الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Page inconnue
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Page inconnue
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
Page inconnue
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
Page inconnue
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
Page inconnue
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
شجرة البؤس
شجرة البؤس
تأليف
طه حسين
الإهداء
هذه صورة للحياة في إقليم من أقاليم مصر آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، نقلتها من صدري إلى القرطاس أثناء الرحلة في لبنان.
Page inconnue
فمن الطبيعي أن أهديها إلى هذا البلد الكريم، اعترافا بما أهدى إلي من معروف، وما أسدى إلي من يد.
طه حسين
الفصل الأول
فرغ الرجلان من صلاة العصر، ومما تعودا في أعقاب الصلوات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير ودعاء، ثم تحولا عن مجلسيهما إلى مصطبة في ناحية من نواحي الحجرة لا تخلو من ترف؛ فهي لم تتخذ من الطين واللبن، وإنما اتخذت من الآجر، وفرشت بالرخام، وألقيت عليها بسط ونمارق، كدأب البيوت التي كان يسكنها المترفون من التجار وأوساط الناس، الذين كانوا يجدون شيئا من الكبرياء في تقليد السادة من الترك. ولم يكد الرجلان يأخذان مجلسيهما حتى أقبل الخادم يحمل إلى أحدهما غليونه الطويل، وأقبل خادم آخر من ورائه يحمل إليهما القهوة، وكان واضحا أن أحدهما، وهو الذي حمل إليه الغليون، لم يكن من أهل الإقليم، وإنما كان من أهل القاهرة قد جاء إلى الإقليم زائرا لصاحبه، أو زائرا وتاجرا معا، وقد يقبل من القاهرة إلى الإقليم في زيارته وتجارته مرة أو مرتين في العام، ثم شرب الرجلان قهوتهما في أناة وبطء، لا يقول أحد منهما لصاحبه شيئا، وأقبل صاحب الغليون على تدخينه، وأخرج الآخر من جيبه علبة بيضية الشكل فأمالها على بعض أصابعه، ثم رفع أصابعه هذه إلى أنفه وتنفس تنفسا عميقا، ثم رد العلبة إلى جيبه وأطرق كأنما ينتظر شيئا، أو كأنما يريد أن ينعم في تفكير عميق، ولكن صاحبه القاهري لم يتح له ذلك، وإنما قال له في أناة وصوت هادئ: ويحك أبا خالد! أخشى أن نكون قد ظلمنا أنفسنا وأرهقنا هذا الفتى من أمره عسرا.
قال أبو خالد في صوت لا تظهر عليه العناية بما سمع: وما ذاك أبا صالح؟
قال أبو صالح: إني لم أر ابنتي قط منذ كان هذا الزواج إلا رحمت الفتى وأشفقت عليه، فما رأيت امرأة أقبح من ابنتي شكلا، ولا أبشع منها منظرا، ولا أقل منها دعاء للرجال.
هنالك غضب أبو خالد، وقال لصاحبه في شيء من العنف: فإنا اجتهدنا لأنفسنا وأموالنا، واجتهدنا لهذين الشابين، ولا علينا بعد ذلك أن يسعدا أو يشقيا، أحدهما أو كلاهما. إنها ابنتك الوحيدة، وإنه ابني الوحيد، وإن لك ثروة ضخمة، وإن لي تجارة واسعة، وإن بيننا شركة بعيدة المدى، وإخاء قديم العهد، فلم يكن بد من أن يقترن هذان الشابان، ومن أن يصير إليهما هذا المال.
وأظنك في حاجة قبل أن يتقدم هذا الحديث إلى أن تعرف شيئا من أمر هذين الرجلين اللذين كانا يتناجيان. فأما أبو صالح: فقد كان رجلا من أهل القاهرة، من هذه الطبقة المتوسطة التي أخذ شأنها يظهر شيئا فشيئا في أواسط القرن الماضي حين رد إلى المصريين شيء من حرية، وحين أتاحت لهم النهضة المادية شيئا من سعة العيش، وكانت أسرته تعمل في التجارة منذ عهد بعيد، نشأ أبو صالح هذا «عبد الرحمن»، فرأى أباه مصطفى تاجرا، وتحدث إليه أبوه أنه رأى أباه تاجرا، وأنه لم يعرف أن أسرته احترفت شيئا غير التجارة. ولكن تجارة الأسرة كانت يسيرة قريبة المدى، حتى جاء مصطفى «أبو عبد الرحمن» فقدمها شيئا، ثم جاء عبد الرحمن هذا فقدمها كثيرا، وتجاوز بها القاهرة إلى الأقاليم البعيدة والقريبة، وكان يتجر في البن والسكر والأرز والصابون، ولا يكاد يتجاوز هذه الأصناف إلى غيرها من العروض، وقد نشأ في بيت الأسرة «بحي الحرنفش» نشأة قاهرية عادية، فاختلف إلى الكتاب، وحفظ شيئا من القرآن، ثم اختلف إلى الأزهر ووعى شيئا من العلم، ثم أعان أباه في التجارة، وتنقل بهذه التجارة في الأقاليم، ثم آلت إليه تجارة أبيه فنماها نموا عظيما.
وكان عبد الرحمن قد اشترى من سوق الرقيق في القاهرة جارية حبشية، أو جارية زعموا له أنها حبشية، ولكنها كانت سوداء على كل حال، وأكبر الظن أنها لم تخل من عنصر زنجي قليل أو كثير، وقد أحسن عبد الرحمن سيرته مع هذه الجارية، فأعتقها واتخذها له زوجا، ورزق منها ثلاثة بنين: غلامين، أحدهما صالح - وبه كان يكنى - وكان يعمل معه في تجارته بعد أن نشأ نشأة أبيه؛ والآخر: محمد، وقد وجهه أبوه وجها مدنيا، فلم يحصل علما، ولم يمل إلى تجارة، وإنما كان فتى متعطلا، كان ضحية من هذه الضحايا التي تكثر في أوقات التطور والتجديد، حين تلتقي حضارة قديمة مستقرة بحضارة جديدة طارئة. والثالثة: فتاة سماها نفيسة، وقد أراد الله أن يجمع ما كان يمكن أن تتوارثه هذه الأسرة من ناحيتيها من قبح الصورة ودمامة الشكل على هذه الصبية البائسة، وقد نشئت هذه الصبية تنشيئا فيه كثير من الترف وكثير من العناية. وكأن عبد الرحمن وامرأته السوداء قد رفقا بهذه الصبية واختصاها بكثير من العطف؛ لما رأيا من قبح صورتها ودمامة شكلها، وكان استهزاء أخويها بمنظرها البشع وصورتها المنكرة يزيد رفق أبويها بها وعطفهما عليها، فنشأت الفتاة وفي أخلاقها شيء كثير من التعقيد: تحب الترف وتكلف به؛ لأنها نشئت عليه، فأصبح لها طبيعة وأسلوبا في الحياة، وتحس الأشياء إحساسا دقيقا جدا ولا سيما حين تتصل بها من قريب أو بعيد، وتتأذى بما يؤذي وما لا يؤذي، ويخيل إليها أن في كل حديث يساق إليها أو يساق عنها تعريضا بها أو محاولة لإيذائها. فكانت سعيدة بين أبويها، شقية بين أخويها وبين الناس، مضطربة أشد الاضطراب إذا خلت إلى نفسها، لا تعرف إلى أي الأمرين تستقر: أإلى هذا الحب الذي يملؤه الحنان والعطف، والذي تجده من أبويها كلما خلت إليهما بل كلما لقيتهما، بل تحس آثاره حين لا تلقاهما ولا تخلو إليهما، أم إلى هذا الازورار الذي كانت تجده من أخويها والتودد المتكلف الذي كانت تجده من الناس حين تلقاهم زائرين للأسرة، أو تلقاهم حين كانت تصحب أمها في بعض زياراتها. والشيء الذي لا شك فيه هو أن أخلاق هذه الفتاة لم تكن مطردة ولا منسجمة ولا ملائمة للمألوف من أخلاق أترابها، وإنما كانت تثب من الرضا إلى السخط ومن السخط إلى الرضا، وربما اضطرت إلى شيء بين ذلك ليس فيه اطمئنان ولا ثورة، وإنما هو قلق متصل، وضيق بكل شيء، وإعراض عن كل شيء. وكان هذا كله يزيد عطف أبويها عليها، وإيثارهما لها بالحب والحنان، حتى كانت من غير شك آثر الثلاثة عند أبيها وأمها.
ثم امتحنت الأسرة بفقد ابنيها جميعا في خطوب لا أعرض لها الآن، فأصبحت الفتاة وحدها مركزا لكل ما كان الأبوان يملكان من حب وبر.
Page inconnue
وقد ارتحل عبد الرحمن في بعض شأنه التجاري إلى مدينة من مدن الأقاليم بعيدة عن القاهرة بعدا شديدا، في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه القطر ولا السيارات، والذي كان يرتحل الناس فيه على ظهور الدواب أو على ظهور السفن التي تشق بهم النيل مصعدة حينا وهابطة حينا آخر. وكان عبد الرحمن لا يسافر إلى الأقاليم إلا بعد أن يقدم بين يديه طائفة من السفن قد حملت ما شاء الله أن تحمل من عروض التجارة، حتى إذا بعد عهده شيئا بإقلاع هذه السفن وظن أنها قد كادت تبلغ غايتها سافر هو من القاهرة سفرا غير قاصد، وبلغ الغاية قبل أن تبلغها السفن، وهناك يتلقى سفنه ويعمل في تجارته، فيبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويرد سفنه إلى القاهرة وقد تخففت مما كانت تحمل، ولكنها أثقلت بعروض أخرى تحمل من الأقاليم إلى القاهرة. وكان هذا كله يضطره إلى أن يبقى في مدن الأقاليم أوقاتا تطول وتقصر، فلم يكن له بد من أن يتخذ الأصدقاء من عملائه التجار، ومن أن يتخذ الأصفياء الذين يئوونه إذا كان في هذه المدينة أو تلك، والذين يئويهم حين كانوا يهبطون إلى القاهرة لمثل ما كان يرحل له من البيع والشراء، وكان عميله في هذه المدينة أبا خالد بن سلام. وكان علي كصديقه وعميله تاجرا بعيد التجارة، نشأ في قرية من قرى الريف في مصر السفلى، وفي أسرة من هذه الأسر التي كانت تتجر بالماشية وتحصل من هذه التجارة مالا عظيما، ثم رأى أبوه سلام ذات يوم أن أهل القرى يستكرهون على امتلاك الأرض واستثمارها، وكان أبغض شيء إليه أن يكون صاحب أرض وزراعة، يتعرض لما يتعرض له الفلاحون من الظلم والعنف، ومن القسوة والشدة، ومن هذه السياط التي كانت تأكل أجسامهم حين يقصرون مع سادتهم أو مع الحكومة، أو حين يتهمهم سادتهم وتتهمهم الحكومة ظلما بالتقصير، ففر سلام بأسرته وذهبه وفضته إلى مصر العليا، واستقر في مدينة من مدنها، واستأنف فيها حياة التجارة، ولكنه لم يتجر في الماشية، وإنما اتجر في البن والسكر والأرز والصابون. وقد نمت تجارته، واستطاع أن يترك لابنه علي ثروة ليس بها بأس. وكأن سلاما هذا قد أورث ابنه ما كان يمتاز به من حب الحرية، وتجنب السلطان، والاجتهاد في ألا يخضع لحياة تفرضها عليه القوة أو النظام فرضا، فقد شب علي فرأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يعملوا في الجيش، فلم يتحرج من أن يطيح إبهامه، حتى إذا تقدم للفرز رد؛ لأنه ليس صالحا للخدمة العسكرية.
وولد له ابنه خالد، فدفعه إلى الكتاب كما دفعه أبوه هو إلى الكتاب. ولكنه رأى الحكومة تريد أن تستكره الناس على أن يتعلموا في المدارس النظامية، وكان يرى هذه المدارس إثما من الإثم وزورا من الزور، فهرب ابنه من المدينة وجد في تهريبه حتى علمه التعليم الموروث، فحفظه القرآن جالسا على حصر الليف، ونزهه عن هذه المدارس التي لا يتعلم الصبيان فيها شيئا، وإنما يلوون ألسنتهم بالتركية، وبلغة أخرى يسمونها لغة الفرنسيس. وكان علي يكره الترك كرها شديدا، لا يتصور التركي إلا ظالما غاشما، لا يعرف عدلا ولا دينا ولا قانونا ولا احتشاما، وكان يكره الفرنسيس كرها شديدا، يذكر ما كان الناس يتحدثون به عنهم من الشر، ولكنه كان يحب الدنانير الفرنسية ويؤثرها على غيرها من النقد ولا يكاد يجتمع له شيء من ذهب أو فضة إلا استبدل به دنانير نابوليون.
وقد تقدمت السن بابنه خالد حتى كاد يبلغ العشرين. وهو لم يصنع شيئا إلا أنه حفظ القرآن، وجعل يعمل مع أبيه في تجارته يقبل عليها حينا وينصرف عنها أحيانا، ويؤثر الاختلاف إلى المساجد يشهد فيها الصلوات، ويسمع فيها للشيوخ والوعاظ، فإذا كان الليل اختلف إلى مشايخ الطرق، فشاركهم في حلقات الذكر، وكان أبوه لا يكره منه هذا، وإنما يرى فيه طاعة وتقوى، وكان يجتهد في أن يحبب إلى ابنه طريقة بعينها هي التي اتخذها لنفسه طريقة، وحمل صديقه القاهري عبد الرحمن على أن يأخذ بها العهد عن شيخه، وقد وفق علي من ذلك لما أراد، فأصبح ابنه خالد يتعصب لشيخه وطريقته أكثر مما يتعصب للتجارة، حتى أشفق الشيخ نفسه على هذا الشاب أن يغرق في التصوف وينتهي إلى الانجذاب، فقال لأبيه ذات ليلة بمحضر صديقه عبد الرحمن قبل أن يقيم الذكر بقليل: يا علي؛ زوج ابنك، وليعنك على ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية وهو لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
وانصرف الصديقان عن الشيخ بعد أن تفرقت حلقة الذكر، لم يقل أحدهما لصاحبه شيئا في شأن هذا الأمر الذي صدر من الشيخ إلى علي أن يزوج ابنه، وإلى عبد الرحمن أن يعينه على هذا التزويج. وراح علي إلى أهله، فلم يتحدث إليهم بشيء، وإنما أتم حياته العاملة كما تعود أن يتمها في كل يوم بركعتين كان يركعهما قبل أن يأوي إلى مضجعه، وبآية الكرسي التي كان يتلوها إذا استقر في فراشه. والتقى الرجلان حين نشرت الشمس رداءها الرقيق الرقراق على الأرض، وألبست منه المدينة حللا رائعة مشرقة، فحيا علي صاحبه، وسأله عن ليله كيف قضاه؟ وعن نهاره كيف يريد أن يقضيه؟ وأقبل الخادم يحمل القهوة، فشرباها في رفق وبطء وصمت يقطعه حديث نزر يسير. ولكن عليا أقبل على صديقه فجاءة يسأله: ماذا فهمت من الأمر الذي أصدره إلينا الشيخ قبل أن يقيم الذكر؟
قال عبد الرحمن متضاحكا: فهمت أنه يخشى على ابنك من حياته هذه التي يحياها، ويأمرك بتزويجه؛ لينصرف إلى الدنيا عن الإغراق في أمر الدين؛ لأنه لم يخلق ليكون شيخا، وإنما خلق ليكون تاجرا مثلك، وفهمت أنه يكلفني معونتك على ذلك، وأنا من هذه المعونة عند ما تريد.
قال علي: معونتي على ماذا؟ ومعونتي بماذا؟
قال عبد الرحمن: ما أدري، ولكن للشيخ إشارات لا تفهم عنه غالبا، ولولا أني أشفق عليك لسألتك: أفي حاجة أنت إلى المال؟
قال علي وهو يضحك: وهل حال مثلي تخفى على مثلك؟ أتراني قصرت في بعض حقوق التجارة فأجلت لك أو لغيرك حقا؟ بل أتراك أحسست مني حاجة إلى التأجيل والمهلة؟
قال عبد الرحمن: فهذا ما سألت عنه نفسي منذ الليلة، وإن كرام الناس مثلك ليعنفون بأنفسهم أشد العنف حتى لا يظهر أحد على ما يحبون أن يخفوا من الأمر، وقد عرفت ما بينك وبيني من الود والإخاء، فأنا عند ما تحب من المعونة إن احتجت إليها في تجارتك أو في تزويج خالد؛ فإن خالدا عندي بمنزلة ابني رحمهما الله.
Page inconnue
قال علي: بارك الله عليك في مالك وولدك! ولكن أفهمت معنى الآية التي تلاها الشيخ؟ قال عبد الرحمن: لم أفهمها، ولكني قدرت أن الأمانة هي هذه الولاية التي يتعرض لها خالد على حين قد خلق للتجارة والعمل فيما نعمل فيه من أمور الدنيا، وما ينبغي أن نتحرى الدقة حين نسمع شيوخنا يتحدثون أو يتلون القرآن ويروون الحديث؛ فإن لهم آفاقا لا نبلغها، ولو قد فهمنا عنهم كنه ما يريدون لكنا مثلهم أساتذة وشيوخا، وأنت تعلم أنه لم يؤذن لنا في شيء من ذلك. قال علي: لأراجعن الشيخ فيما أراد إليه.
وأنفق الصديقان يومهما كما تعودا أن ينفقا أيامهما، فلما صليت العصر وشربت القهوة، وكان التدخين والنشوق، سعيا إلى الشيخ، فأقاما عنده بين التلاميذ والمريدين ما شاء الله أن يقيما، وعلي يهم أن يراجع الشيخ فيما سمع منه، ولكنه لا يجرؤ. حتى إذا نودي لصلاة المغرب التفت الشيخ إلى علي باسما، وقال له: يا علي، زوج ابنك وليعنك علي ذلك عبد الرحمن، فإني أخشى عليه الولاية التي لم يخلق لها، ثم تلا الآية الكريمة. وهم علي أن يسأله، ولكنه نهض فاستقبل القبلة وأقام الصلاة وصلى من خلفه تلاميذه ومريدوه.
وكان الشيخ إذا أقام صلاة المغرب لم يفرغ لأحد بعدها، وإنما يمضي في تسبيحه وتحميده حتى يتقدم الليل، فيقيم الصلاة الآخرة، ويمضي في تسبيحه وتحميده ساعة تطول أو تقصر حسب ما يكون من إقامة الذكر أو لا يكون، ولكنه على كل حال لم يكن يخلص لأصحابه إلا في ساعة متأخرة جدا من الليل. وقد حضر الصديقان مع شيخهما صلاة المغرب والعشاء وطرفا غير قصير من تسبيحه ودعائه، ثم انصرفا ولم يستطع علي أن يراجع الشيخ في شيء، وإنما عاد إلى أهله مشغولا كثير التفكير، ولكنه على ذلك لم يتحدث إليهم في شيء، بل ركع ركعتيه وأوى إلى مضجعه، فتلا آية الكرسي وترك نفسه للنوم، ثم أصبح من غده كما أصبح من أمسه حائرا يسأل نفسه عن هذه المعونة التي طلبها الشيخ إلى عبد الرحمن، ويؤكد بينه وبين نفسه أنه سيراجع الشيخ لا محالة ليعرف منه ما أراد. وقد أقبل الصديقان على شيخهما، فصليا معه المغرب والعشاء، ومضيا معه في تسبيحه وتحميده ودعائه ينتظران حلقة الذكر، ولكن الشيخ التفت فجأة إلى الصديقين، وأعاد على علي للمرة الثالثة مقالته وتلا عليه الآية. وهم علي أن يسأله، ولكن الشيخ قال باسما: سبحان الله! ثم التفت إلى عبد الرحمن وقال: وما شأن نفيسة؟! ثم أمر بإقامة الذكر، وقد فهم عنه الصديقان، ولم يستطيعا مع ذلك أن يقولا له شيئا، أو يسألاه عن شيء، على أنهما لم يعودا صامتين بعد أن تفرقت الحلقة، وإنما قال عبد الرحمن لصاحبه: أفهمت الآن هذه المعونة؟ قال علي: قد فهمتها منذ الليلة الأولى، ولكني لم أكن أقطع بذلك ولا أجرؤ على تقديره عن أن أحدثك فيه. قال عبد الرحمن: فإن هذا الخاطر لم يخطر لي، وما كنت أعرف أن الشيخ يعلم أن لي ابنة، وأن اسمها نفيسة. قال علي: فإن الشيخ لا يخفى عليه شيء من أمر تلاميذه ومريديه، ولكن ما رأيك فيما أصدر إلينا من أمر؟ قال عبد الرحمن: سنستخير الله وسنتحدث إذا كان الغد. ودخل علي على أهله فرحا مسرورا يقول: أبشري يا أم خالد، فستزورين القاهرة بعد قليل. قالت أم خالد مبتهجة: شيئا لله يا أهل البيت، ولكن زوجها كان قد استقبل القبلة ليركع ركعتيه.
الفصل الثاني
وكان الحديث بين الصديقين أثناء قهوة الصباح قصيرا سريعا حاسما، بدأه علي حين سأل صاحبه هل استخرت الله؟ قال عبد الرحمن: صدق الله العظيم:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا . وقد أرتني الأحلام شيخنا غير مرة يتلو علي هذه الآية، فأفقت وأنا واثق أن الخيرة فيما اختاره الله.
قال علي متهللا: فابسط يدك لنقرأ الفاتحة. قال عبد الرحمن: مهلا أبا خالد؛ فإن بيننا وبين ذلك أمورا ثلاثة. قال علي: وما هي؟ قال عبد الرحمن: أما أولها: فأن تعلم أن ابنتي قبيحة الشكل بشعة الصورة، لا تكاد تقع عليها العين إلا انصرفت عنها مشمئزة، وانحرفت عنها نافرة. وأما الثاني: فهو أن لابنك أما كما أن له أبا، ويجب أن تعلم من هذا الأمر كله مثل ما نعلم، ويجب أن تنقل إليها في أمانة ما حدثتك به عن قبح ابنتي. وأما الثالث: فهو أنك لن تتزوج ابنتي وإنما سيتزوجها خالد، فيجب أن يعلم من هذا الأمر ما نعلم، ويعرف أن الشيخ لا يهدي إليه عروسا رائعة، وإنما يبتليه بمحنة مروعة.
قال علي وهو يضحك: أوليس قد أمر الشيخ؟! أوليس قد تلا عليك الشيخ هذه الآية في أحلامك؟! فأينا يقدر على أن يخالف أمر الشيخ؟! وأينا يقدر على أن يختار لنفسه غير ما اختار له الله؟! ثم نهض من فوره فدخل على أهله، وعاد بعد ساعة أشد ما يكون سرورا وابتهاجا، ثم سأل عن ابنه، فالتمس له في المساجد حتى جيء به بعد حين. فلما أنبأه النبأ قال في شيء من الاستحياء: وما دام شيخنا قد أمر بذلك فهو الخير.
ولم تمض إلا أيام حتى كانت سفينة من السفن تهبط بعبد الرحمن وأصهاره إلى القاهرة، ثم لم يمض بعد ذلك إلا شهر أو أقل من شهر حتى كانت سفينة من السفن تصعد بعلي وأسرته إلى الإقليم، وقد زاد عددها حتى بلغ الأربعة.
الفصل الثالث
Page inconnue
وليس من شك في أن أم خالد أذعنت لأمر الشيخ طائعة، وفي أن خالدا أنفذ أمر الشيخ راضيا مغتبطا، ولكن ليس من شك أيضا في أن أم خالد لم تكد ترى نفيسة حتى ارتاعت والتاع قلبها التياعا شديدا، ولولا أنها كانت قوية النفس حازمة ضابطة لأمرها، لأظهرت من روعها ولوعتها ما كان خليقا أن يؤذي الفتاة وأمها ويلغي أمر الشيخ إلغاء، ولكنها حزمت أمرها وكظمت غيظها وأوت بعد قليل إلى غرفتها، فبكت ما شاء الله أن تبكي، واستقبلت زوجها كأسوأ ما يستقبل الزوج، وقالت له في نفسه وفي شيخه أسوأ ما كان يمكن أن يقال. ولكن زوجها لقى هذا كله باسما يتلو الآية:
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
فإذا أحفظته استحال ابتسامه ضحكا، وقال: ناقصات عقل ودين. ولكنها أكثرت عليه حتى ضاق بها آخر الأمر، ولا سيما حين زعمت له أنه لا يزوج ابنه طاعة للشيخ ولا إذعانا لإرادة الله، وإنما هو أمر دبر بليل. هو لا يزوج ابنه من ابنة صاحبه، وإنما يزوج نفسه من ثروة صاحبه، فهو يضحي بهذين البائسين؛ ليشارك في هذه الثروة الضخمة والمال العريض. هنالك نهض علي في تؤدة، واستقبل امرأته في هدوء وقال لها في صوت يريد أن يرتفع، ولكن صاحبه يكرهه على الانخفاض: تخيري، فإما أن يعقد هذا الزواج، وإما أن تفصم عقدة الزواج بينك وبيني، فأقسم لنعودن إلى مدينتنا أربعة، أو لتعودن إلى أهلك وحيدة.
سمعت أما خالد هذا النذير، فوجمت له وجوما طويلا، والغريب أنها جعلت تلتمس عند عينيها الدموع، فلا تسعفانها بشيء، وتلتمس عند قلبها الثورة، فلا يسعفها بشيء، وتلتمس عند لسانها كلمة ترد بها على زوجها بعض ما قال، فلا يسعفها بشيء، فلما طال عليها ذلك نهضت لتصلح من شأنها، وانصرف عنها زوجها، ثم عاد إليها بعد ساعة فرآها كعهده بها هادئة حازمة، في وجهها ابتسامة ضئيلة حزينة، قال علي لامرأته متضاحكا: أرضيت؟ قالت: لقد سمعت أبي دائما يقول كلما لقى مكروها من الأمر: رضينا بقضاء الله وقدره، ولكن ثق بأنك ستندم على ما أنت مقدم عليه من الأمر، وبأنك إن أتممت هذا الزواج لم تزد على أن تغرس في دارك شجرة البؤس.
الفصل الرابع
ولم تحاول أم خالد أن تصرف ابنها عن هذا الزواج، ولا أن تنفره منه. وما كان لها أن تفعل، فطاعة الزوج واجبة، وطاعة الآباء بر بهم، وقد أطاعت زوجها كارهة، فما ينبغي لها أن تثير ابنها على أبيه، ولا أن تغريه بالعقوق. على أنها نصحت لابنها آخر الأمر، فلم تبالغ في الثناء على خطيبته، ولم تزعم له أنها رائعة الحسن بارعة الجمال، وإنما كانت تتحدث إليه بأن الشباب لا ينبغي أن يلتمسوا عند أزواجهم جمالا ولا حسنا؛ فإن الجمال فتنة والحسن محنة، ويوشك الذي يلتمس الحسن والجمال عند زوجه أن يعرض نفسه لكثير من المكروه، إنما يلتمس الشاب عند امرأته قرينة تؤنس وحدته، وأما ترزقه الولد، ومدبرة لبيته ومربية لبنيه. والواقع من الأمر أن ابنها كان يسمع لها معرضا عن أكثر ما كانت تقول؛ فهو لم يكن يفكر في جمال ولا في حسن، ولم يكن يحفل بالولد ولا بتدبير أمر المنزل، ولم يكن يشفق من وحدة ولا يبتغي أنيسا، وإنما كان يطيع أمر الشيخ ليس غير، وقد أمره الشيخ أن يتزوج فهو يتزوج، فأما ما بعد ذلك فله وقته وإبانه.
وكان الفتى منذ هبط إلى القاهرة قليل العناية بالخطبة وأحاديثها، والزواج وما كان يعد له، منصرفا أشد الانصراف إلى هذه المساجد الكثيرة التي استقر فيها الأولياء وأهل البيت، يلم بأحدها فلا ينصرف عنه حتى يلم بأحدها الآخر، قارئا في هذا مصليا في ذاك مطوفا ومتمسحا على كل حال بما فيها من المشاهد والمقامات، مستمعا لما كان يلقى هنا وهناك من دروس التفسير والحديث ومن الوعظ والإرشاد، منتفعا بما كان يسمع، مدخرا في قلبه من هذا كله الأعاجيب، ولم يكن النهار يكفيه ليرضي حاجته من هذه الزيارات، فقد كان ينفق فيه شطرا من الليل، ولا يعود إلى أبويه إلا حين يهمان أن يأويا إلى غرفة نومهما، وقد خطر للفتى هذا الخاطر العجيب، وهو أن يختم القرآن في طائفة من هذه المساجد الكبرى، فختمه في مسجد سيدنا الحسين، ومسجد السيدة زينب، ومسجد الإمام الشافعي، ومسجد الإمام الليث. وكان واثقا بأن ذلك كله أدعى إلى أن يبارك الله في حفظه للقرآن، وكان يتحدث بهذا إلى أبيه فيرضى، ويتحدث به إلى أمه فتبتسم. على أنها تعلقت به ذات يوم وأرادته على أن يزيرها أهل البيت، فهي لم تستبشر بالهبوط إلى القاهرة حين أنبأها زوجها به؛ إلا لأنها ستزور فيها أهل البيت، ولكن الفتى لم يستجب لأمه، وإنما انصرف إلى زياراته الطويلة، وأحال أمه على ضيفها يزيرونها ما تشاء من مساجد الأولياء؛ فلم يكن يرضى عن زيارة النساء لهذه المساجد والمشاهد، ولم يكن يعجبه تشبثهن بالقبور وتمسحهن بالأضرحة وإلحاحهن على الأولياء فيما كن يطلبن إليهم من قضاء الآراب وتحقيق الآمال، إنما كان يسمو إلى بركة خير من هذا كله وأبقى. كانت فيه نزعة روحية تريد أن تمتاز، لولا أنه لم يتهيأ لهذا الامتياز بما ينبغي له من العلم والمعرفة، وكان يجد في سعيه وكده، ويتحدث إلى نفسه بأن يوما من الأيام قد يقبل يظهر فيه الشيخ على ما يبذل في سبيل العلم والمعرفة من جهد، فيلقي إليه بفضل من علمه اللدني الذي لا تسقط منه قطرة ضئيلة في قلب من القلوب إلا ملأته حكمة ونورا. وفي ذات يوم أو في ذات ليلة ألقى إليه أبوه هذه الكلمة التي لفتته إلى أنه لم يهبط إلى القاهرة لما هو فيه من سعي وجد، وإنما هبط إليها لشيء آخر. قال له أبوه: إذا كان الغد فلا تخرج حتى ألقاك. قال الفتى: ولماذا؟ قال علي: لأني في حاجة إليك. قال الفتى: إنك في حاجة إلي إذا صليت العصر، أليس كذلك؟ قال علي: بل أنا في حاجة إليك إذا صليت الصبح. ثم انصرف عنه إلى بعض الأمر. وكان علي قد قدر في نفسه أنه إذا لم يستوثق من ابنه أول النهار لم يظفر به إلا حين يتقدم الليل، فلما كان الغد صحب ابنه في زيارته لبعض المساجد، واستمع معه لبعض الدروس، وقرأ معه شيئا من القرآن، وعاد به إلى البيت بعد أن صليت الظهر، فلم يفارقه حتى تم عقد الزواج.
وأدخل الفتى على زوجه بعد أيام، فلم ينكر شيئا ولم ينحرف عن شيء، وإنما سعد بامرأته السعادة كلها، واستيقن فيما بينه وبين نفسه وفيما بينه وبين ربه أن امرأته بارعة الحسن رائعة الجمال، خفيفة الروح، ساحرة الطرف، خلابة الحديث. وكان كثيرا ما يفزع إلى الله في أعقاب صلواته ضارعا إليه ألا يجعل امرأته فتنة له تصرفه عما كان يجد فيه من التقوى والتماس المعرفة. ومع ذلك فقد أنفقت أمه ليلة ساهرة مملوءة بالشقاء، ونهارا طويلا حافلا بالآلام؛ فقد كانت تخشى أن ينفر الفتى من زوجه متى رآها، وأن يزداد منها نفورا متى أشرقت الشمس على وجهها الدميم. وكانت تصور لنفسها ما سيجد ابنها من الوحشة وخيبة الأمل، فيتفطر قلبها حزنا، وكانت تصور لنفسها ما قد يظهره الفتى لامرأته البائسة وأبويها الخيرين من الاشمئزاز والنفور، فتمتلئ نفسها ذعرا، ولكنها رأت ابنها سعيدا موفورا، ورأت امرأته هانئة محبورة، فاطمأنت أول الأمر، ثم لم يلبث اطمئنانها أن استحال إلى شعور غريب، فيه شيء من خيبة الأمل في ابنها؛ فقد كانت تحسب أن له حظا من ذوق، وقد كانت تظن أن له نصيبا من نخوة، وقد كانت تقدر أنه سيثور غضبا لذوقه الذي امتهن، وحفاظا لنخوته التي لم يحفل بها أحد من مزوجيه، ولكنها ترى ابنها راضيا ناعم البال، كأنه الشاة تنعم بما يقدم إليها من علف فتمرح وتصيح، وهي لا تقدر أن السكين قد هيئ لذبحها في بعض المكان. ومهما يكن من شيء، فقد كظمت أم خالد حدة آلامها وخيبة آمالها، وصبرت على ما كانت ترى من سخرية زوجها بها، ومن نظراته تلك التي كان يلقيها إليها من وقت إلى وقت كلما رأى ابنه مسرورا محبورا، كأنه يقول لها: أرأيت أنك كنت واهمة كل الوهم؟! ألا تعرفين أن كرامة الشيخ لا يعجزها شيء؟! إنها تحول القبح جمالا، والدمامة حسنا، والبغض حبا، والنفور فتونا. كظمت أم خالد هذا كله في نفسها، ولكنها لم تكن من القوة وشدة الأيد بحيث تستطيع أن تحتمل بعض ما امتلأ به قلبها الضعيف، فلم تمض على زواج ابنها أيام حتى أحست شيئا من خمود، وحتى أبغضت القاهرة أشد البغض، ورغبت إلى زوجها في العودة إلى المدينة، فلما بلغت دارها أوت إلى غرفتها، وطالت إقامتها في هذه الغرفة، ولكنها لم تخرج منها إلا إلى القبر.
الفصل الخامس
وكان علي يحب امرأته أشد الحب، ويؤثرها أعظم الإيثار، لا يعدل برضاها شيئا، ولا يدخر في سبيله جهدا. ولم تعرف أم خالد أن زوجها قد خالف عن أمرها أو تنكر لها أو خيب لها أملا أثناء هذه الأعوام الطويلة التي قضتها عنده، بل لم تعرف منه إلا برا بها وعطفا عليها وفناء فيها. ولولا أن الشيخ أمر بهذا الزواج المشئوم لما صمم عليه ولا ألح فيه ولنزل في أمره عند إرادة امرأته، ولكنها عرفت حين تم هذا الزواج على كره منها أن هناك شخصا هو آثر منها في قلب علي وأكرم منها على نفسه وأحرى ألا ترد له كلمة.
Page inconnue
ولست أدري أكانت خيبة أملها في زوجها أشد عليها من خيبة أملها في ابنها، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن هذه المرأة البائسة قد فقدت في وقت واحد ثقتها بالزوج وثقتها بالابن، واستحيت من نفسها أن يكون سلطانها على زوجها قد ضعف إلى هذا الحد، واستحيت من نفسها أن تقدم إلى جاراتها وأصدقائها في المدينة هذه الهدية المنكرة التي أهديت إلى ابنها، ولعلها كانت سعيدة بهذا المرض الذي اضطرها إلى غرفتها، وحال بينها وبين استقبال الزائرات وقد جئن يهنئنها بما كانت تحدث نفسها به، وبما تحدث كل أم نفسها به، من الفرح بابنها يوم تزف إليه عروس صالحة بارعة الجمال كثيرة المال. أعفيت من هذا كله، ولم تستقبل من الزائرات إلا هذه الآلام المبرحة التي لزمت غرفتها ليلا ونهارا، وهذه الحمى الناهكة التي كانت تزورها وجه النهار وآخره، وكان علي أشقى الناس بهذا المرض وأشدهم به ضيقا، ولكنه لم يكن يقدر أنه سينتهي بامرأته إلى الموت، ولم يقدر أن إصراره على هذا الزواج كان مصدرا لهذا المرض أو كان مصدرا من مصادره، ومع ذلك فقد أحس ذات يوم أن امرأته في آخر لحظة من لحظات الدنيا وأول لحظة من لحظات الآخرة، فجزع لذلك جزعا شديدا كاد يخرجه عن طوره، لولا أنه كان مؤمنا حقا، وقد أقبل على امرأته يستغفرها مما يمكن أن يكون قد قدم إليها من خطيئة أو جنى عليها من ذنب، ويسألها وصوته يرتجف ودموعه تغمر لحيته أن تدعو الله له بخير ليعلم أنها عنه راضية، قالت في صوت نحيل ضئيل: ليكن مرضي وموتي كفارة عما جنيت بتزويج ابننا من هذه الفتاة. قال علي وقد كاد صوته يحتبس في حلقه: فإنه أمر الشيخ. قالت: وليكن مرضي وموتي كفارة عن هذا الشيخ أيضا.
وقد عمر علي بعد موت امرأته عمرا طويلا كما سترى، ولكنه لم ينس أم خالد في يوم من أيامه، ولم يقدر قط أن الموت قد فرق بينه وبينها، وإنما استيقن دائما أنها زوجه وأنها تعيش معه في داره، وأنها قد اتخذت لنفسها من قلبه مكانا استقرت فيه فلا تبرحه، وأكثر من هذا أن عليا لم يستطع حياة الرجل الأعزب، ولكنه لم يقدم على الزواج حتى أمره الشيخ أو أمر ابنه بذلك، فقال لخالد ذات ليلة: يا خالد، زوج أباك كما زوجك، فإنه لا يقدر على حياة الرهبان. وأذعن علي لهذا الأمر راضيا، فقبل من ابنه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ، كما قبل ابنه منه الزوج التي اختارها له بأمر الشيخ. ثم اختلفت الخطوب على أبي خالد فاستكثر من الزوجات، واستباح ما رخص الله فيه للمسلمين من تعدد الزوجات. وكان يتحدث إلى الناس في شيء من التبجح الذي كان يزداد كلما تقدمت به السن بأن الله قد أذن للمسلمين في أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، وأنه مصمم على أن يأخذ حقه من ذلك كاملا، فيمسك في داره أربع زوجات لا ينقصن؛ لأن هذا حقه، ولا يزدن لأن الله حرم هذه الزيادة. ومع ذلك فلم يكن يمسك في داره إلا ثلاث زوجات؛ فإذا سئل عن الرابعة قال وعلى ثغره ابتسامة حزينة: وأم خالد ماذا تصنعون بمكانتها مني؟ وكان علي قد احتجز غرفة أم خالد كما تركتها لم يغير منها شيئا؛ وكان حريصا على العدل بين نسائه، فكان يقسم لكل واحدة منهن ليلة من لياليه؛ فإذا أعطى كل واحدة منهن ليلتها أوى إلى غرفة أم خالد، فأنفق فيها ليلة زوجه الأولى مصليا قارئا داعيا واهبا هذا كله من جهده الصالح لأم خالد، لا يفارق غرفتها ولا يتحول عن القبلة ولا ينقطع عن الصلاة والدعاء إلا أن يغلبه الإعياء والنوم، وكثيرا ما أقبل خادمه محمود يحمل إليه قهوته بعد أن تشرق الشمس في غرفة أم خالد، فيراه مكبا على وجهه قد أدركه النوم في سجوده فلم يتحول، أو يراه مضطجعا في مكانه الذي كان يصلي فيه قد أدركه الإعياء فنام حيث هو ولم يرد أن يأوي إلى الفراش.
ولم تزل هذه حاله حتى أدركته الشيخوخة المضنية. ونظر ذات يوم فإذا هو أعزب لا زوج له، قد تفرق عنه نساؤه بالطلاق أو بالموت، وقد كثر بنوه وبناته وحفدته، وتفرقوا عنه لكل منهم أسرته وأهله، وثاب هو إلى غرفة أم خالد، فأقام فيها لا يريم، يختلف إليه خادمه بما يحتاج إليه، ويختلف إليه أبناؤه وبناته يزورونه وهو ملازم لهذه الغرفة؛ لأنه قد نذر إن أقدره الله أن يموت حيث ماتت أم خالد. وقد أقدره الله فمات حيث ماتت أم خالد. ونظر بنوه في وصيته، فإذا هو يأمر بنيه أن يدفنوه مع أم خالد، وأن يفعلوا بعد ذلك ما يشاءون؛ فهم يعرفون ما يأتون من الأمر وما يدعون، وهم يعلمون أن لله عليهم حقوقا، وأنه سيسألهم عن هذه الحقوق.
الفصل السادس
وقد رزق خالد من زوجه صبية سماها سميحة، وأراد الله أن تكون هذه الصبية هي التي تكشف الغطاء عن عقل أبيها وذوقه ونفسه، وتحمل كثيرا من أهله وذوي مودته أن يعجبوا من هذه الحكمة البالغة، ومن هذه الأسرار الغامضة التي تكتنف الناس في كل ما يأتون وما يدعون، وفي كل ما يضطرون إليه من الأمر، فقد كانت سميحة آية في الجمال، ولا سيما حين تقدمت بها السن شيئا، وأصبحت صبية تدرج في البيت. لم يحفل خالد بمنظرها أول الأمر، شغل عن ذلك بشعور الأبوة وحنان الزوج. إلا أنه ذات يوم أخذ ابنته بين ذراعيه فضمها إليه وقبلها، ثم نظر في وجهها فأطال النظر، ثم التفت إلى المرآة فنظر إلى وجهه وأطال النظر، ثم التفت إلى امرأته فألقى عليها نظرة خاطفة، ثم وضع الصبية على الأرض، وقال لامرأته في صوت يقطعه ضحك عال مر: هذا غريب! من أين لهذه الصبية هذا الجمال؟ ليس وجهي بالرائع، وإن وجهك لبشع، فمن أين لها هذا الجمال؟! ووقعت هذه الكلمة من قلب نفيسة موقع الخنجر حين يطعن به عدو عدوا، فلم تقل شيئا، وإنما أجهشت بالبكاء ساعة، ثم أوت إلى غرفتها فلزمتها أياما. ولكنها منذ ذلك اليوم أحست أنها أصبحت لزوجها عدوا.
والحق أن زوجها منذ ذلك اليوم قد تحول تحولا منكرا، فكان يطيل النظر إلى ابنته، ويخطف النظر إلى زوجه، ثم تبلغ القسوة به أبشع أطوارها، فهو يفصل ما في ابنته من محاسن، ويوازن بينها وبين ما في امرأته من مقابح: يوازي بين الأنف والأنف، وبين الفم والفم، وبين الجيد والجيد. يفعل ذلك فيما بينه وبين نفسه، ثم لا يملك أن يجهر به، وإذا هو يتحدث إلى امرأته بما في وجه ابنته من حسن، وبما في وجهها هي من قبح. ولا يزال كذلك حتى ينغص عليها، وإذا هي تجهش بالبكاء وتسرع إلى غرفتها، وإذا بكاؤها يدفعه إلى الضحك، وإذا فرارها يملأ قلبه اطمئنانا ورضا.
وكانت نفيسة حاملا حين رفع الحجاب عن زوجها. فلما شق عليها ما رأت منه وشق عليها إلحاحه عليها بما تكره، رغبت إليه ذات يوم أن ترحل إلى القاهرة؛ لتنتظر طفلها بين أبويها، فلم يتردد في الإذن لها، بل قال مبتسما: وتحملين سميحة معك، ذلك أحرى أن ينسيني ما أنا فيه من إثم؛ فإن بينك وبيني عقدة فرض الله علي أن أرعى حرماتها.
لم تمض إلا أيام حتى كان خالد قد هبط بامرأته إلى القاهرة، فأنزلها عند أبويها، وقضى في الأسرة أسابيع متجملا متحملا متكلفا ما تعود أصهاره أن يروا منه من حب لابنتهم ورفق بها، ملحا في زيارة المساجد والمشاهد، يلتمس فيها العلم والمعرفة، ويلتمس فيها الموعظة والبركة، ولكنه يحس، ويا شر ما يحس! يحس أنه لا يكتسب علما ولا معرفة، ولا ينتفع بموعظة، ولا يجد هذا الروح الذي كان يجده كلما ألم بمقام من مقامات أهل البيت، ولا يجد هذا الطموح إلى قطرة يلقيها الشيخ في قلبه من هذا العلم اللدني، فتملأ قلبه حكمة ونورا، وإنما يحس الحاجة إلى أن يطوف في القاهرة لا يلم بمساجدها ومشاهدها، وإنما ينظر إلى ما فيها ومن فيها من الأشياء والأحياء، ويوازن بين هذه المدينة الضخمة الكبيرة وبين مدينته تلك المنكمشة على ضفة النيل في بعض الأقاليم.
وقد تنازعه نفسه إلى أماكن كانت تذكر له أحيانا من تلك الأفواه الغاوية، ولكنه يسرع إلى نفسه أن عقدة قد فرض الله عليه أن يرعى حرماتها، ثم يسرع إلى متجر صهره، كأنما يأوي إليه، وإلى صاحبه يستجير بهما من هذا الخاطر الآثم الذي مر بضميره ساعة من نهار. هناك يقيم مع صهره وأعوانه سامعا لما يقولون، مشاركا فيما يديرون من حديث، آخذا معهم في بعض العمل كأنه من أهل المتجر، ثم يروح مع حميه إلى البيت، فلا يخرج منه إلا إذا كان الغد، وكثيرا ما كان يلوم نفسه أشد اللوم على سيرته هذه الآثمة مع امرأته هذه البرة؛ فهي لم تخلق نفسها، وإنما خلقها الله: فإنكار صورتها إنكار لما خلق الله، فيه إثم قد ينتهي بصاحبه إلى الكفر. وهي لم تدعه إلى أن يتخذها زوجا، ولم تعرفه إلا بعد أن أحكمت عقدة الزواج، وإنما هو الذي هبط إليها من أقصى الإقليم. ثم هي لم تره منذ عرفها إلا خيرا، لم يعرف منها إلا البر به والنصح له والطاعة في كل ما أراد. فماذا جنت عليه أو ماذا قدمت إليه؟ وما باله يجزيها من الخير شرا، ومن العرف نكرا، ومن البر عقوقا؟! ثم هي لم تخلق ابنتها جميلة كما هي، وإنما خلقها الله، والله يخرج الحي من الميت، ويخرج النهار من الليل؛ فلم لا يخرج الصبية الجميلة من الأم الدميمة؟ ولو قد خيرت «نفيسة» لاختارت أن تكون ابنتها جميلة كما هي. فماذا ينقم منها؟ وماذا يعيب عليها؟ وما هذا الإثم البشع الذي يدفعه إلى أن يفسد ما بين الأم وابنتها الصبية الناشئة، وأن يوقد في هذا القلب الكريم الرحيم هذه النار المنكرة الآثمة: نار الحسد والحقد والغيرة، وأن يغرس في هذا القلب النقي الطاهر البريء هذه الشجرة الخبيثة: شجرة الغرور والفتون والاستعلاء حتى على الأمهات. يغرس هذه الشجرة الخبيثة في قلب صبية لم تبلغ بعد الثالثة من عمرها؛ فكيف بها إذا تقدمت بها السن ومازت الجمال من القبح، وعرفت ما يحيط بالفتيان والفتيات من هذه الأهواء الجامحة!
كثيرا ما كانت هذه الخواطر تملأ قلب خالد فتملأ نفسه خزيا واستحياء، هنالك كان يذكر أمه حين كانت تزعم له أن الشباب لا ينبغي أن يطلبوا عند أزواجهم الحسن الذي يدعو إلى الفتنة، والجمال الذي يدفع إلى الموبقات، وإنما ينبغي أن يطلبوا إلى أزواجهم القرين التي تسد عن الوحدة، وترزق الولد وتقوم على تربيته، وتدبر المنزل وتحيط زوجها بما يحتاج الرجل إليه من الرحمة والبر والحنان، وكان خالد يترحم على أمه، ويسأل نفسه: فيم كانت تتحدث إليه بهذه الأحاديث؟ ألم تكن تكره هذا الزواج، وتشفق على ابنها من قبح زوجه؟! ثم يأبى خالد أن يتعمق هذه الخواطر، وإنما يسرع إلى المصحف فيقرأ فيه سورا من القرآن يهب ثوابها لأمه، ثم يقبل على زوجه رفيقا بها عطوفا عليها حتى ينسيها أو يكاد ينسيها ما يمزق قلبها من الألم، وكذلك عاد خالد إلى المدينة، وترك امرأته عند أبويها وقد ظن أنها راضية، واعتقد أنه هو راض، واستيقن أنه سيلقى امرأته أحسن لقاء متى أقبل الوليد الذي ينتظرانه، وسيستأنفان حياتهما كما كانت حلوة هادئة لا يكدر صفوها شيء. ولا يكاد يبلغ المدينة حتى يسرع إلى الشيخ فيزوره، ثم يكثر من زيارته يلتمس عنده البركة والسكينة التي ينزلها الله على القلوب، فيملؤها رحمة وعطفا واطمئنانا للأحداث، وعزاء عن الملمات، وثباتا للخطوب.
Page inconnue
وتمضي الأشهر ويأتي النبأ من القاهرة بأن نفيسة قد رزقت زوجها صبية أخرى، وأنها سمتها جلنار، فيبتهج خالد وأبوه بنعمة الله. وكان خالد يود لو رزقته امرأته غلاما، وكان علي يود لو جاءه ابنه بغلام. ولكن الله قد أراد، وإرادة الله نافذة، والحق على المؤمنين الصادقين أن يقبلوا نعمة الله شاكرين. والشيخ ينظر ذات ليلة إلى الأب وابنه نظرة فيها كثير من سخرية وتأنيب، وهو يقول لهما: «حسنة وأنا سيدك» أليس كذلك يا علي؟ أليس كذلك يا خالد؟ إن فقراء الترك يقولون هذا لأغنياء المصريين، فأما أنتما فلا تقولان هذا لغني من الناس، وإنما تقولانه للغني عن الناس وعن كل شيء. ليصومن كل منكما سبعة أيام وليطعمن كل منكما أهل الحلقة في هذا الأسبوع، وليصلين كل منكما، وليدعون وليستغفرن حتى أؤذنه بأن الله قد تاب عليه، سأعرف ذلك في وجوهكما. ثم يتحول عنهما فيقيم الذكر. وقد أدى كل منهما ما أمره الشيخ بأدائه، فصام كل منهما ودعا وتصدق واستغفر الله، ولعل كلا منهما بكى واستعبر. وهما يروحان على الشيخ في كل يوم، فينظر الشيخ في وجوههما ثم يتحول عنهما لا يقول لأحد منهما شيئا. وفي ذات يوم ينظر الشيخ إليهما وقد عرف في وجوههما الحزن والندم وقال: اجتهدا لعل الله أن يتوب عليكما. ومهما يجتهد الأب وابنه، فقد يظهر أن الله لم يتب عليهما؛ لأنهما يصومان ويصليان ويتصدقان ويدعوان وفي قلب كل منهما خاطر ضئيل، ضئيل جدا لا يكاد يحس: لو رزقنا الله غلاما مكان هذه الصبية.
ثم يهبط خالد إلى القاهرة ليرى ابنته، ويرد أهله إلى المدينة. فإذا بلغ القاهرة وأدخل إلى أهله وقدمت إليه الصبية، نظر في وجهها ثم نظر في وجه امرأته، ثم جهر بقراءة آيات من القرآن يرد نفسه إلى الأمن وقلبه إلى الاطمئنان؛ ويمسك نفسه أن تخرج عن طهورها؛ فقد رأى ويا نكر ما رأى! رأى ابنته الثانية صورة مطابقة لأمها أشد المطابقة، وقد تكلف الاستبشار والرضا. وأحست منه زوجه ما أحست، فلم تظهر شيئا. ثم خلا إليه حموه، فقال: أصبر نفسك على ما تكره يا بني، فإن الله يمتحن عباده المؤمنين بالصبر. وأقسم لقد نهيت أباك عن تزويجك من ابنتي فإنها لم تخلق للزواج. وأقسم يا بني لقد رحمتك وأشفقت عليك وتحدثت إلى أبيك في ذلك، ولكن لله أمرا هو منفذه وحكمة هو بالغها.
قال خالد وقد ثاب إلى عقله كله وقلبه كله: فإني لا أفهم عنك ما تقول منذ اليوم. علام أصبر وفيم أمتحن وما رأيت منك ولا من زوجي إلا خيرا، وما أنكرت شيئا وما ينبغي أن أنكر شيئا؟! أفترى نفيسة قد شكت إليك بعض قسوتي عليها في الدعابة والمزاح؟ فإني معتذر إليك وتائب إلى الله من هذا الإثم العظيم.
قال عبد الرحمن وهو يقبل ختنه: لا والله يا بني ما شكت إلي نفيسة شيئا، وما علمتك إلا برا كريما وابن أخ بر كريم. ومنذ ذلك اليوم أنزل الله السكينة على قلب خالد، فثاب إلى أهله وابنتيه كأحسن ما يثوب الزوج الصالح والأب العطوف.
الفصل السابع
على أن للشيطان في قلب كل إنسان مكانا يصغر ويكبر ويتسع ويضيق بمقدار حظه من الخير ونصيبه من رضا الله وبره به، وبمقدار اجتهاده في الدين، وحرصه على التقوى، وإيثاره للخير والمعروف. ولكن هذا المكان موجود دائما في قلوب الناس يبتلون به فيما يأتون من الأمر وما يدعون. وقد اجتهد خالد في الدين ما وسعه الاجتهاد، وآثر الخير والمعروف ما استطاع، ولكن مكان الشيطان ما زال مستقرا في قلبه؛ لأنه لا يزول إلا من قلوب الأنبياء والصديقين. والشيطان ماكر ماهر في المكر يحسن الاستخفاء بمكره وغدره، ويبرع حين يلبس الحق بالباطل، وحين يزين الشر في قلوب الناس، وحين يخدع الرجل عن نفسه وعن أحب الناس إليه وآثرهم عنده.
وقد كان الشيطان ماكرا ماهرا في سيرته مع خالد؛ فقد استخفى في ثنية من ثنايا قلبه وعطف من أعطاف نفسه أسابيع وأشهرا، لا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين سميحة وأمها من الاختلاف، ولا يحدثه بقليل ولا كثير فيما بين جلنار وأمها من التشابه المروع، وإنما يستخفي في زاوية من زوايا نفسه، حتى إذا أقبل خالد على ابنته الصغرى يريد أن يلاعبها أو يداعبها أو يلثمها أو يشمها انسل حتى يدنو من الصبية، فلا تكاد الصبية تبتسم إلا غشي ابتسامتها البريئة الحلوة بتقلصه المنكر البغيض الذي يسميه ابتساما. ولا تكاد الصبية تقطب وجهها لما يقطب له الأطفال وجوههم إلا اتخذ الشيطان أبشع ما يؤذن له أن يتخذه من الصور وعرضه دون وجه الصبية، فتقع عليه عين خالد، وإذا لسانه يوشك أن يتلو الآية الكريمة المروعة:
طلعها كأنه رءوس الشياطين . ولكنه يمسك لسانه في جهد شديد، ويمسح رأس الصبية وهو يتلو آية الكرسي كأنه يحصن بها الطفلة من كل خوف، وهو إنما يحصن نفسه من هذا الروع المروع الذي أشاعه الشيطان في قلبه. ولا يكاد الشيطان يسمع الحروف الأولى من هذه الآية حتى ينسل فزعا مذعورا، ولكن فزع الشيطان قصير الأجل، وحيلة الشيطان طويلة المدى؛ فهو لا ينسل إلا ريثما يبلغ الصبية الكبرى «سميحة» ذات الحسن الرائع والمنظر الأنيق، فيدفعها إلى أبيها، فتندفع فرحة مرحة، وإذا خالد البائس بين أجمل وجه خلقه الله، وأقبح وجه خلقه الله، وإذا هو مضطر إلى أن يلقي نظرة إلى تلك، وإذا هو مضطر إلى أن يفكر في امرأته، فيلحظها لحظة خاطفة، ثم ينصرف مسرعا رافعا صوته بآية الكرسي، حتى إذا بعد عن أهله شيئا أخذ المصحف، وفزع إليه بعد أن يستعيذ الله من الشيطان الرجيم.
وكذلك كانت حياة خالد عذابا متصلا بين ابنتيه وزوجه، يدفعه إليهن الحب والبر والعطف، ويصرفه عنهن الشيطان بما يتنكر من صور وما يزين في قلبه من شر، حتى أصبح لا يجد الراحة ولا الأمن إلا إذا خرج من داره وتحدث إلى أصدقائه وأترابه، وأي راحة وأي أمن! فقد كان الشيطان يألف أصدقاء خالد وأترابه. وما أكثر ما يألف الشيطان من الناس! وكان يطلق ألسنتهم بكثير من القول، فيه الإغراء بالمنكر، وفيه الصرف عن المعروف، وفيه هذه الأحاديث التي يألفها الشباب في القرى عما يأتون وما يدعون إذا خلوا إلى أهلهم، ثم فيه هذه الأحاديث التي تمتلئ بالأماني الآثمة والأحلام التي نسجت من الخطايا نسجا . فيه هذه الأحاديث التي يظهر فيها الخير والطاعة ويستتر فيها الإثم والفجور: أحاديث الاستكثار من الزوجات، والتنقل بينهن إرضاء للشهوات الجامحة والغرائز التي ليس للعقل عليها سلطان، وحديث الطلاق، واستبدال زوجة مكان أخرى للأسباب الهينة والأسباب ذات الخطر.
كل هذه الأحاديث كان الشيطان يطلق بها ألسنة الأصدقاء والأتراب الذين كان خالد يلقاهم إذا خرج من داره، فلا يكاد يسمع منها شيئا حتى يذكر امرأته وصورتها المنكرة، وإذا نفسه تنازعه إلى الطلاق، فيستحي منه ويرحم ابنتيه، وإذا نفسه تنازعه إلى الزواج فيستحي منه ويذكر حماه في القاهرة وأباه في المدينة، ويرحم امرأته وابنتيه من هذه القسوة التي لم يعرض ما يدعو إليها، ويسأل نفسه عن مكان امرأته الوفية من زوجه تلك التي يمكن أن تطرأ على داره، وعن مكان ابنتيه هاتين البريئتين من زوجه الطارئة وممن عسى أن ترزقه من بنين وبنات، ثم يسأل نفسه عن نفسه، وكيف يكون بين هاتين الزوجين، وكيف ينصفهما من حبه وقلبه، وكيف يرضي الله عن عدله بينهما، والله قد طلب إلى المسلمين هذا العدل، وبين لهم أنه عسير. وقد كان خالد على ذلك كله معذبا في حياته بهذه الأهوال التي يكبرها له الشيطان، ويجسمها في نفسه تجسيما، كما كان معذبا بشبابه القوي وفتوته الثائرة، وبهذا الشر الجديد الذي ابتلي به؛ فقد صرف عن زوجه صرفا، لا يكاد يراها إلا تولى عنها أسفا محزونا، فإذا خلا إلى نفسه جلى الشيطان له أجمل النساء وجها، وأحسنهن قواما، وأشدهن للرجال فتنة، وما زال يغريه ويغريه حتى يهم بهذه الصور الرائعة التي تتراءى له، فإذا هم لم يجد إلا ظلالا ووجد عندها ندما أليما.
Page inconnue
ولم يكن عبث الشيطان بنفيسة أقل من عبثه بخالد، ولكنه كان من نوع آخر، فلم يكن الشيطان يغريها بفتنة ولا يدعوها إلى إثم، وإنما كان يعرض عليها صورتها البشعة في كل وجه توجه إليه طرفها، ثم يعرض عليها نساء حسانا رائعات الحسن ويلقي في روعها أن زوجها يتمثلهن ويفكر فيهن ويتمناهن، وأن أصدقاءه وأترابه والنساء من أسرته يغرونه على الزواج ويحرضونه على أن يدخل عليها في دارها ضرة، ثم يصور لها حياة الضرائر وما يكون من هذا الحقد البغيض والتنافس المنكر في أحط ما يتنافسن فيه، وما يكون بينهن من الكيد والغدر، وما يدفعن إليه من الإثم والخزي، وكان الشيطان يتبع نفيسة حيثما وجهت من دارها، فلا تكاد تلقى زوجها حتى يصوره الشيطان لها منصرفا عنها ضيقا بها زاهدا فيها، فلا تكاد تسمع صوت زوجها حتى يخيل الشيطان إليها أن هذا الصوت يقطر بغضا لها ونفورا منها، وكان الشيطان مع ذلك يذكي في نفسها غرائز الحب، فإذا هي لم تكلف قط بزوجها كما تكلف به الآن، ولم ترغب في التلطف له والرفق به كما ترغب فيهما الآن، ولم تحتج قط إلى حنان زوجها وعطفه كما تحتاج إليهما الآن، وكل ذلك مصروف عنها أشد الصرف وأقساه، وكذلك أصبحت الحياة جحيما بين الزوجين. ويروح خالد على أهله ذات ليلة، فإذا صعد في السلم سمع نشيجا مؤلما، فيسرع الخطو، وإذا هو أمام امرأة قد نثرت شعرها، ومزقت ثوبها، وخمشت وجهها حتى أسالت منه الدم، وهي تضرب صدرها ضربا عنيفا، وتنتحب انتحابا يفطر القلوب، فيقف خالد واجما أول الأمر، ثم يرفق بامرأته، ولا يزال يسألها عن أمرها حتى تجيبه في شهقتين: تمثلت لي الليلة امرأة زعمت أنها جنية البيت، وأنها تسكن في حنايا السلم، وزعمت لي أنك قد تزوجت اليوم أو أنك متزوج غدا، ثم تعود إلى شهيقها فتغرق فيه، وإلى وجهها وصدرها فتشبعهما لطما وصكا، وخالد يضرب إحدى يديه بالأخرى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!
ولم ينم خالد من ليلته، وإنما قام عند امرأته ذاكرا لله تاليا للقرآن، داعيا مستعيذا من الشيطان، واضعا يده على رأس نفيسة، مؤمنا بأن هذه الآيات والأدعية التي كان ينطلق بها لسانه في صوت مرتفع بعض الشيء فيه كثير من الإيمان وكثير من الخوف، لا تصدر عن فمه فتشيع في الغرفة وتطرد الشياطين فحسب، ولكنها تصدر عن جميع جوارحه بعد أن تجري مع دمه في عروقه كلها كأنها الروح اللطيف الحار. وليس من شك في أن طرفا منها يصل إلى هذا الرأس المتقد المضطرب، ثم يجري في جسم نفيسة كله، فيشيع فيه برد الراحة وحلاوة الأمن والهدوء.
والواقع أن نفيسة أقامت على ثورتها وانتحابها حينا، ثم أخذت رعدتها تخف، ودموعها تجف، وشهقاتها تهدأ، وتفصل بينها لحظات طوال أو قصار، حتى إذا مضت ساعات من الليل كانت نفيسة قد فقدت قوتها ونشاطها، ولبثت في مكانها هامدة جامدة، ثم هوت إلى جنبها كأنها البناء المنهار. ولم يشك خالد في أن روحا من الله قد مسها فردها إلى الدعة والهدوء. ولكنه على ذلك لم يتركها، وإنما جلس منها غير بعيد، ومضى في ذكره لله وتلاوته للقرآن، واستعاذته من الشيطان. وحسنا فعل؛ فلم يكد يصيح الديك حين قارب الليل ثلثيه حتى هبت نفيسة مذعورة، ثم نهضت قائمة، وأخذ صوتها يرتفع بالنشيج، وأخذت يداها تعملان في وجهها وصدرها لطما وصكا. هنالك وثب خالد كما وثبت، ثم أسرع إليها فأجلسها، وقام منها مقامه أول الليل، يده على رأسها، ولسانه ينطلق بالقرآن والدعاء، وبعد لأي ثابت إلى الهدوء، ولبث هو قائما يذكر ويتلو، حتى سمع صوت المؤذن يرجع: «سبحان فالق الإصباح.»
وقد أقام مكانه حتى رأى الشمس تسعى إلى الغرفة في استحياء، ثم يزول عنها الحياء قليلا، وإذا هي تغمر الغرفة في جرأة أشبه شيء بالوقاحة. كذلك كان يفكر خالد في إشراق الشمس ودخولها إلى غرفته ذلك الصباح، ومع ذلك فما أحب شيئا قط كما أحب شروق الشمس، ولا داعبت نفسه شيئا قط كما داعبت هذا الضوء الضئيل الذي ينفذ من الأفق كأنه السهم، ثم لا يزال يمضي أمامه ويمتد من جميع أقطاره حتى يوقظ الأرض والسماء جميعا، ويملأ ما بينهما بهجة وجمالا، ولكنه كان في ذلك اليوم مثقل القلب والنفس بحزن يشبه الموت، ولولا فضل من إيمان وبقية من تقوى وهذا القرآن العذب الذي كان يرتله ترتيلا لثارت نفسه ولانتهت به الثورة إلى جموح يخرجه عن طوره ويدفعه إلى ما لا صلاح له من الأمور، وما الذي جنى من الذنب وما الذي اقترف من الإثم حتى يمتحن في نفسه وأهله وعمله إلى هذا الحد؟! إنه لم يطلب إلى أحد أن يزوجه، ولم يفكر في الزواج، ولم يختر زوجه حين دعي إلى أن يتزوج، وإنما تتابعت الأمور عليه كأنها الصواعق يقفو بعضها إثر بعض، وإذا هو في القاهرة، وإذا هو زوج، وإذا هو بعد ذلك أب مرتين، وإذا كل ذلك لا يذيقه إلا سرورا قليلا وحزنا كثيرا، ولكن قضاء الله لا مرد له، وحكمة الله لا تأويل لها، والمؤمن حقا هو الذي يذعن للقضاء ويصبر على المحنة، ولا يسأل الله عما يفعل؛ فهذا كفر به وشك فيه، ولا يسأل الله رد القضاء؛ فقضاء الله لا يرد، وإنما يسأله اللطف فيه، فالله لطيف بعباده، وقد قال:
ادعوني أستجب لكم . وخالد يدعوه ويدعوه. لا يفتر لسانه عن ترديد هذين الدعاءين اللذين تجري بهما ألسنة الشيوخ في الريف: «اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير. اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» وقد رأى امرأته آخر الأمر هادئة مطمئنة تبسم لضوء الشمس، لكنها ساكتة لا تنطق بحرف، ساكتة لا تأتي حركة. فلما سألها عن حالها لم تجبه كأنها لم تسمعه، فأعاد عليها السؤال مرة ومرة، ولكنه لم يسمع لسؤاله جوابا. ولم ير أمامه إلا تمثالا بشعا على وجهه ابتسامة بشعة تزيده قبحا وتشويها، وقد امتدت عيناه كأنما تنظران إلى شيء بعيد لا يرى، وهو كذلك هامد جامد كأن ليس له حظ من حياة.
هنالك انسل خالد من غرفته في رفق وأسرع إلى أبيه، فإذا هو جالس في مصلاه من غرفة أم خالد يسبح ويحمد ويكبر، وأمامه كأسان من القهوة وقطعة من الخبز الجاف وقليل من الملح، لم يمدد إلى شيء من ذلك يده بعد؛ لأنه لم يزل في صلاته ودعائه، فلما رأى ابنه مقبلا ولم يكن تعود أن يراه في مثل هذه الساعة من النهار، ولا في مثل هذا المكان من الدار، رفع صوته بما بقي من فمه من الدعاء والتسبيح: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وتعالى بكرة وأصيلا، ثم تحول إلى ابنه وهو يقول: أصبح بخير يا ابني! ما وراءك؟ قال الفتى في صوت منخفض: أصبح بخير يا أبت! إن ورائي إلا خير، فقد ألم بنفيسة بعض المرض. قال علي: وما ذاك؟ قال خالد: أحسب أن طائفا من الشيطان قد مسها، ثم قص على أبيه الخبر في جمل قصار، والشيخ يصغي إليه في شيء من الوجوم. فلما فرغ الفتى من حديثه لم يزد الشيخ على أن قال: ألهمك الله الصبر يا بني وغفر لي ورحم أمك! فقد أنبأتني يوم زواجك بأني لا أزيد على أن أغرس في دارنا شجرة البؤس.
ثم أراد الشيخ أن يكون شجاعا فهم أن يمد يده إلى قطعة الخبز ولكنها لم تمتد. فهم أن يمدها إلى كأس القهوة ولكنها لم تمتد، وإذا عيناه تغرورقان بالدمع، وإذا هو يقول في صوت متقطع في حلقه: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.» وابنه يجثو بين يديه خاشعا، فقبل رأسه صامتا، ثم يتحول عنه، فيقدم إليه إحدى كأسي القهوة، فيأخذها منه، ويتناول هو الكأس الأخرى، فيشربان كأنهما الصديقان. ولم يكن خالد قد شرب القهوة بمحضر أبيه قبل اليوم. وقضت الدار نهارا غريبا؛ رجلان يختلفان إلى غرفة نفيسة، كلاهما يتلو القرآن ويجأر بالدعاء، وعمات خالد ونساء أبيه قد ملأن الدار يطوفن بالبخور مهمهمات متمتمات، منهن من تدعو الله ومنهن من تدعو الشيطان، وقد اجترأت إحداهن فذكرت حفل الزار، ولكن عليا ثار لذلك وزجر النساء زجرا عنيفا، وأقسم لتأوين كل واحدة منهن إلى غرفتها، ولينقطعن لغطهن الثقيل البغيض، ثم أقام يخالف مع ابنه إلى غرفة نفيسة، حتى إذا صليت العصر خرج من الدار يقصد قصر الشيخ. وقد انتهى إليه، فرآه في نفر من أصحابه يسمع منهم ويقول لهم. فلما رآه الشيخ مقبلا من بعيد لمحه لمحة خاطفة، ثم قال في صوت هادئ: إن لعلي اليوم لشأنا. وقد عرف القوم أن قد كان لعلي شأن: فقد دنا من الشيخ وألقى في أذنه بعض الهمس، وإذا الشيخ ينهض ويأخذ بيد علي، وإذا هما يسعيان إلى باب يفتح لهما في صدر المجلس، ثم يغلق من دونهما، وقد قص علي على شيخه خبر نفيسة، فاستمع له الشيخ، حتى إذا فرغ من حديثه بسط الشيخ يديه ورفع رأسه، ولم يزد على أن قال: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم أطرق وجعل فمه يهمهم وحبات سبحته الغلاظ تساقط بين أصابعه، حتى إذا أتم دورة السبحة رفع رأسه إلى علي وقال: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ قم يا بني فأنبئ عبد الرحمن بمرض ابنته، فما ينبغي أن يجهله، وما أشك في أنه سيقبل مسرعا، ثم ابتسم وقال: وسيتيح لنا ذلك أن نراه فقد بعد عهدنا به، ثم نهض ونهض معه علي وفتح لهما الباب وأغلق من دونهما، وإذا الشيخ بين أصحابه قد جلس إليهم يسمع منهم ويقول لهم، وإذا علي منصرف إلى داره ونفسه تتقطع حسرات؛ فقد كان يظن أن الشيخ سيصحبه إلى الدار، وسيدخل على نفيسة ويدعو لها بالشفاء، ولو قد فعل لردت نفيسة إلى خير ما كانت عليه من الصحة والعافية.
الفصل الثامن
أقبل عبد الرحمن بعد أيام وفي نفسه قلق لم يبلغ الجزع، فلم يكن علي قد أنبأه بأكثر من أن ابنته مريضة، ومن أن من الخير أن يراها وأن تراها أمها، وكان عبد الرحمن رجلا جلدا صبورا عظيم الاحتمال، قد امتحنته الأيام في ابنيه جميعا، فلم يتخلع قلبه، ولم يخرج من وقاره المألوف، وإنما بلا مرارة الحزن إلى أقصاها واصطلى نار الألم إلى أشدها، وهو ثابت لا يضطرب، وقور لا تزدهيه الخطوب، يرحمه الناس ولكنهم يعجبون به ويعجبون منه. وهو ماض في حياته، محتمل لأثقالها، ثابت لعواصفها، يشهد الصلوات الخمس في المسجد، ويتلو ورد السحر في آخر الليل، ويختلف إلى متجره وجه النهار وآخره، فيعمل ويرى أعوانه يعملون ، قليل الكلام كثير الصمت، لا يغفل قلبه عن ذكر الله، ولا تنسى نفسه أن تستخرج من آلامه مواعظ وعبرا، وهو يرحم امرأته ويشفق عليها، ويحيطها بشيء من عطف يوشك أن يكون قسوة؛ فهو لا يحب البكاء كما أنه لم يكن يحب الفرح؛ وإنما يريد لامرأته أن تكون مثله هادئة، رزينة كاظمة للغيظ، صابرة على الخطب مسلمة أمرها إلى الله، قابلة قضاءه في رضا، منتظرة قضاءه في ثقة، فلما جاءه النبأ بأن ابنته مريضة، وبأن الخير أن يراها وأن تراها أمها، لم يظهر امرأته على شيء، وإنما زعم لها أنه مسافر إلى الأقاليم في بعض ما كان يسافر له من التجارة.
فلما وصل إلى المدينة ولقي عليا وخالدا، قال لهما في صوته الهادئ وعلى ثغره ابتسامته المطمئنة: لم أخبر أم صالح بشيء ولم أكلفها مشقة السفر، فإن تكن نفيسة قادرة على الرحلة إلى القاهرة، فالخير أن تمرض هناك وأن ترى أمها في دارها، وإن تكن غير قادرة على الرحلة مرضناها هنا حتى يكون لها حظ من برء، فتتم شفاءها في القاهرة. كذلك قدرت ولله تقديره، وهو يقضي فينا بما يشاء. ولم يرد مع ذلك أن يستريح ولا أن يشرب القهوة، وإنما صمم في هدوء على أن يرى ابنته قبل كل شيء، قال علي: ستراها ولكن ... قال عبد الرحمن: ولكن ماذا؟ أتراكما خدعتماني وأنبأتماني بمرضها بعد أن بلغ الكتاب أجله؟ قال علي: لا؛ ولكن مرضها غريب. قال عبد الرحمن: مرضها غريب! لقد كانت غريبة الأطوار في طفولتها وصباها، أفتراها قد جنت؟ فأما علي فلم يجب. وأما خالد فأجهش بالبكاء. وأما عبد الرحمن فرفع يده إلى جبهته وظل كذلك حينا، ثم مسح إحدى يديه بالأخرى وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أقام مكانه لم يظهر ميلا إلى لقاء ابنته، وإنما قال لخالد: اطلب لنا القهوة يا بني. وأغرق بعد ذلك في صمته، حتى إذا جاءت القهوة وشرب منها كأسين قال مبتسما: والصبيتان ما خطبهما؟ قال علي: هما بخير، روعتا شيئا أول الأمر، ثم حيل بينهما وبين لقاء أمهما. قال عبد الرحمن: فأستطيع أن أراهما؟ قال خالد: نعم! ثم غاب ساعة وعاد ومعه ابنتان إحداهما آية في الحسن والأخرى آية في القبح! فلما رآهما عبد الرحمن ضمهما وقبلهما ومسح على رأسيهما، ثم قال لخالد: ردهما إلى لعبهما، فقد كانتا تلعبان من غير شك، ولم يكد خالد ينصرف بالصبيتين حتى انحدرت من عيني عبد الرحمن دمعتان أسرع إلى تجفيفهما وهو يقول: «اللهم عفوك ومغفرتك ورضاك؛ اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه.» ثم قال: ألم تر يا علي أني قد أحسنت حين لم أزعج أم صالح ولم أجشمها السفر؛ فحسبها ما تنتظر من هول. قال علي: هون عليك أبا صالح؛ إنما هي محنة وتزول. قال عبد الرحمن: أرجو ذلك إن شاء الله. ولكن مر فليهيأ للسفر إذا كان الغد، أما اليوم فإني أريد أن أزور الشيخ وأن أحدث به عهدا. ثم سكت قليلا والتفت باسما إلى خالد وهو يقول:
Page inconnue
آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا .
وأقبل القوم على غدائهم وحديثهم ثم على صلاتهم ودعائهم كأن لم يلم بهم خطب. فلما اصفر وجه النهار سعوا إلى شيخهم، فألفوه بين أصحابه يعظهم ويقرأ عليهم بعض الحديث، فاستمعوا واستمعوا، وشهدوا معه صلاة العشاءين وما بينهما من دعاء، وأقاموا معه حلقة الذكر كما كانوا يصنعون من قبل، حتى إذا تفرقت الحلقة وأخذ الناس ينصرفون، تثاقل عبد الرحمن فلم ينصرف ولم يظهر ميلا إلى الانصراف، ورأى الشيخ ذلك منه فأشار إليه أن أقم، وأشار إلى صاحبيه أن أقيما. حتى إذا خلا لهم وجه الشيخ هم عبد الرحمن أن يتكلم ولكن الشيخ قال: ما رأيت رجلا مثلك يا عبد الرحمن؛ إن إيمانك لحسن، وإن دينك لمتين، وإن أجرك عند الله لعظيم. قال عبد الرحمن: سمع الله لك يا مولاي؛ إني قد حرصت على أن أظفر منك بهذه الساعة مع صاحبي هذين لأشهدك علي وعليهما. قال الشيخ: وما ذاك؟ قال عبد الرحمن: إني سأرتحل بابنتي إذا كان الغد. قال علي وخالد في صوت واحد: وسنرتحل معك. قال الشيخ: دعاه يقل. ومضى عبد الرحمن في حديثه فقال: إن ابنتي لم تعد تصلح زوجا لخالد، ولكني لا أحب الطلاق؛ لأن الله لا يحب الطلاق. وهم خالد أن يتكلم، فأشار الشيخ إليه: أن صه. قال عبد الرحمن: فأريد أن أشهدك على أني سأكفل ابنتي والصبيتين ما حييت، فإذا مت فإني أوصي بهن وبامرأتي ومالي كله إلى خالد، يقوم في ذلك كله بأمر الله وبما ينبغي من البر بالزوج والولد والصهر وذوي المودة والقربى، ولم يبلغ عبد الرحمن ذلك من قوله حتى كان علي وابنه ينتحبان. قال الشيخ: ما رأيت كالليلة قوة، وما رأيت كالليلة ضعفا. ثم نظر إلى علي وابنه وهو يقول: أما تستحيان؟! ثم بسط يده إلى عبد الرحمن وقال: ابسط يدك أبايعك على ما تقول وأنا وكيل خالد، وتصافح الرجلان. ثم أقبل الثلاثة على الشيخ فقبلوا يده، ثم صفق الشيخ تصفيقا خفيفا، فلما أقبل الخادم قال الشيخ: أرسل إلينا قهوة، وقل للشيخ مدكور يغني لنا:
سائق الأظعان يطوي البيد طي
وما هي إلا لحظة حتى أقبلت القهوة وأقبلت المجمرة في شيء من بخور، وارتفع صوت الشيخ مدكور في هدوء الليل يغني في شعر ابن الفارض الجميل والقوم يشربون القهوة حسوا خفيفا، والشيخ يضطرب في مجلسه اضطرابا خفيفا ويقول في صوت همس: الله! الله! ثم ينقطع الصوت وينهض الشيخ فيصلي ركعتين، ويصلي كل من الثلاثة مثله ركعتين، فإذا أتموا صلاتهم قال الشيخ للجماعة: انصرفوا راشدين، نراك قبل سفرك يا عبد الرحمن؟ قال عبد الرحمن: لا يا مولاي؛ إنه سفر يحسن الاستعجال به.
الفصل التاسع
عاد علي وابنه من القاهرة بعد أسابيع وفي نفس كل منهما بقية من حزن عميق لم تمحها الأيام، ولكن نسجت عليها حجابا أخذ يزداد صفاقة وكثافة من يوم إلى يوم، حتى أنسي علي أو كاد ينسى نفيسة، لولا أنه كان يرى خالدا، ويذكر أنه يعيش عيشة الفتى الأعزب، فيرثي له ويفكر في مستقبل أمره تفكيرا قصيرا، لولا أن الشيطان كان يخيل إليه بين حين وحين أن ثروة عبد الرحمن صائرة إليه يوما ما، فمضاعفة ثروته، ومصلحة من أمره ما يحتاج إلى الإصلاح؛ فقد كثر نساؤه، وأخذ ولده يكثرون، وأخذت النفقة تزداد وتثقل أعباؤها، وأخذت الحاجات تكثر وتتنوع وتتعقد، وتجارة علي رابحة من غير شك، ولكن ربحها يذوب في هذه الأسرة الكبيرة كما يذوب الملح في الماء.
وإن العام ليتم دورته، ويبحث علي عما بقي له من ربحه فلا يجد شيئا. ولعله أن يجد رأس المال وقد تحيف منه قليلا أو كثيرا، فيضيق بذلك يوما أو يومين، ويغتم له ليلة أو ليلتين، ولكنه لا يلبث أن ينصرف عن ضيقه وغمه إلى حياته هذه المطردة المضطربة: تجارة أول النهار، ولغو آخره، وراحة بين ذلك، وسهر عند الشيخ إذا كان الليل، ثم العودة إلى داره ليقضي بقية الليل عند هذه أو تلك من نسائه، يسمع منها أبغض ما يسمع الرجل من امرأته: شكاة من هذه، ونعيا على تلك، وعيبا للثالثة وثناء على نفسها، ثم إلحاحا في التسوية بينها وبين ضرائرها؛ فقد أهدى إلى هذه ما لم يهد إليها مثله، وزعمت تلك أنه ترك لها من النقد كذا وكذا درهما على حين أنه يبيت عندها ولا يترك لها شيئا، وإنها لتلتمس المليمات تشتري بها الحلوى لصبيها البائس فلا تجدها، فيظل ابنها محروما ينظر إلى أبناء الضرائر وهم فرحون بما في أيديهم من الحلوى وما في جيوبهم من ألوان النقل. وعلى هذا النحو تنغص عليه ليلته حتى ينتظر الصبح أشد ما يكون إليه شوقا. فإذا سمع صوت المؤذن أسرع إلى وضوئه وصلاته، يظن أن التقوى هي التي تدفعه إليهما، وما كان يدفعه إليهما إلا الهرب من هذه الحياة البغيضة، ومن هذا الليل الطويل الثقيل، ولم يكن علي يجد الراحة والنعيم إلا في ليلة أم خالد حين يخلو إلى نفسه وإلى ذكرى زوجه الكريمة، فيمتلئ قلبه حبا وحنانا، ثم يسرع إلى ذكر الله وتلاوة القرآن ليهدي إلى هذه الزوج الصالحة شيئا من ثواب الآخرة بعد أن لم يستطع أن يهدي إليها شيئا من نعيم الدنيا. رحم الله أم خالد؛ لقد كانت برة به عطوفا عليه، لم تخالف عن أمره قط، ولم تسؤه في نفسه قط، لم تؤذه بقول ولا عمل، لم ير منها إلا خيرا منذ لقيها إلى أن فارقها. كانت مباركة لم يحس في أيامها ضيقا ولا ضنكا، وإنما كان المال يتدفق في متجره، والخير يتدفق في داره، وكانت حياته بين حبها له ورضا الشيخ عنه ونمو ابنه خالد مشرقا باسما فرحا مرحا، نعيما متصلا. أين هو من هذا النعيم؛ أيجده عند زينب هذه التي تقدمت بها السن حتى أخذ وجهها يكلح وتظهر فيه التجاعيد، وهي مع ذلك تتجمل وتتدلل وتتكلف ما يتكلفه النساء الحسان؛ وما الذي يعجبه من زينب هذه؛ وما الذي يكرهه على أن يمسكها في داره! لقد تزوجها في آخر شبابها، فلم ترزقه ولدا، ولم ير عندها خيرا، بل لم ير عندها إلا سوء الخلق، وإلا هذه الغيرة الطارئة التي أدخلتها في قلب زوجيه الأخريين. لقد كان مستمتعا بشيء من هدوء قبل أن يتخذ هذه الزوجة الثالثة، وما له لا يكتفي بزوجين اثنتين! رحم الله تلك الأيام التي كان يكتفي فيها بأم خالد. ولكن أم خالد! وكيف يقاس إليها النساء؛ ثم يصبح وقد استقر رأيه على أن يفارق زينب، فهو يلتمس لذلك الأسباب والعلل. وأي شيء أيسر من ذلك؛ يكفي أن تلقاه متجهمة تحسب تجهمها دلالا، متنكرة تحسب تنكرها تيها، يكفي أن يدعوها فتبطئ في الجواب، وإذا هو ثائر فائر، يلقي في وجهها كلمة الطلاق، ثم يفر من بين يديها مسرعا فيتنفس ملء رئتيه، ويأوي إلى غرفة أم خالد على مصلاه يستغفر الله ويتلو القرآن.
كذلك كانت حياة علي زواج وطلاق، وطلاق وزواج، واحتمال لما يقتضيه ذلك من نفقات، واحتمال لما تقتضيه كثرة الولد من نفقات أيضا، وإهمال لهؤلاء الولد الذين يكثرون من يوم إلى يوم، إهمال مصدره كثرتهم من جهة، وتنافس أمهاتهم من جهة أخرى، وانصرافه إلى تجارته ولغوه وعبادته من جهة ثالثة، وقد أهمل تربية خالد حين كان خالد وحيدا، حتى كاد يفسد ويدركه الانجذاب لولا لطف الله وكرامة الشيخ، وهنا يستعرض أمر خالد وزواجه وكل هذه المأساة، فيحزن لها شيئا، ثم يذكر عبد الرحمن وثروته فتمر على ثغره ابتسامة ينكرها، ولكنه يستعذبها على كل حال. ومما زاد حياة علي تعقدا وارتباكا وأكثر فيها الهم والحزن أن تجارته أخذت تفتر شيئا فشيئا على مر الأشهر والأعوام. لم يفطن لأسباب ذلك أول الأمر، وإنما ضاق به وشكا منه. وحاول أن يطب له فلم يفلح. ثم أصبح ذات يوم وقد كشف عنه الغطاء، وإذا هو يرى نكرا من الأمر يملأ قلبه خوفا، ثم لا يلبث أن يملأ قلبه يأسا، هذه المتاجر الجديدة التي أخذت تنشأ في المدينة على غفلة من أهلها لا يدرون كيف جاءت إليهم، ولا كيف استقرت فيهم، وإنما هو بناء يقام لا يعرف أهل المدينة من يقيمه ولا لمن يقام، ثم ينظرون فإذا عمارة فخمة ضخمة قد ارتفعت شاهقة في السماء ممتدة في الفضاء، وقد أقبل عليها قوم غرباء جاءوا من القاهرة، فملئوها بضائع وعروضا، وأحاطوها بألوان من الزينة والبهجة تدعو الناس وتغريهم بها، وإذا هم ينظرون ثم يقفون ثم يدخلون ويخرجون بعد ذلك، وقد تركوا ما كان معهم من نقد، وحملوا من السلع والعروض أشياء حزمت لهم حزما حسنا ليس مألوفا في هذه المتاجر القديمة التي توارثها الأبناء عن الآباء، وأغرب من هذا أن هذه المتاجر التي أخرجها الشيطان من الأرض لا تقتصر على لون بعينه من البضائع أو ضرب بعينه من السلع، وإنما هي تبيع كل شيء. متجر واحد يعدل جميع متاجر المدينة، أي غرابة في أن يفتن الناس بهذا الجديد ويتهالكوا عليه ينفقون فيه أموالهم ويقتضون منه حاجاتهم؛ فأما علي وأصحابه ومتاجرهم هذه القديمة القذرة المهملة النائمة، فعليهم وعليها العفاء.
كذلك أحس ذات يوم أنه لن يستطيع أن يثبت لهذه الشياطين الجديدة التي هبطت على المدينة لتفقر أغنياءها وتذل أعزاءها، وتأخذ ما فيها من مال، فتحمله إلى شياطين أخرى تقيم في القاهرة أو في مدينة أخرى غير القاهرة، وقد تحدث علي بذلك إلى بعض أصحابه التجار، فإذا هم يرون مثل ما يرى، ويجدون مثل ما يجد، ثم لا يملكون، كما أنه لا يملك، إلا أن يضربوا يدا بيد ويقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم سعوا إلى شيخهم، وتحدثوا إليه في ذلك، فإذا هو يرى مثل ما يرون، ويجد مثل ما يجدون، ويقول كما كانوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم يحدثهم عن أشراط الساعة، ويذكرهم بأيام الله، ويعظهم فيبغض إليهم الغنى ويحبب إليهم الفقر، ويؤكد لهم أن أكثر أهل الجنة من الفقراء، وأن أكثر أهل النار من الأغنياء الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
وكذلك عملت حياة علي في ماله وتجارته، وعملت في ماله وتجارته هذه الشياطين التي انقضت على المدينة كأنها الجراد، وإذا إحساسه بالضيق يكثر ويشتد، وإذا هو يقصر مع بعض عملائه في القاهرة، فلا يؤدي إليهم حقوقهم في إبانها، وإذا هو مضطر إلى أن يتخفف من بعض ما اختزن من العروض يبيعها بثمن بخس ليؤدي بعض ما عليه من دين، وقد خطر له ذات ليلة وهو قاصد إلى غرفة أم خالد أن يهبط إلى القاهرة ليرى عبد الرحمن، فيعلم علمه، ويسأل عن نفيسة وابنتيها؛ فقد أهملهن منذ زمن طويل، ومن يدري، لعله أن يجرؤ فيلتمس عند صهره شيئا من معونة، فلما انتهى إلى غرفة أم خالد جلس على مصلاه، فدعا واستغفر وصلى وتلا القرآن واستخار الله، ولم يهمل بعد أن صلى الصبح أن يقرأ سورة «يس» سبع مرات يعقبها في كل مرة بدعائها المعروف. فلما فرغ من ذلك غفا غفوة ثم استفاق، وإذا محمود يحمل إليه كسرة من خبز جاف، وشيئا من ملح، وكأسين من قهوة، فطعم وشرب وحمد الله، ونهض وهو مستيقن أن الله قد عزم له على الرشد، ومزمع أن يسافر إذا كان الغد، وقد أنفق نهاره في الاستعداد لهذا السفر؛ فلم يكن بد من أن يحمل إلى نفيسة وابنتيها ما يسرهن، والله يعلم كيف احتال في ذلك وجد في الحيلة، ولكنه سافر من الغد كما تعود أن يسافر موفورا كثير المتاع، وقد استخلف ابنه خالدا على داره ومتجره، فلما وصل إلى القاهرة وانتهى إلى دار عبد الرحمن لم ينكر شيئا أول الأمر، فقد لقيه صديقه الشيخ باسما وقورا مرحبا، ولقيته أم نفيسة باسمة عن ثغر محطم في وجه مربد قد عبثت به السنون، ولقيته نفيسة هادئة مطمئنة راضية، فأما الصبيتان فقد نمتا نموا حسنا، فازدادت إحداهما جمالا، وازدادت الأخرى قبحا، ولكن عليا لم ينفق مع صديقه الشيخ يوما وبعض يوم حتى أنكر كل شيء، وإذا هو يلعن الأيام في القاهرة كما كان يلعنها في المدينة، فقد تعرضت تجارة صاحبه في العاصمة لمثل ما تعرضت له تجارته في الإقليم؛ لا لأن صاحبه استكثر من النساء والولد فكثرت نفقته وثقلت أعباؤه؛ فقد كان عبد الرحمن صاحب نسك وقناعة وزهد في الدنيا، بل لأن القاهرة امتلأت بهذه الشياطين التي أقبلت على مصر تغزوها منذ أعوام فأفسدت فيها كل شيء.
Page inconnue
قال عبد الرحمن: ولست أدري ما الذي سلط علينا هذه الشياطين؛ فقد كنا آمنين وادعين موفورين، ثم أصبحنا ذات يوم وإذا الشر يأخذنا من جميع أقطارنا، شياطين يأتوننا من يونان، وشياطين يأتوننا من إيطاليا، وشياطين يأتوننا من فرنسا، وشياطين يأتوننا من بلاد الإنجليز. صدقني يا أبا خالد إن الله قد غضب علينا، وقد بحثت كثيرا عن أسباب هذا الغضب، فالله لا يغضب على الناس لغير سبب، وإنما هو قد عودهم أن يحسن إليهم تفضلا منه، وألا يغضب عليهم حتى يستوجبوا غضبه بمنكر يأتونه، أو ذنب يقترفونه، أو إثم يتورطون فيه، وقد سألت الشيوخ في الأزهر والأولياء الصالحين الذين يعكفون في المساجد، ويلوذون بمشاهد أهل البيت، فلم أجد عند أحد منهم شيئا. ولكني غفوت ذات ليلة بعد أن صليت العشاء، فما راعني إلا شيخنا وهو يبسم لي ساخرا، ثم يدنو مني فيمسح على رأسي ويتلو هذه الآية الكريمة:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، ثم ينأى عني قليلا قليلا وهو يقول: اتبعني أبا صالح فإني سأفر بنفسي وديني من هذه القرية الظالم أهلها، وقد أفقت مذعورا، ولم أستطع منذ تلك الليلة أن أقنع نفسي بأني لم أر إلا حلما، وإنما استقر في قلبي أن الشيخ منتقل إلى رضوان الله، وأني لن ألبث بعده إلا قليلا، ولقد أقبلت أبا خالد وأنا أحدث نفسي بالسفر لأزوركم وأحدث عهدا بالشيخ، فمن يدري! لعله الوداع.
قال علي وصوته يرتجف: هون عليك! فإنك لم تر إلا حلما، وقد تركت الشيخ على أحسن ما عهدته قوة ونشاطا، وقد حملني تحية إليك ودعاء لك، ولكنه دعاني حين انصرفت عنه بعد وداعه، فأسر إلي أنه هابط إلى القاهرة؛ فقد طال عهده بأهل البيت، ثم قال في ابتسامة ما رأيت قط أعذب منها، لقد كانت شفتاه كأنما تنفرجان عن نور قال: أبلغ عبد الرحمن أنا سنكون له ضيفا.
هنالك لم يملك عبد الرحمن نفسه أن قال بأعلى صوته: الله اكبر! الشيخ ضيفي! ثم أهوى إلى صديقه فقبل رأسه وهو يقول وفي عينه دمعتان تترقرقان: ويحك أبا خالد! لم أخرت علي هذا النبأ السعيد؟!
ومهما يكن من شيء فقد سافر علي إلى القاهرة وفي قلبه شيء من حزن وشيء من أمل، وعاد إلى المدينة وفي قلبه كثير من الحزن وكثير من اليأس، إلا من روح الله، ولكنه قال لصديقه وهو يودعه: سأعود إليك بعد حين؛ فما ينبغي أن أتخلف عن مصاحبة الشيخ، ولا بد من أن نزور معه أهل البيت.
الفصل العاشر
أما خالد فقد كدنا نشغل عنه بحديث أبيه، وليس في هذا شيء من بدع؛ فإنه كان يعيش في أيام لم تكن حياة الأبناء فيها شيئا ما دام آباؤهم ناهضين بما كان ينهض به الآباء من الأمر في ذلك الوقت، فهم كانوا كل شيء، يصدر عنهم ما يدبر شئون الأسرة من أمر، وينتهي إليهم ما يعرض للأسرة من خطب، وما أبناؤهم إلا ظلال لهم، بل ظلال ناقصة تصور ما كان آباؤهم يريدون لهم أن يكونوا، إنما كان الأبناء يستكملون شخصيتهم وينهضون بأمرهم كله حين كان آباؤهم يفارقون هذه الأرض أو يضطرهم المرض والكبر إلى أن يلزموا بيوتهم عابدين أو فارغين، لا يأتون شيئا ولا يدعون شيئا؛ لأنهم لا يقدرون على شيء.
وكان علي في ذلك الوقت مالكا لأمره كله، لم يعرف قط نفسه قويا كما كان في ذلك الوقت، ولم يستجمع قط قواه العاقلة والعاملة كما استجمعها في تلك الأيام، ولذلك أسرف على نفسه وعلى أسرته في كل ما كان يأتي ويدع: إضاعة للتجارة، وإتلاف للمال، وإسراف مع ذلك في الزواج والطلاق، واستكثار مع ذلك من البنين والبنات، حتى كان حديث الناس في المدينة وفي بعض القرى المجاورة، وحتى تحدث إليه أصحابه في ذلك، فكان يقول لهم ما ذكرناه آنفا من أنه إنما يستوفي ما أباح الله له من الحق حين أذن للمسلمين أن يتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، وكان يقول لهم في شيء من الغلظة والاستهزاء: ما تنقمون مني! من استطاع منكم أن يصنع صنعي فليفعل، ألسنا قد أمرنا بالزواج وبأن نستكثر من النسل ما وسعنا ذلك؛ لأن نبينا
صلى الله عليه وسلم
مباه بنا الأمم يوم القيامة؟ فهل تعيبون علي أن أكون سببا من أسباب امتياز النبي بأمته على غيرها من الأمم يوم القيامة! وكان أولو الجراءة من أصدقائه يذكرون له كثرة النفقة وثقل العبء، فيسخر منهم وقد يتجاوز السخرية إلى التأنيب، ويقول لهم: ما رأيت قوما مثلكم يشكون في قدرة الله، وينكرون فضله على الناس؛ إن الله هو الذي يرزقنا الولد. وقد ينبغي أن تعلموا، إن كنتم لا تعلمون، أن الله لا يخلق فما إلا أطعمه، ولا يبرأ نسمة إلا كفل لها رزقها، وقد نهينا عن قتل الولد مخافة الإملاق، ولست أفرق بين قتل الولد مخافة الإملاق وتجنبه مخافة الإملاق، كل ذلك يرجع إلى شيء واحد هو ضعف الثقة بالله، وأعوذ بالله أن تضعف ثقتي به أو يحل في قلبي اليأس من فضله.
Page inconnue
وكذلك كان يمضي في طريقه هذه، لا يفكر في عاقبة، ولا يحفل بموعظة، ولا يسمع لنصيحة، وإنما هو مندفع في حياته واقتضاء لذاته المباحة، كما يندفع السيل إلى الوجه الذي دفع إليه. فلا غرابة في أن تشغلنا حياته هذه عن حياة ابنه خالد، وقد كانت ضئيلة نحيلة في ظل هذه الحياة الضخمة العريضة التي تندفع أمامها لا تقف عند شيء ولا تلوي على شيء، وقد كان خالد مع ذلك حين عاد من القاهرة بعد أن رد امرأته وابنتيه إلى حميه مقسم النفس بين نوعين من الشعور؛ فقد كان في نفسه شعور بحزن مقيم مقعد حاول هو أن يفهمه فلم يستطع، ولكن فهمه مع ذلك يسير.
كان حزينا أيسر الحزن لفراق امرأته التي عاشرته أعواما ورزقته ابنتين، ولم تره في سيرتها معه إلا خيرا. وكان حزينا لأنه كان ينتظر لنفسه حياة غير هذه الحياة وحظا غير هذا الحظ: كان يرجو أن يتيح الله له زوجة صالحة يحبها ويسكن إليها ويرى فيها متعة عينه وقلبه وأم ولده وربة بيته وصاحبته، منذ بدأ هذا الطريق إلى أن ينتهي منها، ولكن الله لم يتح له هذه الزوج. وقد رضي مع ذلك بما قسم الله له، ورآه نعمة وفضلا، ولكن الله أبى أن يتم عليه هذه النعمة وأن يكمل له هذا الفضل، فكشف له الغطاء عن قبح امرأته، وامتحنه بهذا القبح حينا، فكاد يخفق في الامتحان، ولكنه حاول أن يثبت له، وكاد يخرج من المحنة ظافرا لولا أن الله قد ابتلاه بمحنة أخرى، فأغرى بامرأته جنية البيت، تلك التي تسكن حنايا السلم والتي جعلت تتراءى لها متى خلت إلى نفسها فتغرها وتضلها وتلقي في روعها الأباطيل، حتى أفسدت عليها أمرها، وسلبتها ما كان لها من عقل، وإذا هو مضطر - بعد أن ردها إلى أبيها - إلى هذه الحياة الفارغة المؤلمة، حياة الوحدة؛ فقد كان على كل حال يأنس إلى امرأته، فيرى في عشرتها راحة وروحا، وقد كان ينعم بطفولة ابنتيه، ويرى في ابتسامهما أملا ونعيما، وإذا هو قد حرم هذا كله ورد إلى وحدته الأولى، بل أين وحدته الآن من وحدته قبل أن يتزوج، فقد كان بين أم ترأمه وتحنو عليه، وبين أب يحبه ويؤثره بالكرامة، فأما الآن فهو غريب في دار أبيه بين هؤلاء الضرائر اللاتي لا ينظرن إليه ولا يحفلن به؛ لأنه لا يغني عنهن شيئا فيما يكون بينهن من تنافس وتباغض وخصام، وبين هؤلاء الصبية الذين يكثرون في كل يوم وينبتون كما ينبت العشب في الأرض، لا يدري كيف جاءوا.
فأما أبوه فقد كان عطوفا عليه حفيا به أيام محنته، فلما بعد بها العهد، شغل عنه بهذه الهموم الكثيرة التي لا يتركها في الدار إذا غدا إلا ليلقاها في المتجر، ولا يتركها في المتجر إذا راح إلا ليلقاها في الدار، وهو سعيد كل السعادة أن تركت هذه الهموم له طريقه حرة بين داره ومتجره، لم ينتظره في هذا الثني أو ذاك من أثناء الطريق، ولم يخرج له بعضها من هذا العطف أو ذاك من أعطاف المدينة. فهذا نوع من الشعور الذي كان يجده خالد عندما آب من القاهرة، ولكنه كان يجد نوعا آخر من الشعور ليس أقل من هذا النوع تأثيرا في قلبه وفي حياته العاملة بنوع خاص. فقد كان يشعر كأن حملا ثقيلا ألقي عن عاتقه، وكأن شيئا من الراحة والأمن رد إلى قلبه، ذلك أن لقاءه امرأته كل يوم مصبحا وممسيا، ونظره إلى ابنتيه وما كان بينهما من اختلاف، وموازنته بين ابنتيه وأمهما، كل ذلك كان يسوءه ويؤذيه، فقد أراحه الله من هذا السوء ورد عنه هذا الأذى، وأتاح له حياة فارغة، تؤذيه من غير شك، ولكن لا كما كانت تؤذيه حياته تلك الملأى.
وكذلك كان خالد يضطرب بين الحزن والرضا، وبين القلق والأمن، وكان إذا أحس الرضا صلى ودعا وقرأ القرآن حامدا لله على نعمته، وإذا أحس السخط صلى ودعا وقرأ القرآن مستعينا بالله على نقمته، وكان أشد ما يخاف أن يغري به الشيطان في وحدته على نحو ما كان يغري به قبل أن ترحل عنه زوجه، فكان يكثر من القراءة والدعاء والصلاة تحصنا من هذا الشيطان، ولكن الله صرف عنه الشيطان صرفا تاما، فكانت وحدته نقية حتى من التفكير في الإثم، وكانت عزلته طاهرة حتى من الشعور بأن له غرائز يجب أن ترضى، وقد هم أن يستأنف حياته الأولى، فيختلف إلى المساجد، ويتبع حلقات الذكر ويواظب على مجالس الوعظ، ولكنه لم يجد من نفسه نشاطا إلى هذه الحياة، وإنما وجد من نفسه شوقا إلى عمل أحسن غناء وأقرب نفعا من هذه الحياة المشردة، وقد ألقي في روعه أن التقرب إلى الله لا يكون بالاختلاف إلى هذه المساجد والحلقات ومجالس الدرس والوعظ فحسب، وإنما يمكن أن يكون بأن يظل الإنسان على ذكر من ربه دائما، يذكره إذا خلا إلى نفسه، ويذكره إذا لقي الناس، ويذكره حين يقدم على العمل أو يحجم عنه، فتكون خشيته لله هي التي تحمله على الإقدام أو الإحجام، وكان خالد على ذكر من ربه دائما، حتى إن أيسر انفعالاته كان يترجم عنه بهذه الكلمات التي تجري بها ألسنة الناس كثيرا، ولكنها لا تصدر عن قلوبها إلا قليلا، فكان إذا أنكر شيئا أو أسخطه شيء قال: سبحان الله. وإذا رضي عن شيء أو سره شيء قال: الحمد لله. وإذا أعظمه أمر يسر أو يسوء قال: الله أكبر. وإذا أحس من حوله شرا يدنو منه أو يبعد عنه قال: لا إله إلا الله.
وكان الناس يحبون خالدا في المدينة ويعجبون به ويودون لو أن أباه ترك له تجارته، وفرغ هو لما يعنيه من أمر دنياه وأمر دينه، ولكن أباه كان شديد النشاط لم يشعر بعد بالضعف، ولم يحتج بعد إلى الراحة، وهم خالد أن يعين أباه على تجارته، فلم ير من أبيه ابتهاجا بهذا العون، ولم ير من نفسه ميلا إلى التجارة، وكان له ابن عم لم نتحدث عنه إلى الآن - ويظهر أننا سنكثر الحديث عنه منذ الآن - كان له ابن عم يدعى سليما، توفي عنه أبوه محمد ولما يبلغ السنتين من عمره، فكفله عمه علي من بعيد، يقوم بحاجته ويشمله ويشمل أمه خديجة بالبر المتصل، ولكن خديجة توفيت عن ابنها ولما يتم العاشرة من عمره، فكفله علي من قريب، ضمه إليه، وأقره في داره، واتخذه لخالد أخا، فكان يقسم بينهما حبه وعطفه وبره، وتلقت أم خالد هذا الصبي لقاء حسنا، فبرته ورفقت به كما كانت تبر ابنها وترفق به، ورحم الله أم خالد! فقد كانت خيرة من جميع نواحيها، ولم تكن أم خالد إذا تحدثت إلى ابنها عن سليم تقول له: ابن عمك قال كذا أو كذا أو فعل كذا أو كذا. وإنما كانت تقول له: أخوك قال أو فعل.
وكان سليم يكبر خالدا بثلاثة أعوام، فكانت أم خالد تلقي دائما في روع ابنها أن سليما أخوه الأكبر وأن له عليه حق الكبير على الصغير، وقد أنفق خالد صباه وهو مؤمن بأن سليما أخوه، لم يتبين حقيقة الصلة بينهما إلا حين تقدمت به السن شيئا، ولكن ذلك لم يغير من سيرته مع سليم قليلا ولا كثيرا، أحبه دائما، وأكبره دائما، ووقره دائما، وآثره دائما على إخوته بعد أن كثروا، فلم يكن يولي أبناء العلات من إخوته وأخواته إلا ميلا قليلا وعطفا معتدلا، فأما سليم فقد كان له وده كله وإخاؤه كله، حتى كان الناس يضربون المثل بما كان بين هذين الشابين من تعاطف ومودة.
وقد تتابعت الأيام والأشهر والأعوام ومضى جيل من الناس وأقبل جيل، فلم يكد الجيل الطارئ يشك في أن خالدا وسليما أخوان أبوهما علي وأمهما تلك التي يقسم لها علي بعد أن ماتت يومها فيما يقسم من أيامه بين نسائه، وكان الشيوخ يبسمون في حنان ورضا إذا سمعوا أحاديث الشباب بذلك، وقلما كانوا يردونهم عن هذا الخطأ الذي يصور مثلا نادرا للمودة والإخاء. وقد بعدت الأسباب شيئا بين هذين الصديقين الأخوين حين بلغ سليم رشده وأسلم إليه علي ما ترك له أبوه، ولم يكن شيئا ذا غناء؛ فقد جد الفتى واجتهد وأصلح من أمره، واتخذ لنفسه زوجا أحبها وأحبته، وأقام مع امرأته في دار خاصة به مقصورة عليه، فآذى ذلك عمه بعض الشيء أول الأمر، ثم اطمأن إليه بعد ذلك، وكانت زبيدة زوج سليم معتدلة الجمال، ولكنها كانت خفيفة الروح كثيرة المرح والدعابة في براءة وطهر وخفر، وكانت أسباب المودة قد اتصلت بينها وبين نفيسة على ما كان بينهما من اختلاف في النشأة والتربية، ومن اختلاف في المنظر بنوع خاص؛ فقد نشأت في القاهرة، ونشأت مترفة في بيت ثروة وغنى، على حين نشأت زبيدة في المدينة وفي أسرة لا تكاد تبلغ الطبقة الوسطى من الناس. وكان الصديقان الأخوان سعيدين بهذه المودة المتصلة بين زوجيهما، ينتظران منها خيرا كثيرا، وآية ذلك أن «جلنار» لم تكد تبلغ الشهر السادس من عمرها حتى خطبتها زبيدة لابنها سالم، وكان سالم في الثانية من عمره، وتضاحكت المرأتان لهذه الخطبة، وقالت نفيسة لصاحبتها: إنك لتسيئين الاختيار لابنك، فأين أنت من سميحة وهي على ما ترين من جمال ورواء؟! قالت زبيدة ضاحكة: إن سميحة أكبر من سالم، وإني أرى البركة في جلنار، وإن اسمها يعجبني، فإنه من أسماء «الذوات»، وسيسعدني أن أسمع ابني يدعو زوجه، فيقول: يا جلنار. فأما سميحة فاسم بلدي كاسمك وكاسمي. وأي فرق بين سميحة وحميدة وخديجة. قلت لك: إني أخطب جلنار، ولن يتزوج ابني إلا جلنار. وكان الصديقان الأخوان قد جلسا غير بعيد، فلما سمعا هذا الحوار أعجبهما، قال خالد لسليم: أتسمع؟ قال سليم: أسمع. قال: أرضيت؟ قال سليم: رضيت. قال خالد: فامدد يدك ولنقرأ الفاتحة. فبسط سليم يده، وتصافح الرجلان وقرءا الفاتحة. ولم تشك الأسرتان منذ ذلك الوقت في أن سالما وجلنار زوجان، ولا سيما حين سمع علي هذا النبأ، فأقر الخطبة وبارك الخطيبين، ورفع الأمر إلى الشيخ فأقره ودعا للعروسين، وانتهى النبأ إلى عبد الرحمن في بعض زياراته للمدينة، فقال لسليم وهو يبتسم: فإن ابنك ابني منذ اليوم.
أقبل خالد ذات يوم بعد محنته على صديقه وأخيه، فتحدث إليه في شيء من أمن وثقة وقال له فيما قال: إنه ضيق بالحياة التي يحياها؛ فقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره وليس له عمل يطمئن إليه ويكسب منه قوته، وقد تركت له أمه شيئا، ولكنه لا يدري أين هو فقد اختلط بمال أبيه، وأبوه لا يبقي على شيء، وقد أحب أن يعمل مع أبيه في التجارة فلم يجد من نفسه ولا من أبيه ارتياحا إلى ذلك، وهو لا يشكو من أبيه بخلا ولا تقتيرا، ولا يذكر أن أباه قد أنكر عليه تصريحا أو تلميحا هذه الحياة الفارغة التي يحياها، ولكنه هو ينكر هذه الحياة أشد الإنكار ويمقتها أعظم المقت، وقد أخذت أسرة أبيه تعظم وتمتد، وأخذ بنوه وبناته يكثرون، وما يحب أن يرزقه أبوه كما يرزق هؤلاء الصبية الصغار، أو كما يرزق هؤلاء النساء المحمقات.
قال سليم: أما انصرافك عن التجارة، فإني أراه الخير كل الخير؛ فليس لك ولا لي ولا لأمثالنا في التجارة أرب. إنا لم نخلق لها أو قل: إنا خلقنا لتجارة قد انقضى عهدها، ألا ترى إلى هذه المتاجر الجديدة! أين منها متجر أبيك ومتاجر أصحابه الشيوخ! صدقني! إن مثلك ومثلي من الشباب ينبغي أن يتخذوا لأنفسهم أعمالا جديدة. ألا ترى إلى هذه المناصب الحكومية الكثيرة في المديرية والمراكز والمحاكم والدائرة السنية؛ إن كثيرا من الشباب يأتون من القاهرة أو من أقاليم غير إقليمنا يعملون في هذه المكاتب والدواوين، فما لنا لا نعمل كما يعملون!
قال خالد: فإنا لم نهيأ لعمل الحكومة. قال سليم: فإنا نحسن القراءة والكتابة والحساب، ولسنا بالمغفلين ولا بالحمقى، وما أريد أن يكون أحدنا مديرا أو مأمورا، وإنما يكفيك ويكفيني منصب الكاتب في هذا الديوان أو ذاك؛ أما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المديرية. قال خالد: وأما أنا فأحب أن أكون كاتبا في المحكمة الشرعية. قال سليم وهو يضحك: طبعا بين المفتي والقاضي والمأذون. قال خالد: بين العمائم على كل حال. ثم سكت الفتيان حينا، ثم قال خالد لصاحبه: إن هي إلا أحلام يا سليم؛ فقد علمت أن هذه المناصب لا تنال إلا بالواسطة. قال سليم وهو يضحك: ألستم تقرءون في أورادكم: «إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط.» قال خالد: لا تعبث بأورادنا فإني أخاف عليك عاقبة هذا العبث. قال سليم: فإني لا أعبث بشيء، وإنما أبحث عن الواسطة وقد وجدتها. قال خالد: وجدتها؟ وما عسى أن تكون؟ قال سليم: كلمة من شيخنا في أمرك وأمري إلى الباشا تبلغنا ما نريد.
Page inconnue
ولم يأت المساء حتى كان الفتيان قد راحا إلى الشيخ، فأسرا إليه أمرهما، فلما استمع لهما صمت لحظة، ثم قال: أفعل إن شاء الله، ولكن استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان. ولم تمض أيام حتى امتلأ قلب علي سرورا وبشرا، وأذيبت مقادير هائلة من السكر فسقيت للأغنياء والفقراء جميعا، وأقيم الذكر في بيت علي وذبحت الذبائح، وطعم الناس وكثرت قراءة علي لبعض الأدعية؛ لأنه خاف على نفسه وعلى ابنيه من حسد الحاسدين؛ فقد أصبح سليم كاتبا في المديرية يسعى بين الوكيل والمدير، وأصبح خالد كاتبا في المحكمة الشرعية يجلس بين القاضي والمفتي، ويتلقى من المأذونين صكوك الزواج والطلاق بين حين وحين، وقد رزق كل واحد منهما راتبا شهريا قدره أربعة جنيهات.
الفصل الحادي عشر
أنجز الشيخ وعده، فزار القاهرة وأقام فيها أسبوعا، وأكرم عبد الرحمن فنزل عليه ضيفا، وفرق أصحابه في المدينة تخفيفا على مضيفه؛ فقد كانوا أكثر من أن تسعهم دار واحدة. ولكنه استبقى معه خمسة أو ستة من أصفيائه الذين كان يحرص دائما على أن يلزموه. وقد أراد عبد الرحمن أن يئوي أصحاب الشيخ جميعا، ولكن الشيخ رده عن ذلك ردا عنيفا، وقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. قال عبد الرحمن في شيء من الاستحياء: فالأمر لك يا سيدنا، ولكنك ستكرمني بأن تصلي ويصلي إخواننا عندي العشاءين، وبأن تقام في دارنا هذه حلقة الذكر. قال الشيخ: هو ذاك. ولم يكن معنى ذاك إلا أن تقام الولائم في دار عبد الرحمن مساء كل يوم يشهدها العشرات من الرجال، والعشرات الكثيرة، منهم من هبط إلى القاهرة مع الشيخ، ومنهم من كان يقبل لزيارة الشيخ من القاهرة أو من المدن والقرى المجاورة لها.
وقد نهض عبد الرحمن بهذا الحق كأحسن ما ينهض به الرجل الكريم؛ فكان إذا أصبح غدا خدمه الذين استأجرهم لهذه الفرصة على الشيخ وأصحابه بالطعام، ثم يخرج مع الشيخ وأصفيائه فيزورون الموتى في قبورهم والأحياء في دورهم، ويصلون الظهر في مسجد من مساجد أهل البيت، ثم يعودون إلى دار عبد الرحمن حيث ينتظرهم الغداء، إلا أن يكون الشيخ قد استجاب لدعوة بعض أصدقائه من علماء القاهرة وأغنيائها. فأما العشاء وصلاة الليل وحلقات الذكر فكان هذا كله قد أكرم به عبد الرحمن. والشيء الذي لا يشك فيه هو أن أتباع الشيخ - وما كان أكثرهم - لم يتحملوا نفقة ما أقاموا في القاهرة، بل لم يتحملوا نفقة منذ تركوا المدينة حتى عادوا إليها. فما كان الشيخ ليقبل أن يرزأ أحد من أصحابه في ماله قليلا أو كثيرا وهو يرافقه.
وكانت مجالس الشيخ في دار عبد الرحمن رائعة حقا، يمتلئ لها قلب المضيف غبطة وسرورا، فكان الشيخ إذ صليت العصر اتخذ مكانه في صدر هذا الفناء الذي كان ينبسط أمام الدار، وأخذ أصحابه يفدون فيجلسون من حوله حتى يمتلئ بهم هذا الفناء. وقد أحس أهل الحي أن في دار عبد الرحمن عيدا أو شيئا يشبه العيد، وأنه سيتصل ويمتد أياما، فكان أغنياؤهم وأوساطهم يقبلون ليشاركوا في هذا العيد من قرب، وكان فقراؤهم وذوو الحاجة منهم يقبلون ليشاركوا في العيد من بعد. يجتمعون جماعات متكاثفة خارج الدار وهم يذكرون الله ويسبحون بحمده وقد ينجم من بينهم الشيخ ذو الصوت الحسن فيغني لهم شيئا من شعر الصوفية، أو الفتى ذو الصوت العذب فيغني لهم شيئا من أغاني القاهرة. وكانوا على كل حال في فرح ومرح، يطربون هذا الطرب الغريب الذي هو مزاج من العبادة واللهو البريء معا. وكان الشيخ يعجبه ما يرى من ذلك وما يسمع، وكان كثيرا ما يقطع حديثه أو حديث بعض جلسائه ليصغي إلى هذا الصوت أو ذاك، وليسمع لما كان يبلغه من حديث القوم ولما كان يدعو إليه هذا الحديث غالبا من الضحك والصياح.
وكان زوار الشيخ من أهل المكانة في القاهرة يقبلون لزيارته، منهم من كان يقبل راكبا بغلته يسعى بين يديه غلام من غلمانه، ومنهم من كان يأتي راكبا عربة تجرها الخيول المطهمة. وكان مجيء هؤلاء الناس جميعا يثير في نفوس هذه الجماعات كثيرا من العجب وكثيرا من الرضا، وكثيرا من الفرح أيضا، ولم يكن بين هؤلاء الزائرين على اختلاف طبقاتهم ومراكزهم زائر إلا طرح كبرياءه وطبقته ومركزه عند باب الدار، ثم أقبل ساعيا متواضعا منخفض الرأس. فإذا دنا من الشيخ حياه ولثم يده، وجلس حيث يشير إليه الشيخ أن يجلس. وقليل منهم كان يستطيع أن يبدأ الشيخ بالحديث، وإنما كانوا جميعا يتخذون مجالسهم في صمت، ويستقرون فيها لا يأتون حركة، ولا يديرون ألسنتهم في أفواههم، إلا أن يدعوهم الشيخ إلى شيء من ذلك بما يلقي عليهم من سؤال أو يسوق إليهم من حديث.
وكانت نفس الشيخ تصفو في مجلسه هذا للناس جميعا صفاء ممتازا، يصل إلى قلوبهم فيملؤها حبا وإكبارا. وكان صوته يعذب عذوبة رائعة تخلب أسماع الذين يحيطون به ويصغون إليه. وكثيرا ما كان الشيخ يفاجئهم مفاجآت تملأ قلوبهم روعة وإيمانا، فهو يتحدث إلى فلان أو فلان من جلسائه في شئونه الخاصة أو في الشئون العامة، ولكنه يقطع حديثه فجأة ويطرق إطراقة خفيفة، ثم يرفع إلى الناس وجها مشرقا كأنه القمر، ويقول في صوت مرتفع شيئا: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان، ويمضي بسنده متصلا حتى يبلغ النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم يروي حديثا طويلا أو قصيرا، ثم يأخذ في تفسيره وتأويله في لهجة المؤمن الصادق، ولغة الرجل الذي يعرف كيف يصل إلى قلوب الناس ويبلغ أفهامهم، على ما يكون من اختلاف حظوظهم في الثقافة والعلم، وإذا القلوب تخفق، وإذا النفوس تذعن، وإذا دموع تنهل، وإذا عبرات تحتبس في الحلوق، والشيخ ماض في حديثه وتفسيره، حتى إذا بلغ من ذلك ما يريد ألقى على جلسائه نظرة تحيط بهم جميعا وتلا قول الله عز وجل:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون . ثم يطرق لحظة، ثم يرفع رأسه، ويتلو الآية الكريمة:
Page inconnue
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما . ثم يرفع صوته بهذه الكلمات وجلساؤه معه: «اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون.» وإذ ذاك يكون المؤذن قد دعا إلى صلاة المغرب، فينهض الشيخ وهو يقول: المغرب جوهرة فالتقطوها. فإذا صلى وصلى الناس معه ودعا فقصر في الدعاء، مشى إلى المائدة ومشى معه الضيف جميعا. وقام عبد الرحمن كأنه الجني يشرف على طعامهم داخل الدار، وعلى عشاء هذه الجماعات المتكاثفة خارج الدار، وينفق أولئك وهؤلاء في طعامهم وأحاديثهم وقتا غير قصير. ثم يدعو الشيخ عبد الرحمن ويسأله باسما: ألا تظن أنه قد آن لك أن تستريح؟ فيقول عبد الرحمن: وأي راحة آثر عندي من هذا! ولكن صلاة العشاء قد وجبت يا سيدنا. يقول الشيخ: الليل كله وقت لصلاة العشاء، ثم ينهض مع ذلك متثاقلا فيخطو خطوات لا يلبث بعدها أن يسترد نشاطه ويعود شابا فتيا، وإذا هو يقيم الصلاة ويؤم الناس، فإذا أتم الفريضة أكثر من التنفل، ثم يتحول عن القبلة ويأخذ في بعض الحديث ساعة أو بعض ساعة يستخفي أثناءها عبد الرحمن فلا يراه أحد. ثم ينظر الشيخ فإذا عبد الرحمن ماثل بين يديه، فيقول: الآن أقيموا حلقة الذكر.
ولم يعرف عبد الرحمن في حياته كلها سعادة كالتي عرفها في هذا الأسبوع، ولكنه لم يعرف في حياته كلها شقاء كالذي عرفه بعد أن قفل الشيخ وأصحابه راجعين إلى المدينة. فقد كان حق هذه الزيارة الكريمة المباركة أن تتم قبل أعوام طويلة حين كانت تجارة عبد الرحمن الضخمة رابحة، وحين كانت ثروته العريضة نامية. فأما في هذه الأيام التي كسدت فيها التجارة وتضاءلت فيها الثروة، وثقل فيها الرجل عن السعي وضعف عن احتمال الهم الملح والجهد الثقيل، فإن هذه الزيارة الكريمة المباركة قد تملأ قلب المضيف غبطة وسرورا، وقد تشيع ذكره والثناء عليه، وقد ترفع مكانه في الجنة درجات، ولكنها بعد هذا كله تكلفه من النفقة ما لا طاقة له ولا قدرة له عليه. وقد جد الرجل مع ذلك حتى نهض بالحق، وأدى ما استتبعه هذا الأسبوع من دين. ولكنه لم يكد يفرغ من ذلك حتى أحس الجهد وبلغ منه الإعياء، فلزم داره ولم يبرحها إلا حين دعي إلى رضوان الله بعد شهور.
الفصل الثاني عشر
لم تعرف المدينة قط عاما كهذا العام، امتلأ فيه شهر الصوم بالخير والبركة وبالحب والتواصل، وبذكر الله والعكوف على طاعته، حتى لم يشك الفقير فقرا، ولم يحس البائس ضرا، ولم يجد الغني غرورا بثروته ولا فتنة بماله وجاهه. إنما شاع في المدينة شيء من الدعة والأمن والأمل والرخاء، فصام الناس مخلصين لله في صومهم، وقد اطمأنوا جميعا إلى أنهم سيفطرون إذا وجبت الشمس كما لم يتعودوا أن يفطروا، وسيؤدون صلاتهم على أحسن ما تؤدى الصلاة، وسيسمعون القرآن كأحسن ما تكون تلاوته وترتيله، وسيعودون إلى بيوتهم فينامون نوما هادئا مطمئنا ليستقبلوا يوما راضيا سعيدا.
وكان الشيخ مصدر هذا كله؛ فقد عاد من القاهرة في هذا العام كما تعود أن يعود من أسفاره، فاحتجب عن أصحابه ثلاثة أيام. ثم ظهر لهم في اليوم الرابع، فقال لهم وسمع منهم، ولكنه قال لهم أثناء السمر: قد أظلنا شهر الصوم. ثم التفت إلى خالد وقال ضاحكا: وما أرى قاضيك إلا سيأمرنا بالصوم بعد غد. ثم أطرق ساعة ورفع رأسه وقال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما. وما أرى أنه سيغم علينا غدا، وما أرى أننا سنكمل شعبان ثلاثين يوما. سنصوم بعد غد إذا، فأذنوا في الناس ، وليبلغ القريب منكم البعيد في المدينة أن من شاء أن يكرمني فهو ضيفي أثناء الصوم كله. فلما سمع جلساء الشيخ حديثه هذا وجموا له شيئا كأنهم يعجبون لما سمعوا، وينكرون هذه الدعوة العامة.
ولكن الشيخ قال في تؤدة وهدوء: إن الذين صحبوني منكم إلى القاهرة يعلمون أن يدي لم تمتلئا قط بالخير والنعمة كما امتلأتا في هذه الرحلة. والذين لم يصحبوني إلى القاهرة قد رأوا من غير شك هذه السفن الكثيرة الموقرة التي ألقت مراسيها على الشاطئ وأرسلت إلي ما كانت تحمل من أنواع الهدايا وضروب البر. ولست أدري ماذا أصاب الناس في هذا العام؛ فقد مرضوا كلهم بالكرم، وحرصوا كلهم على أن يعطونا مما أعطاهم الله، فاجتمع لنا من ذلك ما لا نستطيع أن نستنفده إلا أن يشاركنا الناس فيه، وإنما هو مال الله، فيجب أن يرد إلى الله. وهم بعضهم أن يتكلم، فابتدره الشيخ قائلا: هون عليك! فإنا لم نكن ننتظر هذا الخير لنكفل لإبراهيم بعدنا حياة راضية، وإبراهيم بعد خليفتي فيكم، وأنتم أوصيائي عليه. هنالك ارتج مجلس الشيخ وضج الناس بالبكاء، والشيخ ينظر إليهم باسما ويتلو السورة الكريمة:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . ثم يقول بعد إطراقة خفيفة: لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام، وقد قال الغزالي إن النبي لا يرى في المنام. والله ما هكذا كان الأمل فيك يا غزالي! لقد رأيته بعيني رأسي هذا راكبا بغلته. وسمعته يتلو هذه السورة في صوت ما سمعت قط صوتا يشبهه حلاوة وعذوبة. فلما أفقت من نومي ذكرت أن الله عز وجل نعى إلى سيد الخلق نفسه حين أنزل عليه هذه السورة، فأولت رؤياي هذه كما أول سيد الخلق نزول السورة عليه. ثم سكت وأطرق، وسكت القوم مثله وأطرقوا كأن على رءوسهم الطير، ثم رفع رأسه قائلا:
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت . صدق الله العظيم.
Page inconnue
فلما كان الغد امتلأت المدينة وما يليها من القرى والضياع بأن الناس جميعا ضيف الشيخ أثناء شهر الصوم. واستجاب الناس جميعا لدعوة الشيخ. فأما أغنياؤهم فكانوا يبتغون البركة والكرامة ويؤثرون رضا الشيخ، وأما فقراؤهم وذوو الحاجة منهم فكانوا يؤثرون البركة والكرامة ويؤثرون إرضاء حاجاتهم أيضا. ويقول بعضهم لبعض: إن بركة الشيخ لشاملة، سنصوم هذا العام دون أن نشقى بالعمل أثناء الصوم، ودون أن ننتظر معونة تأتي أو لا تأتي من القادرين.
وكان الشيخ وخاصته يتتبعون أصحاب الأسر من أوساط الناس وفقرائهم فيكرمونهم في بيوتهم لا تنقطع عنهم مئونة الشيخ، تأتيهم مصبحين وممسين. ولولا أن الباشا كان من أتباع الشيخ ومريديه والمؤمنين له المطمئنين إليه لشك في هذا الكرم، ولأشفق من عواقبه على السلطان. ولكن الباشا نفسه كان من أسرع الناس استجابة لدعوة الشيخ وأكثرهم ترددا على مائدته. ولم يهمل أن يدعو الشيخ إلى قصره مرتين، ولم يهمل الشيخ أن يستجيب لهذه الدعوة كما تعود أن يفعل، وأن يستكثر من الأصحاب والأتباع، ويقول للباشا: فأما وقد دعوتني فسأرزؤك في مالك رزءا عظيما. ولم يكن الشيخ يهمل أن يزور الأغنياء من أهل المدينة، ويستجيب لهم إذا دعوه، فيفطر على موائدهم ويصلي عندهم العشاء والتراويح، ويسمع لقرائهم. وكان الشيخ قد دعا قراء المدينة جميعا ليقرءوا في داره وفي دور أصحابه، حتى لم يدع منهم قارئا حسن الصوت إلا ضمن له تلاوة القرآن أثناء شهر الصوم، وحتى احتاج إلى أن يدعو قراء من المدن القريبة يقرءون عنده. ولم يدع أثناء هذا الشهر أحدا من أصحابه إلا اختصه بشيء من حديث.
وفي ذات ليلة كان يتحدث بين سورتين من سور القرآن، والخدم يطوفون بقهوة البن والقرفة على جلسائه، وإذا هو يقطع حديثه فجاة وينظر إلى اثنين من أصحابه كانا يتحدثان، أحدهما علي أبو خالد، والآخر رجل من أصفياء الشيخ ومن أغنياء الريف القريب يقال له الحاج مسعود. نظر إليهما نظرة نافذة قطعت حديثهما وردتهما إلى الصمت، وقال لهما: فيم تتحدثان؟ فهم علي أن يجيب ، ولكن الشيخ لم يمكنه من الجواب، وإنما قال: استمع لي يا مسعود! احذر صديقك عليا هذا، إنه يدور حولك لتزوجه إحدى بناتك؛ فلا تفعل فإنه مزواج مطلاق، ولكن عليك بابنه خالد؛ فإن فيه البركة وعنده الخير، وما أرى إلا أنه سيصهر إليك وسيخطب صغرى بناتك. إني ما زلت أذكرها، إنها لخيرة مباركة، فإن فعل فلا ترده خائبا، وإن لم يتح لي أن أزوجهما فسيزوجهما ابني إبراهيم. فأما علي فبهت وضحك ضحكا سخيفا. وأما الحاج مسعود فنهض من فوره وسعى إلى الشيخ فقبل يده وبللها بدموعه، وكان رجلا رقيق القلب بكاء، وقال في صوت تقطعه العبرة: بل يبقيك الله ويطيل عمرك يا سيدنا وتزوج سائر بناتي كما زوجت من تزوجت منهن. قال الشيخ وهو يضحك: يا غلام! قهوة سوداء للحاج مسعود، فما يرقئ عبرته هذه إلا القهوة السوداء. اجلس يا مسعود، بارك الله عليك وبارك لك في بناتك وفي ذريتك، ثم استأنف حديثه من حيث قطعه وجلساؤه يرون ويسمعون ويعجبون ويقول بعضهم لبعض: لقد نالها الحاج مسعود! من يعدل الحاج مسعود! ليتني مسعود!
على أن شهر الصوم لم ينته دون أن يحمل إلى الشيخ وإلى أصحابه نبأ محزنا؛ فقد جاءهم من القاهرة نعي عبد الرحمن قبل أن ينقضي الشهر بثلاثة أيام. فلما أقبل علي يحمل النبأ إلى الشيخ بكى واسترجع وقال: تبارك الله! لقد كنت أظن أني سأسبقه فقد سبقني. ثم سكت لحظة واستأنف حديثه فقال لعلي وابنه خالد: فإنكما تذكران ما أعطيت عنكما من العهد. قالا: نعم. قال: فاذهبا إلى القاهرة فأديا الواجب، وضما إليكما نفيسة وابنتيها وأمها. ثم التفت إلى علي وقال له كالساخر منه الراثي له: ولا تنتظر مالا يا علي فقد أتينا على مال عبد الرحمن كله حين زرناه، وانصرف الآن فإن لي مع خالد حديثا لا أحب أن تسمعه ولا أن ينبئك به. قال علي وهو ينتحب: فإنك ساخط علي يا سيدنا؟ قال الشيخ: أعوذ بالله من ذلك! وإنما أريد أن أتحدث إلى خالد حديثا لا ينبغي أن يعلمه غيره، انصرف مصاحبا. قال علي: سأنصرف طاعة لأمرك، ولكني لست راضيا. قال الشيخ: سترضى. وخرج علي متثاقلا كالخزيان. فلما خلا الشيخ إلى خالد، قال له: ستكون برا بنفيسة وأمها يا بني. قال خالد: فقد أعطيت على ذلك عهد الله يا سيدنا، وأنا أجدده. قال الشيخ: وأول البر بها أن تطلقها. فوجم خالد لهذا القول، ولكن الشيخ مضى يقول: إنها لا تصلح لك زوجا، ولا تصلح زوجا لأحد، وما ينبغي لها أن تحمل ولا أن تلد، فطلقها فتحسن إليها وإلى نفسك. إنك ستتزوج، وستتزوج من بنت مسعود، وستتزوجها بعد عام أو عامين، لأنها لم تبلغ طور الزواج بعد. فإذا تزوجتها فلا تفرض عليها ضرة، فإنها لن تحتمل الضرائر، ولا تمسك نفيسة في هذا الزواج العقيم، ولا تكلف نفسك عدلا لا تطيقه وقلما يطيقه الناس. طلق نفيسة يا بني واضممها مع ذلك إلى أهلك، وسر معها سيرتك مع أختك، واستقبل حياتك مباركا موفورا. وترحم علي كلما أصابك خير، واستغفر لي كلما امتحنتك الأيام بما تكره فإني لم آلك نصحا. ثم مسح رأسه وقبل بين عينيه وقال: انصرف راشدا، فسنصلي ونقيم الذكر، وسنذكركم في صلاتنا ودعائنا، وسنستنزل رحمة الله على عبد الرحمن.
وأتمت المدينة شهر الصوم كما بدأته سعيدة راضية، واستقبلت عيد الفطر هانئة ناعمة، ولكنها ارتجت وارتج معها الإقليم كله في اليوم الثالث من أيام العيد؛ فقد صلى الشيخ بأصحابه المغرب، حتى إذا أتم الركعة الثالثة وجلس للتشهد لم يرع الناس إلا أن رأوه يكب على وجهه قبل السلام، فيسرعون إليه فإذا هو قد صار إلى رضوان الله. ومنذ ذلك الوقت لم يشك أحد من أهل المدينة ولا من أهل الإقليم في أن الله قد آثر الشيخ بهذه الكرامة، فنقله إلى جواره أثناء الصلاة، وأقره في جنته بين الصديقين والشهداء.
الفصل الثالث عشر
صلى إبراهيم بأصحابه العشاء وسمع معهم القرآن وأقام لهم حلقة الذكر. فلما هم الناس أن يتفرقوا استبقى أصفياء أبيه، حتى إذا خلا لهم المجلس قال لهم في صوته الهادئ: تعلمون أن الشيخ رحمه الله كان قد أزمع الحج من عامه هذا، وكان عليه حريصا يريد أن يتم الحجة السابعة، ولكن الله آثره برحمته قبل أن يبلغه هذه الأمنية. وقد استخرت الله ورأيت أن أتم له ما لم يتح له، فأنا مستعد للحج إذا كان الغد، وواهب ثواب هذه الحجة إن أثابني الله عليها للشيخ. فمن أراد منكم أن يحج معنا فليتجهز من غده، ومن كان ذا عيلة فإن علينا نفقته؛ فقد ترك الشيخ لنا خيرا كثيرا. ثم أطرق إطراقة ورفع رأسه وقال: وتحدثوا بذلك إلى من شئتم من أصحابكم والذين يلونكم؛ فإني لا أكره أن يكثر الحج على اسم الشيخ، وأن أعين على أداء هذه الفريضة من عجز عن أدائها. فماذا ترون؟ قالوا كلهم: إنما رأيت رشدا، وقد خار الله لك فيما ألهمك، وكلنا متجهز للحج من غده، وكلنا واهب ثوابه للشيخ إن أثابه الله.
وكان أسرعهم إلى الجواب مسعودا؛ فقد حج مع الشيخ ست مرات، وكان مزمعا أن يحج معه السابعة، فلما توفي الشيخ فترت همته عن النفير. وها هو ذا يسمع ابن الشيخ يستأنف حديث الحج، فلا تسل عما ملأ قلبه من رضا وما شاع في نفسه من حبور. ولكن الدموع كانت تترجم دائما عن سروره وحبوره، كما كانت تترجم دائما عن خشيته لله وخوفه منه، وكما كانت تترجم دائما عن تأثر قلبه حين كان يسمع صوتا حسنا يتلو القرآن أو يغني في الحلقة بشعر ابن الفارض. فأما خطوب الدهر وأحداث الدنيا وهذه المصائب التي تلم بالناس فتفزعهم وتروعهم فقد كان يلقاها بقلب جلد ونفس ثابتة وعين شديدة البخل بالدمع. ولم يكن يبكي لأمر من أمور الدنيا إلا أن يرزأ في ولد أو صديق، فتزرف عيناه دموعا غزارا وقتا قصيرا، كأنهما السحابة، لا تكاد تجود ببعض مائها حتى تقلع، وإذا هو يتوب إلى الله ويستغفره، ويلوم نفسه لأنها بكت على أمر من أمور الدنيا، وليس في أمور الدنيا ما يستحق البكاء. على أن عبرته لم تكد ترقأ منذ توفي الشيخ؛ وأكبر الظن أنه لم يكن يرى في وفاة الشيخ خطبا من خطوب الدنيا، وإنما كان يرى فيه خطبا عظيما من خطوب الدين؛ فقد كان الشيخ رحمه الله مثلا رائعا للتقوى والورع، وداعيا صادقا إلى الله ورسوله، لا يكاد يدعو حتى تهرع إليه القلوب وتذعن له النفوس، ولا ينصرف المستمعون له إلا وقد زاد مؤمنهم إيمانا، وأقلع جاحدهم عن جحوده، وهم مقصرهم في ذات الدين أن يستدرك ما فات إن استطاع، وأن يستأنف حياة فيها رشاد وخير.
وكان الحاج مسعود مشفقا أشد الإشفاق أن يقصر إبراهيم عن غاية أبيه؛ فقد كان يرى منه في حياة الشيخ فتورا ونفورا وإقلالا من التردد على مجالس الشيخ وحلقات الذكر. وكان يحدث نفسه في كثير من التردد والخوف بأن إبراهيم قد أطال المقام في القاهرة، والاختلاف إلى الأزهر، والاتصال بشيوخه. ولم يكن مسعود ينفر من شيء نفوره من الأزهر وشيوخه؛ فقد سمع منهم وتحدث إليهم، ورأى فيهم ميلا إلى التأويل وإقبالا على التكلف، وربما رأى من بعضهم ازورارا عن الشيخ؛ فكان هذا كله يسيء ظنه في الأزهر والأزهريين، ويملأ نفسه إشفاقا على إبراهيم من لزومه لحلقات الدرس واستماعه لهؤلاء الشيوخ الأعلام. وقد اجترأ مرة على الشيخ فقال له في لهجته القروية التي لم تكن تخلو من عنف حلو: ألا تنبئني فيم ترسل ابنك إلى القاهرة ليطلب العلم في الأزهر وعلماء الأزهر يتكلفون الرحلة إليك ليأخذوا قليلا من علمك، ومنهم هؤلاء الثلاثة الذين يلزمونك منذ أعوام لا يفارقونك، والذين تشتد عليهم في تأديبك لهم، وتأخذهم بالعنف أكثر مما تأخذهم بالرفق وهم راضون بذلك متهالكون عليه؟! فهلا أمسكت ابنك وعلمته مما علمك الله وأدبته كما تؤدب هؤلاء النفر، وأعددته لخلافتك في أصحابك كما أعدك شيحنا لخلافته فينا؛ وهنا تحطم صوته وانهلت دموعه. فرحمه الشيخ وقال ضاحكا: ما أنت وذاك يا مسعود؟ أتراني كنت ابنا للشيخ؟ قال مسعود: لا. قال الشيخ: أترى أن قد كان لشيخنا أبناء؟ قال مسعود: نعم. قال الشيخ : ومع ذلك فقد صرف خلافته عن أبنائه وآثرني بها، فما يدريك أن ابني سيكون خليقتي فيكم؟ وهؤلاء الثلاثة الذين تتحدث عنهم لقد وعوا علم الأزهر كله، ثم جاءوا يطلبون ما عندي من العلم، فدع إبراهيم يحفظ من علم الأزهر مثل ما حفظوا، ولك علي أن أكون بتعليمه هنا حفيا، وأن أعنف به في التأديب كما أعنف بهؤلاء النفر إن رأيت فيه صلاحا لذلك الأمر وقدرة على النهوض به. فلما رأى مسعود أن إبراهيم لم يكد يتم الأسبوع الأول بعد وفاة أبيه حتى فكر في الحج ودعا إليه، ولم يفكر في الحج لنفسه، وإنما يفكر في الحج لأبيه، رضيت نفسه واطمأن قلبه وسالت دموعه على لحيته غزارا. وابتسم الشيخ الشاب له كما كان يبتسم له أبوه من قبل، وقال: كفكف دمعك يا مسعود، ألا يمكن أن تنفق ساعة لا تذرف فيها دمعا، ثم التفت إلى رجل من أصفيائه كان في آخر المجلس لم يظهر نشاطا شديدا للحج، وإنما أجاب كما أجاب الناس، ولم يكن هذا الرجل إلا عليا، التفت إليه إبراهيم وقال: أما أنت يا علي فمتخلف عنا. قال علي: وكيف ذاك؟ أتأمرني بالتخلف؟ قال الشيخ الشاب: لا آمرك به، ولكن أنبئك بما سيكون من أمرك، ستهم كما يهم غيرك حتى نرى أنك مسافر معنا، ثم نفتقدك فلا نراك، ثم تعتذر إلينا إذا انقلبنا؛ لأنك قد شغلت بمالك وأهلك. فإن استطعت أن تعتذر منذ الآن فافعل، ولا تكلف نفسك مشقة لا تغني، ثم تضاحك وقال: إنك حديث عهد بزواج. وكاد علي يغضب ولكن كيف يكون الغضب على الشيخ، إنما يغضب الشيوخ على مريديهم. وقد كظم علي شيئا في نفسه وانصرف مترددا لا يدري أيقدم على الحج أم يحجم عنه.
ولم يكن الشيخ مخطئا فيما قدر من أمر علي، فقد كان حديث عهد بالزواج، يتزوج للمرة الثامنة بعد أن طلق من نسائه من طلق. وكانت عرسه في هذه المرة فتاة لم تبلغ العشرين، وكان بها مفتونا وبحبها متيما. فكأن الذي أغراه بهذا الزواج هو شيخه رحمه الله حين عبث به ذات ليلة، وقال لمسعود: إنه سيخطب إليك إحدى بناتك، فلا تزوجه إن فعل، وعليك بابنه خالد، فإن فيه بركة وخيرا؛ هنالك ضحك علي ضحكا سخيفا وانصرف وفي نفسه شيء، ولكنه لم ينقطع عن التفكير في أن يتخذ لنفسه زوجا شابة. ألم يكن قد طلق زينب، ولم يمسك في داره إلا خديجة ومحبوبة، وذكرى أم خالد؛ فله الحق في زوج رابعة. وقد بحث عن زوج رابعة، فما أسرع ما اهتدى إليها عند بعض عملائه من تجار المدينة، وكان رجلا متواضعا ضئيل التجارة. فلما سعى إليه علي ذو المكانة والجاه خاطبا ابنته «هناء»، رأى في ذلك شيئا من الشرف وارتفاع القدر، فقبل خطبته راضيا، وزوجه مغتبطا، ولم يفكر في أنه يهدي هذه الفتاة التي لم تبلغ العشرين إلى شيخ قد ناهز الستين.
Page inconnue
على أن «هناء» لم تلبث أن استأثرت بعقل الشيخ وقلبه، وتحكمت فيه تحكما لم يعرفه قط من إحدى نسائه، وكادت تصرفه عما فرض على نفسه من العدل بين أزواجه لولا أنه أخذ نفسه بالعنف واشترى رضا «هناء» عن هذا العدل بكثير من الهدايا والمنح، فأحفظ ذلك زوجيه الأخريين، وجعل منزله جحيما، ولكنه احتمل هذا الجحيم، وكان خليقا أن يحتمل أضعافه في سبيل «هناء».
ويجب أن نعترف بأن «هناء» على سحرها وطغيانها لم تستطع أن تغير من سيرة علي مع ذكرى أم خالد قليلا ولا كثيرا. ولولا ما كان من موت عبد الرحمن وسفر علي إلى القاهرة مع ابنه خالد، ثم ما كان من موت الشيخ فجأة لتحدث علي إلى الشيخ بهذا الزواج، أو لتندر الشيخ على علي في شأن هذا الزواج. وهذا الشيخ الشاب يعبث بعلي على هذا النحو، فيثير في نفسه شيئا يريد أن يكون غضبا، ولكنه يستحي أن يسمي نفسه بهذا الاسم، فلنسمه نحن فتورا. وكان فتورا ثقيلا حقا؛ فقد أصبح علي وقد صمم على ألا يتجهز للحج، فهو مشغول بأهله حقا. ألم يتزوج منذ أسابيع؛ فما تركه لامرأته أشهرا ! وإلام يصير الأمر بين أزواجه إذا تركهن؟ وهو مشغول بماله، فتجارته متأخرة كما رأيت. وقد صدق الشيخ حين قال له: لا تنتظر أن يترك لك عبد الرحمن مالا. فلم يترك عبد الرحمن مالا، وإنما ترك أربع نسمات قد نقلن إلى المدينة ليعشن في كنف علي وابنه خالد. وسيحتجن إلى نفقة من غير شك، وستزداد أعباؤه ثقلا، فلا بد من أن يعمل، ويعنى بتجارته لينهض بهذه الأعباء. وليس من شك في أن خالدا يعينه على بعض أمره منذ أصبح موظفا. ولكن أين تقع معونة خالد من هذه البطون التي لا تمتلئ والأفواه التي لا تشبع، ومن هذه الدار التي كان يشبهها علي بجرة لا قعر لها، فلا سبيل إلى أن تمتلئ؛ وأمسى علي من يومه ذاك، فصلى مع الشيخ، وشهد معه حلقة الذكر.
فلما تفرق الناس أقبل على الشيخ مستخذيا وهو يقول: لقد أنبأتني بالحق أمس يا سيدنا. قال الشيخ: ألم أقل لك إنك لن تستطيع أن تنفر معنا؟! فأصلح من أمرك وانصح لأهلك ومالك، وأقم على طاعة الله وابتغاء مرضاته، وفكر في أنك لم تؤد فريضة الحج بعد، وفي أن من الحق عليك أن تؤديها. وإني لأرجو إن أتاح لي الله حياة أن أحج لنفسي من قابل، فاجتهد في أن تصحبني في هذه الحجة. وخرج علي راضيا كل الرضا؛ فقد قبل الشيخ عذره من غير مشقة، وفتح له بابا واسعا من أبواب الأمل؛ فليصلحن من أمره، وليحسنن تدبير ماله، وليحجن مع الشيخ في العام المقبل، بينه وبين ذلك عام كامل تهدأ فيه ثورة الحب هذه التي كادت تفسد قلبه، وكادت تجعله عبدا لهذه الفتاة التي تسمى «هناء». إنها لهناء كاسمها، إن وجهها لجميل مشرق، وإن لها لقواما معتدلا. وإنها لتحسن العناية به والحنو عليه، وإنها لتلقاه بابتسام حلو شاب لم يعهده عند غيرها من النساء، وإن صوتها ليقع من قلبه موقعا عذبا كأنه قطرات الندى. ويروح على «هناء»، فإذا دخل وجدها ساهرة تنتظره، ولكنه لا يلتفت إليها ولا يلقي إليها حديثا، وإنما يستقبل القبلة فيركع ركعتيه، ويتمتم بدعائه القصير، ويأوي إلى فراشه وهو يتلو آية الكرسي، ثم يبتسم لزوجه ويقول: لقد كدنا يا هناء أن نفترق أشهرا، ولكن الشيخ أذن لي في أن أؤجل الحج عاما.
الفصل الرابع عشر
وعاد علي وخالد بنفيسة وابنتيها من القاهرة بعد أن نظما ما كان قد ترك عبد الرحمن من اضطراب قليل، وأديا من ماله ما أعجله الموت عن أدائه من الدين. ونظرا فإذا هاتان المرأتان لم ترثا عن عبد الرحمن إلا داره الفخمة هذه، ودنانير يمكن أن تحصى في غير مشقة ولا جهد، وقد تحدث علي في أن يبيع هذه الدار، فبكت نفيسة ولم تقل شيئا، وقالت أمها: لو عاش عبد الرحمن ما بيعت الدار، فأعرض علي عن هذا الرأي. وتحدث من الغد عن تأجير الدار، فبكت نفيسة، وقالت أمها: وترضى أن يسكن هذه الدار غير عبد الرحمن؟! وأين تنزل وينزل خالد حين تأتيان إلى القاهرة؟! وأين ننزل نحن إن أتيحت لنا العودة إلى القاهرة؟! ثم التفتت إلى خالد وقالت: فستأذن لنا بأن نأتي إلى القاهرة لنزور قبر عبد الرحمن؟ قال علي: سنأتي إلى القاهرة جميعا لنزور قبر عبد الرحمن. ثم أعرض عن تأجير الدار. وتهيأ القوم للسفر، وأغلقت الدار. وجعلت أم نفيسة والعربة تمضي بها تلتفت وتطيل النظر إلى دارها لا تقول شيئا، حتى إذا انعطفت بها العربة في بعض الطريق، ولم تبق سبيل إلى رؤية الدار، اعتدلت المرأة في مجلسها، وقالت لخالد: فأين مفتاح الدار؟ فإني أحب ألا يفارقني. هنالك دفع إليها خالد مفتاحها وإن شفتيه لتبتسمان وإن قلبه ليتقطع حزنا.
وقد أقر علي هاتين المرأتين وهاتين الصبيتين في جناح من داره منعزل يوشك أن يكون دارا مستقلة، وكان حريصا أن يقرهن في هذه الناحية ليعشن بمعزل عن هذه الضوضاء التي تمتلئ بها داره، والتي تأتي من نسائه المختصمات دائما، ومن بنيه وبناته الذين لم يكونوا يعرفون السكون، وقال خالد لأبيه وهما يتحدثان في ذلك: إنه لرأي صائب، سيكن مستقلات أو كالمستقلات، ولن ترى نفيسة السلم فليس في هذا الجناح سلم، ولن تلقى جنية البيت هذه المجرمة التي تسكن حنايا السلم وتسعى بالفساد بين الأزواج. قال ذلك وهو يضحك ضحكا حزينا. قال علي: وستقيم معهن. قال خالد: أما هذه فلا؛ فإن نفيسة لا تصلح لي زوجا ولا تقدر على عشرتي. ألم تر إليها تحتجب من دوني؟! إنها لا تكاد تعلم بمقدمي حتى تلقي على رأسها ووجهها ما يسترهما، وإنها لا تتحدث إلي إلا همسا ومن طرف لسانها، وإني لأوجه القول إليها فلا تملك أن تجيبني، وما أكثر ما تجيبني عنها أمها وابنتاها، وسأزورهن بين حين وحين، وسأنهض بما لهن علي من حق حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكذلك أقام هؤلاء النسوة في طرف من أطراف الدار، لا يكدن يسعين إلى أهلها، ولا يكاد أحد من أهلها يسعى إليهن، وكانت لأم خالد أمة سوداء قد أعتقها القانون، ولكنها ظلت وفية لمولاتها، فلما ماتت وفت لسيدها خالد ووفى لها خالد، فكانت تقوم على العناية به والإصلاح من أمره، ولم يكن خالد يألف من هذه الدار الواسعة وبين هذه الأسرة الضخمة إلا شخصين اثنين هما: أبوه - ولم يكن يلقاه إلا قليلا - ومولاته نسيم، وكانت تتلقاه مصبحة بما يحتاج إليه، وتتلقاه ممسية بما يحتاج إليه، وتعكف على نفسها بين ذلك في الدار لا تحفل بأحد ولا يحفل بها أحد. فلما حمل هؤلاء النسوة من القاهرة وأقررن في طرف من أطراف الدار، قال خالد لنسيم: إن كنت تحبينني، وإن كانت في نفسك بقية من الحب لمولاتك، فقومي على العناية بهؤلاء النسوة وامنحيهن من حبك وبرك مثل ما تمنحينني، ولا تشغلي نفسك بي فإني أحسن تدبير أمري. قالت نسيم وهي تضحك: تحسن تدبيرك أمرك - وكانت تنطق الحاء هاء - وأنت لا تحسن أن تجد ثيابك ولا أن تلبسها إلا أن تهيئها لك نسيم؛ تحسن تدبير أمرك! ومن يقدم إليك القهوة؟! ومن يقدم إليك غداءك وعشاءك؟! ثم ضحكت له بوجه كأنه وجه القرد، ولكنه على ذلك كان جميلا في عين خالد، يجمله ما كان يغمره من حب وحنان. ضحكت له وقالت: سأخدمهن كما أخدمك، فإني كنت أقضي يومي وليلي فارغة لا أعمل شيئا، فقد أصبح لي عمل منذ الآن.
ولم تكد نفيسة تراها حتى اطمأنت إليها، ووثقت بها الصبيتان وأحبتهما هي أشد الحب، فما أكثر ما تمنت أن يكون لها ولد تعنى به، فقد أرسل الله إليها ابنتين تعنى بهما.
ثم يعود الشيخ من حجه بعد أشهر، ويهرع أهل المدينة وأهل الإقليم إلى لقائه مقبلا، وإلى زيارته وتحيته بعد أن استقرت به الدار. ويسعى علي إليه فيمن يسعى، فيلقاه الشيخ أحسن لقاء، ويدفع إليه سبحة ضخمة الحبات وهو يقول له: لقد ذكرتك في مكة واستغفرت لك، وسألت الله لك عفوا وعافية في المسجد الشريف، وأنا أهدي إليك هذه السبحة على شرط ألا تفارقك عن إرادة منك، وعلى شرط أن تدير ذكر الله عليها مرة في كل يوم وتهب ثواب هذا الذكر لوالدي رحمه الله. فيكب علي على يد الشيخ لثما وتقبيلا، ويأخذ السبحة فيقبلها مرة ومرة، وأصحاب الشيخ ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض همسا: لو قال الشيخ هذه المقالة للحاج مسعود لأجهش بالبكاء، ولكن انظروا إلى علي ما أقسى قلبه! إن وجهه ليبسم كأن الشيخ يداعبه.
ويقبل خالد لزيارة الشيخ فيمن أقبل، فيلقاه الشيخ لقاء حسنا ويمنحه يده ليقبلها، ثم يقول له: إذا فرغنا من هذه الزيارات فالقني فإن لي معك حديثا. ويسعى خالد إلى الشيخ بعد أيام، فإذا رآه الشيخ أدناه واستبقاه، حتى إذا خلا إليه قال له: ألم أعلم أن أبي كان قد خطب لك بنت الحاج مسعود؟ قال خالد: بلى. قال الشيخ: فأين أنت من هذه الخطبة؟ قال خالد في شيء من استحياء: فإن الحول لم يحل على موت عبد الرحمن. قال الشيخ: وصلتك رحم يا بني وبارك الله عليك! ولكن لنقرأ الفاتحة فأما الزواج وزفاف أهلك إليك فاضرب لهما ما شئت من موعد، و«منى» ما زالت بعد صبية. ثم صفق بيديه، فلما أقبل الخادم قال له الشيخ: ادع لي الحاج مسعودا. وأقبل الحاج مسعود، فاستدناه الشيخ حتى أجلسه على يمينه على كره منه، فقد كان الحاج مسعود يحرص دائما على أن يقوم بين يدي شيخه الكبير ثم بين يدي شيخه الصغير، لا يجلس إلا مأمورا، فلما استدناه الشيخ وأجلسه عن يمينه استعظم ذلك وأخذت دموعه تسيل. قال الشيخ: أما ترحمنا من دموعك هذه آخر الدهر! كفكفها ولو ساعة، ابسط يدك فقد أنى لنا أن ننفذ وصية الشيخ. ثم بسط الحاج مسعود يده وبسط الشيخ يده فتصافحا، وقرأ الفاتحة الثلاثة وإن الحاج مسعودا لينتحب بقراءته انتحابا.
Page inconnue