص الموت منه ترعد
213
ما منبج مذ غبت إلا مقلة
سهدت ووجهك نومها والإثمد
214
فالليل حين قدمت فيها أبيض
والصبح منذ رحلت عنها أسود
215
ما زلت تدنو وهي تعلو عزة
حتى توارى في ثراها الفرقد
216
أرض لها شرف سواها مثلها
لو كان مثلك في سواها يوجد
217
أبدى العداة بك السرور كأنهم
فرحوا وعندهم المقيم المقعد
218
قطعتهم حسدا أراهم ما بهم
فتقطعوا حسدا لمن لا يحسد
219
حتى انثنوا ولو ان حر قلوبهم
في قلب هاجرة لذاب الجلمد
220
نظر العلوج فلم يروا من حولهم
لما رأوك وقيل: هذا السيد
221
بقيت جموعهم كأنك كلها
وبقيت بينهم كأنك مفرد
222
لهفان يستوبي بك الغضب الورى
لو لم ينهنهك الحجا والسؤدد
223
كن حيث شئت تسر إليك ركابنا
فالأرض واحدة وأنت الأوحد
224
وصن الحسام ولا تذله فإنه
يشكو يمينك والجماجم تشهد
225
يبس النجيع عليه وهو مجرد
من غمده وكأنما هو مغمد
226
ريان لو قذف الذي أسقيته
لجرى من المهجات بحر مزبد
227
ما شاركته منية في مهجة
إلا وشفرته على يدها يد
228
إن الرزايا والعطايا والقنا
حلفاء طي غوروا أو أنجدوا
229
صح يا لجلهمة تجبك وإنما
أشفار عينك ذابل ومهند
230
من كل أكبر من جبال تهامة
قلبا ومن جود الغوادي أجود
231
يلقاك مرتديا بأحمر من دم
ذهبت بخضرته الطلا والأكبد
232
حتى يشار إليك ذا مولاهم
وهم الموالي والخليقة أعبد
233
أنى يكون أبا البرية آدم
وأبوك والثقلان أنت محمد
234
يفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم
أيحيط ما يفنى بما لا ينفد
235
وقال وقد وشى به قوم إلى السلطان فحبسه فكتب إليه من الحبس:
أيا خدد الله ورد الخدود
وقد قدود الحسان القدود
236
فهن أسلن دما مقلتي
وعذبن قلبي بطول الصدود
237
وكم للهوى من فتى مدنف
وكم للنوى من قتيل شهيد
238
فوا حسرتا ما أمر الفراق
وأعلق نيرانه بالكبود!
239
وأغرى الصبابة بالعاشقين
وأقتلها للمحب العميد!
240
وألهج نفسي لغير الخنا
بحب ذوات اللمى والنهود!
241
فكانت وكن فداء الأمير
ولا زال من نعمة في مزيد
242
لقد حال بالسيف دون الوعيد
وحالت عطاياه دون الوعود
243
فأنجم أمواله في النحوس
وأنجم سؤله في السعود
244
ولو لم أخف غير أعدائه
عليه لبشرته بالخلود
245
رمى حلبا بنواصي الخيول
وسمر يرقن دما في الصعيد
246
وبيض مسافرة ما يقم
ن لا في الرقاب ولا في الغمود
247
يقدن الفناء غداة اللقاء
إلى كل جيش كثير العديد
248
فولى بأشياعه الخرشني
كشاء أحس بزأر الأسود
249
يرون من الذعر صوت الرياح
صهيل الجياد وخفق البنود
250
فمن كالأمير ابن بنت الأمي
ر أو من كآبائه والجدود
251
سعوا للمعالي وهم صبية
وسادوا وجادوا وهم في المهود
252
أمالك رقي ومن شأنه
هبات اللجين وعتق العبيد
253
دعوتك عند انقطاع الرجا
ء والموت مني كحبل الوريد
254
دعوتك لما براني البلاء
وأوهن رجلي ثقل الحديد
255
وقد كان مشيهما في النعال
فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل
فها أنا في محفل من قرود
256
تعجل في وجوب الحدود
وحدي قبيل وجوب السجود
257
وقيل: عدوت على العالمي
ن بين ولادي وبين القعود
258
فما لك تقبل زور الكلام
وقدر الشهادة قدر الشهود
259
فلا تسمعن من الكاشحي
ن ولا تعبأن بمحك اليهود
260
وكن فارقا بين دعوى أرد
ت ودعوى فعلت بشأو بعيد
261
وفي جود كفيك ما جدت لي
بنفسي ولو كنت أشقى ثمود
262
ونام أبو بكر الطائي وهو ينشد فقال:
إن القوافي لم تنمك وإنما
محقتك حتى صرت ما لا يوجد
263
فكأن أذنك فوك حين سمعتها
وكأنها مما سكرت المرقد
264
وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:
محمد بن زريق ما نرى أحدا
إذا فقدناك يعطي قبل أن يعدا
وقد قصدتك والترحال مقترب
والدار شاسعة والزاد قد نفدا
265
فخل كفك تهمي واثن وابلها
إذا اكتفيت وإلا أغرق البلدا
266
وقال يمدح أبا عبادة بن يحيى البحتري:
ما الشوق مقتنعا مني بذا الكمد
حتى أكون بلا قلب ولا كبد
267
ولا الديار التي كان الحبيب بها
تشكو إلي ولا أشكو إلى أحد
268
ما زال كل هزيم الودق ينحلها
والسقم ينحلني حتى حكت جسدي
269
وكلما فاض دمعي غاض مصطبري
كأن ما سال من جفني من جلدي
270
فأين من زفراتي من كلفت به
وأين منك ابن يحيى صولة الأسد!
271
لما وزنت بك الدنيا فملت بها
وبالورى قل عندي كثرة العدد
272
ما دار في خلد الأيام لي فرح
أبا عبادة حتى درت في خلدي
273
ملك إذا امتلأت مالا خزائنه
أذاقها طعم ثكل الأم للولد
274
ماضي الجنان يريه الحزم قبل غد
بقلبه ما ترى عيناه بعد غد
275
ما ذا البهاء ولا ذا النور من بشر
ولا السماح الذي فيه سماح يد
276
أي الأكف تباري الغيث ما اتفقا
حتى إذا افترقا عادت ولم يعد
277
قد كنت أحسب أن المجد من مضر
حتى تبحتر فهو اليوم من أدد
278
قوم إذا أمطرت موتا سيوفهم
حسبتها سحبا جادت على بلد
279
لم أجر غاية فكري منك في صفة
إلا وجدت مداها غاية الأبد
280
وقال يمدح علي بن إبراهيم التنوخي:
أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتناد؟!
281
كأن بنات نعش في دجاها
خرائد سافرات في حداد
282
أفكر في معاقرة المنايا
وقود الخيل مشرفة الهوادي
283
زعيم للقنا الخطي عزمي
بسفك دم الحواضر والبوادي
284
إلى كم ذا التخلف والتواني
وكم هذا التمادي في التمادي
285
وشغل النفس عن طلب المعالي
ببيع الشعر في سوق الكساد
286
وما ماضي الشباب بمسترد
ولا يوم يمر بمستعاد
287
متى لحظت بياض الشيب عيني
فقد وجدته منها في السواد
288
متى ما ازددت من بعد التناهي
فقد وقع انتقاصي في ازديادي
289
أأرضى أن أعيش ولا أكافي
على ما للأمير من الأيادي
290
جزى الله المسير إليه خيرا
وإن ترك المطايا كالمزاد
291
فلم تلق ابن إبراهيم عنسي
وفيها قوت يوم للقراد
292
ألم يك بيننا بلد بعيد
فصير طوله عرض النجاد
293
وأبعد بعدنا بعد التداني
وقرب قربنا قرب البعاد
294
فلما جئته أعلى محلي
وأجلسني على السبع الشداد
295
تهلل قبل تسليمي عليه
وألقى ماله قبل الوساد
296
نلومك يا علي لغير ذنب
لأنك قد زريت على العباد
297
وأنك لا تجود على جواد
هباتك أن يلقب بالجواد
298
كأن سخاءك الإسلام تخشى
إذا ما حلت عاقبة ارتداد
299
كأن الهام في الهيجا عيون
وقد طبعت سيوفك من رقاد
300
وقد صغت الأسنة من هموم
فما يخطرن إلا في فؤاد
301
ويوم جلبتها شعث النواصي
معقدة السبائب للطراد
302
وحام بها الهلاك على أناس
لهم باللاذقية بغي عاد
303
فكان الغرب بحرا من مياه
وكان الشرق بحرا من جياد
304
وقد خفقت لك الرايات فيه
فظل يموج بالبيض الحداد
305
لقوك بأكبد الإبل الأبايا
فسقتهم وحد السيف حاد
306
وقد مزقت ثوب الغي عنهم
وقد ألبستهم ثوب الرشاد
307
فما تركوا الإمارة لاختيار
ولا انتحلوا ودادك من وداد
308
ولا استفلوا لزهد في التعالي
ولا انقادوا سرورا بانقياد
309
ولكن هب خوفك في حشاهم
هبوب الريح في رجل الجراد
310
وماتوا قبل موتهم فلما
مننت أعدتهم قبل المعاد
311
غمدت صوارما لو لم يتوبوا
محوتهم بها محو المداد
312
وما الغضب الطريف وإن تقوى
بمنتصف من الكرم التلاد
313
فلا تغررك ألسنة موال
تقلبهن أفئدة أعادي
314
وكن كالموت لا يرثي لباك
بكى منه ويروى وهو صاد
315
فإن الجرح ينفر بعد حين
إذا كان البناء على فساد
316
وإن الماء يجري من جماد
وإن النار تخرج من زناد
317
وكيف يبيت مضطجعا جبان
فرشت لجنبه شوك القتاد
318
يرى في النوم رمحك في كلاه
ويخشى أن يراه في السهاد
319
أشرت أبا الحسين بمدح قوم
نزلت بهم فسرت بغير زاد
وظنوني مدحتهم قديما
وأنت بما مدحتهم مرادي
320
وإني عنك بعد غد لغاد
وقلبي عن فنائك غير غاد
321
محبك حيثما اتجهت ركابي
وضيفك حيث كنت من البلاد
322
وقال يمدح بدر بن عمار الأسدي الطبرستاني، وهو يومئذ يتولى حرب طبرية من قبل أبي بكر محمد بن رائق سنة 328:
أحلما نرى أم زمانا جديدا
أم الخلق في شخص حي أعيدا
323
تجلى لنا فأضأنا به
كأنا نجوم لقينا سعودا
324
رأينا ببدر وآبائه
لبدر ولودا وبدرا وليدا
325
طلبنا رضاه بترك الذي
رضينا له فتركنا السجودا
326
أمير أمير عليه الندى
جواد بخيل بأن لا يجودا
327
يحدث عن فضله مكرها
كأن له منه قلبا حسودا
328
ويقدم إلا على أن يفر
ويقدر إلا على أن يزيدا
329
كأن نوالك بعض القضاء
فما تعط منه نجده جدودا
330
وربتما حملة في الوغى
رددت بها الذبل السمر سودا
331
وهول كشفت ونصل قصفت
ورمح تركت مبادا مبيدا
332
ومال وهبت بلا موعد
وقرن سبقت إليه الوعيدا
333
بهجر سيوفك أغمادها
تمنى الطلا أن تكون الغمودا
334
إلى الهام تصدر عن مثله
ترى صدرا عن ورود ورودا
335
قتلت نفوس العدا بالحدي
د حتى قتلت بهن الحديدا
336
فأنفدت من عيشهن البقاء
وأبقيت مما ملكت النفودا
337
كأنك بالفقر تبغي الغنى
وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
338
خلائق تهدي إلى ربها
وآية مجد أراها العبيدا
339
مهذبة حلوة مرة
حقرنا البحار بها والأسودا
340
بعيد على قربها وصفها
تغول الظنون وتنضي القصيدا
341
فأنت وحيد بني آدم
ولست لفقد نظير وحيدا
342
وقال لما استعظم قوم ما قاله في آخر مرثية جدته:
يستعظمون أبياتا نأمت بها
لا تحسدن على أن ينأم الأسدا
343
لو أن ثم قلوبا يعقلون بها
أنساهم الذعر مما تحتها الحسدا
344
وقال يمدح محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
أقل فعالي بله أكثره مجد
وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد
345
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
كأنهم من طول ما التثموا مرد
346
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا
347
وطعن كأن الطعن لا طعن عنده
وضرب كأن النار من حره برد
348
إذا شئت حفت بي على كل سابح
رجال كأن الموت في فمها شهد
349
أذم إلى هذا الزمان أهيله
فأعلمهم فدم وأحزمهم وغد
350
وأكرمهم كلب وأبصرهم عم
وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد
351
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
352
بقلبي وإن لم أرو منها ملالة
وبي عن غوانيها وإن وصلت صد
353
خليلاي دون الناس حزن وعبرة
على فقد من أحببت ما لهما فقد
354
تلج دموعي بالجفون كأنما
جفوني لعيني كل باكية خد
355
وإني لتغنيني من الماء نغبة
وأصبر عنه مثل ما تصبر الربد
وأمضي كما يمضي السنان لطيتي
وأطوي كما تطوي المجلحة العقد
356
وأكبر نفسي عن جزاء بغيبة
وكل اغتياب جهد من ما له جهد
357
وأرحم أقواما من العي والغبا
وأعذر في بغضي؛ لأنهم ضد
358
ويمنعني ممن سوى ابن محمد
أياد له عندي تضيق بها عند
359
توالى بلا وعد ولكن قبلها
شمائله من غير وعد بها وعد
360
سرى السيف مما تطبع الهند صاحبي
إلى السيف مما يطبع الله لا الهند
361
فلما رآني مقبلا هز نفسه
إلي حسام كل صفح له حد
362
فلم أر قبلي من مشى البحر نحوه
ولا رجلا قامت تعانقه الأسد
363
كأن القسي العاصيات تطيعه
هوى أو بها في غير أنمله زهد
364
يكاد يصيب الشيء من قبل رميه
ويمكنه في سهمه المرسل الرد
365
وينفذه في العقد وهو مضيق
من الشعرة السوداء والليل مسود
366
بنفسي الذي لا يزدهى بخديعة
وإن كثرت فيها الذرائع والقصد
367
ومن بعده فقر ومن قربه غنى
ومن عرضه حر ومن ماله عبد
368
ويصطنع المعروف مبتدئا به
ويمنعه من كل من ذمه حمد
369
ويحتقر الحساد عن ذكره لهم
كأنهم في الخلق ما خلقوا بعد
370
وتأمنه الأعداء من غير ذلة
ولكن على قدر الذي يذنب الحقد
371
فإن يك سيار بن مكرم انقضى
فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
372
مضى وبنوه وانفردت بفضلهم
وألف إذا ما جمعت واحد فرد
373
لهم أوجه غر وأيد كريمة
ومعرفة عد وألسنة لد
374
وأردية خضر وملك مطاعة
ومركوزة سمر ومقربة جرد
375
وما عشت ما ماتوا ولا أبواهم
تميم بن مر وابن طابخة أد
376
فبعض الذي يبدو الذي أنا ذاكر
وبعض الذي يخفى علي الذي يبدو
377
ألوم به من لامني في وداده
وحق لخير الخلق من خيره الود
378
كذا فتنحوا عن علي وطرقه
بني اللؤم حتى يعبر الملك الجعد
379
فما في سجاياكم منازعة العلا
ولا في طباع التربة المسك والند
380
وودع صديقا له يقال له: أبو البهي فقال ارتجالا عند مسيره عنه:
أما الفراق فإنه ما أعهد
هو توءمي لو أن بينا يولد
381
ولقد علمنا أننا سنطيعه
لما علمنا أننا لا نخلد
382
وإذا الجياد أبا البهي نقلننا
عنكم فأردأ ما ركبت الأجود
383
من خص بالذم الفراق فإنني
من لا يرى في الدهر شيئا يحمد
384
وقال يمدح الحسين بن علي الهمذاني:
لقد حازني وجد بمن حازه بعد
فيا ليتني بعد ويا ليته وجد
385
أسر بتجديد الهوى ذكر ما مضى
وإن كان لا يبقى له الحجر الصلد
386
سهاد أتانا منك في العين عندنا
رقاد وقلام رعى سربكم ورد
387
ممثلة حتى كأن لم تفارقي
وحتى كأن اليأس من وصلك الوعد
388
وحتى تكادي تمسحين مدامعي
ويعبق في ثوبي من ريحك الند
389
إذا غدرت حسناء وفت بعهدها
فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد
390
وإن عشقت كانت أشد صبابة
وإن فركت فاذهب فما فركها قصد
391
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا
وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
كذلك أخلاق النساء وربما
يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد
392
ولكن حبا خامر القلب في الصبا
يزيد على مر الزمان ويشتد
393
سقى ابن علي كل مزن سقتكم
مكافأة يغدو إليها كما تغدو
394
لتروى كما تروي بلادا سكنتها
وينبت فيها فوقك الفخر والمجد
395
بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه
ويخرق من زحم على الرجل البرد
396
وتلقي وما تدري البنان سلاحها
لكثرة إيماء إليه إذا يبدو
397
ضروب لهام الضاربي الهام في الوغى
خفيف إذا ما أثقل الفرس اللبد
398
بصير بأخذ الحمد من كل موضع
ولو خبأته بين أنيابها الأسد
399
بتأميله يغنى الفتى قبل نيله
وبالذعر من قبل المهند ينقد
400
وسيفي لأنت السيف لا ما تسله
لضرب ومما السيف منه لك الغمد
401
ورمحي لأنت الرمح لا ما تبله
نجيعا ولولا القدح لم يثقب الزند
402
من القاسمين الشكر بيني وبينهم
لأنهم يسدى إليهم بأن يسدوا
403
فشكري لهم شكران: شكر على الندى
وشكر على الشكر الذي وهبوا بعد
404
صيام بأبواب القباب جيادهم
وأشخاصها في قلب خائفهم تعدو
405
وأنفسهم مبذولة لوفودهم
وأموالهم في دار من لم يفد وفد
406
كأن عطيات الحسين عساكر
ففيها العبدى والمطهمة الجرد
407
أرى القمر ابن الشمس قد لبس العلا
رويدك حتى يلبس الشعر الخد
408
وغال فضول الدرع من جنباتها
على بدن قد القناة له قد
409
وباشر أبكار المكارم أمردا
وكان كذا آباؤه وهم مرد
410
مدحت أباه قبله فشفى يدي
من العدم من تشفى به الأعين الرمد
411
حباني بأثمان السوابق دونها
مخافة سيري إنها للنوى جند
412
وشهوة عود إن جود يمينه
ثناء ثناء والجواد بها فرد
413
فلا زلت ألقى الحاسدين بمثلها
وفي يدهم غيظ وفي يدي الرفد
414
وعندي قباطي الهمام وماله
وعندهم مما ظفرت به الجحد
415
يرومون شأوي في الكلام وإنما
يحاكي الفتى فيما خلا المنطق القرد
416
فهم في جموع لا يراها ابن دأية
وهم في ضجيج لا يحس بها الخلد
417
ومني استفاد الناس كل غريبة
فجازوا بترك الذم إن لم يكن حمد
418
وجدت عليا وابنه خير قومه
وهم خير قوم واستوى الحر والعبد
419
وأصبح شعري منهما في مكانه
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد
420
وساير أبا محمد بن طغج وهو لا يدري أين يريد؛ فلما دخل كفرديس قال:
وزيارة عن غير موعد
كالغمض في الجفن المسهد
421
معجت بنا فيها الجيا
د مع الأمير أبي محمد
422
حتى دخلنا جنة
لو أن ساكنها مخلد
خضراء حمراء الترا
ب كأنها في خد أغيد
423
أحببت تشبيها لها
فوجدته ما ليس يوجد
424
وإذا رجعت إلى الحقا
ئق فهي واحدة لأوحد
425
وهم بالنهوض فأقعده أبو محمد فقال:
يا من رأيت الحليم وغدا
به وحر الملوك عبدا
426
مال علي الشراب جدا
وأنت بالمكرمات أهدى
427
فإن تفضلت بانصرافي
عددته من لدنك رفدا
428
وأطلق أبو محمد الباشق على سماناة فأخذها فقال:
أمن كل شيء بلغت المرادا
وفي كل شأو شأوت العبادا؟
429
فماذا تركت لمن لم يسد
وماذا تركت لمن كان سادا؟
430
كأن السمانى إذا ما رأتك
تصيدها تشتهي أن تصادا
431
واجتاز أبو محمد الجبال، فأثارت الغلمان خشفا، فتلقفته الكلاب، فقال:
وشامخ من الجبال أقود
فرد كيافوخ البعير الأصيد
432
يسار من مضيقه والجلمد
في مثل متن المسد المعقد
433
زرناه للأمر الذي لم يعهد
للصيد والنزهة والتمرد
434
بكل مسقي الدماء أسود
معاود مقود مقلد
435
بكل ناب ذرب محدد
على حفافي حنك كالمبرد
436
كطالب الثار وإن لم يحقد
يقتل ما يقتله ولا يدي
437
ينشد من ذا الخشف ما لم يفقد
فثار من أخضر ممطور ندي
438
كأنه بدء عذار الأمرد
فلم يكد إلا لحتف يهتدي
ولم يقع إلا على بطن يد
ولم يدع للشاعر المجود
439
وصفا له عند الأمير الأمجد
الملك القرم أبي محمد
440
القانص الأبطال بالمهند
ذي النعم الغر البوادي العود
441
إذا أردت عدها لم تعدد
وإن ذكرت فضله لم ينفد
442
وقال ارتجالا يودعه:
ماذا الوداع وداع الوامق الكمد
هذا الوداع وداع الروح للجسد
443
إذا السحاب زفته الريح مرتفعا
فلا عدا الرملة البيضاء من بلد
444
ويا فراق الأمير الرحب منزله
إن أنت فارقتنا يوما فلا تعد
445
ودخل على أبي العشائر الحسين بن علي بن حمدان يوما فوجده على الشراب، وفي يده بطيخة من الند في غشاء من خيزران، عليها قلادة لؤلؤ، وعلى رأسها عنبر قد أدير حولها، فحياه بها وقال: أي شيء تشبه هذه؟ فقال ارتجالا:
وبنية من خيزران ضمنت
بطيخة نبتت بنار في يد
446
نظم الأمير لها قلادة لؤلؤ
كفعاله وكلامه في المشهد
447
كالكاس باشرها المزاج فأبرزت
زبدا يدور على شراب أسود
448
وقال فيها ارتجالا أيضا :
وسوداء منظوم عليها لآلئ
لها صورة البطيخ وهي من الند
كأن بقايا عنبر فوق رأسها
طلوع رواعي الشيب في الشعر الجعد
449
وعمل أبياتا بديها، فتعجب أبو العشائر من سرعته، فقال:
أتنكر ما نطقت به بديها
وليس بمنكر سبق الجواد
أراكض معوصات الشعر قسرا
فأقتلها وغيري في الطراد
450
وقال يمدح كافورا سنة ست وأربعين وثلاثمائة:
أود من الأيام ما لا توده
وأشكو إليها بيننا وهي جنده
451
يباعدن حبا يجتمعن ووصله
فكيف بحب يجتمعن وصده
452
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه
فما طلبي منها حبيبا ترده
453
وأسرع مفعول فعلت تغيرا
تكلف شيء في طباعك ضده
454
رعى الله عيسا فارقتنا وفوقها
مها كلها يولي بجفنيه خده
455
بواد به ما بالقلوب كأنه
وقد رحلوا جيد تناثر عقده
456
إذا سارت الأحداج فوق نباته
تفاوح مسك الغانيات ورنده
457
وحال كإحداهن رمت بلوغها
ومن دونها غول الطريق وبعده
458
وأتعب خلق الله من زاد همه
وقصر عما تشتهي النفس وجده
459
فلا ينحلل في المجد مالك كله
فينحل مجد كان بالمال عقده
460
ودبره تدبير الذي المجد كفه
إذا حارب الأعداء والمال زنده
461
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
وفي الناس من يرضى بميسور عيشه
ومركوبه رجلاه والثوب جلده
462
ولكن قلبا بين جنبي ما له
مدى ينتهي بي في مراد أحده
463
يرى جسمه يكسى شفوفا تربه
فيختار أن يكسى دروعا تهده
464
يكلفني التهجير في كل مهمه
عليقي مراعيه وزادي ربده
465
وأمضى سلاح قلد المرء نفسه
رجاء أبي المسك الكريم وقصده
466
هما ناصرا من خانه كل ناصر
وأسرة من لم يكثر النسل جده
467
أنا اليوم من غلمانه في عشيرة
لنا والد منه يفديه ولده
468
فمن ماله مال الكبير ونفسه
ومن ماله در الصغير ومهده
469
نجر القنا الخطي حول قبابه
وتردي بنا قب الرباط وجرده
470
ونمتحن النشاب في كل وابل
دوي القسي الفارسية رعده
471
فإلا تكن مصر الشرى أو عرينه
فإن الذي فيها من الناس أسده
472
سبائك كافور وعقيانه الذي
بصم القنا لا بالأصابع نقده
473
بلاها حواليه العدو وغيره
وجربها هزل الطراد وجده
474
أبو المسك لا يفنى بذنبك عفوه
ولكنه يفنى بعذرك حقده
475
فيا أيها المنصور بالجد سعيه
ويا أيها المنصور بالسعي جده
476
تولى الصبا عني فأخلفت طيبه
وما ضرني لما رأيتك فقده
477
لقد شب في هذا الزمان كهوله
لديك وشابت عند غيرك مرده
478
ألا ليت يوم السير يخبر حره
فتسأله والليل يخبر برده
479
وليتك ترعاني وحيران معرض
فتعلم أني من حسامك حده
480
وأني إذا باشرت أمرا أريده
تدانت أقاصيه وهان أشده
481
وما زال أهل الدهر يشتبهون لي
إليك فلما لحت لي لاح فرده
482
يقال إذا أبصرت جيشا وربه:
أمامك رب، رب ذا الجيش عبده
483
وألقى الفم الضحاك أعلم أنه
قريب بذي الكف المفداة عهده
484
فزارك مني من إليك اشتياقه
وفي الناس إلا فيك وحدك زهده
485
يخلف من لم يأت دارك غاية
ويأتي فيدري أن ذلك جهده
486
فإن نلت ما أملت منك فربما
شربت بماء يعجز الطير ورده
487
ووعدك فعل قبل وعد لأنه
نظير فعال الصادق القول وعده
488
فكن في اصطناعي محسنا كمجرب
يبن لك تقريب الجواد وشده
489
إذا كنت في شك من السيف فابله
فإما تنفيه وإما تعده
490
وما الصارم الهندي إلا كغيره
إذا لم يفارقه النجاد وغمده
491
وإنك للمشكور في كل حالة
ولو لم يكن إلا البشاشة رفده
492
فكل نوال كان أو هو كائن
فلحظة طرف منك عندي نده
493
وإني لفي بحر من الخير أصله
عطاياك أرجو مدها وهي مده
494
وما رغبتي في عسجد أستفيده
ولكنها في مفخر أستجده
495
يجود به من يفضح الجود جوده
ويحمده من يفضح الحمد حمده
496
فإنك ما مر النحوس بكوكب
وقابلته إلا ووجهك سعده
497
واتصل قوم من الغلمان بابن الأخشيد مولى كافور وأرادوا أن يفسدوا الأمر على كافور فطالبه بتسليمهم إليه، فسلمهم بعد أن امتنع من ذلك مديدة مما سبب بينهما وحشة، وبعد أن تسلمهم كافور ألقاهم في النيل ثم اصطلحا، فقال:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي
وأذاعته ألسن الحساد
498
وأرادته أنفس حال تدبي
رك ما بينها وبين المراد
499
صار ما أوضع المخبون فيه
من عتاب زيادة في الوداد
500
وكلام الوشاة ليس على الأح
باب، سلطانه على الأضداد
501
إنما تنجح المقالة في المر
ء إذا صادفت هوى في الفؤاد
502
ولعمري لقد هززت بما قي
ل فألفيت أوثق الأطواد
503
وأشارت بما أبيت رجال
كنت أهدى منها إلى الإرشاد
504
قد يصيب الفتى المشير ولم يج
هد ويشوي الصواب بعد اجتهاد
505
نلت ما لا ينال بالبيض والسم
ر وصنت الأرواح في الأجساد
506
وقنا الخط في مراكزها حو
لك والمرهفات في الأغماد
507
ما دروا إذ رأوا فؤادك فيهم
ساكنا أن رأيه في الطراد
508
ففدى رأيك الذي لم تفده
كل رأي معلم مستفاد
509
وإذا الحلم لم يكن في طباع
لم يحلم تقادم الميلاد
510
فبهذا ومثله سدت يا كا
فور واقتدت كل صعب القياد
511
وأطاع الذي أطاعك والطا
عة ليست خلائق الآساد
512
إنما أنت والد والأب القا
طع أحنى من واصل الأولاد
513
لا عدا الشر من بغى لكما الشر
وخص الفساد أهل الفساد
514
أنتما - ما اتفقتما - الجسم والرو
ح فلا احتجتما إلى العواد
515
وإذا كان في الأنابيب خلف
وقع الطيش في صدور الصعاد
516
أشمت الخلف بالشراة عداها
وشفى رب فارس من إياد
517
وتولى بني اليزيدي بالبص
رة حتى تمزقوا في البلاد
518
وملوكا كأمس في القرب منا
وكطسم وأختها في البعاد
519
بكما بت عائذا فيكما من
ه ومن كيد كل باغ وعاد
520
وبلبيكما الأصيلين أن تف
رق صم الرماح بين الجياد
521
أو يكون الولي أشقى عدو
بالذي تذخرانه من عتاد
522
هل يسرن باقيا بعد ماض
ما تقول العداة في كل ناد
523
منع الود والرعاية والسؤ
دد أن تبلغا إلى الأحقاد
524
وحقوق ترقق القلب للقل
ب ولو ضمنت قلوب الجماد
525
فغدا الملك باهرا من رآه
شاكرا ما أتيتما من سداد
526
فيه أيديكما على الظفر الحل
و وأيدي قوم على الأكباد
527
هذه دولة المكارم والرأ
فة والمجد والندى والأيادي
528
كسفت ساعة كما تكسف الشم
س، وعادت ونورها في ازدياد
529
يزحم الدهر ركنها عن أذاها
بفتى مارد على المراد
530
متلف مخلف وفي أبي
عالم حازم شجاع جواد
531
أجفل الناس عن طريق أبي المس
ك وذلت له رقاب العباد
532
كيف لا يترك الطريق لسيل
ضيق عن أتيه كل واد
533
وقال يهجوه في يوم عرفة قبل مسيره من مصر بيوم واحد سنة خمسين وثلاثمائة:
534
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد؟
535
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيدا دونها بيد
536
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
537
وكان أطيب من سيفي مضاجعة
أشباه رونقه الغيد الأماليد
538
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئا تتيمه عين ولا جيد
539
يا ساقيي أخمر في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد
540
أصخرة أنا؟ ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد
541
إذا أردت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
542
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود
543
أمسيت أروح مثر خازنا ويدا
أنا الغني وأموالي المواعيد
544
إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدود
545
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
546
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
547
من كل رخو وكاء البطن منفتق
لا في الرجال ولا النسوان معدود
548
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
549
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
550
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفنى العناقيد
551
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
552
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
553
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه كلب وهو محمود
554
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجود
555
وأن ذا الأسود المثقوب مشفره
تطيعه ذي العضاريط الرعاديد
556
جوعان يأكل من زادي ويمسكني
لكي يقال: عظيم القدر مقصود!
557
إن امرأ أمة حبلى تدبره
لمستضام سخين العين مفئود
558
ويلمها خطة ويلم قابلها!
لمثلها خلق المهرية القود
559
وعندها لذ طعم الموت شاربه
إن المنية عند الذل قنديد
560
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم آباؤه الصيد
561
أم أذنه في يدي النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود
562
أولى اللئام كويفير بمعذرة
في كل لؤم وبعض العذر تفنيد
563
وذاك أن الفحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود؟!
564
وقال يمدح أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد، ويهنئه بعيد النيروز، ويصف سيفا قلده إياه، وفرسا حمله عليه، وجائزة وصله بها، وكان قد عاب قصيدته الرائية الآتية:
جاء نيروزنا وأنت مراده
وورت بالذي أراد زناده
565
هذه النظرة التي نالها من
ك إلى مثلها من الحول زاده
566
ينثني عنك آخر اليوم منه
ناظر أنت طرفه ورقاده
567
نحن في أرض فارس في سرور
ذا الصباح الذي نرى ميلاده
568
عظمته ممالك الفرس حتى
كل أيام عامه حساده
569
ما لبسنا فيه الأكاليل حتى
لبستها تلاعه ووهاده
570
عند من لا يقاس كسرى أبو سا
سان ملكا به ولا أولاده
571
عربي لسانه، فلسفي
رأيه، فارسية أعياده
572
كلما قال نائل: أنا منه
سرف، قال آخر: ذا اقتصاده
573
كيف يرتد منكبي عن سماء
والنجاد الذي عليه نجاده؟
574
قلدتني يمينه بحسام
أعقبت منه واحدا أجداده
575
كلما استل ضاحكته إياة
تزعم الشمس أنها أرآده
576
مثلوه في جفنه خشية الفق
د ففي مثل أثره إغماده
577
منعل لا من الحفا ذهبا يح
مل بحرا فرنده إزباده
578
يقسم الفارس المدجج لا يس
لم من شفرتيه إلا بداده
579
جمع الدهر حده ويديه
وثنائي فاستجمعت آحاده
580
وتقلدت شامة في نداه
جلدها منفساته وعتاده
581
فرستنا سوابق كن فيه
فارقت لبده وفيها طراده
582
ورجت راحة بنا لا تراها
وبلاد تسير فيها بلاده
583
هل لعذري عند الهمام أبي الفض
ل قبول سواد عيني مداده
584
أنا من شدة الحياء عليل
مكرمات المعله عواده
585
ما كفاني تقصير ما قلت فيه
عن علاه حتى ثناه انتقاده
586
إنني أصيد البزاة ولكن
أجل النجوم لا أصطاده
587
رب ما لا يعبر اللفظ عن
ه والذي يضمر الفؤاد اعتقاده
588
ما تعودت أن أرى كأبي الفض
ل وهذا الذي أتاه اعتياده
589
إن في الموج للغريق لعذرا
واضحا أن يفوته تعداده
590
للندى الغلب إنه فاض والشع
ر عمادي وابن العميد عماده
591
نال ظني الأمور إلا كريما
ليس لي نطقه ولا في آده
592
ظالم الجود كلما حل ركب
سيم أن تحمل البحار مزاده
593
غمرتني فوائد شاء فيها
أن يكون الكلام مما أفاده
594
ما سمعنا بمن أحب العطايا
فاشتهى أن يكون فيها فؤاده
595
خلق الله أفصح الناس طرا
في مكان أعرابه أكراده
596
وأحق الغيوث نفسا بحمد
في زمان كل النفوس جراده
597
مثلما أحدث النبوة في العا
لم والبعث حين شاع فساده
598
زانت الليل غرة القمر الطا
لع فيه ولم يشنه سواده
599
كثر الفكر كيف نهدي كما أه
دت إلى ربها الرئيس عباده
والذي عندنا من المال والخي
ل فمنه هباته وقياده
600
فبعثنا بأربعين مهارا
كل مهر ميدانه إنشاده
601
عدد عشته يرى الجسم فيه
أربا لا يراه فيما يزاده
602
فارتبطها فإن قلبا نماها
مربط تسبق الجياد جياده
603
وورد عليه كتاب ابن العميد يتشوقه، فقال ارتجالا:
بكتب الأنام كتاب ورد
فدت يد كاتبه كل يد
604
يعبر عما له عندنا
ويذكر من شوقه ما نجد
605
فأخرق رائيه ما رأى
وأبرق ناقده ما انتقد
606
إذا سمع الناس ألفاظه
خلقن له في القلوب الحسد
607
فقلت، وقد فرس الناطقين:
كذا يفعل الأسد ابن الأسد
608
وورد عليه كتاب عضد الدولة يستزيره؛ فقال عند مسيره مودعا ابن العميد سنة أربع وخمسين وثلاثمائة:
نسيت وما أنسى عتابا على الصد
ولا خفرا زادت به حمرة الخد
609
ولا ليلة قصرتها بقصورة
أطالت يدي في جيدها صحبة العقد
610
ومن لي بيوم مثل يوم كرهته
قربت به عند الوداع من البعد
611
وأن لا يخص الفقد شيئا فإنني
فقدت فلم أفقد دموعي ولا وجدي
612
تمن يلذ المستهام بمثله
وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي
613
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا
ولكنه غيظ الأسير على القد
614
فإما تريني لا أقيم ببلدة
فآفة غمدي في دلوقي وفي حدي
615
يحل القنا يوم الطعان بعقوتي
فأحرمه عرضي وأطعمه جلدي
616
تبدل أيامي وعيشي ومنزلي
نجائب لا يفكرن في النحس والسعد
617
وأوجه فتيان حياء تلثموا
عليهن لا خوفا من الحر والبرد
618
وليس حياء الوجه في الذئب شيمة
ولكنه من شيمة الأسد الورد
619
إذا لم تجزهم دار قوم مودة
أجاز القنا، والخوف خير من الود
620
يحيدون عن هزل الملوك إلى الذي
توفر من بين الملوك على الجد
621
ومن يصحب اسم ابن العميد محمد
يسر بين أنياب الأساود والأسد
622
يمر من السم الوحي بعاجز
ويعبر من أفواههن على درد
623
كفانا الربيع العيس من بركاته
فجاءته لم تسمع حداء سوى الرعد
624
إذا ما استجبن الماء يعرض نفسه
كرعن بسبت في إناء من الورد
625
كأنا أرادت شكرنا الأرض عنده
فلم يخلنا جو هبطناه من رفد
626
لنا مذهب العباد في ترك غيره
وإتيانه نبغي الرغائب بالزهد
627
رجونا الذي يرجون في كل جنة
بأرجان حتى ما يئسنا من الخلد
628
تعرض للزوار أعناق خيله
تعرض وحش خائفات من الطرد
629
وتلقى نواصيها المنايا مشيحة
ورود قطا صم تشايحن في ورد
630
وتنسب أفعال السيوف نفوسها
إليه وينسبن السيوف إلى الهند
631
إذا الشرفاء البيض متوا بقتوه
أتى نسب أعلى من الأب والجد
632
فتى فاتت العدوى من الناس عينه
فما أرمدت أجفانه كثرة الرمد
وخالفهم خلقا وخلقا وموضعا
فقد جل أن يعدى بشيء وأن يعدي
633
يغير ألوان الليالي على العدى
بمنشورة الرايات منصورة الجند
634
إذا ارتقبوا صبحا رأوا قبل ضوئه
كتائب لا يرد الصباح كما تردي
635
ومبثوثة لا تتقى بطليعة
ولا يحتمى منها بغور ولا نجد
636
يغصن إذا ما عدن في متفاقد
من الكثر غان بالعبيد عن الحشد
637
حثت كل أرض تربة في غباره
فهن عليه كالطرائق في البرد
638
فإن يكن المهدي من بان هديه
فهذا، وإلا فالهدى ذا فما المهدي؟
639
يعللنا هذا الزمان بذا الوعد
ويخدع عما في يديه من النقد
640
هل الخير شيء ليس بالخير غائب
أم الرشد شيء غائب ليس بالرشد ؟!
641
أأحزم ذي لب وأكرم ذي يد
وأشجع ذي قلب وأرحم ذي كبد
وأحسن معتم جلوسا وركبة
على المنبر العالي أو الفرس النهد
642
تفضلت الأيام بالجمع بيننا
فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
643
جعلن وداعي واحدا لثلاثة
جمالك والعلم المبرح والمجد
644
وقد كنت أدركت المنى غير أنني
يعيرني أهلي بإدراكها وحدي
645
وكل شريك في السرور بمصبحي
أرى بعده من لا يرى مثله بعدي
646
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني
مخلف قلبي عند من فضله عندي
647
ولو فارقت نفسي إليك حياتها
لقلت: أصابت غير مذمومة العهد
648
وقال يمدح عضد الدولة أبا شجاع ويذكر هزيمة وهشوذان:
أزائر يا خيال أم عائد
أم عند مولاك أنني راقد
649
ليس كما ظن غشية عرضت
فجئتني في خلالها قاصد
650
عد وأعدها فحبذا تلف
ألصق ثديي بثديك الناهد
651
وجدت فيه بما يشح به
من الشتيت المؤشر البارد
652
إذا خيالاته أطفن بنا
أضحكه أنني لها حامد
653
وقال: إن كان قد قضى أربا
منا فما بال شوقه زائد
654
لا أجحد الفضل ربما فعلت
ما لم يكن فاعلا ولا واعد
655
لا تعرف العين فرق بينهما
كل خيال وصاله نافد
656
يا طفلة الكف عبلة الساعد
على البعير المقلد الواخد
657
زيدي أذى مهجتي أزدك هوى
فأجهل الناس عاشق حاقد
658
حكيت يا ليل فرعها الوارد
فاحك نواها لجفني الساهد
659
طال بكائي على تذكرها
وصلت حتى كلاكما واحد
660
ما بال هذي النجوم حائرة
كأنها العمي ما لها قائد
661
أو عصبة من ملوك ناحية
أبو شجاع عليهم واجد
662
إن هربوا أدركوا وإن وقفوا
خشوا ذهاب الطريف والتالد
663
فهم يرجون عفو مقتدر
مبارك الوجه جائد ماجد
664
أبلج لو عاذت الحمام به
ما خشيت راميا ولا صائد
أو رعت الوحش وهي تذكره
ما راعها حابل ولا طارد
665
تهدي له كل ساعة خبرا
عن جحفل تحت سيفه بائد
666
وموضعا في فتان ناجية
يحمل في التاج هامة العاقد
667
يا عضدا ربه به العاضد
وساريا يبعث القطا الهاجد
668
وممطر الموت والحياة معا
وأنت لا بارق ولا راعد
669
نلت وما نلت من مضرة وهشو
ذان ما نال رأيه الفاسد
670
يبدأ من كيده بغايته
وإنما الحرب غاية الكائد
671
ماذا على من أتى يحاربكم
فذم ما اختار لو أتى وافد
بلا سلاح سوى رجائكم
ففاز بالنصر، وانثنى راشد
672
يقارع الدهر من يقارعكم
على مكان المسود والسائد
673
وليت يومي فناء عسكره
ولم تكن دانيا ولا شاهد
674
ولم يغب غائب خليفته
جيش أبيه وجده الصاعد
675
وكل خطية مثقفة
يهزها مارد على مارد
676
سوافك ما يدعن فاصلة
بين طري الدماء والجاسد
677
إذا المنايا بدت فدعوتها
أبدل نونا بداله الحائد
678
إذا درى الحصن من رماه بها
خر لها في أساسه ساجد
679
ما كانت الطرم في عجاجتها
إلا بعيرا أضله ناشد
680
تسأل أهل القلاع عن ملك
قد مسخته نعامة شارد
681
تستوحش الأرض أن تقر به
فكلها منكر له جاحد
682
فلا مشاد ولا مشيد حمى
ولا مشيد أغنى ولا شائد
683
فاغتظ بقوم وهشوذ ما خلقوا
إلا لغيظ العدو والحاسد
684
رأوك لما بلوك نابتة
يأكلها قبل أهله الرائد
685
وخل زيا لمن يحققه
ما كل دام جبينه عابد
686
إن كان لم يعمد الأمير لما
لقيت منه فيمنه عامد
687
يقلقه الصبح لا يرى معه
بشرى بفتح كأنه فاقد
688
والأمر لله رب مجتهد
ما خاب إلا لأنه جاهد
689
ومتق والسهام مرسلة
يحيد عن حابض إلى صارد
690
فلا يبل قاتل أعاديه
أقائما نال ذاك أم قاعد
691
ليت ثنائي الذي أصوغ فدى
من صيغ فيه فإنه خالد
692
لويته دملجا على عضد
لدولة ركنها له والد
693
وقال في صباه:
وشادن روح من يهواه في يده
سيف الصدود على أعلى مقلده
694
ما اهتز منه على عضو ليبتره
إلا اتقاه بترس من تجلده
695
ذم الزمان إليه من أحبته
ما ذم من بدره في حمد أحمده
696
شمس إذا الشمس لاقته على فرس
تردد النور فيها من تردده
697
إن يقبح الحسن إلا عند طلعته
فالعبد يقبح إلا عند سيده
698
قالت: عن الرفد طب نفسا، فقلت لها:
لا يصدر الحر إلا بعد مورده
699
لم أعرف الخير إلا مذ عرفت فتى
لم يولد الجود إلا عند مولده
نفس تصغر نفس الدهر من كبر
لها نهى كهله في سن أمرده
700
هوامش
قافية الذال
وقال يمدح مساور بن محمد الرومي:
أمساور أم قرن شمس هذا؟
أم ليث غاب يقدم الأستاذا؟
1
شم ما انتضيت فقد تركت ذبابه
قطعا، وقد ترك العباد جذاذا
2
هبك ابن يزداذ حطمت وصحبه
أترى الورى أضحوا بني يزداذا
3
غادرت أوجههم بحيث لقيتهم
أقفاءهم وكبودهم أفلاذا
4
في موقف وقف الحمام عليهم
في ضنكه واستحوذ استحواذا
5
جمدت نفوسهم فلما جئتها
أجريتها وسقيتها الفولاذا
6
لما رأوك رأوا أباك محمدا
في جوشن وأخا أبيك معاذا
7
أعجلت ألسنهم بضرب رقابهم
عن قولهم: لا فارس إلا ذا
8
غر طلعت عليه طلعة عارض
مطر المنايا وابلا ورذاذا
9
فغدا أسيرا قد بللت ثيابه
بدم وبل ببوله الأفخاذا
10
سدت عليه المشرفية طرقه
فانصاع لا حلبا ولا بغداذا
11
طلب الإمارة في الثغور ونشؤه
ما بين كرخايا إلى كلواذا
12
فكأنه حسب الأسنة حلوة
أو ظنها البرني والآزاذا
13
لم يلق قبلك من إذا اختلف القنا
جعل الطعان من الطعان ملاذا
14
من لا توافقه الحياة وطيبها
حتى يوافق عزمه الإنفاذا
15
متعودا لبس الدروع يخالها
في البرد خزا والهواجر لاذا
16
أعجب بأخذكه، وأعجب منكما
أن لا تكون لمثله أخاذا
17
هوامش
قافية الراء
وقال يمدح سيف الدولة وقد سأله المسير معه لما سار لنصرة أخيه ناصر الدولة، وذلك سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة:
سر، حل حيث تحله النوار!
وأراد فيك مرادك المقدار
1
وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة
حيث اتجهت وديمة مدرار
2
وأراك دهرك ما تحاول في العدى
حتى كأن صروفه أنصار
3
وصدرت أغنم صادر عن مورد
مرفوعة لقدومك الأبصار
4
أنت الذي بجح الزمان بذكره
وتزينت بحديثه الأسمار
5
وإذا تنكر فالفناء عقابه
وإذا عفا فعطاؤه الأعمار
6
وله وإن وهب الملوك مواهب
در الملوك لدرها أغبار
7
لله قلبك ما يخاف من الردى!
ويخاف أن يدنو إليك العار
8
وتحيد عن طبع الخلائق كله
ويحيد عنك الجحفل الجرار
9
يا من يعز على الأعزة جاره
ويذل من سطواته الجبار
10
كن حيث شئت فما تحول تنوفة
دون اللقاء ولا يشط مزار
11
وبدون ما أنا من ودادك مضمر
ينضى المطي ويقرب المستار
12
إن الذي خلفت خلفي ضائع
ما لي على قلقي إليه خيار
13
وإذا صحبت فكل ماء مشرب
لولا العيال وكل أرض دار
14
إذن الأمير بأن أعود إليهم
صلة تسير بشكرها الأشعار
15
وخيره بين فرسين؛ دهماء وكميت، فقال:
اخترت دهماء تين يا مطر
ومن له في الفضائل الخير
16
وربما فالت العيون وقد
يصدق فيها ويكذب النظر
17
أنت الذي لو يعاب في ملأ
ما عيب إلا بأنه بشر
18
وأن إعطاءه الصوارم والخي
ل وسمر الرماح والعكر
19
فاضح أعدائه كأنهم
له يقلون كلما كثروا
20
أعاذك الله من سهامهم
ومخطئ من رميه القمر
21
وجاءه رسول سيف الدولة برقعة فيها بيتان للعباس بن الأحنف
22
يسأله إجازتهما، فقال:
رضاك رضاي الذي أوثر
وسرك سري، فما أظهر؟!
23
كفتك المروءة ما تتقي
وآمنك الود ما تحذر
24
وسركم في الحشا ميت
إذا أنشر السر لا ينشر
25
كأني عصت مقلتي فيكم
وكاتمت القلب ما تبصر
26
وإفشاء ما أنا مستودع
من الغدر، والحر لا يغدر
27
إذا ما قدرت على نطقة
فإني على تركها أقدر
28
أصرف نفسي كما أشتهي
وأملكها والقنا أحمر
29
دواليك يا سيفها دولة
وأمرك يا خير من يأمر
30
أتاني رسولك مستعجلا
فلباه شعري الذي أذخر
ولو كان يوم وغى قاتما
للباه سيفي والأشقر
31
فلا غفل الدهر عن أهله
فإنك عين بها ينظر
32
وقال وقد استبطأ سيف الدولة مدحه وتنكر لذلك:
33
أرى ذلك القرب صار ازورارا
وصار طويل السلام اختصارا
34
تركتني اليوم في خجلة
أموت مرارا وأحيا مرارا
35
أسارقك اللحظ مستحييا
وأزجر في الخيل مهري سرارا
36
وأعلم أني إذا ما اعتذرت
إليك أراد اعتذاري اعتذارا
37
كفرت مكارمك الباهرا
ت إن كان ذلك مني اختيارا
38
ولكن حمى الشعر إلا القلي
ل هم حمى النوم إلا غرارا
39
وما أنا أسقمت جسمي به
وما أنا أضرمت في القلب نارا
40
فلا تلزمني ذنوب الزمان
إلي أساء وإياي ضارا
41
وعندي لك الشرد السائرا
ت لا يختصصن من الأرض دارا
42
قواف إذا سرن عن مقولي
وثبن الجبال وخضن البحارا
43
ولي فيك ما لم يقل قائل
وما لم يسر قمر حيث سارا
فلو خلق الناس من دهرهم
لكانوا الظلام وكنت النهارا
44
أشدهم في الندى هزة
وأبعدهم في عدو مغارا
45
سما بك همي فوق الهموم
فلست أعد يسارا يسارا
46
ومن كنت بحرا له يا علي
ي لم يقبل الدر إلا كبارا
47
وقال يهنئه بعيد الفطر:
الصوم والفطر والأعياد والعصر
منيرة بك حتى الشمس والقمر
48
تري الأهلة وجها عم نائله
فما يخص به من دونها البشر
49
ما الدهر عندك إلا روضة أنف
يا من شمائله في دهره زهر
50
ما ينتهي لك في أيامه كرم
فلا انتهى لك في أعوامه عمر
51
فإن حظك من تكرارها شرف
وحظ غيرك منها الشيب والكبر
52
وقال وقد جلس سيف الدولة لرسول ملك الروم ولم يصل إليه المتنبي لزحام الناس، فعاتبه سيف الدولة على تأخره وانقطاعه.
فقال المتنبي ارتجالا، وذلك سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة:
ظلم لذا اليوم وصف قبل رؤيته
لا يصدق الوصف حتى يصدق النظر
53
تزاحم الجيش حتى لم يجد سببا
إلى بساطك لي سمع ولا بصر
فكنت أشهد مختص وأغيبه
معاينا وعياني كله خبر
54
اليوم يرفع ملك الروم ناظره
لأن عفوك عنه عنده ظفر
55
وإن أجبت بشيء عن رسائله
فما يزال على الأملاك يفتخر
56
قد استراحت إلى وقت رقابهم
من السيوف وباقي القوم ينتظر
57
وقد تبدلها بالقوم غيرهم
لكي تجم رءوس القوم والقصر
58
تشبيه جودك بالأمطار غادية
جود لكفك ثان ناله المطر
59
تكسب الشمس منك النور طالعة
كما تكسب منها نوره القمر
60
وقال لما أوقع سيف الدولة ببني عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب حين عاثوا في عمله وخالفوا عليه، ويذكر إجفالهم من بين يديه وظفره بهم، وله خبر طويل:
طوال قنا تطاعنها قصار
وقطرك في ندى ووغى بحار
61
وفيك إذا جنى الجاني أناة
تظن كرامة وهي احتقار
62
وأخذ للحواضر والبوادي
بضبط لم تعوده نزار
63
تشممه شميم الوحش إنسا
وتنكره فيعروها نفار
64
وما انقادت لغيرك في زمان
فتدري ما المقادة والصغار
65
فقرحت المقاود ذفرييها
وصعر خدها هذا العذار
66
وأطمع عامر البقيا عليها
ونزقها احتمالك والوقار
67
وغيرها التراسل والتشاكي
وأعجبها التلبب والمغار
68
جياد تعجز الأرسان عنها
وفرسان تضيق بها الديار
69
وكانت بالتوقف عن رداها
نفوسا في رداها تستشار
70
وكنت السيف قائمه إليهم
وفي الأعداء حدك والغرار
فأمست بالبدية شفرتاه
وأمسى خلف قائمه الحيار
71
وكان بنو كلاب حيث كعب
فخافوا أن يصيروا حيث صاروا
72
تلقوا عز مولاهم بذل
وسار إلى بني كعب وساروا
73
فأقبلها المروج مسومات
ضوامر لا هزال ولا شيار
74
تثير على سلمية مسبطرا
تناكر تحته لولا الشعار
75
عجاجا تعثر العقبان فيه
كأن الجو وعث أو خبار
76
وظل الطعن في الخيلين خلسا
كأن الموت بينهما اختصار
77
فلزهم الطراد إلى قتال
أحد سلاحهم فيه الفرار
78
مضوا متسابقي الأعضاء فيه
لأرؤسهم بأرجلهم عثار
79
يشلهم بكل أقب نهد
لفارسه على الخيل الخيار
80
وكل أصم يعسل جانباه
على الكعبين منه دم ممار
81
يغادر كل ملتفت إليه
ولبته لثعلبه وجار
82
إذا صرف النهار الضوء عنهم
دجا ليلان: ليل والغبار
وإن جنح الظلام انجاب عنهم
أضاء المشرفية والنهار
83
يبكي خلفهم دثر بكاه
رغاء أو ثؤاج أو يعار
84
غطا بالعثير البيداء حتى
تحيرت المتالي والعشار
85
ومروا بالجباة يضم فيها
كلا الجيشين من نقع إزار
86
وجاءوا الصحصحان بلا سروج
وقد سقط العمامة والخمار
87
وأرهقت العذارى مردفات
وأوطئت الأصيبية الصغار
88
وقد نزح الغوير فلا غوير
ونهيا والبييضة والجفار
89
وليس بغير تدمر مستغاث
وتدمر كاسمها لهم دمار
90
أرادوا أن يديروا الرأي فيها
فصبحهم برأي لا يدار
91
وجيش كلما حاروا بأرض
وأقبل أقبلت فيه تحار
92
يحف أغر لا قود عليه
ولا دية تساق ولا اعتذار
93
تريق سيوفه مهج الأعادي
وكل دم أراقته جبار
94
فكانوا الأسد ليس لها مصال
على طير وليس لها مطار
95
إذا فاتوا الرماح تناولتهم
بأرماح من العطش القفار
96
يرون الموت قداما وخلفا
فيختارون والموت اضطرار
97
إذا سلك السماوة غير هاد
فقتلاهم لعينيه منار
98
ولو لم تبق لم تعش البقايا
وفي الماضي لمن بقي اعتبار
99
إذا لم يرع سيدهم عليهم
فمن يرعي عليهم أو يغار
100
تفرقهم وإياه السجايا
ويجمعهم وإياه النجار
101
ومال بها على أرك وعرض
وأهل الرقتين لها مزار
102
وأجفل بالفرات بنو نمير
وزأرهم الذي زأروا خوار
103
فهم حزق على الخابور صرعى
بهم من شرب غيرهم خمار
104
فلم يسرح لهم في الصبح مال
ولم توقد لهم بالليل نار
105
حذار فتى إذا لم يرض عنهم
فليس بنافع لهم الحذار
106
تبيت وفودهم تسري إليه
وجدواه التي سألوا اغتفار
107
فخلفهم برد البيض عنهم
وهامهم له معهم معار
108
وهم ممن أذم لهم عليه
كريم العرق والحسب النضار
109
فأصبح بالعواصم مستقرا
وليس لبحر نائله قرار
110
وأضحى ذكره في كل أرض
تدار على الغناء به العقار
111
تخر له القبائل ساجدات
وتحمده الأسنة والشفار
112
كأن شعاع عين الشمس فيه
ففي أبصارنا منه انكسار
113
فمن طلب الطعان فذا علي
وخيل الله والأسل الحرار
114
يراه الناس حيث رأته كعب
بأرض ما لنازلها استتار
يوسطه المفاوز كل يوم
طلاب الطالبين لا الانتظار
115
تصاهل خيله متجاوبات
وما من عادة الخيل السرار
116
بنو كعب وما أثرت فيهم
يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعه ألم ونقص
وفيها من جلالته افتخار
117
لهم حق بشركك في نزار
وأدنى الشرك في أصل جوار
118
لعل بنيهم لبنيك جند
فأول قرح الخيل المهار
119
وأنت أبر من لو عق أفنى
وأعفى من عقوبته البوار
120
وأقدر من يهيجه انتصار
وأحلم من يحلمه اقتدار
121
وما في سطوة الأرباب عيب
ولا في ذلة العبدان عار
122
وقال ارتجالا يهجو سوارا الديلمي وقد نزلوا منزلا أصابهم فيه مطر وريح:
بقية قوم آذنوا ببوار
وأنضاء أسفار كشرب عقار
123
نزلنا على حكم الرياح بمسجد
علينا لها ثوبا حصى وغبار
124
خليلي ما هذا مناخا لمثلنا
فشدا عليها وارحلا بنهار
125
ولا تنكرا عصف الرياح فإنها
قرى كل ضيف بات عند سوار
126
وقال في صباه وهو بيت مفرد، وروى قوم أنهما بيتان وهما:
إذا لم تجد ما يبتر الفقر قاعدا
فقم واطلب الشيء الذي يبتر العمرا
127
هما خلتان ثروة أو منية
لعلك أن تبقي بواحدة ذكرا
128
وقال في صباه في جعفر بن كيغلغ ولم ينشده إياها:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره
وغيض الدمع فانهلت بوادره
129
وكاتم الحب يوم البين منهتك
وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
130
لولا ظباء عدي ما شغفت بهم
ولا بربربهم لولا جآذره
131
من كل أحور في أنيابه شنب
خمر يخامرها مسك تخامره
132
نعج محاجره دعج نواظره
حمر غفائره سود غدائره
133
أعارني سقم عينيه وحملني
من الهوى ثقل ما تحوي مآزره
134
يا من تحكم في نفسي فعذبني
ومن فؤادي على قتلي يضافره
135
بعودة الدولة الغراء ثانية
سلوت عنك ونام الليل ساهره
136
من بعد ما كان ليلي لا صباح له
كأن أول يوم الحشر آخره
137
غاب الأمير فغاب الخير عن بلد
كادت لفقد اسمه تبكي منابره
138
قد اشتكت وحشة الأحياء أربعه
وخبرت عن أسى الموتى مقابره
139
حتى إذا عقدت فيه القباب له
أهل لله باديه وحاضره
140
وجددت فرحا لا الغم يطرده
ولا الصبابة في قلب تجاوره
141
إذا خلت منك حمص، لا خلت أبدا
فلا سقاها من الوسمي باكره
142
دخلتها وشعاع الشمس متقد
ونور وجهك بين الخلق باهره
143
في فيلق من حديد لو قذفت به
صرف الزمان لما دارت دوائره
144
تمضي المواكب والأبصار شاخصة
منها إلى الملك الميمون طائره
145
قد حرن في بشر في تاجه قمر
في درعه أسد تدمى أظافره
146
حلو خلائقه شوس حقائقه
تحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره
147
تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت
كصدره لم تبن فيها عساكره
148
إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من مجده غرقت فيه خواطره
149
تحمى السيوف على أعدائه معه
كأنهن بنوه أو عشائره
150
إذا انتضاها لحرب لم تدع جسدا
إلا وباطنه للعين ظاهره
151
فقد تيقن أن الحق في يده
وقد وثقن بأن الله ناصره
152
تركن هام بني عوف وثعلبة
على رءوس بلا ناس مغافره
153
فخاض بالسيف بحر الموت خلفهم
وكان منه إلى الكعبين زاخره
154
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت
في الأرض من جثث القتلى حوافره
155
كم من دم رويت منه أسنته
ومهجة ولغت فيها بواتره
156
وحائن لعبت سمر الرماح به
فالعيش هاجره والنسر زائره
157
من قال: لست بخير الناس كلهم
فجهله بك عند الناس عاذره
أو شك أنك فرد في زمانهم
بلا نظير ففي روحي أخاطره
158
يا من ألوذ به فيما أؤمله
ومن أعوذ به مما أحاذره
159
ومن توهمت أن البحر راحته
جودا وأن عطاياه جواهره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
ولا يهيضون عظما أنت جابره
160
وقال يمدح أبا أحمد عبيد الله بن يحيى البحتري المنبجي:
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر
بفي برود وهو في كبدي جمر؟
161
أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة؟
وذيا الذي قبلته البرق أم ثغر؟
162
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي
فقلن: نرى شمسا وما طلع الفجر
163
رأين التي للسحر في لحظاتها
سيوف ظباها من دمي أبدا حمر
164
تناهى سكون الحسن في حركاتها
فليس لراء وجهها لم يمت عذر
165
إليك ابن يحيى بن الوليد تجاوزت
بي البيد عيس لحمها والدم الشعر
166
نضحت بذكراكم حرارة قلبها
فسارت وطول الأرض في عينها شبر
167
إلى ليث حرب يلحم الليث سيفه
وبحر ندى في موجه يغرق البحر
168
وإن كان يبقي جوده من تليده
شبيها بما يبقي من العاشق الهجر
169
فتى كل يوم تحتوي نفس ماله
رماح المعالي لا الردينية السمر
170
تباعد ما بين السحاب وبينه
فنائلها قطر ونائله غمر
171
ولو تنزل الدنيا على حكم كفه
لأصبحت الدنيا وأكثرها نزر
172
أراه صغيرا قدرها عظم قدره
فما لعظيم قدره عنده قدر
173
متى ما يشر نحو السماء بوجهه
تخر له الشعرى وينخسف البدر
174
تر القمر الأرضي والملك الذي
له الملك بعد الله والمجد والذكر
175
كثير سهاد العين من غير علة
يؤرقه فيما يشرفه الفكر
176
له منن تفني الثناء كأنما
به أقسمت أن لا يؤدى لها شكر
177
أبا أحمد ما الفخر إلا لأهله
وما لامرئ لم يمس من بحتر فخر
178
هم الناس إلا أنهم من مكارم
يغني بهم حضر ويحدو بهم سفر
179
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه
إليك وأهل الدهر دونك والدهر
180 •••
وقال يرثي محمد بن إسحاق التنوخي:
إني لأعلم واللبيب خبير
أن الحياة وإن حرصت غرور
181
ورأيت كلا ما يعلل نفسه
بتعلة وإلى الفناء يصير
182
أمجاور الديماس رهن قرارة
فيها الضياء بوجهه والنور
183
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغور
184
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أيدي الرجال تسير
185
خرجوا به ولكل باك خلفه
صعقات موسى يوم دك الطور
186
والشمس في كبد السماء مريضة
والأرض واجفة تكاد تمور
187
وحفيف أجنحة الملائك حوله
وعيون أهل اللاذقية صور
188
حتى أتوا جدثا كأن ضريحه
في قلب كل موحد محفور
189
بمزود كفن البلى من ملكه
مغف وإثمد عينه الكافور
190
فيه الفصاحة والسماحة والتقى
والبأس أجمع والحجا والخير
191
كفل الثناء له برد حياته
لما انطوى فكأنه منشور
192
وكأنما عيسى ابن مريم ذكره
وكأن عازر شخصه المقبور
193 •••
واستزاده بنو عم الميت فقال ارتجالا:
غاضت أنامله وهن بحور
وخبت مكايده وهن سعير
194
يبكى عليه وما استقر قراره
في اللحد حتى صافحته الحور
195
صبرا بني إسحاق عنه تكرما
إن العظيم على العظيم صبور
196
فلكل مفجوع سواكم مشبه
ولكل مفقود سواه نظير
197
أيام قائم سيفه في كفه ال
يمنى وباع الموت عنه قصير
198
ولطالما انهملت بماء أحمر
في شفرتيه جماجم ونحور
199
فأعيذ إخوته برب محمد
أن يحزنوا ومحمد مسرور
200
أو يرغبوا بقصورهم عن حفرة
حياه فيها منكر ونكير
201
نفر إذا غابت غمود سيوفهم
عنها فآجال العباد حضور
202
وإذا لقوا جيشا تيقن أنه
من بطن طير تنوفة محشور
203
لم تثن في طلب أعنة خيلهم
إلا وعمر طريدها مبتور
204
يممت شاسع دارهم عن نية
إن المحب على البعاد يزور
205
وقنعت باللقيا وأول نظرة
إن القليل من الحبيب كثير
206
وسأله بنو عم الميت أن ينفي الشماتة عنهم، فقال ارتجالا:
ألآل إبراهيم بعد محمد
إلا حنين دائم وزفير
207
ما شك خابر أمرهم من بعده
أن العزاء عليهم محظور
208
تدمي خدودهم الدموع وتنقضي
ساعات ليلهم وهن دهور
209
أبناء عم كل ذنب لامرئ
إلا السعاية بينهم مغفور
210
طار الوشاة على صفاء ودادهم
وكذا الذباب على الطعام يطير
211
ولقد منحت أبا الحسين مودة
جودي بها لعدوه تبذير
212
ملك تصور كيف شاء كأنما
يجري بفصل قضائه المقدور
213 •••
وقال ارتجالا في أبي الحسين بن إبراهيم وقد دخل عليه وهو يشرب:
مرتك ابن إبراهيم صافية الخمر
وهنئتها من شارب مسكر السكر
214
رأيت الحميا في الزجاج بكفه
فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
215
إذا ما ذكرنا جوده كان حاضرا
نأى أو دنا يسعى على قدم الخضر
216 •••
وقال ارتجالا وقد دخل على بدر بن عمار يوما فوجده خاليا، وقد أمر الغلمان أن يحجبوا الناس عنه ليخلو للشراب:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوة
هيهات لست على الحجاب بقادر
من كان ضوء جبينه ونواله
لم يحجبا لم يحتجب عن ناظر
217
فإذا احتجبت فأنت غير محجب
وإذا بطنت فأنت عين الظاهر
218
وقال وقد أخذ الشراب منه عند بدر وأراد الانصراف فلم يقدر على الكلام، فقال هذين البيتين وهو لا يدري:
نال الذي نلت منه مني
لله ما تصنع الخمور!
219
وذا انصرافي إلى محلي
أآذن أيها الأمير •••
وقال يصف لعبة في صورة جارية؛ وذلك أنه كان لبدر بن عمار جليس أعور يعرف بابن كروس، يحسد أبا الطيب لما كان يشاهده من سرعة خاطره؛ لأنه لم يكن شيء يجري في المجلس إلا ارتجل فيه شعرا، فقال الأعور لبدر: أظنه يعمل هذا قبل حضوره ويعده، فقال بدر: مثل هذا لا يجوز، وأنا أمتحنه بشيء أحضره للوقت؛ فلما كمل المجلس ودارت الكئوس أخرج لعبة لها شعر في طولها، تدور على لولب، وإحدى رجليها مرفوعة، وفي يدها طاقة ريحان؛ فإذا وقفت حذاء إنسان شرب فدارت؛ فقال ارتجالا:
وجارية شعرها شطرها
محكمة نافذ أمرها
220
تدور وفي كفها طاقة
تضمنها مكرها شبرها
221
فإن أسكرتنا ففي جهلها
بما فعلته بنا عذرها
222 •••
وقال في بدر أيضا وقد وقفت هذه الجارية حذاءه:
إن الأمير أدام الله دولته
لفاخر كسيت فخرا به مضر
223
في الشرب جارية من تحتها خشب
ما كان والدها جن ولا بشر
224
قامت على فرد رجل من مهابته
وليس تعقل ما تأتي وما تذر
225
وقال لبدر: ما حملك على إحضار اللعبة؟ فقال: أردت أن أنفي الظنة عن أدبك، فقال:
زعمت أنك تنفي الظن عن أدبي
وأنت أعظم أهل العصر مقدارا
226
إني أنا الذهب المعروف مخبره
يزيد في السبك للدينار دينارا
227
فقال بدر: بل للدينار قنطارا، فقال:
برجاء جودك يطرد الفقر
وبأن تعادى ينفد العمر
228
فخر الزجاج بأن شربت به
وزرت على من عافها الخمر
229
وسلمت منها وهي تسكرنا
حتى كأنك هابك السكر
230
ما يرتجى أحد لمكرمة
إلا الإله وأنت يا بدر
وأراد الارتحال عن علي بن أحمد الخراساني فقال:
لا تنكرن رحيلي عنك في عجل
فإنني لرحيلي غير مختار
وربما فارق الإنسان مهجته
يوم الوغى غير قال خشية العار
231
وقد منيت بحساد أحاربهم
فاجعل نداك عليهم بعض أنصاري
232
وقال يصف مسيره في البوادي وما لقي في أسفاره ويذم الأعور بن كروس:
عذيري من عذارى من أمور
سكن جوانحي بدل الخدور
233
ومبتسمات هيجاوات عصر
عن الأسياف ليس عن الثغور
234
ركبت مشمرا قدمي إليها
وكل عذافر قلق الضفور
235
أوانا في بيوت البدو رحلي
وآونة على قتد البعير
236
أعرض للرماح الصم نحري
وأنصب حر وجهي للهجير
237
وأسري في ظلام الليل وحدي
كأني منه في قمر منير
238
فقل في حاجة لم أقض منها
على شغفي بها شروى نقير
239
ونفس لا تجيب إلى خسيس
وعين لا تدار على نظير
240
وكف لا تنازع من أتاني
ينازعني سوى شرفي وخيري
241
وقلة ناصر جوزيت عني
بشر منك يا شر الدهور
242
عدوي كل شيء فيك حتى
لخلت الأكم موغرة الصدور
243
فلو أني حسدت على نفيس
لجدت به لذي الجد العثور
ولكني حسدت على حياتي
وما خير الحياة بلا سرور
244
فيا ابن كروس يا نصف أعمى
وإن تفخر فيا نصف البصير
245
تعادينا لأنا غير لكن
وتبغضنا لأنا غير عور
246
فلو كنت امرأ يهجى هجونا
ولكن ضاق فتر عن مسير
247
وقال يمدح أبا محمد الحسين بن عبد الله بن طغج:
ووقت وفى بالدهر لي عند واحد
وفى لي بأهليه وزاد كثيرا
248
شربت على استحسان ضوء جبينه
وزهر ترى للماء فيه خريرا
غدا الناس مثليهم به لا عدمته
وأصبح دهري في ذراه دهورا
249 •••
وقال وقد كره الشرب وكثر البخور وارتفعت رائحة الند والأصوات بمجلسه:
أنشر الكباء ووجه الأمير
وصوت الغناء وصافي الخمور
250
فداو خماري بشربي لها
فإني سكرت بشرب السرور
251
وقال أبو محمد يوما: إن أباه استخفى مرة، فعرفه رجل يهودي، فقال:
لا تلومن اليهودي على
أن يرى الشمس فلا ينكرها
إنما اللوم على حاسبها
ظلمة من بعد ما يبصرها
252
وسئل عما ارتجله فيه من الشعر، فأعاده؛ فعجبوا من حفظه إياه، فقال:
إنما أحفظ المديح بعيني
لا بقلبي لما أرى في الأمير
من خصال إذا نظرت إليها
نظمت لي غرائب المنثور
253 •••
وعاتبه أبو محمد على تركه مدحه فقال:
ترك مدحيك كالهجاء لنفسي
وقليل لك المديح الكثير
254
غير أني تركت مقتضب الشع
ر لأمر مثلي به معذور
255
وسجاياك مادحاتك لا لف
ظي وجود على كلامي يغير
256
فسقى الله من أحب بكفي
ك وأسقاك أيهذا الأمير
257 •••
وقال عند منصرفه من مصر وقد وصل إلى البسيطة، فرأى بعض غلمانه ثورا، فقال: هذه منارة الجامع، ورأى آخر نعامة في البرية، فقال: هذه نخلة؛ فضحك أبو الطيب وقال:
بسيطة مهلا سقيت القطارا
تركت عيون عبيدي حيارى
258
فظنوا النعام عليك النخيل
وظنوا الصوار عليك المنارا
259
فأمسك صحبي بأكوارهم
وقد قصد الضحك فيهم وجارا
260 •••
وقال يمدح علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي:
أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا وما قولي كذا ومعي الصبر
261
وأشجع مني كل يوم سلامتي
وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر
262
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول: أمات الموت أم ذعر الذعر؟
263
وأقدمت إقدام الأتي كأن لي
سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر
264
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر
265
ولا تحسبن المجد زقا وقينة
فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
266
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر
267
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
268
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقص
على هبة فالفضل فيمن له الشكر
269
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
مخافة فقر فالذي فعل الفقر
270
علي لأهل الجور كل طمرة
عليها غلام ملء حيزومه غمر
271
يدير بأطراف الرماح عليهم
كئوس المنايا حيث لا تشتهى الخمر
272
وكم من جبال جبت تشهد أنني ال
جبال وبحر شاهد أنني البحر!
273
وخرق مكان العيس منه مكاننا
من العيس فيه واسط الكور والظهر
274
يخدن بنا في جوزه وكأننا
على كرة أو أرضه معنا سفر
275
ويوم وصلناه بليل كأنما
على أفقه من برقه حلل حمر
276
وليل وصلناه بيوم كأنما
على متنه من دجنه حلل خضر
277
وغيث ظننا تحته أن عامرا
علا لم يمت أو في السحاب له قبر
278
أو ابن ابنه الباقي علي بن أحمد
يجود به لو لم أجز ويدي صفر
279
وإن سحابا جوده مثل جوده
سحاب على كل السحاب له فخر
280
فتى لا يضم القلب همات قلبه
ولو ضمها قلب لما ضمه صدر
281
ولا ينفع الإمكان لولا سخاؤه
وهل نافع لولا الأكف القنا السمر
282
قران تلاقى الصلت فيه وعامر
كما يتلاقى الهندواني والنصر
283
فجاءا به صلت الجبين معظما
ترى الناس قلا حوله وهم كثر
284
مفدى بآباء الرجال سميذعا
هو الكرم المد الذي ما له جزر
285
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه
يسايرني في كل ركب له ذكر
286
وأستكبر الأخبار قبل لقائه
فلما التقينا صغر الخبر الخبر
287
إليك طعنا في مدى كل صفصف
بكل وآة كل ما لقيت نحر
288
إذا ورمت من لسعة مرحت لها
كأن نوالا صر في جلدها النبر
289
فجئناك دون الشمس والبدر في النوى
ودونك في أحوالك الشمس والبدر
290
كأنك برد الماء لا عيش دونه
ولو كنت برد الماء لم يكن العشر
291
دعاني إليك العلم والحلم والحجا
وهذا الكلام النظم والنائل النثر
292
وما قلت من شعر تكاد بيوته
إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
293
كأن المعاني في فصاحة لفظها
نجوم الثريا أو خلائقك الزهر
294
وجنبني قرب السلاطين مقتها
وما يقتضيني من جماجمها النسر
295
وإني رأيت الضر أحسن منظرا
وأهون من مرأى صغير به كبر
296
لساني وعيني والفؤاد وهمتي
أود اللواتي ذا اسمها منك والشطر
297
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
ولكن لشعري فيك من نفسه شعر
298
وما ذا الذي فيه من الحسن رونقا
ولكن بدا في وجهه نحوك البشر
299
وإني - وإن نلت السماء - لعالم
بأنك ما نلت الذي يوجب القدر
300
أزالت بك الأيام عتبي كأنما
بنوها لها ذنب وأنت لها عذر
301
وقال يمدح أبا الفضل محمد بن العميد:
302
باد هواك صبرت أم لم تصبرا
وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
303
كم غر صبرك وابتسامك صاحبا
لما رآك وفي الحشا ما لا يرى
304
أمر الفؤاد لسانه وجفونه
فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا
305
تعس المهاري غير مهري غدا
بمصور لبس الحرير مصورا
306
نافست فيه صورة في ستره
لو كنتها لخفيت حتى يظهرا
307
لا تترب الأيدي المقيمة فوقه
كسرى مقام الحاجبين وقيصرا
308
يقيان في أحد الهوادج مقلة
رحلت فكان لها فؤادي محجرا
309
قد كنت أحذر بينهم من قبله
لو كان ينفع حائنا أن يحذرا
310
ولو استطعت إذ اغتدت روادهم
لمنعت كل سحابة أن تقطرا
311
فإذا السحاب أخو غراب فراقهم
جعل الصياح ببينهم أن يمطرا
312
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنف
إلا شققن عليه ثوبا أخضرا
313
يحملن مثل الروض إلا أنها
أسبى مهاة للقلوب وجؤذرا
314
فبلحظها نكرت قناتي راحتي
ضعفا وأنكر خاتماي الخنصرا
315
أعطى الزمان فما قبلت عطاءه
وأراد لي فأردت أن أتخيرا
316
أرجان أيتها الجياد فإنه
عزمي الذي يذر الوشيج مكسرا
317
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله
ما شق كوكبك العجاج الأكدرا
318
أمي أبا الفضل المبر أليتي
لأيممن أجل بحر جوهرا
319
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي
من أن أكون مقصرا أو مقصرا
320
صغت السوار لأي كف بشرت
بابن العميد وأي عبد كبرا
321
إن لم تغثني خيله وسلاحه
فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا؟
322
بأبي وأمي ناطق في لفظه
ثمن تباع به القلوب وتشترى
323
من لا تريه الحرب خلقا مقبلا
فيها ولا خلق يراه مدبرا
324
خنثى الفحول من الكماة بصبغه
ما يلبسون من الحديد معصفرا
325
يتكسب القصب الضعيف بكفه
شرفا على صم الرماح ومفخرا
326
ويبين فيما مس منه بنانه
تيه المدل فلو مشى لتبخترا
327
يا من إذا ورد البلاد كتابه
قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيرا
328
أنت الوحيد إذا ارتكبت طريقة
ومن الرديف وقد ركبت غضنفرا؟
329
قطف الرجال القول وقت نباته
وقطفت أنت القول لما نورا
330
فهو المشيع بالمسامع إن مضى
وهو المضاعف حسنه إن كررا
331
وإذا سكت فإن أبلغ خاطب
قلم لك اتخذ الأصابع منبرا
332
ورسائل قطع العداة سحاءها
فرأوا قنا وأسنة وسنورا
333
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
334
أرأيت همة ناقتي في ناقة
نقلت يدا سرحا وخفا مجمرا
335
تركت دخان الرمث في أوطانها
طلبا لقوم يوقدون العنبرا
336
وتكرمت ركباتها عن مبرك
تقعان فيه وليس مسكا أذفرا
337
فأتتك دامية الأظل كأنما
حذيت قوائمها العقيق الأحمرا
338
بدرت إليك يد الزمان كأنها
وجدته مشغول اليدين مفكرا
339
من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
340
ومللت نحر عشارها فأضافني
من ينحر البدر النضار لمن قرى
341
وسمعت بطليموس دارس كتبه
متملكا متبديا متحضرا
342
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصرا
343
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما
وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
344
يا ليت باكية شجاني دمعها
نظرت إليك كما نظرت فتعذرا
345
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة
الشمس تشرق والسحاب كنهورا
346
أنا من جميع الناس أطيب منزلا
وأسر راحلة وأربح متجرا
347
زحل على أن الكواكب قومه
لو كان منك لكان أكرم معشرا
348
هوامش
قافية الزاي
وقال بدمشق يمدح أبا بكر علي بن صالح الروذباري الكاتب:
كفرندي فرند سيفي الجراز
لذة العين عدة للبراز
1
تحسب الماء خط في لهب النا
ر أدق الخطوط في الأحراز
2
كلما رمت لونه منع النا
ظر موج كأنه منك هازي
3
ودقيق قذى الهباء أنيق
متوال في مستو هزهاز
4
ورد الماء فالجوانب قدرا
شربت والتي تليها جوازي
5
حملته حمائل الدهر حتى
هي محتاجة إلى خراز
6
وهو لا تلحق الدماء غراري
ه ولا عرض منتضيه المخازي
7
يا مزيل الظلام عني وروضي
يوم شربي ومعقلي في البراز
8
واليماني الذي لو اسطعت كانت
مقلتي غمده من الإعزاز
9
إن برقي إذا برقت فعالي
وصليلي إذا صللت ارتجازي
10
لم أحملك معلما هكذا إلا
لضرب الرقاب والأجواز
11
ولقطعي بك الحديد عليها
فكلانا لجنسه اليوم غازي
12
سله الركض بعد وهن بنجد
فتصدى للغيث أهل الحجاز
13
وتمنيت مثله فكأني
طالب لابن صالح من يوازي
14
ليس كل السراة بالروذباري
ولا كل ما يطير بباز
15
فارسي له من المجد تاج
كان من جوهر على أبرواز
16
نفسه فوق كل أصل شريف
ولو اني له إلى الشمس عازي
17
وكأن الفريد والدر واليا
قوت من لفظه وسام الركاز
18
شغلت قلبه حسان المعالي
عن حسان الوجوه والأعجاز
19
تقضم الجمر والحديد الأعادي
دونه قضم سكر الأهواز
20
بلغته البلاغة الجهد بالعف
و ونال الإسهاب بالإيجاز
21
حامل الحرب والديات عن القو
م وثقل الديون والإعواز
22
كيف لا يشتكي وكيف تشكوا
وبه لا بمن شكاها المرازي
23
أيها الواسع الفناء وما في
ه مبيت لمالك المجتاز
24
بك أضحى شبا الأسنة عندي
كشبا أسوق الجراد النوازي
25
وانثنى عني الرديني حتى
دار دور الحروف في هواز
26
وبآبائك الكرام التأسي
والتسلي عمن مضى والتعازي
27
تركوا الأرض بعدما ذللوها
ومشت تحتهم بلا مهماز
28
وأطاعتهم الجيوش وهيبوا
فكلام الورى لهم كالنحاز
29
وهجان على هجان تآيت
ك عديد الحبوب في الأقواز
30
صفها السير في العراء فكانت
فوق مثل الملاء مثل الطراز
31
وحكى في اللحوم فعلك في الوف
ر فأودى بالعنتريس الكناز
32
كلما جادت الظنون بوعد
عنك جادت يداك بالإنجاز
33
ملك منشد القريض لديه
واضع الثوب في يدي بزاز
34
ولنا القول وهو أدرى بفحوا
ه وأهدى فيه إلى الإعجاز
35
ومن الناس من يجوز عليه
شعراء كأنها الخازباز
36
ويرى أنه البصير بهذا
وهو في العمي ضائع العكاز
37
كل شعر نظير قائله في
ك وعقل المجيز عقل المجاز
38
هوامش
قافية السين
وقال وقد أذن المؤذن، فوضع سيف الدولة الكأس من يده، فقال أبو الطيب ارتجالا:
ألا أذن فما أذكرت ناسي
ولا لينت قلبا وهو قاس
1
ولا شغل الأمير عن المعالي
ولا عن حق خالقه بكاس
2
وقال يمدح عبيد الله بن خلكان الطرابلسي:
أظبية الوحش لولا ظبية الأنس
لما غدوت بجد في الهوى تعس
3
ولا سقيت الثرى والمزن مخلفة
دمعا ينشفه من لوعة نفسي
4
ولا وقفت بجسم مسي ثالثة
ذي أرسم درس في الأرسم الدرس
5
صريع مقلتها سآل دمنتها
قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
6
خريدة لو رأتها الشمس ما طلعت
ولو رآها قضيب البان لم يمس
7
ما ضاق قبلك خلخال على رشأ
ولا سمعت بديباج على كنس
8
إن ترمني نكبات الدهر عن كثب
ترم امرأ غير رعديد ولا نكس
9
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم
بجبهة العير يفدى حافر الفرس
10
أبا الغطارفة الحامين جارهم
وتاركي الليث كلبا غير مفترس
11
من كل أبيض وضاح عمامته
كأنما اشتملت نورا على قبس
12
دان بعيد محب مبغض بهج
أغر حلو ممر لين شرس
13
ند أبي غر واف أخي ثقة
جعد سري نه ندب رض ندس
14
لو كان فيض يديه ماء غادية
عز القطا في الفيافي موضع اليبس
15
أكارم حسد الأرض السماء بهم
وقصرت كل مصر عن طرابلس
16
أي الملوك - وهم قصدي - أحاذره؟!
وأي قرن وهم سيفي وهم ترسي؟!
17
وسأله صديق له يعرف بأبي ضبيس الشراب معه فامتنع وقال ارتجالا:
ألذ من المدام الخندريس
وأحلى من معاطاة الكئوس
معاطاة الصفائح والعوالي
وإقحامي خميسا في خميس
18
فموتي في الوغى أربي لأني
رأيت العيش في أرب النفوس
19
ولو سقيتها بيدي نديم
أسر به لكان أبا ضبيس
20
وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا
مم انثنيت وما شفيت نسيسا
21
وجعلت حظي منك حظي في الكرى
وتركتني للفرقدين جليسا
22
قطعت ذياك الخمار بسكرة
وأدرت من خمر الفراق كئوسا
23
إن كنت ظاعنة فإن مدامعي
تكفي مزادكم وتروي العيسا
24
حاشا لمثلك أن تكون بخيلة
ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعا
ولمثل نيلك أن يكون خسيسا
25
خود جنت بيني وبين عواذلي
حربا وغادرت الفؤاد وطيسا
26
بيضاء يمنعها تكلم دلها
تيها ويمنعها الحياء تميسا
27
لما وجدت دواء دائي عندها
هانت علي صفات جالينوسا
28
أبقى زريق للثغور محمدا
أبقى نفيس للنفيس نفيسا
29
إن حل فارقت الخزائن ماله
أو سار فارقت الجسوم الروسا
30
ملك إذا عاديت نفسك عاده
ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا
31
الخائض الغمرات غير مدافع
والشمري المطعن الدعيسا
32
كشفت جمهرة العباد فلم أجد
إلا مسودا جنبه مرءوسا
33
بشر تصور غاية في آية
تنفي الظنون وتفسد التقييسا
34
وبه يضن على البرية لا بها
وعليه منها لا عليها يوسى
35
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلمات صرن شموسا
36
أو كان صادف رأس عازر سيفه
في يوم معركة لأعيا عيسى
37
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى
أو كان للنيران ضوء جبينه
عبدت فصار العالمون مجوسا
لما سمعت به سمعت بواحد
ورأيته فرأيت منه خميسا
38
ولحظت أنمله فسلن مواهبا
ولمست منصله فسال نفوسا
39
يا من نلوذ من الزمان بظله
أبدا ونطرد باسمه إبليسا
40
صدق المخبر عنك دونك وصفه
من بالعراق يراك في طرسوسا
41
بلد أقمت به وذكرك سائر
يشنا المقيل ويكره التعريسا
42
فإذا طلبت فريسة فارقته
وإذا خدرت تخذته عريسا
43
إني نثرت عليك درا فانتقد
كثر المدلس فاحذر التدليسا
44
حجبتها عن أهل إنطاكية
وجلوتها لك فاجتليت عروسا
45
خير الطيور على القصور وشرها
يأوي الخراب ويسكن الناووسا
46
لو جادت الدنيا فدتك بأهلها
أو جاهدت كتبت عليك حبيسا
47
ودس عليه كافور من يستعلم ما في نفسه، ويقول له: قد طال قيامك عند هذا الرجل، فقال:
يقل له القيام على الرءوس
وبذل المكرمات من النفوس
48
إذا خانته في يوم ضحوك
فكيف تكون في يوم عبوس
49
وقال يهجو كافورا، وقد خرج من عنده:
أنوك من عبد ومن عرسه
من حكم العبد على نفسه
50
وإنما يظهر تحكيمه
تحكم الإفساد في حسه
51
ما من يرى أنك في وعده
كمن يرى أنك في حبسه
52
العبد لا تفضل أخلاقه
عن فرجه المنتن أو ضرسه
53
لا ينجز الميعاد في يومه
ولا يعي ما قال في أمسه
54
وإنما تحتال في جذبه
كأنك الملاح في قلسه
55
فلا ترج الخير عند امرئ
مرت يد النخاس في رأسه
56
وإن عراك الشك في نفسه
بحاله فانظر إلى جنسه
57
فقلما يلؤم في ثوبه
إلا الذي يلؤم في غرسه
58
من وجد المذهب عن قدره
لم يجد المذهب عن قنسه
59
وأحضر أبو الفضل بن العميد مجمرة محشوة بالنرجس والآس حتى خفيت نارها والدخان يخرج من خلال ذلك؛ فقال مرتجلا:
أحب امرئ حبت الأنفس
وأطيب ما شمه معطس
60
ونشر من الند لكنما
مجامره الآس والنرجس
61
ولسنا نرى لهبا هاجه
فهل هاجه عزك الأقعس
62
وإن الفئام التي حوله
لتحسد أرجلها الأرؤس
63
هوامش
قافية الشين
وقال يمدح أبا العشائر علي بن الحسين بن حمدان، ويذكر إيقاعه بأصحاب بافيس ومسيره من دمشق:
مبيتي من دمشق على فراش
حشاه لي بحر حشاي حاش
1
لقى ليل كعين الظبي لونا
وهم كالحميا في المشاش
2
وشوق كالتوقد في فؤاد
كجمر في جوانح كالمحاش
3
سقى الدم كل نصل غير ناب
وروى كل رمح غير راش
4
فإن الفارس المنعوت خفت
لمنصله الفوارس كالرياش
5
فقد أضحى أبا الغمرات يكنى
كأن أبا العشائر غير فاش
6
وقد نسي الحسين بما يسمى
ردى الأبطال أو غيث العطاش
7
لقوه حاسرا في درع ضرب
دقيق النسج ملتهب الحواشي
8
كأن على الجماجم منه نارا
وأيدي القوم أجنحة الفراش
9
كأن جواري المهجات ماء
يعاودها المهند من عطاش
10
فولوا بين ذي روح مفات
وذي رمق وذي عقل مطاش
11
ومنعفر لنصل السيف فيه
تواري الضب خاف من احتراش
12
يدمي بعض أيدي الخيل بعضا
وما بعجاية أثر ارتهاش
13
ورائعها وحيد لم يرعه
تباعد جيشه والمستجاش
14
كأن تلوي النشاب فيه
تلوي الخوص في سعف العشاش
15
ونهب نفوس أهل النهب أولى
بأهل المجد من نهب القماش
16
تشارك في الندام إذا نزلنا
بطان لا تشارك في الجحاش
17
ومن قبل النطاح وقبل يأني
تبين لك النعاج من الكباش
18
فيا بحر البحور ولا أوري
ويا ملك الملوك ولا أحاشي
19
كأنك ناظر في كل قلب
فما يخفى عليك محل غاش
20
أأصبر عنك لم تبخل بشيء
ولم تقبل علي كلام واش؟!
وكيف وأنت في الرؤساء عندي
عتيق الطير ما بين الخشاش؟!
21
فما خاشيك للتكذيب راج
ولا راجيك للتخييب خاشي
22
تطاعن كل خيل كنت فيها
ولو كانوا النبيط على الجحاش
23
أرى الناس الظلام وأنت نور
وإني منهم لإليك عاش
24
بليت بهم بلاء الورد يلقى
أنوفا هن أولى بالخشاش
25
عليك إذا هزلت مع الليالي
وحولك حين تسمن في هراش
26
أتى خبر الأمير فقيل: كروا
فقلت: نعم ولو لحقوا بشاش
27
يقودهم إلى الهيجا لجوج
يسن قتاله والكر ناشي
28
وأسرجت الكميت فناقلت بي
على إعقاقها وعلى غشاشي
29
من المتمردات تذب عنها
برمحي كل طائرة الرشاش
30
ولو عقرت لبلغني إليه
حديث عنه يحمل كل ماش
31
إذا ذكرت مواقفه لحاف
وشيك فما ينكس لانتقاش
32
تزيل مخافة المصبور عنه
وتلهي ذا الفياش عن الفياش
33
وما وجد اشتياق كاشتياقي
ولا عرف انكماش كانكماشي
34
فسرت إليك في طلب المعالي
وسار سواي في طلب المعاش
35
هوامش
قافية الضاد
وأمر سيف الدولة بإنفاذ خلعة إليه، فقال:
فعلت بنا فعل السماء بأرضه
خلع الأمير وحقه لم نقضه
1
فكأن صحة نسجها من لفظه
وكأن حسن نقائها من عرضه
2
وإذا وكلت إلى كريم رأيه
في الجود بان مذيقه من محضه
3
وقال لما مرض سيف الدولة:
إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض
ومن فوقها والبأس والكرم المحض
4
وكيف انتفاعي بالرقاد وإنما
بعلته يعتل في الأعين الغمض
5
شفاك الذي يشفي بجودك خلقه
لأنك بحر كل بحر له بعض •••
وقال في بدر بن عمار، وقد قام منصرفا في الليل:
مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
6
على أنني طوقت منك بنعمة
شهيد بها بعضي لغيري على بعضي
7
سلام الذي فوق السموات عرشه
تخص به يا خير ماش على الأرض
هوامش
قافية حرف العين
وخرج يماك مملوك سيف الدولة إلى الرقة؛ فخرج سيف الدولة يشيعه، وهبت ريح شديدة، فقال:
لا عدم المشيع المشيع
ليت الرياح صنع ما تصنع
1
بكرن ضرا وبكرت تنفع
وسجسج أنت وهن زعزع
2
وواحد أنت وهن أربع
وأنت نبع والملوك خروع
3 •••
وقال يمدحه ويذكر الوقعة التي نكب فيها المسلمون بالقرب من بحيرة الحدث، وذلك في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة:
4
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
5
أهل الحفيظة إلا أن تجربهم
وفي التجارب بعد الغي ما يزع
6
وما الحياة ونفسي بعدما علمت
أن الحياة كما لا تشتهي طبع؟
7
ليس الجمال لوجه صح مارنه
أنف العزيز بقطع العز يجتدع
8
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه
وأترك الغيث في غمدي وأنتجع
9
والمشرفية، لا زالت مشرفة
دواء كل كريم أو هي الوجع
10
وفارس الخيل من خفت فوقرها
في الدرب والدم في أعطافها دفع
11
وأوحدته وما في قلبه قلق
وأغضبته وما في لفظه قذع
12
بالجيش تمتنع السادات كلهم
والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
13
قاد المقانب أقصى شربها نهل
على الشكيم وأدنى سيرها سرع
14
لا يعتقي بلد مسراه عن بلد
كالموت ليس له ري ولا شبع
15
حتى أقام على أرباض خرشنة
تشقى به الروم والصلبان والبيع
16
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا
والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا
17
مخلى له المرج منصوبا بصارخة
له المنابر مشهودا بها الجمع
18
يطمع الطير فيهم طول أكلهم
حتى تكاد على أحيائهم تقع
19
ولو رآه حواريوهم لبنوا
على محبته الشرع الذي شرعوا
20
ذم الدمستق عينيه وقد طلعت
سود الغمام فظنوا أنها قزع
21
فيها الكماة التي مفطومها رجل
على الجياد التي حوليها جذع
22
تذري اللقان غبارا في مناخرها
وفي حناجرها من آلس جرع
23
كأنها تتلقاهم لتسلكهم
فالطعن يفتح في الأجواف ما تسع
24
تهدي نواظرها والحرب مظلمة
من الأسنة نار والقنا شمع
25
دون السهام ودون القر طافحة
على نفوسهم المقورة المزع
26
إذا دعا العلج علجا حال بينهما
أظمى تفارق منه أختها الضلع
27
أجل من ولد الفقاس منكتف
إذا فاتهن وأمضى منه منصرع
28
وما نجا من شفار البيض منفلت
نجا ومنهن في أحشائه فزع
29
يباشر الأمن دهرا وهو مختبل
ويشرب الخمر حولا وهو ممتقع
30
كم من حشاشة بطريق تضمنها
للباترات أمين ما له ورع
31
يقاتل الخطو عنه حين يطلبه
ويطرد النوم عنه حين يضطجع
32
تغدو المنايا فلا تنفك واقفة
حتى يقول لها: عودي فتندفع
33
قل للدمستق: إن المسلمين لكم
خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
34
وجدتموهم نياما في دمائكم
كأن قتلاكم إياهم فجعوا
35
ضعفى تعف الأيادي عن مثالهم
من الأعادي وإن هموا بهم نزعوا
36
لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق
فليس يأكل إلا الميت الضبع
37
هلا على عقب الوادي وقد صعدت
أسد تمر فرادى ليس تجتمع
38
تشقكم بفتاها كل سلهبة
والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
39
وإنما عرض الله الجنود بكم
لكي يكونوا بلا فسل إذا رجعوا
40
فكل غزو إليكم بعد ذا فله
وكل غاز لسيف الدولة التبع
41
يمشي الكرام على آثار غيرهم
وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
42
وهل يشينك وقت كنت فارسه
وكان غيرك فيه العاجز الضرع
43
من كان فوق محل الشمس موضعه
فليس يرفعه شيء ولا يضع
44
لم يسلم الكر في الأعقاب مهجته
إن كان أسلمها الأصحاب والشيع
45
ليت الملوك على الأقدار معطية
فلم يكن لدني عندها طمع
46
رضيت منهم بأن زرت الوغى فرأوا
وأن قرعت حبيك البيض فاستمعوا
47
لقد أباحك غشا في معاملة
من كنت منه بغير الصدق تنتفع
48
الدهر معتذر والسيف منتظر
وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
49
وما الجبال لنصران بحامية
ولو تنصر فيها الأعصم الصدع
50
وما حمدتك في هول ثبت له
حتى بلوتك والأبطال تمتصع
51
فقد يظن شجاعا من به خرق
وقد يظن جبانا من به زمع
52
إن السلاح جميع الناس تحمله
وليس كل ذوات المخلب السبع
53
وقال في صباه يمدح علي بن أحمد الطائي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا
فلم أدر أي الظاعنين أشيع
54
أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس
تسيل من الآماق والسم أدمع
55
حشاي على جمر ذكي من الهوى
وعيناي في روض من الحسن ترتع
56
ولو حملت صم الجبال الذي بنا
غداة افترقنا أوشكت تتصدع
57
بما بين جنبي التي خاض طيفها
إلي الدياجي والخليون هجع
58
أتت زائرا ما خامر الطيب ثوبها
وكالمسك من أردانها يتضوع
59
فما جلست حتى انثنت توسع الخطا
كفاطمة عن درها قبل ترضع
60
فشرد إعظامي لها ما أتى بها
من النوم والتاع الفؤاد المفجع
61
فيا ليلة ما كان أطول بتها
وسم الأفاعي عذب ما أتجرع
62
تذلل لها واخضع على القرب والنوى
فما عاشق من لا يذل ويخضع
63
ولا ثوب مجد غير ثوب ابن أحمد
على أحد إلا بلؤم مرقع
64
وإن الذي حابى جديلة طيئ
به الله يعطي من يشاء ويمنع
65
بذي كرم ما مر يوم وشمسه
على رأس أوفى ذمة منه تطلع
66
فأرحام شعر يتصلن لدنه
وأرحام مال لا تني تتقطع
67
فتى ألف جزء رأيه في زمانه
أقل جزيء بعضه الرأي أجمع
68
غمام علينا ممطر ليس يقشع
ولا البرق فيه خلبا حين يلمع
69
إذا عرضت حاج إليه فنفسه
إلى نفسه فيها شفيع مشفع
70
خبت نار حرب لم تهجها بنانه
وأسمر عريان من القشر أصلع
71
نحيف الشوى يعدو على أم رأسه
ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع
72
يمج ظلاما في نهار لسانه
ويفهم عمن قال ما ليس يسمع
73
ذباب حسام منه أنجى ضريبة
وأعصى لمولاه وذا منه أطوع
74
فصيح متى ينطق تجد كل لفظة
أصول البراعات التي تتفرع
75
بكف جواد لو حكتها سحابة
لما فاتها في الشرق والغرب موضع
76
وليس كبحر الماء يشتق قعره
إلى حيث يفنى الماء حوت وضفدع
77
أبحر يضر المعتفين وطعمه
زعاق كبحر لا يضر وينفع؟!
78
يتيه الدقيق الفكر في بعد غوره
ويغرق في تياره وهو مصقع
79
ألا أيها القيل المقيم بمنبج
وهمته فوق السماكين توضع
80
أليس عجيبا أن وصفك معجز
وأن ظنوني في معاليك تظلع
81
وأنك في ثوب وصدرك فيكما
على أنه من ساحة الأرض أوسع
82
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا
وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
83
ألا كل سمح غيرك اليوم باطل
وكل مديح في سواك مضيع
84
وقال في صباه على لسان من سأله ذلك:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي
فارقتني فأقام بين ضلوعي
85
أوما وجدتم في الصراة ملوحة
مما أرقرق في الفرات دموعي
86
ما زلت أحذر من وداعك جاهدا
حتى اغتدى أسفي على التوديع
87
رحل العزاء برحلتي فكأنما
أتبعته الأنفاس للتشييع
88
وقال يمدح علي بن إبراهيم التنوخي:
ملث القطر أعطشها ربوعا
وإلا فاسقها السم النقيعا
89
أسائلها عن المتديريها
فلا تدري ولا تذري دموعا
90
لحاها الله إلا ماضييها:
زمان اللهو والخود الشموعا
91
منعمة ممنعة رداح
يكلف لفظها الطير الوقوعا
92
ترفع ثوبها الأرداف عنها
فيبقى من وشاحيها شسوعا
93
إذا ماست رأيت لها ارتجاجا
له لولا سواعدها نزوعا
94
تألم درزه والدرز لين
كما تتألم العضب الصنيعا
95
ذراعاها عدوا دملجيها
يظن ضجيعها الزند الضجيعا
96
كأن نقابها غيم رقيق
يضيء بمنعه البدر الطلوعا
97
أقول لها: اكشفي ضري وقولي
بأكثر من تدللها خضوعا
98
أخفت الله في إحياء نفس
متى عصي الإله بأن أطيعا
99
غدا بك كل خلو مستهاما
وأصبح كل مستور خليعا
100
أحبك أو يقولوا: جر نمل
ثبيرا وابن إبراهيم ريعا
101
بعيد الصيت منبث السرايا
يشيب ذكره الطفل الرضيعا
102
يغض الطرف من مكر ودهي
كأن به وليس به خشوعا
103
إذا استعطيته ما في يديه
فقدك سألت عن سر مذيعا
104
قبولك منه من عليه
وإلا يبتدئ يره فظيعا
105
لهون المال أفرشه أديما
وللتفريق يكره أن يضيعا
106
إذا ضرب الأمير رقاب قوم
فما لكرامة مد النطوعا
107
فليس بواهب إلا كثيرا
وليس بقاتل إلا قريعا
108
وليس مؤدبا إلا بنصل
كفى الصمصامة التعب القطيعا
109
علي ليس يمنع من مجيء
مبارزه ويمنعه الرجوعا
110
علي قاتل البطل المفدى
ومبدله من الزرد النجيعا
111
إذا اعوج القنا في حامليه
وجاز إلى ضلوعهم الضلوعا
112
ونالت ثأرها الأكباد منه
فأولته اندقاقا أو صدوعا
113
فحد في ملتقى الخيلين عنه
وإن كنت الخبعثنة الشجيعا
114
إن استجرأت ترمقه بعيدا
فأنت اسطعت شيئا ما استطيعا
115
وإن ماريتني فاركب حصانا
ومثله تخر له صريعا
116
غمام ربما مطر انتقاما
فأقحط ودقه البلد المريعا
117
رآني بعدما قطع المطايا
تيممه وقطعت القطوعا
118
فصير سيله بلدي غديرا
وصير خيره سنتي ربيعا
119
وجاودني بأن يعطي وأحوي
فأغرق نيله أخذي سريعا
120
أمنسي السكون وحضرموتا
ووالدتي وكندة والسبيعا
121
قد استقصيت في سلب الأعادي
فرد لهم من السلب الهجوعا
122
إذا ما لم تسر جيشا إليهم
أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
123
رضوا بك كالرضا بالشيب قسرا
وقد وخط النواصي والفروعا
124
فلا عزل وأنت بلا سلاح
لحاظك ما تكون به منيعا
125
لو استبدلت ذهنك من حسام
قددت به المغافر والدروعا
126
لو استفرغت جهدك في قتال
أتيت به على الدنيا جميعا
127
سموت بهمة تسمو فتسمو
فما تلفى بمرتبة قنوعا
128
وهبك سمحت حتى لا جواد
فكيف علوت حتى لا رفيعا
129
وقال يمدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الأصبع الكاتب:
أركائب الأحباب إن الأدمعا
تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
130
فاعرفن من حملت عليكن النوى
وامشين هونا في الأزمة خضعا
131
قد كان يمنعني الحياء من البكا
فاليوم يمنعه البكا أن يمنعا
132
حتى كأن لكل عظم رنة
في جلده ولكل عرق مدمعا
133
وكفى بمن فضح الجداية فاضحا
لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا
134
سفرت وبرقعها الفراق بصفرة
سترت محاجرها ولم تك برقعا
135
فكأنها والدمع يقطر فوقها
ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا
136
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها
في ليلة فأرت ليالي أربعا
137
واستقبلت قمر السماء بوجهها
فأرتني القمرين في وقت معا
138
ردي الوصال سقى طلولك عارض
لو كان وصلك مثله ما أقشعا
139
زجل يريك الجو نارا والملا
كالبحر والتلعات روضا ممرعا
140
كبنان عبد الواحد الغدق الذي
أروى وآمن من يشاء وأفزعا
141
ألف المروءة مذ نشا فكأنه
سقي اللبان بها صبيا مرضعا
142
نظمت مواهبه عليه تمائما
فاعتادها فإذا سقطن تفزعا
143
ترك الصنائع كالقواطع بارقا
ت والمعالي كالعوالي شرعا
144
متبسما لعفاته عن واضح
تغشى لوامعه البروق اللمعا
145
متكشفا لعداته عن سطوة
لو حك منكبها السماء لزعزعا
146
الحازم اليقظ الأغر العالم ال
فطن الألد الأريحي الأروعا
الكاتب اللبق الخطيب الواهب الن
ندس اللبيب الهبرزي المصقعا
147
نفس لها خلق الزمان لأنه
مفني النفوس مفرق ما جمعا
148
ويد لها كرم الغمام لأنه
يسقي العمارة والمكان البلقعا
149
أبدا يصدع شعب وفر وافر
ويلم شعب مكارم متصدعا
150
يهتز للجدوى اهتزاز مهند
يوم الرجاء هززته يوم الوعى
151
يا مغنيا أمل الفقير لقاؤه
ودعاؤه بعد الصلاة إذا دعا
152
أقصر ولست بمقصر جزت المدى
وبلغت حيث النجم تحتك فاربعا
153
وحللت من شرف الفعال مواضعا
لم يحلل الثقلان منها موضعا
154
وحويت فضلهما وما طمع امرؤ
فيه ولا طمع امرؤ أن يطمعا
155
نفذ القضاء بما أردت كأنه
لك كلما أزمعت شيئا أزمعا
156
وأطاعك الدهر العصي كأنه
عبد إذا ناديت لبى مسرعا
157
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت
عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
158
وجرين مجرى الشمس في أفلاكها
فقطعن مغربها وجزن المطلعا
159
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها
لعممنها وخشين أن لا تقنعا
160
فمتى يكذب مدع لك فوق ذا
والله يشهد أن حقا ما ادعى
161
ومتى يؤدي شرح حالك ناطق
حفظ القليل النزر مما ضيعا
162
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا
رجلا فسم الناس طرا إصبعا
163
إن كان لا يسعى لجود ماجد
إلا كذا فالغيث أبخل من سعى
164
قد خلف العباس غرتك ابنه
مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا
165
وقال يرثي أبا شجاع فاتكا، وقد توفي بمصر سنة خمسين وثلاثمائة، وكانت هذه المرثية بعد خروجه من مصر:
الحزن يقلق والتجمل يردع
والدمع بينهما عصي طيع
166
يتنازعان دموع عين مسهد
هذا يجيء بها وهذا يرجع
167
النوم بعد أبي شجاع نافر
والليل معي والكواكب ظلع
168
إني لأجبن من فراق أحبتي
وتحس نفسي بالحمام فأشجع
169
ويزيدني غضب الأعادي قسوة
ويلم بي عتب الصديق فأجزع
170
تصفو الحياة لجاهل أو غافل
عما مضى فيها وما يتوقع
171
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسومها طلب المحال فتطمع
172
أين الذي الهرمان من بنيانه؟
ما قومه ما يومه ما المصرع؟
173
تتخلف الآثار عن أصحابها
حينا ويدركها الفناء فتتبع
174
لم يرض قلب أبي شجاع مبلغ
قبل الممات ولم يسعه موضع
175
كنا نظن دياره مملوءة
ذهبا فمات وكل دار بلقع
176
وإذا المكارم والصوارم والقنا
وبنات أعوج كل شيء يجمع
177
المجد أخسر والمكارم صفقة
من أن يعيش لها الكريم الأروع
178
والناس أنزل في زمانك منزلا
من أن تعايشهم وقدرك أرفع
179
برد حشاي إن استطعت بلفظة
فلقد تضر إذا تشاء وتنفع
180
ما كان منك إلى خليل قبلها
ما يستراب به ولا ما يوجع
181
ولقد أراك وما تلم ملمة
إلا نفاها عنك قلب أصمع
182
ويد كأن قتالها ونوالها
فرض يحق عليك وهو تبرع
183
يا من يبدل كل يوم حلة
أنى رضيت بحلة لا تنزع
184
ما زلت تخلعها على من شاءها
حتى لبست اليوم ما لا تخلع
ما زلت تدفع كل أمر فادح
حتى أتى الأمر الذي لا يدفع
185
فظللت تنظر لا رماحك شرع
فيما عراك ولا سيوفك قطع
186
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر
يبكي ومن شر السلاح الأدمع
187
وإذا حصلت من السلاح على البكا
فحشاك رعت به وخدك تقرع
188
وصلت إليك يد سواء عندها ال
بازي الأشيهب والغراب الأبقع
189
من للمحافل والجحافل والسرى
فقدت بفقدك نيرا لا يطلع
190
ومن اتخذت على الضيوف خليفة؟
ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيع
191
قبحا لوجهك يا زمان فإنه
وجه له من كل قبح برقع
192
أيموت مثل أبي شجاع فاتك
ويعيش حاسده الخصي الأوكع؟!
193
أيد مقطعة حوالي رأسه
وقفا يصيح بها ألا من يصفع؟
194
أبقيت أكذب كاذب أبقيته
وأخذت أصدق من يقول ويسمع
195
وتركت أنتن ريحة مذمومة
وسلبت أطيب ريحة تتضوع
196
فاليوم قر لكل وحش نافر
دمه وكان كأنه يتطلع
197
وتصالحت ثمر السياط وخيله
وأوت إليها سوقها والأذرع
198
وعفا الطراد فلا سنان راعف
فوق القناة ولا حسام يلمع
199
ولى وكل مخالم ومنادم
بعد اللزوم مشيع ومودع
من كان فيه لكل قوم ملجأ
ولسيفه في كل قوم مرتع
200
إن حل في فرس ففيها ربها
كسرى تذل له الرقاب وتخضع
أو حل في روم ففيها قيصر
أو حل في عرب ففيها تبع
201
قد كان أسرع فارس في طعنة
فرسا ولكن المنية أسرع
202
لا قلبت أيدي الفوارس بعده
رمحا ولا حملت جوادا أربع
203
وقال في صباه:
بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
204
فافترقنا حولا فلما التقينا
كان تسليمه علي وداعا
205
هوامش
قافية الفاء
وقال وقد سأله سيف الدولة عن وصف فرس يهديه إليه:
موقع الخيل من نداك طفيف
ولو ان الجياد فيها ألوف
1
ومن اللفظ لفظة تجمع الوص
ف وذاك المطهم المعروف
2
ما لنا في الندى عليك اختيار
كل ما يمنح الشريف شريف
3
وأهدى إليه رجل يعرف بأبي دلف بن كنداج هدية وهو معتقل بحمص، وكان قد بلغه أنه ثلبه عند الوالي الذي اعتقله. فكتب إليه من السجن:
4
أهون بطول الثواء والتلف
والسجن والقيد يا أبا دلف!
5
غير اختيار قبلت برك بي
والجوع يرضي الأسود بالجيف
6
كن أيها السجن كيف شئت فقد
وطنت للموت نفس معترف
7
لو كان سكناي فيك منقصة
لم يكن الدر ساكن الصدف
8
وقال يمدح أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي:
لجنية أم غادة رفع السجف؟
لوحشية لا ما لوحشية شنف
9
نفور عرتها نفرة فتجاذبت
سوالفها والحلي والخصر والردف
10
وخيل منها مرطها فكأنما
تثنى لنا خوط ولاحظنا خشف
11
زيادة شيب وهي نقص زيادتي
وقوة عشق وهي من قوتي ضعف
12
هراقت دمي من بي من الوجد ما بها
من الوجد بي والشوق لي ولها حلف
13
ومن كلما جردتها من ثيابها
كساها ثيابا غيرها الشعر الوحف
14
وقابلني رمانتا غصن بانة
يميل به بدر ويمسكه حقف
15
أكيدا لنا يا بين واصلت وصلنا
فلا دارنا تدنو ولا عيشنا يصفو؟
16
أردد: ويلي! لو قضى الويل حاجة
وأكثر: لهفي! لو شفى غلة لهف
17
ضنى في الهوى كالسم في الشهد كامنا
لذذت به جهلا وفي اللذة الحتف
18
فأفنى وما أفنته نفسي كأنما
أبو الفرج القاضي له دونها كهف
19
قليل الكرى لو كانت البيض والقنا
كآرائه ما أغنت البيض والزعف
20
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه
ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
21
وإن فقد الإعطاء حنت يمينه
إليه حنين الإلف فارقه الإلف
22
أديب رست للعلم في أرض صدره
جبال جبال الأرض في جنبها قف
23
جواد سمت في الخير والشر كفه
سموا أود الدهر أن اسمه كف
24
وأضحى وبين الناس في كل سيد
من الناس إلا في سيادته خلف
25
يفدونه حتى كأن دماءهم
لجاري هواه في عروقهم تقفو
26
وقوفين في وقفين؛ شكر ونائل
فنائله وقف وشكرهم وقف
27
ولما فقدنا مثله دام كشفنا
عليه فدام الفقد وانكشف الكشف
28
وما حارت الأوهام في عظم شأنه
بأكثر مما حار في حسنه الطرف
29
ولا نال من حساده الغيظ والأذى
بأعظم مما نال من وفره العرف
30
تفكره علم ومنطقه حكم
وباطنه دين وظاهره ظرف
31
أمات رياح اللؤم وهي عواصف
ومغنى العلا يودي ورسم الندى يعفو
32
فلم نر قبل ابن الحسين أصابعا
إذا ما هطلن استحيت الديم الوطف
33
ولا ساعيا في قلة المجد مدركا
بأفعاله ما ليس يدركه الوصف
34
ولم نر شيئا يحمل العبء حمله
ويستصغر الدنيا ويحمله طرف
35
ولا جلس البحر المحيط لقاصد
ومن تحته فرش ومن فوقه سقف
36
فوا عجبا مني أحاول نعته
وقد فنيت فيه القراطيس والصحف!
37
ومن كثرة الأخبار عن مكرماته
يمر له صنف ويأتي له صنف
38
وتفتر منه عن خصال كأنها
ثنايا حبيب لا يمل لها رشف
39
قصدتك والراجون قصدي إليهم
كثير ولكن ليس كالذنب الأنف
40
ولا الفضة البيضاء والتبر واحد
نفوعان للمكدي وبينهما صرف
41
ولست بدون يرتجى الغيث دونه
ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
42
ولا واحدا في ذا الورى من جماعة
ولا البعض من كل ولكنك الضعف
43
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه
ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
44
أقاضينا هذا الذي أنت أهله
غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
45
وذنبي تقصيري وما جئت مادحا
بذنبي ولكن جئت أسأل أن تعفو
46
وأخرج له أبو العشائر جوشنا حسنا
47
فقال كيف تراه فقال مرتجلا:
به وبمثله شق الصفوف
وزلت عن مباشره الحتوف
48
فدعه لقى فإنك من كرام
جواشنها الأسنة والسيوف
49
وكان أبو العشائر قد غضب على أبي الطيب فأرسل غلمانا له ليوقعوا به فلحقوه بظاهر حلب ليلا فرماه أحدهم بسهم، وقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر، فقال أبو الطيب:
50
ومنتسب عندي إلى من أحبه
وللنبل حولي من يديه حفيف
51
فهيج من شوقي وما من مذلة
حننت ولكن الكريم ألوف
52
وكل وداد لا يدوم على الأذى
دوام ودادي للحسين ضعيف
53
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
فأفعاله اللائي سررن ألوف
54
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه
ولكن بعض المالكين عنيف
55
وقال في عبده إذ أخذ فرسه وأراد قتله:
أعددت للغادرين أسيافا
أجدع منهم بهن آنافا
56
لا يرحم الله أرؤسا لهم
أطرن عن هامهن أقحافا
57
ما ينقم السيف غير قلتهم
وأن تكون المئون آلافا
58
يا شر لحم فجعته بدم
وزار للخامعات أجوافا
59
قد كنت أغنيت عن سؤالك بي
من زجر الطير لي ومن عافا
60
وعدت ذا النصل من تعرضه
وخفت لما اعترضت إخلافا
61
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا
تتبعك المقلتان توكافا
62
إذا امرؤ راعني بغدرته
أوردته الغاية التي خافا
63
هوامش
قافية القاف
وقال يمدح سيف الدولة وقد أمر له بفرس دهماء وجارية:
أيدري الربع أي دم أراقا؟
وأي قلوب هذا الركب شاقا؟
1
لنا ولأهله أبدا قلوب
تلاقى في جسوم ما تلاقى
2
وما عفت الرياح له محلا
عفاه من حدا بهم وساقا
3
فليت هوى الأحبة كان عدلا
فحمل كل قلب ما أطاقا
4
نظرت إليهم والعين شكرى
فصارت كلها للدمع ماقا
5
وقد أخذ التمام البدر فيهم
وأعطاني من السقم المحاقا
6
وبين الفرع والقدمين نور
يقود بلا أزمتها النياقا
7
وطرف إن سقى العشاق كأسا
بها نقص سقانيها دهاقا
8
وخصر تثبت الأبصار فيه
كأن عليه من حدق نطاقا
9
سلي عن سيرتي فرسي وسيفي
ورمحي والهملعة الدفاقا
10
تركنا من وراء العيس نجدا
ونكبنا السماوة والعراقا
11
فما زالت ترى والليل داج
لسيف الدولة الملك ائتلاقا
12
أدلتها رياح المسك منه
إذا فتحت مناخرها انتشاقا
13
أباحك أيها الوحش الأعادي
فلم تتعرضين له الرفاقا؟
14
ولو تبعت ما طرحت قناه
لكفك عن رذايانا وعاقا
15
ولو سرنا إليه في طريق
من النيران لم نخف احتراقا
16
إمام للأئمة من قريش
إلى من يتقون له شقاقا
17
يكون لهم إذا غضبوا حساما
وللهيجاء حين تقوم ساقا
18
فلا تستنكرن له ابتساما
إذا فهق المكر دما وضاقا
19
فقد ضمنت له المهج العوالي
وحمل همه الخيل العتاقا
20
إذا أنعلن في آثار قوم
وإن بعدوا جعلنهم طراقا
21
وإن نقع الصريخ إلى مكان
نصبن له مؤللة دقاقا
22
فكان الطعن بينهما جوابا
وكان اللبث بينهما فواقا
23
ملاقية نواصيها المنايا
معودة فوارسها العناقا
24
تبيت رماحه فوق الهوادي
وقد ضرب العجاج لها رواقا
25
تميل كأن في الأبطال خمرا
عللن بها اصطباحا واغتباقا
26
تعجبت المدام وقد حساها
فلم يسكر وجاد فما أفاقا
27
أقام الشعر ينتظر العطايا
فلما فاقت الأمطار فاقا
28
وزنا قيمة الدهماء منه
ووفينا القيان به الصداقا
29
وحاشا لارتياحك أن يبارى
وللكرم الذي لك أن يباقى
30
ولكنا نداعب منك قرما
تراجعت القروم له حقاقا
31
فتى لا تسلب القتلى يداه
ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا
32
ولم تأت الجميل إلي سهوا
ولم أظفر به منك استراقا
33
فأبلغ حاسدي عليك أني
كبا برق يحاول بي لحاقا
34
وهل تغني الرسائل في عدو
إذا ما لم يكن ظبا رقاقا؟
35
إذا ما الناس جربهم لبيب
فإني قد أكلتهم وذاقا
36
فلم أر ودهم إلا خداعا
ولم أر دينهم إلا نفاقا
يقصر عن يمينك كل بحر
وعما لم تلقه ما ألاقا
37
ولولا قدرة الخلاق قلنا:
أعمدا كان خلقك أم وفاقا؟
38
فلا حطت لك الهيجاء سرجا
ولا ذاقت لك الدنيا فراقا
39
وقال يمدحه ويذكر الفداء الذي طلبه رسول ملك الروم وكتابه إليه:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي
وللحب ما لم يبق مني وما بقي
40
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
41
وبين الرضا والسخط والقرب والنوى
مجال لدمع المقلة المترقرق
42
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
43
وغضبى من الإدلال سكرى من الصبا
شفعت إليها من شبابي بريق
44
وأشنب معسول الثنيات واضح
سترت فمي عنه فقبل مفرقي
45
وأجياد غزلان كجيدك زرنني
فلم أتبين عاطلا من مطوق
46
وما كل من يهوى يعف إذا خلا
عفافي ويرضي الحب والخيل تلتقي
47
سقى الله أيام الصبا ما يسرها
ويفعل فعل البابلي المعتق
48
إذا ما لبست الدهر مستمتعا به
تخرقت والملبوس لم يتخرق
49
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم
بعثن بكل القتل من كل مشفق
50
أدرن عيونا حائرات كأنها
مركبة أحداقها فوق زئبق
51
عشية يعدونا عن النظر البكا
وعن لذة التوديع خوف التفرق
52
نودعهم والبين فينا كأنه
قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
53
قواض مواض نسج داود عندها
إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق
54
هواد لأملاك الجيوش كأنها
تخير أرواح الكماة وتنتقي
55
تقد عليهم كل درع وجوشن
وتفري إليهم كل سور وخندق
56
يغير بها بين اللقان وواسط
ويركزها بين الفرات وجلق
57
ويرجعها حمرا كأن صحيحها
يبكي دما من رحمة المتدقق
58
فلا تبلغاه ما أقول فإنه
شجاع متى يذكر له الطعن يشتق
59
ضروب بأطراف السيوف بنانه
لعوب بأطراف الكلام المشقق
60
كسائله من يسأل الغيث قطرة
كعاذله من قال للفلك ارفق
61
لقد جدت حتى جدت في كل ملة
وحتى أتاك الحمد من كل منطق
62
رأى ملك الروم ارتياحك للندى
فقام مقام المجتدي المتملق
63
وخلى الرماح السمهرية صاغرا
لأدرب منه بالطعان وأحذق
64
وكاتب من أرض بعيد مرامها
قريب على خيل حواليك سبق
65
وقد سار في مسراك منها رسوله
فما سار إلا فوق هام مفلق
66
فلما دنا أخفى عليه مكانه
شعاع الحديد البارق المتألق
67
وأقبل يمشي في البساط فما درى
إلى البحر يمشي أم إلى البدر يرتقي؟!
68
ولم يثنك الأعداء عن مهجاتهم
بمثل خضوع في كلام منمق
69
وكنت إذا كاتبته قبل هذه
كتبت إليه في قذال الدمستق
70
فإن تعطه منك الأمان فسائل
وإن تعطه حد الحسام فأخلق!
71
وهل ترك البيض الصوارم منهم
أسيرا لفاد أو رقيقا لمعتق
72
لقد وردوا ورد القطا شفراتها
ومروا عليها زردقا بعد زردق
73
بلغت بسيف الدولة النور رتبة
أثرت بها ما بين غرب ومشرق
74
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
أراه غباري ثم قال له: الحق
75
وما كمد الحساد شيئا قصدته
ولكنه من يزحم البحر يغرق
76
ويمتحن الناس الأمير برأيه
ويغضي على علم بكل ممخرق
77
وإطراق طرف العين ليس بنافع
إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
78
فيا أيها المطلوب جاوره تمتنع
ويا أيها المحروم يممه ترزق
79
ويا أجبن الفرسان صاحبه تجترئ
ويا أشجع الشجعان فارقه تفرق
80
إذا سعت الأعداء في كيد مجده
سعى جده في كيدهم سعي محنق
81
وما ينصر الفضل المبين على العدا
إذا لم يكن فضل السعيد الموفق؟
82
وقال يمدحه ويذكر إيقاعه ببني عقيل وقشير وبني العجلان وكلاب لما عاثوا في نواحي أعماله، وقصده إياهم، وإهلاك من أهلكه منهم، وعفوه عمن عفا بعد تضافرهم وتضامهم عن لقائه سنة 344:
تذكرت ما بين العذيب وبارق
مجر عوالينا ومجرى السوابق
83
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم
بفضلة ما قد كسروا في المفارق
84
وليلا توسدنا الثوية تحته
كأن ثراها عنبر في المرافق
85
بلاد إذا زار الحسان بغيرها
حصا تربها ثقبنه للمخانق
86
سقتني بها القطربلي مليحة
على كاذب من وعدها ضوء صادق
87
سهاد لأجفان وشمس لناظر
وسقم لأبدان ومسك لناشق
88
وأغيد يهوى نفسه كل عاقل
عفيف ويهوى جسمه كل فاسق
89
أديب إذا ما جس أوتار مزهر
بلا كل سمع عن سواها بعائق
90
يحدث عما بين عاد وبينه
وصدغاه في خدي غلام مراهق
91
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
92
وما بلد الإنسان غير الموافق
ولا أهله الأدنون غير الأصادق
93
وجائزة دعوى المحبة والهوى
وإن كان لا يخفى كلام المنافق
94
برأي من انقادت عقيل إلى الردى
وإشمات مخلوق وإسخاط خالق؟
95
أرادوا عليا بالذي يعجز الورى
ويوسع قتل الجحفل المتضايق
96
فما بسطوا كفا إلى غير قاطع
ولا حملوا رأسا إلى غير فالق
97
لقد أقدموا لو صادفوا غير آخذ
وقد هربوا لو صادفوا غير لاحق
98
ولما كسا كعبا ثيابا طغوا بها
رمى كل ثوب من سنان بخارق
99
ولما سقى الغيث الذي كفروا به
سقى غيره في غير تلك البوارق
100
وما يوجع الحرمان من كف حارم
كما يوجع الحرمان من كف رازق
101
أتاهم بها حشو العجاجة والقنا
سنابكها تحشو بطون الحمالق
102
عوابس حلى يابس الماء حزمها
فهن على أوساطها كالمناطق
103
فليت أبا الهيجا يرى خلف تدمر
طوال العوالي في طوال السمالق
104
وسوق علي من معد وغيرها
قبائل لا تعطي القفي لسائق
105
قشير وبلعجلان فيها خفية
كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
106
تخليهم النسوان غير فوارك
وهم خلوا النسوان غير طوالق
107
يفرق ما بين الكماة وبينها
بضرب يسلي حره كل عاشق
108
أتى الظعن حتى ما تطير رشاشة
من الخيل إلا في نحور العواتق
109
بكل فلاة تنكر الإنس أرضها
ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق
110
وملمومة سيفية ربعية
يصيح الحصى فيها صياح اللقالق
111
بعيدة أطراف القنا من أصوله
قريبة بين البيض غبر اليلامق
112
نهاها وأغناها عن النهب جوده
فما تبتغي إلا حماة الحقائق
113
توهمها الأعراب سورة مترف
تذكره البيداء ظل السرادق
114
فذكرتهم بالماء ساعة غبرت
سماوة كلب في أنوف الحزائق
115
وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا
وأن نبتت في الماء نبت الغلافق
116
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه
وأبدى بيوتا من أداحي النقانق
117
وأصبر عن أمواهه من ضبابه
وآلف منها مقلة للودائق
118
وكان هديرا من فحول تركتها
مهلبة الأذناب خرس الشقاشق
119
فما حرموا بالركض خيلك راحة
ولكن كفاها البر قطع الشواهق
120
ولا شغلوا صم القنا بقلوبهم
عن الركز لكن عن قلوب الدماسق
121
ألم يحذروا مسخ الذي يمسخ العدا
ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق
122
وقد عاينوه في سواهم وربما
أرى مارقا في الحرب مصرع مارق
123
تعود أن لا تقضم الحب خيله
إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
124
ولا ترد الغدران إلا وماؤها
من الدم كالريحان تحت الشقائق
125
لوفد نمير كان أرشد منهم
وقد طردوا الأظعان طرد الوسائق
126
أعدوا رماحا من خضوع فطاعنوا
بها الجيش حتى رد غرب الفيالق
127
فلم أر أرمى منه غير مخاتل
وأسرى إلى الأعداء غير مسارق
128
تصيب المجانيق العظام بكفه
دقائق قد أعيت قسي البنادق
129
وقال في صباه يمدح أبا المنتصر شجاع بن محمد بن أرس بن معن بن الرضي الأزدي:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق
130
جهد الصبابة أن تكون كما أرى
عين مسهدة وقلب يخفق
131
ما لاح برق أو ترنم طائر
إلا انثنيت ولي فؤاد شيق
132
جربت من نار الهوى ما تنطفي
نار الغضى وتكل عما تحرق
133
وعذلت أهل العشق حتى ذقته
فعجبت كيف يموت من لا يعشق؟!
134
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني
عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا
135
أبني أبينا نحن أهل منازل
أبدا غراب البين فيها ينعق
136
نبكي على الدنيا وما من معشر
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
137
أين الأكاسرة الجبابرة الألى
كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
138
من كل من ضاق الفضاء بجيشه
حتى ثوى فحواه لحد ضيق
139
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا
أن الكلام لهم حلال مطلق
140
والموت آت والنفوس نفائس
والمستغر بما لديه الأحمق
141
والمرء يأمل والحياة شهية
والشيب أوقر والشبيبة أنزق
142
ولقد بكيت على الشباب ولمتي
مسودة ولماء وجهي رونق
143
حذرا عليه قبل يوم فراقه
حتى لكدت بماء جفني أشرق
144
أما بنو أوس بن معن بن الرضا
فأعز من تحدى إليه الأينق
145
كبرت حول ديارهم لما بدت
منها الشموس وليس فيها المشرق
146
وعجبت من أرض سحاب أكفهم
من فوقها وصخورها لا تورق
147
وتفوح من طيب الثناء روائح
لهم بكل مكانة تستنشق
148
مسكية النفحات إلا أنها
وحشية بسواهم لا تعبق
149
أمريد مثل محمد في عصرنا
لا تبلنا بطلاب ما لا يلحق
150
لم يخلق الرحمن مثل محمد
أبدا وظني أنه لا يخلق
151
يا ذا الذي يهب الجزيل وعنده
أني عليه بأخذه أتصدق
152
أمطر علي سحاب جودك ثرة
وانظر إلي برحمة لا أغرق
153
كذب ابن فاعلة يقول بجهله
مات الكرام وأنت حي ترزق
154
وقال في صباه ارتجالا:
أي محل أرتقي؟
أي عظيم أتقي؟
155
وكل ما قد خلق الله
وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
156
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي:
هو البين حتى ما تأنى الحزائق
ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
157
وقفنا ومما زاد بثا وقوفنا
فريقي هوى منا مشوق وشائق
158
وقد صارت الأجفان قرحى من البكا
وصار بهارا في الخدود الشقائق
159
على ذا مضى الناس؛ اجتماع وفرقة
وميت ومولود وقال ووامق
160
تغير حالي والليالي بحالها
وشبت وما شاب الزمان الغرانق
161
سل البيد: أين الجن منا بجوزها
وعن ذي المهاري: أين منها النقانق؟
162
وليل دجوجي كأنا جلت لنا
محياك فيه فاهتدينا السمالق
163
فما زال لولا نور وجهك جنحه
ولا جابها الركبان لولا الأيانق
164
وهز أطار النوم حتى كأنني
من السكر في الغرزين ثوب شبارق
165
شدوا بابن إسحق الحسين فصافحت
ذفاريها كيرانها والنمارق
166
بمن تقشعر الأرض خوفا إذا مشى
عليها وترتج الجبال الشواهق
167
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منها وتخشى الصواعق
168
ولكنها تمضي وهذا مخيم
وتكذب أحيانا وذا الدهر صادق
169
تخلى من الدنيا لينسى فما خلت
مغاربها من ذكره والمشارق
170
غذا الهندوانيات بالهام والطلا
فهن مداريها وهن المخانق
171
تشقق منهن الجيوب إذا غزا
وتخضب منهن اللحى والمفارق
172
يجنبها من حتفه عنه غافل
ويصلى بها من نفسه منه طالق
173
يحاجى به: ما ناطق وهو ساكت
يرى ساكتا والسيف عن فيه ناطق؟
174
نكرتك حتى طال منك تعجبي
ولا عجب من حسن ما الله خالق
175
كأنك في الإعطاء للمال مبغض
وفي كل حرب للمنية عاشق
176
ألا قلما تبقى على ما بدا لها
وحل بها منك القنا والسوابق
177
سيحيي بك السمار ما لاح كوكب
ويحدو بك السفار ما ذر شارق
178
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
179
فما ترزق الأقدار من أنت حارم
ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
ولا تفتق الأيام ما أنت راتق
ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
180
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى
وغيري بغير اللاذقية لاحق
181
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى
ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
182
وعرض عليه بدر بن عمار الصحبة للشرب في غد فقال ارتجالا:
وجدت المدامة غلابة
تهيج للقلب أشواقه
183
تسيء من المرء تأديبه
ولكن تحسن أخلاقه
184
وأنفس ما للفتى لبه
وذو اللب يكره إنفاقه
185
وقد مت أمس بها موتة
ولا يشتهي الموت من ذاقه
186
وقال في وصف لعبة عند بدر بن عمار:
وذات غدائر لا عيب فيها
سوى أن ليس تصلح للعناق
187
أمرت بأن تشال ففارقتنا
وما ألمت لحادثة الفراق
188
إذا هجرت فعن غير اختيار
وإن زارت فعن غير اشتياق
وعرض عليه محمد بن طغج الشرب فامتنع، فأقسم عليه بحقه فشرب، وقال:
سقاني الخمر قولك لي : بحقي
وود لم تشبه لي بمذق
189
يمينا لو حلفت وأنت ناء
على قتلي بها لضربت عنقي
190
وكان لأبي الطيب حجرة
191
تسمى الجهامة، ولها مهر يسمى الطخرور، فأقام الثلج على الأرض بأنطاكية وتعذر المرعى على المهر، فقال:
ما للمروج الخضر والحدائق
يشكو خلاها كثرة العوائق
192
أقام فيها الثلج كالمرافق
يعقد فوق السن ريق الباصق
193
ثم مضى لا عاد من مفارق
بقائد من ذوبه وسائق
194
كأنما الطخرور باغي آبق
يأكل من نبت قصير لاصق
195
كقشرك الحبر عن المهارق
أروده منه بكالشوذانق
196
بمطلق اليمنى طويل الفائق
عبل الشوى مقارب المرافق
197
رحب اللبان نائه الطرائق
ذي منخر رحب وإطل لاحق
198
محجل نهد كميت زاهق
شادخة غرته كالشارق
199
كأنها من لونه في بارق
200
باق على البوغاء والشقائق
والأبردين والهجير الماحق
201
للفارس الراكض منه الواثق
خوف الجبان في فؤاد العاشق
202
كأنه في ريد طود شاهق
203
يشأى إلى المسمع صوت الناطق
204
لو سابق الشمس من المشارق
جاء إلى الغرب مجيء السابق
يترك في حجارة الأبارق
آثار قلع الحلي في المناطق
205
مشيا وإن يعد فكالخنادق
206
لو أوردت غب سحاب صادق
لأحسبت خوامس الأيانق
207
إذا اللجام جاءه لطارق
شحا له شحو الغراب الناغق
208
كأنما الجلد لعري الناهق
منحدر عن سيتي جلاهق
209
بز المذاكي وهو في العقائق
وزاد في الساق على النقانق
210
وزاد في الوقع على الصواعق
وزاد في الأذن على الخرانق
211
وزاد في الحذر على العقاعق
يميز الهزل من الحقائق
212
وينذر الركب بكل سارق
يريك خرقا وهو عين الحاذق
213
يحك أنى شاء حك الباشق
قوبل من آفقة وآفق
214
بين عتاق الخيل والعتائق
فعنقه يربي على البواسق
215
وحلقه يمكن فتر الخانق
أعده للطعن في الفيالق
216
والضرب في الأوجه والمفارق
والسير في ظل اللواء الخافق
217
يحملني والنصل ذو السفاسق
يقطر في كمي على البنائق
218
لا ألحظ الدنيا بعيني وامق
ولا أبالي قلة المرافق
219
أي كبت كل حاسد منافق
أنت لنا وكلنا للخالق
220
وقال يهجو إسحاق بن كيغلغ وقد بلغه أن غلمانه قتلوه:
قالوا لنا: مات إسحاق فقلت لهم:
هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
221
إن مات مات بلا فقد ولا أسف
أو عاش عاش بلا خلق ولا خلق
222
منه تعلم عبد شق هامته
خون الصديق ودس الغدر في الملق
223
وحلف ألف يمين غير صادقة
مطرودة ككعوب الرمح في نسق
224
ما زلت أعرفه قردا بلا ذنب
صفرا من البأس مملوءا من النزق
225
كريشة بمهب الريح ساقطة
لا تستقر على حال من القلق
226
تستغرق الكف فوديه ومنكبه
وتكتسي منه ريح الجورب العرق
227
فسائلوا قاتليه كيف مات لهم
موتا من الضرب أو موتا من الفرق؟
228
وأين موقع حد السيف من شبح
بغير رأس ولا جسم ولا عنق
229
لولا اللئام وشيء من مشابهة
لكان ألأم طفل لف في خرق
230
كلام أكثر من تلقى ومنظره
مما يشق على الآذان والحدق
231
وقال يمدح أبا العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان العدوي:
أتراها لكثرة العشاق
تحسب الدمع خلقة في المآقي؟
232
كيف ترثي التي ترى كل جفن
راءها غير جفنها غير راقي؟!
233
أنت منا فتنت نفسك لكن
نك عوفيت من ضنى واشتياق
234
حلت دون المزار فاليوم لو زر
ت لحال النحول دون العناق
235
إن لحظا أدمته وأدمنا
كان عمدا لنا وحتف اتفاق
236
لو عدا عنك غير هجرك بعد
لأرار الرسيم مخ المناقي
237
ولسرنا ولو وصلنا عليها
مثل أنفاسنا على الأرماق
238
ما بنا من هوى العيون اللواتي
لون أشفارهن لون الحداق
239
قصرت مدة الليالي المواضي
فأطالت بها الليالي البواقي
240
كاثرت نائل الأمير من الما
ل بما نولت من الإيراق
241
ليس إلا أبا العشائر خلق
ساد هذا الأنام باستحقاق
242
طاعن الطعنة التي تطعن الفي
لق بالذعر والدم المهراق
243
ذات فرغ كأنها في حشا المخ
بر عنها من شدة الإطراق
244
ضارب الهام في الغبار وما ير
هب أن يشرب الذي هو ساقي
245
فوق شقاء للأشق مجال
بين أرساغها وبين الصفاق
246
ما رآها مكذب الرسل إلا
صدق القول في صفات البراق
247
همه في ذوي الأسنة لا فيها
وأطرافها له كالنطاق
248
ثاقب الرأي ثابت الحلم لا يق
در أمر له على إقلاق
249
يا بني الحارث بن لقمان لا تع
دمكم في الوغى متون العتاق
250
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي
ي فكان القتال قبل التلاقي
251
وتكاد الظبا لما عودوها
تنتضي نفسها إلى الأعناق
252
وإذا أشفق الفوارس من وق
ع القنا أشفقوا من الإشفاق
253
كل ذمر يزيد في الموت حسنا
كبدور تمامها في المحاق
254
جاعل درعه منيته إن
لم يكن دونها من العار واق
255
كرم خشن الجوانب منهم
فهو كالماء في الشفار الرقاق
256
ومعال إذا ادعاها سواهم
لزمته جناية السراق
257
يا ابن من كلما بدوت بدا لي
غائب الشخص حاضر الأخلاق
258
لو تنكرت في المكر لقوم
حلفوا أنك ابنه بالطلاق
259
كيف يقوى بكفك الزند والآ
فاق فيها كالكف في الآفاق؟!
260
قل نفع الحديد فيك فما يل
قاك إلا من سيفه من نفاق
261
إلف هذا الهواء أوقع في الأن
فس أن الحمام مر المذاق
262
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق
263
كم ثراء فرجت بالرمح عنه
كان من بخل أهله في وثاق!
264
والغنى في يد اللئيم قبيح
قدر قبح الكريم في الإملاق
265
ليس قولي في شمس فعلك كالشم
س ولكن في الشمس كالإشراق
266
شاعر المجد خدنه شاعر اللف
ظ كلانا رب المعاني الدقاق
267
لم تزل تسمع المديح ولكن
ن صهيل الجياد غير النهاق
268
ليت لي مثل جد ذا الدهر في الأد
هر أو رزقه من الأرزاق!
269
أنت فيه وكان كل زمان
يشتهي بعض ذا على الخلاق
270
وضرب أبو العشائر خيمة على الطريق فكثر سؤاله وغاشيته، فقال له إنسان: جعلت مضربك على الطريق! فقال: أحب أن يذكره أبو الطيب، فقال:
لام أناس أبا العشائر في
جود يديه بالعين والورق
271
وإنما قيل: لم خلقت كذا
وخالق الخلق خالق الخلق؟!
272
قالوا: ألم تكفه سماحته
حتى بنى بيته على الطرق؟!
273
فقلت: إن الفتى شجاعته
تريه في الشح صورة الفرق
274
بضرب هام الكماة تم له
كسب الذي يكسبون بالملق
275
الشمس قد حلت السماء وما
يحجبها بعدها عن الحدق
276
كن لجة أيها السماح فقد
آمنه سيفه من الغرق
277
هوامش
قافية الكاف
وقال وقد أجمل سيف الدولة ذكره:
رب نجيع بسيف الدولة انسفكا
ورب قافية غاظت به ملكا
1
من يعرف الشمس لا ينكر مطالعها
أو يبصر الخيل لا يستكرم الرمكا
2
تسر بالمال بعض المال تملكه
إن البلاد وإن العالمين لكا
3
ولما أنشد: أجاب دمعي
4 ... إلخ، استحسنها فقال:
إن هذا الشعر في الشعر ملك
سار فهو الشمس والدنيا فلك
5
عدل الرحمن فيه بيننا
فقضى باللفظ لي والحمد لك
6
فإذا مر بأذني حاسد
صار ممن كان حيا فهلك
7
وقال لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه إلى جانب المصباح:
أما ترى ما أراه أيها الملك
كأننا في سماء ما لها حبك
8
ألفرقد ابنك والمصباح صاحبه
وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك
9
وقال يمدح عبيد الله بن يحيى البحتري:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا
وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
10
فعم صباحا لقد هيجت لي شجنا
واردد تحيتنا إنا محيوكا
11
بأي حكم زمان صرت متخذا
رئم الفلا بدلا من رئم أهليكا؟
12
أيام فيك شموس ما انبعثن لنا
إلا ابتعثن دما باللحظ مسفوكا
13
والعيش أخضر والأطلال مشرقة
كأن نور عبيد الله يعلوكا
14
نجا امرؤ يا ابن يحيى كنت بغيته
وخاب ركب ركاب لم يؤموكا
15
أحييت للشعراء الشعر فامتدحوا
جميع من مدحوه بالذي فيكا
16
وعلموا الناس منك المجد واقتدروا
على دقيق المعاني من معانيكا
17
فكن كما أنت يا من لا شبيه له
أو كيف شئت فما خلق يدانيكا
18
شكر العفاة لما أوليت أوجدني
إلى نداك طريق العرف مسلوكا
19
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني
أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
20
كفى بأنك من قحطان في شرف
وإن فخرت فكل من مواليكا
21
ولو نقصت كما قد زدت من كرم
على الورى لرأوني مثل شانيكا
22
لبى نداك لقد نادى فأسمعني
يفديك من رجل صحبي وأفديكا
23
ما زلت تتبع ما تولي يدا بيد
حتى ظننت حياتي من أياديكا
24
فإن تقل: ها فعادات عرفت بها
أو لا فإنك لا يسخو بها فوكا
25
وورد كتاب من ابن رائق على بدر بن عمار بإضافة الساحل إلى عمله فقال:
تهنا بصور أم نهنئها بكا؟
وقل الذي صور وأنت له لكا
26
وما صغر الأردن والساحل الذي
حبيت به إلا إلى جنب قدركا
27
تحاسدت البلدان حتى لو انها
نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا
28
وأصبح مصر لا تكون أميره
ولو أنه ذو مقلة وفم بكى
29
وسقاه بدر ولم يكن له رغبة في الشراب فقال:
لم تر من نادمت إلاكا
لا لسوى ودك لي ذاكا
30
ولا لحبيها ولكنني
أمسيت أرجوك وأخشاكا
31
وقد كان تاب بدر بن عمار من الشرب مرة بعد أخرى، فرآه أبو الطيب يشرب فقال ارتجالا:
يا أيها الملك الذي ندماؤه
شركاؤه في ملكه لا ملكه
32
في كل يوم بيننا دم كرمة
لك توبة من توبة من سفكه
33
والصدق من شيم الكرام فنبنا
أمن الشراب تتوب أم من تركه؟
34
وقال في محمد بن طغج وهو عند طاهر العلوي:
قد بلغت الذي أردت من البر
ر ومن حق ذا الشريف عليكا
وإذا لم تسر إلى الدار في وق
تك ذا خفت أن تسير إليكا
35
وقال في أبي العشائر وعنده إنسان ينشده شعرا وصف فيه بركة في داره فقال:
لئن كان أحسن في وصفها
لقد ترك الحسن في الوصف لك
36
لأنك بحر وإن البحار
لتأنف من مدح هذي البرك
37
كأنك سيفك لا ما ملك
ت يبقى لديك ولا ما ملك
38
فأكثر من جريها ما وهب
ت وأكثر من مائها ما سفك
39
أسأت وأحسنت عن قدرة
ودرت على الناس دور الفلك
40
وقال يمدح أبا شجاع عضد الدولة ويودعه، وهو آخر ما قال، وجرى فيها كلام كأنه ينعي نفسه وإن لم يقصد ذلك، وأنشدها في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وفيها قتل:
فدى لك من يقصر عن مداكا
فلا ملك إذن إلا فداكا
41
ولو قلنا: فدى لك من يساوي
دعونا بالبقاء لمن قلاكا
42
وآمنا فداءك كل نفس
وإن كانت لمملكة ملاكا
43
ومن يظن نثر الحب جودا
وينصب تحت ما نثر الشباكا
44
ومن بلغ التراب به كراه
وقد بلغت به الحال السكاكا
45
فلو كانت قلوبهم صديقا
لقد كانت خلائقهم عداكا
46
لأنك مبغض حسبا نحيفا
إذا أبصرت دنياه ضناكا
47
أروح وقد ختمت على فؤادي
بحبك أن يحل به سواكا
48
وقد حملتني شكرا طويلا
ثقيلا لا أطيق به حراكا
49
أحاذر أن يشق على المطايا
فلا تمشي بنا إلا سواكا
50
لعل الله يجعله رحيلا
يعين على الإقامة في ذراكا
51
ولو أني استطعت خفضت طرفي
فلم أبصر به حتى أراكا
52
وكيف الصبر عنك وقد كفاني
نداك المستفيض وما كفاكا؟
53
أتتركني وعين الشمس نعلي
فتقطع مشيتي فيها الشراكا؟!
54
أرى أسفي وما سرنا شديدا
فكيف إذا غدا السير ابتراكا؟!
55
وهذا الشوق قبل البين سيف
فها أنا ما ضربت وقد أحاكا
56
إذا التوديع أعرض قال قلبي:
عليك الصمت لا صاحبت فاكا
57
ولولا أن أكثر ما تمنى
معاودة لقلت: ولا مناكا
58
قد استشفيت من داء بداء
وأقتل ما أعلك ما شفاكا
59
فأستر منك نجوانا وأخفي
هموما قد أطلت لها العراكا
60
إذا عاصيتها كانت شدادا
وإن طاوعتها كانت ركاكا
61
وكم دون الثوية من حزين
يقول له قدومي: ذا بذاكا
62
ومن عذب الرضاب إذا أنخنا
يقبل رحل تروك والوراكا
63
يحرم أن يمس الطيب بعدي
وقد عبق العبير به وصاكا
64
ويمنع ثغره من كل صب
ويمنحه البشامة والأراكا
65
يحدث مقلتيه النوم عني
فليت النوم حدث عن نداكا
66
وأن البخت لا يعرقن إلا
وقد أنضى العذافرة اللكاكا
67
وما أرضى لمقلته بحلم
إذا انتبهت توهمه ابتشاكا
68
ولا إلا بأن يصغي وأحكي
فليته لا يتيمه هواكا
69
وكم طرب المسامع ليس يدري
أيعجب من ثنائي أم علاكا
70
وذاك النشر عرضك كان مسكا
وذاك الشعر فهري والمداكا
71
فلا تحمدهما واحمد هماما
إذا لم يسم حامده عناكا
72
أغر له شمائل من أبيه
غدا يلقى بنوك بها أباكا
73
وفي الأحباب مختص بوجد
وآخر يدعي معه اشتراكا
74
إذا اشتبهت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
75
أذمت مكرمات أبي شجاع
لعيني من نواي على أولاكا
76
فزل يا بعد عن أيدي ركاب
لها وقع الأسنة في حشاكا
77
وأيا شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
78
فلو سرنا وفي تشرين خمس
رأوني قبل أن يروا السماكا
79
يشرد يمن فناخسر عني
قنا الأعداء والطعن الدراكا
80
وألبس من رضاه في طريقي
سلاحا يذعر الأبطال شاكا
81
ومن أعتاض عنك إذا افترقنا
وكل الناس زور ما خلاكا؟!
82
وما أنا غير سهم في هواء
يعود ولم يجد فيه امتساكا
83
حيي من إلهي أن يراني
وقد فارقت دارك واصطفاكا
84
هوامش
قافية اللام
وقال يمدح سيف الدولة وقد عزم على الرحيل عن إنطاكية وكثر المطر:
رويدك أيها الملك الجليل
تأن وعده مما تنيل
1
وجودك بالمقام ولو قليلا
فما فيما تجود به قليل
2
لأكبت حاسدا وأري عدوا
كأنهما وداعك والرحيل
3
ويهدأ ذا السحاب فقد شككنا:
أتغلب أم حياه لكم قبيل؟
4
وكنت أعيب عذلا في سماح
فها أنا في السماح له عذول
5
وما أخشى نبوك عن طريق
وسيف الدولة الماضي الصقيل
6
وكل شواة غطريف تمنى
لسيرك أن مفرقها السبيل
7
ومثل العمق مملوء دماء
جرت بك في مجاريه الخيول
8
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا
فأهون ما يمر به الوحول
9
ومن أمر الحصون فما عصته
أطاعته الحزونة والسهول
10
أتخفر كل من رمت الليالي
وتنشر كل من دفن الخمول؟!
11
وندعوك الحسام وهل حسام
يعيش به من الموت القتيل؟!
12
وما للسيف إلا القطع فعل
وأنت القاطع البر الوصول
13
وأنت الفارس القوال صبرا
وقد فني التكلم والصهيل
14
يحيد الرمح عنك وفيه قصد
ويقصر أن ينال وفيه طول
15
فلو قدر السنان على لسان
لقال لك السنان كما أقول
16
ولو جاز الخلود خلدت فردا
ولكن ليس للدنيا خليل
17
وقال يرثي والدة سيف الدولة، وقد توفيت بميا فارقين وجاءه الخبر بموتها إلى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وأنشده إياها في جمادى الآخرة من السنة:
نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال
18
ونرتبط السوابق مقربات
وما ينجين من خبب الليالي
19
ومن لم يعشق الدنيا قديما؟!
ولكن لا سبيل إلى الوصال
20
نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال
21
رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال
22
فصرت إذا أصابتني سهام
تكسرت النصال على النصال
23
وهان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي
24
وهذا أول الناعين طرا
لأول ميتة في ذا الجلال
25
كأن الموت لم يفجع بنفس
ولم يخطر لمخلوق ببال
26
صلاة الله خالقنا حنوط
على الوجه المكفن بالجمال
27
على المدفون قبل الترب صونا
وقبل اللحد في كرم الخلال
28
فإن له ببطن الأرض شخصا
جديدا ذكرناه وهو بالي
29
وما أحد يخلد في البرايا
بل الدنيا تئول إلى زوال
أطاب النفس أنك مت موتا
تمنته البواقي والخوالي
30
وزلت ولم تري يوما كريها
يسر الروح فيه بالزوال
31
رواق العز حولك مسبطر
وملك علي ابنك في كمال
32
سقى مثواك غاد في الغوادي
نظير نوال كفك في النوال
33
لساحيه على الأجداث حفش
كأيدي الخيل أبصرت المخالي
34
أسائل عنك بعدك كل مجد
وما عهدي بمجد عنك خالي
35
يمر بقبرك العافي فيبكي
ويشغله البكاء عن السؤال
36
وما أهداك للجدوى عليه
لو انك تقدرين على فعال!
37
بعيشك هل سلوت؟ فإن قلبي
وإن جانبت أرضك، غير سالي
38
نزلت على الكراهة في مكان
بعدت عن النعامى والشمال
39
تحجب عنك رائحة الخزامى
وتمنع منك أنداء الطلال
40
بدار كل ساكنها غريب
طويل الهجر منبت الحبال
41
حصان مثل ماء المزن فيه
كتوم السر صادقة المقال
42
يعللها نطاسي الشكايا
وواحدها نطاسي المعالي
43
إذا وصفوا له داء بثغر
سقاه أسنة الأسل الطوال
44
وليست كالإناث ولا اللواتي
تعد لها القبور من الحجال
45
ولا من في جنازتها تجار
يكون وداعها نفض النعال
46
مشى الأمراء حوليها حفاة
كأن المرو من زف الرئال
47
وأبرزت الخدور مخبآت
يضعن النقس أمكنة الغوالي
48
أتتهن المصيبة غافلات
فدمع الحزن في دمع الدلال
49
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
50
وما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
51
وأفجع من فقدنا من وجدنا
قبيل الفقد مفقود المثال
52
يدفن بعضنا بعضا وتمشي
أواخرنا على هام الأوالي
53
وكم عين مقبلة النواحي
كحيل بالجنادل والرمال!
54
ومغض كان لا يغضي لخطب
وبال كان يفكر في الهزال!
55
أسيف الدولة استنجد بصبر
وكيف بمثل صبرك للجبال؟!
56
فأنت تعلم الناس التعزي
وخوض الموت في الحرب السجال
57
وحالات الزمان عليك شتى
وحالك واحد في كل حال
58
فلا غيضت بحارك يا جموما
على علل الغرائب والدخال
59
رأيتك في الذين أرى ملوكا
كأنك مستقيم في محال
60
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
61
وقال يمدحه ويذكر استنقاذه أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة:
إلام طماعية العاذل؟
ولا رأي في الحب للعاقل
62
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
63
وإني لأعشق من عشقكم
نحولي وكل امرئ ناحل
64
ولو زلتم ثم لم أبككم
بكيت على حبي الزائل
65
أينكر خدي دموعي وقد
جرت منه في مسلك سابل؟!
66
أأول دمع جرى فوقه
وأول حزن على راحل
67
وهبت السلو لمن لامني
وبت من الشوق في شاغل
68
كأن الجفون على مقلتي
ثياب شققن على ثاكل
69
ولو كنت في أسر غير الهوى
ضمنت ضمان أبي وائل
70
فدى نفسه بضمان النضار
وأعطى صدور القنا الذابل
71
ومناهم الخيل مجنوبة
فجئن بكل فتى باسل
72
كأن خلاص أبي وائل
معاودة القمر الآفل
73
دعا فسمعت وكم ساكت
على البعد عندك كالقائل!
74
فلبيته بك في جحفل
له ضامن وبه كافل
75
خرجن من النقع في عارض
ومن عرق الركض في وابل
76
فلما نشفن لقين السياط
بمثل صفا البلد الماحل
77
شفن لخمس إلى من طلبن
قبيل الشفون إلى نازل
78
فدانت مرافقهن الثرى
على ثقة بالدم الغاسل
79
وما بين كاذتي المستغير
كما بين كاذتي البائل
80
فلقين كل ردينية
ومصبوجة لبن الشائل
81
وجيش إمام على ناقة
صحيح الإمامة في الباطل
82
فأقبلن ينحزن قدامه
نوافر كالنحل والعاسل
83
فلما بدوت لأصحابه
رأت أسدها آكل الآكل
84
بضرب يعمهم جائر
له فيهم قسمة العادل
85
وطعن يجمع شذانهم
كما اجتمعت درة الحافل
86
إذا ما نظرت إلى فارس
تحير عن مذهب الراجل
87
فظل يخضب منها اللحى
فتى لا يعيد على الناصل
88
ولا يستغيث إلى ناصر
ولا يتضعضع من خاذل
89
ولا يزع الطرف عن مقدم
ولا يرجع الطرف عن هائل
90
إذا طلب التبل لم يشأه
وإن كان دينا على ماطل
91
خذوا ما أتاكم به واعذروا
فإن الغنيمة في العاجل
92
وإن كان أعجبكم عامكم
فعودوا إلى حمص من قابل
93
فإن الحسام الخضيب الذي
قتلتم به في يد القاتل
94
يجود بمثل الذي رمتم
فلم تدركوه على السائل
95
أمام الكتيبة تزهى به
مكان السنان من العامل
96
وإني لأعجب من آمل
قتالا بكم على بازل!
97
أقال له الله: لا تلقهم
بماض على فرس حائل
98
إذا ما ضربت به هامة
براها وغناك في الكاهل
99
وليس بأول ذي همة
دعته لما ليس بالنائل
100
يشمر للج عن ساقه
ويغمره الموج في الساحل
101
أما للخلافة من مشفق
على سيف دولتها الفاصل؟
102
يقد عداها بلا ضارب
ويسري إليهم بلا حامل
103
تركت جماجمهم في النقا
وما يتخلصن للناخل
104
فأنبت منهم ربيع السباع
فأثنت بإحسانك الشامل
105
وعدت إلى حلب ظافرا
كعود الحلي إلى العاطل
106
ومثل الذي دسته حافيا
يؤثر في قدم الناعل
107
وكم لك من خبر شائع
له شية الأبلق الجائل!
108
ويوم شراب بنيه الردى
بغيض الحضور إلى الواغل
109
تفك العناة وتغني العفاة
وتغفر للمذنب الجاهل
110
فهنأك النصر معطيكه
وأرضاه سعيك في الآجل
111
فذي الدار أخون من مومس
وأخدع من كفة الحابل
112
تفانى الرجال على حبها
وما يحصلون على طائل
113
وسار سيف الدولة إلى الموصل لنصرة أخيه ناصر الدولة، لما قصده معز الدولة الديلمي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فقال أبو الطيب:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل
والطعن عند محبيهن كالقبل
114
وما تقر سيوف في ممالكها
حتى تقلقل دهرا قبل في القلل
115
مثل الأمير بغى أمرا فقربه
طول الرماح وأيدي الخيل والإبل
116
وعزمة بعثتها همة زحل
من تحتها بمكان الترب من زحل
117
على الفرات أعاصير وفي حلب
توحش لملقي النصر مقتبل
118
تتلو أسنته الكتب التي نفذت
ويجعل الخيل أبدالا من الرسل
119
يلقى الملوك فلا يلقى سوى جزر
وما أعدوا فلا يلقى سوى نفل
120
صان الخليفة بالأبطال مهجته
صيانة الذكر الهندي بالخلل
121
الفاعل الفعل لم يفعل لشدته
والقائل القول لم يترك ولم يقل
122
والباعث الجيش قد غالت عجاجته
ضوء النهار فصار الظهر كالطفل
123
الجو أضيق ما لاقاه ساطعها
ومقلة الشمس فيه أحير المقل
124
ينال أبعد منها وهي ناظرة
فما تقابله إلا على وجل
125
قد عرض السيف دون النازلات به
وظاهر الحزم بين النفس والغيل
126
ووكل الظن بالأسرار فانكشفت
له ضمائر أهل السهل والجبل
127
هو الشجاع يعد البخل من جبن
وهو الجواد يعد الجبن من بخل
128
يعود من كل فتح غير مفتخر
وقد أغذ إليه غير محتفل
129
ولا يجير عليه الدهر بغيته
ولا تحصن درع مهجة البطل
130
إذا خلعت على عرض له حللا
وجدتها منه في أبهى من الحلل
131
بذي الغباوة من إنشادها ضرر
كما تضر رياح الورد بالجعل
132
لقد رأت كل عين منك مالئها
وجربت خير سيف خيرة الدول
133
فما تكشفك الأعداء من ملل
من الحروب ولا الآراء عن زلل
134
وكم رجال بلا أرض لكثرتهم
تركت جمعهم أرضا بلا رجل!
135
ما زال طرفك يجري في دمائهم
حتى مشى بك مشي الشارب الثمل
136
يا من يسير وحكم الناظرين له
فيما يراه وحكم القلب في الجذل
137
إن السعادة فيما أنت فاعله
وفقت مرتحلا أو غير مرتحل
138
أجر الجياد على ما كنت مجريها
وخذ بنفسك في أخلاقك الأول
139
ينظرن من مقل أدمى أحجتها
قرع الفوارس بالعسالة الذبل
140
فلا هجمت بها إلا على ظفر
ولا وصلت بها إلا على أمل
141
وقال يرثي أبا الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة بحلب، وقد توفي بميافارقين في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة:
بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل
وهذا الذي يضني كذاك الذي يبلي
142
كأنك أبصرت الذي بي وخفته
إذا عشت فاخترت الحمام على الثكل
143
تركت خدود الغانيات وفوقها
دموع تذيب الحسن في الأعين النجل
144
تبل الثرى سودا من المسك وحده
وقد قطرت حمرا على الشعر الجثل
145
فإن تك في قبر فإنك في الحشا
وإن تك طفلا فالأسى ليس بالطفل
146
ومثلك لا يبكى على قدر سنه
ولكن على قدر المخيلة والأصل
147
ألست من القوم الألى من رماحهم
نداهم ومن قتلاهم مهجة البخل؟
148
بمولودهم صمت اللسان كغيره
ولكن في أعطافه منطق الفضل
149
تسليهم علياؤهم عن مصابهم
ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل
150
أقل بلاء بالرزايا من القنا
وأقدم بين الجحفلين من النبل
151
عزاءك سيف الدولة المقتدى به
فإنك نصل والشدائد للنصل
152
مقيم من الهيجاء في كل منزل
كأنك من كل الصوارم في أهل
153
ولم أر أعصى منك للحزن عبرة
وأثبت عقلا والقلوب بلا عقل
154
تخون المنايا عهده في سليله
وتنصره بين الفوارس والرجل
155
ويبقى على مر الحوادث صبره
ويبدو كما يبدو الفرند على الصقل
156
ومن كان ذا نفس كنفسك حرة
ففيه لها مغن وفيها له مسلي
157
وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
158
يرد أبو الشبل الخميس عن ابنه
ويسلمه عند الولادة للنمل
159
بنفسي وليد عاد من بعد حمله
إلى بطن أم لا تطرق بالحمل
160
بدا وله وعد السحابة بالروى
وصد وفينا غلة البلد المحل
161
وقد مدت الخيل العتاق عيونها
إلى وقت تبديل الركاب من النعل
162
وريع له جيش العدو وما مشى
وجاشت له الحرب الضروس وما تغلي
163
أيفطمه التوراب قبل فطامه
ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل؟!
164
وقبل يرى من جوده ما رأيته
ويسمع فيه ما سمعت من العذل
165
ويلقى كما تلقى من السلم والوغى
ويمسي كما تمسي مليكا بلا مثل
166
توليه أوساط البلاد رماحه
وتمنعه أطرافهن من العزل
167
نبكي لموتانا على غير رغبة
تفوت من الدنيا ولا موهب جزل
168
إذا ما تأملت الزمان وصرفه
تيقنت أن الموت ضرب من القتل
169
هل الولد المحبوب إلا تعلة؟
وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل؟
170
وقد ذقت حلواء البنين على الصبا
فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل
171
وما تسع الأزمان علمي بأمرها
ولا تحسن الأيام تكتب ما أملي
172
وما الدهر أهل أن تؤمل عنده
حياة، وأن يشتاق فيه إلى النسل
173
وقال يمدحه:
لا الحلم جاد به ولا بمثاله
لولا ادكار وداعه وزياله
174
إن المعيد لنا المنام خياله
كانت إعادته خيال خياله
175
بتنا يناولنا المدام بكفه
من ليس يخطر أن نراه بباله
176
نجني الكواكب من قلائد جيده
وننال عين الشمس من خلخاله
177
بنتم عن العين القريحة فيكم
وسكنتم ظن الفؤاد الواله
178
فدنوتم ودنوكم من عنده
وسمحتم وسماحكم من ماله
179
إني لأبغض طيف من أحببته
إذ كان يهجرنا زمان وصاله
180
مثل الصبابة والكآبة والأسى
فارقته فحدثن من ترحاله
181
وقد استقدت من الهوى وأذقته
من عفتي ما ذقت من بلباله
182
ولقد ذخرت لكل أرض ساعة
تستجفل الضرغام عن أشباله
183
تلقى الوجوه بها الوجوه وبينها
ضرب يجول الموت في أجواله
184
ولقد خبأت من الكلام سلافه
وسقيت من نادمت من جرياله
185
وإذا تعثرت الجياد بسهله
برزت غير معثر بجباله
186
وحكمت في البلد العراء بناعج
معتاده مجتابه مغتاله
187
يمشي كما عدت المطي وراءه
ويزيد وقت جمامها وكلاله
188
وتراع غير معقلات حوله
فيفوتها متجفلا بعقاله
189
فغدا النجاح وراح في أخفافه
وغدا المراح وراح في إرقاله
190
وشركت دولة هاشم في سيفها
وشققت خيس الملك عن رئباله
191
عن ذا الذي حرم الليوث كماله
ينسي الفريسة خوفه بجماله
192
وتواضع الأمراء حول سريره
وترى المحبة وهي من آكاله
193
ويميت قبل قتاله ويبش قب
ل نواله وينيل قبل سؤاله
194
إن الرياح إذا عمدن لناظر
أغناه مقبلها عن استعجاله
195
أعطى ومن على الملوك بعفوه
حتى تساوى الناس في إفضاله
196
وإذا غنوا بعطائه عن هزه
والى فأغنى أن يقولوا: واله
197
وكأنما جدواه من إكثاره
حسد لسائله على إقلاله
198
غرب النجوم فغرن دون همومه
وطلعن حين طلعن دون مناله
199
والله يسعد كل يوم جده
ويزيد من أعدائه في آله
200
لو لم تكن تجري على أسيافه
مهجاتهم لجرت على إقباله
201
لم يتركوا أثرا عليه من الوغى
إلا دماءهم على سرباله
202
فلمثله جمع العرمرم نفسه
وبمثله انفصمت عرى أقتاله
203
يا أيها القمر المباهي وجهه
لا تكذبن فلست من أشكاله
204
وإذا طما البحر المحيط فقل له:
دع ذا فإنك عاجز عن حاله
205
وهب الذي ورث الجدود وما رأى
أفعالهم لابن بلا أفعاله
206
حتى إذا فني التراث سوى العلا
قصد العداة من القنا بطواله
207
وبأرعن لبس العجاج إليهم
فوق الحديد وجر من أذياله
208
فكأنما قذي النهار بنقعه
أو غض عنه الطرف من إجلاله
209
الجيش جيشك غير أنك جيشه
في قلبه ويمينه وشماله
210
ترد الطعان المر عن فرسانه
وتنازل الأبطال عن أبطاله
211
كل يريد رجاله لحياته
يا من يريد حياته لرجاله
212
دون الحلاوة في الزمان مرارة
لا تختطى إلا على أهواله
213
فلذاك جاوزها علي وحده
وسعى بمنصله إلى آماله
214
وقال وقد توسط سيف الدولة جبالا بطريق آمد:
يؤمم ذا السيف آماله
ولا يفعل السيف أفعاله
215
إذا سار في مهمه عمه
وإن سار في جبل طاله
216
وأنت بما نلتنا مالك
يثمر من ماله ماله
217
كأنك ما بيننا ضيغم
يرشح للفرس أشباله
218
وقال يمدحه ويذكر الخيمة التي رمتها الريح، وكان قد ضرب سيف الدولة خيمة عظيمة بميافارقين، وأشاع الناس أن مقامه يتصل بها فهبت ريح شديدة فوقعت الخيمة، فتكلم الناس في ذلك، فقال:
أيقدح في الخيمة العذل
وتشمل من دهرها يشمل؟!
219
وتعلو الذي زحل تحته
محال لعمرك ما تسأل
220
فلم لا تلوم الذي لامها
وما فص خاتمه يذبل؟
221
تضيق بشخصك أرجاؤها
ويركض في الواحد الجحفل
222
وتقصر ما كنت في جوفها
وتركز فيها القنا الذبل
223
وكيف تقوم على راحة
كأن البحار لها أنمل؟!
224
فليت وقارك فرقته
وحملت أرضك ما تحمل!
225
فصار الأنام به سادة
وسدتهم بالذي يفضل
226
رأت لون نورك في لونها
كلون الغزالة لا يغسل
227
وأن لها شرفا باذخا
وأن الخيام بها تخجل
228
فلا تنكرن لها صرعة
فمن فرح النفس ما يقتل
229
ولو بلغ الناس ما بلغت
لخانتهم حولك الأرجل
230
ولما أمرت بتطنيبها
أشيع بأنك لا ترحل
231
فما اعتمد الله تقويضها
ولكن أشار بما تفعل
232
وعرف أنك من همه
وأنك في نصره ترفل
233
فما العاندون وما أثلوا
وما الحاسدون وما قولوا؟!
234
هم يطلبون فمن أدركوا
وهم يكذبون فمن يقبل؟!
235
وهم يتمنون ما يشتهون
ومن دونه جدك المقبل
236
وملمومة زرد ثوبها
ولكنه بالقنا مخمل
237
يفاجئ جيشا بها حينه
وينذر جيشا بها القسطل
238
جعلتك بالقلب لي عدة
لأنك باليد لا تجعل
239
لقد رفع الله من دولة
لها منك يا سيفها منصل
240
فإن طبعت قبلك المرهفات
فإنك من قبلها المقصل
241
وإن جاد قبلك قوم مضوا
فإنك في الكرم الأول
242
وكيف تقصر عن غاية
وأمك من ليثها مشبل؟!
243
وقد ولدتك فقال الورى:
ألم تكن الشمس لا تنجل؟!
244
فتبا لدين عبيد النجوم
ومن يدعي أنها تعقل
245
وقد عرفتك فما بالها
تراك تراها ولا تنزل؟!
246
ولو بتما عند قدريكما
لبت وأعلاكما الأسفل
247
أنلت عبادك ما أملوا
أنالك ربك ما تأمل
248
وقال يمدحه ويعتذر إليه وذلك في شعبان سنة إحدى وأربعين:
249
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل
دعا فلباه قبل الركب والإبل
250
ظللت بين أصيحابي أكفكفه
وظل يسفح بين العذر والعذل
251
أشكو النوى ولهم من عبرتي عجب
كذاك كنت وما أشكو سوى الكلل
252
وما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل
253
متى تزر قوم من تهوى زيارتها
لا يتحفوك بغير البيض والأسل
254
والهجر أقتل لي مما أراقبه
أنا الغريق فما خوفي من البلل!
255
ما بال كل فؤاد في عشيرتها
به الذي بي وما بي غير منتقل؟!
256
مطاعة اللحظ في الألحاظ مالكة
لمقلتيها عظيم الملك في المقل
257
تشبه الخفرات الآنسات بها
في مشيها فينلن الحسن بالحيل
258
قد ذقت شدة أيامي ولذتها
فما حصلت على صاب ولا عسل
259
وقد أراني الشباب الروح في بدني
وقد أراني المشيب الروح في بدلي
260
وقد طرقت فتاة الحي مرتديا
بصاحب غير عزهاة ولا غزل
261
فبات بين تراقينا ندفعه
وليس يعلم بالشكوى ولا القبل
262
ثم اغتدى وبه من ردعها أثر
على ذؤابته والجفن والخلل
263
لا أكسب الذكر إلا من مضاربه
أو من سنان أصم الكعب معتدل
264
جاد الأمير به لي في مواهبه
فزانها وكساني الدرع في الحلل
265
ومن علي بن عبد الله معرفتي
بحمله من كعبد الله أو كعلي
266
معطي الكواعب والجرد السلاهب وال
بيض القواضب والعسالة الذبل
267
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك
ملء الزمان وملء السهل والجبل
268
فنحن في جذل والروم في وجل
والبر في شغل والبحر في خجل
269
من تغلب الغالبين الناس منصبه
ومن عدي أعادي الجبن والبخل
270
والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده
بالجاهلية عين العي والخطل
271
ليت المدائح تستوفي مناقبه
فما كليب وأهل الأعصر الأول
272
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
273
وقد وجدت مجال القول ذا سعة
فإن وجدت لسانا قائلا فقل
274
إن الهمام الذي فخر الأنام به
خير السيوف بكفي خيرة الدول
275
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه
فما يقول لشيء ليت ذلك لي
276
انظر إذا اجتمع السيفان في رهج
إلى اختلافهما في الخلق والعمل
هذا المعد لريب الدهر منصلتا
أعد هذا لرأس الفارس البطل
277
فالعرب منه مع الكدري طائرة
والروم طائرة منه مع الحجل
278
وما الفرار إلى الأجبال من أسد
تمشي النعام به في معقل الوعل؟!
279
جاز الدروب إلى ما خلف خرشنة
وزال عنها وذاك الروع لم يزل
280
فكلما حلمت عذراء عندهم
فإنما حلمت بالسبي والجمل
281
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزى بذلوا
منها رضاك ومن للعور بالحول
282
ناديت مجدك في شعري وقد صدرا
يا غير منتحل في غير منتحل
283
بالشرق والغرب أقوام نحبهم
فطالعاهم وكونا أبلغ الرسل
284
وعرفاهم بأني في مكارمه
أقلب الطرف بين الخيل والخول
285
يا أيها المحسن المشكور من جهتي
والشكر من قبل الإحسان لا قبلي
286
ما كان نومي إلا فوق معرفتي
بأن رأيك لا يؤتى من الزلل
287
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد
زد هش بش تفضل أدن سر صل
288
لعل عتبك محمود عواقبه
فربما صحت الأجسام بالعلل
289
وما سمعت، ولا غيري بمقتدر
أذب منك لزور القول عن رجل
290
لأن حلمك حلم لا تكلفه
ليس التكحل في العينين كالكحل
291
وما ثناك كلام الناس عن كرم
ومن يسد طريق العارض الهطل؟!
292
أنت الجواد بلا من ولا كدر
ولا مطال ولا وعد ولا مذل
293
أنت الشجاع إذا ما لم يطأ فرس
غير السنور والأشلاء والقلل
294
ورد بعض القنا بعضا مقارعة
كأنه من نفوس القوم في جدل
295
لا زلت تضرب من عاداك عن عرض
بعاجل النصر في مستأخر الأجل
296
ولما أنشد أقل أنل رآهم يعدون ألفاظه، فقال وزاد فيه:
أقل أنل أن صن احمل عل سل أعد
زد هش بش هب اغفر أدن سر صل
297
فرآهم يستكثرون الحروف، فقال:
عش ابق اسم سد قد جد مر انه ر ف اسر نل
غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل اثن نل
298
وهذا دعاء لو سكت كفيته
لأني سألت الله فيك وقد فعل
299
وقال وقد حضر مجلس سيف الدولة وبين يديه أترج وطلع وهو يمتحن الفرسان، فقال ابن حبيش شيخ المصيصة: لا تتوهم هذا للشرب، فقال أبو الطيب:
شديد البعد من شرب الشمول
ترنج الهند أو طلع النخيل
300
ولكن كل شيء فيه طيب
لديك من الدقيق إلى الجليل
301
وميدان الفصاحة والقوافي
وممتحن الفوارس والخيول
302
وأنكر عليه بعض الحاضرين قوله: شديد ... إلخ، فقال:
أتيت بمنطق العرب الأصيل
وكان بقدر ما عاينت قيلي
303
فعارضه كلام كان منه
بمنزلة النساء من البعول
304
وهذا الدر مأمون التشظي
وأنت السيف مأمون الفلول
305
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
306
ودخل عليه في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وعنده رسول ملك الروم وقد جاء يلتمس الفداء، وركب الغلمان بالتجافيف وأحضروا لبؤة مقتولة ومعها ثلاثة أشبال بالحياة وألقوها بين يديه. فقال أبو الطيب مرتجلا:
لقيت العفاة بآمالها
وزرت العداة بآجالها
307
وأقبلت الروم تمشي إليك
بين الليوث وأشبالها
308
إذا رأت الأسد مسبية
فأين تفر بأطفالها؟!
309
ودخل عليه ليلا وهو يصف سلاحا كان بين يديه ورفع، فقال ارتجالا:
وصفت لنا - ولم نره - سلاحا
كأنك واصف وقت النزال
310
وأن البيض صف على دروع
فشوق من رآه إلى القتال
311
فلو أطفأت نارك تا لديه
قرأت الخط في سود الليالي
312
إن استحسنت وهو على بساط
فأحسن ما يكون على الرجال
313
وإن بها، وإن به لنقصا
وأنت لها النهاية في الكمال
314
ولو لحظ الدمستق جانبيه
لقلب رأيه حالا لحال
315
وقال يمدحه، وأنشدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة:
316
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
317
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
318
وما عشت من بعد الأحبة سلوة
ولكنني للنائبات حمول
319
وإن رحيلا واحدا حال بيننا
وفي الموت من بعد الرحيل رحيل
320
إذا كان شم الروح أدنى إليكم
فلا برحتني روضة وقبول
321
وما شرقي بالماء إلا تذكرا
لماء به أهل الحبيب نزول
322
يحرمه لمع الأسنة فوقه
فليس لظمآن إليه وصول
323
أما في النجوم السائرات وغيرها
لعيني على ضوء الصباح دليل؟
324
ألم ير هذا الليل عينيك رؤيتي
فتظهر فيه رقة ونحول؟!
325
لقيت بدرب القلة الفجر لقية
شفت كمدي والليل فيه قتيل
326
ويوما كأن الحسن فيه علامة
بعثت بها والشمس منك رسول
327
وما قبل سيف الدولة اثار عاشق
ولا طلبت عند الظلام ذحول
328
ولكنه يأتي بكل غريبة
تروق على استغرابها وتهول
329
رمى الدرب بالجرد الجياد إلى العدا
وما علموا أن السهام خيول
330
شوائل تشوال العقارب بالقنا
لها مرح من تحته وصهيل
331
وما هي إلا خطرة عرضت له
بحران لبتها قنا ونصول
332
همام إذا ما هم أمضى همومه
بأرعن وطء الموت فيه ثقيل
333
وخيل براها الركض في كل بلدة
إذا عرست فيها فليس تقيل
334
فلما تجلى من دلوك وصنجة
علت كل طود راية ورعيل
335
على طرق فيها على الطرق رفعة
وفي ذكرها عند الأنيس خمول
336
فما شعروا حتى رأوها مغيرة
قباحا وأما خلقها فجميل
337
سحائب يمطرن الحديد عليهم
فكل مكان بالسيوف غسيل
338
وأمسى السبايا ينتحبن بعرقة
كأن جيوب الثاكلات ذيول
339
وعادت فظنوها بموزار قفلا
وليس لها إلا الدخول قفول
340
فخاضت نجيع الجمع خوضا كأنه
بكل نجيع لم تخضه كفيل
341
تسايرها النيران في كل مسلك
به القوم صرعى والديار طلول
342
وكرت فمرت في دماء ملطية
ملطية أم للبنين ثكول
343
وأضعفن ما كلفنه من قباقب
فأضحى كأن الماء فيه عليل
344
ورعن بنا قلب الفرات كأنما
تخر عليه بالرجال سيول
345
يطارد فيه موجه كل سابح
سواء عليه غمرة ومسيل
346
تراه كأن الماء مر بجسمه
وأقبل رأس وحده وتليل
347
وفي بطن هنزيط وسمنين للظبا
وصم القنا ممن أبدن بديل
348
طلعن عليهم طلعة يعرفونها
لها غرر ما تنقضي وحجول
349
تمل الحصون الشم طول نزالنا
فتلقي إلينا أهلها وتزول
350
وبتن بحصن الران رزحى من الوجى
وكل عزيز للأمير ذليل
351
وفي كل نفس ما خلاه ملالة
وفي كل سيف ما خلاه فلول
352
ودون سميساط المطامير والملا
وأودية مجهولة وهجول
353
لبسن الدجى فيها إلى أرض مرعش
وللروم خطب في البلاد جليل
354
فلما رأوه وحده قبل جيشه
دروا أن كل العالمين فضول
355
وأن رماح الخط عنه قصيرة
وأن حديد الهند عنه كليل
356
فأوردهم صدر الحصان وسيفه
فتى بأسه مثل العطاء جزيل
357
جواد على العلات بالمال كله
ولكنه بالدارعين بخيل
358
فودع قتلاهم وشيع فلهم
بضرب حزون البيض فيه سهول
359
على قلب قسطنطين منه تعجب
وإن كان في ساقيه منه كبول
360
لعلك يوما يا دمستق عائد
فكم هارب مما إليه يئول
361
نجوت بإحدى مهجتيك جريحة
وخلفت إحدى مهجتيك تسيل
362
أتسلم للخطية ابنك هاربا
ويسكن في الدنيا إليك خليل؟!
363
بوجهك ما أنساكه من مرشة
نصيرك منها رنة وعويل
364
أغركم طول الجيوش وعرضها؟!
علي شروب للجيوش أكول
365
إذا لم تكن لليث إلا فريسة
غذاه ولم ينفعك أنك فيل
366
إذا الطعن لم تدخلك فيه شجاعة
هي الطعن لم يدخلك فيه عذول
367
فإن تكن الأيام أبصرن صوله
فقد علم الأيام كيف تصول
368
فدتك ملوك لم تسم مواضيا
فإنك ماضي الشفرتين صقيل
369
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
370
أنا السابق الهادي إلى ما أقوله
إذ القول قبل القائلين مقول
371
وما لكلام الناس فيما يريبني
أصول ولا للقائليه أصول
372
أعادى على ما يوجب الحب للفتى
وأهدأ والأفكار في تجول
373
سوى وجع الحساد داو فإنه
إذا حل في قلب فليس يحول
374
ولا تطمعن من حاسد في مودة
وإن كنت تبديها له وتنيل
375
وإنا لنلقى الحادثات بأنفس
كثير الرزايا عندهن قليل
376
يهون علينا أن تصاب جسومنا
وتسلم أعراض لنا وعقول
377
فتيها وفخرا تغلب ابنة وائل
فأنت لخير الفاخرين قبيل
378
يغم عليا أن يموت عدوه
إذا لم تغله بالأسنة غول
379
شريك المنايا والنفوس غنيمة
فكل ممات لم يمته غلول
380
فإن تكن الدولات قسما فإنها
لمن ورد الموت الزؤام تدول
381
لمن هون الدنيا على النفس ساعة
وللبيض في هام الكماة صليل
382
وقد جرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فقال له سيف الدولة: ما تقول في هذا وما تحكم يا أبا الطيب؟ فقال:
إن كنت عن خير الأنام سائلا
فخيرهم أكثرهم فضائلا
من أنت منهم يا همام وائلا
الطاعنين في الوغى أوائلا
383
والعاذلين في الندى العواذلا
قد فضلوا بفضلك القبائلا
384
وقال يمدحه عند دخول رسول الروم عليه في صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة:
دروع لملك الروم هذي الرسائل
يرد بها عن نفسه ويشاغل
385
هي الزرد الضافي عليه ولفظها
عليك ثناء سابغ وفضائل
386
وأنى اهتدى هذا الرسول بأرضه
وما سكنت مذ سرت فيها القساطل؟!
387
ومن أي ماء كان يسقي جياده
ولم تصف من مزج الدماء المناهل؟!
388
أتاك يكاد الرأس يجحد عنقه
وتنقد تحت الذعر منه المفاصل
389
يقوم تقويم السماطين مشيه
إليك إذا ما عوجته الأفاكل
390
فقاسمك العينين منه ولحظه
سميك والخل الذي لا يزايل
391
وأبصر منك الرزق والرزق مطمع
وأبصر منه الموت والموت هائل
392
وقبل كما قبل الترب قبله
وكل كمي واقف متضائل
393
وأسعد مشتاق وأظفر طالب
همام إلى تقبيل كمك واصل
394
مكان تمناه الشفاه ودونه
صدور المذاكي والرماح الذوابل
395
فما بلغته ما أراد كرامة
عليك ولكن لم يخب لك سائل
396
وأكبر منه همة بعثت به
إليك العدا واستنظرته الجحافل
397
فأقبل من أصحابه وهو مرسل
وعاد إلى أصحابه وهو عاذل
398
تحير في سيف ربيعة أصله
وطابعه الرحمن والمجد صاقل
399
وما لونه مما تحصل مقلة
ولا حده مما تجس الأنامل
400
إذا عاينتك الرسل هانت نفوسها
عليها وما جاءت به والمراسل
401
رجا الروم من ترجى النوافل كلها
لديه ولا ترجى لديه الطوائل
402
فإن كان خوف القتل والأسر ساقهم
فقد فعلوا ما القتل والأسر فاعل
403
فخافوك حتى ما لقتل زيادة
وجاءوك حتى ما تراد السلاسل
404
أرى كل ذي ملك إليك مصيره
كأنك بحر والملوك جداول
405
إذا مطرت منهم ومنك سحائب
فوابلهم طل وطلك وابل
406
كريم متى استوهبت ما أنت راكب
وقد لقحت حرب فإنك باذل
407
أذا الجود أعط الناس ما أنت مالك
ولا تعطين الناس ما أنا قائل
408
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر
ضعيف يقاويني قصير يطاول؟!
409
لساني بنطقي صامت عنه عادل
وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل
410
وأتعب من ناداك من لا تجيبه
وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
411
وما التيه طبي فيهم غير أنني
بغيض إلي الجاهل المتعاقل
412
وأكبر تيهي أنني بك واثق
وأكثر ما لي أنني لك آمل
413
لعل لسيف الدولة القرم هبة
يعيش بها حق ويهلك باطل
414
رميت عداه بالقوافي وفضله
وهن الغوازي السالمات القواتل
415
وقد زعموا أن النجوم خوالد
ولو حاربته ناح فيها الثواكل
416
وما كان أدناها له لو أرادها
وألطفها لو أنه المتناول
417
قريب عليه كل ناء على الورى
إذا لثمته بالغبار القنابل
418
تدبر شرق الأرض والغرب كفه
وليس لها وقتا عن الجود شاغل
419
يتبع هراب الرجال مراده
فمن فر حربا عارضته الغوائل
420
ومن فر من إحسانه حسدا له
تلقاه منه حيثما سار نائل
421
فتى لا يرى إحسانه وهو كامل
له كاملا حتى يرى وهو شامل
422
إذا العرب العرباء رازت نفوسها
فأنت فتاها والمليك الحلاحل
423
أطاعتك في أرواحها وتصرفت
بأمرك والتفت عليك القبائل
424
وكل أنابيب القنا مدد له
وما ينكت الفرسان إلا العوامل
425
رأيتك لو لم يقتض الطعن في الوغى
إليك انقيادا لاقتضته الشمائل
426
ومن لم تعلمه لك الذل نفسه
من الناس طرا علمته المناصل
427
وقال يعزيه بأخته الصغرى، ويسليه بالكبرى، وأنشدها في رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:
إن يكن صبر ذي الرزية فضلا
تكن الأفضل الأعز الأجلا
428
أنت يا فوق أن تعزى عن الأح
باب فوق الذي يعزيك عقلا
429
وبألفاظك اهتدى فإذا عز
زاك قال الذي له قلت قبلا
430
قد بلوت الخطوب مرا وحلوا
وسلكت الأيام حزنا وسهلا
431
وقتلت الزمان علما فما يغ
رب قولا ولا يجدد فعلا
432
أجد الحزن فيك حفظا وعقلا
وأراه في الخلق ذعرا وجهلا
433
لك إلف يجره وإذا ما
كرم الأصل كان للإلف أصلا
434
ووفاء نبت فيه ولكن
لم يزل للوفاء أهلك أهلا
435
إن خير الدموع عونا لدمع
بعثته رعاية فاستهلا
436
أين ذي الرقة التي لك في الحر
ب إذا استكره الحديد وصلا؟!
437
أين خلفتها غداة لقيت الر
وم والهام بالصوارم تفلى؟!
438
قاسمتك المنون شخصين جورا
جعل القسم نفسه فيك عدلا
439
فإذا قست ما أخذن بما أغ
درن سرى عن الفؤاد وسلى
440
وتيقنت أن حظك أوفى
وتبينت أن جدك أعلى
441
ولعمري لقد شغلت المنايا
بالأعادي فكيف يطلبن شغلا؟!
442
وكم انتشت بالسيوف من الده
ر أسيرا وبالنوال مقلا!
443
عدها نصرة عليه فلما
صال ختلا رآه أدرك تبلا
444
كذبته ظنونه أنت تبلي
ه وتبقى في نعمة ليس تبلى
445
ولقد رامك العداة كما را
م فلم يجرحوا لشخصك ظلا
446
ولقد رمت بالسعادة بعضا
من نفوس العدا فأدركت كلا
447
قارعت رمحك الرماح ولكن
ترك الرامحين رمحك عزلا
448
لو يكون الذي وردت من الفج
عة طعنا أوردته الخيل قبلا
449
ولكشفت ذا الحنين بضرب
طالما كشف الكروب وجلى
450
خطبة للحمام ليس لها رد
وإن كانت المسماة ثكلا
451
وإذا لم تجد من الناس كفوا
ذات خدر أرادت الموت بعلا
452
ولذيذ الحياة أنفس في النف
س وأشهى من أن يمل وأحلى
453
وإذا الشيخ قال: أف، فما مل
ل حياة وإنما الضعف ملا
454
آلة العيش صحة وشباب
فإذا وليا عن المرء ولى
455
أبدا تسترد ما تهب الدن
يا فيا ليت جودها كان بخلا!
456
فكفت كون فرحة تورث الغم
م وخل يغادر الوجد خلا
457
وهي معشوقة على الغدر لا تح
فظ عهدا ولا تتمم وصلا
458
كل دمع يسيل منها عليها
وبفك اليدين عنها تخلى
459
شيم الغانيات فيها فلا أد
ري لذا أنث اسمها الناس أم لا؟
460
يا مليك الورى المفرق محيا
ومماتا فيهم وعزا وذلا
461
قلد الله دولة سيفها أن
ت حساما بالمكرمات محلى
462
فبه أغنت الموالي بذلا
وبه أفنت الأعادي قتلا
463
وإذا اهتز للندى كان بحرا
وإذا اهتز للوغى كان نصلا
464
وإذا الأرض أظلمت كان شمسا
وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
465
وهو الضارب الكتيبة والطع
نة تغلو والضرب أغلى وأغلى
466
أيها الباهر العقول فما تد
رك وصفا أتعبت فكري فمهلا
467
من تعاطى تشبها بك أعيا
ه ومن دل في طريقك ضلا
468
فإذا ما اشتهى خلودك داع
قال: لا زلت أو ترى لك مثلا
469
وقال يمدحه ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لما بلغه أن الروم أحاطت به، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:
470
ذي المعالي فليعلون من تعالى
هكذا هكذا وإلا فلا لا
471
شرف ينطح النجوم بروقي
ه وعز يقلقل الأجبالا
472
حال أعدائنا عظيم وسيف الد
دولة ابن السيوف أعظم حالا
473
كلما أعجلوا النذير مسيرا
أعجلته جياده الإعجالا
474
فأتتهم خوارق الأرض ما تح
مل إلا الحديد والأبطالا
475
خافيات الألوان قد نسج النق
ع عليها براقعا وجلالا
476
حالفته صدورها والعوالي
لتخوضن دونه الأهوالا
477
ولتمضن حيث لا يجد الرم
ح مدارا ولا الحصان مجالا
478
لا ألوم ابن لاون ملك الرو
م وإن كان ما تمنى محالا
479
أقلقته بنية بين أذني
ه وبان بغي السماء فنالا
480
كلما رام حطها اتسع البن
ي فغطى جبينه والقذالا
481
يجمع الروم والصقالب والبل
غر فيها وتجمع الآجالا
482
وتوافيهم بها في القنا السم
ر كما وافت العطاش الصلالا
483
قصدوا هدم سورها فبنوه
وأتوا كي يقصروه فطالا
484
واستجروا مكايد الحرب حتى
تركوها لها عليهم وبالا
485
رب أمر أتاك لا تحمد الفع
عال فيه وتحمد الأفعالا
486
وقسي رميت عنها فردت
في قلوب الرماة عنك النصالا
487
أخذوا الطرق يقطعون بها الرس
ل فكان انقطاعها إرسالا
488
وهم البحر ذو الغوارب إلا
أنه صار عند بحرك آلا
489
ما مضوا لم يقاتلوك ولكن
القتال الذي كفاك القتالا
490
والذي قطع الرقاب من الضر
ب بكفيك قطع الآمالا
491
والثبات الذي أجادوا قديما
علم الثابتين ذا الإجفالا
492
نزلوا في مصارع عرفوها
يندبون الأعمام والأخوالا
493
تحمل الريح بينهم شعر الها
م وتذري عليهم الأوصالا
494
تنذر الجسم أن يقيم لديها
وتريه لكل عضو مثالا
495
أبصروا الطعن في القلوب دراكا
قبل أن يبصروا الرماح خيالا
496
وإذا حاولت طعانك خيل
أبصرت أذرع القنا أميالا
497
بسط الرعب في اليمين يمينا
فتولوا، وفي الشمال شمالا
498
ينفض الروع أيديا ليس تدري
أسيوفا حملن أم أغلالا؟!
499
ووجوها أخافها منك وجه
تركت حسنها له والجمالا
500
والعيان الجلي يحدث للظن
زوالا وللمراد انتقالا
501
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
502
أقسموا لا رأوك إلا بقلب
طالما غرت العيون الرجالا
503
أي عين تأملتك فلاقتك
وطرف رنا إليك فآلا
504
وما يشك اللعين في أخذك الجي
ش فهل يبعث الجيوش نوالا؟!
505
ما لمن ينصب الحبائل في الأر
ض ومرجاه أن يصيد الهلالا؟!
506
إن دون التي على الدرب والأح
دب والنهر مخلطا مزيالا
507
غصب الدهر والملوك عليها
فبناها في وجنة الدهر خالا
508
فهي تمشي مشي العروس اختيالا
وتثنى على الزمان دلالا
509
وحماها بكل مطرد الأك
عب جور الزمان والأوجالا
510
وظبا تعرف الحرام من الحل
فقد أفنت الدماء حلالا
511
في خميس من الأسود بئيس
يفترسن النفوس والأموالا
512
إنما أنفس الأنيس سباع
يتفارسن جهرة واغتيالا
513
من أطاق التماس شيء غلابا
واغتصابا لم يلتمسه سؤالا
514
كل غاد لحاجة يتمنى
أن يكون الغضنفر الرئبالا
515
وأنفذ إليه سيف الدولة ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية، وكان ذلك بعد خروجه من مصر ومفارقته كافورا، فقال يمدحه، وكتب بها إليه من الكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة:
ما لنا كلنا جو يا رسول
أنا أهوى وقلبك المتبول؟!
516
كلما عاد من بعثت إليها
غار مني وخان فيما يقول
517
أفسدت بيننا الأمانات عينا
ها، وخانت قلوبهن العقول
518
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو
ق إليها والشوق حيث النحول
519
وإذا خامر الهوى قلب صب
فعليه لكل عين دليل
520
زودينا من حسن وجهك ما دا
م فحسن الوجوه حال تحول
521
وصلينا نصلك في هذه الدن
يا فإن المقام فيها قليل
522
من رآها بعينها شاقه القطا
ن فيها كما تشوق الحمول
523
إن تريني أدمت بعد بياض
فحميد من القناة الذبول
524
صحبتني على الفلاة فتاة
عادة اللون عندها التبديل
525
سترتك الحجال عنها ولكن
بك منها من اللمى تقبيل
526
مثلها أنت لوحتني وأسقم
ت وزادت أبهاكما العطبول
527
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أقصير طريقنا أم يطول؟
528
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
529
لا أقمنا على مكان وإن طا
ب ولا يمكن المكان الرحيل
530
كلما رحبت بنا الروض قلنا:
حلب قصدنا وأنت السبيل
531
فيك مرعى جيادنا والمطايا
وإليها وجيفنا والذميل
532
والمسمون بالأمير كثير
والأمير الذي بها المأمول
الذي زلت عنه شرقا وغربا
ونداه مقابلي ما يزول
533
ومعي أينما سلكت كأني
كل وجه له بوجهي كفيل
534
وإذا العذل في الندى زار سمعا
ففداه العذول والمعذول
535
وموال تحييهم من يديه
نعم غيرهم بها مقتول
536
فرس سابق ورمح طويل
ودلاص زغف وسيف صقيل
537
كلما صبحت ديار عدو
قال تلك الغيوث: هذي السيول
538
دهمته تطاير الزرد المح
كم عنه كما يطير النسيل
539
تقنص الخيل خيله قنص الوح
ش ويستأسر الخميس الرعيل
540
وإذا الحرب أعرضت زعم الهو
ل لعينيه أنه تهويل
541
وإذا صح فالزمان صحيح
وإذا اعتل فالزمان عليل
542
وإذا غاب وجهه عن مكان
فبه من ثناه وجه جميل
543
ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول
544
كيف لا يأمن العراق ومصر
وسراياك دونها والخيول؟!
545
لو تحرفت عن طريق الأعادي
ربط السدر خيلهم والنخيل
546
ودرى من أعزه الدفع عنه
فيهما أنه الحقير الذليل
547
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول؟!
548
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل؟
549
قعد الناس كلهم عن مساعي
ك وقامت بها القنا والنصول
550
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
551
لست أرضى بأن تكون جوادا
وزماني بأن أراك بخيل
552
نغص البعد عنك قرب العطايا
مرتعي مخصب وجسمي هزيل
553
إن تبوأت غير دنياي دارا
وأتاني نيل فأنت المنيل
554
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو
ر ولي من نداك ريف ونيل
555
ما أبالي إذا اتقتك الرزايا
من دهته حبولها والخبول
556
وقال في صباه، وقد قيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة:
لا تحسن الوفرة حتى ترى
منشورة الضفرين يوم القتال
557
على فتى معتقل صعدة
يعلها من كل وافي السبال
558
وقال في صباه:
محبي قيامي ما لذالكم النصل
بريئا من الجرحى سليما من القتل؟
559
أرى من فرندي قطعة في فرنده
وجودة ضرب الهام في جودة الصقل
560
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي
أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
561
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه
فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
562
وذرني وإياه وطرفي وذابلي
نكن واحدا يلقى الورى وانظرن فعلي
563
وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسن الكلابي المنبجي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا
564
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا
والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
565
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
566
بما بجفنيك من سحر صلي دنفا
يهوى الحياة وأما إن صددت فلا
567
إلا يشب فلقد شابت له كبد
شيبا إذا خضبته سلوة نصلا
568
يجن شوقا فلولا أن رائحة
تزوره في رياح الشرق ما عقلا
569
ها فانظري أو فظني بي تري حرقا
من لم يذق طرفا منها فقد وألا
570
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي
إلى التي تركتني في الهوى مثلا
571
أيقنت أن سعيدا طالب بدمي
لما بصرت به بالرمح معتقلا
572
وأنني غير محص فضل والده
ونائل دون نيلي وصفه زحلا
573
قيل بمنبج مثواه ونائله
في الأفق يسأل عمن غيره سألا
574
يلوح بدر الدجى في صحن غرته
ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا
575
ترابه في كلاب كحل أعينها
وسيفه في جناب يسبق العذلا
576
لنوره في سماء الفخر مخترق
لو صاعد الفكر فيه الدهر ما نزلا
577
هو الأمير الذي بادت تميم به
قدما وساق إليها حينها الأجلا
578
لما رأته وخيل النصر مقبلة
والحرب غير عوان أسلموا الحللا
579
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
580
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت
بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
581
فقد تركت الألى لاقيتهم جزرا
وقد قتلت الألى لم تلقهم وجلا
582
كم مهمه قذف قلب الدليل به
قلب المحب قضاني بعدما مطلا
583
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه
وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
584
أنكحت صم حصاها خف يعملة
تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
585
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها
سمعت للجن في غيطانها زجلا
586
حتى وصلت بنفس مات أكثرها
وليتني عشت منها بالذي فضلا
587
أرجو نداك ولا أخشى المطال به
يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
588
وقال في صباه، وقد أهدى له عبيد الله بن خلكان من خراسان هدية فيها سمك من سكر ولوز في عسل:
قد شغل الناس كثرة الأمل
وأنت بالمكرمات في شغل
589
تمثلوا حاتما ولو عقلوا
لكنت في الجود غاية المثل
590
أهلا وسهلا بما بعثت به
إيها أبا قاسم وبالرسل
591
هدية ما رأيت مهديها
إلا رأيت العباد في رجل
592
أقل ما في أقلها سمك
يلعب في بركة من العسل
593
كيف أكافي على أجل يد
من لا يرى أنها يد قبلي
594
وقال أيضا في صباه:
قفا تريا ودقي فهاتا المخايل
ولا تخشيا خلفا لما أنا قائل
595
رماني خساس الناس من صائب استه
وآخر قطن من يديه الجنادل
596
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
ويجهل علمي أنه بي جاهل
597
ويجهل أني مالك الأرض معسر
وأني على ظهر السماكين راجل
598
تحقر عندي همتي كل مطلب
ويقصر في عيني المدى المتطاول
599
وما زلت طودا لا تزول مناكبي
إلى أن بدت للضيم في زلازل
600
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل
601
إذا الليل وارانا أرتنا خفافها
بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل
602
كأني من الوجناء في ظهر موجة
رمت بي بحارا ما لهن سواحل
603
يخيل لي أن البلاد مسامعي
وأني فيها ما تقول العواذل
604
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلا
تساوى المحايي عنده والمقاتل
605
ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم
وليس لنا إلا السيوف وسائل
606
فما وردت روح امرئ روحه له
ولا صدرت عن باخل وهو باخل
607
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي
وليس بغث أن تغث المآكل
608
وقال لصديق له في صباه:
أحببت برك إذ أردت رحيلا
فوجدت أكثر ما وجدت قليلا
609
وعلمت أنك في المكارم راغب
صب إليها بكرة وأصيلا
610
فجعلت ما تهدي إلي هدية
مني إليك وظرفها التأميلا
611
بر يخف على يديك قبوله
ويكون محمله علي ثقيلا
612
وقال يمدح شجاع بن محمد الطائي المنبجي:
عزيز أسى من داؤه الحدق النجل
عياء به مات المحبون من قبل
613
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري
نذير إلى من ظن أن الهوى سهل
614
وما هي إلا لحظة بعد لحظة
إذا نزلت في قلبه رحل العقل
615
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي
فأصبح لي عن كل شغل بها شغل
616
ومن جسدي لم يترك السقم شعرة
فما فوقها إلا وفيها له فعل
617
إذا عذلوا فيها أجبت بأنة
حبيبتا قلبا فؤادا هيا جمل
618
كأن رقيبا منك سد مسامعي
عن العذل حتى ليس يدخلها العذل
619
كأن سهاد الليل يعشق مقلتي
فبينهما في كل هجر لنا وصل
620
أحب التي في البدر منها مشابه
وأشكو إلى من لا يصاب له شكل
621
إلى واحد الدنيا إلى ابن محمد
شجاع الذي لله ثم له الفضل
622
إلى الثمر الحلو الذي طيء له
فروع وقحطان بن هود له أصل
623
إلى سيد لو بشر الله أمة
بغير نبي بشرتنا به الرسل
624
إلى القابض الأرواح والضيغم الذي
تحدث عن وقفاته الخيل والرجل
625
إلى رب مال كلما شت شمله
تجمع في تشتيته للعلا شمل
626
همام إذا ما فارق الغمد سيفه
وعاينته لم تدر أيهما النصل
627
رأيت ابن أم الموت لو أن بأسه
فشا بين أهل الأرض لانقطع النسل
628
على سابح موج المنايا بنحره
غداة كأن النبل في صدره وبل
629
وكم عين قرن حدقت لنزاله
فلم تغض إلا والسنان لها كحل!
630
إذا قيل: رفقا قال: للحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل
631
ولولا تولي نفسه حمل حلمه
عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
632
تباعدت الآمال عن كل مقصد
وضاق بها إلا إلى بابك السبل
633
ونادى الندى بالنائمين عن السرى
فأسمعهم : هبوا فقد هلك البخل
634
وحالت عطايا كفه دون وعده
فليس له إنجاز وعد ولا مطل
635
فأقرب من تحديدها رد فائت
وأيسر من إحصائها القطر والرمل
636
وما تنقم الأيام ممن وجوهها
لأخمصه في كل نائبة نعل؟!
637
وما عزه فيها مراد أراده
وإن عز إلا أن يكون له مثل
638
كفى ثعلا فخرا بأنك منهم
ودهر لأن أمسيت من أهله أهل
639
وويل لنفس حاولت منك غرة
وطوبى لعين ساعة منك لا تخلو
640
فما بفقير شام برقك فاقة
ولا في بلاد أنت صيبها محل
641
وقال يمدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي:
صلة الهجر لي وهجر الوصال
نكساني في السقم نكس الهلال
642
فغدا الجسم ناقصا، والذي ين
قص منه يزيد في بلبالي
643
قف على الدمنتين بالدو من ري
يا كخال في وجنة جنب خال
644
بطلول كأنهن نجوم
في عراص كأنهن ليالي
645
ونؤي كأنهن عليهن
خدام خرس بسوق خدال
646
لا تلمني فإنني أعشق العش
شاق فيها يا أعذل العذال
647
ما تريد النوى من الحية الذوا
ق حر الفلا، وبرد الظلال
648
فهو أمضى في الروع من ملك المو
ت، وأسرى في ظلمة من خيال
649
ولحتف في العز يدنو محب
ولعمر يطول في الذل قالي
650
نحن ركب ملجن في زي ناس
فوق طير لها شخوص الجمال
651
من بنات الجديل تمشي بنا في البي
د مشي الأيام في الآجال
652
كل هوجاء للدياميم فيها
أثر النار في سليط الذبال
653
عامدات للبدر والبحر والضر
غامة ابن المبارك المفضال
654
من يزره يزر سليمان في المل
ك جلالا ويوسفا في الجمال
وربيعا يضاحك الغيث فيه
زهر الشكر من رياض المعالي
655
نفحتنا منه الصبا بنسيم
رد روحا في ميت الآمال
656
هم عبد الرحمن نفع الموالي
وبوار الأعداء والأموال
657
أكبر العيب عنده البخل والطع
ن عليه التشبيه بالرئبال
658
والجراحات عنده نغمات
سبقت قبل سيبه بسؤال
659
ذا السراج المنير هذا النقي ال
جيب هذا بقية الأبدال
660
فخذا ماء رجله وانضحا في ال
مدن تأمن بوائق الزلزال
661
وامسحا ثوبه البقير على دا
ئكما تشفيا من الإعلال
662
مالئا من نواله الشرق والغر
ب ومن خوفه قلوب الرجال
663
قابضا كفه اليمين على الدن
يا، ولو شاء حازها بالشمال
664
نفسه جيشه وتدبيره النص
ر، وألحاظه الظبا والعوالي
665
وله في جماجم المال ضرب
وقعه في جماجم الأبطال
666
فهموا لاتقائه الدهر في يو
م نزال وليس يوم نزال
667
رجل طينه من العنبر الور
د وطين العباد من صلصال
668
فبقيات طينه لاقت الما
ء فصارت عذوبة في الزلال
669
وبقايا وقاره عافت النا
س فصارت ركانة في الجبال
670
لست ممن يغره حبك السل
م وأن لا ترى شهود القتال
671
ذاك شيء كفاكه عيش شاني
ك ذليلا وقلة الأشكال
672
واغتفار لو غير السخط منه
جعلت هامهم نعال النعال
673
لجياد يدخلن في الحرب أعرا
ء ويخرجن من دم في جلال
674
واستعار الحديد لونا وألقى
لونه في ذوائب الأطفال
675
أنت طورا أمر من ناقع السم
وطورا أحلى من السلسال
676
إنما الناس حيث أنت وما النا
س بناس في موضع منك خالي
677
وقال وقد دخل على أبي علي الأوراجي يوما فقال له: وددنا يا أبا الطيب لو كنت اليوم معنا، فقد ركبنا ومعنا كلب لابن ملك، فطردنا به ظبيا، ولم يكن لنا صقر. فاستحسنت صيده، فقال: أنا قليل الرغبة في مثل هذا، فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه فتستحسنه، فتقول فيه شيئا من الشعر، قال: أنا أفعل، أفتحب أن يكون الآن؟ قال: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن والقافية. قال: لا، بل الأمر فيهما إليك. فأخذ أبو الطيب درجا، وأخذ أبو علي درجا آخر يكتب فيه كتابا، فقطع عليه أبو الطيب الكتاب وقال:
ومنزل ليس لنا بمنزل
ولا لغير الغاديات الهطل
678
ندي الخزامى ذفر القرنفل
محلل ملوحش لم يحلل
679
عن لنا فيه مراعي مغزل
محين النفس بعيد الموئل
680
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلي
وعادة العري عن التفضل
681
كأنه مضمخ بصندل
معترضا بمثل قرن الأيل
682
يحول بين الكلب والتأمل
فحل كلابي وثاق الأحبل
683
عن أشدق مسوجر مسلسل
أقب ساط شرس شمردل
684
منها إذا يثغ له لا يغزل
موجد الفقرة رخو المفصل
685
له إذا أدبر لحظ المقبل
كأنما ينظر من سجنجل
686
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلا جاء المدى وقد تلي
687
يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربع مجدولة لم تجدل
688
فتل الأيادي ربذات الأرجل
آثارها أمثالها في الجندل
689
يكاد في الوثب من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
690
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي
691
كأنه مضبر من جرول
موثق على رماح ذبل
692
ذي ذنب أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
693
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يبلي السوط تحريك بلي
694
نيل المنى وحكم نفس المرسل
وعقلة الظبي وحتف التتفل
695
فانبريا فذين تحت القسطل
قد ضمن الآخر قتل الأول
696
في هبوة كلاهما لم يذهل
لا يأتلي في ترك أن لا يأتلي
697
مقتحما على المكان الأهول
يخال طول البحر عرض الجدول
698
حتى إذا قيل له: نلت افعل
افتر عن مذروبة كالأنصل
699
لا تعرف العهد بصقل الصيقل
مركبات في العذاب المنزل
700
كأنها من سرعة في الشمأل
كأنها من ثقل في يذبل
701
كأنها من سعة في هوجل
كأنه من علمه بالمقتل
علم بقراط فصاد الأكحل
702
فحال ما للقفز للتجدل
وصار ما في جلده في المرجل
703
فلم يضرنا معه فقد الأجدل
إذا بقيت سالما أبا علي
فالملك لله العزيز ثم لي
704
وقال يمدح بدر بن عمار، وقد فصد لعلة، فغاص المبضع فوق حقه، فأضر به ذلك:
أبعد نأي المليحة البخل
في البعد ما لا تكلف الإبل
705
ملولة ما يدوم ليس لها
من ملل دائم بها ملل
706
كأنما قدها إذا انفتلت
سكران من خمر طرفها ثمل
707
يجذبها تحت خصرها عجز
كأنه من فراقها وجل
708
بي حر شوق إلى ترشفها
ينفصل الصبر حين يتصل
709
الثغر والنحر والمخلخل وال
معصم دائي والفاحم الرجل
710
ومهمه جبته على قدمي
تعجز عنه العرامس الذلل
711
بصارمي مرتد بمخبرتي
مجتزئ، بالظلام مشتمل
712
إذا صديق نكرت جانبه
لم تعيني في فراقه الحيل
713
في سعة الخافقين مضطرب
وفي بلاد من أختها بدل
714
وفي اعتمار الأمير بدر بن عما
ر عن الشغل بالورى شغل
715
أصبح مال كماله لذوي ال
حاجة لا يبتدى ولا يسل
716
هان على قلبه الزمان فما
يبين فيه غم ولا جذل
717
يكاد من طاعة الحمام له
يقتل من ما دنا له أجل
718
يكاد من صحة العزيمة ما
يفعل قبل الفعال ينفعل
719
تعرف في عينه حقائقه
كأنه بالذكاء مكتحل
720
أشفق عند اتقاد فكرته
عليه منها أخاف يشتعل
721
أغر أعداؤه إذا سلموا
بالهرب استكبروا الذي فعلوا
722
يقبلهم وجه كل سابحة
أربعها قبل طرفها تصل
723
جرداء ملء الحزام مجفرة
تكون مثلي عسيبها الخصل
724
إن أدبرت قلت لا تليل لها
أو أقبلت قلت ما لها كفل
725
والطعن شزر والأرض واجفة
كأنما في فؤادها وهل
726
قد صبغت خدها الدماء كما
يصبغ خد الخريدة الخجل
727
والخيل تبكي جلودها عرقا
بأدمع ما تسحها مقل
728
سار ولا قفر من مواكبه
كأنما كل سبسب جبل
729
يمنعها أن يصيبها مطر
شدة ما قد تضايق الأسل
730
يا بدر يا بحر يا عمامة يا
ليث الشرى يا حمام يا رجل
731
إن البنان الذي تقلبه
عندك في كل موضع مثل
732
إنك من معشر إذا وهبوا
ما دون أعمارهم فقد بخلوا
733
قلوبهم في مضاء ما امتشقوا
قاماتهم في تمام ما اعتقلوا
734
أنت نقيض اسمه إذا اختلفت
قواضب الهند والقنا الذبل
أنت لعمري البدر المنير ول
كنك في حومة الوغى زحل
735
كتيبة لست ربها نفل
وبلدة لست حليها عطل
736
قصدت من شرقها ومغربها
حتى اشتكتك الركاب والسبل
737
لم تبق إلا قليل عافية
قد وفدت تجتديكها العلل
738
عذر الملومين فيك أنهما
آس جبان ومبضع بطل
739
مددت في راحة الطبيب يدا
وما درى كيف يقطع الأمل
740
إن يكن البضع ضر باطنها
فربما ضر ظهرها القبل
741
يشق في عرقها الفصاد ولا
يشق في عرق جودها العذل
742
خامره إذ مددتها جزع
كأنه من حذافة عجل
743
جاز حدود اجتهاده فأتى
غير اجتهاد لأمه الهبل
744
أبلغ ما يطلب النجاح به
الطبع وعند التعمق الزلل
745
ارث لها إنها بما ملكت
وبالذي قد أسلت تنهمل
746
مثلك يا بدر لا يكون ولا
تصلح إلا لمثلك الدول
747
وقال أيضا يمدحه :
بقائي شاء ليس هم ارتحالا
وحسن الصبر زموا لا الجمالا
748
تولوا بغتة فكأن بينا
تهيبني ففاجأني اغتيالا
749
فكان مسير عيسهم ذميلا
وسير الدمع إثرهم انهمالا
750
كأن العيس كانت فوق جفني
مناخاة فلما ثرن سالا
751
وحجبت النوى الظبيات عني
فساعدت البراقع والحجالا
752
لبسن الوشى لا متجملات
ولكن كي يصن به الجمالا
753
وضفرن الغدائر لا لحسن
ولكن خفن في الشعر الضلالا
754
بجسمي من برته فلو أصارت
وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا
755
ولولا أنني في غير نوم
لكنت أظنني مني خيالا
756
بدت قمرا ومالت خوط بان
وفاحت عنبرا ورنت غزالا
757
وجارت في الحكومة ثم أبدت
لنا من حسن قامتها اعتدالا
758
كأن الحزن مشغوف بقلبي
فساعة هجرها يجد الوصالا
759
كذا الدنيا على من كان قبلي
صروف لم يدمن عليه حالا
760
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
761
ألفت ترحلي وجعلت أرضي
قتودي والغريري الجلالا
762
فما حاولت في أرض مقاما
ولا أزمعت عن أرض زوالا
763
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوبا أو شمالا
764
إلى البدر بن عمار الذي لم
يكن في غرة الشهر الهلالا
765
ولم يعظم لنقص كان فيه
ولم يزل الأمير ولن يزالا
بلا مثل وإن أبصرت فيه
لكل مغيب حسن مثالا
766
حسام لابن رائق المرجى
حسام المتقي أيام صالا
767
سنان في قناة بني معد
بني أسد إذا دعوا النزالا
768
أعز مغالب كفا وسيفا
ومقدرة ومحمية وآلا
769
وأشرف فاخر نفسا وقوما
وأكرم منتم عما وخالا
770
يكون أحق إثناء عليه
على الدنيا وأهليها محالا
771
ويبقى ضعف ما قد قيل فيه
إذا لم يترك أحد مقالا
772
فيا ابن الطاعنين بكل لدن
مواضع يشتكي البطل السمالا
773
ويا ابن الضاربين بكل عضب
من العرب الأسافل والقلالا
774
أرى المتشاعرين غروا بذمي
ومن ذا يحمد الداء العضالا
775
ومن يك ذا فم مر مريض
يجد مرا به الماء الزلالا
776
وقالوا: هل يبلغك الثريا؟
فقلت: نعم إذا شئت استفالا
777
هو المفني المذاكي والأعادي
وبيض الهند والسمر الطوالا
778
وقائدها مسومة خفافا
على حي تصبحه ثقالا
779
جوائل بالقني مثقفات
كأن على عواملها الذبالا
780
إذا وطئت بأيديها صخورا
يفئن لوطء أرجلها رمالا
781
جواب مسائلي: أله نظير؟
ولا لك في سؤالك لا ألا لا
782
لقد أمنت بك الإعدام نفس
تعد رجاءها إياك مالا
783
وقد وجلت قلوب منك حتى
غدت أوجالها فيها وجالا
784
سرورك أن تسر الناس طرا
تعلمهم عليك به الدلالا
785
إذا سألوا شكرتهم عليه
وإن سكتوا سألتهم السؤالا
786
وأسعد من رأينا مستميح
ينيل المستماح بأن ينالا
787
يفارق سهمك الرجل الملاقى
فراق القوس ما لاقى الرجالا
788
فما تقف السهام على قرار
كأن الريش يطلب النصالا
789
سبقت السابقين فما تجارى
وجاوزت العلو فما تعالى
790
وأقسم لو صلحت يمين شيء
لما صلح العباد له شمالا
791
أقلب منك طرفي في سماء
وإن طلعت كواكبها خصالا
792
وأعجب منك كيف قدرت تنشا
وقد أعطيت في المهد الكمالا؟!
793
وخرج بدر بن عمار إلى أسد، فهرب الأسد منه، وكان قد خرج قبله إلى أسد آخر، فهاجه عن بقرة افترسها بعد أن شبع وثقل، فوثب إلى كفل فرسه، فأعجله عن استلال سيفه، فضربه بالسوط، ودار به الجيش، فقال أبو الطيب:
في الخد أن عزم الخليط رحيلا
مطر تزيد به الخدود محولا
794
يا نظرة نفت الرقاد وغادرت
في حد قلبي ما حييت فلولا
795
كانت من الكحلاء سؤلي إنما
أجلي تمثل في فؤادي سولا
796
أجد الجفاء على سواك مروءة
والصبر إلا في نواك جميلا
797
وأرى تدللك الكثير محببا
وأرى قليل تدلل مملولا
798
تشكو روادفك المطية فوقها
شكوى التي وجدت هواك دخيلا
799
ويغيرني جذب الزمام لقلبها
فمها إليك كطالب تقبيلا
800
حدق الحسان من الغواني هجن لي
يوم الفراق صبابة وغليلا
801
حدق يذم من القواتل غيرها
بدر بن عمار بن إسماعيلا
802
الفارج الكرب العظام بمثلها
والتارك الملك العزيز ذليلا
803
محك إذا مطل الغريم بدينه
جعل الحسام بما أراد كفيلا
804
نطق إذا حط الكلام لثامه
أعطى بمنطقه القلوب عقولا
805
أعدى الزمان سخاؤه فسخا به
ولقد يكون به الزمان بخيلا
806
وكأن برقا في متون غمامة
هنديه في كفه مسلولا
807
ومحل قائمه يسيل مواهبا
لو كن سيلا ما وجدن مسيلا
808
رقت مضاربه فهن كأنما
يبدين من عشق الرقاب نحولا
809
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
لمن ادخرت الصارم المصقولا؟!
810
وقعت على الأردن منه بلية
نضدت بها هام الرفاق تلولا
811
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
812
متخضب بدم الفوارس لابس
في غيله من لبدتيه غيلا
813
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
تحت الدجى نار الفريق حلولا
814
في وحدة الرهبان إلا أنه
لا يعرف التحريم والتحليلا
815
يطأ الثرى مترفقا من تيهه
فكأنه آس يجس عليلا
816
ويرد عفرته إلى يافوخه
حتى تصير لرأسه إكليلا
817
وتظنه مما يزمجر نفسه
عنها لشدة غيظه مشغولا
818
قصرت مخافته الخطا فكأنما
ركب الكمي جواده مشكولا
819
ألقى فريسته وبربر دونها
وقربت قربا خاله تطفيلا
820
فتشابه الخلقان في إقدامه
وتخالفا في بذلك المأكولا
821
أسد يرى عضويه فيك كليهما
متنا أزل وساعدا مفتولا
822
في سرج ظامئة الفصوص طمرة
يأبى تفردها لها التمثيلا
823
نيالة الطلبات لولا أنها
تعطي مكان لجامها ما نيلا
824
تندى سوالفها إذا استحضرتها
ويظن عقد عنانها محلولا
825
ما زال يجمع نفسه في زوره
حتى حسبت العرض منه الطولا
826
ويدق بالصدر الحجار كأنه
يبغي إلى ما في الحضيض سبيلا
827
وكأنه غرته عين فادنى
لا يبصر الخطب الجليل جليلا
828
أنف الكريم من الدنية تارك
في عينه العدد الكثير قليلا
829
والعار مضاض وليس بخائف
من حتفه من خاف مما قيلا
830
سبق التقاءكه بوثبة هاجم
لو لم تصادمه لجازك ميلا
831
خذلته قوته وقد كافحته
فاستنصر التسليم والتجديلا
832
قبضت منيته يديه وعنقه
فكأنما صادفته مغلولا
833
سمع ابن عمته به وبحاله
فنجا يهرول منك أمس مهولا
834
وأمر مما فر منه فراره
وكقتله أن لا يموت قتيلا
835
تلف الذي اتخذ الجراءة خلة
وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
836
لو كان علمك بالإله مقسما
في الناس ما بعث الإله رسولا
837
لو كان لفظك فيهم ما أنزل ال
قرآن والتوراة والإنجيلا
لو كان ما تعطيهم من قبل أن
تعطيهم لم يعرفوا التأميلا
838
فلقد عرفت، وما عرفت حقيقة
ولقد جهلت وما جهلت خمولا
839
نطقت بسؤددك الحمام تغنيا
وبما تجشمها الجياد صهيلا
840
ما كل من طلب المعالي نافذا
فيها ولا كل الرجال فحولا
841
وقال وقد نظر إلى جانبه خلعة مطوية فسأل عنها فقيل: هي خلع الولاية، وكان أبو الطيب عند وصولها عليلا:
أرى حللا مطواة حسانا
عداني أن أراك بها اعتلالي
842
وهبك طويتها وخرجت عنها
أتطوي ما عليك من الجمال؟!
843
لقد ظلت أواخرها الأعالي
مع الأولى بجسمك في قتال
844
تلاحظك العيون وأنت فيها
كأن عليك أفئدة الرجال
845
متى أحصيت فضلك في كلام
فقد أحصيت حبات الرمال
846
وإن بها، وإن به لنقصا
وأنت لها النهاية في الكمال
847
وقال فيه أيضا:
عذلت منادمة الأمير عواذلي
في شربها وكفت جواب السائل
848
مطرت سحاب يديك ري جوانحي
وحملت شكرك واصطناعك حاملي
849
فمتى أقوم بشكر ما أوليتني
والقول فيك علو قدر القائل؟!
850
وقال يمدحه:
بدر فتى لو كان من سؤاله
يوما توفر حظه من ماله
851
تتحير الأفعال في أفعاله
ويقل ما يأتيه في إقباله
852
قمرا نرى وسحابتين بموضع
من وجهه ويمينه وشماله
853
سفك الدماء بجوده لا بأسه
كرما لأن الطير بعض عياله
854
إن يفن ما يحوي فقد أبقى به
ذكرا يزول الدهر قبل زواله
855
وسأله حاجة فقضاها له، فنهض فقال:
قد أبت بالحاجة مقضية
وعفت في الجلسة تطويلها
856
أنت الذي طول بقاء له
خير لنفسي من بقائي لها
وقال يمدح القاضي أبا الفضل أحمد بن عبد الله الأنطاكي:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
857
يعلمن ذاك وما علمت وإنما
أولاكما ببكى عليه العاقل
858
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
859
تخلو الديار من الظباء وعنده
من كل تابعة خيال خاذل
860
اللاء أفتكها الجبان بمهجتي
وأحبها قربا إلي الباخل
861
الراميات لنا وهن نوافر
والخاتلات لنا وهن غوافل
862
كافأننا عن شبههن من المها
فلهن في غير التراب حبائل
863
من طاعني ثغر الرجال جآذر
ومن الرماح دمالج وخلاخل
864
ولذا اسم أغطية العيون جفونها
من أنها عمل السيوف عوامل
865
كم وقفة سجرتك شوقا بعدما
غري الرقيب بنا ولج العاذل!
866
دون التعانق ناحلين كشكلتي
نصب أدقهما وصم الشاكل
867
انعم ولذ فللأمور أواخر
أبدا إذا كانت لهن أوائل
868
ما دمت من أرب الحسان فإنما
روق الشباب عليك ظل زائل
869
للهو آونة تمر كأنها
قبل يزودها حبيب راحل
870
جمح الزمان فما لذيذ خالص
مما يشوب ولا سرور كامل
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ
يته المنى وهي المقام الهائل
871
ممطورة طرقي إليها دونها
من جوده في كل فج وابل
872
محجوبة بسرادق من هيبة
تثني الأزمة والمطي ذوامل
873
للشمس فيه وللرياح وللسحا
ب وللبحار وللأسود شمائل
874
ولديه ملعقيان والأدب المفا
د وملحياة وملممات مناهل
875
لو لم يهب لجب الوفود حواله
لسرى إليه قطا الفلاة الناهل
876
يدري بما بك قبل تظهره له
من ذهنه ويجيب قبل تسائل
877
وتراه معترضا لها وموليا
أحداقنا وتحار حين يقابل
878
كلماته قضب وهن فواصل
كل الضرائب تحتهن مفاصل
879
هزمت مكارمه المكارم كلها
حتى كأن المكرمات قنابل
880
وقتلن دفرا والدهيم فما ترى
أم الدهيم وأم دفر هابل
881
علامة العلماء واللج الذي
لا ينتهي ولكل لج ساحل
882
لو طاب مولد كل حي مثله
ولد النساء وما لهن قوابل
883
لو بان بالكرم الجنين بيانه
لدرت به ذكر أم انثى الحامل
884
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعا
هيهات تكتم في الظلام مشاعل
885
ستروا الندى ستر الغراب سفاده
فبدا وهل يخفى الرباب الهاطل
886
جفخت وهم لا يجفخون بهابهم
شيم على الحسب الأغر دلائل
887
متشابهي ورع النفوس كبيرهم
وصغيرهم عف الإزار حلاحل
888
يا افخر فإن الناس فيك ثلاثة
مستعظم أو حاسد أو جاهل
889
ولقد علوت فما تبالي بعدما
عرفوا، أيحمد أم يذم القائل؟
890
أثني عليك ولو تشاء لقلت لي:
قصرت فالإمساك عني نائل
891
لا تجسر الفصحاء تنشد ها هنا
بيتا ولكني الهزبر الباسل
892
ما نال أهل الجاهلية كلهم
شعري ولا سمعت بسحري بابل
893
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
894
من لي بفهم أهيل عصر يدعي
أن يحسب الهندي فيهم باقل؟!
895
وأما وحقك وهو غاية مقسم
للحق أنت وما سواك الباطل
896
الطيب أنت إذا أصابك طيبه
والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
897
ما دار في الحنك اللسان وقلبت
قلما بأحسن من نثاك أنامل
898
وقال يهجو قوما توعدوه:
أماتكم من قبل موتكم الجهل
وجركم من خفة بكم النمل
899
وليد أبي الطيب الكلب ما لكم
فطنتم إلى الدعوى وما لكم عقل؟!
900
ولو ضربتكم منجنيقي وأصلكم
قوي لهدتكم فكيف ولا أصل؟!
901
ولو كنتم ممن يدبر أمره
لما كنتم نسل الذي ما له نسل
902
وقال: وقد جعل أبو محمد بن طغج يضرب بكمه البخور، ويقول: سوقا إلى أبي الطيب:
يا أكرم الناس في الفعال
وأفصح الناس في المقال!
903
إن قلت في ذا البخور: سوقا
فهكذا قلت في النوال
904
وقال، وقد بلغه أن إسحاق بن كيغلغ يتهدده وهو ببلاد الروم، وكان أبو الطيب بدمشق:
905
أتاني كلام الجاهل ابن كيغلغ
يجوب حزونا بيننا وسهولا
906
ولو لم يكن بين ابن صفراء حائل
وبيني سوى رمحي لكان طويلا
907
وإسحق مأمون على من أهانه
ولكن تسلى بالبكاء قليلا
908
وليس جميلا عرضه فيصونه
وليس جميلا أن يكون جميلا
909
ويكذب ما أذللته بهجائه
لقد كان من قبل الهجاء ذليلا
910
وقال يمدح أبا العشائر:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله
أول حي فراقكم قتله
911
قد تلفت قبله النفوس بكم
وأكثرت في هواكم العذله
912
خلا وفيه أهل وأوحشنا
وفيه صرم مروح إبله
913
لو سار ذاك الحبيب عن فلك
ما رضي الشمس برجه بدله
914
أحبه والهوى وأدؤره
وكل حب صبابة ووله
915
ينصرها الغيث وهي ظامئة
إلى سواه وسحبها هطله
916
واحربا منك يا جدايتها
مقيمة فاعلمي ومرتحله
917
لو خلط المسك والعبير بها
ولست فيها لخلتها تفله
918
أنا ابن من بعضه يفوق أبا البا
حث والنجل بعض من نجله
919
وإنما يذكر الجدود لهم
من نفروه وأنفدوا حيله
920
فخرا لعضب أروح مشتمله
وسمهري أروح معتقله
921
وليفخر الفخر إذ غدوت به
مرتديا خيره ومنتعله
922
أنا الذي بين الإله به ال
أقدار والمرء حيثما جعله
923
جوهرة يفرح الكرام بها
وغصة لا تسيغها السفله
924
إن الكذاب الذي أكاد به
أهون عندي من الذي نقله
925
فلا مبال ولا مداج ولا
وان ولا عاجز ولا تكله
926
ودارع سفته فخر لقى
في الملتقى والعجاج والعجله
927
وسامع رعته بقافية
يحار فيها المنقح القوله
928
وربما أشهد الطعام معي
من لا يساوي الخبز الذي أكله
929
ويظهر الجهل بي وأعرفه
والدر در برغم من جهله
930
مستحييا من أبي العشائر أن
أسحب في غير أرضه حلله
931
أسحبها عنده لدى ملك
ثيابه من جليسه وجله
932
وبيض غلمانه كنائله
أول محمول سيبه الحمله
933
ما لي لا أمدح الحسين ولا
أبذل مثل الود الذي بذله
934
أأخفت العين عنده خبرا
أم بلغ الكيذبان ما أمله؟!
935
أم ليس ضراب كل جمجمة
منخوة ساعة الوغى زعله؟!
936
وصاحب الجود ما يفارقه
لو كان للجود منطق عذله
937
وراكب الهول لا يفتره
لو كان للهول محزم هزله
938
وفارس الأحمر المكلل في
طيئ المشرع القنا قبله
939
لما رأت وجهه خيولهم
أقسم بالله لا رأت كفله
940
فأكبروا فعله وأصغره
أكبر من فعله الذي فعله
941
القاطع الواصل الكميل فلا
بعض جميل عن بعضه شغله
942
فواهب والرماح تشجره
وطاعن والهبات متصله
943
وكلما آمن البلاد سرى
وكلما خيف منزل نزله
944
وكلما جاهر العدو ضحى
أمكن حتى كأنه ختله
945
يحتقر البيض واللدان إذا
سن عليه الدلاص أو نثله
946
قد هذبت فهمه الفقاهة لي
وهذبت شعري الفصاحة له
947
فصرت كالسيف حامدا يده
لا يحمد السيف كل من حمله
948
واستأذن كافورا في المسير إلى الرملة ليخلص مالا كتب له به، وإنما أراد أن يعرف ما عند كافور في مسيره. فقال: لا والله لا نكلفك المسير، نحن نبعث في خلاصه ونكفيك، فقال أبو الطيب:
أتحلف لا تكلفني مسيرا
إلى بلد أحاول فيه مالا
وأنت مكلفي أنبى مكانا
وأبعد شقة وأشد حالا
949
إذا سرنا على الفسطاط يوما
فلقني الفوارس والرجالا
950
لتعلم قدر من فارقت مني
وأنك رمت من ضيمي محالا
951
وقال يمدح أبا شجاع فاتكا
952
وكان قد قدم من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
953
واجز الأمير الذي نعماه فاجئة
بغير قول ونعمى الناس أقوال
954
فربما جزي الإحسان موليه
خريدة من عذارى الحي مكسال
955
وإن تكن محكمات الشكل تمنعني
ظهور جري فلي فيهن تصهال
956
وما شكرت لأن المال فرحني
سيان عندي إكثار وإقلال
957
لكن رأيت قبيحا أن يجاد لنا
وأننا بقضاء الحق بخال
958
فكنت منبت روض الحزن باكره
غيث بغير سباخ الأرض هطال
959
غيث يبين للنظار موقعه
أن الغيوث بما تأتيه جهال
960
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
لما يشق على السادات فعال
961
لا وارث جهلت يمناه ما وهبت
ولا كسوب بغير السيف سئال
962
قال الزمان له قولا فأفهمه
إن الزمان على الإمساك عذال
963
تدري القناة إذا اهتزت براحته
أن الشقي بها خيل وأبطال
964
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
965
ألقائد الأسد غذتها براثنه
بمثلها من عداه وهي أشبال
966
ألقاتل السيف في جسم القتيل به
وللسيوف كما للناس آجال
967
تغير عنه على الغارات هيبته
وماله بأقاصي الأرض أهمال
968
له من الوحش ما اختارت أسنته
عير وهيق وخنساء وذيال
969
تمسي الضيوف مشهاة بعقوته
كأن أوقاتها في الطيب آصال
970
لو اشتهت لحم قاريها لبادرها
خرادل منه في الشيزى وأوصال
971
لا يعرف الرزء في مال ولا ولد
إلا إذا حفز الأضياف ترحال
972
يروي صدى الأرض من فضلات ما شربوا
محض اللقاح وصافي اللون سلسال
973
تقري صوارمه الساعات عبط دم
كأنما الساع نزال وقفال
974
تجري النفوس حواليه مخلطة
منها عداة وأغنام وآبال
975
لا يحرم البعد أهل البعد نائله
وغير عاجزة عنه الأطيفال
976
أمضى الفريقين في أقرانه ظبة
والبيض هادية والسمر ضلال
977
يريك مخبره أضعاف منظره
بين الرجال وفيها الماء والآل
978
وقد يلقبه المجنون حاسده
إذا اختلطن وبعض العقل عقال
979
يرمي بها الجيش لا بد له ولها
من شقه ولو ان الجيش أجبال
980
إذا العدى نشبت فيهم مخالبه
لم يجتمع لهم حلم ورئبال
981
يروعهم منه دهر صرفه أبدا
مجاهر وصروف الدهر تغتال
982
أناله الشرف الأعلى تقدمه
فما الذي بتوقي ما أتى نالوا؟!
983
إذا الملوك تحلت كان حليته
مهند وأضم الكعب عسال
984
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبة
هول نمته من الهيجاء أهوال
985
تملك الحمد حتى ما لمفتخر
في الحمد حاء ولا ميم ولا دال
986
عليه منه سرابيل مضاعفة
وقد كفاه من الماذي سربال
987
وكيف أستر ما أوليت من حسن
وقد غمرت نوالا أيها النال
988
لطفت رأيك في بري وتكرمتي
إن الكريم على العلياء يحتال
989
حتى غدوت وللأخبار تجوال
وللكواكب في كفيك آمال
990
وقد أطال ثنائي طول لابسه
إن الثناء على التنبال تنبال
991
إن كنت تكبر أن تختال في بشر
فإن قدرك في الأقدار يختال
992
كأن نفسك لا ترضاك صاحبها
إلا وأنت على المفضال مفضال
993
ولا تعدك صوانا لمهجتها
إلا وأنت لها في الروع بذال
994
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
995
وإنما يبلغ الإنسان طاقته
ما كل ماشية بالرحل شملال
996
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان وإجمال
997
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
998
وقال يمدح أبا الفوارس دلير بن لشكروز سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وكان قد جاء إلى الكوفة لقتال الخارجي الذي نجم بها من بني كلاب، وانصرف الخارجي عن الكوفة قبل وصول دلير إليها:
كدعواك كل يدعي صحة العقل
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل؟
999
لهنك أولى لائم بملامة
وأحوج ممن تعذلين إلى العذل
1000
تقولين: ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي
1001
محب كنى بالبيض عن مرهفاته
وبالحسن في أجسامهن عن الصقل
1002
وبالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي وأطرافها رسلي
1003
عدمت فؤادا لم تبت فيه فضلة
لغير الثنايا الغر والحدق النجل
1004
فما حرمت حسناء بالهجر غبطة
ولا بلغتها من شكى الهجر بالوصل
1005
ذريني أنل ما لا ينال من العلا
فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
1006
تريدين لقيان المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
1007
حذرت علينا الموت والخيل تلتقي
ولم تعلمي عن أي عاقبة تجلى
1008
فلست غبينا لو شريت منيتي
بإكرام دلير بن لشكروز لي
1009
تمر الأنابيب الخواطر بيننا
ونذكر إقبال الأمير فتحلو لي
1010
ولو كنت أدري أنها سبب له
لزاد سروري بالزيادة في القتل
1011
فلا عدمت أرض العراقين فتنة
دعتك إليها كاشف الخوف والمحل
1012
ظللنا إذا أنبى الحديد نصولنا
نجرد ذكرا منك أمضى من النصل
1013
ونرمي نواصيها من اسمك في الوغى
بأنفذ من نشابنا ومن النبل
1014
فإن تك من بعد القتال أتيتنا
فقد هزم الأعداء ذكرك من قبل
1015
وما زلت أطوي القلب قبل اجتماعنا
على حاجة بين السنابك والسبل
1016
ولو لم تسر سرنا إليك بأنفس
غرائب يؤثرن الجياد على الأهل
1017
وخيل إذا مرت بوحش وروضة
أبت رعيها إلا ومرجلنا يغلي
1018
ولكن رأيت القصد في الفضل شركة
فكان لك الفضلان بالقصد والفضل
1019
وليس الذي يتبع الوبل رائدا
كمن جاءه في داره رائد الوبل
1020
وما أنا ممن يدعي الشوق قلبه
ويحتج في ترك الزيارة بالشغل
1021
أرادت كلاب أن تفوز بدولة
لمن تركت رعي الشويهات والإبل
1022
أبى ربها أن يترك الوحش وحدها
وأن يؤمن الضب الخبيث من الأكل
1023
وقاد لها دلير كل طمرة
تنيف بخديها سحوق من النخل
1024
وكل جواد تلطم الأرض كفه
بأغنى عن النعل الحديد من النعل
1025
فولت تريغ الغيث والغيث خلفت
وتطلب ما قد كان في اليد بالرجل
1026
تحاذر هزل المال وهي ذليلة
وأشهد أن الذل شر من الهزل
1027
وأهدت إلينا غير قاصدة به
كريم السجايا يسبق القول بالفعل
1028
تتبع آثار الرزايا بجوده
تتبع آثار الأسنة بالفتل
1029
شفى كل شاك سيفه ونواله
من الداء حتى الثاكلات من الثكل
1030
عفيف تروق الشمس صورة وجهه
ولو نزلت شوقا لحاد إلى الظل
1031
شجاع كأن الحرب عاشقة له
إذا زارها فدته بالخيل والرجل
1032
وريان لا تصدى إلى الخمر نفسه
وعطشان لا تروى يداه من البذل
1033
فتمليك دلير وتعظيم قدره
شهيد بوحدانية الله والعدل
1034
وما دام دلير يهز حسامه
فلا ناب في الدنيا لليث ولا شبل
1035
وما دام دلير يقلب كفه
فلا خلق من دعوى المكارم في حل
1036
فتى لا يرجي أن تتم طهارة
لمن لم يطهر راحتيه من البخل
1037
فلا قطع الرحمن أصلا أتى به
فإني رأيت الطيب الطيب الأصل
1038
وقال يمدح عضد الدولة، ويذكر وقعة وهشوذان بن محمد الكردي بالطرم، وكان والده ركن الدولة أنفذ إليه جيشا من الري فهزمه وأخذ بلده:
اثلث فإنا أيها الطلل
نبكي وترزم تحتنا الإبل
1039
أولا فلا عتب على طلل
إن الطلول لمثلها فعل
1040
لو كنت تنطق قلت معتذرا:
بي غير ما بك أيها الرجل
1041
أبكاك أنك بعض من شغفوا
لم أبك أني بعض من قتلوا
1042
إن الذين أقمت واحتملوا
أيامهم لديارهم دول
1043
الحسن يرحل كلما رحلوا
معهم وينزل حيثما نزلوا
1044
في مقلتي رشأ تديرهما
بدوية فتنت بها الحلل
1045
تشكو المطاعم طول هجرتها
وصدودها ومن الذي تصل
1046
ما أسأرت في القعب من لبن
تركته وهو المسك والعسل
1047
قالت: ألا تصحو فقلت لها:
أعلمتني أن الهوى ثمل
1048
لو أن فناخسر صبحكم
وبرزت وحدك عاقه الغزل
1049
وتفرقت عنكم كتائبه
إن الملاح خوادع قتل
1050
ما كنت فاعلة وضيفكم
ملك الملوك وشأنك البخل
1051
أتمنعين قرى فتفتضحي
أم تبذلين له الذي يسل؟
1052
بل لا يحل بحيث حل به
بخل ولا جور ولا وجل
1053
ملك إذا ما الرمح أدركه
طنب ذكرناه فيعتدل
1054
إن لم يكن من قبله عجزوا
عما يسوس به فقد غفلوا
1055
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها
فشكا إليه السهل والجبل
1056
شكوى العليل إلى الكفيل له
أن لا تمر بجسمه العلل
1057
قالت - فلا كذبت - شجاعته:
أقدم فنفسك ما لها أجل
1058
فهو النهاية إن جرى مثل
أو قيل يوم وغى من البطل
1059
عدد الوفود العامدين له
دون السلاح الشكل والعقل
1060
فلشكلهم في خيله عمل
ولعقلهم في بخته شغل
1061
تمسي على أيدي مواهبه
هي أو بقيتها أو البدل
1062
يشتاق من يده إلى سبل
شوقا إليه ينبت الأسل
1063
سبل تطول المكرمات به
والمجد لا الحوذان والنفل
1064
وإلى حصى أرض أقام بها
بالناس من تقبيلها يلل
1065
إن لم تخالطه ضواحكهم
فلمن تصان وتذخر القبل؟
1066
في وجهه من نور خالقه
قدر هي الآيات والرسل
1067
وإذا القلوب أبت حكومته
رضيت بحكم سيوفه القلل
1068
وإذا الخميس أبى السجود له
سجدت له فيه القنا الذبل
1069
أرضيت وهشوذان ما حكمت
أم تستزيد لأمك الهبل؟
1070
وردت بلادك غير معمدة
وكأنها بين القنا شعل
1071
والقوم في أعيانهم خزر
والخيل في أعيانها قبل
1072
فأتوك ليس بمن أتوا قبل
بهم وليس بمن نأوا خلل
1073
لم يدر من بالري أنهم
فصلوا ولا يدري إذا قفلوا
1074
فأتيت معتزما ولا أسد
ومضيت منهزما ولا وعل
1075
تعطي سلاحهم وراحهم
ما لم تكن لتناله المقل
1076
أسخى الملوك بنقل مملكة
من كاد عنه الرأس ينتقل
1077
لولا الجهالة ما دلفت إلى
قوم غرقت وإنما تفلوا
1078
لا أقبلوا سرا ولا ظفروا
غدرا ولا نصرتهم الغيل
1079
لا تلق أفرس منك تعرفه
إلا إذا ضاقت بك الحيل
1080
لا يستحي أحد يقال له
نضلوك آل بويه أو فضلوا
1081
قدروا عفوا وعدوا وفوا سئلوا
أغنوا علوا أعلوا ولوا عدلوا
1082
فوق السماء وفوق ما طلبوا
فإذا أرادوا غاية نزلوا
1083
قطعت مكارمهم صوارمهم
فإذا تعذر كاذب قبلوا
1084
لا يشهرون على مخالفهم
سيفا يقوم مقامه العذل
1085
فأبو علي من به قهروا
وأبو شجاع من به كملوا
1086
حلفت لذا بركات غرة ذا
في المهد أن لا فاتهم أمل
1087
وخرج أبو شجاع يتصيد ومعه آلة الصيد، وكان يسير قدام الجيش يمنة ويسرة، فلا يرى صيدا إلا صاده، حتى وصل إلى دشت الأرزن؛ وهو موضع حسن على عشرة فراسخ من شيراز، تحف به الجبال، وفيه غاب ومياه ومروج، فكانت الوحوش تصاد، وإذا اعتصمت بالجبال أخذت الرجال عليها المضايق، فإذا أثخنها النشاب هربت من رءوس الجبال إلى الدشت فتسقط بين يديه؛ فأقام بذلك المكان أياما على عين ماء حسنة ومعه أبو الطيب، فوصف الحال وأنشده في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وفي هذه السنة قتل أبو الطيب، قال:
ما أجدر الأيام والليالي
بأن تقول: ما له وما لي؟
1088
لا أن يكون هكذا مقالي
فتى بنيران الحروب صال
1089
منها شرابي وبها اغتسالي
لا تخطر الفحشاء لي ببال
1090
لو جذب الزراد من أذيالي
مخيرا لي صنعتي سربال
1091
ما سمته سرد سوى سروال
وكيف لا وإنما إدلالي
1092
بفارس المجروح والشمال
أبي شجاع قاتل الأبطال
1093
ساقي كئوس الموت والجريال
1094
لما أصار القفص أمس الخالي
1095
وقتل الكرد عن القتال
حتى اتقت بالفر والإجفال
1096
فهالك وطائع وجالي
واقتنص الفرسان بالعوالي
1097
والعتق المحدثة الصقال
سار لصيد الوحش في الجبال
1098
وفي رقاق الأرض والرمال
على دماء الإنس والأوصال
1099
منفرد المهر عن الرعال
من عظم الهمة لا الملال
1100
وشدة الضن لا الاستبدال
ما يتحركن سوى انسلال
1101
فهن يضربن على التصهال
كل عليل فوقها مختال
1102
يمسك فاه خشية السعال
من مطلع الشمس إلى الزوال
1103
فلم يئل ما طار غير آل
وما عدا فانغل في الأدغال
1104
وما احتمى بالماء والدحال
من الحرام اللحم والحلال
1105
إن النفوس عدد الآجال
سقيا لدشت الأرزن الطوال
1106
بين المروج الفيح والأغيال
مجاور الخنزير للرئبال
1107
داني الخنانيص من الأشبال
مشترف الدب على الغزال
1108
مجتمع الأضداد والأشكال
1109
كأن فناخسر ذا الإفضال
خاف عليها عوز الكمال
فجاءها بالفيل والفيال
1110
فقيدت الأيل في الحبال
طوع وهوق الخيل والرجال
1111
تسير سير النعم الأرسال
معتمة بيبس الأجذال
1112
ولدن تحت أثقل الأحمال
قد منعتهن من التفالي
1113
لا تشرك الأجسام في الهزال
1114
إذا تلفتن إلى الأظلال
1115
أرينهن أشنع الأمثال
كأنما خلقن للإذلال
1116
زيادة في سبة الجهال
1117
والعضو ليس نافعا في حال
لسائر الجسم من الخبال
1118
وأوفت الفدر من الأوعال
مرتديات بقسي الضال
1119
نواخس الأطراف للاكفال
يكدن ينفذن من الآطال
1120
لها لحى سود بلا سبال
يصلحن للإضحاك لا الإجلال
1121
كل أثيث نبتها متفال
لم تغذ بالمسك ولا الغوالي
ترضى من الأدهان بالأبوال
ومن ذكي المسك بالدمال
1122
لو سرحت في عارضي محتال
لعدها من شبكات المال
1123
بين قضاة السوء والأطفال
1124
شبيهة الإدبار بالإقبال
لا تؤثر الوجه على القذال
1125
فاختلفت في وابلي نبال
من أسفل الطود ومن معال
1126
قد أودعتها عتل الرجال
في كل كبد كبدي نصال
1127
فهن يهوين من القلال
مقلوبة الأظلاف والإرقال
1128
يرقلن في الجو على المحال
في طرق سريعة الإيصال
1129
ينمن فيها نيمة المكسال
على القفي أعجل العجال
1130
لا يتشكين من الكلال
ولا يحاذرن من الضلال
1131
فكان عنها سبب الترحال
تشويق إكثار إلى إقلال
1132
فوحش نجد منه في بلبال
يخفن في سلمى وفي قيال
1133
نوافر الضباب والأورال
والخاضبات الربد والرئال
1134
والظبي والخنساء والذيال
يسمعن من أخباره الأزوال
ما يبعث الخرس على السؤال
1135
فحولها والعوذ والمتالي
تود لو يتحفها بوالي
1136
يركبها بالخطم والرحال
يؤمنها من هذه الأهوال
1137
ويخمس العشب ولا تبالي
وماء كل مسبل هطال
1138
يا أقدر السفار والقفال
لو شئت صدت الأسد بالثعالي
1139
أو شئت غرقت العدا بالآل
ولو جعلت موضع الإلال
لآلئا قتلت باللآلي
1140
لم يبق إلا طرد السعالي
في الظلم الغائبة الهلال
على ظهور الإبل الأبال
فقد بلغت غاية الآمال
1141
فلم تدع منها سوى المحال
في لا مكان عند لا منال
1142
يا عضد الدولة والمعالي
النسب الحلي وأنت الحالي
بالأب لا بالشنف والخلخال
حليا تحلى منك بالجمال
1143
ورب قبح وحلى ثقال
أحسن منها الحسن في المعطال
1144
فخر الفتى بالنفس والأفعال
من قبله بالعم والأخوال
1145
هوامش
قافية الميم
وقال يمدح سيف الدولة، وهي أول ما أنشده سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عند نزوله أنطاكية من ظفره بحصن برزويه، وكان جالسا تحت فازة من الديباج
1
عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
2
وما أنا إلا عاشق كل عاشق
أعق خليليه الصفيين لائمه
3
وقد يتزيا بالهوى غير أهله
ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
4
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
5
كئيبا توقاني العواذل في الهوى
كما يتوقى ريض الخيل حازمه
6
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي
بثانية والمتلف الشيء غارمه
7
سقاك وحيانا بك الله إنما
على العيس نور والخدور كمائمه
8
وما حاجة الأظعان حولك في الدجى
إلى قمر ما واجد لك عادمه؟
9
إذا ظفرت منك العيون بنظرة
أثاب بها معيي المطي ورازمه
10
حبيب كأن الحسن كان يحبه
فآثره أو جار في الحسن قاسمه
11
تحول رماح الخط دون سبائه
وتسبى له من كل حي كرائمه
12
ويضحي غبار الخيل أدنى ستوره
وآخرها نشر الكباء الملازمه
13
وما استغربت عيني فراقا رأيته
ولا علمتني غير ما القلب عالمه
14
فلا يتهمني الكاشحون فإنني
رعيت الردى حتى حلت لي علاقمه
15
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه
فكيف توقيه وبانيه هادمه؟
16
وتكملة العيش الصبا وعقيبه
وغائب لون العارضين وقادمه
17
وما خضب الناس البياض لأنه
قبيح ولكن أحسن الشعر فاحمه
18
وأحسن من ماء الشبيبة كله
حيا بارق في فازة أنا شائمه
19
عليها رياض لم تحكها سحابة
وأغصان دوح لم تغن حمائمه
20
وفوق حواشي كل ثوب موجه
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
21
ترى حيوان البر مصطلحا بها
يحارب ضد ضده ويسالمه
22
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
23
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلج لا تيجان إلا عمائمه
24
تقبل أفواه الملوك بساطه
ويكبر عنها كمه وبراجمه
25
قياما لمن يشفي من الداء كيه
ومن بين أذني كل قرم مواسمه
26
قبائعها تحت المرافق هيبة
وأنفذ مما في الجفون عزائمه
27
له عسكرا خيل وطير إذا رمى
بها عسكرا لم يبق إلا جماجمه
28
أجلتها من كل طاغ ثيابه
وموطئها من كل باغ ملاغمه
29
فقد مل ضوء الصبح مما تغيره
ومل سواد الليل مما تزاحمه
30
ومل القنا مما تدق صدوره
ومل حديد الهند مما تلاطمه
31
سحاب من العقبان يزحف تحتها
سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه
32
سلكت صروف الدهر حتى لقيته
على ظهر عزم مؤيدات قوائمه
33
مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه
ولا حملت فيها الغراب قوادمه
34
فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله
وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه
35
غضبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف والشعر تهذي طماطمه
36
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة
سريت وكنت السر والليل كاتمه
37
لقد سل سيف الدولة المجد معلما
فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه
38
على عاتق الملك الأغر نجاده
وفي يد جبار السموات قائمه
39
تحاربه الأعداء وهي عبيده
وتدخر الأموال وهي غنائمه
40
ويستكبرون الدهر والدهر دونه
ويستعظمون الموت والموت خادمه
41
وإن الذي سمى عليا لمنصف
وإن الذي سماه سيفا لظالمه
وما كل سيف يقطع الهام حده
وتقطع لزبات الزمان مكارمه
42
وقال يمدحه، وقد عزم على الرحيل عن أنطاكية:
أين أزمعت أيهذا الهمام؟
نحن نبت الربا وأنت الغمام
43
نحن من ضايق الزمان له في
ك وخانته قربك الأيام
44
في سبيل العلا قتالك والسل
م وهذا المقام والإجذام
45
ليت أنا إذا ارتحلت لك الخي
ل وأنا إذا نزلت الخيام
46
كل يوم لك احتمال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
47
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
48
وكذا تطلع البدور علينا
وكذا تقلق البحور العظام
49
ولنا عادة الجميل من الصب
ر لو انا سوى نواك نسام
50
كل عيش ما لم تطبه حمام
كل شمس ما لم تكنها ظلام
51
أزل الوحشة التي عندنا يا
من به يأنس الخميس اللهام
52
والذي يشهد الوغى ساكن القل
ب كأن القتال فيها ذمام
53
والذي يضرب الكتائب حتى
تتلاقى الفهاق والأقدام
54
وإذا حل ساعة بمكان
فأذاه على الزمان حرام
55
والذي تنبت البلاد سرور
والذي تمطر السحاب مدام
56
كلما قيل: قد تناهى أرانا
كرما ما اهتدت إليه الكرام
57
وكفاحا تكع عنه الأعادي
وارتياحا يحار فيه الأنام
58
إنما هيبة المؤمل سيف الد
ولة الملك في القلوب حسام
59
فكثير من الشجاع التوقي
وكثير من البليغ السلام
60
وقال يمدحه أيضا:
أنا منك بين فضائل ومكارم
ومن ارتياحك في غمام دائم
61
ومن احتقارك كل ما تحبو به
فيما ألاحظه بعيني حالم
62
إن الخليفة لم يسمك سيفها
حتى بلاك فكنت عين الصارم
63
فإذا تتوج كنت درة تاجه
وإذا تختم كنت فص الخاتم
64
وإذا انتضاك على العدى في معرك
هلكوا وضاقت كفه بالقائم
65
أبدى سخاؤك عجز كل مشمر
في وصفه وأضاق ذرع الكاتم
66
وقال يمدحه، وكان سيف الدولة قد أمر غلمانه أن يلبسوا، وقصد ميافارقين في خمسة آلاف من الجند وألفين من غلمانه، ليزور قبر والدته، وذلك سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
أكل فصيح قال شعرا متيم
67
لحب ابن عبد الله أولى فإنه
به يبدأ الذكر الجميل ويختم
68
أطعت الغواني قبل مطمح ناظري
إلى منظر يصغرن عنه ويعظم
69
تعرض سيف الدولة الدهر كله
يطبق في أوصاله ويصمم
70
فجاز له حتى على الشمس حكمه
وبان له حتى على البدر ميسم
71
كأن العدا في أرضهم خلفاؤه
فإن شاء حازوها وإن شاء سلموا
72
ولا كتب إلا المشرفية عنده
ولا رسل إلا الخميس العرمرم
73
فلم يخل من نصر له من له يد
ولم يخل من شكر له من له فم
74
ولم يخل من أسمائه عود منبر
ولم يخل دينار ولم يخل درهم
75
ضروب وما بين الحسامين ضيق
بصير وما بين الشجاعين مظلم
76
تباري نجوم القذف في كل ليلة
نجوم له منهن ورد وأدهم
77
يطأن من الأبطال من لا حملنه
ومن قصد المران ما لا يقوم
78
فهن مع السيدان في البر عسل
وهن مع النينان في الماء عوم
79
وهن مع الغزلان في الواد كمن
وهن مع العقبان في النيق حوم
80
إذا جلب الناس الوشيج فإنه
بهن وفي لباتهن يحطم
81
بغرته في الحرب والسلم والحجا
وبذل اللها والحمد والمجد معلم
82
يقر له بالفضل من لا يوده
ويقضي له بالسعد من لا ينجم
83
أجار على الأيام حتى ظننته
تطالبه بالرد عاد وجرهم
84
ضلالا لهذي الريح! ماذا تريده؟
وهديا لهذا السيل! ماذا يؤمم؟
85
ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا
فيخبره عنك الحديد المثلم
86
ولما تلقاك السحاب بصوبه
تلقاه أعلى منه كعبا وأكرم
87
فباشر وجها طالما باشر القنا
وبل ثيابا طالما بلها الدم
88
تلاك وبعض الغيث يتبع بعضه
من الشأم يتلو الحاذق المتعلم
89
فزار التي زارت بك الخيل قبرها
وجشمه الشوق الذي تتجشم
90
ولما عرضت الجيش كان بهاؤه
على الفارس المرخي الذؤابة منهم
91
حواليه بحر للتجافيف مائج
يسير به طرد من الخيل أيهم
92
تساوت به الأقطار حتى كأنه
يجمع أشتات الجبال وينظم
93
وكل فتى للحرب فوق جبينه
من الضرب سطر بالأسنة معجم
94
يمد يديه في المفاضة ضيغم
وعينيه من تحت التريكة أرقم
95
كأجناسها راياتها وشعارها
وما لبسته والسلاح المسمم
96
وأدبها طول القتال فطرفه
يشير إليها من بعيد فتفهم
97
تجاوبه فعلا وما تعرف الوحى
ويسمعها لحظا وما يتكلم
98
تجانف عن ذات اليمين كأنها
ترق لميافارقين وترحم
99
ولو زحمتها بالمناكب زحمة
درت أي سوريها الضعيف المهدم؟
100
على كل طاو تحت طاو كأنه
من الدم يسقى أو من اللحم يطعم
101
لها في الوغى زي الفوارس فوقها
فكل حصان دارع متلثم
102
وما ذاك بخلا بالنفوس على القنا
ولكن صدم الشر بالشر أحزم
103
أتحسب بيض الهند أصلك أصلها
وأنك منها؟ ساء ما تتوهم
104
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا
من التيه في أغمادها تتبسم
105
ولم نر ملكا قط يدعى بدونه
فيرضى ولكن يجهلون وتحلم
106
أخذت على الأعداء كل ثنية
من العيش تعطي من تشاء وتحرم
107
فلا موت إلا من سنانك يتقى
ولا رزق إلا من يمينك يقسم
108
وقال يعاتب سيف الدولة - وأنشدها في محفل من العرب - وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، وأكثر عليه مرة بعد مرة، فقال يعاتبه:
وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
109
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
110
إن كان يجمعنا حب لغرته
فليت أنا بقدر الحب نقتسم
111
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت إليه والسيوف دم
112
فكان أحسن خلق الله كلهم
وكان أحسن ما في الأحسن الشيم
113
فوت العدو الذي يممته ظفر
في طيه أسف في طيه نعم
114
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت
لك المهابة ما لا تصنع البهم
115
ألزمت نفسك شيئا ليس يلزمها
أن لا يواريهم أرض ولا علم
116
أكلما رمت جيشا فانثنى هربا
تصرفت بك في آثاره الهمم؟!
117
عليك هزمهم في كل معترك
وما عليك بهم عار إذا انهزموا
118
أما ترى ظفرا حلوا سوى ظفر
تصافحت فيه بيض الهند واللمم
119
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
120
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
121
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
122
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
123
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
124
وجاهل مده في جهله ضحكي
حتى أتته يد فراسة وفم
125
إذا نظرت نيوب الليث بارزة
فلا تظنن أن الليث مبتسم
126
ومهجة مهجتي من هم صاحبها
أدركتها بجواد ظهره حرم
127
رجلاه في الركض رجل واليدان يد
وفعله ما تريد الكف والقدم
128
ومرهف سرت بين الجحفلين به
حتى ضربت وموج الموت يلتطم
129
فالخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
130
صحبت في الفلوات الوحش منفردا
حتى تعجب مني القور والأكم
131
يا من يعز علينا أن نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
132
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
لو أن أمركم من أمرنا أمم!
133
إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
134
وبيننا - لو رعيتم ذاك - معرفة
إن المعارف في أهل النهى ذمم
135
كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم!
ويكره الله ما تأتون والكرم
136
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي!
أنا الثريا وذان الشيب والهرم
137
ليت الغمام الذي عندي صواعقه
يزيلهن إلى من عنده الديم!
138
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة
لا تستقل بها الوخادة الرسم
139
لئن تركن ضميرا عن ميامننا
ليحدثن لمن ودعتهم ندم
140
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون هم
141
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
142
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم
143
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم؟
144
هذا عتابك إلا أنه مقة
قد ضمن الدر إلا أنه كلم
145
وقال وقد عوفي سيف الدولة مما كان به:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم
146
صحت بصحتك الغارات وابتهجت
بها المكارم وانهلت بها الديم
147
وراجع الشمس نور كان فارقها
كأنما فقده في جسمها سقم
148
ولاح برقك لي من عارضي ملك
ما يسقط الغيث إلا حيث يبتسم
149
يسمى الحسام وليست من مشابهة
وكيف يشتبه المخدوم والخدم؟
150
تفرد العرب في الدنيا بمحتده
وشارك العرب في إحسانه العجم
151
وأخلص الله للإسلام نصرته
وإن تقلب في آلائه الأمم
152
وما أخصك في برء بتهنئة
إذا سلمت فكل الناس قد سلموا
153
وأنفذ شاعر إلى سيف الدولة أبياتا فيها يشكو الفقر، ويذكر أنه رآها في المنام، فقال أبو الطيب:
154
قد سمعنا ما قلت في الأحلام
وأنلناك بدرة في المنام
155
وانتبهنا كما انتبهت بلا شي
ء وكان النوال قدر الكلام
156
كنت فيما كتبته نائم العي
ن فهل كنت نائم الأقلام؟
157
أيها المشتكي إذا رقد الإع
دام لا رقدة مع الإعدام
158
افتح الجفن واترك القول في النو
م وميز خطاب سيف الأنام
159
الذي ليس عنه مغن ولا من
ه بديل ولا لما رام حامي
160
كل آبائه كرام بني الدن
يا ولكنه كريم الكرام
161
وقال يمدحه ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة:
162
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
163
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
164
يكلف سيف الدولة الجيش همه
وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
165
ويطلب عند الناس ما عند نفسه
وذلك ما لا تدعيه الضراغم
166
يفدي أتم الطير عمرا سلاحه
نسور الملا أحداثها والقشاعم
167
وما ضرها خلق بغير مخالب
وقد خلقت أسيافه والقوائم
168
هل الحدث الحمراء تعرف لونها
وتعلم أي الساقيين الغمائم؟
169
سقتها الغمام الغر قبل نزوله
فلما دنا منها سقتها الجماجم
170
بناها فأعلى والقنا تقرع القنا
وموج المنايا حولها متلاطم
171
وكان بها مثل الجنون فأصبحت
ومن جثث القتلى عليها تمائم
172
طريدة دهر ساقها فرددتها
على الدين بالخطي والدهر راغم
173
تفيت الليالي كل شيء أخذته
وهن لما يأخذن منك غوارم
174
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا
مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
175
وكيف ترجي الروم والروس هدمها
وذا الطعن آساس لها ودعائم؟!
176
وقد حاكموها والمنايا حواكم
فما مات مظلوم ولا عاش ظالم
177
أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجياد ما لهن قوائم
178
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والعمائم
179
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمازم
180
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما تفهم الحداث إلا التراجم
181
فلله وقت ذوب الغش ناره
فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
182
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا
وفر من الأبطال من لا يصادم
183
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
184
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
185
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم: أنت بالغيب عالم
186
ضممت جناحيهم على القلب ضمة
تموت الخوافي تحتها والقوادم
187
بضرب أتى الهامات والنصر غائب
وصار إلى اللبات والنصر قادم
188
حقرت الردينيات حتى طرحتها
وحتى كأن السيف للرمح شاتم
189
ومن طلب الفتح الجليل فإنما
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
190
نثرتهم فوق الأحيدب كله
كما نثرت فوق العروس الدراهم
191
تدوس بك الخيل الوكور على الذرا
وقد كثرت حول الوكور المطاعم
192
تظن فراخ الفتخ أنك زرتها
بأماتها وهي العتاق الصلادم
193
إذا زلفت مشيتها ببطونها
كما تتمشى في الصعيد الأراقم
194
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم
قفاه على الإقدام للوجه لائم
195
أينكر ريح الليث حتى يذوقه
وقد عرفت ريح الليوث البهائم؟!
196
وقد فجعته بابنه وابن صهره
وبالصهر حملات الأمير الغواشم
197
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظبا
بما شغلتها هامهم والمعاصم
198
ويفهم صوت المشرفية فيهم
على أن أصوات السيوف أعاجم
199
يسر بما أعطاك لا عن جهالة
ولكن مغنوما نجا منك غانم
200
ولست مليكا هازما لنظيره
ولكنك التوحيد للشرك هازم
201
تشرف عدنان به لا ربيعة
وتفتخر الدنيا به لا العواصم
202
لك الحمد في الدر الذي لي لفظه
فإنك معطيه وإني ناظم
203
وإني لتعدو بي عطاياك في الوغى
فلا أنا مذموم ولا أنت نادم
204
على كل طيار إليها برجله
إذا وقعت في مسمعيه الغماغم
205
ألا أيها السيف الذي ليس مغمدا
ولا فيه مرتاب ولا منه عاصم
206
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا
وراجيك والإسلام أنك سالم
207
ولم لا يقي الرحمن حديك ما وقى
وتفليقه هام العدا بك دائم؟!
208
وقال: وقد ورد فرسان الثغور ومعهم رسول ملك الروم يطلب الهدنة، وأنشده إياها بحضرتهم وقت دخولهم لثلاث عشرة بقين من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة:
أراع كذا كل الملوك همام
وسح له رسل الملوك غمام؟!
209
ودانت له الدنيا فأصبح جالسا
وأيامها فيما يريد قيام؟!
210
إذا زار سيف الدولة الروم غازيا
كفاها لمام لو كفاه لمام
211
فتى تتبع الأزمان في الناس خطوه
لكل زمان في يديه زمام
212
تنام لديك الرسل أمنا وغبطة
وأجفان رب الرسل ليس تنام
213
حذارا لمعروري الجياد فجاءة
إلى الطعن قبلا ما لهن لجام
214
تعطف فيه والأعنة شعرها
وتضرب فيه والسياط كلام
215
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا
إذا لم يكن فوق الكرام كرام
216
إلى كم ترد الرسل عما أتوا له
كأنهم فيما وهبت ملام؟!
217
وإن كنت لا تعطي الذمام طواعة
فعوذ الأعادي بالكريم ذمام
218
وإن نفوسا أممتك منيعة
وإن دماء أملتك حرام
219
إذا خاف ملك من مليك أجرته
وسيفك خافوا والجوار تسام
220
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرق
وحولك بالكتب اللطاف زحام
221
تغر حلاوات النفوس قلوبها
فتختار بعض العيش وهو حمام
222
وشر الحمامين الزؤامين عيشة
يذل الذي يختارها ويضام
223
فلو كان صلحا لم يكن بشفاعة
ولكنه ذل لهم وغرام
224
ومن لفرسان الثغور عليهم
بتبليغهم ما لا يكاد يرام
225
كتائب جاءوا خاضعين فأقدموا
ولو لم يكونوا خاضعين لخاموا
226
وعزت قديما في ذراك خيولهم
وعزوا وعامت في نداك وعاموا
227
على وجهك الميمون في كل غارة
صلاة توالى منهم وسلام
228
وكل أناس يتبعون إمامهم
وأنت لأهل المكرمات إمام
229
ورب جواب عن كتاب بعثته
وعنوانه للناظرين قتام
230
تضيق به البيداء من قبل نشره
وما فض بالبيداء عنه ختام
231
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة
جواد ورمح ذابل وحسام
232
أذا الحرب قد أتعبتها فاله ساعة
ليغمد نصل أو يحل حزام
233
وإن طال أعمار الرماح بهدنة
فإن الذي يعمرن عندك عام
234
وما زلت تفني السمر وهي كثيرة
وتفني بهن الجيش وهو لهام
235
متى عاود الجالون عاودت أرضهم
وفيها رقاب للسيوف وهام
236
وربوا لك الأولاد حتى تصيبها
وقد كعبت بنت وشب غلام
237
جرى معك الجارون حتى إذا انتهوا
إلى الغاية القصوى جريت وقاموا
238
فليس لشمس مذ أنرت إنارة
وليس لبدر مذ تممت تمام
239
وقال يمدحه ويودعه، وقد خرج إلى إقطاع قطعه إياه بناحية معرة النعمان:
أيا راميا يصمي فؤاد مرامه
تربي عداه ريشها لسهامه
240
أسير إلى إقطاعه في ثيابه
على طرفه، من داره، بحسامه
241
وما مطرتنيه من البيض والقنا
وروم العبدى هاطلات غمامه
242
فتى يهب الإقليم بالمال والقرى
ومن فيه من فرسانه وكرامه
243
ويجعل ما خولته من نواله
جزاء لما خولته من كلامه
244
فلا زالت الشمس التي في سمائه
مطالعة الشمس التي في لثامه
245
ولا زال تجتاز البدور بوجهه
تعجب من نقصانها وتمامه
246
وأنشد سيف الدولة متمثلا بقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
247
فقال أبو الطيب مرتجلا:
رأيتك توسع الشعراء نيلا
حديثهم المولد والقديما
248
فتعطي من بقى مالا جسيما
وتعطي من مضى شرفا عظيما
249
سمعتك منشدا بيتي زياد
نشيدا مثل منشده كريما
250
فما أنكرت موضعه ولكن
غبطت بذاك أعظمه الرميما
251
وقال يمدحه، ويذكر إيقاعه بعمرو بن حابس وبني ضبة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ولم ينشده إياها:
ذكر الصبا ومراتع الآرام
جلبت حمامي قبل وقت حمامي
252
دمن تكاثرت الهموم علي في
عرصاتها كتكاثر اللوام
253
فكأن كل سحابة وكفت بها
تبكي بعيني عروة بن حزام
254
ولطالما أفنيت ريق كعابها
فيها وأفنت بالعتاب كلامي
255
قد كنت تهزأ بالفراق مجانة
وتجر ذيلي شرة وعرام
256
ليس القباب على الركاب وإنما
هن الحياة ترحلت بسلام
257
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى
لخفافهن مفاصلي وعظامي!
258
متلاحظين نسح ماء شئوننا
حذرا من الرقباء في الأكمام
259
أرواحنا انهملت وعشنا بعدها
من بعد ما قطرت على الأقدام
260
لو كن يوم جرين كن كصبرنا
عند الرحيل لكن غير سجام
261
لم يتركوا لي صاحبا إلا الأسى
وذميل دعبلة كفحل نعام
262
وتعذر الأحرار صير ظهرها
إلا إليك علي فرج حرام
263
أنت الغريبة في زمان أهله
ولدت مكارمهم لغير تمام
264
أكثرت من بذل النوال ولم تزل
علما على الإفضال والإنعام
265
صغرت كل كبيرة وكبرت عن
لكأنه وعددت سن غلام
266
ورفلت في حلل الثناء وإنما
عدم الثناء نهاية الإعدام
267
عيب عليك ترى بسيف في الوغى
ما يصنع الصمصام بالصمصام
268
إن كان مثلك كان أو هو كائن
فبرئت حينئذ من الإسلام
269
ملك زهت بمكانه أيامه
حتى افتخرن به على الأيام
270
وتخاله سلب الورى أحلامهم
من حلمه فهم بلا أحلام
271
وإذا امتحنت تكشفت عزماته
عن أوحدي النقض والإبرام
272
وإذا سألت بنانه عن نيله
لم يرض بالدنيا قضاء ذمام
273
مهلا ألا لله ما صنع القنا
في عمرو حاب وضبة الأغتام!
274
لما تحكمت الأسنة فيهم
جارت وهن يجرن في الأحكام
275
فتركتهم خلل البيوت كأنما
غضبت رءوسهمو على الأجسام
276
أحجار ناس فوق أرض من دم
ونجوم بيض في سماء قتام
277
وذراع كل أبي فلان كنية
حالت فصاحبها أبو الأيتام
278
عهدي بمعركة الأمير وخيله
في النقع محجمة عن الإحجام
279
يا سيف دولة هاشم من رام أن
يلقى منالك رام غير مرام
280
صلى الإله عليك غير مودع
وسقى ثرى أبويك صوب غمام
281
وكساك ثوب مهابة من عنده
وأراك وجه شقيقك القمقام
282
فلقد رمى بلد العدو بنفسه
في روق أرعن كالغطم لهام
283
قوم تفرست المنايا فيكم
فرأت لكم في الحرب صبر كرام
284
تالله ما علم امرؤ لولاكم
كيف السخاء وكيف ضرب الهام
285
وقال، وقد تحدث بحضرة سيف الدولة أن البطريق أقسم عند ملكه أنه يعارض سيف الدولة في الدرب، وسأله أن ينجده ببطارقته وعدده وعدده، ففعل، فخاب ظنه. أنشده إياها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وهي آخر ما أنشده بحلب:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
ماذا يزيدك في إقدامك القسم؟
286
وفي اليمين على ما أنت واعده
ما دل أنك في الميعاد متهم
287
آلى الفتى ابن شمشقيق فأحنثه
فتى من الضرب تنسى عنده الكلم
288
وفاعل ما اشتهى يغنيه عن حلف
على الفعال حضور الفعل والكرم
289
كل السيوف إذا طال الضراب بها
يمسها غير سيف الدولة السأم
290
لو كلت الخيل حتى لا تحمله
تحملته إلى أعدائه الهمم
291
أين البطاريق والحلف الذي حلفوا
بمفرق الملك والزعم الذي زعموا؟
292
ولى صوارمه إكذاب قولهم
فهن ألسنة أفواهها القمم
293
نواطق مخبرات في جماجمهم
عنه بما جهلوا منه وما علموا
294
الراجع الخيل محفاة مقودة
من كل مثل وبار أهلها إرم
295
كتل بطريق المغرور ساكنها
بأن دارك قنسرين والأجم
296
وظنهم أنك المصباح في حلب
إذا قصدت سواها عادها الظلم
297
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا
والموت يدعون إلا أنهم وهموا
298
فلم تتم سروج فتح ناظرها
إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
299
والنقع يأخذ حرانا وبقعتها
والشمس تسفر أحيانا وتلتثم
300
سحب تمر بحصن الران ممسكة
وما بها البخل لولا أنها نقم
301
جيش كأنك في أرض تطاوله
فالأرض لا أمم والجيش لا أمم
302
إذا مضى علم منها بدا علم
وإن مضى علم منه بدا علم
303
وشزب أحمت الشعرى شكائمها
ووسمتها على آنافها الحكم
304
حتى وردن بسمنين بحيرتها
تنش بالماء في أشداقها اللجم
305
وأصبحت بقرى هنزيط جائلة
ترعى الظبا في خصيب نبته اللمم
306
فما تركن بها خلدا له بصر
تحت التراب ولا بازا له قدم
307
ولا هزبرا له من درعه لبد
ولا مهاة لها من شبهها حشم
308
ترمي على شفرات الباترات بهم
مكامن الأرض والغيطان والأكم
309
وجاوزوا أرسناسا معصمين به
وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم؟!
310
وما يصدك عن بحر لهم سعة
وما يردك عن طود لهم شمم
311
ضربته بصدور الخيل حاملة
قوما إذا تلفوا قدما فقد سلموا
312
تجفل الموج عن لبات خيلهم
كما تجفل تحت الغارة النعم
313
عبرت تقدمهم فيه وفي بلد
سكانه رمم مسكونها حمم
314
وفي أكفهم النار التي عبدت
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
315
هندية إن تصغر معشرا صغروا
بحدها أو تعظم معشرا عظموا
316
قاسمتها تل بطريق فكان لها
أبطالها ولك الأطفال والحرم
317
تلقى بهم زبد التيار مقربة
على جحافلها من نضحه رثم
318
دهم فوارسها ركاب أبطنها
مكدودة بقوم لا بها الألم
319
من الجياد التي كدت العدو بها
وما لها خلق منها ولا شيم
320
نتاج رأيك في وقت على عجل
كلفظ حرف وعاه سامع فهم
321
وقد تمنوا غداة الدرب في لجب
أن يبصروك فلما أبصروك عموا
322
صدمتهم بخميس أنت غرته
وسمهريته في وجهه غمم
323
فكان أثبت ما فيهم جسومهم
يسقطن حولك والأرواح تنهزم
324
والأعوجية ملء الطرق خلفهم
والمشرفية ملء اليوم فوقهم
325
إذا توافقت الضربات صاعدة
توافقت قلل في الجو تصطدم
326
وأسلم ابن شمشقيق أليته
ألا انثنى فهو ينأى وهي تبتسم
327
لا يأمل النفس الأقصى لمهجته
فيسرق النفس الأدنى ويغتنم
328
ترد عنه قنا الفرسان سابغة
صوب الأسنة في أثنائها ديم
329
تخط فيها العوالي ليس تنفذها
كأن كل سنان فوقها قلم
330
فلا سقى الغيث ما واراه من شجر
لو زل عنه لوارت شخصه الرخم
331
ألهى الممالك عن فخر قفلت به
شرب المدامة والأوتار والنغم
332
مقلدا فوق شكر الله ذا شطب
لا تستدام بأمضى منهما النعم
333
ألقت إليك دماء الروم طاعتها
فلو دعوت بلا ضرب أجاب دم
334
يسابق القتل فيهم كل حادثة
فما يصيبهم موت ولا هرم
335
نفت رقاد علي عن محاجره
نفس يفرج نفسا غيرها الحلم
336
القائم الملك الهادي الذي شهدت
قيامه وهداه العرب والعجم
337
ابن المعفر في نجد فوارسها
بسيفه وله كوفان والحرم
338
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا
339
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
340
وقال يمدح إنسانا، وأراد أن يستكشفه عن مذهبه، وهي من قوله في صباه:
كفي أراني ويك لومك ألوما
هم أقام على فؤاد أنجما
341
وخيال جسم لم يخل له الهوى
لحما فينحله السقام ولا دما
342
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه
يا جنتي لظننت فيه جهنما
343
وإذا سحابة صد حب أبرقت
تركت حلاوة كل حب علقما
344
يا وجه داهية الذي لولاك ما
أكل الضنى جسدي ورض الأعظما
345
إن كان أغناها السلو فإنني
أصبحت من كبدي ومنها معدما
346
غصن على نقوي فلاة نابت
شمس النهار تقل ليلا مظلما
347
لم تجمع الأضداد في متشابه
إلا لتجعلني لغرمي مغنما
348
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي
بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
349
يعطيك مبتدرا فإن أعجلته
أعطاك معتذرا كمن قد أجرما
350
ويرى التعظم أن يرى متواضعا
ويرى التواضع أن يرى متعظما
351
نصر الفعال على المطال كأنما
خال السؤال على النوال محرما
352
يا أيها الملك المصفى جوهرا
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
353
نور تظاهر فيك لاهوتية
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
354
ويهم فيك إذا نطقت فصاحة
من كل عضو منك أن يتكلما
355
أنا مبصر وأظن أني نائم
من كان يحلم بالإله فأحلما؟!
356
كبر العيان علي حتى إنه
صار اليقين من العيان توهما
357
يا من لجود يديه في أمواله
نقم تعود على اليتامى أنعما
358
حتى يقول الناس: ما ذا عاقلا
ويقول بيت المال: ما ذا مسلما
359
إذكار مثلك ترك إذكاري له
إذ لا تريد لما أريد مترجما
360
وقال في صباه:
إلى أي حين أنت في زي محرم؟
وحتى متى في شقوة وإلى كم؟
361
وإلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت وتقاس الذل غير مكرم
362
فثب واثقا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
363
وقال في صباه:
ضيف ألم برأسي غير محتشم
والسيف أحسن فعلا منه باللمم
364
إبعد بعدت بياضا لا بياض له
لأنت أسود في عيني من الظلم
365
بحب قاتلتي والشيب تغذيتي
هواي طفلا وشيبي بالغ الحلم
366
فما أمر برسم لا أسائله
ولا بذات خمار لا تريق دمي
367
تنفست عن وفاء غير منصدع
يوم الرحيل وشعب غير ملتئم
368
قبلتها ودموعي مزج أدمعها
وقبلتني على خوف فما لفم
369
فذقت ماء حياة من مقبلها
لو صاب تربا لأحيا سالف الأمم
370
ترنو إلي بعين الظبي مجهشة
وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
371
رويد حكمك فينا غير منصفة
بالناس كلهم أفديك من حكم
372
أبديت مثل الذي أبديت من جزع
ولم تجني الذي أجننت من ألم
373
إذن لبزك ثوب الحسن أصغره
وصرت مثلي في ثوبين من سقم
374
ليس التعلل بالآمال من أربي
ولا القناعة بالإقلال من شيمي
375
ولا أظن بنات الدهر تتركني
حتى تسد عليها طرقها هممي
376
لم الليالي التي أخنت على جدتي
برقة الحال واعذرني ولا تلم
377
أرى أناسا ومحصولي على غنم
وذكر جود ومحصولي على الكلم
378
ورب مال فقيرا من مروته
لم يثر منها كما أثرى من العدم
379
سيصحب النصل مني مثل مضربه
وينجلي خبري عن صمة الصمم
380
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
381
لأتركن وجوه الخيل ساهمة
والحرب أقوم من ساق على قدم
382
والطعن يحرقها والزجر يقلقها
حتى كأن بها ضربا من اللمم
383
قد كلمتها العوالي فهي كالحة
كأنما الصاب معصوب على اللجم
384
بكل منصلت ما زال منتظري
حتى أدلت له من دولة الخدم
385
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحل دم الحجاج في الحرم
386
وكلما نطحت تحت العجاج به
أسد الكتائب رامته ولم يرم
387
تنسي البلاد بروق الجو بارقتي
وتكتفي بالدم الجاري عن الديم
388
ردي حياض الردى يا نفس واتركي
حياض خوف الردى للشاء والنعم
389
إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
390
أيملك الملك والأسياف ظامئة
والطير جائعة لحم على وضم؟!
391
من لو رآني ماء مات من ظمأ
ولو مثلت له في النوم لم ينم
392
ميعاد كل رقيق الشفرتين غدا
ومن عصى من ملوك العرب والعجم
393
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم
وإن تولوا فما أرضى لها بهم
394
وعذله أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي، على ما كان قد شاهده من تهوره فقال:
395
أبا عبد الإله معاذ إني
خفي عنك في الهيجا مقامي
396
ذكرت جسيم ما طلبي وأنا
نخاطر فيه بالمهج الجسام
397
أمثلي تأخذ النكبات منه
ويجزع من ملاقاة الحمام
398
ولو برز الزمان إلي شخصا
لخضب شعر مفرقه حسامي
399
وما بلغت مشيئتها الليالي
ولا سارت وفي يدها زمامي
400
إذا امتلأت عيون الخيل مني
فويل في التيقظ والمنام!
401
وقال له بعض بني كلاب: أشرب هذه الكأس سرورا بك، فقال:
إذا ما شربت الخمر صرفا مهنأ
شربنا الذي من مثله شرب الكرم
402
ألا حبذا قوم نداماهم القنا
يسقونها ريا وساقيهم العزم
403
وقال وقد مد له إنسان يده بكأس وحلف بالطلاق ليشربنها:
وأخ لنا بعث الطلاق ألية
لأعللن بهذه الخرطوم
404
فجعلت ردي عرسه كفارة
عن شربها وشربت غير أثيم
405
وقال يمدح الحسين بن إسحق التنوخي:
ملامي النوى في ظلمها غاية الظلم
لعل بها مثل الذي بي من السقم
406
فلو لم تغر لم تزو عني لقاءكم
ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
407
أمنعمة بالعودة الظبية التي
بغير ولي كان نائلها الوسمي
408
ترشفت فاها سحرة فكأنني
ترشفت حر الوجد من بارد الظلم
409
فتاة تساوى عقدها وكلامها
ومبسمها الدري في الحسن والنظم
410
ونكهتها والمندلي وقرقف
معتقة صهباء في الريح والطعم
411
جفتني كأني لست أنطق قومها
وأطعنهم والشهب في صورة الدهم
412
يحاذرني حتفي كأني حتفه
وتنكزني الأفعى فيقتلها سمي
413
طوال الردينيات يقصفها دمي
وبيض السريجيات يقطعها لحمي
414
برتني السرى بري المدى فرددنني
أخف على المركوب من نفسي جرمي
415
وأبصر من زرقاء جو لأنني
إذا نظرت عيناي ساواهما علمي
416
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها
كأني بنى الإسكندر السد من عزمي
417
لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه
فأبدع حتى جل عن دقة الفهم
418
وأسمع من ألفاظه اللغة التي
يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
419
يمين بني قحطان رأس قضاعة
وعرنينها بدر النجوم بني فهم
420
إذا بيت الأعداء كان استماعهم
صرير العوالي قبل قعقعة اللجم
421
مذل الأعزاء المعز وإن يئن
به يتمهم فالموتم الجابر اليتم
422
وإن تمس داء في القلوب قناته
فممسكها منه الشفاء من العدم
423
مقلد طاغي الشفرتين محكم
على الهام إلا أنه جائر الحكم
424
تحرج عن حقن الدماء كأنه
يرى قتل نفس ترك رأس على جسم
425
وجدنا ابن إسحاق الحسين كجده
على كثرة القتلى بريئا من الإثم
426
مع الحزم حتى لو تعمد تركه
لألحقه تضييعه الحزم بالحزم
427
وفي الحرب حتى لو أراد تأخرا
لأخره الطبع الكريم إلى القدم
428
له رحمة تحيي العظام وغضبة
بها فضلة للجرم عن صاحب الجرم
429
ورقة وجه لو ختمت بنظرة
على وجنتيه ما انمحى أثر الختم
430
أذاق الغواني حسنه ما أذقنني
وعف فجازاهن عني على الصرم
431
فدى من على الغبراء أولهم أنا
لهذا الأبي الماجد الجائد القرم
432
لقد حال بين الجن والأمن سيفه
فما الظن بعد الجن بالعرب والعجم
433
وأرهب حتى لو تأمل درعه
جرت جزعا من غير نار ولا فحم
434
وجاد فلولا جوده غير شارب
لقلنا: كريم هيجته ابنة الكرم
435
أطعناك طوع الدهر يا ابن ابن يوسف
لشهوتنا، والحاسدو لك بالرغم
436
وثقنا بأن تعطي فلو لم تجد لنا
لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم
437
دعيت بتقريظيك في كل مجلس
وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي
438
وأطمعتني في نيل ما لا أناله
بما نلت حتى صرت أطمع في النجم
439
إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني
فكل ذهبا لي مرة منه بالكلم
440
أبت لك ذمي نخوة يمنية
ونفس بها في مأزق أبدا ترمي
441
فكم قائل: لو كان ذا الشخص نفسه
لكان قراه مكمن العسكر الدهم!
442
وقائلة - والأرض أعني تعجبا:
علي امرؤ يمشي بوقري من الحلم!
443
عظمت فلما لم تكلم مهابة
تواضعت وهو العظم عظما عن العظم
444
وقال يمدح علي بن إبراهيم التنوخي:
أحق عاف بدمعك الهمم
أحدث شيء عهدا بها القدم
445
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
446
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
447
بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم
448
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يبرى بظفره القلم
449
إني وإن لمت حاسدي فما
أنكر أني عقوبة لهم
450
وكيف لا يحسد امرؤ علم
له على كل هامة قدم؟!
451
يهابه أبسأ الرجال به
وتتقي حد سيفه البهم
452
كفاني الذم أنني رجل
أكرم مال ملكته الكرم
453
يجني الغنى للئام لو عقلوا
ما ليس يجني عليهم العدم
454
هم لأموالهم ولسن لهم
والعار يبقى والجرح يلتئم
455
من طلب المجد فليكن كعلي
ي يهب الألف وهو يبتسم
456
ويطعن الخيل كل نافذة
ليس لها من وحائها ألم
457
ويعرف الأمر قبل موقعه
فما له بعد فعله ندم
458
والأمر والنهي والسلاهب وال
بيض له والعبيد والحشم
459
والسطوات التي سمعت بها
تكاد منها الجبال تنفصم
460
يرعيك سمعا فيه استماع إلى الد
داعي وفيه عن الخنا صمم
461
يريك من خلقه غرائبه
في مجده كيف تخلق النسم
462
ملت إلى من يكاد بينكما
إن كنتما السائلين ينقسم
463
من بعد ما صيغ من مواهبه
لمن أحب الشنوف والخدم
464
ما بذلت ما به يجود يد
ولا تهدى لما يقول فم
465
بنو العفرنى محطة الأسد ال
أسد ولكن رماحها الأجم
466
قوم بلوغ الغلام عندهم
طعن نحور الكماة لا الحلم
467
كأنما يولد الندى معهم
لا صغر عاذر ولا هرم
468
إذا تولوا عداوة كشفوا
وإن تولوا صنيعة كتموا
469
تظن من فقدك اعتدادهم
أنهم أنعموا وما علموا
470
إن برقوا فالحتوف حاضرة
أو نطقوا فالصواب والحكم
471
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا
فقولهم: «خاب سائلي» القسم
472
أو ركبوا الخيل غير مسرجة
فإن أفخاذهم لها حزم
473
أو شهدوا الحرب لاقحا أخذوا
من مهج الدارعين ما احتكموا
474
تشرق أعراضهم وأوجههم
كأنها في نفوسهم شيم
475
لولاك لم أترك البحيرة وال
غور دفيء وماؤها شبم
476
والموج مثل الفحول مزبدة
تهدر فيها وما بها قطم
477
والطير فوق الحباب تحسبها
فرسان بلق تخونها اللجم
478
كأنها والرياح تضربها
جيشا وغى هازم ومنهزم
479
كأنها في نهارها قمر
حف به من جنانها ظلم
480
ناعمة الجسم لا عظام لها
لها بنات وما لها رخم
481
يبقر عنهن بطنها أبدا
وما تشكى ولا يسيل دم
482
تغنت الطير في جوانبها
وجادت الأرض حولها الديم
483
فهي كماوية مطوقة
جرد عنها غشاؤها الأدم
484
يشينها جريها على بلد
تشينه الأدعياء والقزم
485
أبا الحسين استمع فمدحكم
في الفعل قبل الكلام منتظم
486
وقد توالى العهاد منه لكم
وجادت المطرة التي تسم
487
أعيذكم من صروف دهركم
فإنه في الكرام متهم
488
وقال يمدح المغيث بن العجلي:
فؤاد ما تسليه المدام
وعمر مثل ما تهب اللئام
489
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضخام
490
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
491
أرانب غير أنهم ملوك
مفتحة عيونهم نيام
492
بأجسام يحر القتل فيها
وما أقرانها إلا الطعام
493
وخيل ما يخر لها طعين
كأن قنا فوارسها ثمام
494
خليلك أنت لا من قلت: خلي
وإن كثر التجمل والكلام
495
ولو حيز الحفاظ بغير عقل
تجنب عنق صيقله الحسام
496
وشبه الشيء منجذب إليه
وأشبهنا بدنيانا الطغام
497
ولو لم يعل إلا ذو محل
تعالى الجيش وانحط القتام
498
ولو لم يرع إلا مستحق
لرتبته أسامهم المسام
499
ومن خبر الغواني فالغواني
ضياء في بواطنه ظلام
500
إذا كان الشباب السكر والشي
ب هما فالحياة هي الحمام
501
وما كل بمعذور ببخل
ولا كل على بخل يلام
502
ولم أر مثل جيراني ومثلي
لمثلي عند مثلهم مقام
503
بأرض ما اشتهيت رأيت فيها
فليس يفوتها إلا الكرام
504
فهلا كان نقص الأهل فيها
وكان لأهلها منها التمام؟
505
بها الجبلان من صخر وفخر
أنافا: ذا المغيث وذا اللكام
506
وليست من مواطنه ولكن
يمر بها كما مر الغمام
507
سقى الله ابن منجبة سقاني
بدر ما لراضعه فطام
508
ومن إحدى فوائده العطايا
ومن إحدى عطاياه الدوام
509
وقد خفي الزمان به علينا
كسلك الدر يخفيه النظام
510
تلذ له المروءة وهي تؤذي
ومن يعشق يلذ له الغرام
511
تعلقها هوى قيس لليلى
وواصلها فليس به سقام
512
يروع ركانة ويذوب ظرفا
فما ندرى أشيخ أم غلام؟
513
وتملكه المسائل في نداه
وأما في الجدال فلا يرام
514
وقبض نواله شرف وعز
وقبض نوال بعض القوم ذام
515
أقامت في الرقاب له أياد
هي الأطواق والناس الحمام
516
إذا عد الكرام فتلك عجل
كما الأنواء حين تعد عام
517
تقي جبهاتهم ما في ذراهم
إذا بشفارها حمي اللطام
518
ولو يممتهم في الحشر تجدو
لأعطوك الذي صلوا وصاموا
519
فإن حلموا فإن الخيل فيهم
خفاف والرماح بها عرام
520
وعندهم الجفان مكللات
وشزر الطعن والضرب التؤام
521
نصرعهم بأعيننا حياء
وتنبو عن وجوههم السهام
522
قبيل يحملون من المعالي
كما حملت من الجسد العظام
523
قبيل أنت أنت وأنت منهم
وجدك بشر الملك الهمام
524
لمن مال تمزقه العطايا
ويشرك في رغائبه الأنام؟!
ولا ندعوك صاحبه فترضى
لأن بصحبة يجب الذمام
525
تحايده كأنك سامري
تصافحه يد فيها جذام
526
إذا ما العالمون عروك قالوا:
أفدنا أيها الحبر الإمام
527
إذا ما المعلمون رأوك قالوا:
بهذا يعلم الجيش اللهام
528
لقد حسنت بك الأوقات حتى
كأنك في فم الدهر ابتسام
529
وأعطيت الذي لم يعط خلق
عليك صلاة ربك والسلام
وقال يمدح عمر بن سليمان الشرابي وهو يومئذ يتولى الفداء بين العرب والروم:
نرى عظما بالبين والصد أعظم
ونتهم الواشين والدمع منهم
530
ومن لبه مع غيره كيف حاله؟!
ومن سره في جفنه كيف يكتم؟!
531
ولما التقينا والنوى ورقيبنا
غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
532
فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها
ولم تر قبلي ميتا يتكلم
ظلوم كمتنيها لصب كخصرها
ضعيف القوى من فعلها يتظلم
533
بفرع يعيد الليل والصبح نير
ووجه يعيد الصبح والليل مظلم
534
فلو كان قلبي دارها كان خاليا
ولكن جيش الشوق فيه عرمرم
535
أثاف بها ما بالفؤاد من الصلى
ورسم كجسمي ناحل متهدم
536
بللت بها ردني والغيم مسعدي
وعبرته صرف وفي عبرتي دم
537
ولو لم يكن ما انهل في الخد من دمي
لما كان محمرا يسيل فأسقم
538
بنفسي الخيال الزائري بعد هجعة
وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم؟!
539
سلام فلولا الخوف والبخل عنده
لقلت: أبو حفص علينا المسلم
540
محب الندى الصابي إلى بذل ماله
صبوا كما يصبو المحب المتيم
541
وأقسم لولا أن في كل شعرة
له ضيغما قلنا له: أنت ضيغم
542
أننقصه من حظه وهو زائد
ونبخسه والبخس شيء محرم؟!
543
يجل عن التشبيه لا الكف لجة
ولا هو ضرغام ولا الرأي مخذم
544
ولا جرحه يؤسى ولا غوره يرى
ولا حده ينبو ولا يتثلم
545
ولا يبرم الأمر الذي هو حالل
ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم
546
ولا يرمح الأذيال من جبرية
ولا يخدم الدنيا وإياه تخدم
547
ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته
ولا تسلم الأعداء منه ويسلم
548
ألذ من الصهباء بالماء ذكره
وأحسن من يسر تلقاه معدم
549
وأغرب من عنقاء في الطير شكله
وأعوز من مسترفد منه يحرم
550
وأكثر من بعد الأيادي أياديا
من القطر بعد القطر والوبل مثجم
551
سني العطايا لو رأى نوم عينه
من اللؤم آلى أنه لا يهوم
552
ولو قال: هاتوا درهما لم أجد به
على سائل أعيا على الناس درهم
553
ولو ضر مرءا قبله ما يسره
لأثر فيه بأسه والتكرم
554
يروي بكالفرصاد في كل غارة
يتامى من الأغماد تنضى فتوتم
555
إلى اليوم ما حط الفداء سروجه
مذ الغزو سار مسرج الخيل ملجم
556
يشق بلاد الروم والنقع أبلق
بأسيافه والجو بالنقع أدهم
557
إلى الملك الطاغي فكم من كتيبة
تساير منه حتفها وهي تعلم!
558
ومن عاتق نصرانة برزت له
أسيلة خد عن قريب ستلطم!
559
صفوفا لليث في ليوث حصونها
متون المذاكي والوشيج المقوم
560
تغيب المنايا عنهم وهو غائب
وتقدم في ساحاتهم حين يقدم
561
أجدك ما تنفك عان تفكه
عم بن سليمان ومال تقسم
562
مكافيك من أوليت دين رسوله
يدا لا تؤدي شكرها اليد والفم
563
على مهل إن كنت لست براحم
لنفسك من جود فإنك ترحم
564
محلك مقصود وشانيك مفحم
ومثلك مفقود ونيلك خضرم
565
وزارك بي دون الملوك تحرجي
إذا عن بحر لم يجز لي التيمم
566
فعش لو فدى المملوك ربا بنفسه
من الموت لم تفقد وفي الأرض مسلم
567
واجتاز بمكان يعرف بالفراديس من أرض قنسرين فسمع زئير الأسد، فقال:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم
فتسكن نفسي أم مهان فمسلم؟
568
ورائي وقدامي عداة كثيرة
أحاذر من لص ومنك ومنهم
569
فهل لك في حلفي على ما أريده؟
فإني بأسباب المعيشة أعلم
570
إذن لأتاك الخير من كل وجهة
وأثريت مما تغنمين وأغنم
571
وقال في لعبة كانت تدور فسقطت عند بدر بن عمار:
ما نقلت في مشيئة قدما
ولا اشتكت من دوارها ألما
572
لم أر شخصا من قبل رؤيتها
يفعل أفعالها وما عزما
فلا تلمها على تواقعها
أطربها أن رأتك مبتسما
573
وخرج أبو الطيب إلى جبل حرس، فنزل بأبي الحسين علي بن أحد المري الخراساني، وكان بينهما مودة بطبرية، فقال يمدحه:
لا افتخار إلا لمن لا يضام
مدرك أو محارب لا ينام
574
ليس عزما ما مرض المرء فيه
ليس هما ما عاق عنه الظلام
575
واحتمال الأذى ورؤية جاني
ه غذاء تضوى به الأجسام
576
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
577
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
578
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام
579
ضاق ذرعا بأن أضيق به ذر
عا زماني واستكرمتني الكرام
580
واقفا تحت أخمصي قدر نفسي
واقفا تحت أخمصي الأنام
581
أقرارا ألذ فوق شرار
ومراما أبغي وظلمي يرام؟!
دون أن يشرق الحجاز ونجد
والعراقان بالقنا والشآم
شرق الجو بالغبار إذا سا
ر علي بن أحمد القمقام
582
الأديب المهذب الأصيد الضر
ب الذكي الجعد السري الهمام
583
والذي ريب دهره من أسارا
ه ومن حاسدي يديه الغمام
584
يتداوى من كثرة المال بالإق
لال جودا كأن مالا سقام
585
حسن في عيون أعدائه أق
بح من ضيفه رأته السوام
586
لو حمى سيدا من الموت حام
لحماك الإجلال والإعظام
587
وعوار لوامع دينها الحل
ل ولكن زيها الإحرام
588
كتبت في صحائف المجد: بسم
ثم قيس وبعد قيس السلام
589
إنما مرة بن عوف بن سعد
لجمرات لا تشتهيها النعام
590
ليلها صبحها من النار والإص
باح ليل من الدخان تمام
591
همم بلغتكم رتبات
قصرت عن بلوغها الأوهام
ونفوس إذا انبرت لقتال
نفدت قبل ينفد الإقدام
592
وقلوب موطنات على الرو
ع كأن اقتحامها استسلام
593
قائدو كل شطبة وحصان
قد براها الإسراج والإلجام
594
يتعثرن بالرءوس كما مر
ر بتاءات نطقه التمتام
595
طال غشيانك الكرائه حتى
قال فيك الذي أقول الحسام
596
وكفتك الصفائح الناس حتى
قد كفتك الصفائح الأقلام
597
وكفتك التجارب الفكر حتى
قد كفاك التجارب الإلهام
598
فارس يشتري برازك للفخ
ر بقتل معجل لا يلام
599
نائل منك نظرة ساقه الفق
ر عليه لفقره إنعام
600
خير أعضائنا الرءوس ولكن
فضلتها بقصدك الأقدام
601
قد لعمري أقصرت عنك وللوف
د ازدحام وللعطايا ازدحام
602
خفت إن صرت في يمينك أن تأ
خذني في هباتك الأقوام
603
ومن الرشد لم أزرك على القر
ب، على البعد يعرف الإلمام
604
ومن الخير بطء سيبك عني
أسرع السحب في المسير الجهام
605
قل فكم من جواهر بنظام
ودها أنها بفيك كلام!
606
هابك الليل والنهار فلو تن
هاهما لم تجز بك الأيام
607
حسبك الله ما تضل عن الحق
ق وما يهتدي إليك أثام
608
لم لا تحذر العواقب في غي
ر الدنايا أما عليك حرام؟!
609
كم حبيب لا عذر في اللوم فيه
لك فيه من التقى لوام!
610
رفعت قدرك النزاهة عنه
وثنت قلبك المساعي الجسام
611
إن بعضا من القريض هذاء
ليس شيئا وبعضه أحكام
612
منه ما يجلب البراعة والفض
ل ومنه ما يجلب البرسام
613
وورد على أبي الطيب كتاب من جدته لأمه تشكو شوقها إليه وطول غيبته عنها، فتوجه نحو العراق، ولم يمكنه وصول الكوفة على حالته تلك، فانحدر إلى بغداد، وكانت جدته قد يئست منه، فكتب إليها كتابا يسألها المسير إليه، فقبلت كتابه، وحمت لوقتها سرورا به، وغلب الفرح على قبلها فقتلها، فقال يرثيها:
ألا لا أري الأحداث حمدا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولا كفها حلما
614
إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى
يعود كما أبدي ويكري كما أرمى
615
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غير ملحقها وصما
616
أحن إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضما
617
بكيت عليها خيفة في حياتها
وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
618
ولو قتل الهجر المحبين كلهم
مضى بلد باق أجدت له صرما
619
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا
فلما دهتني لم تزدني بها علما
620
منافعها ما ضر في نفع غيرها
تغذى وتروى أن تجوع وأن تظما
621
أتاها كتابي بعد يأس وترحة
فماتت سرورا بي فمت بها غما
622
حرام على قلبي السرور فإنني
أعد الذي ماتت به بعدها سما
623
تعجب من خطي ولفظي كأنها
ترى بحروف السطر أغربة عصما
624
وتلثمه حتى أصار مداده
محاجر عينيها وأنيابها سحما
625
رقا دمعها الجاري وجفت جفونها
وفارق حبي قلبها بعد ما أدمى
626
ولم يسلها إلا المنايا وإنما
أشد من السقم الذي أذهب السقما
627
طلبت لها حظا ففاتت وفاتني
وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما
628
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها
وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
629
وكنت قبيل الموت أستعظم النوى
فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى
630
هبيني أخذت الثأر فيك من العدا
فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى؟!
631
وما انسدت الدنيا علي لضيقها
ولكن طرفا لا أراك به أعمى
632
فوا أسفا أن لا أكب مقبلا
لرأسك والصدر اللذي ملئا حزما
633
وأن لا ألاقي روحك الطيب الذي
كأن ذكي المسك كان له جسما
634
ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما
635
لئن لذ يوم الشامتين بيومها
فقد ولدت مني لأنفهم رغما
636
تغرب لا مستعظما غير نفسه
ولا قابلا إلا لخالقه حكما
637
ولا سالكا إلا فؤاد عجاجة
ولا واجدا إلا لمكرمة طعما
638
يقولون لي: ما أنت في كل بلدة؟
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
639
كأن بنيهم عالمون بأنني
جلوب إليهم من معادنه اليتما
640
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
641
ولكنني مستنصر بذبابه
ومرتكب في كل حال به الغشما
642
وجاعله يوم اللقاء تحيتي
وإلا فلست السيد البطل القرما
643
إذا فل عزمي عن مدى خوف بعده
فأبعد شيء ممكن لم يجد عزما
644
وإني لمن قوم كأن نفوسنا
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
645
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
646
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني
ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما
647
وقال يمدح الأمير أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة، وكان أبو محمد قد كثرت مراسلته إلى أبي الطيب من الرملة، فسار إليه، فلما دخل الرملة أكرمه أبو محمد فمدحه بهذه القصيدة:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم
علمت بما بي بين تلك المعالم
648
ولكنني مما شدهت متيم
كسال وقلبي بائح مثل كاتم
649
وقفنا كأنا كل وجد قلوبنا
تمكن من أذوادنا في القوائم
650
ودسنا بأخفاف المطي ترابها
فلا زلت أستشفي بلثم المناسم
651
ديار اللواتي دارهن عزيزة
بطول القنا يحفظن لا بالتمائم
652
حسان التثني ينقش الوشي مثله
إذا مسن في أجسامهن النواعم
653
ويبسمن عن در تقلدن مثله
كأن التراقي وشحت بالمباسم
654
فما لي وللدنيا طلابي نجومها
ومسعاي منها في شدوق الأراقم؟!
655
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه
إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم
656
وأن ترد الماء الذي شطره دم
فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم
657
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير راحم
فليس بمرحوم إذا ظفروا به
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
658
إذا صلت لم أترك مصالا لصائل
وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
659
وإلا فخانتني القوافي وعاقني
عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
660
عن المقتني بذل التلاد تلاده
ومجتنب البخل اجتناب المحارم
661
تمنى أعاديه محل عفاته
وتحسد كفيه ثقال الغمائم
662
ولا يتلقى الحرب إلا بمهجة
معظمة مذخورة للعظائم
663
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه
بناج ولا الوحش المثار بسالم
664
تمر عليه الشمس وهي ضعيفة
تطالعه من بين ريش القشاعم
665
إذا ضوءها لاقى من الطير فرجة
تدور فوق البيض مثل الدراهم
666
ويخفى عليك البرق والرعد فوقه
من اللمع في حافاته والهماهم
667
أرى دون ما بين الفرات وبرقة
ضرابا يمشي الخيل فوق الجماجم
668
وطعن غطاريف كأن أكفهم
عرفن الردينيات قبل المعاصم
669
حمته على الأعداء من كل جانب
سيوف بني طغج بن جف القماقم
670
هم المحسنون الكر في حومة الوغى
وأحسن منه كرهم في المكارم
671
وهم يحسنون العفو عن كل مذنب
ويحتملون الغرم عن كل غارم
672
حييون إلا أنهم في نزالهم
أقل حياء من شفار الصوارم
673
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم
ولكنها معدودة في البهائم
674
سرى النوم عني في سراي إلى الذي
صنائعه تسري إلى كل نائم
675
إلى مطلق الأسرى ومخترم العدا
ومشكي ذوي الشكوى ورغم المراغم
676
كريم نفضت الناس لما بلغته
كأنهم ما جف من زاد قادم
677
وكاد سروري لا يفي بندامتي
على تركه في عمري المتقادم
678
وفارقت شر الأرض أهلا وتربة
بها علوي جده غير هاشم
679
بلى الله حساد الأمير بحلمه
وأجلسه منهم مكان العمائم
680
فإن لهم في سرعة الموت راحة
وإن لهم في العيش حز الغلاصم
681
كأنك ما جاودت من بان جوده
عليك ولا قاتلت من لم تقاوم
682
وأقسم عليه أبو محمد أن يشرب فأخذ الكأس، وقال ارتجالا:
حييت من قسم وأفدي المقسما
أمسى الأنام له مجلا معظما
683
وإذا طلبت رضا الأمير بشربها
وأخذتها فلقد تركت الأحرما
684
وحدث أبو محمد عن مسيرهم في الليل لكبس بادية وأن المطر أصابهم، فقال:
غير مستنكر لك الإقدام
فلمن ذا الحديث والإعلام؟!
قد علمنا من قبل أنك من لم
يمنع الليل همه والغمام
685
وقال، وقد كبست أنطاكية فقتل مهره الطخرور والحجر أمه:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
686
فطعم الموت في أمر صغير
كطعم الموت في أمر عظيم
687
ستبكي شجوها فرسي ومهري
صفائح دمعها ماء الجسوم
688
قربن النار ثم نشان فيها
كما نشأ العذارى في النعيم
689
وفارقن الصياقل مخلصات
وأيديها كثيرات الكلوم
690
يرى الجبناء أن العجز عقل
وتلك خديعة الطبع اللئيم
691
وكل شجاعة في المرء تغني
ولا مثل الشجاعة في الحكيم
692
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم!
693
ولكن تاخذ الآذان منه
على قدر القرائح والعلوم
694
وسار أبو الطيب من الرملة يريد أنطاكية في سنة ست وثلاثين، فنزل بطرابلس وبها إسحاق بن إبراهيم الأعور بن كيغلغ. وكان جاهلا، وكان يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة، فقالوا له: أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك؟! وجعلوا يغرونه، فراسله أن يمدحه، فاحتج عليه بيمين لحقته لا يمدح أحدا إلى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها. ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما، فهجاه أبو الطيب، وأملاها على من يثق به. فلما ذاب الثلج خرج كأنه يسير فرسه وسار إلى دمشق، فأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا، فأعجزهم وظهرت القصيدة، وهي:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم
عرضا نظرت وخلت أني أسلم
695
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى
لأخوك ثم أرق منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده
أن المجوس تصيب فيما تحكم
696
راعتك رائعة البياض بعارضي
ولو انها الأولى لراع الأسحم
697
لو كان يمكنني سفرت عن الصبا
فالشيب من قبل الأوان تلثم
698
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى
يققا يميت ولا سوادا يعصم
699
والهم يخترم الجسيم نحافة
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
700
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
701
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق
ينسى الذي يولى وعاف يندم
702
لا يخدعنك من عدو دمعه
وارحم شبابك من عدو ترحم
703
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
704
يؤذي القليل من اللئام بطبعه
من لا يقل كما يقل ويلؤم
705
الظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
706
يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه
ما بين رجليها الطريق الأعظم
707
أقم المسالح فوق شقر سكينة
إن المني بحلقتيها خضرم
708
وارفق بنفسك إن خلقك ناقص
واستر أباك فإن أصلك مظلم
709
وغناك مسألة وطيشك نفخة
ورضاك فيشلة وربك درهم
710
واحذر مناواة الرجال فإنما
تقوى على كمر العبيد وتقدم
711
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم
712
يمشي بأربعة على أعقابه
تحت العلوج ومن وراء يلجم
713
وجفونه ما تستقر كأنها
مطروفة أو فت فيها حصرم
714
وإذا أشار محدثا فكأنه
قرد يقهقه أو عجوز تلطم
715
يقلي مفارقة الأكف قذاله
حتى يكاد على يد يتعمم
716
وتراه أصغر ما تراه ناطقا
ويكون أكذب ما يكون ويقسم
717
والذل يظهر في الذليل مودة
وأود منه لمن يود الأرقم
718
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
719
أرسلت تسألني المديح سفاهة
صفراء أضيق منك ماذا أزعم؟!
720
أترى القيادة في سواك تكسبا
يا ابن الأعير وهي فيك تكرم
721
فلشد ما جاوزت قدرك صاعدا
ولشد ما قربت عليك الأنجم
722
وأرغت ما لأبي العشائر خالصا
إن الثناء لمن يزار فينعم
723
ولمن أقمت على الهوان ببابه
تدنو فيوجأ أخدعاك وتنهم
724
ولمن يهين المال وهو مكرم
ولمن يجر الجيش وهو عرمرم
725
ولمن إذا التقت الكماة بمأزق
فنصيبه منها الكمي المعلم
726
ولربما أطر القناة بفارس
وثنى فقومها بآخر منهم
727
والوجه أزهر والفؤاد مشيع
والرمح أسمر والحسام مصمم
728
أفعال من تلد الكرام كريمة
وفعال من تلد الأعاجم أعجم
729
واجتاز ببعلبك فخلع عليه علي بن عسكر، وسأله أن يقيم عنده، وكان يريد السفر إلى أنطاكية، فقال يستأذنه:
روينا يا ابن عسكر الهماما
ولم يترك نداك بنا هياما
730
وصار أحب ما تهدي إلينا
لغير قلى وداعك والسلاما
731
ولم نملل تفقدك الموالي
ولم نذمم أياديك الجساما
732
ولكن الغيوث إذا توالت
بأرض مسافر كره المقاما
733
وكان مع أبي العشائر ليلا على الشراب، فكلما أراد النهوض وهب له شيئا، حتى وهب له ثيابا وجارية ومهرا فقال:
أعن إذني تهب الريح رهوا
ويسري كلما شئت الغمام؟!
734
ولكن الغمام له طباع
تبجسه بها وكذا الكرام
735
وقال يمدح كافورا، وقد أهدى إليه مهرا أدهم في شهر ربيع الآخر سنة 347ه:
فراق ومن فارقت غير مذمم
وأم ومن يممت خير ميمم
736
وما منزل اللذات عندي بمنزل
إذا لم أبجل عنده وأكرم
737
سجية نفس ما تزال مليحة
من الضيم مرميا بها كل مخرم
738
رحلت فكم باك بأجفان شادن
علي وكم باك بأجفان ضيغم!
739
وما ربة القرط المليح مكانه
بأجزع من رب الحسام المصمم
740
فلو كان ما بي من حبيب مقنع
عذرت ولكن من حبيب معمم
741
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي
742
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم
743
وعادى محبيه بقول عداته
وأصبح في ليل من الشك مظلم
744
أصادق نفس المرء من قبل جسمه
وأعرفها في فعله والتكلم
745
وأحلم عن خلي وأعلم أنه
متى أجزه حلما على الجهل يندم
746
وإن بذل الإنسان لي جود عابس
جزيت بجود التارك المتبسم
747
وأهوى من الفتيان كل سميذع
نجيب كصدر السمهري المقوم
748
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت
به الخيل كبات الخميس العرمرم
749
ولا عفة في سيفه وسنانه
ولكنها في الكف والفرج والفم
750
وما كل هاو للجميل بفاعل
ولا كل فعال له بمتمم
751
فدى لأبي المسك الكرام فإنها
سوابق خيل يهتدين بأدهم
752
أغر بمجد قد شخصن وراءه
إلى خلق رحب وخلق مطهم
753
إذا منعت منك السياسة نفسها
فقف وقفة قدامه تتعلم
754
يضيق على من راءه العذر أن يرى
ضعيف المساعي أو قليل التكرم
755
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت
وكان قليلا من يقول لها: اقدمي
756
شديد ثبات الطرف والنقع واصل
إلى لهوات الفارس المتلثم
757
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا
وآمل عزا يخضب البيض بالدم
758
ويوما يغيظ الحاسدين وحالة
أقيم الشقا فيها مقام التنعم
759
ولم أرج إلا أهل ذاك ومن يرد
مواطر من غير السحائب يظلم
760
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها
بقلب المشوق المستهام المتيم
761
ولا نبحت خيلي كلاب قبائل
كأن بها في الليل حملات ديلم
762
ولا اتبعت آثارنا عين قائف
فلم تر إلا حافرا فوق منسم
763
وسمنا بها البيداء حتى تغمرت
من النيل واستذرت بظل المقطم
764
وأبلخ يعصي باختصاصي مشيره
عصيت بقصديه مشيري ولومي
765
فساق إلي العرف غير مكدر
وسقت إليه الشكر غير مجمجم
766
قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا
حديثا وقد حكمت رأيك فاحكم
767
فأحسن وجه في الورى وجه محسن
وأيمن كف فيهم كف منعم
768
وأشرفهم من كان أشرف همة
وأكبر إقداما على كل معظم
769
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
سرور محب أو إساءة مجرم؟!
770
وقد وصل المهر الذي فوق فخذه
من اسمك ما في كل عنق ومعصم
771
لك الحيوان الراكب الخيل كله
وإن كان بالنيران غير موسم
772
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها
وصيرت ثلثيها انتظارك فاعلم
773
ولكن ما يمضي من العمر فائت
فجد لي بخط البادر المتغنم
774
رضيت بما ترضى به لي محبة
وقدت إليك النفس قود المسلم
775
ومثلك من كان الوسيط فؤاده
فكلمه عني ولم أتكلم
776
وقال يذكر حمى كانت تغشاه بمصر ويعرض بالرحيل عن مصر، وذلك في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
ملومكما يجل عن الملام
ووقع فعاله فوق الكلام
777
ذراني والفلاة بلا دليل
ووجهي والهجير بلا لثام
778
فإني أستريح بذي وهذا
وأتعب بالإناخة والمقام
779
عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازحة بغامي
780
فقد أرد المياه بغير هاد
سوى عدي لها برق الغمام
781
يذم لمهجتي ربي وسيفي
إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
782
ولا أمسي لأهل البخل ضيفا
وليس قرى سوى مخ النعام
783
فلما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
784
وصرت أشك فيمن أصطفيه
لعلمي أنه بعض الأنام
785
يحب العاقلون على التصافي
وحب الجاهلين على الوسام
786
وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام
787
أرى الأجداد تغلبها كثيرا
على الأولاد أخلاق اللئام
788
ولست بقانع من كل فضل
بأن أعزى إلى جد همام
789
عجبت لمن له قد وحد
وينبو نبوة القضم الكهام
790
ومن يجد الطريق إلى المعالي
فلا يذر المطي بلا سنام
791
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
792
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخب بي المطي ولا أمامي
793
وملني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عام
794
قليل عائدي سقم فؤادي
كثير حاسدي صعب مرامي
795
عليل الجسم ممتنع القيام
شديد السكر من غير المدام
796
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور إلا في الظلام
797
بذلت لها المطارف والحشايا
فعافتها وباتت في عظامي
798
يضيق الجلد عن نفسي وعنها
فتوسعه بأنواع السقام
799
إذا ما فارقتني غسلتني
كأنا عاكفان على حرام
800
كأن الصبح يطردها فتجري
مدامعها بأربعة سجام
801
أراقب وقتها من غير شوق
مراقبة المشوق المستهام
802
ويصدق وعدها والصدق شر
إذا ألقاك في الكرب العظام
803
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام؟!
804
جرحت مجرحا لم يبق فيه
مكان للسيوف ولا السهام
805
ألا يا ليت شعر يدي أتمسي
تصرف في عنان أو زمام؟
806
وهل أرمي هواي براقصات
محلاة المقاود باللغام؟
807
فربتما شفيت غليل صدري
بسير أو قناة أو حسام
808
وضاقت خطة فخلصت منها
خلاص الخمر من نسج الفدام
809
وفارقت الحبيب بلا وداع
وودعت البلاد بلا سلام
810
يقول لي الطبيب: أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
811
تعود أن يغبر في السرايا
ويدخل من قتام في قتام
812
فأمسك لا يطال له فيرعى
ولا هو في العليق ولا اللجام
813
فإن أمرض فما مرض اصطباري
وإن أحمم فما حم اعتزامي
814
وإن أسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحمام إلى الحمام
815
تمتع من سهاد أو رقاد
ولا تأمل كرى تحت الرجام
816
فإن لثالث الحالين معنى
سوى معنى انتباهك والمنام
817
وقال يهجو كافورا:
من أية الطرق يأتي نحوك الكرم
أين المحاجم يا كافور والجلم؟
818
جاز الألى ملكت كفاك قدرهم
فعرفوا بك أن الكلب فوقهم
819
لا شيء أقبح من فحل له ذكر
تقوده أمة ليست لها رحم
820
سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزم
821
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
822
ألا فتى يورد الهندي هامته
كيما تزول شكوك الناس والتهم
823
فإنه حجة يؤذي القلوب بها
من دينه الدهر والتعطيل والقدم
824
ما أقدر الله أن يخزي خليقته
ولا يصدق قوما في الذي زعموا
825
وقال يهجوه أيضا:
أما في هذه الدنيا كريم
تزول به عن القلب الهموم؟
826
أما في هذه الدنيا مكان
يسر بأهله الجار المقيم؟
827
تشابهت البهائم والعبدى
علينا والموالي والصميم
828
وما أدري أذا داء حديث
أصاب الناس أم داء قديم؟
829
حصلت بأرض مصر على عبيد
كأن الحر بينهم يتيم
830
كأن الأسود اللابي فيهم
غراب حوله رخم وبوم
831
أخذت بمدحه فرأيت لهوا
مقالي للأحيمق يا حليم
832
ولما أن هجوت رأيت عيا
مقالي لابن آوى يا لئيم
833
فهل من عاذر في ذا وفي ذا
فمدفوع إلى السقم السقيم؟
834
إذا أتت الإساءة من لئيم
ولم ألم المسيء فمن ألوم؟!
835
ودخل عليه صديق له بالكوفة وبيده تفاحة ند عليها اسم فاتك، وكانت مما أهداه له، فاستحسنها الرجل، فقال المتنبي:
يذكرني فاتكا حلمه
وشيء من الند فيه اسمه
836
ولست بناس ولكنني
يجدد لي ريحه شمه
837
وأي فتى سلبتني المنون
ولم تدر ما ولدت أمه!
838
ولا ما تضم إلى صدرها
ولو علمت هالها ضمه
839
بمصر ملوك لهم ما له
ولكنهم ما لهم همه
840
فأجود من جودهم بخله
وأحمد من حمدهم ذمه
841
وأشرف من عيشهم موته
وأنفع من وجدهم عدمه
842
وإن منيته عنده
لكالخمر سقيه كرمه
843
فذاك الذي عبه ماؤه
وذاك الذي ذاقه طعمه
844
ومن ضاقت الأرض عن نفسه
حرى أن يضيق بها جسمه
845
وقال يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكا، وأنشأها يوم الثلاثاء لتسع خلون من شعبان سنة 352:
حتام نحن نساري النجم في الظلم؟!
وما سراه على خف ولا قدم
846
ولا يحس بأجفان يحس بها
فقد الرقاد غريب بات لم ينم
847
تسود الشمس منا بيض أوجهنا
ولا تسود بيض العذر واللمم
848
وكان حالهما في الحكم واحدة
لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم
849
ونترك الماء لا ينفك من سفر
ما سار في الغيم منه سار في الأدم
850
لا أبغض العيس لكني وقيت بها
قلبي من الحزن أو جسمي من السقم
851
طردت من مصر أيديها بأرجلها
حتى مرقن بنا من جوش والعلم
852
تبري لهن نعام الدو مسرجة
تعارض الجدل المرخاة باللجم
853
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا
بما لقين رضا الأيسار بالزلم
854
تبدو لنا كلما ألقوا عمائمهم
عمائم خلقت سودا بلا لثم
855
بيض العوارض طعانون من لحقوا
من الفوارس شلالون للنعم
856
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته
وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
857
في الجاهلية إلا أن أنفسهم
من طيبهن به في الأشهر الحرم
858
ناشوا الرماح وكانت غير ناطقة
فعلموها صياح الطير في البهم
859
تخدي الركاب بنا بيضا مشافرها
خضرا فراسنها في الرغل والينم
860
مكعومة بسياط القوم نضربها
عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
861
وأين منبته من بعد منبته
أبي شجاع قريع العرب والعجم؟!
862
لا فاتك آخر في مصر نقصده
ولا له خلف في الناس كلهم
863
من لا تشابهه الأحياء في شيم
أمسى تشابهه الأموات في الرمم
864
عدمته وكأني سرت أطلبه
فما تزيدني الدنيا على العدم
865
ما زلت أضحك إبلي كلما نظرت
إلى من اختضبت أخفافها بدم
866
أسيرها بين أصنام أشاهدها
ولا أشاهد فيها عفة الصنم
867
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي
ألمجد للسيف ليس المجد للقلم
868
اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم
869
أسمعتني ودوائي ما أشرت به
فإن غفلت فدائي قلة الفهم
870
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم
871
توهم القوم أن العجز قربنا
وفي التقرب ما يدعو إلى التهم
872
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
873
فلا زيارة إلا أن تزورهم
أيد نشأن مع المصقولة الخذم
874
من كل قاضية بالموت شفرته
ما بين منتقم منه ومنتقم
875
صنا قوائمها عنهم فما وقعت
مواقع اللؤم في الأيدي ولا الكزم
876
هون على بصر ما شق منظره
فإنما يقظات العين كالحلم
877
ولا تشك إلى خلق فتشمته
شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
878
وكن على حذر للناس تستره
ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
879
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
وأعوز الصدق في الإخبار والقسم
880
سبحان خالق نفسي كيف لذتها
فيما النفوس تراه غاية الألم؟!
881
الدهر يعجب من حملي نوائبه
وصبر جسمي على أحداثه الحطم
882
وقت يضيع وعمر ليت مدته
في غير أمته من سالف الأمم
883
أتى الزمان بنوه في شبيبته
فسرهم وأتيناه على الهرم
884
وقال يمدح عضد الدولة، وقد نثر عليهم الورد، وهم قيام بين يديه حتى غرقوا فيه:
قد صدق الورد في الذي زعما
أنك صيرت نثره ديما
885
كأنما مائج الهواء به
بحر حوى مثل مائه عنما
886
ناثره ناثر السيوف دما
وكل قول يقوله حكما
887
والخيل قد فصل الضياع بها
والنعم السابغات والنقما
888
فليرنا الورد إن شكا يده
أحسن منه من جوده سلما
889
وقل له: لست خير ما نثرت
وإنما عوذت بك الكرما
890
خوفا من العين أن يصاب بها
أصاب عينا بها يصاب عمى
891
هوامش
قافية النون
وعزم سيف الدولة على لقاء الروم في السنبوس سنة أربعين وثلاثمائة، وبلغه أن العدو في أربعين ألفا، فتهيبتهم أصحابه، فأنشد أبو الطيب بحضرة الجيش:
تزور ديارا ما نحب لها مغنى
ونسأل فيها غير ساكنها الإذنا
1
نقود إليها الآخذات لنا المدى
عليها الكماة المحسنون بها الظنا
2
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى
ونرضي الذي يسمى الإله ولا يكنى
3
وقد علم الروم الشقيون أننا
إذا ما تركنا أرضهم خلفنا عدنا
4
وأنا إذا ما الموت صرح في الوغى
لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا
5
قصدنا له قصد الحبيب لقاؤه
إلينا وقلنا للسيوف: هلمنا
6
وخيل حشوناها الأسنة بعدما
تكدسن من هنا علينا ومن هنا
7
ضربن إلينا بالسياط جهالة
فلما تعارفنا ضربن بها عنا
8
تعد القرى والمس بنا الجيش لمسة
نبار إلى ما تشتهي يدك اليمنى
9
فقد بردت فوق اللقان دماؤهم
ونحن أناس نتبع البارد السخنا
10
وإن كنت سيف الدولة العضب فيهم
فدعنا نكن قبل الضراب القنا اللدنا
11
فنحن الألى لا نأتلي لك نصرة
وأنت الذي لو أنه وحده أغنى
12
يقيك الردى من يبتغي عندك العلا
ومن قال: لا أرضى من العيش بالأدنى
13
فلولاك لم تجر الدماء ولا اللها
ولم يك للدنيا ولا أهلها معنى
14
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
15
وقال يمدحه وقد أهدى له ثياب ديباج ورمحا وفرسا معها مهرها، وكان المهر أحسن:
ثياب كريم ما يصون حسانها
إذا نشرت كان الهبات صوانها
16
ترينا صناع الروم فيها ملوكها
وتجلو علينا نفسها وقيانها
17
ولم يكفها تصويرها الخيل وحدها
فصورت الأشياء إلا زمانها
18
وما ادخرتها قدرة في مصور
سوى أنها ما أنطقت حيوانها
19
وسمراء يستغوي الفوارس قدها
ويذكرها كراتها وطعانها
20
ردينية تمت وكاد نباتها
يركب فيها زجها وسنانها
21
وأم عتيق خاله دون عمه
رأى خلقها من أعجبته فعانها
22
إذا سايرته باينته وبانها
وشانته في عين البصير وزانها
23
فأين التي لا تأمن الخيل شرها
وشري ولا تعطي سواي أمانها؟
24
وأين التي لا ترجع الرمح خائبا
إذا خفضت يسرى يدي عنانها
25
وما لي ثناء لا أراك مكانه
فهل لك نعمى لا تراني مكانها؟
26
ومد نهر قويق وهو نهر بحلب حتى أحاط بدار سيف الدولة، وخرج أبو الطيب من عنده فبلغ الماء إلى صدر فرسه فقال أبو الطيب مرتجلا:
حجب ذا البحر بحار دونه
يذمها الناس ويحمدونه
27
يا ماء هل حسدتنا معينه؟
أم اشتهيت أن ترى قرينه؟
28
أم انتجعت للغنى يمينه؟
أم زرته مكثرا قطينه؟
29
أم جئته مخندقا حصونه
إن الجياد والقنا يكفينه
30
يا رب لج جعلت سفينه
وعازب الروض توفت عونه
31
وذي جنون أذهبت جنونه
وشرب كأس أكثرت رنينه
32
وأبدلت غناءه أنينه
وضيغم أولجها عرينه
33
وملك أوطأها جبينه
يقودها مسهدا جفونه
34
مباشرا بنفسه شئونه
مشرفا بطعنه طعينه
35
عفيف ما في ثوبه مأمونه
36
أبيض ما في تاجه ميمونه
37
بحر يكون كل بحر نونه
38
شمس تمنى الشمس أن تكونه
39
إن تدع: يا سيف؛ لتستعينه
يجبك قبل أن تتم سينه
40
أدام من أعدائه تمكينه
من صان منهم نفسه ودينه
41
وقال يمدحه عند منصرفه من بلد الروم سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وأنشده إياها بآمد:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
42
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة
بلغت من العلياء كل مكان
43
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
44
لولا العقول لكان أدنى ضيغم
أدنى إلى شرف من الإنسان
ولما تفاضلت النفوس ودبرت
أيدي الكماة عوالي المران
45
لولا سمي سيوفه ومضاؤه
لما سللن لكن كالأجفان
46
خاض الحمام بهن حتى ما درى
أمن احتقار ذاك أم نسيان؟
47
وسعى فقصر عن مداه في العلا
أهل الزمان وأهل كل زمان
48
تخذوا المجالس في البيوت وعنده
أن السروج مجالس الفتيان
49
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في ال
هيجاء غير الطعن في الميدان
50
قاد الجياد إلى الطعان ولم يقد
إلا إلى العادات والأوطان
51
كل ابن سابقة يغير بحسنه
في قلب صاحبه على الأحزان
52
إن خليت ربطت بآداب الوغى
فدعاؤها يغني عن الأرسان
53
في جحفل ستر العيون غباره
فكأنما يبصرن بالآذان
54
يرمي بها البلد البعيد مظفر
كل البعيد له قريب دان
55
فكأن أرجلها بتربة منبج
يطرحن أيديها بحصن الران
56
حتى عبرن بأرسناس سوابحا
ينشرن فيه عمائم الفرسان
57
يقمصن في مثل المدى من بارد
يذر الفحول وهن كالخصيان
58
والماء بين عجاجتين مخلص
تتفرقان به وتلتقيان
59
ركض الأمير وكاللجين حبابه
وثنى الأعنة وهو كالعقيان
60
فتل الحبال من الغدائر فوقه
وبنى السفين له من الصلبان
61
وحشاه عادية بغير قوائم
عقم البطون حوالك الألوان
62
تأتي بما سبت الخيول كأنها
تحت الحسان مرابض الغزلان
63
بحر تعود أن يذم لأهله
من دهره وطوارق الحدثان
فتركته وإذا أذم من الورى
راعاك واستثنى بني حمدان
64
المخفرين بكل أبيض صارم
ذمم الدروع على ذوي التيجان
65
متصعلكين على كثافة ملكهم
متواضعين على عظيم الشان
66
يتقيلون ظلال كل مطهم
أجل الظليم وربقة السرحان
67
خضعت لمنصلك المناصل عنوة
وأذل دينك سائر الأديان
68
وعلى الدروب وفي الرجوع غضاضة
والسير ممتنع من الإمكان
والطرق ضيقة المسالك بالقنا
والكفر مجتمع على الإيمان
نظروا إلى زبر الحديد كأنما
يصعدن بين مناكب العقبان
69
وفوارس يحيي الحمام نفوسها
فكأنها ليست من الحيوان
70
ما زلت تضربهم دراكا في الذرا
ضربا كأن السيف فيه اثنان
71
خص الجماجم والوجوه كأنما
جاءت إليك جسومهم بأمان
72
فرموا بما يرمون عنه وأدبروا
يطئون كل حنية مرنان
73
يغشاهم مطر السحاب مفصلا
بمثقف ومهند وسنان
74
حرموا الذي أملوا وأدرك منهم
آماله من عاد بالحرمان
75
وإذا الرماح شغلن مهجة ثائر
شغلته مهجته عن الإخوان
76
هيهات عاق عن العواد قواضب
كثر القتيل بها وقل العاني
77
ومهذب أمر المنايا فيهم
فأطعنه في طاعة الرحمن
78
قد سودت شجر الجبال شعورهم
فكأن فيه مسفة الغربان
79
وجرى على الورق النجيع القاني
فكأنه النارنج في الأغصان
80
إن السيوف مع الذين قلوبهم
كقلوبهن إذا التقى الجمعان
81
تلقى الحسام على جراءة حده
مثل الجبان بكف كل جبان
82
رفعت بك العرب العماد وصيرت
قمم الملوك مواقد النيران
83
أنساب فخرهم إليك وإنما
أنساب أصلهم إلى عدنان
84
يا من يقتل من أراد بسيفه
أصبحت من قتلاك بالإحسان
85
فإذا رأيتك حار دونك ناظري
وإذا مدحتك حار فيك لساني
وقال في صباه في المكتب:
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني
وفرق الهجر بين الجفن والوسن
86
روح تردد في مثل الخلال إذا
أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
87
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
88
وقال في صباه على لسان بعض التنوخيين وقد سأله ذلك:
قضاعة تعلم أني الفتى ال
ذي ادخرت لصروف الزمان
89
ومجدي يدل بني خندف
على أن كل كريم يمان
90
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء
أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
91
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي
أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
92
طويل النجاد طويل العماد
طويل القناة طويل السنان
93
حديد اللحاظ حديد الحفاظ
حديد الحسام حديد الجنان
94
يسابق سيفي منايا العباد
إليهم كأنهما في رهان
95
يرى حده غامضات القلوب
إذا كنت في هبوة لا أراني
96
سأجعله حكما في النفوس
ولو ناب عنه لساني كفاني
97
وقال أيضا في صباه:
كتمت حبك حتى منك تكرمة
ثم استوى فيه إسراري وإعلاني
98
كأنه زاد حتى فاض من جسدي
فصار سقمي به في جسم كتماني
99
ودخل على علي بن إبراهيم التنوخي فعرض عليه كأسا فيها شراب أسود، فقال ارتجالا:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين
صحوت فلم تحل بيني وبيني
100
هجرت الخمر كالذهب المصفى
فخمري ماء مزن كاللجين
101
أغار من الزجاجة وهي تجري
على شفة الأمير أبي الحسين
102
كأن بياضها والراح فيها
بياض محدق بسواد عين
103
أتيناه نطالبه برفد
يطالب نفسه منه بدين
104
وقال يمدح بدر بن عمار وقد سار إلى الساحل، ثم عاد إلى طبرية، وكان أبو الطيب قد تخلف عنه، فقال يعتذر له:
ألحب ما منع الكلام الألسنا
وألذ شكوى عاشق ما أعلنا
105
ليت الحبيب الهاجري هجر الكرى
من غير جرم واصلي صلة الضنى
106
بنا فلو حليتنا لم تدر ما
ألواننا مما امتقعن تلونا
107
وتوقدت أنفاسنا حتى لقد
أشفقت تحترق العواذل بيننا
108
أفدي المودعة التي أتبعتها
نظرا فرادى بين زفرات ثنا
109
أنكرت طارقة الحوادث مرة
ثم اعترفت بها فصارت ديدنا
110
وقطعت في الدنيا الفلا وركائبي
فيها ووقتي الضحا والموهنا
111
ووقفت منها حيث أوقفني الندى
وبلغت من بدر بن عمار المنى
112
لأبي الحسين جدا يضيق وعاؤه
عنه ولو كان الوعاء الأزمنا
113
وشجاعة أغناه عنها ذكرها
ونهى الجبان حديثها أن يجبنا
114
نيطت حمائله بعاتق محرب
ما كر قط وهل يكر وما انثنى
115
فكأنه والطعن من قدامه
متخوف من خلفه أن يطعنا
116
نفت التوهم عنه حدة ذهنه
فقضى على غيب الأمور تيقنا
117
يتفزع الجبار من بغتاته
فيظل في خلواته متكفنا
118
أمضى إرادته فسوف له قد
واستقرب الأقصى فثم له هنا
119
يجد الحديد على بضاضة جلده
ثوبا أخف من الحرير وألينا
120
وأمر من فقد الأحبة عنده
فقد السيوف الفاقدات الأجفنا
121
لا يستكن الرعب بين ضلوعه
يوما ولا الإحسان أن لا يحسنا
122
مستنبط من علمه ما في غد
فكأن ما سيكون فيه دونا
123
تتقاصر الأفهام عن إدراكه
مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
124
من ليس من قتلاه من طلقائه
من ليس ممن دان ممن حينا
125
لما قفلت من السواحل نحونا
قفلت إليها وحشة من عندنا
126
أرج الطريق فما مررت بموضع
إلا أقام به الشذا مستوطنا
127
لو تعقل الشجر التي قابلتها
مدت محيية إليك الأغصنا
128
سلكت تماثيل القباب الجن من
شوق بها فأدرن فيك الأعينا
129
طربت مراكبنا فخلنا أنها
لولا حياء عاقها رقصت بنا
130
أقبلت تبسم والجياد عوابس
يخببن بالحلق المضاعف والقنا
131
عقدت سنابكها عليها عثيرا
لو تبتغي عنقا عليه أمكنا
132
والأمر أمرك والقلوب خوافق
في موقف بين المنية والمنى
133
فعجبت حتى ما عجبت من الظبا
ورأيت حتى ما رأيت من السنا
134
إني أراك من المكارم عسكرا
في عسكر ومن المعالي معدنا
135
فطن الفؤاد لما أتيت على النوى
ولما تركت مخافة أن تفطنا
136
أضحى فراقك لي عليه عقوبة
ليس الذي قاسيت منه هينا
137
فاغفر فدى لك واحبني من بعدها
لتخصني بعطية منها أنا
138
وانه المشير عليك في بضلة
فالحر ممتحن بأولاد الزنا
139
وإذا الفتى طرح الكلام معرضا
في مجلس أخذ الكلام اللذعنا
140
ومكايد السفهاء واقعة بهم
وعداوة الشعراء بئس المقتنى
141
لعنت مقارنة اللئيم فإنها
ضيف يجر من الندامة ضيفنا
142
غضب الحسود إذا لقيتك راضيا
رزء أخف علي من أن يوزنا
143
أمسى الذي أمسى بربك كافرا
من غيرنا معنا بفضلك مؤمنا
144
خلت البلاد من الغزالة ليلها
فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
145
وقال وقد سأله الجلوس:
يا بدر إنك والحديث شجون
من لم يكن لمثاله تكوين
146
لعظمت حتى لو تكون أمانة
ما كان مؤتمنا بها جبرين
147
بعض البرية فوق بعض خاليا
فإذا حضرت فكل فوق دون
148
وقال يمدح أبا عبيد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي، وهو يومئذ يتقلد القضاء بأنطاكية:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
149
وإنما نحن في جيل سواسية
شر على الحر من سقم على بدن
150
حولي بكل مكان منهم خلق
تخطي إذا جئت في استفهامها بمن؟
151
لا أقتري بلدا إلا على غرر
ولا أمر بخلق غير مضطغن
152
ولا أعاشر من أملاكهم أحدا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
153
إني لأعذرهم مما أعنفهم
حتى أعنف نفسي فيهم وأني
154
فقر الجهول بلا عقل إلى أدب
فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
155
ومدقعين بسبروت صحبتهم
عارين من حلل كاسين من درن
156
خراب بادية غرثى بطونهم
مكن الضباب لهم زاد بلا ثمن
157
يستخبرون فلا أعطيهم خبري
وما يطيش لهم سهم من الظنن
158
وخلة في جليس أتقيه بها
كيما يرى أننا مثلان في الوهن
159
وكلمة في طريق خفت أعربها
فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن
160
قد هون الصبر عندي كل نازلة
ولين العزم حد المركب الخشن
161
كم مخلص وعلا في خوض مهلكة
وقتلة قرنت بالذم في الجبن!
162
لا يعجبن مضيما حسن بزته
وهل يروق دفينا جودة الكفن؟!
163
لله حال أرجيها وتخلفني!
وأقتضي كونها دهري ويمطلني
164
مدحت قوما وإن عشنا نظمت لهم
قصائدا من إناث الخيل والحصن
165
تحت العجاج قوافيها مضمرة
إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
166
فلا أحارب مدفوعا إلى جدر
ولا أصالح مغرورا على دخن
167
مخيم الجمع بالبيداء يصهره
حر الهواجر في صم من الفتن
168
ألقى الكرام الألى بادوا مكارمهم
على الخصيبي عند الفرض والسنن
169
فهن في الحجر منه كلما عرضت
له اليتامى بدا بالمجد والمنن
170
قاض إذا التبس الأمران عن له
رأي يخلص بين الماء واللبن
171
غض الشباب بعيد فجر ليلته
مجانب العين للفحشاء والوسن
172
شرابه النشح لا للري يطلبه
وطعمه لقوام الجسم لا السمن
173
ألقائل الصدق فيه ما يضر به
والواحد الحالتين: السر والعلن
174
ألفاصل الحكم عي الأولون به
والمظهر الحق للساهي على الذهن
175
أفعاله نسب لو لم يقل معها
جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
176
العارض الهتن ابن العارض الهتن اب
ن العارض الهتن ابن العارض الهتن
177
قد صيرت أول الدنيا وآخرها
آباؤه من مغار العلم في قرن
178
كأنهم ولدوا من قبل أن ولدوا
أو كان فهمهم أيام لم يكن
179
الخاطرين على أعدائهم أبدا
من المحامد في أوقى من الجنن
180
للناظرين إلى إقباله فرح
يزيل ما بجباه القوم من غضن
181
كأن مال ابن عبد الله مغترف
من راحتيه بأرض الروم واليمن
182
لم نفتقد بك من مزن سوى لثق
ولا من البحر غير الريح والسفن
183
ولا من الليث إلا قبح منظره
ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
184
منذ احتبيت بأنطاكية اعتدلت
حتى كأن ذوي الأوتار في هدن
185
ومذ مررت على أطوادها قرعت
من السجود فلا نبت على القنن
186
أخلت مواهبك الأسواق من صنع
أغنى نداك عن الأعمال والمهن
187
ذا جود من ليس من دهر على ثقة
وزهد من ليس من دنياه في وطن
188
وهذه هيبة لم يؤتها بشر
وذا اقتدار لسان ليس في المنن
189
فمر وأوم تطع قدست من جبل
تبارك الله مجري الروح في حضن
190
وقال يمدح أبا سهل سعيد بن عبد الله بن عبيد الله بن الحسن الأنطاكي:
قد علم البين منا البين أجفانا
تدمى وألف في ذا القلب أحزانا
191
أملت ساعة ساروا كشف معصمها
ليلبث الحي دون السير حيرانا
192
ولو بدت لأتاهتهم فحجبها
صون عقولهم من لحظها صانا
193
بالواخدات وحاديها وبي قمر
يظل من وخدها في الخدر حشيانا
194
أما الثياب فتعرى من محاسنه
إذا نضاها ويكسا الحسن عريانا
195
يضمه المسك ضم المستهام به
حتى يصير على الأعكان أعكانا
196
قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
197
تهدي البوارق أخلاف المياه لكم
وللمحب من التذكار نيرانا
198
إذا قدمت على الأهوال شيعني
قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا
199
أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني
ولا أعاتبه صفحا وإهوانا
200
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
إن النفيس غريب حيثما كانا
201
محسد الفضل مكذوب على أثري
ألقى الكمي ويلقاني إذا حانا
202
لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعا
ولا أبيت على ما فات حسرانا
203
ولا أسر بما غيري الحميد به
ولو حملت إلي الدهر ملآنا
204
لا يجذبن ركابي نحوه أحد
ما دمت حيا وما قلقلن كيرانا
205
لو استطعت ركبت الناس كلهم
إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
206
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم
عما يراه من الإحسان عميانا
207
ذاك الجواد وإن قل الجواد له
ذاك الشجاع وإن لم يرض أقرانا
208
ذاك المعد الذي تقنو يداه لنا
فلو أصيب بشيء منه عزانا
209
خف الزمان على أطراف أنمله
حتى توهمن للأزمان أزمانا
210
يلقى الوغى والفنا والنازلات به
والسيف والضيف رحب الباع جذلانا
211
تخاله من ذكاء القلب محتميا
ومن تكرمه والبشر نشوانا
212
وتسحب الحبر القينات رافلة
في جوده وتجر الخيل أرسانا
213
يعطي المبشر بالقصاد قبلهم
كمن يبشره بالماء عطشانا
214
جزت بني الحسن الحسنى فإنهم
في قومهم مثلهم في الغر عدنانا
215
ما شيد الله من مجد لسالفهم
إلا ونحن نراه فيهم الآنا
216
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا
في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
217
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت
على رماحهم في الطعن خرصانا
218
كأنهم يردون الموت من ظمأ
أو ينشقون من الخطي ريحانا
219
الكائنين لمن أبغي عداوته
أعدى العدا ولمن آخيت إخوانا
220
خلائق لو حواها الزنج لانقلبوا
ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا
221
وأنفس يلمعيات تحبهم
لها اضطرارا ولو أقصوك شنآنا
222
الواضحين أبوات وأجبنة
ووالدات وألبابا وأذهانا
223
يا صائد الجحفل المرهوب جانبه
إن الليوث تصيد الناس أحدانا
224
وواهبا كل وقت وقت نائله
وإنما يهب الوهاب أحيانا
225
أنت الذي سبك الأموال مكرمة
ثم اتخذت لها السؤال خزانا
226
عليك منك إذا أخليت مرتقب
لم تأت في السر ما لم تأت إعلانا
227
لا أستزيدك فيما فيك من كرم
أنا الذي نام إن نبهت يقظانا
228
فإن مثلك باهيت الكرام به
ورد سخطا على الأيام رضوانا
229
وأنت أبعدهم ذكرا وأكبرهم
قدرا وأرفعهم في المجد بنيانا
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها
وشرف الناس إذ سواك إنسانا
230
وقال في مجلس أبي محمد بن طغج وقد أقبل الليل وهما في بستان:
زال النهار ونور منك يوهمنا
أن لم يزل ولجنح الليل إجنان
231
فإن يكن طلب البستان يمسكنا
فرح فكل مكان منك بستان
232
وقال في بطيخة من الند في غشاء من الخيزران عليها قلادة لؤلؤ وعلى رأسها عنبر قد أدير حولها كانت في يد أبي العشائر:
233
ما أنا والخمر وبطيخة
سوداء في قشر من الخيزران
234
يشغلني عنها وعن غيرها
توطيني النفس ليوم الطعان
235
وكل نجلاء لها صائك
يخضب ما بين يدي والسنان
236
وقال، وقد بلغ أبا الطيب أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب وهو بمصر:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن؟!
237
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
238
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن
239
فما يدوم سرور ما سررت به
ولا يرد عليك الفائت الحزن
240
مما أضر بأهل العشق أنهم
هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
241
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم
في إثر كل قبيح وجهه حسن
242
تحملوا حملتكم كل ناجية
فكل بين علي اليوم مؤتمن
243
ما في هوادجكم من مهجتي عوض
إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن
244
يا من نعيت على بعد بمجلسه
كل بما زعم الناعون مرتهن
245
كم قد قتلت وكم قد مت عندكم!
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
246
قد كان شاهد دفني قبل قولهم
جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
247
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
248
رأيتكم لا يصون العرض جاركم
ولا يدر على مرعاكم اللبن
249
جزاء كل قريب منكم ملل
وحظ كل محب منكم ضغن
250
وتغضبون على من نال رفدكم
حتى يعاقبه التنغيص والمنن
251
فغادر الهجر ما بيني وبينكم
يهماه تكذب فيها العين والأذن
252
تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها
وتسأل الأرض عن أخفافها الثفن
253
إني أصاحب حلمي وهو بي كرم
ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن
254
ولا أقيم على مال أذل به
ولا ألذ بما عرضي به درن
255
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم
ثم استمر مريري وارعوى الوسن
256
وإن بليت بود مثل ودكم
فإنني بفراق مثله قمن
257
أبلى الأجلة مهري عند غيركم
وبدل العذر بالفسطاط والرسن
258
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت
في جوده مضر الحمراء واليمن
259
وإن تأخر عني بعض موعده
فما تأخر آمالي ولا تهن
260
هو الوفي ولكني ذكرت له
مودة فهو يبلوها ويمتحن
261
وقال بمصر ولم ينشدها كافورا:
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا
وعناهم من شأنه ما عنانا
262
وتولوا بغصة كلهم من
ه وإن سر بعضهم أحيانا
263
ربما تحسن الصنيع ليالي
ه ولكن تكدر الإحسانا
264
وكأنا لم يرض فينا بريب الد
دهر حتى أعانه من أعانا
265
كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
266
ومراد النفوس أصغر من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
267
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
268
ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
269
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا
270
كل ما لم يكن من الصعب في الأن
فس سهل فيها إذا هو كانا
271
وقال يذكر خروج شبيب العقيلي على الأستاذ كافور، وقتله بدمشق سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:
عدوك مذموم بكل لسان
ولو كان من أعدائك القمران
272
ولله سر في علاك وإنما
كلام العدا ضرب من الهذيان
273
أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت
قيام دليل أو وضوح بيان؟!
274
رأت كل من ينوي لك الغدر يبتلى
بغدر حياة أو بغدر زمان
275
برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبان
276
كأن رقاب الناس قالت لسيفه:
رفيقك قيسي وأنت يمان
277
فإن يك إنسانا مضى لسبيله
فإن المنايا غاية الحيوان
278
وما كان إلا النار في كل موضع
تثير غبارا في مكان دخان
279
فنال حياة يشتهيها عدوه
وموتا يشهي الموت كل جبان
280
نفى وقع أطراف الرماح برمحه
ولم يخش وقع النجم والدبران
281
ولم يدر أن الموت فوق شواته
معار جناح محسن الطيران
282
وقد قتل الأقران حتى قتلته
بأضعف قرن في أذل مكان
283
أتته المنايا في طريق خفية
على كل سمع حوله وعيان
284
ولو سلكت طرق السلاح لردها
بطول يمين واتساع جنان
285
تقصده المقدار بين صحابه
على ثقة من دهره وأمان
286
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه
على غير منصور وغير معان؟!
287
ودى ما جنى قبل المبيت بنفسه
ولم يده بالجامل العكنان
288
أتمسك ما أوليته يد عاقل
وتمسك في كفرانه بعنان؟!
289
ويركب ما أركبته من كرامة
ويركب للعصيان ظهر حصان
290
ثنى يده الإحسان حتى كأنها
وقد قبضت كانت بغير بنان
291
وعند من اليوم الوفاء لصاحب
شبيب وأوفى من ترى أخوان؟!
292
قضى الله يا كافور أنك أول
وليس بقاض أن يرى لك ثان
293
فما لك تختار القسي وإنما
عن السعد يرمي دونك الثقلان؟!
294
وما لك تعنى بالأسنة والقنا
وجدك طعان بغير سنان؟!
295
ولم تحمل السيف الطويل نجاده
وأنت غني عنه بالحدثان؟!
296
أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به
فإنك ما أحببت في أتاني
297
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران
298
ونظر يوما إلى كافور فقال:
لو كان ذا الآكل أزوادنا
ضيفا لأوسعناه إحسانا
299
لكننا في العين أضيافه
يوسعنا زورا وبهتانا
300
فليته خلى لنا سبلنا
أعانه الله وإيانا
301
وكتب إلى يوسف بن عبد العزيز الخزاعي في بلبيس يطلب منه دليلا فأنفذه إليه:
جزى عربا أمست ببلبيس ربها
بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
302
كراكر من قيس بن عيلان ساهرا
جفون ظباها للعلا وجفونها
303
وخص به عبد العزيز بن يوسف
فما هو إلا غيثها ومعينها
304
فتى زان في عيني أقصى قبيله
وكم سيد في حلة لا يزينها
305
وقال يمدح عضد الدولة وولديه: أبا الفوارس وأبا دلف، ويذكر طريقه بشعب بوان:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
306
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
307
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
308
طبت فرساننا والخيل حتى
خشيت وإن كرمن من الحران
309
غدونا تنفض الأغصان فيها
على أعرافها مثل الجمان
310
فسرت وقد حجبن الشمس عني
وجبن من الضياء بما كفاني
311
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
312
لها ثمر تشير إليك منه
بأشربة وقفن بلا أواني
313
وأمواه تصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
314
ولو كانت دمشق ثنى عناني
لبيق الثرد صيني الجفان
315
يلنجوجي ما رفعت لضيف
به النيران ندي الدخان
316
تحل به على قلب شجاع
وترحل منه عن قلب جبان
317
منازل لم يزل منها خيال
يشيعني إلى النوبنذجان
318
إذا غنى الحمام الورق فيها
أجابته أغاني القيان
319
ومن بالشعب أحوج من حمام
إذا غنى وناح إلى البيان
320
وقد يتقارب الوصفان جدا
وموصوفاهما متباعدان
321
يقول بشعب بوان حصاني:
أعن هذا يسار إلى الطعان؟!
322
أبوكم آدم سن المعاصي
وعلمكم مفارقة الجنان
323
فقلت: إذا رأيت أبا شجاع
سلوت عن العباد وذا المكان
324
فإن الناس والدنيا طريق
إلى من ما له في الناس ثان
325
لقد علمت نفسي القول فيهم
كتعليم الطراد بلا سنان
326
بعضد الدولة امتنعت وعزت
وليس لغير ذي عضد يدان
327
ولا قبض على البيض المواضي
ولا حظ من السمر اللدان
328
دعته بمفزع الأعضاء منها
ليوم الحرب بكر أو عوان
329
فما يسمي كفناخسر مسم
ولا يكني كفناخسر كاني
330
ولا تحصى فضائله بظن
ولا الإخبار عنه ولا العيان
331
أروض الناس من ترب وخوف
وأرض أبي شجاع من أمان
332
تذم على اللصوص لكل تجر
ويضمن للصوارم كل جاني
333
إذا طلبت ودائعهم ثقات
دفعن إلى المحاني والرعان
334
فباتت فوقهن بلا صحاب
تصيح بمن يمر: أما تراني؟
335
رقاه كل أبيض مشرفي
لكل أصم صل أفعوان
336
وما ترقى لهاه من نداه
ولا المال الكريم من الهوان
337
حمى أطراف فارس شمري
يحض على التباقي بالتفاني
338
بضرب هاج أطراب المنايا
سوى ضرب المثالث والمثاني
339
كأن دم الجماجم في العناصي
كسا البلدان ريش الحيقطان
340
فلو طرحت قلوب العشق فيها
لما خافت من الحدق الحسان
341
ولم أر قبله شبلي هزبر
كشبليه ولا مهري رهان
342
أشد تنازعا لكريم أصل
وأشبه منظرا بأب هجان
343
وأكثر في مجالسه استماعا
فلان دق رمحا في فلان
344
وأول رأية رأيا المعالي
فقد علقا بها قبل الأوان
345
وأول لفظة فهما وقالا
إغاثة صارخ أو فك عان
346
وكنت الشمس تبهر كل عين
فكيف وقد بدت معها اثنتان؟!
347
فعاشا عيشة القمرين يحيا
بضوئهما ولا يتحاسدان
348
ولا ملكا سوى ملك الأعادي
ولا ورثا سوى من يقتلان
349
وكان ابنا عدو كاثراه
له ياءي حروف أنيسيان
350
دعاء كالثناء بلا رئاء
يؤديه الجنان إلى الجنان
351
فقد أصبحت منه في فرند
وأصبح منك في عضب يمان
352
ولولا كونكم في الناس كانوا
هراء كالكلام بلا معاني
353
هوامش
قافية الهاء
وذكر سيف الدولة جد أبي العشائر وأباه فقال:
أغلب الحيزين ما كنت فيه
وولي النماء من تنميه
1
ذا الذي أنت جده وأبوه
دنية دون جده وأبيه
2
وأجمل سيف الدولة ذكره وهو يسايره فقال:
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه
تأتي الندى ويذاع عنك فتكره
3
وإذا رأيتك دون عرضي عارضا
أيقنت أن الله يبغي نصره
4
وقال يمدح أبا العشائر ويودعه، وقد أراد سفرا:
الناس ما لم يروك أشباه
والدهر لفظ وأنت معناه
5
والجود عين وأنت ناظرها
والبأس باع وأنت يمناه
6
أفدي الذي كل مأزق حرج
أغبر فرسانه تحاماه
7
أعلى قناة الحسين أوسطها
فيه وأعلى الكمي رجلاه
8
تنشد أثوابنا مدائحه
بألسن ما لهن أفواه
9
إذا مررنا على الأصم بها
أغنته عن مسمعيه عيناه
10
سبحان من خار للكواكب بال
بعد ولو نلن كن جدواه
11
لو كان ضوء الشموس في يده
لصاعه جوده وأفناه
12
يا راحلا كل من يودعه
مودع دينه ودنياه
13
إن كان فيما نراه من كرم
فيك مزيد فزادك الله
14
وقال قوم: لم يكنك أبو الطيب يا أبا العشائر، وأنت تعرف بكنيتك، فقال:
قالوا: ألم تكنه؟ فقلت لهم:
ذلك عي إذا وصفناه
15
لا يتوقى أبو العشائر من
لبس معاني الورى بمعناه
16
أفرس من تسبح الجياد به
وليس إلا الحديد أمواه
17
وكان الأسود قد عمر دارا، وانتقل إليها فمات له فيها خمسون غلاما، ففزع من ذلك وخرج منها إلى دار أخرى، فقال وأنشده إياها في شهر المحرم سنة سبع وأربعين وثلاثمائة:
أحق دار بأن تسمى مباركة
دار مباركة الملك الذي فيها
18
وأجدر الدور أن تسقى بساكنها
دار غدا الناس يستسقون أهليها
19
هذي منازلك الأخرى نهنئها
فمن يمر على الأولى يسليها؟
20
إذا حللت مكانا بعد صاحبه
جعلت فيه على ما قبله تيها
21
لا ينكر العقل من دار تكون بها
فإن ريحك روح في مغانيها
22
أتم سعدك من لقاك أوله
ولا استرد حياة منك معطيها
23
ونزل أبو الطيب في أرض حسمى برجل يقال له: وردان بن ربيعة الطائي، فاستغوى وردان عبيد أبي الطيب؛ فجعلوا يسرقون له من أمتعته، فلما شعر أبو الطيب بذلك ضرب أحد عبيده بالسيف فأصاب وجهه، وأمر الغلمان فأجهزوا عليه كما تقدم - وقال يهجو وردان:
لئن تك طيئ كانت لئاما
فألأمها ربيعة أو بنوه
وإن تك طيئ كانت كراما
فوردان لغيرهم أبوه
24
مررنا منه في حسمى بعبد
يمج اللؤم منخره وفوه
25
أشذ بعرسه عني عبيدي
فأتلفهم ومالي أتلفوه
26
فإن شقيت بأيديهم جيادي
لقد شقيت بمنصلي الوجوه
27
وقال يمدح عضد الدولة أبا شجاع فناخسرو سنة أربع وخمسين وثلاثمائة:
أوه بديل من قولتي: واها
لمن نأت والبديل ذكراها
28
أوه لمن لا أرى محاسنها
وأصل واها وأوه مرآها
29
شامية طالما خلوت بها
تبصر في ناظري محياها
30
فقبلت ناظري تغالطني
وإنما قبلت به فاها
31
فليتها لا تزال آوية
وليته لا يزال مأواها
32
كل جريح ترجى سلامته
إلا فؤادا دهته عيناها
33
تبل خدي كلما ابتسمت
من مطر برقه ثناياها
34
ما نفضت في يدي غدائرها
جعلته في المدام أفواها
35
في بلد تضرب الحجال به
على حسان ولسن أشباها
36
لقيننا والحمول سائرة
وهن در فذبن أمواها
37
كل مهاة كأن مقلتها
تقول: إياكم وإياها!
38
فيهن من تقطر السيوف دما
إذا لسان المحب سماها
39
أحب حمصا إلى خناصرة
وكل نفس تحب محياها
40
حيث التقى خدها وتفاح لب
نان وثغري على حمياها
41
وصفت فيها مصيف بادية
شتوت بالصحصحان مشتاها
42
إن أعشبت روضة رعيناها
أو ذكرت حلة غزوناها
43
أو عرضت عانة مقزعة
صدنا بأخرى الجياد أولاها
44
أو عبرت هجمة بنا تركت
تكوس بين الشروب عقراها
45
والخيل مطرودة وطاردة
تجر طولى القنا وقصراها
46
يعجبها قتلها الكماة ولا
ينظرها الدهر بعد قتلاها
47
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
48
ومن مناياهم براحته
يأمرها فيهم وينهاها
49
أبا شجاع بفارس عضد الد
ولة فناخسرو شهنشاها
50
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
51
تقود مستحسن الكلام لنا
كما تقود السحاب عظماها
52
هو النفيس الذي مواهبه
أنفس أمواله وأسناها
53
لو فطنت خيله لنائله
لم يرضها أن تراه يرضاها
54
لا تجد الخمر في مكارمه
إذا انتشى خلة تلافاها
55
تصاحب الراح أريحيته
فتسقط الراح دون أدناها
56
تسر طرباته كرائنه
ثم تزيل السرور عقباها
57
بكل موهوبة مولولة
قاطعة زيرها ومثناها
58
تعوم عوم القذاة في زبد
من جود كف الأمير يغشاها
59
تشرق تيجانه بغرته
إشراق ألفاظه بمعناها
60
دان له شرقها ومغربها
ونفسه تستقل دنياها
61
تجمعت في فؤاده همم
ملء فؤاد الزمان إحداها
62
فإن أتى حظها بأزمنة
أوسع من ذا الزمان أبداها
63
وصارت الفيلقان واحدة
تعثر أحياؤها بموتاها
64
ودارت النيرات في فلك
تسجد أقمارها لأبهاها
65
الفارس المتقى السلاح به ال
مثني عليه الوغى وخيلاها
66
لو أنكرت من حيائها يده
في الحرب آثارها عرفناها
67
وكيف تخفى التي زيادتها
وناقع الموت بعض سيماها؟!
68
ألواسع العذر أن يتيه على الد
نيا وأبنائها وما تاها
69
لو كفر العالمون نعمته
لما عدت نفسه سجاياها
70
كالشمس لا تبتغي بما صنعت
منفعة عندهم ولا جاها
71
ول السلاطين من تولاها
والجأ إليه تكن حدياها
72
ولا تغرنك الإمارة في
غير أمير وإن بها باهى
73
فإنما الملك رب مملكة
قد فغم الخافقين سرياها
74
مبتسم والوجوه عابسة
سلم العدا عنده كهيجاها
75
ألناس كالعابدين آلهة
وعبده كالموحد الله
76
هوامش
قافية الياء
وفارق أبو الطيب سيف الدولة، ورحل إلى دمشق، وكاتبه الأستاذ كافور بالمسير إليه، فلما ورد مصر أخلى له كافور دارا وخلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم، فقال يمدحه وأنشده إياها في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
1
تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا
2
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة
فلا تستعدن الحسام اليمانيا
3
ولا تستطيلن الرماح لغارة
ولا تستجيدن العتاق المذاكيا
4
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى
ولا تتقى حتى تكون ضواريا
5
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا
6
وأعلم أن البين يشكيك بعده
فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
7
فإن دموع العين غدر بربها
إذا كن إثر الغادرين جواريا
8
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى
فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
9
وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاء ما أتى أم تساخيا؟
10
أقل اشتياقا أيها القلب ربما
رأيتك تصفي الود من ليس جازيا
11
خلقت ألوفا لو رحلت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
12
ولكن بالفسطاط بحرا أزرته
حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
13
وجردا مددنا بين آذانها القنا
فبتن خفافا يتبعن العواليا
14
تماشى بأيد كلما وافت الصفا
نقشن به صدر البزاة حوافيا
15
وتنظر من سود صوادق في الدجى
يرين بعيدات الشخوص كما هيا
16
وتنصب للجرس الخفي سوامعا
يخلن مناجاة الضمير تناديا
17
تجاذب فرسان الصباح أعنة
كأن على الأعناق منها أفاعيا
18
بعزم يسير الجسم في السرج راكبا
به ويسير القلب في الجسم ماشيا
19
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
20
فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
21
نجوز عليها المحسنين إلى الذي
نرى عندهم إحسانه والأياديا
22
فتى ما سرينا في ظهور جدودنا
إلى عصره إلا نرجي التلاقيا
23
ترفع عن عون المكارم قدره
فما يفعل الفعلات إلا عذاريا
24
يبيد عداوات البغاة بلطفه
فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا
25
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا
إليه وذا الوقت الذي كنت راجيا
26
لقيت المرورى والشناخيب دونه
وجبت هجيرا يترك الماء صاديا
27
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده
وكل سحاب لا أخص الغواديا
28
يدل بمعنى واحد كل فاخر
وقد جمع الرحمن فيك المعانيا
29
إذا كسب الناس المعالي بالندى
فإنك تعطي في نداك المعاليا
30
وغير كثير أن يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا
31
فقد تهب الجيش الذي جاء غازيا
لسائلك الفرد الذي جاء عافيا
32
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب
يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا
33
وما كنت ممن أدرك الملك بالمنى
ولكن بأيام أشبن النواصيا
34
عداك تراها في البلاد مساعيا
وأنت تراها في السماء مراقيا
35
لبست لها كدر العجاج كأنما
ترى غير صاف أن ترى الجو صافيا
36
وقدت إليها كل أجرد سابح
يؤديك غضبانا ويثنيك راضيا
37
ومخترط ماض يطيعك آمرا
ويعصي إذا استثنيت لو كنت ناهيا
38
وأسمر ذي عشرين ترضاه واردا
ويرضاك في إيراده الخيل ساقيا
39
كتائب ما انفكت تجوس عمائرا
من الأرض قد جاست إليها فيافيا
40
غزوت بها دور الملوك فباشرت
سنابكها هاماتهم والمغانيا
41
وأنت الذي تغشى الأسنة أولا
وتأنف أن تغشى الأسنة ثانيا
42
إذا الهند سوت بين سيفي كريهة
فسيفك في كف تزيل التساويا
43
ومن قول سام لو رآك لنسله:
فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
44
مدى بلغ الأستاذ أقصاه ربه
ونفس له لم ترض إلا التناهيا
45
دعته فلباها إلى المجد والعلا
وقد خالف الناس النفوس الدواعيا
46
فأصبح فوق العالمين يرونه
وإن كان يدنيه التكرم نائيا
47
ودخل على كافور بعد إنشاده هذه القصيدة، وابتسم إليه الأسود، ونهض فلبس نعلا فرأى أبو الطيب شقوقا برجليه وقبحا، فقال يهجوه:
أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
48
أمينا وإخلافا وغدرا وخسة
وجبنا؟ أشخصا لحت لي أم مخازيا؟!
49
تظن ابتساماتي رجاء وغبطة
وما أنا إلا ضاحك من رجائيا
50
وتعجبني رجلاك في النعل إنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا
51
وإنك لا تدري ألونك أسود
من الجهل أم قد صار أبيض صافيا؟!
52
ويذكرني تخييط كعبك شقه
ومشيك في ثوب من الزيت عاريا
53
ولولا فضول الناس جئتك مادحا
بما كنت في سري به لك هاجيا
54
فأصبحت مسرورا بما أنا منشد
وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا
55
فإن كنت لا خيرا أفدت فإنني
أفدت بلحظي مشفريك الملاهيا
56
ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة
ليضحك ربات الحداد البواكيا
57
تم الديوان والشرح بعون الله وتوفيقه
هوامش
Page inconnue