قالت السيدة «دي مونتجلا» للكونت دي فيسك: «نعم.»
وهنا ثقلت عيناه، واحتبس صوته، واهتز هزة شديدة، ثم سقط رأسه على صدره، وساد من حوله سكون عميق، فاستغربت روكسان سكوته، والتفتت وراءها فرأته على هذه الحالة، ولم تكن قد نظرت إليه قبل هذه اللحظة، فارتاعت وهرعت إليه، ووضعت يدها على عاتقه ونادته: سيرانو! فانتفض ورفع رأسه، وظل يدير يديه حول قبعته ويضغطها ضغطا شديدا، ويقول: لا شيء، لا شيء، أؤكد لك يا سيدتي أن الأمر بسيط جدا. قالت: قل لي ما بك يا سيرانو؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ قال: لا شيء، إنه الجرح القديم الذي أصبت به في معركة «أراس» لا يزال يعاودني من حين إلى حين، حتى الآن، فتنهدت، وأرسلت بصرها إلى السماء، ثم قالت: كل منا له جرح قديم يا سيرانو، غير أن جرحك في جسمك، وجرحي هنا دائما لا يندمل أبدا، وأشارت إلى قلبها، ثم قالت: هنا كتاب الوداع الأخير الذي كتبه إلي قبل موته، قد تشعث وتقبض واصفر ورقه، ولا تزال آثار القطرتين: قطرة الدمع، وقطرة الدم ظاهرة فيه!
فارتعد سيرانو وقال: كتابه الأخير؟ وشخص ببصره إلى السماء كأنما يتذكر شيئا بعيدا، ثم قال: ألا تذكرين يا روكسان أنك كنت وعدتني مرة باطلاعي على هذا الكتاب؟ قالت: نعم، أذكر ذلك. قال: هل لك أن تفي بوعدك الآن؟ قالت: ها هو ذا، ومدت يدها إلى صدرها فأخرجت الكتاب من كيس صغير حريري معلق في عنقها، وأعطته إياه، ثم عادت إلى مقعدها.
وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله على أكناف الدير، فأخذت روكسان ترتب خيوطها وإبرها لتضعها في علبتها، وأخذ سيرانو يقرأ الكتاب بصوت عال رنان، كأنما هو يخطب أو يهتف أو يناجي، ويقول: «الوداع يا روكسان، فإني سأموت عما قليل، وربما كانت هذه الليلة آخر ليالي في الحياة!
وكنت أرجو أن أعيش بجانبك لأتولى حراسة سعادتك التي عاهدت نفسي على أن أكفلها لك ما حييت، فحالت المقادير بيني وبين ذلك، فليت شعري ماذا يكون حالك من بعدي؟
إنني لا أخاف الموت من أجلي، بل من أجلك، ويخيل إلي أنك ستقضين من بعد موتي أياما شديدة عليك، وعلى نفسك الرقيقة الحساسة، وهذا كل جزعي من الموت، فوا رحمتاه لك أيتها الصديقة المسكينة!»
وكانت روكسان تصغي إلى قراءته ذاهلة مدهوشة، وتقول بينها وبين نفسها: ما أغرب صوته وما أعظم تأثيره! إنه يقرأ وكأنه يحدثني ويناجيني، ويخيل إلي أن وراء هذه النغمة الغريبة التي ينطق بها سرا كامنا في أعماق نفسه!
واستمر هو في قراءته يقول: «ستغتمض عيناي بعد قليل، وستنطفئ تلك النظرات التي كانت مرآتك الصقيلة التي تتراءى فيها صورتك البديعة الساحرة، وترتسم فيها دقائق حسنك وأسرار جمالك، فمن لك بمرآة ترين فيها نفسك بعد أن تمتلئ عيناي بتراب القبر! إن بين جنبي كنزا ثمينا من حبك لم أستطع أن أكشف لك إلا عن مقدار قليل من جواهره ولآلئه، وكنت أود أن أفرغه جميعه بين يديك قبل موتي، ولكن ماذا أصنع وقد أعجلني الموت عنه ولا حيلة لي في قضاء الله وقدره! الوداع يا روكسان، الوداع يا حبيبتي، الوداع يا أعز الناس علي، وآثرهم في نفسي! إن قلبي لم يفارقك لحظة واحدة في حياتي، وسيبقى ملازما لك بعد مماتي، فليكن عزائي عنك أن روحي سترفرف عليك، وتحوم حولك في كل مكان تكونين فيه، فكأننا لم نفترق، وكأن حجاب الموت المسبل دوننا وهم من الأوهام، وباطل من الأباطيل!»
وكان قد ذهل عن الكتاب الذي في يده وعن كل ما يحيط به من الأشياء، ولم يبق في خياله سوى أنه يناجي المرأة التي يحبها، ويفضي إليها بأسرار نفسه، ويودعها الوداع الأخير، فأغمض عينيه واستغرق في شعوره ووجدانه، واستحال صوته إلى صوت غريب لا يشبه الأصوات في رنته ونغمته؛ لأنه صوت الروح وهتافها ونفثاتها المتصاعدة إلى آفاق السماء، فظلت روكسان تضطرب وترتعد، وتقول بينها وبين نفسها: إنها نغمة غريبة جدا، تذكرني بنغمة مثلها سمعتها في ساعة من ساعات حياتي الماضية، فليت شعري متى كان ذلك؟
وكان الظلام قد نشر ملاءته السوداء على أكتاف الدير، فالتفتت إليه وحدقت النظر فيه، فلمحت بياض الكتاب في يده، فعجبت له كيف يستطيع القراءة في هذا الظلام الحالك، فنهضت من مكانها، ومشت نحوه تختلس خطواتها اختلاسا حتى بلغته، فوقفت بجانبه، فرأت عينيه مغمضتين، ورأته لا يزال مستمرا في قراءته، فاشتد ذعرها وخوفها، ووضعت يدها على كتفه، وقالت له: كيف تستطيع القراءة والظلام حالك وعيناك مغمضتان؟ فانتفض انتفاضة شديدة، فسقط الكتاب من يده، وسقط رأسه على صدره!
Page inconnue