قال أرسطاطاليس : « وقد يخالف البرهان على « أن الشىء موجود » للبرهان « فلم هو موجود » . إما أولا ففى علم واحد بعينه . وهذا فعلى وجهين . أحد الوجهين هو أن البرهان على أن الشىء يكون من مقدمات ذوات أوساط . وهذا ليس توجد فيه العلة القريبة . والبرهان ب « لم الشىء ؟ » يكون بالعلة القريبة . » التفسير لما عرف شروط المقدمات البرهانية فى البرهان المطلق ، وعرف أنواعها وكذلك المسائل - يريد أن يعرف الفرق بين شروط مقدمات البرهان المطلق ، وبراهين الوجود فقط ، وهى التى تسمى الدلائل . وينبغى أن يعلم أن البراهين ثلاثة أنواع : البرهان المطلق ، وهو الذى يعطى الوجود والسبب ؛ وبرهان الوجود وهو الذي يعطى الوجود فقط ؛ وبرهان السبب ، وهو الذى يعطى السبب فقط ، إذا كان الموجود معلوما . وكون البراهين تنقسم إلى هذه الثلاثة أقسام - أمر معروف بنفسه ، فإن الشىء المجهول إنما يبين بشيء بينه وبينه وصلة ذاتية . ولما كانت الوصل الذاتية وصلتين : إما وصلة شىء متقدم على الشىء ، وإما وصلة متأخر عن الشيء - وجب أن يكون الشىء إنما يبين وجوده إما بأمر متقدم عليه يعطى سببه ووجوده ، وإما بأمر متأخر عنه يعطى وجوده فقط . وأما براهين الأسباب فقط ، وهى التى تأتلف من الأسباب التى تلزم وجود المسببات بالضرورة ، فليس يلزمها المسببات . ولذلك إذا وضعت المسببات موجودة ، لزم أن تكون تلك الأنواع من الأسباب أسبابا لها . وسنلخص أى الأسباب هى . وأما البراهين المطلقة فهى تأتلف من الأسباب التى يلزمها المسببات بالذات . وهذه القسمة للبراهين هى أمر معلوم بنفسه مجمع عليه عد أهل هذه الصناعة ، إلا ابن سينا : فإنه أنكر برهان الوجود ، وزعم أنه برهان غير صحيح . واعتمد فى رد ذلك بأن قال : أن الأمور المتأخرة عن الأمور المتقدمة المركبة ليس يوقف على كونها ذاتية للأمور المتقدمة ، إلا إذا وقف على السبب الذى من قبله [٦٧ أ] وجد المتأخر عن المتقدم . مثال ذلك : أنه ليس يمكننا أن نقف على كون التزيد فى ضوء القمر بشكل هلالى ذاتيا له ، ما لم نقف على السبب فى ذلك ، وهو كون القمر كري الشكل . وإذا كان الأمر كذلك ، فليس يصح لنا بيان أن شكله كرى من قبل أن ضوءه يزيد بشكل هلالى ، إذ كان التزيد أعرف ، والشكل أخص . وأما لو كان الأمر بالعكس ، لقد كان يتفق فى ذلك برهان يعطى الوجود والسبب معا ، أعنى أنه يبين أن ضوءه متزيد بشكل هلالى ، من قبل أنه كرى الشكل . ويقول إنه متى لم يشعر بهذا المعنى فى حمل الأعراض على موضوعاتها ، لم يكن فرق عندنا بين المقدمات التى تؤلف من الأعراض الذاتية ، أعنى التى محمولاتها أعراض ذاتية ، وبين المقدمات التى تؤلف من الأعراض التى شوهد بالحس أنها فى جميع الموضوع من غير أن يشعر بالنسبة بينها وبين الموضوع . مثال ذلك قولنا : كل غراب أسود ، وكل ثلج أبيض . فإن هذه الاعراض ليست ذاتية ولا ضرورية ، إذ كان لا يمتنع أن يوجد غراب أبيض ؛ وأمثال ذلك : لو نشاأ إنسان فى بلاد ليس فيها أسود ولا سمع به ، لقد كان يقطع بمثل هذا القطع أن : كل إنسان ابيض . فإذا كان الاستقراء غير كاف فى كون العرض ضروريا لموضوعه ، فباضطرار ما يجب ألا يوقف على العرض أنه ذاتى للموضوع ما لم نقف على سببه . وما كان سببه هو المطلوب ، أعنى أنه مجهول ، لزم ألا تكون مقدمات الدلائل ذاتية . وإذا لم تكن ذاتية ، لم تكن براهين . وكذلك يشبه أن يقال فى الصنف منها الذى يأتلف من الأسباب البعيدة . فنقول نحن : أما أن التصديق ، الذى يكون موجود العرض الذاتى لموضوعه من قبل السبب الخاص به ، هو أتم تصديقا من التصديق بالعرض الذاتى الذى يوجد للموضوع من قبل طبيعة الموضوع - فذلك أمر واجب . . وأما < أننا > لا نشعر بكون العرض ذاتيا للموضوع إلا متى شعرنا بسبب وجوده فى ذلك الموضوع فذلك أمر غير صحيح بل قد نشعر بكون العرض ذاتيا من قبل انحصاره فى طبيعة الموضوع ، وذلك إما فى الموضوع نفسه ، وإما فى جنسه الذاتى ، أعنى أن نشعر بانحصار العرض ومقابله فى جنس الموضوع القريب ، أعنى الذى ينقسم بذلك العرض ومقابله فبنسبه أولا على ما قيل قبل فى رسم الأعراض الذاتية . والدليل على ذلك أنه يكتفى فى حدود أمثال هذه الأعراض بأن يوجد فيها الموضوع ، وإن لم يظهر سببه . وهذا هو الفرق بين المقدمات الذاتية والاستقرائية ، أعنى أنه متى لم يشعر الذهن بضرورة أخذ الموضوع فى حد العرض ، كانت المقدمة استقرائية ولم يؤمن أن يوجد موضوعها فى وقت ما خاليا من ذلك العرض . ولكن ، كما قلنا ، اليقين بذلك هو [٦٨ ب ] دون اليقين الذى يحصل من قبل شعورنا بنسبه فى ذلك الموضوع . ومن قبل هذا ، صارت براهين الدلائل أنقص فى التصديق بالوجود من البراهين . لكن وإن كانت أنقص منها ، فليس النقصان العارض لها مما يخرجها أن تكون من جنس البراهين وإنما لم نقل إن سواد الغراب ذاتى للغراب ، ولا بياض الققنس للققنس ، من قبل أنه ليس السواد محصورا فى طبيعة الغراب ولا فى جنسه القريب الذى هو الحيوان . ولو كان محصورا فى جنسه ، لكان من الأعراض الذاتية له ولقطعت النفس أن كل غراب أسود ولا بد . فلذلك وجب فى أمثال هذه الأشياء ألا تشعر النفس بالذاتية فيها حتى تشعر بالسبب ولذلك ما يقول إنه لو نشأ إنسان على المجرى الطبيعى من بلاد البيض بحيث لا يرى أسود ولا يسمع به ، لما قطع قطعا أنه واجب أن يكون كل إنسان ابيض وإن كان لم يحس بعد إنسانا اسود . فابن سينا إنما غلطه ما وجد بين اليقينين من التفاوت : أعنى الذى يكون من قبل الشعور بوجود العرض الذاتى للموضوع من قبل سببه ، ويوجد له من قبل انحصاره فى الموضوع . فظن أن انحصاره فى الموضوع ليس يفيد يقينا ، وأنه لا فرق بينه وبين المقدمات الاستقرائية التى تستوفى فيها جميع أنواع الموضوع من غير أن يشعر الذهن بالنسبة الذاتية بينهما . بل نقول إن الذهن لا يقطع بأن العرض محصور فى طبيعة الموضوع ، إلا وقد نشك أن هنالك شيئا هو السبب فى انحصار ذلك العرض فى ذلك الموضوع ، وإن كان بعد لم يقف عليه ما هو . ولذلك يطلب معرفته بسببه . وإذ قد تبين هذا ، فلنرجع إلى حيث كنا من الشرح : « وقد يخالف البرهان ب « أن الشىء » البرهان « فلم هو موجود » . أما أولا ففى عمل واحد بعينه . وهذا فعلى وجهين » - يريد : وقد يخالف البرهان الذى يعطى وجود الشىء البرهان لذى يعطى سببه نوعين من المخالفة : أحدهما المخالفة التى تكون بينهما فى علم واحد ، وهى المخالفة التى فى طبيعتهما ، والآخر المخالفة التى تكون بينهما إذا كان أحدهما فى علم ، والآخر فى علم آخر . أعنى أن يكون الذى يعطى وجود الشىء فى علم ، وسببه فى علم آخر . وإنما تكون المخالفة كما قال فى علم واحد بوجهين ، من قبل إن برهان الوجود نوعان : أحدهما أن البرهان على « أن الشىء » ، أى الذى يعطى وجوده فقط ، النوع الواحد فيه يأتلف من أسباب بعيدة ؛ وبراهين الأسباب تكون من مقدمات هى أسباب قريبة . فبهذا النوع من المخالفة ، يخالف هذا النوع من براهين الوجود براهين الأسباب . وهو الذى أراد بقوله : « على أحد وجهين : أحد هما هو أن البرهان على « أن الشىء » يكون من مقدمات غير ذوات أوساط ، وهذه ليس تدخل فيها العلة القريبة . » قال أرسطاطاليس : « والوجه الآخر هو البرهان على أن الشىء موجود ، وإن كان من مقدمات غير ذوات أوساط سوى أن الوسط يكون فيه من المعلولات المتعاكسة على عللها بالتساوى ، أو تكون بأشياء هى أعرف . وذلك أن البرهان على أن الشىء ليس بشىء يمنع من أن يكون من المعلولات التى هى أعرف من عللها ، أو من المؤثرات التى هى منعكسة على عللها بالتساوى - بمنزلة البرهان على أن الكواكب المتحيرة قريبة منا ، من قبل أنها لا تلمع . فليكن الذى عليه « ج » : المتحيرة ، والذى عليه « ب » : أنها لا تلمع ، والذى عليه « أ» : قريبة منا : فالقول بأن « ب » على « ج » حق . وذلك أن المتحيرة لا تلمع [ 78 b]* . وكذلك « أ» على « ب » حق ، فإن الذى لا يلمع قريب منا . وهذه المقدمة تظهر بالاستقراء ، ومن قبل الحس . ف « أ» إذن موجودة ل « ج » من الاضطرار . فقد تبين الآن أن الكواكب المتحيرة قريبة منا . وهذا القياس ليس هو على « لم الشىء » . لكن إذا كان ليس سبب قربها منا أنها لا تلمع ، لكن من أجل أنها قريبة منا لا تلمع . » التفسير لما عرف الفرق بين أحد نوعى براهين الوجود ، وهو الذى يأتلف من الأسباب البعيدة ، وبين براهين الأسباب - أخذ يعرف الفرق الذى بين النوع الثانى من برهان الوجود ، وبين برهان السبب ، وهو الذى يبين فيه الأمر المتقدم من المتأخر عنه ، أعنى من أعراض الشىء الخاصة به ، فقال : « والوجه الآخر هو أن البرهان على أن الشىء موجود . . . إلى قوله . . أعرف » - يريد الوجه الآخر الذى يخالف به برهان السبب للنوع الآخر من نوعى برهان الوجود أن هذا النوع من البرهان برهان الوجود ، وإن كان يشارك برهان السبب فى كون مقدماتها غير ذوات أوساط فهو يفارقه فى أن الوسط فيه يكون معلولا ، لا علة . وذلك أيضا من المحمولات الخاصية ، أى التى تنعكس فى الحمل على عللها ، وذلك متى كانت هذه المعلولات اعرف عندنا من العلل . وإنما اشترط فى المعلول أن يكون خاصا بالعلة ، لأنه إذا كان عاما لم يلزم عن وجوده التقدم ؛ وذلك أن اللزوم فى هذا الباب بين المتقدم والمتأخر ، والعلة والمعلول ، يوجد على ثلاثة أنحاء : إما أن يلزم كل واحد منهما صاحبه لزوما متساويا - وهذا إذا كان المعلول أعرف عندنا من العلة - ائتلف فيه برهان وجود فقط . ثم قد يمكن أن نأخذ العلة فنبرهن بها سبب وجود المعلول للموضوع ، فيكون هنالك برهان سبب فقط ، مثلما يأتى من بيان أرسطو بعد . وأما إذا كانت العلة اعرف عندنا من المعلول فإنه إنما يتأتى فى هذا الصنف [٦٩ ب ] برهان مطلق فقط . وأما النحو الثانى من اللزوم فهو أن يلزم المتأخر عن المتقدم ، أعنى المعلول عن العلة . وليس ينعكس الأمر . وهذا الصنف ليس يتأتى فيه إلا برهان مطلق ، وذلك إذا كانت العلة أعرف . وإن لم تكن أعرف لم يتأت هالك برهان أصلا ، وإن كان المعلول أعرف عندنا ، إذ كان ليس يلزم وجود الخاص عن وجود العام فى الأمور المتلازمة ، كما قيل فى غير ما موضع وأما النحو الثالث من اللزوم فهو عكس هذا ، وهو أن يكون المتقدم يلزم عن المتأخر ،أعنى العلة عن المعلول . ولا ينعكس . وهذا إنما يتصور فيه برهان دليل فقط . فلما قال إن الذى يفارق به هذا النوع من الدليل برهان السبب أن الوسط يكون فيه من المعلومات المنعكسة على عللها بالتساوى ، إذا اتفق أن تكون المعلولات التى بهذه الصفة أعرف من العلل - قال : « وذلك أن البرهان على أن الشىء ليس يمنع من أن يكون من المعلولات التى هى أعرف من عللها ، أو من المعلولات التى هى منعكسة على التساوى » - يريد : وذلك أن البرهان الذى يعطى وجود الشىء ليس مانع يمنع وجوده إذا اتفق أن كان المعلول ينعكس على علته بالسواء ، اى متى وضع موجودا لزم وجود علته وكان مع ذلك المعلول أعرف عندنا من العلة . ثم أتى بمثال ذلك من المواد فقال : « بمنزلة البرهان على أن الكواكب المتحيرة قريبة منا ، من قبل أنها تلمع » - يريد : بمنزلة أن يبين مبين أن الكواكب الراجعة قريبة منا ، أى أقرب منا من الثابتة ، من قبل أن نراها لا تضطرب عند النظر إليها بمنزلة ما تضطرب الكواكب الثابتة ، وهو الذى أراد باللمعان . وذلك أن علة اضطراب الشىء المضىء هو إما ضعف البصر ، وإما بعد المرئى . لكن لما كان هذا عارضا لجميع الناس فى الثابتة دون المتحيرة ، علم أن السبب فى ذلك قرب المتحيرة . فيأتلف برهان الدليل هكذا : الكواكب الراجعة لا تضطرب عند النظر إليها ومالا يضطرب فهو قريب منا فينتح أن الكواكب المتحيرة قريبة منا وقوله : « وهذه المقدمة يظهر صدقها بالاستقراء ، ومن قبل الحس » - يعنى أن كل ما لا يضطرب عد النظر إليه فهو قريب منا . وبين أن هذا المثال العلة فيه والمعلول منعكسان ، كما قال . وقوله : « وهذا القياس ليس على « لم الشىء » إذا كان ليس سبب قربها منا أنها لا تلمع ، لكن من أجل أنها قريبة منا لا تلمع » - يريد : وهذا القياس ليس هو برهان سببه ، إذ كان الذى أخذ فيه حدا أوسط ليس سببا للطرف الأكبر، بل الأمر . بالعكس : الطرف الأكبر سبب للاوسط وذلك أن اللمعان والاضطراب الذى أخذ فيه حدا أوسط ليس هو سببا لقرب الكوكب ، بل الأمر بالعكس ، أعنى أن قرب [٧٠ أ] الكوكب هو سبب لئلا تلمع . قال أرسطاطاليس : « وقد يمكن أن نجعل الحد الأوسط محمولا فيكون عند ذلك برهان ب « لم » ، والمحمول وسطا بمنزلة أن يجعل ما عليه « ج » : المتحيرة ، وما عليه « ب » : قريبا منا ، وما عليه « أ» أنها لا تلمع و، ب ، موجوده ل « ج » و« أ» موجودة ل « ب » و« أ» موجودة : ل « ج » . ويكون هذا برهانا ب « لم هو» لأن الوسط فيه علة قريبة . » التفسير لما كان هذا الصنف من برهان الدليل يمكن فيه ، إذا تبين وجود العلة لموضوع ما بوجود المعلول لها فى ذلك الموضوع ، أن تؤخذ العلة فتجعل حدا أوسط ويبين بها وجود علة المعلول فى العلة فيكون ذلك برهان سبب فقط ، إذ من شرط برهان السبب أن يكون الوجود فيه معروفا فقط إما بالحس ، وإما بدليل - أخذ يعرف كيف يفرض هذا النوع من البيان فى برهان الدليل فى ذلك المثال بعينه . فقوله : فقد يمكن أن يجعل الحد الأوسط الذى أخذ وسطا فى الدليل محمولا فى المطلوب وهو المعلول ، والمحمول فى مطلوب الدليل وسطا فى القياس وهو العلة ، وذلك بعد بيانه بالدليل ، فيعطى سبب وجود المعلول الذى أعطى فى الدليل وجوده ، ويكون البرهان حينئذ برهان « لم » ، أى الذى يعطى السبب فقط . وإنما يعرض هذان الصنفان من البرهان فى الأشياء التى يجهل فيها وجود العلة فى شىء لأمر معلول فى ذلك الشىء عن تلك العلة ، ويكون معلول تلك العلة معلوم الوجود بنفسه فى ذلك الشىء ، ومعلوم وجود تلك العلة لذلك المعلول ، يبتدأ أولا فيبين فيه وجود العلة لذلك الشىء بتوسط وجود المعلول فيه ، ثم يبين علة سبب ذلك المعلول فى ذلك الشىء بذلك السبب بعينه . وهذا كثيرا ما يعرض فى العلوم الطبيعية . قال أرسطاطاليس : « وأيضا كما يثبتون أن القمر كرى يتزيد أنه ؛ وذلك أن الذى يقبل التزيد بهذا الضرب من القبول هو كرى ، والقمر يقبل هذا التزيد . فمن البين أنه كرى . فعلى هذا النحو يكون قياس أنه فأما إذا وضع الوسط بالعكس ، فيكون القياس على « لم هو » . وذلك أنه ليس إنما هو كرى بسبب تزيده هذا الضرب من التزيد ، لكن من قبل أنه كرى يقبل مثل هذه التزيدات . فليكن القمر عليه علامة « ج » ، والكرى ما عليه علامة « ب » ولتكن التزيدات ما عليه « أ» . وأما البراهين التى أوساطها معلولات هى اعرف ، وليس ينعكس بالتساوي ، فهى براهين على « أن » الشىء ؛ وأما على « لم هو » . » [ ٧٠ ب ] التفسير هذا مثال آخر من أنواع الدلائل التى يتفق فيها الصنفان جميعا من البراهين ، أعنى : برهان دليل ، وبرهان سبب . وهو إذا كان المتأخر عندنا أعرف من المتقدم ، وكان المتقدم منعكسا عليه ، أعنى أن يكون به خاضا . فقوله : « وأيضا كما يثبتون أن القمر كرى يتزيد أنه » - يريد : ومثال أيضا ما يبرهن منه المتقدم بالمتأخر مثال ما جرت به عادة أصحاب علم الهيئة أن يثبتوا أن شكل القمر كرى ، من قبل أن تزيدات ضوئه المخصوصة به هى كونها بشكل هلالى وقوله : « وذلك أن الذى يقيل التزيد بهذا الضرب من القبول هو كرى ، والقمر يقبل هذا التزيد . فمن البين أنه كرى . وتأليف هذا البرهان يكون : القمر يقبل التزيد الذى على هذه الصفة وما يقبل التزيد الذى على هذه الصفة فهو كرى فينتج فى الشكل الأول أن : القمر كرى الشكل وقوله : « فأما إذا وضع الوسط بالعكس ، فيكون قياس على « لم هو » - يريد : فأما إذا وضع الحد الأوسط بعكس ما وضع فى التأليف الأول ، أعنى أن يوضع الأوسط فى ذلك التأليف : أكبر ، ويوضع الأكبر : أوسط ، أى المتقدم ، فإنه يكون برهان يعطى سبب الشىء فقط . مثال ذلك : القمر كرى الشكل . وما هو كرى الشكل فهو يتزيد ضوؤه هذا الضرب من التزيد . فنكون قد وقفنا على السبب الذى من أجله كان تزيده بهذه الصفة ، إذ كان - كما قال - علة تزيده بهذه لم الصفة هو كونه كريا ، لا تزيده سببا فى كونه كريا . وإنما أخذ بدل هذه الحدود حروفا ليبين عموم القول بذلك ، وأن ما ظهر من ذلك لم يعرض من قبل هذه المادة التى تمثل بها ، وإنما عرض من قبل صورة هذا النوع من البرهان . وقوله : « فأما البراهين التى أوساطها معلولات هى أعرف ، وليس تنعكس بالتساوى فهى براهين على « أن » الشىء ؛ وأما براهين على « لم هو » - فلا » - يريد : وأما الصنف من برهان الدليل الذى الوسط فيه معلول عن الأكبر من قبل أنه أعرف من الأكبر وليس ينعكس عليه الأكبر من قبل أنه أعم منه ، فليس يتأتى فى هذه المادة إلا برهان دليل فقط ، لا برهان دليل وسبب كما يتأن فى المادة الأولى . والسبب فى ذلك أن الطرف الأكبر المتقدم أعم من الأوسط . فليس يلزم عن وجوده وجود الأوسط . قال أرسطاطاليس : « وأيضا البراهين التى يوضع الأوسط فيها خارجا عن الطرفين ، فإن هذه تكون البراهين فيها على « أن » الشيء . فأما « لم هو » - فلا ، إذ كان لم يؤت بالعلة نفسها ، بمنزلة القول : لم لا يتنفس الحائط ؟ فيقال : لأنه ليس بحيوان . ولو كانت العلة فى [٧١ أ] أنه لا يتنفس هو أنه ليس بحيوان ، لكانت العلة فى تنفسه هو أن يكون حيوانا وليس الأمر على هذا ، إذ كانت أشياء كثيرة حيوانات ولا تستنشق الهواء . وبالجملة إذا كان السبب هو العلة القريبة فى أن لا يكون الشىء موجودا ، بمنزلة أن يكون عدم اعتدال الحار والبارد هو السبب فى أن لا يكون الشىء صحيحا ، فإن اعتدالهما هو السبب القريب فى أن يكون الشىء صحيحا . وعلى هذا المثال : أن كانت الموجبة هي العلة في أن يكون الشيء موجودا ، فإن السلب هو السبب فى أن لا يكون موجودا . وأما الأشياء التى وفيت على هذا الوجه فليس القانون مطردا فيها ، من قبل أنه ليس من اجل أنه حيوان - يتنفس . والقياس الكائن بمثل هذه العلة البعيدة يتنفس ، وما عليه « ج » : الحائط . ف « أ» موجود لكل « ب » وهو الحيوان ، على ما سيبين . و« أ» ولا على شىء من « ج » . فإذن « ب » غير موجودة لشىء من « ج » . فالحائط إذن لا يتنفس . وقد يجب أن تكون أمثال هذه الأسباب تؤتى على وجه الإغراق فى التبيين . وهذا هو أن يؤتى بالأوساط بعد أن تبعد بعدا كثيرا ، مثل قول أنا خرسيس إن بلاد الصقالبة ليس فيها الغناء ، والسبب فى ذلك أنه ليس عندهم كروم . فهذا هو قدر الخلاف بين القياس على « أن » الشىء ، وبين القياس على « لم الشىء » فى علم واحد وفى أوساطها . » يكون فى الشكل الثانى . مثل أن نجعل ما عليه « أ» ؛ حيوانا ، وما عليه « ب » : أنه التفسير هذا النوع من الدليل قد يظن أنه الضرب الثانى من ضربى برهان الدليل اللذين صرح بهما فى أول هذا القول . وذلك أنه ذكر أنهما ضربان : ضرب ينتج فيه المتقدم بالمتأخر ، وهذا أحقها ببرهان الوجود . والضرب الآخر وينتج فيه المتاخر بالمتقدم كالحال فى البرهان المطلق . إلا أن الفرق بينهما أن المتقدم فى البرهان المطلق هو سبب قريب خاص ، وهذا هو سبب بعيد ، أى ذو وسط . وذلك إما خاص ، وإما عام . وعلى هذا الظاهر فقد يجب أن يكون هذا النوع من برهان الوجود : منه موجب ، ومنه سالب . وإن كان ذلك كذلك ، فلم قال أرسطو أن هذا الضرب يكون فى الشكل الثانى ، وهو الشكل الذى عناه بقوله : أن يكون الوسط خارجا عن الطرفين ، أى محمولا عليهما جميعا . فنحن بين أحد أمرين : إما أن نعد السالب الذى يعرض فى مثل هذا الشكل ،أعنى الثانى ، هو أحد صنفى برهان الوجود الذى يكون الحد الأوسط فيه سببا بعيدا ، أعنى أن نعتقد أن برهان الوجود - الذى يكون الحد الأوسط فيه سببا بعيدا - صنفان : أحدهما فى الشكل الأول ، والآخر فى الثانى [ ٧١ ب ] . وإما أن نعتقد أنه يرى أن هذا الصنف من البرهان إنما يكون فى هذا الشكل ، أعنى الثانى ، وأنه لا يكون منه موجب أصلا لمكان كونه فى هذا الشكل . إن كان ذلك كذلك ، فلم قال أيضا فى هذا إنه يكون فى الشكل الثانى ؟ وما الذى يمنع أن يكون فى الشكل الأول ، إذ كان فيه ما ينتح سالبا كليا ؟ هذا كله مما يجب أن نفحص عنه فى هذا الموضع ، فنقول : إنه يشبه أن يكون إنما خص الشكل الثانى بهذا المعنى دون الأول لأن علة السلب الذاتية لمحمول ما هى انتفاء السبب الذاتى لذلك المحمول عن ذلك الشىء المسلوب عنه ذلك المحمول وإذا كان ذلك كذلك ، فلا بد أن يسلب السبب عن الموضوع الذى يريد أن يسلب عنه المحمول إن كنا مزمعين أن نأتى بعلة ذاتية فتكون المقدمة الصغرى سالبة ولا بد . وذلك لا يكون إلا فى الشكل الثانى . ومثال ذلك أنا لو بينا أن الحائط ليس بمتنفس ، من قبل أنه جماد لكان ذلك فى الشكل الأول . لكن ليس الجمادية هى العلة فى امتناع التنفس عليه بالذات . وذلك أنها لو كانت بالذات علة لامتناع التنفس عليه ، لكان ارتفاع الحيوانية عنه علة له بالعرض ، أعنى لارتفاع التنفس . وذلك أن الشىء إنما يقتضى بوجوده وجود ذات أخرى . وأما اقتضاؤه بوجوده ارتفاع ذات أخرى - فبالعرض . ولهذا كان الذى يقتضى بالذات ارتفاع محمول ما عن شىء آخر إنما هو ارتفاع الشىء الذى يقتضى بوجوده وجود ذلك المحمول عن ذلك الشىء الذى ارتفع عنه ذلك المحمول . وأما السؤال الثانى وهو : هل هذا الصنف من برهان الدليل إنما يكون فى المقاييس التى فى السوالب فقط ، أم قد تكون فى التى بنتج الموجبات ؟ فيشبه أن يكون كونه داخلا فى المقاييس : التى تنتج السالب ، أعنى التى فى الشكل الثانى ، على ما قلناه ، هو له بالذات . وأما كونه فى المقاييس التى تنتج الموجبات فى الشكل الأول - فبالعرض . والسبب فى ذلك أن الأسباب البعيدة ليس تنتج وجود المحمول المطلوب أولا وبالذات للموضوع ، إلا متى اتفق فيها أن تكون مساوية للموضوع فى المطلوب . لأنه متى كانت أعم منه ، كانت أعم من محمول المطلوب الذاتى ، أذ شرط محمول المطلوب أن يكون مساويا للموضوع فى الطلب - على ما تبين قبل . وأيضا فكثيرا ما يكون اعم من محمول المطلوب . ومتى كانت أعم منه ، لم يصدق عليها حمل الطرف الأكبر ، وهو المطلوب ، حمل إيجاب . وأيضا إن سلمنا أن من محمولات المطالب ما يكون أعم من الموضوع ، فليس يمكن تبين أمثال هذه المحمولات للموضوع بسبب بعيد إلا بسبب هو : إما مساو للمحمول المطلوب ، وإما أخص . وذلك إنما يوجد [٧٢ أ] فى بعض الأسباب البعيدة . وأما إذا كان المقصود تبيين الشىء المسلوب ، فإنه أي سبب بعيد أخذناه لوجود ذلك الشىء المسلوب صدق حمله على المحمول فى المطلوب الذى نقصد سلبه عن الموضوع . فإذا سلبنا ذلك السبب عن الموضوع ، لزم ضرورة سلب المحمول عنه . مثال ذلك أنه أذا أخذنا سبب التنفس البعيد الذى هو مثلا : الحيوان ، صدق حمله على التنفس . فإذا أخذناه مسلوبا عن شىء ما - كأنك قلت : عن الحائط - أصبح فى الشكل الثانى أن الحائط ليس بمتنفس ،هكذا : الحائط ليس بحيوان وكل متنفس حيوان فينتح عن ذلك أن : الحائط ليس بمتنفس . ولو أخذناه على طريق الإيجاب لم يمكن أن ننتج منه أن شيئا من أنواع الحيوان متنفس . مثل أن نقول الدلفين حيوان ؛ فهو متنفس ، لأنه ليس كل حيوان فهو متنفس . فلهذا ما وجب أن يكون هذا الصنف من برهان الوجود يأتلف بالذات فى الشكل الثانى ، أعنى بما الحد الأوسط فيه سبب بعيد ويكون ، ولا بد ، فى جنس السوالب ، ومن السالب فى المثال . وأما ثامسطيوس فإنا نجده جعل البراهين التى تعطى الوجود ثلاثة أصناف : الصنف الأول الذى ينتح فيه المتقدم بالمتأخر ، أعنى السبب بالعرض الذى هو مقابل الجوهر ، والصنف الثانى الذى ينتج فيه الشىء بسببه البعيد ، وهو الذى تقدم ذكره . والثالث أن ينتح متأخرا بمتأخر ، مثلما تبين أن هذا العليل ماؤه غير نضيج ، من قبل أن نبضه مختلف ، وذلك أن اختلاف النبض وعدم نضج الماء هما أمران معلولان عن حمى العفونة ، ومتأخران عنها بالسواء . وأمثال هذه المقاييس فليست براهين إلا بالعرض ، لأنه ليس يكون فيها بين الحد الأكبر والأوسط نسبة من النسبتين الذاتيتين ، أعنى التى يؤخذ المحمول فيها فى حد الموضوع ، أو الموضوع فى حد المحمول . ولذلك اطرحه ارسطاطاليس . وأما أبو نصر فإنا نجده قد غلط فى هذا الموضع . وذلك أنه قال إن براهين الوجود صنفان ، كما قال ارسطاطاليس . وابتدأ بذكر الصنف الأول منها المتفق عليه ، وهو الذى ينتج فيه المتقدم بالمتأخر . فلما وصل إلى الصنف الثانى ، قال ما هذا نصه : والصنف الثانى من البراهين التى تعطى الوجود فقط فهو الذى يعرف فيه المتأخر بالمتأخر ، وهو أن يكون أمران تابعان لشىء واحد غيرهما ، وتكون مرتبة كل واحد منهما فى التأخير عن ذلك الشىء مرتبة واحدة ، وتكون نسبة أحدهما إلى الآخر إحدى تلك النسب التى ذكرت ، فيبين وجود أحد المتأخرين لموضوع ما بأن يؤخذ الحد الأوسط فيه ، الأمر الأخر » ثم قال : مثال ذلك أن الأرض لا تتحرك لأنها ليس لها مكان تتحرك إليه ، والحائط لا يتنفس لأنه ليس بحيوان ، وأشباه هذه البراهين . [ ٧٢ ب ] وهذه هى بعينها مثل أرسطو فى الصنف الذى قال فيه إن الحد الأوسط فيه سبب بعيد . ففى هذا القول شكوك : أحدها أن قوله فيه : « فهو الذى يعرف فيه المتأخر بالمتأخر » - يوجب أن يكون الحد الأوسط والأكبر فى هذا الصنف من البرهان معلولين عن الموضوع ، والسبب البعيد هو علة الموضوع أو المحمول . فكيف صح أن يتمثل بمثال أرسطو فى هذا المعنى ، مع وضعه أنهما أمران متأخران فى الموضوع ؟ والسبب البعيد ليس بمتأخر عن الموضوع ، فضلا عن أن يكون هو والمتأخر الثانى فى مرتبة واحدة كما قال . ومنها أن قوله : « وتكون مرتبة كل واحد منهما فى التأخر عن ذلك الشىء مرتبة واحدة » ، وقوله : « وتكون نسبة أحدهما إلى الآخر تلك النسب التى ذكرت » - متناقض . وذلك أن ما كان بينهما إحدى النسب ، فأحدهما متقدم على الآخر . وإذا كان أحدهما متقدما على الآخر ، وهما فى موضوع واحد - فكيف يقال إن مرتبتهما فى التأخر عن الموضوع مرتبة واحدة ؟ ! وليس لقائل أن يقول إن الأمور المسلوبة عن الشىء هى بهذه الصفة : مثل الحيوانية والتنفس فإنهما فى مرتبة واحدة من التأخر عن الحائط ، فإن الحيوانية أقدم من التنفس . فسلب الحيوانية عن الحائط هو علة سلب التنفس عنه . وإذا كان الأمر كذلك ، لم تكن مرتبتهما فى السلبية مرتبة واحدة . وذلك أن حال السلب فى الأشياء كحال الوجود . فهذا القول فيه من الإشكال والغلط ما ترى . والسبب فى ذلك إضرابه عن تعليم أرسطاطاليس فى هذا المعنى . ولنرجع إلى شرج قوله . فقوله : « وأيضا البراهين التى يوضع الأوسط فيها خارجا عن الطرفين فإن هذه تكون البراهين فيها على « أن » الشىء ، فأما « لم هو» - فلا ، إذ كان لم يؤت فى ذلك بالعلة نفسها » - يريد : وأيضا البراهين التى بوضع الحد الأوسط فيها محمولا على الطرفين - وهو علة بعيدة - فإن هذه البراهين هى براهين تعطى وجود الشىء ، لا سبب وجوده ، إذ كان لم يجعل الحد الأوسط فيه علة قريبة . ثم أتى بمثال ذلك فقال : « بمنزلة القول : لم لا يتنفس الحائط ؟ فيقال : لأنه ليس بحيوان - يريد : بمنزلة ما يسأل سائل فيقول : لم لا يتنفس الحائط فيجاب : لأنه ليس بحيوان . فيأتلف القياس فى الشكل الثانى هكذا : الحائط ليس بحيوان وكل متنفس حيوان ينتج بعكس أن : الحائط ليس بمتنفس . ولما ذكر أن هذه العلة بعيدة ، أخذ يبين ذلك فقال : « ولو كانت العلة فى أنه لا يتنفس هى أنه ليس بحيوان ، لكانت العلة فى تنفسه هى أن يكون حيوانا . وليس الأمر كذلك ، إذ كانت أشياء كثيرة حيوانات ولا تستنشق الهواء » - يريد : وذلك أن هذه العلة التي أعطى المجيب فى هذا الجواب ليست بعلة قريبة مقتضية [٧٣ أ] بذاتها لسلب التنفس عن الحائط . وذلك أنها لو كانت علة قريبة لسلب التنفس للحائط ، لكانت هى العلة الموجبة لوجود التنفس فى الحيوان . ولو كان الأمر كذلك ، لكان كل حيوان متنفسا . وليس الأمر كذلك ، إذ كنا نجد حيوانات كثيرة لا تتنفس ، مثل الحيوانات التى لا دم لها . ولو أتى فيها بالعلة القريبة لقيل إن الحائط لا يتنفس من قبل أنه ليس بذى رئة . وذلك أن الرئة هى السبب القريب فى التنفس . ولذلك يصدق أن : كل ذى رئة متنفس . ولما ذكر إن هذا وأشباهه ليس سلبا من قبل سبب قريب أخذ فى الحد الأوسط وبين العلة فى ذلك ، أخذ يعرف بالجملة السبب القريب المأخوذ فى السلب ، أي سبب هو، فقال : « وبالجملة إذا كان . . . » إلى قوله . . فى أن يكون الشىء صحيحا » - يريد : وبالجملة إذا كان عدم السبب القريب هو سبب فى أن لا يكون شىء موجودا ، بمنزلة ما يكون عدم اعتدال الحار والبارد فى بدن الإنسان هو السبب فى أن لا يكون الشىء صحيحا ، فإن وجود ذلك السبب لا هو السبب فى أن يكون ذلك الشيء موجودا . مثال ذلك : أن اعتدال الحار والبارد لما كان السبب في أن يكون الشىء صحيحا ، كان عدمه هو السبب فى أن لا يكون صحيحا . ثم قال : « وعلى هذا المثال إن كانت الموجبة هى العلة فى أن يكون الشىء موجودا ، فإن السلب هو السبب فى أن لا يكون الشىء موجودا » - يريد : وبالجملة ، فهو من المعروف بنفسه أنه إذا كان وجود شىء ما لشىء هو العلة فى وجود شىء آخر له ، فإن سلب ذلك الشىء هو العلة فى سلب ذلك الشىء عنه . وقوله : « وأما الأشياء التى وفيت على هذا الوجه فليس القانون فيها مطردا ، من قبل أنه ليس من اجل أنه حيوان : يتنفس » - يريد : وأما الأشياء التى توفى الأسباب فيها على جهة ما يوفى الحيوان سببا لعدم الحائط التنفس ، فليس يوجد فيها هذا القانون مطردا ، أعنى القانون الذى رسمنا به العلة القريبة وذلك أن المتنفس ليس يتنفس لأنه حيوان . وقد كنا قلنا إن القانون الذى فى سبب السلب القريب هو أن يكون ذلك الشىء بعينه هو السبب فى وجود ذلك الشىء المسلوب . وقوله : « والقياس الكائن بمثل هذه العلة البعيدة يكون فى الشكل الثانى » - قد قلنا السبب فيه . وما تمثل به بالحروف والمواد هو أمر بين بنفسه . وقوله : « وقد يجب أن تكون أمثال هذه الأسباب يؤتى بها على وجه الإغراق فى التبيين ، وهذا هو بأن يأتى بالأوسط بعد أن تبعد بعدا كثيرا » - يريد أن أمثال هذه البيانات إنما يقصد بها الاغراق . وذلك أنه إذا تبين فى الحائط أنه ليس بحيوان ، فهو أحرى أن يبين فيه أنه ليس بمتنفس ، أى : فهو أبعد من أن يكون متنفسا من أن يبين فيه أنه ليس بمتنفس ، من قبل أنه ليس بذى رئة . وذلك أن الذى ليس بحيوان أبعد [ ٧٣ ب ] من التنفس من الذى ليس بذى رئة من الحيوان . وحكايته عن أنا خرسيس أن بلدان الصقالبة ليس فيها غناء ، من قبل أنه ليس فيها كروم ، وهو- كما قال - سبب بعيد أتى به على طريق الاستغراق . وإنما أراد به : إذا لم تكن عندهم كروم ، لم يكن عندهم خمور ؛ ؛ وإذا لم تكن عدهم خمور ، لم يكن عندهم طرب وإذا لم يكن عدهم طرب ، لم يستعملوا الغناء فى الأكثر . ولما ذكر أنواع براهين الوجود والفصول التى فيها ، وبين براهين السبب ، وهى الفصول التى يكون بينها علم واحد ، ذكر بذلك على جهة الختم فقال : « فهذا قدر الخلاف بين القياس على « أن » الشىء وبين القياس على « لم » الشىء فى علم واحد وفى أوساطها » - يريد : فهذا هو مقدار ما يخالف به البرهان الذى يعطى « أن » الشىء ، أى وجوده فقط ، وبين البرهان الذى يعطى « لم » الشىء أعنى الذى يعطى سببه . وقوله : « وفى أوساطها » - يريد : وهو الخلاف الذى يكون بينهما من قبل اختلاف الحدود الوسط فيها . وذلك أن الخلاف بين البرهانين فى علم واحد إنما هو من قبل اختلافهما فى أنفسهما ، واختلافهما فى أنفسهما وفى طبيعتهما إنما من قبل اختلاف طبيعة الحدود الوسط فيها . قال أرسطاطاليس : « وأما الخلاف الذى بينهما فى علمين مختلفين فيكون على نحو آخر غير النحو الأول ، وهو أن يكون أحد العلمين تحت الأخر ، بمنزلة علم المناظر تحت الهندسة ، وعلم الحيل عند علم المجسمات ، وعلم تأليف اللحون عند علم العدد ، والظاهرات عند علم النجوم . أما هذه العلوم فتكاد تكون متواطئة اسما بمنزلة علم النجوم التعاليمى . والذى تستعمله صناعة الملاحة ، [ 79 a]* وبمنزلة علم اللحون التعاليمى عند الذى فى الأوتار . » التفسير برهان الوجود والسبب إما أن يخالف برهان الوجود فقط بالإضافة إلى شئ واحد ، أو بالإضافة إلى مطلوبين . وكل واحد من هذين إما أن يكون فى صناعة واحدة ، وإما فى صناعتين . والذى يكون بالإضافة إلى مطالب كثيرة قد يكون على موضوع واحد ، وقد يكون على موضوعات مختلفة . إذا كان على مطلوب واحد ، فلا يخلو أن يتعاونا عليه ، أو يكونا غير متعاونين ، بل بينه كل واحد منهما بذاته . فأما الذى يكون منهما فى صناعة واحدة ، سواء كان على مطلوب واحد أو مطلوبين ، فالخلاف بينهما هو الخلاف الذى تقدم ، وهو الخلاف الذى تقتضيه طبيعة البرهانين ، أعنى الخلاف الذى يكون من قبل الخلاف في طبيعة الحد الأوسط فيهما . وأما الذى منهما فى صناعتين ، فإن كان على مطلوبين ، فهو الخلاف الذى يكون بينهما فى الصناعة الواحدة ، أعنى من قبل اختلاف الحد الأوسط . وأما إن كان على مطلوب واحد ، وهو فى صناعتين ، فإنه يكون أيضا على وجهين : أحدهما أن يبين كل واحد منهما ذلك المطلوب بعينه على حياله ، وذلك بجهتين مختلفتين ، مثل أن يبين صاحب علم النجوم أن القمر كرى من قبل أن ضوءه يتزيد بشكل هلالى ، ويعطى صاحب العلم الطبيعى السبب فى كريته من قبل أنه جرم لا ثقيل ولا خفيف - والوجه الثانى أن تتعاون الصناعتان على مطلوب واحد فتبين إحداهما وجوده ، وتعطى الثانية للأخرى سبب الوجود . فهذا هو الذى قصد بيانه فى هذا الفصل ، إذ كانت سائر الأقسام قد بينت فى الفصل الآخر ، أعنى الفرق بين البرهان فى العلم الواحد ، سواء كان المطلوب متحدا ، أو مفترقا ، أو فى علمين إذا كان المطلوب مفترقا أو متحدا ، على النحو الواحد الذى ذكرناه . وإنما سكت عن هذا أرسطو لأن فصل اختلافهما فى العلم الواحد هو بعينه فصل اختلافهما إذا اختلف المطلب فى العلمين أو اتحد المطلوب فى العلمين ، لا على جهة التعاون ، بل على أن كل واحد من البرهانين يكتفى بنفسه فيما يبينه من ذلك المطلوب . فقوله : « وأما الخلاف الذى بينهما فى علمين مختلفين فيكون على نحو غير النحو الأول » - يريد : وأما الخلاف الذى بينهما فى علمين مختلفين على جهة التعاون ، أعنى أن يتعاونا على مطلوب واحد ، فيبين أحدهما فيه وجوده ، والآخر سببه - فهو بخلاف تعاونهما فى علم واحد . وذلك أنهما إذا تعاونا على مطالب أكثر من واحد لشىء واحد ، فيختلفان بأن الحد الأكبر فى أحدهما يكون حدا أوسط فى الآخر ، والأوسط أكبر . وكذلك يختلفان أيضا إذا تعاونا فى العلم الواحد فى مطلوب واحد ، بأن يعطى أحدهما سبب الشىء البعيد ، ويعطى الاخر القريب ، فيتم العلم بجميع أسباب ذلك الشىء . وأما إذا تعاونا فى علمين على شئ واحد بأن يعطى أحدهما وجود الشىء فى العلم الواحد ، والآخر سببه ، فإن اختلافهما يكون بأن يعطى أحدهما فى ذلك الشىء المطلوب وجوده إما بدليل ، وإما على أنه من المعروفات بأنفسها فى تلك الصناعة ، وإما من قبل التجربة ، وذلك إما فى آلات ، وإما فى غير آلات . ويعطى الآخر سببه على أنه نتيجة برهان فى العلم الأعلى وفى الآخر حدا أوسط . وذلك إنما يتفق فى العلوم التى موضوعاتها بعضها صور لبعض ، أى يتنزل موضوع العلم الأعلى من موضوع العلم الأسفل منزلة الصور العامة [٧٤ ب ] من الصور الخاصة . وذلك يكون - كما قال - التى بعضها تحت بعض ، وهى التى تختلف موضوعا بالزيادة والنقصان ، مثل علم المناظر مع عالم الهندسة ، فإن علم المناظر تحت علم الهندسة ، إذ كانت الهندسة تنظر فى الخط من جهة النقصان ، أى من جهة ما هو خط ، وينظر علم المناظر فيه من جهة الزيادة ، أى من جهة ما هو خط شعاعى . ولذلك كان صاحب المناظر يأخذ كثيرا من نتائج الهندسة ، فيضعها حدودا وسطى فى براهين الأسباب عنده . وإنما كان ذلك كذلك لأنه لما كان العلم الأعلى بمنزلة الصورة للعلم الأسفل ، صار ما تبين فيه وجوده سببا لما تبين وجوده فى العلم الأسفل - ومن هذه - كما قال - علم تأليف اللحون مع علم العدد ، أعنى أن علم اللحون هو داخل تحت علم العدد ، وكذلك علم ، الحيل تحت المجسمات ، يعنى علم الأثقال : فإن علم الأثقال ينظر فى الأجسام بما هى ثقيلة ومحركة له . وقوله : « والظاهرات عند علم النجوم » - يريد : بمنزلة أيضا الصنائع التجريبية عند الصنائع العلمية ، أعنى التى تعطى أسباب ما صححته التجربة فى تلك الصناعة التجريبية ، بمنزلة معرفة الكواكب التى لا تغيب فى وقت من الأوقات . فإن التجربة النجومية توقف على هذه الكواكب ، أعنى الرصدية ، وصناعة النجوم التعاليمية - أعنى النظرية - توقف على أسباب ظهورها أبدا ، أعنى العلمية . وهذه ، بالجملة ، هى حال الصنائع التى تنقسم إلى عمل وعلم . ويشبه أن يكون فى هذه قال : « أما هذه العلوم فتكاد تكون متواطئة أسماؤها » - يريد أنه يظن بها أنها علم واحد ، بمنزلة صناعة الطب التجريبية ، مع القياسية ، وهى فى الحقيقة علمان . وكذلك صناعة النجوم النظرية مع الرصدية . وقوله : « فى هذه بمنزلة علم النجوم التعاليمى ، والذى تستعمله صناعة الملاحة ، وبمنزلة علم اللحون التعاليمى عند الذى فى الأوتار » - يريد : فيما أحسب ، أن صناعة الملاحة هى التى تثبت بالتجربة أزمان طلوع كثير من الكواكب ، لما يعرض فى الجو من التغاير عن ذلك . وصناعة التعاليم النجومية تعطى أسباب ذلك ، أعنى أسباب طلوعها فى الأوقات المختلفة . فإذ قد تقرر من قوله هذا أن الصنائع التى تتعاون على بيان الشىء الواحد بعينه بأن تعطى إحداهما الوجود ، وتعطى الأخرى السبب - صنفان : أحدهما الصنائع النظرية التى بعضها تحت بعض ، والصنف الثانى الصنائع العلمية والعملية التى تنظر فى شئ واحد ، لكن بجهتين مختلفتين مثل صناعة الموسيقى العملية والعلمية ؛ فإن العملية تعطى العلمية المبادئ التى فيها تنظر العلمية . والعلمية تعطى العملية أسباب تلك المبادئ . وهذا هو الذى [ ٧٥ أ] أراد بقوله : « بمنزلة علم اللص لون التعاليمى عند الذى فى الأوتار » - يعنى : العملي . وقد يوجد هاهنا نوع آخر من التعاليمى بين الصناعة السفلى والعليا ، مثل التعاون الذى بين صناعة التعاليم والعلم الإلهى . وذلك أن الطبيعة تعطى لصاحب العلم الإلهى أن هاهنا موجودات مفارقة للمواد ، والتعاليمى يعطى عددها من قبل إعطاء الحركات . والإلهى ينظر فى جواهرها وجميع ما يلحقها . وكذلك كثير من < الأمور > التى يقررها العلم الإلهى يحلها بما تبين فى العلم الطبيعي . ولكن هذا النوع من التعاون غير الذى قصده أرسطاطاليس . وذلك أن المتأخر هاهنا هو الذى يعطى المتقدم الموضوع الذى ينظر فيه ، وهناك المتقدم يعطى المتأخر السبب الذى يجرى من الشىء الذى ينظر فيه المتأخر مجرى الصورة . قال أرسطاطاليس : « والعلم ب « أن » الشىء هو قريب من الجزئى . فأما العلم ب « لم » الشىء فهو لأصحاب التعاليم إذ كان هؤلاء هم الذين عندهم العلم بالأسباب . وكثيرا مالا يشعرون بأن الشىء موجود ، كصورة الذين يبحثون عن الأمر الكلى ، فإنهم كثيرا مالا يشعرون بالجزئيات لقلة بحثهم عنها . وهؤلاء هم الذين يأخذون صورا معقولة ويجردونها من المادة . فإن أصحاب التعاليم إنما يأخذون الصور معقولة ويجردونها من المادة ، وذلك أن المقادير ، وإن كانت مع مادة ، فإن التعاليمى ليس يستعملها فى الموضوع لكن < من حيث الصورة > » . التفسير لما بين أن العلوم التى بعضها تحت بعض تتعاون فى أن يعطى العلم الأسفل فى الشىء معرفة وجوده ، ويعطى العلم الأعلى فيه معرفة سبب ذلك الوجود ، وكانت العلوم السفلى قريبة من المواد ، والأمور إذا أخذت من حيث هى فى المواد كانت قريبة من الجزئية - أخبر بذلك فقال : « والعلم ب « أن » الشىء هو قريب من الجزئى » - يريد : وإنما كان العلم الأسفل هو الذى يعطى وجود الشىء ، لأن العلم الأسفل قريب من الجزئى ، والعلم بوجود الشىء قريب من الجزئى ، وكان العلم الأعلى يعطى لم هو الشىء ، لأن العلم الأعلى هو أبعد من الجزئى ، والعلم ب « لم هو » بعيد من الجزئى ، وذلك لكون العلم الأعلى بعيدا من المادة . وهذه هى علوم التعاليم . ولذلك قال : « فأما العلم ب « لم هو » فهو لأصحاب التعاليم ، إذ كان هؤلاء هم الذين عدهم العلم بالأسباب » - يريد أن الأسباب عند هؤلاء هى معروفة بالطبع لنا ، بخلاف الأمر فى العلم الطبيعى لكونه ماديا . وذلك أن المتقدمة فى المعرفة فى التعاليم هى المتقدمة فى الوجود ، والمتقدمة فى المعرفة عندنا فى العلم الطبيعى [ ٧٥ ب ] هى المتأخرة فى الوجود . فهذا هو الذى أراد بقوله إن العلم ب « لم الشىء » إنما هو للتعاليم ، لا أن العلم الطبيعى ليس يعطى « لم الشىء » أصلا والسبب فى ذلك أن التعاليم هى أشد كلية لكونها بريئة عن المادة . وكلما كان الشىء أشد كلية فهو أعرف عندنا . وقوله : « وكثيرا مالا يشعرون بأن الشىء موجود كصورة الذين يبحثون عن الأمر الكلى ، فإنهم كثيرا مالا يشعرون بالجزئيات لقلة بحثهم عنها » - يريد : ولكن نظر التعاليم فى الأمور الكلية البعيدة من الهيولى كثيرا ما يعلمون الأسباب ولا يشعرون بوجود الشىء فى الأسباب ، إذ كان الوجود إنما هو للأمور الجزئيات المحسوسة ، أعنى الموجودة فى الهيولى ، مثل انهم يعلمون حد « الوحدة » فإذا سئلوا عن وجودها ربما عرض لهم فيها شك . وكذلك ما يقولونه فى حد « الدوائر» وحدود « الخطوط » وحدود « السطوح » - ، أعنى أنهم لا يقدرون أن يثبتوا أن هذه أمور موجودة وذلك أن النظر التعاليمى ليس فى طباعه أن يشعر وجودها . وهو الذى أراد ، فيما احسب بقوله : « وكثيرا مالا يشعرون بان الشىء موجود كصورة الذين يبحثون عن الأمر الكلى ، فإنهم كثيرا مالا يشعرون بالجزئيات » - يريد وكثيرا مالا يشعر أصحاب التعاليم بوجود الأشياء النى فى صناعتهم ، أعنى التى يجدونها ويوفون أسبابها ، لأنها ليس من شان صناعتهم أن تعرف وجود تلك الأشياء وتوقف عليها ، بل إنما توقف عليها صناعة أخرى . وثامسطيوس يقول إن هذا الذى قاله هو مثل ما عرض له أن يعلم من التعاليم السبب فى ملائمة النغمة التى بالضعف ، ولا يدركها إذا كان لم يرتض بالموسيقى العملية ، وهى التى توقف على وجود النغم . ويشبه أن يكون من لم يقف ، فى أمثال هذه الأشياء ، على الوجود ، لم يقف على السبب إلا من جهة ما الوجود عنده فى ذلك الشىء مستند إلى الشهرة ، لا إلى اليقين . فيكون معنى قوله : « لقلة بحثهم عنه » - أى لتوانيهم عن البحث عنه فى العلم الذى يبحث عنه - على هذا التأويل . وهذا هو نقص من قبل الناظر ، لا من قبل طبيعة الأمر المنظور فيه . ويشبه أن يكون من هذا النوع - على هذا التأويل الأول - علم المهندس من كتاب اقليدس كيف يعمل مثلثا متساوى الأضلاع ، وهو مع هذا لا يدرى كيف يصنعه جزئيا أى من خشب أو نحاس ، أو غير ذلك . ولما ذكر أصحاب التعاليم رسمهم فقال : « وهؤلاء هم الذين يأخذون صورا معقولة ويجردونها من المادة ، فإن التعاليمى ليس يستعملها فى موضوع ، أى ليس ينظر فى الصورة من حيث هى فى موضوع ، فهو لا يشعر بوجودها ، إذ كان وجودها إنما هو فى موضوع . وهذا الذى قاله [٧٦ أ] من أمر التعاليم ظاهر جدا . قال أرسطاطاليس : وقد يوجد علم آخر حاله عند علم المناظر كحال علم المناظر عند الهندسة ، بمنزلة قوس قزح الحادث فى السحاب : أما أنه موجود ، فينظر فيه الطبيعى . وأما لم هو - فالنظر فى ذلك إلى صاحب علم المناظر : إما على الإطلاق ، وإما للذى هو فى التعاليم . وكثير من العلوم التى ليس بعضها مرتبا تحت بعض صورتها هذه الصورة ، بمنزلة حال الطب عند علم الهندسة ، وذلك أن الجرح المستدير : أما أن برءه عسير - فعلمه إلى الطبيب ؟ وأما لم ذلك - فإلى المهندس . » التفسير لما ذكر لم العلوم ، التى تتعاون على معرفة الشىء فيعطى أحدها فيه وجوده ، والثانى سببه ، وأن الذى يعطى السبب منه هو العلم الكلى الأعلى ، والذى يعطى الوجود هو العلم الجزئى الذى تحته ، وكانت هذه قد تنتهى فى هذا المعنى إلى ثلاث مراتب - أخذ يذكر ذلك فقال . « وقد يوجد علم آخر حاله عند علم المناظر كحال علم المناظر عند علم الهندسة » - يريد أن هذه العلوم قد يوجد لها فى هذا المعنى ثلاث مراتب ، مثل علم الهندسة فإنه يعطى أسباب كثير من الأشياء التى يعطى وجودها صاحب العلم الطبيعى . مثال ذلك : قوس قزح : فإن صاحب العلم الطبيعى يعطى شكله وعدد ألوانه الموجودة فيه وترتيبها . وصاحب علم المناظر يعطى أسباب ذلك ، وبخاصة الأسباب القريبة . وقوله : « إما على الإطلاق ، وإما لما كان فيها فى التعاليم » - وإنما قال ذلك لأنه قد يمكن < أن يكون > من أسباب القوس ما ينظر فيه صاحب العلم الطبيعى ، وهى الأسباب التى ليست تعاليمية ، مثل الوقوف على العلة التى من أجلها يظهر فيه اللون الأصفر بين الأشقر والأخضر . وذلك بين لمن نظر فى العلم الطبيعى . ولما ذكر أن العلوم التى تتعاون على معرفة وجود الشىء وسببه هى العلوم المرتبة بعضها تحت بعض ، أخبر أنه قد يوجد من العلوم ما هذا شأنه من غير أن يكون بعضها داخلا تحت بعض ، بمنزلة علم الطب عند علم الهندسة . فإن الطبيب بين أن الجرح المستدير أعسر برءا ، والمهندس يعطى سببه وهو عدمه الزوايا التى يسهل من قبلها الالتحام ، أو عظم الجسم الذى ينبت فيه ، لأنه قد بين المهندسون أن الجسم المستدير يسع أكبر من الجسم الغير مستدير اللذين يتساوى محيطهما .
١٤ - <تفوق الشكل الأول>
Page 373