ولست أدري أكانت خيبة أملها في زوجها أشد عليها من خيبة أملها في ابنها، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذه المرأة البائسة قد فقدت في وقت واحد ثقتها بالزوج وثقتها بالابن، واستحيت من نفسها أن يكون سلطانها على زوجها قد ضعف إلى هذا الحد، واستحيت من نفسها أن تقدم إلى جاراتها وأصدقائها في المدينة هذه الهدية المنكرة التي أهديت إلى ابنها، ولعلها كانت سعيدة بهذا المرض الذي اضطرها إلى غرفتها، وحال بينها وبين استقبال الزائرات وقد جئن يهنئنها بما كانت تحدث نفسها به، وبما تحدث كل أم نفسها به، من الفرح بابنها يوم تزف إليه عروس صالحة بارعة الجمال كثيرة المال. أعفيت من هذا كله، ولم تستقبل من الزائرات إلا هذه الآلام المبرحة التي لزمت غرفتها ليلا ونهارا، وهذه الحمى الناهكة التي كانت تزورها وجه النهار وآخره، وكان علي أشقى الناس بهذا المرض وأشدهم به ضيقا، ولكنه لم يكن يقدر أنه سينتهي بامرأته إلى الموت، ولم يقدر أن إصراره على هذا الزواج كان مصدرا لهذا المرض أو كان مصدرا من مصادره، ومع ذلك فقد أحس ذات يوم أن امرأته في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة، فجزع لذلك جزعا شديدا كاد يخرجه عن طوره، لولا أنه كان مؤمنا حقا، وقد أقبل على امرأته يستغفرها مما يمكن أن يكون قد قدم إليها من خطيئة أو جنى عليها من ذنب، ويسألها وصوته يرتجف ودموعه تغمر لحيته أن تدعو الله له بخير ليعلم أنها عنه راضية، قالت في صوت نحيل ضئيل: ليكن مرضي وموتي كفارة عما جنيت بتزويج ابننا من هذه الفتاة. قال علي وقد كاد صوته يحتبس في حلقه: فإنه أمر الشيخ. قالت: وليكن مرضي وموتي كفارة عن هذا الشيخ أيضا.
وقد عمر علي بعد موت امرأته عمرا طويلا كما سترى، ولكنه لم ينس أم خالد في يوم من أيامه، ولم يقدر قط أن الموت قد فرق بينه وبينها، وإنما استيقن دائما أنها زوجه وأنها تعيش معه في داره، وأنها قد اتخذت لنفسها من قلبه مكانا استقرت فيه فلا تبرحه، وأكثر من هذا أن عليا لم يستطع حياة الرجل الأعزب، ولكنه لم يقدم على الزواج حتى أمره الشيخ أو أمر ابنه بذلك، فقال لخالد ذات ليلة: يا خالد، زوج أباك كما زوجك، فإنه لا يقدر على حياة الرهبان. وأذعن علي لهذا الأمر راضيا، فقبل من ابنه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ، كما قبل ابنه منه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ. ثم اختلفت الخطوب على أبي خالد فاستكثر من الزوجات، واستباح ما رخص الله فيه للمسلمين من تعدد الزوجات. وكان يتحدث إلى الناس في شيء من التبجح الذي كان يزداد كلما تقدمت به السن بأن الله قد أذن للمسلمين في أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وأنه مصمم على أن يأخذ حقه من ذلك كاملا، فيمسك في داره أربع زوجات لا ينقصن؛ لأن هذا حقه، ولا يزدن لأن الله حرم هذه الزيادة. ومع ذلك فلم يكن يمسك في داره إلا ثلاث زوجات؛ فإذا سئل عن الرابعة قال وعلى ثغره ابتسامة حزينة: وأم خالد ماذا تصنعون بمكانتها مني؟ وكان علي قد احتجز غرفة أم خالد كما تركتها لم يغير منها شيئا؛ وكان حريصا على العدل بين نسائه، فكان يقسم لكل واحدة منهن ليلة من لياليه؛ فإذا أعطى كل واحدة منهن ليلتها أوى إلى غرفة أم خالد، فأنفق فيها ليلة زوجه الأولى مصليا قارئا داعيا واهبا هذا كله من جهده الصالح لأم خالد، لا يفارق غرفتها ولا يتحول عن القبلة ولا ينقطع عن الصلاة والدعاء إلا أن يغلبه الإعياء والنوم، وكثيرا ما أقبل خادمه محمود يحمل إليه قهوته بعد أن تشرق الشمس في غرفة أم خالد، فيراه مكبا على وجهه قد أدركه النوم في سجوده فلم يتحول، أو يراه مضطجعا في مكانه الذي كان يصلي فيه قد أدركه الإعياء فنام حيث هو ولم يرد أن يأوي إلى الفراش.
ولم تزل هذه حاله حتى أدركته الشيخوخة المضنية. ونظر ذات يوم فإذا هو أعزب لا زوج له، قد تفرق عنه نساؤه بالطلاق أو بالموت، وقد كثر بنوه وبناته وحفدته، وتفرقوا عنه لكل منهم أسرته وأهله، وثاب هو إلى غرفة أم خالد، فأقام فيها لا يريم، يختلف إليه خادمه بما يحتاج إليه، ويختلف إليه أبناؤه وبناته يزورونه وهو ملازم لهذه الغرفة؛ لأنه قد نذر إن أقدره الله أن يموت حيث ماتت أم خالد. وقد أقدره الله فمات حيث ماتت أم خالد. ونظر بنوه في وصيته، فإذا هو يأمر بنيه أن يدفنوه مع أم خالد، وأن يفعلوا بعد ذلك ما يشاءون؛ فهم يعرفون ما يأتون من الأمر وما يدعون، وهم يعلمون أن لله عليهم حقوقا، وأنه سيسألهم عن هذه الحقوق.
الفصل السادس
وقد رزق خالد من زوجه صبية سماها سميحة، وأراد الله أن تكون هذه الصبية هي التي تكشف الغطاء عن عقل أبيها وذوقه ونفسه، وتحمل كثيرا من أهله وذوي مودته أن يعجبوا من هذه الحكمة البالغة، ومن هذه الأسرار الغامضة التي تكتنف الناس في كل ما يأتون وما يدعون، وفي كل ما يضطرون إليه من الأمر، فقد كانت سميحة آية في الجمال، ولا سيما حين تقدمت بها السن شيئا، وأصبحت صبية تدرج في البيت. لم يحفل خالد بمنظرها أول الأمر، شغل عن ذلك بشعور الأبوة وحنان الزوج. إلا أنه ذات يوم أخذ ابنته بين ذراعيه فضمها إليه وقبلها، ثم نظر في وجهها فأطال النظر، ثم التفت إلى المرآة فنظر إلى وجهه وأطال النظر، ثم التفت إلى امرأته فألقى عليها نظرة خاطفة، ثم وضع الصبية على الأرض، وقال لامرأته في صوت يقطعه ضحك عال مر: هذا غريب! من أين لهذه الصبية هذا الجمال؟ ليس وجهي بالرائع، وإن وجهك لبشع، فمن أين لها هذا الجمال؟! ووقعت هذه الكلمة من قلب نفيسة موقع الخنجر حين يطعن به عدو عدوا، فلم تقل شيئا، وإنما أجهشت بالبكاء ساعة، ثم أوت إلى غرفتها فلزمتها أياما. ولكنها منذ ذلك اليوم أحست أنها أصبحت لزوجها عدوا.
والحق أن زوجها منذ ذلك اليوم قد تحول تحولا منكرا، فكان يطيل النظر إلى ابنته، ويخطف النظر إلى زوجه، ثم تبلغ القسوة به أبشع أطوارها، فهو يفصل ما في ابنته من محاسن، ويوازن بينها وبين ما في امرأته من مقابح: يوازي بين الأنف والأنف، وبين الفم والفم، وبين الجيد والجيد. يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه، ثم لا يملك أن يجهر به، وإذا هو يتحدث إلى امرأته بما في وجه ابنته من حسن، وبما في وجهها هي من قبح. ولا يزال كذلك حتى ينغص عليها، وإذا هي تجهش بالبكاء وتسرع إلى غرفتها، وإذا بكاؤها يدفعه إلى الضحك، وإذا فرارها يملأ قلبه اطمئنانا ورضا.
وكانت نفيسة حاملا حين رفع الحجاب عن زوجها. فلما شق عليها ما رأت منه وشق عليها إلحاحه عليها بما تكره، رغبت إليه ذات يوم أن ترحل إلى القاهرة؛ لتنتظر طفلها بين أبويها، فلم يتردد في الإذن لها، بل قال مبتسما: وتحملين سميحة معك، ذلك أحرى أن ينسيني ما أنا فيه من إثم؛ فإن بينك وبيني عقدة فرض الله علي أن أرعى حرماتها.
لم تمض إلا أيام حتى كان خالد قد هبط بامرأته إلى القاهرة، فأنزلها عند أبويها، وقضى في الأسرة أسابيع متجملا متحملا متكلفا ما تعود أصهاره أن يروا منه من حب لابنتهم ورفق بها، ملحا في زيارة المساجد والمشاهد، يلتمس فيها العلم والمعرفة، ويلتمس فيها الموعظة والبركة، ولكنه يحس، ويا شر ما يحس! يحس أنه لا يكتسب علما ولا معرفة، ولا ينتفع بموعظة، ولا يجد هذا الروح الذي كان يجده كلما ألم بمقام من مقامات أهل البيت، ولا يجد هذا الطموح إلى قطرة يلقيها الشيخ في قلبه من هذا العلم اللدني، فتملأ قلبه حكمة ونورا، وإنما يحس الحاجة إلى أن يطوف في القاهرة لا يلم بمساجدها ومشاهدها، وإنما ينظر إلى ما فيها ومن فيها من الأشياء والأحياء، ويوازن بين هذه المدينة الضخمة الكبيرة وبين مدينته تلك المنكمشة على ضفة النيل في بعض الأقاليم.
وقد تنازعه نفسه إلى أماكن كانت تذكر له أحيانا من تلك الأفواه الغاوية، ولكنه يسرع إلى نفسه أن عقدة قد فرض الله عليه أن يرعى حرماتها، ثم يسرع إلى متجر صهره، كأنما يأوي إليه، وإلى صاحبه يستجير بهما من هذا الخاطر الآثم الذي مر بضميره ساعة من نهار. هناك يقيم مع صهره وأعوانه سامعا لما يقولون، مشاركا فيما يديرون من حديث، آخذا معهم في بعض العمل كأنه من أهل المتجر، ثم يروح مع حميه إلى البيت، فلا يخرج منه إلا إذا كان الغد، وكثيرا ما كان يلوم نفسه أشد اللوم على سيرته هذه الآثمة مع امرأته هذه البرة؛ فهي لم تخلق نفسها، وإنما خلقها الله: فإنكار صورتها إنكار لما خلق الله، فيه إثم قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر. وهي لم تدعه إلى أن يتخذها زوجا، ولم تعرفه إلا بعد أن أحكمت عقدة الزواج، وإنما هو الذي هبط إليها من أقصى الإقليم. ثم هي لم تره منذ عرفها إلا خيرا، لم يعرف منها إلا البر به والنصح له والطاعة في كل ما أراد. فماذا جنت عليه أو ماذا قدمت إليه؟ وما باله يجزيها من الخير شرا، ومن العرف نكرا، ومن البر عقوقا؟! ثم هي لم تخلق ابنتها جميلة كما هي، وإنما خلقها الله، والله يخرج الحي من الميت، ويخرج النهار من الليل؛ فلم لا يخرج الصبية الجميلة من الأم الدميمة؟ ولو قد خيرت «نفيسة» لاختارت أن تكون ابنتها جميلة كما هي. فماذا ينقم منها؟ وماذا يعيب عليها؟ وما هذا الإثم البشع الذي يدفعه إلى أن يفسد ما بين الأم وابنتها الصبية الناشئة، وأن يوقد في هذا القلب الكريم الرحيم هذه النار المنكرة الآثمة: نار الحسد والحقد والغيرة، وأن يغرس في هذا القلب النقي الطاهر البريء هذه الشجرة الخبيثة: شجرة الغرور والفتون والاستعلاء حتى على الأمهات. يغرس هذه الشجرة الخبيثة في قلب صبية لم تبلغ بعد الثالثة من عمرها؛ فكيف بها إذا تقدمت بها السن ومازت الجمال من القبح، وعرفت ما يحيط بالفتيان والفتيات من هذه الأهواء الجامحة!
كثيرا ما كانت هذه الخواطر تملأ قلب خالد فتملأ نفسه خزيا واستحياء، هنالك كان يذكر أمه حين كانت تزعم له أن الشباب لا ينبغي أن يطلبوا عند أزواجهم الحسن الذي يدعو إلى الفتنة، والجمال الذي يدفع إلى الموبقات، وإنما ينبغي أن يطلبوا إلى أزواجهم القرين التي تسد عن الوحدة، وترزق الولد وتقوم على تربيته، وتدبر المنزل وتحيط زوجها بما يحتاج الرجل إليه من الرحمة والبر والحنان، وكان خالد يترحم على أمه، ويسأل نفسه: فيم كانت تتحدث إليه بهذه الأحاديث؟ ألم تكن تكره هذا الزواج، وتشفق على ابنها من قبح زوجه؟! ثم يأبى خالد أن يتعمق هذه الخواطر، وإنما يسرع إلى المصحف فيقرأ فيه سورا من القرآن يهب ثوابها لأمه، ثم يقبل على زوجه رفيقا بها عطوفا عليها حتى ينسيها أو يكاد ينسيها ما يمزق قلبها من الألم، وكذلك عاد خالد إلى المدينة، وترك امرأته عند أبويها وقد ظن أنها راضية، واعتقد أنه هو راض، واستيقن أنه سيلقى امرأته أحسن لقاء متى أقبل الوليد الذي ينتظرانه، وسيستأنفان حياتهما كما كانت حلوة هادئة لا يكدر صفوها شيء. ولا يكاد يبلغ المدينة حتى يسرع إلى الشيخ فيزوره، ثم يكثر من زيارته يلتمس عنده البركة والسكينة التي ينزلها الله على القلوب، فيملؤها رحمة وعطفا واطمئنانا للأحداث، وعزاء عن الملمات، وثباتا للخطوب.
Page inconnue