إهداء الرواية
أشخاص الرواية
1 - حانة بوروجونيا
2 - المتشاعرون
3 - حرفة الأدب
4 - الميدان
5 - بعد خمسة عشر عاما
إهداء الرواية
أشخاص الرواية
1 - حانة بوروجونيا
2 - المتشاعرون
3 - حرفة الأدب
4 - الميدان
5 - بعد خمسة عشر عاما
الشاعر
الشاعر
تعريب
مصطفى لطفي المنفلوطي
إهداء الرواية
إلى الشعراء
مؤلف هذه الرواية شاعر، وبطلها شاعر، وأكثر أشخاصها شعراء، وموضوعها الشعر والأدب، وعبرتها أن النفس الشعرية هي أجمل شيء في العالم، وأبدع صورة رسمتها ريشة المصور الأعظم في لوح الكائنات، وأنها هي التي يهيم بها الهائمون، ويتوله المتولهون، حين يظنون أنهم يعشقون الصور ويستهيمون بمحاسن الوجوه.
لذلك أقدمها هدية إلى الشعراء، فهم رجالها وأبطالها وأصحاب الشأن فيها، ولا أطلب عندهم جزاء عليها أكثر من أن أراهم جميعا في حياتهم الأدبية والاجتماعية سيرانو دي بيرجراك.
أول مايو سنة 1921
مصطفى لطفي المنفلوطي
المقدمة
أطلعني حضرة الصديق الكريم الدكتور محمد عبد السلام الجندي على هذه الرواية التي عربها عن اللغة الفرنسية تعريبا حرفيا، حافظ فيه على الأصل محافظة دقيقة، وطلب إلي أن أهذب عبارتها ليقدمها إلى فرقة تمثيلية تقوم بتمثيلها ففعلت، واستطعت في أثناء ذلك أن أقرأ الرواية قراءة دقيقة، وأن أستشف أغراضها ومغازيها التي أراد المؤلف أن يضمنها إياها، فأعجبني منها الشيء الكثير، وأفضل ما أعجبني منها أنها صورت التضحية تصويرا بديعا، وهي الفضيلة التي أعتقد أنها مصدر جميع الفضائل الإنسانية ونقطة دائرتها، فرأيت أن أحولها من القالب التمثيلي إلى القالب القصصي؛ ليستطيع القارئ أن يراها على صفحات القرطاس كما يستطيع المشاهد أن يراها على مسرح التمثيل.
وقد حافظت على روح الأصل بتمامه، وقيدت نفسي به تقييدا شديدا، فلم أتجوز إلا في حذف بعض جمل لا أهمية لها، وزيادة بعض عبارات اضطرتني إليها ضرورة النقل والتحويل، واتساق الأغراض والمقاصد، بدون إخلال بالأصل أو خروج عن دائرته، فمن قرأ التعريب قرأ الأصل الفرنسي بعينه، إلا ما كان من الفرق بين بلاغة القلمين ومقدرة الكاتبين، وما لا بد من عروضه على كل منقول من لغة إلى أخرى، وخاصة إذا قيد المعرب نفسه، وحبس قلمه عن التصرف والافتنان.
مصطفى لطفي المنفلوطي
أشخاص الرواية
سيرانو دي بيرجراك
شاعر فرنسي من شعراء القرن السابع عشر، نشأ غريبا في أطواره وأخلاقه، منفردا بصفات قل أن تجتمع لأحد من معاصريه؛ فكان جامعا بين الشجاعة إلى درجة التهور، والخجل إلى درجة الضعف؛ وبين القسوة إلى معاقبة أعدائه على أصغر الهفوات، والرقة إلى البكاء على بؤس البائسين من أصدقائه وأبناء حرفته، وكان كريما متلافا، لا يبقي على شيء مما في يده، وعفيفا لا يمد يده إلى مخلوق كائنا من كان، وصريحا لا يتردد لحظة واحدة في مجابهة صاحب العيب بعيبه كيفما كان شأنه، وكيفما كانت النتيجة المترتبة على ذلك، فكان عدو الكاذبين والمرائين، والمغرورين، والسفلة والمتملقين، أي إنه كان عدوا للهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها تقريبا، كما كانت عدوة له كذلك، لا تهدأ عن مشاكسته ومناوأته وابتغاء الغوائل به.
ولم يكن له من الأصدقاء إلا أفراد قلائل جدا، هم الذين يفهمون حقيقة نفسه وجوهرها، ويقدرونه قدره وقدر صفاته الكريمة التي كان يتصف بها.
وكان الخلق الغالب عليه من بين جميع أخلاقه خلق العزة والأنفة، فكان شديد الاحتفاظ بكرامته، والضن بعرضه أن ينال منهما نائل، أو يعبث بهما عابث، وكان لا يرى في أكثر أوقاته إلا مبارزا أو مناضلا، أو ثائرا أو مهتاجا، أو واضعا يده على مقبض سيفه، أو ملقيا قفازه على وجه خصمه، شأن الفوارس الأبطال في ذلك العصر.
وكانت بليته العظمى في حياته، ومنبع شقائه وبلائه أنه كان دميم الوجه، كبير الأنف جدا إلى درجة تلفت النظر وتستثير الدهشة، وكان يعلم ذلك من نفسه حق العلم، ويتألم بسببه تألما كثيرا؛ لأنه كان عاشقا لابنة عمه «روكسان» الشهيرة بجمالها النادر، وذكائها الخارق، وكان يعتقد أن المرأة مهما سمت أخلاقها وجلت صفاتها لا يمكن أن تقع في أحبولة غرامية غير أحبولة الجمال، ولا تعنى بحسن غير حسن الوجوه والصور، فكان - وهو أشجع الناس وأجرؤهم وأعظمهم مخاطرة وإقداما - لا يجسر أن يفاتح حبيبته هذه في شأن حبه، حياء من نفسه وخجلا.
فكان أنفه سبب شقائه من جهتين؛ أنه وقف عقبة بينه وبين غرامه، وأنه كان المنفذ العظيم الذي ينحدر منه أعداؤه وخصومه إلى السخرية به والتهكم عليه، وهو لا يطيق ذلك ولا يحتمله، فكان النزاع بينه وبينهم دائبا لا ينقطع، وكان لا ينتهي غالبا إلا بمبارزة يخرج منها في الغالب فائزا منتصرا، ولكن كان كثير الخصوم والأعداء.
وكان جنديا في فصيلة شبان الحرس من الجيش الفرنسي، وكان أفراد تلك الفصيلة جميعهم من الجاسكونيين مثله، وهم قوم معروفون بخشونة الأخلاق ووعورتها، وبكثرة التبجح والادعاء والغرور والكذب، ولهم مع ذلك فضيلة الشجاعة والصبر، والقناعة والشرف وعزة النفس، وكان سيرانو متصفا بحسناتهم، مترفعا عن سيئاتهم، فكان له في نفوسهم أسمى منزلة من الإجلال والإعظام، وكانوا يحبونه حبا شديدا ويذعنون لرأيه، ويستطرفون أحاديثه ودعاباته، ويفاخرون به وبنبوغه وشجاعته، وجراءته وصراحته، كما كان يفخر بهم وبعصبيتهم، وكان من أسوأ الشعراء حظا في حياته، فقد قضى عمره كله خاملا مغمورا؛ يجهل الدهماء قدره لأنهم لا يفهمونه، وينكر الأدباء فضله لأنهم يبغضونه ويجدون عليه وينقمون منه خشونته وشدته في مؤاخذتهم ونقدهم، فلم يكن يحفل بذلك كثيرا؛ لأنه كان مخلصا لا يهمه إلا أن يكون عظيما في عين نفسه ثم لا يبالي بعد ذلك بما يكون.
وكثيرا ما كان ينظم الرواية الجليلة ذات المغزى العظيم والأسلوب الرائق، فلا يفكر في إهدائها إلى أحد من العظماء - ليتوسل بذلك إلى نشرها وترويجها، وحمل الفرق التمثيلية على تمثيلها - كما كان يفعل الشعراء في عصره، أنفة وإباء، وضنا بنفسه أن يقف موقف الذل والضراعة على أي باب من الأبواب كيفما كان شأنه، وربما سرق بعض الروائيين قطعا من رواياته فضمنوها رواياتهم وانتفعوا بها، فلا يغضبه ذلك ولا يزعجه، وكل ما كان يفكر فيه أو يسأل عنه في هذا الموقف: ماذا كان وقع تلك القطعة في نفوس الجماهير حينما سمعوها؟
ولقد أخلص في حبه لابنة عمه «روكسان» إخلاصا لم يسمع بمثله في تاريخ الحب، فأحبها وهي لا تعلم بحبه، وتألم في سبيل ذلك الحب ألما شديدا، وهي لا تشعر بألمه، وأحبت غيره فلم يحقد ولم ينتقم، بل كان أكبر عون لها في غرامها الذي اختارته لنفسها، ولم يلبث أن اتخذ حبيبها الذي آثرته صديقا له، وأخلص في مودته إخلاصا عظيما، وأعانه على استمرار صلته بها، وبقاء حبه في قلبها؛ لأنه ما كان يهمه شيء في العالم سوى أن يراها سعيدة في حياتها، مغتبطة بعيشها، وهذا كل حظه في الحياة.
ولم يزل هذا شأنه طول حياته، حتى خرج من دنياه، ولم تعلم روكسان بسريرة نفسه إلا في الساعة الأخيرة التي لا يغني عندها العلم شيئا.
روكسان
ابنة عم سيرانو دي بيرجراك، وهي فتاة شريفة متعلمة، وافرة الفضل والذكاء، عالية الهمة، عفيفة الذيل، مولعة بالشعر والأدب؛ إلا أنها كانت تذهب في ذوقها الأدبي مذهب النساء المتحذلقات في ذلك العصر، أي إنها كانت كثيرة التكلف في أحاديثها وإشاراتها، وكان لا يعجبها من الكلام إلا ذلك النوع الذي يسمونه بالصناعة اللفظية، ولا من المعاني إلا تلك الخيالات الطائرة الهائمة على وجهها التي لا أساس لها في الحياة، ولا وجود لها في فطرة النفس وطبيعتها.
وقد نشأت يتيمة منقطعة، لا أهل لها ولا أقرباء إلا ابن عمها سيرانو، إلا أنها كانت تعيش عيشا رغدا هنيئا بفضل الثروة الواسعة التي ورثتها عن أبويها، فأحبها كثير من النبلاء والأشراف، وعرضوا عليها الزواج فلم تحفل بهم، وأحبها «الكونت دي جيش» - وهو أحد قواد الجيش الفرنسي، وكان متزوجا بابنة أخت الكردينال دي ريشلييه - فأراد أن يستخدم نفوذه وجاهه في حملها على الزواج من فتى من أشياعه اسمه الفيكونت فالفير، على الطريقة المعروفة في ذلك العهد عند الملوك والنبلاء، فدفعته عنها برفق وحكمة، خوفا على نفسها منه، وظلت تماطله زمنا طويلا، حتى أحبها البارون كرستيان دي نوفييت، فأحبته وأخلصت له إخلاصا عظيما، ولم يكن في الحقيقة متصفا بصفات الفطنة والذكاء والنبوغ التي كانت تظنها مجتمعة فيه، لولا الحيلة الغريبة التي احتالها عليها سيرانو حتى أوهمها ذلك، وهنا نكتة الرواية وبيت قصيدها، ثم تزوجت منه بعد ذلك زواجا سريا، ولكنها لم تكد تضع شفتها على الكأس حتى انتزعت منها، وكان هذا آخر عهدها بسعادة الحياة وهنائها.
كرستيان دي نوفييت
نبيل من نبلاء الريف، وفد إلى باريس ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي - كما كانت عادة الأشراف في ذلك العهد - وهي الفرقة التي كان يعمل فيها سيرانو، وكان فتى جميل الصورة، شريف النفس، طيب القلب، إلا أنه كان أقرب إلى البلادة منه إلى الذكاء؛ فوقع نظره على روكسان في حانة بوروجونيا، فأحبها وأحبته على البعد، وكان قد علم من أمرها أنها فتاة قديرة متفوقة، ذكية الفؤاد، غزيرة العلم، قوية الإرادة، لا يعجبها من الرجال إلا الأذكياء المتفوقون، فهاب الدنو منها، ومفاتحتها في شأن حبه، وخشي أن يسقط من عينها سقطة لا قيام له من بعدها، ولم يزل هذا شأنه حتى أدركه سيرانو، واحتال له تلك الحيلة الغريبة المدهشة، التي جعلت روكسان تعتقد أنها قد أحبت أذكى الناس وأسماهم عقلا، وأبعدهم غورا، وأطلقهم لسانا، وأبلغهم قلما، لا يريد بذلك إلا سعادتها وهناءها، وهو يتهالك بينه وبين نفسه غما وكمدا؛ لأنه وهو ظامئ هيمان يقدم الكأس بيده للشاربين ولا يذوق منها قطرة واحدة.
الكونت دي جيش
أحد قواد الجيش الفرنسي، وهو من أصل جاسكوني كسيرانو وروكسان، إلا أنه كان يذهب في حياته مذهبا غير مذهب أبناء جلدته الجاسكونيين، في قناعتهم وخشونتهم وبساطة عيشهم، بل كان رجلا واسع المطامع، شغوفا بالمعالي، متطلعا إلى المناصب العليا والمراتب الكبرى، وقد تم له ما أراد من ذلك بجده واجتهاده، فأصبح قائدا من قواد الجيش الفرنسي، وصهرا للكردينال دي ريشلييه.
وقد رأى روكسان في طريقه مرة فشغف بها شغفا عظيما، وأراد أن يضمها إليه من طريق تزويجها من أحد صنائعه، فاحتالت للخروج من ذلك المأزق بحيلة لطيفة جدا، وتزوجت من الرجل الذي أحبته بمعونة ابن عمها سيرانو، فعاداها الكونت من أجل ذلك، وانتقم منها ومن زوجها ومن سيرانو انتقاما هائلا.
لينيير
شاعر مسكين من أصدقاء سيرانو، نظم قصيدة طويلة هجا بها الكونت دي جيش، وعرض فيها بقصته مع روكسان، وفضح جريمته التي أراد أن يقترفها معها، فحقد عليه الكونت حقدا شديدا، ودس كمينا مؤلفا من مائة رجل ليقتلوه عند رجوعه إلى منزله ليلا، لولا أن أدركه سيرانو، وأعانه على أعدائه فنجا.
لبريه
أحد أصدقاء سيرانو المخلصين، وكان ينصحه دائما بالهدوء والسكينة، وينعى عليه شدته وصرامته في أخلاقه وطباعه، وينصح له باتخاذ خطة في الحياة تناسب البيئة التي يعيش فيها، رحمة بنفسه، وإبقاء على راحته وسكونه، فلا يحفل بنصحه؛ لأن له رأيا في الحياة غير رأيه ومذهبا غير مذهبه، ولم يكن اختلافهما هذا في المشرب والخطة مانعا لهما من الصداقة والإخلاص، ووفاء كل منهما لصاحبه، حتى ما كانا يستطيعان الافتراق ساعة واحدة.
مونفلوري
أحد الممثلين في حانة بوروجونيا، وكان مشهورا بحسن إلقائه لرواية «كلوريز» تأليف الروائي الشهير «بارو»، وكان سيرانو يبغضه، ويستثقل حركاته التمثيلية، وينقم عليه إعجابه بنفسه على قبحه ودمامته، ويأخذ عليه كثرة ترديده نظره أثناء التمثيل في مخادع السيدات، يحاول افتتانهن واجتذاب قلوبهن، وقد رآه مرة ينظر إلى روكسان نظرة مريبة، فتعلل عليه ببعض العلل، وأمره أن ينقطع عن التمثيل شهرا كاملا، فحاول الامتناع عليه وعصيان أمره، فأنزله من المسرح بالقوة وطرده برغم دفاع الكثيرين من الأشراف والنبلاء عنه، وخاصة الكونت دي جيش.
راجنو
طباخ مشهور، يبيع في حانوته الكبير أفخر أنواع المطاعم، من شواء وفطائر وحلوى، وكان محبا للشعر والأدب والتمثيل، عطوفا على البؤساء من الشعراء والممثلين، وكان يستقبلهم في حانوته استقبالا حافلا، ويقدم لهم على حسابه ما يقترحون من طعام وشراب، وكان كل حظه منهم أن يجلس إليهم، ويسمع محاوراتهم الأدبية، ويلتقط ما يتناثر حولهم من مسودات أشعارهم وفصولهم، ويسمعهم ما ينظمه من الشعر الضعيف التافه، فيتظاهرون باستحسانه والإعجاب به، إبقاء على مودته، حتى أدركته حرفة الأدب فأفلس وأغلق حانوته، فأعانه سيرانو على شئون حياته - وكان من أكبر أنصاره والمتشيعين له - ولكن الحظ كان قد فارقه، فلم ينجح في عمل من الأعمال التي اشتغل بها، وظل البؤس ملازما له طول حياته.
ليز
زوجة راجنو، وهي امرأة فاسدة الأخلاق خبيثة النفس، كانت تهزأ بزوجها وتسخر منه، وتنعى عليه اشتغاله بالشعر والأدب واهتمامه بالشعراء والأدباء وعنايته بهم، وكانت تفضل أن تقدم هي بنفسها الحانوت كله لضابط من ضباط الجيش تعجب به، على أن يقدم زوجها راجنو لقمة واحدة منه لأديب من الأدباء، ولما رأت تضعضع حاله وانتكاث أمره، فرت مع أحد ضباط الجيش، ولم يرها بعد ذلك.
كاربون دي كاستل
قائد فصيلة شبان الحرس، وكان كل أفرادها من الجاسكونيين، وهو جاسكوني مثلهم، فكان يحبهم حبا شديدا، ويعطف عليهم، وكان يعتمد في أعماله على سيرانو، ويعده خير جنوده، والتاريخ يذكر له دفاعه العظيم بفصيلته في ميدان أراس عن الموقع الذي اختار جيش العدو مهاجمته، حتى تم النصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية.
الفصل الأول
حانة بوروجونيا
في ليلة من ليالي سنة 1640، بدأ الناس يفدون إلى حانة بوروجونيا في باريس، لمشاهدة رواية «كلوريز» - وهي إحدى روايات الشاعر المشهور «بلتازار بارو» - ولم يكن للتمثيل في ذلك العصر دور خاصة به، وإنما كانوا يمثلون في الحانات أو المطاعم الكبيرة، على مسارح خاصة يعدونها لذلك.
وكان جمهور المشاهدين في تلك الليلة - كما هو شأنهم في جميع الليالي - خليطا من العمال والجنود، واللصوص والخدم، والأشراف والعلماء والكتاب، وأعضاء المجمع العلمي الفرنسي، قد اختلط بعضهم ببعض، وجلس أخيارهم بجانب أشرارهم، فبينما العلماء يتناقشون في مباحثهم العلمية والأدباء يتحدثون في شئونهم الأدبية، إذا فريق من الخدم قد ألصقوا شمعة بالأرض، واستداروا من حولها حلقة واسعة، وأخذوا يقامرون بالمال الذي سرقوه من أسيادهم في ساعات لهوهم واستهتارهم، وآخرون من أبناء الأشراف قد تماسكوا بأيديهم، وظلوا يدورون حول أنفسهم راقصين مترنحين، وآخرون من الغوغاء يأكلون ويقصفون ويتسابون ويتلاكمون، ويجئرون بأصوات عالية متنوعة كأنهم في سوق من أسواق المزايدة، وجماعة من الجند يتلهون بالمبارزة والملاكمة، لا يبالون من يطئون بأقدامهم، أو يصيبون بشفرات سيوفهم، وفئة من الصعاليك قد اصطفوا صفا واحدا بين يدي لص من دهاة اللصوص ومناكيرهم، يعلمهم كيف يسرقون الساعات من الصدور، ويمزقون الجيوب عن الأكياس، وكيف يتغفلون صاحب المعطف عن معطفه، والقبعة عن قبعته، والعصا عن عصاه، كأنه قائد يدرب جنوده على الحركات العسكرية، وفتى من المتأنقين المتظرفين يطارد فتاة المقصف من ركن إلى ركن يحاول إمساكها والعبث بها، وهي تتمنع عليه، وتتأبى تأبيا أشبه بالإغراء منه بالامتناع، وجندي من جنود الحرس قد تغفل البواب عند دخوله واملس من يده دون أن يدفع إليه شيئا، والبواب يطارده ويلاحيه ويأخذ بتلابيبه، فيجادل عن نفسه بأنه حارس الملك، وحراس الملك أحرار يدخلون من الأمكنة ما يشاءون، وزمرة من المتأدبين قد انتبذوا ناحية من القاعة، وأخذوا يندبون الأدب وحظه وشقاء أهليه وبلاءهم، ويقول بعضهم لبعض: أليس من مصائب الدهر ورزاياه أن يقف موقف الممثل بين هذا الجمهور الساقط أمثال «مونفلوري» و«بلروز» و«بويريه» و«جودليه»، وأن تمثل على مثل هذا المسرح الحقير المتبذل روايات أكابر الشعراء الروائيين أمثال «روترو» و«كورني» و«بارو»؟
ولم يكن يضيء تلك القاعة على كبرها واتساعها إلا بضعة مصابيح ضئيلة، تتراءى تلك الجماهير على نورها كأنها الأشباح المتحركة، أو الأرواح الهائمة، وقد يسمع السامع فيها من حين إلى حين في وسط هذه الضوضاء صوت فتاة المقصف، وهي تصيح خلف مقصفها بصوتها الرقيق الرنان: «اللبن»، «الحلوى»، «عصير البرتقال»، «عصير الرمان»، «الشواء»، «الفطير»، «النبيذ»، أو صوت شيخ هرم يسب ويحتدم ويضرب الأرض بقدميه، وهو عاري الرأس منقلب السحنة؛ لأن أحد الجالسين في الطبقة العليا من الملعب قد أرسل على شعر رأسه المستعار شصا فاجتذبه به، وظل معلقا في الفضاء على مرأى من الجماهير الضاحكين، أو صارخا متألما قد وضع يده على عينه وظل يصيح: وا غوثاه! وا ويلتاه! لأن بعض المتفرجين صوب إليها حصاة صغيرة أو نواة فأصابها بها، إلى أمثال ذلك من صراخ الصارخين، وهتاف الهاتفين من جميع جوانب القاعة: أشعلوا الأنوار، ارفعوا الستار.
ولم يزل هذا شأنهم حتى دقت الساعة العاشرة من الليل، وقرب ميعاد التمثيل، فدخل جماعة من الأشراف المتأنقين يجررون أذيالهم، ويشمخون بأنوفهم، ويتأففون لضعف الأنوار وضوضاء الجماهير ، ويصيحون: الطريق الطريق أيها الصعاليك، فتنفرج الصفوف لهم انفراجا، حتى بلغوا مكان المسرح فصعدوا عليه، وجلسوا فيه على مقاعد متفرقة في أنحائه جلسة باردة وقحة لا أدب فيها ولا احتشام، وكانت المقاصير في ذلك التاريخ خاصة بالنساء، لا يجلس فيها غيرهن، إلا مقصورة واحدة بجانب المسرح كان يجلس فيها الكردينال إذا حضر، أو من ينزل منزلته من عظماء المملكة ووجوهها.
طاهي الشعراء
جلس في ركن من أركان القاعة في تلك الساعة شخصان منفردان، أحدهما الشاعر «لينيير»، وهو رجل بائس مسكين، مغرم بالشراب ومعاقرته، لا تكاد تفارق يده الكأس ليله ونهاره، وثانيهما البارون «كرستيان دي نوفييت»، وهو فتى من أشراف الريف، جميل الطلعة، حسن الزي والثياب، إلا أن هندامه على الطراز القديم، حضر من «تورين» إلى باريس منذ عشرين يوما ليلتحق بفرقة الحرس من الجيش الفرنسي، فلم يدخلها إلى صباح اليوم. فقال الشاعر للبارون: إن صاحبتك لم تحضر حتى الساعة، وها هي ذي مقصورتها التي أشرت لي إليها لا تزال خالية، وقد اشتد ظمئي، فأذن لي بالذهاب إلى إحدى الحانات القريبة لأتناول قليلا من الشراب ثم أعود إليك، فاضطرب كرستيان وتشبث بثوبه وقال له: إنك إن ذهبت لن تعود يا لينيير، وأنا في أشد الحاجة إليك، فإني أريد أن أعرف من هي؟ وما منبت دوحتها؟ وربما بدا لي أن أزورها الليلة في مقصورتها، وأتعرف إليها، وليس في استطاعتي أن أقدم على ذلك وحدي، فأنت تعلم أنني رجل جندي ساذج، حديث عهد بهذا البلد وأهليه وآدابه ومصطلحاته، ويخيل إلي - وإن لم أكن قد حادثتها أو جلست إليها - أنها فتاة ذكية متوقدة، بارعة في أساليب الحديث ومناهجه، وأخاف إن أنا لقيتها وحدي أن أضعف أمامها وأضطرب، أو أرتبك في حركة من الحركات بين يديها، فأسقط من عينيها سقطة لا مقيل لي منها أبد الدهر، فابق معي وكن عونا لي عليها لتتم بذلك يدك عندي.
وهنا مرت فتاة المقصف حاملة على يدها صينية بيضاء، وهي تتغنى بصوتها الرقيق الشجي، فناداها لينيير فدنت منه، فسألها عما عندها، فظلت تسرد عليه أسماء فطائرها وقدائدها وأشربتها وحلواها، وهو لا يأبه لشيء من ذلك، حتى ذكرت له نبيذ «بوردو» فتهلل وجهه وتحلب فوه، وطلب إليها أن تأتيه بالجيد منه، فأتت له بما أراد، فملأ كأسه، وبدأ يشرب ويتغنى، وما هي إلا لحظة حتى قال لكرستيان: الآن أستطيع أن أبقى معك قليلا أيها الصديق الكريم.
وفي تلك اللحظة دخل القاعة رجل قصير، ضخم الجثة غريب الهيئة، في ملابس الطهاة وشمائلهم، فصرخ الجماهير حين رأوه: راجنو! راجنو! فلم يأبه لهم، ولم يلتفت إليهم، واندفع مسرعا إلى لينيير، وقال له بصوت متهدج مضطرب دون أن يحييه أو يحيي جليسه: ألم تر صديقنا سيرانو يا لينيير؟ قال: لا، وما لي أراك مضطربا هكذا، كأنك هارب من معركة أو مأخوذ بجريمة؟ قال: ما أحسب إلا أنه سيحدث الليلة في هذه القاعة حادث عظيم لا يعلم إلا الله كيف تكون عاقبته! فانزعج لينيير، وقال: أي حادث تريد؟ قال: قد علمت الساعة أن سيرانو كان وجد على الممثل مونفلوري منذ أيام في شأن من الشئون لا أعلمه، فحكم عليه بأن ينقطع عن التمثيل شهرا كاملا، وهدده بالموت إن هو خالف أمره، وكنت أظن أن الرجل قد أذعن لهذا الحكم ضنا بنفسه وبحياته، ولكنني رأيته الساعة واقفا في حجرة الممثلين، يترنم بقطعة تمثيلية، وأظن أنه سيقوم بتمثيل دوره الذي اعتاد أن يمثله في رواية «كلوريز» وهو دور «فيدين»، فإن فعل فقد وقعت الكارثة العظمى التي لا حيلة لنا ولا لأحد من الناس في دفعها، وسيرانو كما تعلم رجل مخاطر جريء، لا يبالي بعواقب الأمور، ولا يفكر في نتائجها! فقهقه لينيير ضاحكا وقال: يا له من قاض غريب! ويا له من حكم عجيب! هدئ روعك يا صديقي، فالأمر أهون مما تظن، فربما لا يحضر سيرانو، أو لا يمثل مونفلوري، فلا يقع شيء من المكروه الذي تتوقعه، ثم التفت إلى مرستيان وقال له: أقدم إليك المسيو راجنو، طاهي الشعراء والممثلين، وهو اللقب الذي اختاره لنفسه، وعرف به بين الناس جميعا؛ لأنه صديقهم المخلص الذي يحبهم ويكرمهم ويذود عنهم، ويفتح لهم باب مطعمه على مصراعيه يأكلون منه ما يشتهون، ويشربون ما يقترحون، لا يتقاضاهم على ذلك أجرا سوى قصيدة من الشعر يملونها عليه، أو قطعة تمثيلية يمثلونها بين يديه، أي أنه يملأ لهم أفواههم طعاما فيملئون له أذنيه كلاما، والأذن كما تعلم ليست طريقا إلى المعدة كالفم، وهو فوق ذلك شاعر متفنن مطبوع، ينظم أكثر شعره في وصف فطائره وحلواه! فانحنى راجنو بين يدي كرستيان وقال: نعم يا سيدي، إنني صديق الشعراء والممثلين، بل عبدهم ومولاهم، وصنيعة فضلهم وإحسانهم، وإن ساعة أقضيها في حضرتهم أسمع طرائف أشعارهم، وبدائع فصولهم لهي عندي ساعة الحياة التي لا أعدل بها ساعة غيرها، فشكر له كرستيان فضله وأدبه، وأثنى خيرا على شرف عواطفه واكتمال مروءته، وما هي إلا كرة الطرف حتى عاد إلى راجنو قلقه واضطرابه، وأخذ يدور بعينيه في الجماهير يفتش عن سيرانو، فقال له لينيير: إنه لم يحضر حتى الآن، وها هو ذا الوقاد قد بدأ في إشعال المصابيح، وها هو ذا الستار قد أوشك أن يرتفع، وما أظنه حاضرا بعد ذلك.
سيرانو
وكان رجل من الأشراف اسمه المركيز دي جيجي جالسا على مقربة منهم يسمع حديثهم وينصت لحوارهم، فوضع يده على كتف راجنو، فالتفت راجنو إليه. فقال له: أتستطيع أن تخبرنى من هو سيرانو هذا الذي تتحدثون عنه؟ فهز راجنو رأسه كالمستغرب، وقال له: إني لأعجب لأمرك يا سيدي، فهي أول مرة سمعت فيها أن إنسانا في العالم لا يعرف السيد سيرانو! قال: إني أعرف عنه شيئا قليلا، وأريد أن أعلم أنبيل هو أم صعلوك؟ قال: إن كنت تريد من النبل شيئا غير الشرائط والأوسمة والذهب والفضة والحرير والديباج، فهو أنبل النبلاء وأشرفهم؛ لأنه جندي شجاع، جريء في مواقفه ومشاهده، صادق في قوله وفعله، لا يحابي ولا يجامل، ولا يتذلل ولا يتزلف، ولا يخضع في شأن من شئون حياته إلا للحق الذي يعبده ويدين له، ولو عرفته يا سيدي لعرفت أفضل الناس خلقا، وأشرفهم نفسا، وأطيبهم قلبا، وأشدهم عطفا على البؤساء والمنكوبين، وهو فوق ذلك شاعر مجيد، وعالم فاضل، وناقد بارع، أما شكله فمن أغرب الأشكال وأعجبها، حتى لو أراد مصورنا العظيم «فيليب دي شامبيني» أن يرسمه كما هو لعجز عن ذلك أو كاد، فإن الناظر إليه ليعجب كل العجب لمنظر قبعته المحلاة بالريشات الثلاث، وردائه الملون الجميل، وقبائه الواسع المسدس الأطراف، الذي يرفع مؤخره بطرف سيفه، ثم يمشي به مختالا كأنه طاووس يجر ذنبه وراءه، وله أنف هائل جدا، لا يراه الرائي حتى يذعر ويرتاع، ويقف أمامه مدهوشا منذهلا، يعجب لصاحبه كيف استطاع أن يحمله في رقعة وجهه، وكيف لا يلتمس السبيل إلى الخلاص منه، أما هو فراض عنه كل الرضا، لا يشعر بثقله، ولا يفكر في الخلاص منه بحال من الأحوال، والويل كل الويل لمن يرفع نظره إليه، أو تختلج شفتاه بابتسامة العجب منه أو السخرية به، فإن رأسه يطير بضربة واحدة من حد سيفه. فقال له المركيز: كيفما كان الأمر فإنني أستطيع أن أقول لك - وأنا على ثقة مما أقول، إنه أعجز من أن يمنع مونفلوري عن التمثيل؛ بل هو لا يحضر الحفلة الليلة فرارا من وعيده الكاذب. فقال راجنو: وأنا أراهن على حضوره بدجاجة مشوية من مطعم «راجنو» الشهير، ولا أرزؤك دانقا واحدا إن أنا ربحت الرهان! ثم أدار ظهره إليه، وجلس يتحدث إلى لينيير وكرستيان.
وإنه لكذلك إذ لمح رجلا مقبلا على البعد. فقال لصاحبه: ها هو ذا المسيو «لبريه» صديق السيد سيرانو الحميم، فأذنا لي بالذهاب إليه، لعلي أستطيع أن أعلم من شأنه شيئا، ثم تركهما وذهب إليه، فرآه يقلب نظره في الجماهير، ويلتفت يمنة ويسرة، فقال له: لعلك تفتش عن سيرانو أيها الصديق؟ قال: نعم، وإني قلق من أجله جدا. قال: قد فتشت عنه قبلك فلم أجده، ثم انتحى به ناحية من القاعة، وجلسا معا يتحدثان.
روكسان
وهنا ظهرت روكسان في مقصورتها، فضج الجمهور حين رآها ضجيج السرور والابتهاج، وصاح أحد الأشراف الجالسين على المسرح: آه يا إلهي! إن جمالها فوق ما يتصور العقل البشري! وقال آخر: إنها زهرة تبتسم في أشعة الشمس، وقال آخر: إنها روضة يانعة يحمل النسيم رياها العطر إلى القلوب فينعشها، وكان كرستيان مشغولا بأداء ثمن الشراب الذي شربه لينيير، فلم ينتبه إليها؛ ثم التفت فرآها، فارتعد واصفر وجهه وأخذ بيد لينيير وقال له: ها هي ذي، فقل لي من هي؟ إنني خائف جدا يا صديقي، فضع يدك على قلبي فما أحسب إلا أنه يحاول الفرار من مكانه رهبة وجزعا، حدثني عنها واذكر لي كل ما تعلم من أمرها، وارفق بي في حديثك، حتى لا تقضي على الأمل الوحيد الباقي لي من حياتي.
فقهقه لينيير ضاحكا وقال له: بخ بخ لك يا كرستيان! لقد أحسنت الاختيار لنفسك كل الإحسان، وما أحببت إلا أجمل فتاة في فرنسا، فإن كان صحيحا ما تقول من أنها تمنحك من ودها مثل ما تمنحها، وأنها تنظر إليك بمثل العين التي تنظر بها إليها، فأنت أحسن الناس حظا، وأسعدهم طالعا، إنها السيدة مادلين روبان، الشهيرة بروكسان، وهي فتاة عذراء يتيمة، لا أهل لها ولا أقرباء سوى ابن عمها سيرانو دي بيرجراك، الذي كانوا يتحدثون عنه الآن، وهي على فرط جمالها وكثرة محاسنها، عفيفة طاهرة الذيل، عاقلة رزينة، تجلس إلى أذكياء الرجال وتحادثهم، وتفتتن بتصوراتهم وأفكارهم، وتخوض معهم في كل شأن من شئون الحياة حتى شأن الحب، ولكنها لا تأذن لأحد أن يحبها أو أن يعبث بقلبها، فإن حاول ذلك منهم محاول دافعته عنها برقة وأدب، ورفق وحكمة، فسلم لها شرفها وكرمها، ولا عيب فيها إلا أنها من فريق الأديبات المتحذلقات اللواتي أفسد الأدباء المتحذلقون أذواقهن الأدبية، فذهبن مذهب التكلف والتعمل في أحاديثهن وحوارهن، فلا ينطقن بكلمة صريحة خالية من التشابيه والمجازات والإشارات والكنايات، ولا يواجهن المعاني التي يردن الإفضاء بها إلى السامعين مواجهة، بل يدرن حولها دورات كثيرة حتى يصلن إليها، فإذا أردن أن يقلن في أحاديثهن العادية: أشرقت الشمس، قلن: «ذر قرن الغزالة»، أو أقبل الليل، قلن: «هجم جيش الظلام» أو: طلعت النجوم، قلن: «تجلت عروس الزنج في قلائدها الدرية»، أو: ها هو ذا الكرسي فاجلس عليه، قلن: «ها هو ذا الكرسي يفتح ذراعيه لاستقبالك فتفضل بإلقاء نفسك بين أحضانه»، أي إنهن لا يعجبهن من الألفاظ إلا المتكلف المصنوع، ولا من المعاني إلا المجلوب المختصر، ولا من الشعراء والكتاب إلا المتكلفون المتشدقون في أساليبهم وتصوراتهم، وهي سعيدة في عيشها، مغتبطة بحياتها، لا ينغص عليها صفوها غير هذا الرجل الهمجي المتوحش الذي تراه واقفا بجانبها الآن.
فالتفت كرستيان، فرأى رجلا رشيقا متأنقا حسن الزي والهندام، متشحا بوشاح حريري أزرق، متقلدا سيفا عسكريا مرصعا، قد أسند ذراعه إلى ظهر كرسيها كأنه يحتضنها، وظل يحادثها بصوت منخفض كأنه يسارها ويناجيها؛ فقال له وهو يرتجف غيظا وحنقا: من هذا الرجل؟ وكان لينيير قد ثقل، وبدأ يتمتم ويتلعثم. فقال بنغمة الفأفأة: إنه الكونت دي جيش، أحد قواد الجيش الفرنسي، وصهر الكردينال دي ريشلييه وزير فرنسا العظيم، وقد أحب روكسان وأغرم بها غراما شديدا، ولما رأى أن لا سبيل له إليها من طريق المخالة؛ لأنها شريفة مترفعة، ولا من طريق الزواج؛ لأنه متزوج بابنة أخت الكردينال، أراد أن يزوجها من رجل ساقط من أشياعه، لا تحبه ولا تأبه له اسمه الفيكونت «فالفير»، طمعا في أن ينال منها من طريقه ما لم ينل من طريق آخر، فهالها الأمر وتعاظمها، وأبت أن تذعن لرأيه أو تنزل على حكمه، ولكنه لا يزال يلح عليها ويضايقها، وهي تدافعه عنها بلطف وأدب، وحذر واحتياط، وأخاف إن استمرت هذه الحال أن ينتهي بها الأمر إلى الخضوع والإذعان؛ لأن الرجل قوي جريء مدل بمكانه من قيادة الجيش، وبحظوته عند الكردينال، وليس في أنحاء المملكة جميعها من يجرؤ على التفكير في مشادته أو الخلاف عليه، ولقد أثرت هذه الحادثة في نفسي تأثيرا شديدا، وأشفقت على تلك الفتاة المسكينة أن يستبد بها وبمستقبلها رجل حائر متوحش كهذا الرجل، فنظمت قصيدة رنانة شرحت فيها قصته معها، وهجوته فيها هجاء مرا لا أحسب أنه يغتفره لي مدى الدهر، وإن شئت أن تسمع هذه القصيدة فهاكها.
وكان الشراب قد نال منه أقصى مناله، فنهض قائما على قدميه، وأخذ يصوب إلى الكونت نظرة هائلة مخيفة، ورفع الكأس بيده، وحاول أن يتغنى بقصيدته، فأسكته كرستيان وقال له: لا تفعل فإني ذاهب. قال: إلى أين؟ قال: أفتش عن فالفير. قال: ماذا تريد منه؟ قال: أقتله! قال: إني أخاف عليك منه؛ لأنه أقوى منك وربما قتلك. قال: لا أبالي بالموت في سبيلها. قال: انظر، ها هي ذي تنظر إليك، وتحدق فيك تحديقا شديدا، فلا يشغلك شاغل عنها، أما أنا فإني ذاهب لشأني، فإن أصدقائي ينتظرونني في الحان، ولا خير لي في الكأس من دونهم، فأذن لي بالذهاب، فأذن له فانصرف، وظل هو شاخصا إلى مقصورة روكسان، يبادلها نظرات الحب والشغف، ويفضي إليها من طريق الصمت والسكون بما عجز عن الإفضاء به من طريق الكلام.
وكان الكونت دي جيش قد نزل من مقصورتها، ومشى في القاعة يحف به جمع عظيم من حاشيته وأصدقائه، يتملقونه ويداهنونه، وحساده ومنافسوه من نبلاء القوم وأشرافهم يتغامزون فيما بينهم، ويرمونه بنظرات الحقد والحرد، ويسمونه القائد المغرور مرة، والجاسكوني الكذاب أخرى، حتى إذا مر بين أيديهم نهضوا له إعظاما وإجلالا، وانحنوا بين يديه وداروا به يصانعونه ويماسحونه، حتى بلغ مكان المسرح، فصعد إليه هو وأتباعه، وجلس على كرسيه المعد له، ثم التفت حوله وقال: أين الفيكونت فالفير؟ فأجابه: هأنذا يا سيدي. قال: تعال بجانبي لأحدثك قليلا.
وكان كرستيان واقفا مكانه ينظر إليه على البعد نظرات الحقد والموجدة، فما سمع اسم فالفير حتى ثار ثائره، وغلى دمه في رأسه، وعلم أنه قد وجد خصمه، فوثب من مكانه وثبة قوية، وصاح: ها قد عرفته، وسألطمه بقفازي على وجهه لطمة هائلة! ووضع يده في جيبه ليخرج قفازه منه، فدهش حين عثرت يده فيه بيد أخرى غريبة، فقبض عليها بشدة والتفت وراءه، فإذا لص قبيح المنظر، زري الهيئة، يحاول سرقته، فصاح فيه: من أنت؟ وماذا تريد؟ فتضعضع الرجل واستخزى، واستطير عقله خوفا ورعبا، ثم ما لبث أن عاد إلى نفسه واستجمع قواه، وقال له: عفوا يا سيدي، فإني ما أردت سرقتك، وإنما هو تمرين بسيط، فقد تلقيت الساعة أول درس من دروس اللصوصية على أستاذي «بوار»، وقد بعثني إليك كما بعث غيري إلى غيرك، لا لنسرقكم أو نحول بينكم وبين أموالكم، بل لنستوثق من أنفسنا أننا قد حذقنا دروسنا واستظهرناها، فاعف عني واغتفر لي هذه الزلة، واعلم أن في صدري سرا هائلا جدا ينفعك نفعا عظيما إن أفضي به إليك، وهو خير لك مني ألف مرة! فضحك كرستيان طويلا، وقال: أي سر تريد؟ قال: إن صديقك الذي كان جالسا معك منذ هنيهة - وقد نسيت اسمه الآن - هو في الساعة الأخيرة من ساعات حياته، وإن لم تسرع إلى نجدته! قال: أتريد لينيير؟ قال: نعم، فدهش كرستيان، وقال: لم أفهم ما تريد. قال: إنه كان قد هجا منذ أيام عظيما من عظماء هذا البلد بقصيدة مقذعة، فحقدها عليه حقدا شديدا، ورأى أن ينتقم لنفسه منه، فأعد له مائة رجل يكمنون له الليلة في جنح الظلام عند باب «نيل»، في طريقه إلى منزله ليقتلوه، وأنا أحد أولئك الرجال، فاخرج الآن واطلبه في الحانات التي يجلس فيها، وهي المضغط الذهبي، والتفاحة الخشبية، والحزام الممزق، والمشاعل، والأقماع الثلاثة، واترك له بطاقة في كل واحدة منها لتنذره بهذا الخطر الداهم. قال: ومن هو ذلك العظيم الذي دبر له هذه المكيدة؟ قال ذلك سر المهنة لا أستطيع أن أبوح به! فضحك كرستيان وقال: لا حاجة بي إليك فقد عرفته، ثم خلى سبيله فذهب لشأنه، والتفت هو إلى مقصورة روكسان، فرآها متلفتة إليه لا تكاد ترفع نظرها عنه، فألقى عليها نظرة حزينة، وقال في نفسه: وا أسفاه! لا بد لي أن أتركها الآن، ثم ألقى على الفيكونت نظرة ملتهبة، وقال: وأن أتركه أيضا؛ لأني أريد إنقاذ لينيير، ثم ترك الملعب وانصرف ليفتش عن صديقه في تلك الحانات الخمس.
البطل
بدأ الموسيقيون يوقعون على نغماتهم الرقيقة الشجية، وسكنت الجماهير تنتظر رفع الستار، فهمس لبريه في أذن راجنو: ترى هل يظهر مونفلوري على المسرح الآن؟ قال: نعم، ما من ذلك بد؛ لأنه صاحب الدور الأول في الرواية، ولأنه قد علم أن سيرانو لا يحضر بعد الآن، وأظن أني قد خسرت الرهان! قال: فليكن، فقد كنت أتوقع من حضوره شرا عظيما.
وهنا دق الجرس ثلاث دقات ثم ارتفع الستار، فظهر مونفلوري على المسرح لابسا ملابس راع، وعلى رأسه قبعة محلاة بالورود مائلة إلى أذنه، وفي يده أرغول طويل ينفخ فيه، فصفق له الجمهور تصفيقا كثيرا، فشكرهم بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يمثل دور فيدين، ويتغنى بهذه القطعة:
هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره، ويفرون منه إلى مكان ناء في منقطع العمران، لا يرون فيه غير وجه الطبيعة الجميل ...
وهنا رن صوت عظيم في جوانب القاعة يقول: «ألم أحرم عليك التمثيل شهرا كاملا يا مونفلوري؟»
فدهش الجمهور، وجمد مونفلوري في مكانه، والتفت الناس يمنة ويسرة يفتشون عن صاحب الصوت أين مكانه، ووقف النساء في المقاصير ينظرن ماذا جرى، وهمس راجنو في أذن لبريه، قد ربحت الرهان يا صديقي، فها هو ذا سيرانو قد حضر. فقال لبريه: ليته لم يحضر، وليتك خسرت كل شيء! وما هي إلا لحظة حتى ظهر سيرانو يتخطى الرقاب، ويدفع المقاعد بين يديه دفعا، ويزمجر زمجرة الرعد، حتى وصل إلى كرسي أمام المسرح فاعتلاه، وهز عصاه الطويلة في وجه الممثل وقال له: اترك المسرح حالا يا أحقر الممثلين، وإلا فأنت أعلم بما يكون، فسخط جمهور من الناس سخطا شديدا، وضجوا من كل ناحية: مثل يا مونفلوري، مثل ولا تخف، فتشجع مونفلوري وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين يبتعدون عن قصور الملوك جهدهم، بل يعتزلون العالم بأسره ...» فقاطعه سيرانو وصاح وهو يزأر زئير الليث: كأنك تأبى أيها الغبي الأحمق إلا أن أجعل ظهرك مزرعة لعصاي هذه، فاترك المسرح حالا، فقد أوشكت أن أغضب. فاحتدم الجمهور غيظا، وأخذوا يصيحون: صه أيها المجنون، مثل يا مونفلوري، إنه فضول غريب، إنها سماجة نادرة، فعاد إلى الممثل هدوءه وسكونه، وعاد إلى التغني بقطعته: «هنيئا للذين ...» فما نطق بأول حرف منها حتى وثب سيرانو من كرسيه الذي كان واقفا عليه إلى أقرب كرسي إلى المسرح، وهز عصاه في وجهه وصاح: لا تمثل أيها الدب الهائل ولا تنطق بحرف واحد، فإن فعلت ضربتك بعصاي هذه على وجهك ضربة لا تعرف من بعدها أين مكان أنفك منك، قد أمرتك وليس في العالم قوة تستطيع أن تعترض أمري، فطاش عقل مونفلوري وتلجلج لسانه، والتفت إلى الأشراف الجالسين على المسرح من حوله وقال: النجدة يا سادتي! فنظر أحدهم إلى سيرانو نظرة عظمة وكبرياء، وقال له: كفى هذيانا أيها الفضولي الثرثار، فقد أزعجتنا بضوضائك، وكدرت صفونا، والتفت آخر إلى الممثل وقال له: مثل يا رجل ولا تحفل بشيء فأنا أحميك، وقال آخر: لقد تجاوز الحد هذا الوقح حتى كاد يفرغ صبرنا.
فاتجه إليهم سيرانو وأنشأ يخاطبهم بهدوء وسكون، ويقول: يجب على حضرات السادة الأشراف أن يلزموا أماكنهم ويحافظوا على حيدتهم، فإني أشعر أن عصاي تتلهف شوقا إلى التهام شرائطهم وأوسمتهم.
فانتفض الأشراف غيظا وتناهضوا للقيام، وهاج الجمهور هياجا شديدا، وأحاط جمع عظيم منهم بكرسي سيرانو وأخذوا يصيحون في وجهه ويولولون، ويقلدون أصوات الحيوان: كالديك والهر والكلب والحمار، فاستدار نحوهم سيرانو وألقى عليهم نظرة هائلة مخيفة فتراجعوا قليلا، إلا أنهم ظلوا مستمرين في هياجهم وضوضائهم، وأخذوا يغنون بصوت واحد أنشودة هزلية يقولون فيها: «برغمك يا سيرانو ستمثل رواية كلوريز، برغمك يا سيرانو سيمثل مونفلوري!» يكررونها مرارا، فاستدار إليهم ثانية وزمجر في وجوههم، وصرخ فيهم صرخة هائلة، وقال: ألا تستطيعون أيها السفلة الأوغاد أن تتركوا سيفي هادئا في غمده ساعة واحدة؟ لا أحب أن أسمع منكم هذه الأنشودة مرة أخرى، وإلا حطمتكم جميعا! فقال له أحدهم: إنك لست بشمشون الجبار الذي ضرب جمعا عظيما من الناس بفك كلب فقتلهم، فالتفت إليه وقال: أستطيع أن أكون مثله لو أنك أعرتني فكك يا هذا! ثم التفت إلى مونفلوري، فرآه لا يزال واقفا في مكانه. فقال: يا للعجب! إنه لم ينفذ أمري حتى الآن، إنه يأبى إلا أن أجعل هذا المسرح مائدة أشرح عليها لحمه تشريحا، فعاد مونفلوري إلى استنجاده واستصراخه، وظل يقول: النجدة النجدة! الغوث الغوث! فازداد غضب الجمهور وهياجهم، وأحاطوا بكرسي سيرانو من كل ناحية، وأخذوا يهددونه وينذرونه بالويل والثبور، وعادوا إلى الترنم بأنشودتهم الأولى، وتقليد أصوات الحيوان، فاستدار إليهم فجأة، ثم وثب من كرسيه إلى الأرض، وتقدم نحوهم بعصاه، فتقهقروا بين يديه، حتى اتسعت الدائرة من حوله اتساعا عظيما، فصاح فيهم: إني آمركم جميعا أن تسكتوا، لا ينطق أحد منكم بحرف واحد بعد الآن، إني أعرف صور وجوهكم جميعها، فليس في استطاعة واحد منكم أن يفلت من يدي، من ذا الذي يريد أن يكون أول ناطق ليكون أول قتيل؟ ثم مر بهم يتصفح وجوههم واحدا فواحدا ويقول: من ذا الذي يريد؟ أأنت أيها الفتى؟ أم أنت أيها الكهل؟ أم أنت أيها الشيخ الهرم؟ من منكم يحب أن يكون اسمه أول اسم في جريدة الأموات؟ لم يجبني أحد بحرف واحد! ما سكوتكم؟ أجبنتم؟ ما لكم تفرون من وجهي؟ قلدوا أصوات الحيوان، غنوا الأنشودة الباردة! أرى صمتا عميقا وسكونا سائدا، لا حركة ولا إشارة! أظنهم قد ماتوا من شدة الخوف، الآن أستطيع أن أستمر في عملي! ثم اتجه إلى المسرح، وأنشأ يقول بصوت خشن أجش: أيها الأشراف، أيها الغوغاء، أيها الرجال، أيتها النساء، لا أريد أن أرى على جسم المسرح هذا الدمل القذر الخبيث، فإن لم ينفجر من نفسه فجرته بهذا المبضع القاتل، ولا أحب أن يعترض أحد منكم إرادتي، أو أخذت البريء بذنب المجرم، والجار بذنب الجار! ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقد استحالت صورته إلى صورة وحش هائل قد كشر عن أنيابه للفتك بكل من يدنو منه.
فسكن الجمهور سكونا عميقا لا نأمة فيه ولا حركة. فقال مونفلوري بصوت خافت متقطع: إنك بإهانتك إياي يا سيدي قد أهنت الإلهة «تالي»! فقال: لا شأن لك بتلك الإلهة أيها الأحمق المأفون؛ لأنها إلهة التمثيل لا إلهة السخافات، ولو أنها شاهدت موقفك هذا وأنت تمثل بهذا الجسم الضخم الغليظ، وهذه الحركات الباردة الثقيلة، لتناولت مني عصاي هذه، وضربتك بها على أحقر عضو في جسمك، وهأنذا أصفق ثلاث مرات، وعند التصفيقة الثالثة لا بد أن تتلاشى من المسرح يا رأس الثور، أسمعت؟ فحاول مونفلوري أن يتكلم، فصفق سيرانو التصفيقة الأولى، فطار قلب الممثل فرقا ورعبا، وظل يقلب نظره في الجماهير، فلم يجد بينهم معينا ولا ناصرا، فأنشأ يقول بصوت مرتعد: سادتي! سادتي! أيرضيكم أن أهان في حضرتكم، وأن يهان الفن على مرأى منكم ومسمع؟! فصفق سيرانو التصفيقة الثانية، فاشتد اهتمام الجماهير، وتطاولت أعناقهم، وتحولوا من الهياج والغضب إلى الاهتمام بمعرفة النتيجة، وأخذ بعضهم يهمس في أذن بعض بأمثال هذه الكلمات: سيبقى، سيخرج، سيجبن، سيقاوم، لا يستطيع البقاء، لا يليق به الفرار، فحاول مونفلوري أن يقول شيئا آخر، ولكنه سمع التصفيقة الثالثة، فاختفى من المسرح كأنما غاص في مهوى عميق!
فهتف الجمهور لسيرانو هتافا عظيما، إلا بضعة أفراد قلائل، لا، بل أخذ الكثير منهم يسب الممثل ويشتمه ويسخر منه، وجلس سيرانو على كرسيه جلسة الفائز المنتصر، فتقدم نحوه فتى من المتفرجين وقال له: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك: ما السبب في بغضك مونفلوري؟ فصمت سيرانو لحظة، ثم ألقى عليه نظرة باسمة هادئة وقال له: عندي لذلك سببان: أولهما قبح تمثيله ورداءة حركاته، وأنه يغني الشعر العذب الرقيق بصوت مأخوذ مختنق فيفسده على صاحبه، وينغصه على الناس، أما السبب الثاني فهو سري الخاص الذي لا يمكنني أن أبوح به لأحد، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولكنك حرمتنا على كل حال مشاهدة رواية «كلوريز»، وما كنا نؤثر ذلك ولا نرضاه! قال: أظن أني لم أحرمك شيئا نفيسا أيها الفتى، فإن نظم «بارو» كنثره: كلاهما بارد غث لا يساوي شيئا؛ ولذلك قد كفيتكم وكفيت نفسي مئونة سماع روايته السخيفة غير آسف عليها! فصاحت فتاة في المقاصير: من ذا الذي يعيب شاعرنا بارو؟ أيستطيع أحد أن يجرؤ على ذلك؟ وتكلمت فتيات أخريات بمثل كلامها، فرفع سيرانو نظره إلى المقاصير، وأنشأ يخاطبهن ويقول: لكن يا سيداتي أن تكن جميلات رائعات كما تشأن، ولكن أن تختلبن الألباب، وتستلبن العقول بحسنكن ودلالكن، ولكن أن تبتسمن الابتسامات اللامعة البديعة التي تضيء بنورها ظلمات هذه الحياة، ولكن أن تبعثن السعادة والغبطة والسرور والبهجة في نفوس الناس جميعا، فيحيوا بفضلكن في هذا العالم حياة المسرة والهناء، ولكن أن توحين روح الشعر إلى الشعراء، وتملينها عليهم بسحركن وفتنتكن فيستطيعوا أن يطيروا بأجنحتهم في أجواء السموات العلا، ويشرقوا منها على الدنيا ومن فيها شموسا وأقمارا، لكن كل هذا ولكن ليس لكن أن تجلسن في محكمة الشعر لتحكمن في قضية الشعراء!
وكان «بلروز» صاحب الحان واقفا على مقربة منه. فقال له: وما رأيك يا سيدي في المال الذي خسرته الليلة بسببك؟ قال: هذه هي الكلمة الوحيدة المعقولة التي سمعتها الليلة في هذا المكان، ثم ضرب يده في جيبه، وأخرج منه كيسا مملوءا فضة، ورمى به إليه، فتهلل «بلروز» فرحا وابتهاجا، وقال له: بمثل هذا الثمن آذن لك يا سيدي بالحضور كل ليلة، وبتعطيل ما تشاء من الروايات! ثم التفت إلى المتفرجين وقال لهم: قد انتهى التمثيل يا سادتي، فهيا جميعا إلى الباب لتستردوا نقودكم.
الأنفيات
وهنا تقدم رجل زري الهيئة قذر المنظر، تلوح على وجهه سمات المهانة والضعة، ممزوجة بالوقاحة والسماجة، وقال له بصوت خشن أجش: لا يقف موقفك هذا يا سيدي ولا يجرؤ على مثل ما جرؤت عليه إلا أحد رجلين: إما عظيم، أو صنيعة رجل عظيم، فهل لك أن تخبرني من هو مولاك الذي أنت صنيعته؟ فعجب سيرانو لأمره، وظل يردد نظره فيه ساعة، ثم قال له: ما أنا بصنيعة أحد أيها الرجل. قال: أليس لك سيد يحميك ويرعاك؟ قال: لا! قال: ألا تلجأ في ساعات شدتك وحرجك إلى نبيل من نبلاء هذا البلد أو أمير من أمرائه يسبل عليك ستر حمايته؟ قال: قلت لك: «لا» مرتين، فهل ترى حتما لازما أن أقولها لك مائة مرة لتفهمها؟ ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقال: ليس لي حام ولا سيد غير هذا! فقال: إذن لا تطلع عليك شمس الغد حتى تكون قد شددت رحلك وتزودت زادك، وغادرت باريس إلى بلد ناء لا رجعة لك منه أبد الدهر! قال: لماذا؟ قال: لأن مونفلوري الذي أهنته الليلة، صنيعة رجل عظيم هو الدوق «دي كندال»، وذراع هذا الرجل طويلة جدا تتناول أبعد الأشياء، ولو كانت في قرن الشمس. قال: ولكنها ليست أطول من ذراعي حين أصلها بسيفي! قال: إنك لا تستطيع أن تزعم في نفسك أنك ... فقاطعه سيرانو وصاح: أستطيع أن أزعم كل شيء أيها الفضولي الثرثار، فاغرب عن وجهي، واطلب لنفسك طريق الخلاص مني! فظل الرجل جامدا مكانه يحدق فيه تحديقا شديدا، لا يطرف ولا يتحرك، فانفجر سيرانو غيظا، وانقض عليه وأخذ بتلابيبه وقال له: اخرج من هنا حالا أو حدثني ما لي أراك تنظر إلى أنفي هذه النظرة المريبة؟ فصعق الرجل في مكانه، وظل يرتعد بين يديه، وكان يعلم الناس جميعا أن سيرانو لا يغضب لشيء من الأشياء غضبه لأنفه، ولا ينتقم لشيء انتقامه له، وقال: أنا يا سيدي! قال: نعم أنت، فما الذي تراه غريبا فيه؟ قال: إنك واهم يا سيدي، فإنني - وأقسم لك - ما فكرت قط في شيء مما تقول. قال: أتراه رخوا متهدلا كخرطوم الفيل؟ قال: لا يا سيدي. قال: أو محدودبا كمنقار البومة؟ قال: لا يا سيدي. قال: أويخيل إليك أن أرنبته دمل كبير يزعجك منظره؟ قال: أبدا يا سيدي، وما فكرت في ذلك قط.
قال: أويتراءى لك أن الذباب يمشي متزلقا فوق تضاريسه؟
قال: لا يا سيدي، لم يخطر ببالي شيء من ذلك، وأقسم لك.
قال: أتراه أعجوبة من أعاجيب الدهر أو فلتة من فلتات الطبيعة؟
قال: لا يا سيدي، لا هذا ولا ذاك. قال: أترى لونه مضرا بالنظر، أو وضعه خارجا عن الحد، أو شكله مخالفا للآداب العامة؟ قال: آه يا إلهي! إنني لم أسمح لنفسي بالنظر إليه مطلقا. قال: ولم لا تسمح لنفسك بالنظر إليه، أتشمئز منه؟ قال: أبدا يا سيدي وأقسم لك. قال: أهو في نظرك كبير جدا إلى هذا الحد؟ قال: لا، بل صغير جدا لا أكاد أشعر به. قال: أتهزأ بي أيها الرجل؟ قال: عفوا يا سيدي فإني لا أدري ما أقول. قال: وهل تظن أيها الغبي الأحمق أن الأنف الصغير مفخرة من المفاخر التي يعتز بها صاحبها؟ نعم إن أنفي كبير جدا؛ لا يكبره أنف في هذا البلد، وذلك ما أفخر به كل الفخر؛ لأن الأنف الكبير عنوان الكرم والشرف، والشجاعة والشمم، وأنا ذلك الذي اجتمعت له هذه الصفات جميعها، أما الوجه الكروي الأملس المجرد من هذا العنوان الشريف - كوجهك هذا - فلا يستحق غير اللطم، ولطمه على وجهه لطمة هائلة، ثم وكزه برجله، ففر الرجل هاربا من بين يديه وهو يصيح: النجدة النجدة! فعاد سيرانو إلى مكانه، وجلس على كرسيه مفتخرا معتزا، وظل يقول: هذا إنذار مني لجميع الفضوليين الثرثارين الذين يحاولون أن يهزءوا بهذا الموضع الناتئ في وجهي ألا يفعلوا، فإن حدثتهم نفوسهم بشيء من ذلك - سواء أكانوا من الغوغاء أم من النبلاء - فليعلموا أنني لا أسمح لهم بالفرار من يدي كما سمحت لهذا الجبان الرعديد، قبل أن أغرس ذباب سيفي في سويداء قلوبهم.
فانتفض الأشراف غيظا وثاروا من أماكنهم، وقال الكونت دي جيش: يخيل إلي أن الرجل قد بدأ يضايقنا، ثم انحدر من المسرح تتبعه حاشيته، حتى دنا من سيرانو، والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ألا يوجد بينكم من يصلح لمقارعة هذا الرجل؟ فقال الكونت فالفير: أنا صاحبه يا سيدي فانتظر قليلا، فإني سأفوق إليه سهما لا قبل له بالنجاة منه، ثم تقدم نحو سيرانو وهو جالس على كرسيه جلسة العظمة والكبرياء، وظل يردد النظر في وجهه طويلا، ثم قال له: إن أنفك أيها الرجل قبيح جدا! فرفع سيرانو نظره إليه بهدوء وسكون، ثم قهقه قهقهة طويلة، وقال: ثم ماذا؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لك مرة أخرى: إن أنفك أعجوبة من أعاجيب الزمان! فنهض سيرانو عن كرسيه متثاقلا، وتقدم نحوه خطوة، وألقى عليه نظرة من تلكم النظرات الهائلة التي اعتاد أن يصرع بها خصومه حين يلقيها عليهم، وقال له: ثم ماذا؟ فاضطرب الفيكونت وشعر بدبيب الخوف في قلبه، وقال: لا شيء! قال: أهذا هو السهم القاتل الذي أردت أن ترميني به؟ لقد كنت أظن أنك أذكى من ذلك، فازداد اضطراب الفيكونت وقال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أقول لك: إن مجال القول في الآناف ذو سعة، ولو كان عندك ذرة واحدة من الفطنة والذكاء، أو أن لك بعض العلم بأساليب الخطاب ومناهجه، لاستطعت أن تقول لي في هذا الموضوع شيئا كثيرا، كأن تقول لي مثلا بلهجة «المتنطعين»: لو كان لي أيها الرجل أنف مثل أنفك هذا لأرحت نفسي والعالم منه بضربة واحدة من حد سيفي.
وبلهجة «المتلطفين»: حبذا لو صنعت يا سيدي لأنفك هذا كأسا خاصة به، فإني أراه يشرب معك من كأسك التي تشرب منها.
وبأسلوب «الواصفين»: ما أرى أنفك إلا صخرة عاتية، أو قمة عالية، أو هضبة مشرفة، أو روشنا مطلا، أو رأسا ناتئا، أو لسانا ممتدا.
وبنغمة «الفضوليين»: ما هذا الشيء الناتئ في وجهك يا سيدي؟ أمحارة مستطيلة، أم دواة للكتابة، أم صندوق للأمواس، أو علبة للمقاريض؟
وبلهجة «الماجنين»: أبلغ بك غرامك بالطيور يا سيدي أن تبني لها في وجهك برجا خاصا بها؛ لتقع عليه كلما قطعت شوطا من أشواطها؟
وبأسلوب «المداهنين»: هنيئا لك يا سيدي هذا القصر الفخم الذي بنيته لنفسك على هذه الربوة البديعة.
وباللهجة الشعرية: أأنفك القيثارة التي توقع عليها إلهة الشعر أنغامها الشجية؟
وبروح السذاجة: في أي ساعة تفتح أبواب هذا الهيكل يا سيدي الحارس؟
وبالبساطة الريفية: ما هذا يا سيدي، أأنف ضخم، أم لفتة كبيرة، أم شمامة صغيرة؟
وباللهجة العسكرية: صوب هذا المدفع نحو فرقة الفرسان أيها الجندي.
وباللغة المالية: أتريد أن تضع أنفك هذا في «اليانصيب»؟ إنه يكون بلا شك النمرة الكبرى!
وباللغة التمثيلية: أهذا هو الأنف الذي أفسد تخطيط وجه صاحبه فسادا عظيما؟ يا له من مجرم أثيم، ومعتد زنيم!
ويمكنك أن تقول لي «متعجرفا»: ألا تخاف أيها الرجل وأنت تنفث دخان لفافتك من هذه المدخنة الضخمة أن يصيح الناس حين يرونك: الحريق الحريق!
و«متأدبا»: لقد أخل هذا النتوء البارز في وجهك يا سيدي بتوازن جسمك فاحترس من السقوط.
و«متأنقا»: ألا يجمل بك يا سيدي أن تضع لأنفك هذا مظلة خاصة به حتى لا يتغير لونه من تأثير حرارة الشمس؟
و«متحذلقا»: إن الحيوان الضخم الذي سماه الفيلسوف أرستوفان «تيتلخر تيفيلو جملوس» هو الحيوان الوحيد، الذي يمكنه أن يحمل في وجهه كمية من اللحم توازن الكمية التي تحملها في وجهك.
و«مازحا»: ما أجمله مشجبا لتعليق القلانس والطيالس!
و«مغاليا»: ليس في استطاعة أي ريح مهما اشتد هبوبها أن تجلب لأنفك الزكام، غير ريح السموم!
و«متهكما»: ما أجمله إعلانا لو وضع على واجهة حانوت من حوانيت الروائح العطرية!
و«متفجعا»: ما البحر الأحمر إلا الدم الذي فصد من أنفك!
ذلك ما كان يجب أن تقوله لي لو كان في رأسك ذرة واحدة من الفطنة والذكاء، على أنك لو استطعت لحال بينك وبين ذلك الخوف والرعب؛ لأنك تعلم أنني إن سمحت لنفسي بالسخرية من نفسي أحيانا، فإنني لا أسمح لأحد بالسخرية مني مطلقا، فلقد جمعت في نفسك بين الغباوة والجهل، والجبن والخور، حتى لأحسب أنك لا تحسن هجاء كلمة في اللغة غير كلمة الحماقة، ولا تحمل في رأسك معنى غير معناها!
فجن الكونت دي جيش غيظا، وقال للفيكونت: من رأيي أن نترك هذا المجنون وشأنه، فإننا ممتحنون الليلة برجل لا بد أن يكون قد أفلت الساعة من يد حارس المارستان. فقال الفيكونت: إن الذي يغيظني ويؤلمني أن تصدر أمثال هذه الكلمات المملوءة كبرا وعظمة من حقير مفلوك لا يملك من متاع الدنيا شيئا، حتى قفازا في يده، ولا يحمل على ثوبه أي علامة من علامات الشرف! فارتعش سيرانو غيظا، ولكنه تجلد واستمسك، وأنشأ يقول بصوت هادئ رزين: نعم أعترف لك يا سيدي بأنني رجل فقير مفلوك، لا أملك من متاع الدنيا شيئا، وأنني لا أحمل على صدري أي هنة من تلك الهنات التي تسمونها شارات الشرف، ولكن ائذن لي أن أقول لك كلمة واحدة، ثم أنت وشأنك بعد ذلك: إنني لا أحفل يا سيدي بالصور والرسوم والأزياء والألوان، ولا يعنيني جمال الصورة وحسنها، ولا برقشة الثياب ونمنمتها، وحسبي من الجمال أنني رجل شريف مستقيم، لا أكذب ولا أتلون، ولا أداهن ولا أتملق، وأن نفسي نقية بيضاء غير ملوثة بأدران الرذائل والمفاسد، فلئن فاتني الوجه الجميل، والثوب المفوف، والوسام اللامع، والجوهر الساطع، فلم يفتني شرف المبدأ، ولا عزة النفس، ولا إباء الضيم، ولا نقاء الضمير.
إن الجبهة العالية يا سيدي لا تحتاج إلى تاج يزينها، وإن الصدر المملوء بالشرف والفضيلة لا يحتاج إلى وسام يتلألأ فوقه، فليفخر الفاخرون بما شاءوا من فضتهم وذهبهم، وألقابهم ومناصبهم، أما أنا فحسبي من الفخر أنني أستطيع أن أمشي بين الناس برأس عال، وجبهة مرتفعة، ونفس مطمئنة، وثوب نقي أبيض، لم تعلق به ذرة من غبار العار، ولم تلوثه شائبة من شوائب السفالة والدناءة، لا أهاب شيئا، ولا أغضي لشيء ولا أخجل من شيء.
نعم، إنني لا أملك قفازا في يدي كما تقول، ولكن أتدري ما السبب في ذلك؟ السبب فيه أنني قطعت جميع قفازاتي على وجوه السفهاء والفضوليين الذين يعترضون طريقي مثلك، عقابا لهم على وقاحتهم وفضولهم، ولم يكن باقيا لي منها حتى ليلة أمس إلا زوج عتيق جدا، احتجت إليه في موقف كموقفي هذا معك، فرميت به وجه أحد السفهاء، فلصق بخده، فتركته وانصرفت.
فجن الفيكونت غيظا، وأخذ يهذي ويقول: صعلوك، بائس، وقح، حقير، سافل! فانحنى سيرانو بين يديه رافعا قبعته عن رأسه وقال له: تشرفت بمعرفة اسمك يا سيدي، أما أنا فاسمي سيرانو سافينيان هركيل دي بيرجراك الجاسكوني!
فصاح الفيكونت: صه أيها النذل الساقط!
فجمد سيرانو لحظة، ثم انحنى على نفسه وأخذ يتلوى ويصيح، كأنما أصيب بألم شديد في بعض أعضائه، فظن الفيكونت أن قد عرض له عارض مميت، فحنا عليه وقال له: ماذا أصابك؟ فلم يجب، وظل يصيح ويتأوه. فقال له: ما شكاتك أيها المسكين؟ قال: خدر شديد يؤلمني جدا. قال: في قدمك؟ قال: لا. قال: في فخذك؟ قال: لا. قال: إذن في ذراعك؟ قال: ليته كان كذلك. قال: قل لي في أي مكان هو؟ قال: في سيفي! فدهش الفيكونت وقال: ماذا تريد؟ قال: لقد طال لبثه في غمده زمنا طويلا، فأصابه هذا التنميل الشديد، ولا علاج له غير الامتشاق!
المبارزة الشعرية
ففطن الفيكونت لما أراد، وعلم أنها المبارزة ما من ذلك بد، فتشجع وقال: فليكن ما تريد! قال: أتعلم أنني سأضربك ضربة غريبة لم ير الراءون مثلها؟ قال: خيال شاعر كذاب. قال: إن الشاعر لا يكذب، ولكنه يقول ما لا يفهمه الأغبياء فيظنونه كاذبا، وفي استطاعتي أن أرتجل في أثناء القتال الذي يدور بيني وبينك موشحا لا أقول فيه شيئا إلا فعلته، وسيكون مركبا من خمس قطع، يبتدئ أولها بابتداء المبارزة، وينتهي آخرها بانتهائها، أي بانتهاء حياتك يا فيكونت! فصاح الفيكونت: كذبت، وإنك لأعجز من ذلك! قال: لم أكذب في حياتي قط، وها هو ذا عنوان موشحي الجديد.
وأخذ يلقي العنوان مادا به صوته، كأنما يمثل على مسرح، ويقول: «موشح القتال الذي دار بين السيد سيرانو دي بيرجراك، وبين صعلوك من الصعاليك المتنبلين اسمه الفيكونت فالفير، في حانة بوروجونيا.»
ثم جرد سيفه، وبدأ يقاتل ويلقي موشحه، ويوقع ضرباته على نغماته ويقول:
إنني أرمي بهدوء قبعتي، وأخلع عن منكبي ردائي، ثم أجرد من غمده سيفي، ثم أتقدم نحوك رشيقا كسيلادون، وشجاعا كإسكاريوس، ولا بد أني في المقطع الأخير أصيب! •••
وكان جديرا بك أن تضن بنفسك على الموت، إن الموت لا بد آت إليك، لا أدري أين أضع ذباب سيفي من جسمك؟ أو جنبك تحت ثديك؟ أم في قلبك تحت وسامك؟ وعلى كل حال ففي المقطع الأخير أصيب! •••
ترسك يرن تحت ضربات سيفي، ذباب سيفي يلتهب التهابا، قلبك يخفق من الرعب والخوف، فرائصك ترتعد وتضطرب، فلا بد أني في المقطع الأخير أصيب! •••
هأنتذا قد بدأت تتقهقر؛ لأنني قد أفسدت عليك الضربة الوحيدة التي تعرفها، أوسعت لك المجال فاغتررت وهجمت، فلم تلبث أن فشلت وخذلت، ويل لك من المستقبل المظلم؛ فإني في المقطع الأخير أصيب! •••
اسأل الله رحمته وإحسانه، فها هو ذا الموت يرفرف فوق رأسك، قد سددت عليك جميع الأبواب، ولم تبق لك حيلة في دفع القضاء، قد وعدت ولا بد أن أفي بوعدي، أنني في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير أصيب!
وهنا ضربه ضربة هائلة اخترقت صدره، فسقط يترنح من وقع الضربة، وضجت القاعة بالتصفيق والتهليل، وأحاط القوم بسيرانو يباركونه ويمسحونه، وأخذت النساء تنثر عليه الورود والأزهار، وكانت روكسان أكثرهن اهتماما بالمبارزة وأشدهن سرورا بنتيجتها.
وظل الجماهير يصيحون بأصوات مختلفة: ما أشجعه! ما أشعره! إنه بطل عظيم، حادث بديع، منظر جميل، شاعر وبطل معا، لا يقول إلا ما يفعل، وقد أصابه في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير كما قال.
وتقدم نحوه السيد دارتنيان رئيس حراس الملك، ومد إليه يده وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أشكرك وأصافحك، وأقول لك: إنك أفضل مبارز رأيته في حياتي! فلم يزد سيرانو على أن ألقى عليه نظرة هادئة ساكنة، ومد يده إليه فصافحه بسكون، ثم أخذ الناس ينصرفون من القاعة تباعا، وكان الممثل مونفلوري لا يزال واقفا في الطريق العام، فظلوا يسبونه ويشتمونه كلما مروا به، ويعيرونه بالجبن والفرار، حتى إذا لم يبق في الحانة أحد قال لبريه لسيرانو: هل لك في أن نتخلف هنا قليلا أيها الصديق؛ لأني أريد أن أتحدث إليك في بعض الشئون؟ فقال سيرانو لصاحب الحانة: أتأذن لنا أن نبقى هنا هنيهة أنا وصديقي لبريه؟ قال: نعم كما تشاء يا سيدي، وسأخرج أنا وجماعة الممثلين لنتناول طعام العشاء ونتنزه قليلا، ثم نعود بعد ساعة لتهيئة الرواية المقبلة، وصاح بالخدم: أغلقوا الأبواب وأبقوا الأنوار كما هي حتى نعود، ثم انصرف هو وسائر الممثلين.
سريرة سيرانو
قال لبريه لسيرانو: وأنت، ألا تريد أن تتعشى أيضا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأني لا أملك نقودا! فقهقه لبريه ضاحكا، فدهش سيرانو والتفت إليه وقال له: مم تضحك؟ قال: تذكرت ذلك الموقف الجميل وأنت تخرج كيسك من جيبك وترمي به بكل قواك إلى بلروز وتقول له: خذ هذا أيها الرجل فهو لك. قال: ألا ترى أنها كانت حركة بديعة؟ قال: نعم، ولكنها لا تغني عن العشاء شيئا، ولا أدري ماذا تصنع بعد اليوم وأنت لا تزال في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أحسب أن أباك يرسل إليك النفقة الشهرية مرة أخرى.
وكانت فتاة المقصف واقفة على مقربة تسمع حديثهما دون أن ينتبها إليها، فتحركت حركة مسموعة، فالتفت إليها سيرانو، فمشت نحوه ووضعت يدها على كتفه، وألقت عليه نظرة عطف وحنو لو أنها ألقتها على وجه غير وجهه لظنها الناس لجمالها ورقتها نظرة حب وغرام، وقالت له: أنت ضيفي الليلة يا سيدي، وها هو ذا الطعام بين يديك، فادن من المائدة، وتناول منها ما تشاء. فقال: شكرا لك يا صديقتي، وبالرغم من أن عظمتي الجاسكونية لا تسمح لي أن أمد يدي لتناول أي شيء من أي إنسان، فإني ألبي دعوتك إبقاء على صداقتك وودك! ثم تقدم نحو المائدة، وتناول ثلاث حبات من العنب، وقرصا صغيرا، وكأسا من الماء، وقال: هذا يكفيني. قالت له: خذ شيئا آخر. قال: لا حاجة بي إلى شيء بعد ذلك إلا إلى قبلة من يدك الجميلة، فاسمحي لي بها! وتناول يدها فقبلها، ووجهها يتلهب حياء وخجلا، ثم وضع الطعام بين يديه، وهو يتمتم بصوت ضعيف ويقول: «لقمة صغيرة لا تملأ معدة طفل، وثلاث حبات من العنب لا تملأ الفم، آه ما أشد جوعي!»
ثم التفت إلى لبريه، وقال له: ماذا كنت تريد أن تقول لي يا لبريه؟ تكلم فإني مصغ إليك. قال: كنت أريد أن أقول لك: إن هؤلاء الطائشين المغرورين الذين لا حديث لهم ليلهم ونهارهم إلا حديث الطعن والضرب والمغالبة والمصارعة سيفسدون عليك عقلك ، ويهدمون نظام حياتك، ولو أنك جريت معهم في هذا المضمار طويلا لكانت عاقبتك أوخم العواقب وأردأها، سل العقلاء أصحاب العقول الراجحة، والآراء المستحصدة ماذا كان وقع حادث الليلة في نفوسهم، وخاصة في نفس رجل عاقل كيس كنيافة الكردينال؟ فقال له وكان قد انتهى من طعامه: أكان الكردينال هنا؟ قال: نعم، ولا بد أن يكون رأيه فيك سيئا جدا. قال: لا، بالعكس؛ لأنه شاعر، والشاعر يعجبه دائما أن يرى بعينيه منظر سقوط رواية ينظمها شاعر آخر. قال: ولكنك قد اتخذت لك الليلة أعداء كثيرين لا أدري ماذا يكون شأنك معهم غدا. قال: كم تظنهم على وجه التقريب؟ قال: أربعين غير النساء. قال: اذكر لي بعضهم مثلا. قال: مونفلوري، دي جيش، دي جيجي، فالفير، باور مؤلف الرواية، الممثلون، أعضاء المجمع العلمي ... قال: كفى كفى، قد فهمت، إنها نتيجة جميلة جدا، كنت أظن أن أعدائي أصغر شأنا من ذلك! فعجب لبريه لأمره، وقال له: أعترف لك يا سيرانو أنني قد عييت بأمرك إعياء شديدا، وأصبحت لا أدري إلى أين تصل بك هذه الحالة الغريبة، وتلك الأساليب الشاذة، ولا أفهم ما هي حقيقة رأيك في الحياة؟ ولا ما هي خطتك التي انتهجتها لنفسك فيها؟ فأطرق سيرانو لحظة ثم رفع رأسه وقال له: اسمع يا لبريه إن الخطط في الحياة كثيرة جدا، ومتشعبة تشعبا يحار فيه العقل، ولقد ضللت في مسالكها برهة من الزمان لا أعرف ماذا آخذ منها، وماذا أدع، حتى اهتديت أخيرا إلى أبسطها وأسهلها. قال: وما هو؟ قال: هو أن أكون موضع الإعجاب في كل شيء ومن كل إنسان. قال: فليكن ما تريد، ولكن على شرط أن تكون أفعالك أشبه بأفعال العقلاء منها بأفعال المجانين. قال: لا أستطيع أن أعرف الحد الفاصل بين العقل والجنون.
قال: هل لك أن تخبرني لم تضمر في نفسك هذا البغض الشديد لمونفلوري، وما أذكر أن الرجل أساء إليك في حياته قط؟ قال: أبغضه لأنه - وهو ذلك العتل البطين الذي لا تستطيع يده أن تصل إلى سرته - يظن نفسه رشيقا جميلا يستطيع أن يخلب قلوب النساء، ويستهوي ألبابهن بخفته ورشاقته، فإذا وقف في المسرح للتمثيل ألقى عليهن في مقاصيرهن نظرات كنظرات الضفادع، بصورة تعافها الأنفس، وتندى لها الوجوه، ولقد أضمرت له في نفسي تلك الموجدة منذ الليلة التي رأيته يجترئ فيها على أن يوجه إليها نظراته الخنفسائية البشعة، فلقد خيل إلي في تلك الساعة أن دودة قذرة سوداء قد دبت من مكانها إلى وردة نضرة ناعمة فلصقت بها، فأزعجني هذا المنظر المؤلم إزعاجا شديدا، ولم أر بدا من معاقبته على جهله وغباوته، فحكمت عليه بالانقطاع عن التمثيل شهرا كاملا. فقال لبريه: ومن هي تلك التي تريد؟ ويخيل إلي أنك عاشق يا سيرانو، فابتسم ابتسامة الممتعض المتألم، ثم تنفس تنفسة طويلة كادت تتساقط لها جوانب نفسه، وقال: نعم يا لبريه! إنني أحب حبا قاتلا لا بد أن يسوقني إلى القبر.
قال: وهل يمكنني أن أعرف من هي تلك التي تحبها؟ فإنك لم تحدثني عنها قبل اليوم. قال: أي فائدة لي من ذكرها وهي لا تحبني؟ قال: وكيف عرفت ذلك، هل فاتحتها في شيء؟ قال: وكيف يمكنني أن أفاتحها وأنا أعلم أن هذا الأنف البشع القبيح الذي أحمله يتقدمني حيثما ذهبت، وأنى سلكت، فلا يسمح لي بالطمع في قلب امرأة قبيحة شوهاء فضلا عن جميلة حسناء. قال: ألا يمكنني أن أعرف من هي؟ قال: إذا عرفت أن سيرانو لا يمكن أن يحب إلا أجمل امرأة في العالم أمكنك أن تعرف من هي؟ فصمت لبريه هنيهة وهو يفكر حتى عجز، فقال: لم أستطع أن أفهم شيئا، فهل لك أن تصفها لي؟
قال: أما هذه فنعم، هي الخطر العظيم الذي يحيط بالمرء من جميع نواحيه فلا يعرف له سبيلا إلى الخلاص منه، هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله، وجميع حواسه ومشاعره، هي الوردة النضرة الناعمة التي تكمن حية الحب السامة بين أوراقها، من رأى ابتساماتها رأى الكمال الإنساني كله، ومن رأى نظراتها رأى الدعة واللطف والرقة والعذوبة، وجميع معاني الحياة الطيبة اللذيذة في كل حركة من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها، إنها شمس تضيء الكون وتنير ظلماته، ليس في استطاعة «الزهرة» ربة الجمال، وهي جالسة فوق علياء عرشها العظيم أن تضارعها في بهائها وجلالها، ولا في استطاعة «ديانا» إلهة الحب حين تسير بخفة ورشاقة وسط الرياض الناضرة أن تحاكيها في مشيتها، وهي سائرة على قدميها الصغيرتين في مماشي بستانها. فقال لبريه: حسبك يا سيرانو، فإنك تحب ابنة عمك روكسان، ولكن لا أدري لم لا تفضي إليها بذات نفسك ما دمت تمت إليها بصلة القربى التي بينك وبينها؟ قال: ذلك ما أعجز عنه يا صديقي، فإنني رجل بائس مسكين، قضى الله علي أن أعيش في هذا العالم بلا أمل ولا رجاء، تأمل في وجهي قليلا، وانظر: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجهه البشع الدميم أن يحيا في العالم حياة الحب والغرام؟ أو أن يكون له أمل في اختلاب الأفئدة واجتذاب القلوب؟ لقد تمر بي في بعض أيامي ساعات أشعر فيها بحاجة قلبي إلى تلك الحياة الحلوة اللذيذة التي يحياها الناس جميعا، حياة الحب والغرام، فأدخل إحدى الحدائق العامة، وأمشي بين رياضها وأزهارها، وأتنسم روائحها وأنفاسها، فأنسى نفسي، ويخيل إلي أني أسبح في جو رائق صاف من العواطف والوجدانات، فإذا رأيت في ضوء أشعة القمر الفضية امرأة جميلة تمشي وحدها خيل إلي أني أستطيع أن أكون رفيقها الآخذ بذراعها، وإذا رأيت فتى وفتاة سائرين على مهل يتهامسان ويتناجيان، وتتموج أنوار الحب بينهما خيل إلي أن بجانبي رفيقة حسناء ترفرف علي وعليها هذه الأجنحة البيضاء التي ترفرف عليهما، ثم أستسلم لهذا التصورات والأفكار، وأستغرق فيها ساعة طويلة، حتى إذا وقع نظري فجأة على خيال وجهي في حائط الحديقة في ضوء القمر، عدت إلى صوابي وأفقت من غيبوبتي، ورجعت أدراجي إلى منزلي وبي من الحزن ما الله به عليم!
ثم نكس رأسه مليا وصمت صمتا عميقا كأنما يعالج في نفسه ألما ممضا، فحنا عليه لبريه وقال له: رحمة بنفسك يا صديقي! فرفع رأسه وقال: نعم، إن آلامي عظيمة جدا لا يحتملها بشر، فليت الله إذ خلقني على هذه الصورة الدميمة البشعة لم يخلق لي قلبا خفاقا، أو ليته إذ خلق لي هذا القلب الخفاق خلق له أجنحة يستطيع أن يطير بها في جو الحب كما تطير القلوب الخوافق، أما الآن فإنني أشعر أني وحيد في هذه الدنيا، لا سند لي فيها ولا عضد، ولا أنيس ولا عشير، ولا زوجة ولا ولد!
ثم عاد إلى إطراقه مرة أخرى، وأخذ يبكي ويذرف دموعا غزارا في صمت وسكون، فانزعج لبريه وأخذ بيده وقال له: أتبكي يا سيرانو؟ فانتفض ورفع رأسه وقال: لا يا لبريه، إن البكاء قبيح بمثلي، ولا يوجد في العالم منظر أقبح ولا أسمج من منظر الدمعة الجميلة، وهي سائلة على مثل هذا الأنف الضخم الطويل، لا شيء في العالم أبدع ولا أرق ولا أجمل من الدموع، وإني أضن بها أن أهينها، وأكدر صفوها وأشوه جمالها. فتأثر لبريه لمنظره تأثرا شديدا، وكاد يبكي لبكائه، ولكنه تجلد واستمسك وقال له: لا تحزن يا صديقي ولا تستسلم لهذه الأوهام، فما الحب في الدنيا إلا حظوظ وجدود، وقد يأتيك عفوا ما تظن أنه أبعد الأشياء منالا منك. قال: لا، أنت مخطئ يا لبريه، فإنه لا يجوز لي أن أطمع في حب «كليوباترة» إلا إذا كنت «قيصر»، ولا في حب «بيرنيس» إلا إذا كنت، «تيتوس».
وقال: إن الله قد وهبك من العقل والذكاء والصفات الكريمة النادرة ما يقوم لك مقام الجمال، ألم تر تلك الفتاة بائعة الحلوى، وهي تنظر إليك نظرات الحب والشغف على أثر تلك المبارزة الغريبة، التي انتصرت فيها على الفيكونت الليلة؟ كذلك كان شأن روكسان، فقد شاهدتها وهي تتبع حركاتك أثناء المبارزة باهتمام عظيم، وقلقها عليك ظاهر في اضطراب أعضائها، واكفهرار وجهها، حتى إذا انتصرت على خصمك كانت هي أعظم الناس سرورا بانتصارك، فانتعش سيرانو وهدأت نفسه قليلا، وقال: أصحيح ما تقول يا لبريه؟ قال: نعم، ولا بد أن تكون تلك الحادثة قد تركت في قلبها أثرا عظيما، فانتهز هذه الفرصة وفاتحها في شأن حبك. قال: أخاف أن تسخر مني، وهو الأمر الذي أخشاه أكثر من كل شيء في العالم.
وهنا ظهرت وصيفة روكسان داخلة من الباب الكبير، ولم تزل سائرة حتى وقفت أمام سيرانو، فدهش لرؤيتها دهشة عظيمة، وخفق قلبه خفقا متداركا، وقال: آه يا إلهي! إنها وصيفتها! وظل يرتعد ويضطرب، فانحنت الوصيفة بين يديه محيية وقالت له: إن سيدتي روكسان تسأل ابن عمها البطل الشجاع سيرانو دي بيرجراك: متى يمكنها أن تراه غدا على انفراد؛ لتحادثه في بعض الشئون؟ وأين يكون مكان الاجتماع؟ فازداد اضطرابه وارتعاده، وقال: تراني أنا؟ قالت: نعم، في المكان الذي تريده، وفي الساعة التي تراها. قال: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ قالت: إنها ستذهب غدا عند تفتح زهرات الصباح لسماع خطبة الوعظ في كنيسة «سان روك»، ففي أي مكان تحب أن تقابلها بعد خروجها من الكنيسة؟ فأرتج عليه وظل يهمهم ويتمتم، وانتشر عليه رأيه فلم يعرف ماذا يقول. فقالت له: ما لي أراك مضطربا هكذا؟ أسرع بالجواب فإنها تنتظرني. فقال بصوت خافت متقطع: إني أنتظرها في الساعة السابعة من صباح الغد في مطعم راجنو. قالت: وأين مكان هذا المطعم؟ قال: في رأس شارع سان أنريه. قالت: سأبلغها ذلك، وانحنت ثانية بين يديه وانصرفت، فظل شاخصا ببصره إلى السماء كالذاهل المشدوه، وهو يردد بينه وبين نفسه: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ إنها أرسلت إلي وصيفتها تسألني أن أقابلها على انفراد، فليت شعري ماذا تريد أن تقول لي؟ فقال له لبريه: تريد أن تقول لك: إنها تحبك، ما في ذلك ريب، ولقد تنبأت لك بذلك من قبل فلم تصدقني. قال: كيفما كان الأمر فحسبي منها أني خطرت ببالها، وأنها تعلم أن في العالم إنسانا اسمه سيرانو! قال: ما أحسبك إلا راضيا عن نفسك الآن، ولا بد أن تكون قد هدأت تلك الثورة التي كانت قائمة في نفسك. قال: لا، ما هدأت ولا فترت، بل أصبحت ثائرا جدا، وأشعر أن قوتي قد ازدادت أضعافا مضاعفة، فلو لقيت الآن جيشا كامل العدة والعدد لقهرته وحدي، ويخيل إلي أن بين جنبي عشرة قلوب، وأن في منطقتي عشرة سيوف أستطيع أن أقاتل بها جميعا في آن واحد، ولا يكفيني أن أحارب الأقزام والضاوين والجبناء، كذلك المسخ الذي حاربته الليلة، بل لا بد لي من جبابرة وعمالقة أفخر بقتالهم والفلج عليهم.
باب نيل
وكان يتكلم بصوت عال رنان، ويصرخ صرخات هائلة مزعجة تدوي بها أرجاء القاعة، كأنما خيل إليه أنه في ميدان حرب، وأنه يقاتل أولئك العمالقة والجبابرة الذين ذكرهم.
وكان الممثلون قد عادوا من نزهتهم، وأخذوا يهيئون على المسرح الرواية المقبلة، فأزعجهم صوت سيرانو وهو يصرخ، فصاح به أحدهم: ألا تزال باقيا هنا حتى الآن يا سيرانو؟ لقد أزعجتنا بضوضائك وصخبك، فاهدأ قليلا لنستطيع أن نأخذ في عملنا، فابتسم سيرانو وقال: عفوا يا سادتي، فسأترك لكم المكان مسرورا مغتبطا، وهم بالخروج، فما راعه إلا جماعة من الجنود والضباط قد دخلوا الحانة يحيطون برجل يترنح سكرا، فتأمله فإذا هو لينيير، فهرع إليه مذعورا وقال: ما بك يا صديقي؟ قال بلهجة متثاقلة: خذ هذه الورقة واقرأها، فإنها تنذرني بأن مائة رجل يكمنون لي الليلة في طريقي إلى منزلي عند «باب نيل»؛ ليقتلوني بسبب تلك القصيدة التي تعلمها، فأذن لي بالذهاب إلى منزلك لأنام فيه الليلة، فأطرق سيرانو هنيهة، وهو يهمهم قائلا: مائة رجل على رجل واحد؟ ما أجبنهم وأسفل نفوسهم! ثم رفع رأسه، وألقى على لينيير نظرة عالية مترفعة، وقال له بهدوء وسكون: لينيير! إنك ستنام الليلة في بيتك! فلم يفهم غرضه، وقال له وهو يترنح ويتمطق: ولكنك تعلم يا سيدي أنني رجل ضعيف مسكين، لا أقوى على مقاتلة هر، فمن لي بلقاء مائة رجل وحدي؟ قال: إنني أنا الذي سألقاهم وأنا الذي سأقاتلهم، فخذ المصباح من يد البواب وسر أمامي، وأقسم لك أنك ستنام الليلة في بيتك، وأنني سأمهد لك فراشك بيدي، لقد كنت أتمنى منذ هنيهة أن أقاتل جيشا كامل العدة والعدد، وها هو ذا الجيش الذي كنت أتمناه قد وافاني وحده، إنني في هذه الليلة بل في هذه الساعة على الأخص، لا يجمل بي أن أقاتل أقل من هذا العدد! فتقدم نحوه لبريه، ووضع يده على كتفه وأسر في أذنه: ألا يستطيع هذا الرجل أن ينام الليلة في غير بيته؟ وهل ترى من اللازم الحتم أن تخاطر بنفسك دفاعا عن مثل هذا الأبله المأفون!
وكان الممثلون قد نزلوا من المسرح، وأقبلوا يشاهدون الحادثة، فوضع سيرانو يده على كتف لبريه، وقال له وهو يبتسم ابتساما هادئا لطيفا: إن هذا السكير الذي لا يفيق، بل الزق الذي لا ينفد، هو أرق الناس قلبا، وأجملهم حسا، وأشرفهم شعورا، رأيته مرة وقد خرج من الكنيسة يوم الأحد، فرأى المرأة التي يحبها تتناول بيدها اللطيفة قليلا من الماء المقدس، فظل يرقبها حتى انصرفت، فهجم على الحوض الذي وضعت يدها فيه - وما على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الماء القراح - فما زال يكرع منه حتى أتى عليه، فصاحت إحدى الممثلات: ما أجمل هذه الحادثة، وما أرق هذا الشعور! فالتفت إليها سيرانو وقال لها: أليس كذلك أيتها الفتاة؟ قالت: وا رحمتاه لهذا الرجل المسكين! كيف يسمح مائة رجل لأنفسهم أن يتفقوا عليه؟ ألا تعلم ما السبب في ذلك يا سيدي؟ فلم يجبها سيرانو، والتفت إلى جماعة الجند الذين دخلوا مع لينيير، وقال لهم: هأنذا ذاهب إلى المعركة الليلية، فإن شئتم أن تكونوا معي فأنتم وشأنكم، غير أن لي عليكم شرطا واحدا فقط، هو أنكم مهما رأيتم من الخطر المحدق بي فلا يتقدم أحد منكم لمساعدتي، وليكن مكانكم مني مكان مراسلي الصحف ومندوبيها في المعارك: يشاهدونها ولا يقربونها. فقالت الممثلة: هل تأذن لي يا سيدي أن أذهب معكم حيث تذهبون؟ قال: نعم آذن لك، ولكل من أراد الذهاب منكم، فصاح الممثلون والموسيقيون جميعا: كلنا نذهب معك، فابتهج سيرانو وتهلل وجهه، وقال: يا له من موكب شائق بديع! ثم جرد سيفه من غمده وضرب به الهواء، وصاح صيحة القائد في جنده: ليتقدم الضباط، ثم الجند، ثم الممثلون، ثم الممثلات، ثم الموسيقيون وهم يعزفون بألحانهم الحماسية، وليأخذ كل منكم في يده شمعة أو مصباحا، أما أنا فإني قائدكم العام، وها هي ذي الريشة التي ناولتني إياها يد المجد والفخار ترفرف فوق قبعتي!
فأخذوا يصطفون كما أمرهم وهم يمجنون ويضحكون، كأنهم ذاهبون إلى مرقص، وهنا التفت سيرانو إلى الممثلة التي أعجبتها قصة لينيير، وقال لها: قد كنت سألتني أيتها الفتاة منذ هنيهة لم يتفق مائة رجل على رجل واحد مسكين؟ فأقول لك جوابا على ذلك: إنهم ما فعلوا ذلك من أجله، بل من أجلي؛ لأنهم يعلمون أني صديقه الذي لا يخذله، ثم أمر البواب أن يفتح الباب الكبير على مصراعيه ففعل، فتجلى أمامه منظر باريس العام في ضوء القمر الساطع، فوقف هنيهة يتأمل هذا المنظر البديع ويقول: آه! لقد طلع البدر وتلألأت أشعته، فاختفت باريس المظلمة، وحلت محلها باريس المنيرة، ها هي ذي النجوم اللامعة تسطع في سمائها، وها هي ذي أشعة القمر تسيل على منحدرات سطوحها، وها هو ذا نهر السين يرتجف تحت أبخرته البيضاء ارتجاف المرآة السحرية.
إن الطبيعة تهيئ لنا ميدانا جميلا للقتال الرهيب، فهيا بنا جميعا إلى «باب نيل».
ثم مشى، فمشى الجميع وراءه ينقلون خطواتهم على نغم الموسيقى.
الفصل الثاني
المتشاعرون
فتح راجنو طاهي الشعراء والممثلين مطعمه مبكرا كعادته، والطيور لا تزال جاثمة في أوكارها، فجلس بين يدي منضدته ينظم على ضوء المصباح قطعة شعرية في وصف «اللوزينج»، فكان يكب على أوراقه مرة ليقيد ما حضره من الأبيات، ويرفع عينيه إلى السماء أخرى ليستمد من إلهة الشعر روحها، ويستلهمها وحيها، ولم يزل على ذلك ساعة حتى بدأت الشمس ترسل أشعتها الأولى من خلال النوافذ والكوى، ودوت في المطبخ جلبة العمال وضوضاؤهم، وصلصلة الآنية والقدور، فألقى قلمه واعتدل في جلسته وتأوه آهة طويلة، ثم قال مخاطبا إلهة الشعر: وداعا أيتها الإلهة القوية القادرة، قد انقضى الليل وانقضى سكونه وهدوءه، وجاء النهار بجلبته وضوضائه، فدعيني الآن، واذهبي لشأنك غير مقلية ولا مجتواة، وموعدنا الليلة القابلة.
ثم مشى إلى المطبخ، فرأى في مدخله إناء من النحاس الأصفر قد ألقت الشمس عليه أشعتها الصفراء، فاشتد وميضه ولألاؤه، فوقف أمامه لحظة يتأمله ويقول: ها هي ذي الشمس قد استطاعت أن تصنع ما لا يصنعه الكيميائي الماهر، فقد حولت النحاس الأصفر بشعاع واحد من أشعتها إلى عسجد وهاج، ثم قال: ما أجمل هذا المعنى وأبدعه! لا بد لي من تقييده حتى لا يفلت من يدي إذا احتجت إليه، وأخرج دفتره من جيبه فقيده.
ثم وقف بأحد الغلمان وهو يشق بمدية في يده رغيفا إلى شقين. فقال له: لقد أخطأت القسمة أيها الغلام؟ فالمصراعان غير متوازنين، ورأى آخر يشوي في نصل واحد ديكا كبيرا وعصفورا صغيرا. فقال له: إنها طريقة الشاعر «مالرب» وهي لا تعجبني، فإما أن يكون البيت تاما كله، أو مجزوءا كله.
ومر بطباخ يطبخ مرقا في قدر، فتناول الملعقة وأدارها فيه ثم قال له: ما أرق هذا الحساء! إنه كالشعر المهلهل، وأنا لا يعجبني إلا الجزل المتين.
ووقف أحد العمال بين يديه وسأله: كم قيراطا تحب أن يكون ارتفاع قبة الفالوذج اليوم؟ قال: ثلاثة تفاعيل!
وتقدم بين يديه آخر حاملا على يديه صينية مغطاة بنسيج رقيق، وقال له: لقد اخترعت اليوم هذا الشكل يا سيدي، فلعله يعجبك، ثم رفع النسيج، فإذا قيثارة مصنوعة من الحلوى مغشاة بدقيق السكر الأبيض، فتهلل وجهه فرحا وصاح: فكرة شعرية جميلة لم يسبقك إليها أحد، وقد أعفيتك اليوم من العمل مكافأة لك على حسن تصورك وسمو خيالك، فاذهب لشأنك وخذ هذه القطعة الفضية واشرب بها نخب الفنون الجميلة.
دواوين الشعراء
ولم يزل يطوف بالعمال ويخاطبهم بهذا الأسلوب المضحك الغريب، وهم يتغامزون عليه ويتضاحكون من ورائه، حتى خرج فمشى إلى قاعة الطعام، فرأى زوجته «ليز» تصفف على المائدة أنواع الحلوى والفطائر والقدائد والرشارش والرقائق، وقد اتخذت أوعيتها وأكياسها من صحائف الكتب الأدبية ودواوين الشعراء التي كانت تبتاعها من الوراقين لهذا الغرض، فألقى على الأكياس نظرة حزينة مكتئبة، وقال: أهكذا تصنعين بدواوين أصدقائي الشعراء المجيدين! لقد كنت أتمنى أن أرى وجه الموت قبل أن أرى تلك الأعلاق النفيسة والجواهر المنتقاة أوعية للفطائر والحلوى في حوانيت الطهاة والحلويين؛ فوا رحمتاه للأدب! ووا أسفا عليه وعلى عهده الزاهر النضير! فألقت عليه نظرة ازدراء واحتقار، وقالت له: إننا ما أردنا إهانة دواوين أصدقائك ولا الزراية بها، ولكننا علمنا أنها لم تخلق إلا للعثة والأرضة، وأن شعاع الشمس لن يصل إلى مكامنها أبد الدهر، فأردنا أن نحتال على الناس في أمرها، فنشرناها من قبورها وقدمناها إليهم لفائف للفطائر والحلوى، علهم يلمحونها عرضا فيقرءونها، فليشكر لنا أصدقاؤك منتنا عليهم ويدنا عندهم! فاحتدم راجنو غيظا وقال لها: أيتها النملة الضعيفة، لا تهيني الثور العظيم فيصرعك بحافره صرعة لا قيامة لك من بعدها! فقالت: لعنة الله عليك وعلى جميع ثيرانك من عهد هومير إلى عهدك وتركته وانصرفت.
وما هي إلا هنيهة حتى دخل المطعم غلام صغير يطلب قرصا من الحلوى، فتناول راجنو أحد الأكياس وتأمله قبل أن يعطيه إياه، فوقع نظره على هذه الكلمة: «ولما فارق عولس بينيلوب ...» فأعاده إلى مكانه، وقال: شعر بديع لا أستطيع أن أسمح به، وتناول كيسا آخر فقرأ عليه هذا العنوان: «إلى أبولون». فقال: ولا هذا، ووضعه في مكانه، وتناول كيسا ثالثا فقرأ عليه: «إلى فيلبس». فقال: ولا هذا أيضا، وأراد أن يعيده إلى مكانه، فالتفتت إليه زوجته فخافها وأعطاه الغلام فأخذه وانصرف.
ولم يلبث أن تغفل زوجته وعدا وراء الغلام حتى أدركه في الطريق، فضرع إليه أن يرد له الكيس فارغا، فأبى الغلام إلا إذا أخذ في مقابله قرصا آخر أو أخذ القرص بلا ثمن، فرد إليه راجنو الثمن وعاد بالصحيفة فرحا مغتبطا يمسح عنها الدهن، الذي غمرها ويضمها إلى صدره ويترنم بأبياتها!
الموعد
وإنه لكذلك إذ فتح الباب فجأة ودخل سيرانو وهو مصفر الوجه شاحب اللون على أثر تلك المعركة الليلية، التي دارت بينه وبين أعداء لينيير، فسأل راجنو: كم الساعة الآن؟ قال: السادسة يا سيدي، وقدم له كرسيا فجلس عليه، ثم وقف بين يديه متأدبا متخشعا وقال له: أهنئك يا سيدي بانتصارك العظيم الذي انتصرته ليلة أمس، فلقد كانت تلك المعركة أجمل معركة حضرتها في حياتي، وسيمر بي زمن طويل قبل أن أنساها وأنسى حسنها وجمالها، فالتفت إليه سيرانو وقال: أي معركة تريد؟ قال: معركة «بوروجونيا». قال: لعلك تريد المبارزة؟ قال: نعم، أريد تلك المبارزة الغريبة التي ألفت فيها بين نغمات سيفك ونغمات شعرك تأليفا بديعا كأحسن ما يصنع الموسيقار الماهر، وارتجلت فيها ذلك الموشح الجميل الذي لم يسبقك إليه شاعر من قبلك، كأن إلهة الشعر كانت مرفرفة فوق رأسك تمدك بروحها وقوتها. فقالت ليز وهي تشير إلى زوجها: نعم يا سيدي، إنه ما زال يلهج بتلك الحادثة مذ رآها حتى الساعة، لا يفارق خيالها يقظته ولا منامه، حتى ليخيل إلي أنه قد أصابه مس من الشيطان. فقال راجنو: نعم، إنها لم تفارق خيالي قط، وما حسدت أحدا في حياتي على موقف من المواقف حسدي إياك على موقفك هذا، ثم مد يده إلى المائدة وتناول مدية طويلة وأخذ يلوح بها في الهواء مقبلا مدبرا، متقاصرا متطاولا، كأنما يمثل تلك المبارزة، ويترنم في أثناء تمثيله بهذا الشطر: «وفي المقطع الأخير أصيب، وفي المقطع الأخير أصيب» ثم يقول: ما أجمل هذه النغمة! وما أبلغ هذا الشعر! وما أمتن تلك القافية! وسيرانو ينظر إليه مدهوشا مستغربا، حتى فرغ من تمثيله. فقال له: كم الساعة الآن يا راجنو؟ قال: ست وعشرون دقيقة يا سيدي. فقال في نفسه: لم يبق على السابعة إلا القليل.
ثم وقف وأخذ يتمشى في أرجاء القاعة ذهابا وجيئة، فمر بليز وهي واقفة بجانب المائدة، فلمحت في يده جرحا داميا. فقالت له: ماذا أصابك يا سيدي؟ وما هذا الجرح الذي في يدك؟ قال: خدش بسيط لا أهمية له. فقالت: يخيل إلي أنك كنت في معركة. قال: لا. قالت: أخاف أن تكون كاذبا. قال: هل رأيت أنفي يضطرب؟ تلك هي العلامة الوحيدة للكذب في مذهبي، ثم التفت إليها وإلى راجنو وقال لهما: إنني أنتظر بعض الناس هنا، وأحب أن أكون معه على انفراد، فاتركا لي القاعة الآن، فلم يبق على حضوره إلا القليل. قال راجنو: ولكن ماذا أصنع بشعرائي يا سيدي وهم على وشك الحضور الآن؟ قال: لا بأس أن يحضروا، على شرط أن تؤذنهم بالانصراف أو بالتحول إلى غرفة أخرى عندما أشير إليك، ثم سأله: كم الساعة الآن؟ قال: ست وثلاثون دقيقة. قال: أعطني قلما وقرطاسا، فإني أريد أن أكتب، فجاءه بما أراد، فجلس على منضدة راجنو، وأمسك بالقلم وأنشأ يقول بينه وبين نفسه: ليس في استطاعتي أن أفاتحها في شيء مما أحب أن أفاتحها فيه، فخير لي أن أكتب لها كتابا أقدمه إليها بنفسي عند حضورها، ثم أتركها وأنصرف لشأني لتقرأه وحدها، وأطرق برأسه هنيهة، ثم تنفس نفسا طويلا وقال: آه! لقد كنت أظن أنني شجاع جريء لا أهاب الإقدام على أي خطر من الأخطار مهما كان شأنه، فإذا أنا جبان عاجز لا حول لي فيما يعرض لي من الخطوب ولا حيلة، ويخيل إلي أن الموت أهون علي من أن أقف أمامها وجها لوجه، وأفضي إليها بشيء مما يجيش به صدري.
ثم أكب على المنضدة وحاول أن يكتب شيئا، فازدحمت الأفكار في رأسه، وانتشرت عليه خيالاته وتصوراته، فلم يستطع أن يكتب حرفا واحدا، فألقى القلم من يده وقال: قبح الله التكلف والتعمل لولا أنها تلميذة «المدرسة القديمة»، وأنها من فريق المتأنقين المتشدقين المفتتنين بالصور والأساليب، لما وجد قلمي في طريقه ما يعترضه دون الوصول إلى الغاية التي يريدها، فالكتاب مسطور في صدري بأكمله، وليس بيني وبينه - إن أردته - إلا أن أضع قلبي بجانبي وأستمليه ما يشعر به، فيمليه علي ببساطة ووضوح، ثم تناول القلم مرة أخرى وشرع في الكتابة، فإذا صوت غليظ أجش يقعقع ناحية الباب: «صباح الخير يا ليز»، فرفع سيرانو رأسه، فإذا ضابط ضخم الجثة، هائل الخلقة، ذو شاربين كثيفين مستطيلين، فسأل راجنو: من الرجل؟ فقال: إنه ضابط من ضباط الجيش الفرنسي يسمي نفسه «الرجل الهائل»، وهو كما يزعم بطل من الأبطال المغاوير الذين لم يسمح الدهر بمثلهم في جيش من جيوش العالم، وهو صديق زوجتي ليز، ولا يأتي هنا إلا لزيارتها، فألقى سيرانو على الضابط نظرة حادة، ثم عاد إلى شأنه واستمر يكتب كتابه ويهمهم بينه وبين نفسه من حين إلى حين بأمثال هذه الكلمات: «أحبك حبا يعجز القلم عن بيانه؛ لأن القلم مادة من مواد العالم الأرضي، والحب روح من أرواح الملأ الأعلى»، «لا يرى الناس من عينيك الجميلتين سوى صفائهما ورونقهما، أما أنا فإني أستشف من ورائهما نفسك الجميلة العذبة المملوءة رقة وشعورا، فإذا قال الناس: ما أجمل عينيها وأحلاهما! قلت: ما أجمل نفسها المترقرقة في عينيها وما أصفى أديمها!» «إنني أعيش في هذا العالم عيش اليائس القانط، واليأس يقتل الفضائل في النفوس ويميتها، فأحييني بالأمل واخلقي مني إنسانا جديدا تتخذي عندي - بل عند العالم أجمع - يدا لا أنساها لك أبد الدهر، وفي اعتقادي أن ليس بيني وبين أن أكون إنسانا نافعا في المجتمع - بل نعمة على الدنيا بأجمعها - إلا أن تسبلي علي ستر حمايتك ورعايتك».
بؤس الأدباء
وظل مستغرقا في تصوراته وأفكاره التي كان يرسمها على قرطاسه، كما يرسم المصور منظرا بديعا من مناظر الطبيعة على لوحه كما يراه، لا يزخرف ولا يوشي، ولا يبتدع ولا يبتكر، فلم ينتبه إلى جماعة الشعراء حين دخلوا الحانوت هاتفين مهللين وهم في ملابسهم الزرية الغبراء، ونعالهم البالية، وقبعاتهم الممزقة. فقالت «ليز» لزوجها - وأشارت إليهم: ها هم أولاء صعاليكك وقاذوراتك يا راجنو! فلم يعبأ بها وقام لاستقبالهم والترحيب بهم، فعانقوه وحيوه، ودعوه بالزميل، والرصيف، والصديق، وبكل ما يحب من الألقاب والنعوت، وهو فرح مغتبط، فوقف زعيمهم وسط القاعة وأخذ يتشمم بأنفه ويقول: ما أذكى رائحة بلاطك يا ملك الطهاة والشوائين! فانحنى راجنو بين يديه شاكرا وقال: ما أسعد الساعة التي أراكم فيها أيها الأصدقاء الأوفياء! ثم أشار لهم إلى المائدة، فوقفوا حولها وضربوا بأعينهم في أنحائها، وظلوا يأكلون ويقصفون ويمزحون ويمجنون، فيقول أحدهم ويشير إلى قطعة من الحلوى ذات رأس مسنم: إن هذه القطعة لم تحسن وضع قلنسوتها على رأسها، فلا بد من معاقبتها! فيقول له الآخر: وبم تعاقبها؟ فيقول: بهشم رأسها، ثم يتناولها فيهشمها كلها رأسا وجسدا، وينظر آخر إلى قطعة أخرى محشوة بالقشدة، ويضغطها فتبرز قشدتها البيضاء، فيقول: ما أجملها! كأنها ثغر ضاحك فلا بد لي من تقبيله! ثم يدنيها من فمه ليقبلها فيأكلها، ويقول آخر وهو ينظر إلى قيثارة الحلوى التي صنعها ذلك العامل في الصباح وأجازه راجنو عليها: كانت القيثارة قبل اليوم غذاء الأرواح، أما اليوم فهي غذاء الأجسام! ثم ينقض عليها فيأكلها، وراجنو واقف أمامهم يبتسم ويتهلل، ويقول في نفسه: ما أجمل هذه المعاني وأبدعها! يأبى الشاعر إلا أن يكون شاعرا في كل موقف وفي كل مقام.
ثم قال: هل تأذنون لي أيها السادة أن أنشد بين أيديكم قصيدتي الجديدة التي نظمتها في وصف «اللوزينج» وسميتها باسمه؟ فصاحوا جميعا: نعم، نعم، ولا بد أن تكون قصيدة جميلة جدا؛ لأن عنوانها جميل جدا! فاغتره مدحهم وثناؤهم، فرفع عقيرته وأخذ ينشد قصيدته ويرجع في إنشادها ترجيعا مضحكا، وهم لاهون عنه بشأنهم لا يعبئون به، ولا يلتفتون إليه إلا في الفينة بعد الفينة. فقال له الرجل الهائل: ألا تراهم يا راجنو وهم يلتهمون حلواك وأنت لاه عنهم بألحانك وأغانيك؟ فمشى نحوه وانحنى عليه وألقى في أذنه هذه الكلمات: إنني أراهم أيها الغبي الأبله، ولكنني أغض الطرف عنهم رحمة بهم وإشفاقا عليهم، فهم قوم بؤساء معدمون، قلما يرون وجه الطعام الشهي إلا في حانوتي، وأظنك لا تجهل أن ضيوفي أولى بالتجلة والإكرام من ضيوف زوجتي! وكانا على مقربة من مكان سيرانو، فانتبه لكلماته الأخيرة، فرفع رأسه وقال له: ادن مني يا راجنو، فدنا منه فقال له: إنك تعجبني جدا أيها الرجل، فالشعراء في هذا العالم كالشجرة الوارفة في المهمه القفر، يفيء إلى ظلها الغادون والرائحون، وهي وحدها التي تحتمل حر الهاجرة ولظاها، فرحمة الله ورضوانه على من يحسن إليهم ويتصدق عليهم.
ثم عاد راجنو إلى شأنه الذي هو فيه، وظل الشعراء يأكلون ويقصفون، ويبتاعون ما شاءوا من فطائر راجنو وحلواه بطرفهم الأدبية وملحهم النادرة، حتى فتح الباب ودخل عليهم أحد زملائهم، وكان قد تخلف عنهم قليلا، فهللوا حين رأوه، وصاحوا بصوت واحد: لقد تأخرت أيها الصديق! قال: قد حال بيني وبين اللحاق بكم ازدحام الناس ازدحاما شديدا عند «باب نيل». قالوا: وهل حدث شيء هناك؟ قال: نعم، كان ازدحامهم على ثمانية قتلى وجدوهم هناك مضرجين بدمائهم، ولا يعلم أحد كيف قتلوا، ولا من جنى عليهم هذه الجناية الفظيعة! فانتبه سيرانو للحديث واعتدل في جلسته، وقال في نفسه: يا للعجب! كنت أظنهم سبعة فقط، إذن قد ربحنا واحدا آخر. فقال راجنو للمتكلم: وما ظن الناس بهذه الحادثة؟ قال: يقول بعضهم: إن رجلا واحدا هو الذي قام بمفرده بمقاتلة هؤلاء اللصوص، وكانوا مائة أو يزيدون، فانتصر عليهم جميعا وفرق شملهم، وقتل منهم هذا العدد الكثير، ولقد رأينا العصي والخناجر والمدى التي كانت مع أفراد تلك العصابة مبعثرة ههنا وههنا، وظل الناس يلتقطون القبعات التي طارت عن رءوس المنهزمين، من باب نيل إلى النهر، فمشى راجنو إلى سيرانو وقال له: أسامع أنت هذا الحديث يا سيدي؟ قال: نعم. قال: فما ظنك ببطل هذه الواقعة، فرفع رأسه إليه وقال: لا أعرفه، فهرعت ليز إلى صديقها «الرجل الهائل» تسأله: وأنت يا سيدي؟ فابتسم وفتل شاربيه وغمز بعينيه وقال: أظنني أعرفه.
وكان سيرانو قد أتم كتابه وأراد أن يوقع عليه، ثم توقف وقال: لا لزوم للتوقيع؛ لأنني سأقدمه إليها بنفسي، ثم طواه ووضعه في صدره، ونهض قائما على قدميه، وهتف براجنو فأسرع إليه، فسأله: كم الساعة الآن؟ قال: ست وخمسون دقيقة. فقال في نفسه: لم يبق إلا عشر دقائق، وأخذ يتمشى في القاعة ذهابا وجيئة، وكانت ليز وصديقها الضابط جالسين على انفراد في أحد أركان القاعة، فخيل لسيرانو أنه رأى بينهما شيئا مريبا، فدنا منهما ووضع يده على كتف المرأة وقال لها: يخيل إلي أيتها السيدة أن هذا البطل الجالس بجانبك يدبر خطة للهجوم على حصنك! فانتفضت وتظاهرت بالغضب، وقالت له: ماذا تقول يا سيدي؟ إن نظرة واحدة مني تكفي لهزيمة من يحاول ذلك. قال: ولكني أرى عينيك ذابلتين متضعضعتين تلوح عليهما علائم الانكسار! فاضطربت وحاولت أن تقول شيئا فخانها صوتها، فصمتت. فقال لها: أيتها الفتاة، إن راجنو يعجبني جدا؛ لذلك لا أسمح لأحد أن يعبث بشرفه أمامي! ثم التفت إلى الضابط فنظر إليه نظرة شزراء، وقال: ولقد سمع من كانت له أذنان! أليس كذلك أيها «الرجل الهائل»؟
ثم تركهما واستمر في سبيله، فهمست «ليز» في أذن صديقها تقول له: إنك تدهشني جدا يا صديقي، ولا أعلم سببا لسكوتك وصمتك، حتى ليخيل إلي أنك تخافه وتخشاه، قل له كلمة تؤلمه وتكسر من شرته، أو اسخر من أنفه على الأقل، فإنه موضع الضعف منه، فنظر إليها ذاهلا مشدوها وقد سرت في جسمه رعدة شديدة، وقال: أنفه؟ لا، لا، ما لنا وللسخرية بمصائب الناس وأرزائهم؟ ثم تسلل من مكانه وخرج من القاعة فتبعته، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة، فصاح سيرانو: قد جاء الميعاد يا راجنو، فهتف راجنو بشعرائه: هيا بنا أيها الأصدقاء إلى الحجرة الثانية، فتباطئوا وتلكئوا؛ فظل يدفعهم بيديه وهم يتخطفون الحلوى ويتناهبونها، حتى أدخلهم الحجرة وأغلق بابها عليهم، ووقف سيرانو على مقربة من باب المطعم ينتظر قدوم روكسان ويقول في نفسه: لا أعطيها الكتاب إلا إذا رأيت في وجهها بارقة أمل.
اللقاء
وهنا سمع حفيف ثوب مقبل، فخفق قلبه خفقانا شديدا، ثم فتح الباب ودخلت روكسان ووراءها وصيفتها، وهي تخطر في مشيتها تلك الخطرة البديعة التي عرفت بها، وافتتن بها الناس من أجلها، وقد أسبلت قناعها على وجهها، فحيته، فحياها تحية محتشمة تترجح بين الأدب والكبرياء، وأشار لها إلى كرسي قد أعده لها فجلست عليه، ثم تركها وذهب إلى الوصيفة، وكانت واقفة على عتبة الباب تقلب نظراتها في صنوف الأطعمة المنتشرة على المائدة. فقال لها بلهجة المازح المداعب: أشرهة أنت أيتها الفتاة ؟ قالت: نعم يا سيدي، فمشى إلى المائدة، وتناول كيسين من أكياس الحلوى وقال لها: هاك قصيدتين بديعتين للشاعر العظيم «بنسراد»، فخذيهما، فلم تفهم ما يريد، وقالت: وماذا أصنع بهما؟ قال: قد اتخذتهما «ليز» كما اتخذت غيرهما من قصائد الشعراء المجيدين أكياسا للحلوى وأوعية للفطائر، فخديهما واجلسي خارج الباب، فإنك ستجدين فيهما من ألوان الحلوى ما تشتهين، ولا تعودي إلا بعد أن تشبعي، فتلألأ وجهها فرحا وسرورا، وتناولت الكيسين وعادت أدراجها.
ورجع سيرانو إلى روكسان، فوقف بين يديها حاسر الرأس، وقال لها: لقد أسديت إلي يا سيدتي بزيارتك هذه نعمة لا أنساها لك مدى الدهر، وإني أفتخر بهذه الثقة التي أوليتنيها، وأنتظر بكل شوق سماع ما تريدين أن تفضي به إلي، فحسرت قناعها عن وجهها، فأضاء ضوء القمر الساطع في الدجنة الحالكة، وقالت له: شكرا لك يا ابن عمي، إنك قد أحسنت إلي ليلة أمس إحسانا عظيما بقتلك ذلك الفتى الوقح الجريء، الذي حاول أن يعبث بك ويستهين بكرامتك، فغضبت لنفسك غضبة الأبي الأنوف، ولم ترم مكانك حتى غسلت بدمه أثر الإهانة التي لحقت بك، أتعرف هذا الفتى يا سيرانو؟ قال: لا يا سيدتي. قالت: أبارزته دون أن تعرف اسمه؟ قال: نعم. قالت: إنه الفيكونت «فالفير» الذي أراد أحد المغرمين بي من عظماء هذا البلد - وهو الكونت دي جيش - أن يزوجني منه على الرغم مني زواجا لا أعرف كيف أسميه؟ قال: زواجا اسميا! فأطرقت برأسها حياء وخجلا، وقالت: نعم. فقال لها: ما أفظع ما تقولين! لقد أصبحت الآن راضيا عن نفسي كل الرضا في تلك الخطة التي انتهجتها معه، والتي انتهت بانتهاء حياته، بعد ما علمت أنني إنما كنت أقاتل في سبيلك لا في سبيل نفسي، وأذود عن عينيك الجميلتين لا عن أنفي، فاستضحكت وأشارت له إلى كرسي بجانبها، فجلس عليه صامتا ساكنا ينتظر ما تقول.
وساد السكون بينهما هنيهة، ثم أقبلت عليه وقالت له: كنت أريد أن أقول لك كلمة أخرى يا سيرانو، فهل تسمح لي بها؟ قال: نعم، أسمح لك بكل شيء، فقولي ما تشائين. قالت: أتذكر تلك الأيام الماضية التي قضيناها معا ونحن صغيران في «بيرجراك»، في تلك المروج الخضراء على ضفاف البحيرة؟ فانتعشت نفسه وخفق قلبه خفقانا شديدا، وقال: نعم يا ابنة عمي، أيام كنت تأتين هناك مع أبويك لقضاء فصل الصيف في كل عام. قالت: إني أذكر تلك الأوقات الجميلة كأنها حاضرة بين يدي، وأذكر تلك الأعواد الشائكة التي كنت تقتطعها بيديك من أشجار الغاب، وتتخذ منها أسيافا صغيرة تلعب بها في الهواء، كأنك تبارز أشباحا خفية تتراءى لك. قال: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، وأذكر أنك كنت تجمعين أعواد الذرة من الحقل، ثم تجلسين على ضفة البحيرة لتتخذي من خيوطها شعورا ذهبية لعرائسك الجميلة. قالت: نعم، ما كان أجمل تلك الأيام! وما كان أسعد ساعاتها! وما كان أحلى مذاق العيش فيها! لقد كان يخيل إلي في ذلك الوقت أني صاحبة السلطان المطلق عليك، وأنك تحبني حبا شديدا، وتهتم بشأني اهتماما عظيما، بل تأتمر بأمري في كل ما أشير به عليك، وتنزل عند جميع رغباتي وآمالي، وأظن أني كنت جميلة في ذلك الحين، أليس كذلك؟ فازداد خفقان قلبه، وخيل إليه أنه يرى بين شفتيها ظل تلك الكلمة العذبة التي يتلهف شوقا إلى سماعها من فمها، فرفع رأسه ونظر إليها نظرة باسمة عذبة، وقال: نعم يا سيدتي، كما أنت الآن! قالت: وكنت كثير الشغف بتسلق الأشجار الشائكة والمخاطرة بنفسك في ذلك مخاطرة عظيمة، فكنت إذا أصابك جرح في يدك هرعت إليك وعطفت عليك عطف الأم الرءوم على ولدها، وأخذت يدك بين يدي هكذا، ومدت يدها إلى يده فجذبتها إليها، فوقع نظرها على ذلك الجرح الدامي الذي أصابه في معركة الليل، فدهشت وقالت: ما هذا يا سيرانو؟ ثم ابتسمت وقالت: ألا تزال تتسلق الأشجار حتى الآن! فضحك وقال: نعم، لا أزال أحب اللعب حتى الآن، ولقد لعبت ليلة أمس لعبة شيطانية عند «باب نيل»، سفكت فيها من دم أعدائي فوق ما سفكوا من دمي أضعافا مضاعفة.
ثم حاول أن يسترد يده، فأمسكت بها وقالت له: لا، بل لا بد أن تدعها لي الآن حتى أرى الجرح وأسبره كما كنت أفعل في عهد طفولتي، وأعالجه بالطريقة التي كنت أعالج بها جروحك من قبل، ثم أخرجت منديلها من صدرها، وغمست طرفه في قدح من الماء، وظلت تمسح به الجرح برفق وتؤدة، وتقول له: هكذا كنت أعالج جروحك التي كانت تصيبك من تسلق الأشجار الشائكة في عهد طفولتك الأولى، وهو يرتعد بين يديها ويضطرب من تأثير ملامسة جسمها لجسمه، ويقول: نعم يا روكسان، إنها رحمة لا تكون إلا في قلوب الأمهات. قالت له: قل لي: كم كان عدد أعدائك الذين قاتلتهم في تلك المعركة؟ قال: مائة أو يزيدون. قالت: مائة! يا للشجاعة النادرة! قال: وربما كنت لا تعلمين أنها المرة الثانية التي قاتلت فيها من أجلك في ليلة واحدة! قالت: من أجلي؟ لم أفهم ما تريد. قال: نعم؛ لأنني إنما كنت أدافع عن ذلك الشاعر المسكين الذي انتصر لك، وذاد عنك ومثل بخصمك أقبح تمثيل في قصيدته التي هجاه بها، فحقدها عليه ودس له هؤلاء الرعاع ليقتلوه في جنح الظلام. قالت: ما أعظم شكري لك يا ابن عمي! وما أكبر شأن تلك النعمة التي أسديتها إلي! حدثني حديث الواقعة من مبدئها إلى منتهاها، فلا بد أن تكون واقعة غريبة جدا لم يسطر التاريخ مثلها. قال: سأحدثك عنها فيما بعد، أما الآن فحدثيني أنت عن ذلك الأمر الذي جئتني من أجله، والذي لم تجرئي على أن تفاتحيني فيه حتى الآن. قالت وهي لا تزال آخذة بيده تمسحها وتستغثها: أما وقد ألقينا نظرة على ماضينا الجميل، وجددنا عهد تلك الذكرى القديمة، وعلمنا أن الصلة التي بيننا صلة وثيقة محكمة لا تنال منها يد الدهر، ولا تأخذ منها عاديات الأيام، فاسمح لي أن أفضي إليك بسري، وأن أقول لك بصراحة: إنني عاشقة يا سيرانو! فتلألأ وجهه وانتعشت نفسه، ومشت رعدة خفيفة في أجزاء جسمه، وكاد منظره ينم عما في نفسه، لولا تجلده واستمساكه، وقال لها: ومن هو هذا الإنسان السعيد الذي يتمتع بنعمة حبك؟ قالت: إنه لا يعلم شيئا مما أضمره له في قلبي حتى الآن، ولم أفض إليه بسريرة نفسي حتى الساعة، وسيكون سروره عظيما جدا حينما يعلم أن الفتاة التي يحبها ويموت وجدا بها تضمر له بين جوانحها من الوجد فوق ما يضمر لها! فازداد سروره وانتعاشه، وقال: ألا تستطيعين أن تقولي لي من هو يا روكسان؟ قالت: سأصفه لك لتكون أول ناطق باسمه: هو شاب خجول شديد الحياء، يحبني حبا يملك عليه كل حواسه ومشاعره، ولكنه يكتم سره في صدره. قال: وكيف وقفت على سريرة نفسه؟ قالت: عرفتها من ارتجاف شفتيه، واكفهرار وجهه، وتدله نظراته كلما رآني. قال: ثم ماذا؟ قالت: وهو ذكي نبيه، تلوح على وجهه علائم التفوق والنبوغ، فأطرق برأسه حياء، وحاول أن يجتذب يده من يدها، وكانت قد انتهت من تضميدها. فقالت له: دعها لي الآن، فهي لا تزال ملتهبة بالحمى، فتركها لها وهو يقول في نفسه: ما أسعدني وأعظم هنائي!
واستمرت في حديثها تقول: وهو فوق ذلك شجاع مقدام، شريف النفس، عالي الهمة، يأبى الضيم ويأنف الذل، ولا يبيت على ضيم يراد به. قال: هيه؟ قالت: وهو جندي في فصيلة شبان الحرس، أي في فصيلتك يا سيرانو؛ فهمهم بين شفتيه: لم يبق في الأمر ريب. قالت: أما صورته فهي أجمل صورة خلقها الله في العالم! فصعق عند سماع هذه الكلمة التي ذهبت بجميع آماله وأحلامه، وتأوه آهة شديدة كادت تخرج فيها نفسه، فعجبت لأمره وقالت له: ماذا أصابك يا سيرانو؟ فتراجع إلى نفسه سريعا، واستجمع من قواه في تلك اللحظة ما يعجز أشجع الرجال وأصبرهم عن استجماعه فيها، وقال: لا شيء، لقد أحسست بوخز في يدي من تأثير الحمى، وقد ذهب الآن كل شيء، وصمت لحظة، ثم قال: نعم قد ذهب كل شيء، فتحدثي فإني مصغ إليك. قالت: لقد أحببت هذا الفتى حبا ملك علي عواطفي واستغرق مشاعري، ولا عهد لي به إلا منذ أيام قلائل، كنت أراه فيها يختلف إلى قاعة التمثيل، فيجلس منفردا وحده، فأنظر إليه من بعيد؛ وقد جئتك الآن أتحدث إليك في شأنه، فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه إليها وقال لها بصوت ساكن هادئ: ألم تتحدثي إليه قبل اليوم؟ قالت: لم نتخاطب إلا بالعيون. قال: وكيف عرفت جميع هذه الصفات التي ذكرتها فيه وما حادثته ولا جلست إليه؟ قالت: سمعتها منذ أيام تحت أشجار الزيزفون في الميدان الملكي في مجتمع العجائز الفضوليات، لا حرمنا الله ثرثرتهن وفضولهن! قال: وهل هو من فرقة الشبان؟ قالت: نعم، شبان الحرس قال: أعترف لك يا سيدتي أنني قد عجزت عن معرفة اسمه، فقولي من هو؟ قالت: هو «البارون كرستيان دي نوفييت» قال: لا أذكر أني سمعت بهذا الاسم قبل اليوم. قالت: إنه لم يدخل الفرقة إلا في هذا الصباح، تحت قيادة «كاربون دي كاستل جالو».
فصمت هنيهة، ثم نظر إليها نظرة عطف وحنو وقال لها: ولكن يخيل إلي يا روكسان أنك تخاطرين بقلبك في هذا الحب مخاطرة عظيمة لا تدرين ما عاقبتها، وأنك تلقين بنفسك في هوة لا تعرفين السبيل إلى الخلاص منها، وكانت الوصيفة قد فرغت من طعامها في هذه اللحظة، فدفعت الباب وأطلت برأسها وقالت: قد أكلت كل شيء يا سيدي، فماذا أصنع؟ فالتفت إليها وقال: حسبك ذلك، فاقرئي ما على الأكياس من الأشعار، ولا تعودي إلا إذا دعوتك، فانصرفت وعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: أنت يا ابنة عمي فتاة رقيقة الشعور، ذكية الفؤاد، لا يعجبك إلا التفوق والنبوغ، ولا تأنس نفسك إلا بالذكاء الخارق والفطنة النادرة، فماذا يكون شأنك غدا لو أن ذلك الفتى الذي أحببته واصطفيته لنفسك كان بليدا، أو عييا، أو ضعيف الذهن، أو خامل الفكر؟ قالت: لا يمكن أن يكون كذلك! قال: لماذا؟ قالت: لأن منظر شعره الذي يشبه في صفرته ولمعانه منظر شعر أبطال «أورفيه»، يدل على نبوغه وذكائه! قال: ربما كان جميل الشعر بديع الصورة، ولكنه بليد الذهن، ضيق العطن. قالت: لا أظن ذلك، بل يخيل إلي - وإن لم أجلس إليه ولم أسمع حديثه - أنه أرق الناس حديثا، وأعذبهم سمرا، وأفصحهم لسانا، وأغزرهم بيانا. فقال في نفسه: نعم، كل الألفاظ جميلة ما دام الفم الذي ينطق بها جميلا، ثم قال لها: ولكن ماذا تصنعين لو تبين لك أنه جاهل أحمق؟ قالت: إذن أموت هما وكمدا. قال: هذا الذي أخاف عليك منه.
وصمت هنيهة وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لها! إنها على شفا الهاوية، ثم قال لها: وفي أي شأن من شئونه تريدين أن تتحدثي إلي؟ قالت: قد علمت بالأمس أمرا أحزنني جدا وأقلق مضجعي، فلم أطعم الغمض ساعة واحدة. قال: وما هو؟ قالت: علمت أن جنود فصيلتكم جميعهم من الجاسكونيين الجفاة، وأنهم لا يحبون أن يدخل فصيلتهم غريب عنهم، فإذا دخل ناوءوه وشاكسوه حتى يخرجوه! وربما تعللوا عليه العلل فبارزوه وقتلوه، ففطن لغرضها، وقال: نعم إنهم يفعلون ذلك، ولهم الحق فيما يفعلون، وخاصة إذا كان هذا الواغل عليهم أحد أولئك الأغبياء الجهلاء الذين ينتظمون في سلك الفرقة من طريق الشفاعات والوصايات، لا من طريق الكفاءة والاستحقاق. قالت: ذلك ما جئتك من أجله، فقد أعجبني موقفك الشريف الذي وقفته ليلة أمس أمام ذلك الفتى الوقح البذيء الذي حاول أن يهزأ بك، وينال من كرامتك، وامتلأ قلبي ثقة بما كنت لا أزال أعرفه لك طول حياتك من الشجاعة والحمية، وعلو الهمة وإباء الضيم، فأتيت إليك أسألك أن تتولى كرستيان بحمايتك.
فصمت سيرانو لحظة ذهبت نفسه فيها كل مذهب، وتمثلت له روكسان في صورتين مختلفتين، وقد وقفت إحداهما بجانب الأخرى: صورة امرأة عاشقة مستهترة تريد أن تسخره في غرض من أغراضها الغرامية، وتطلب إليه أن يضع يده في تلك اليد التي قتلته، وأتلفت عليه نفسه، وأن يكون صديقا لذلك الفتى الذي حرمه سعادته وهناءه وقطع عليه سبيل حياته، ووقف عقبة بينه وبين آماله وأمانيه، وصورة امرأة مسكينة ضعيفة من أقربائه وذوي رحمه، قد نزلت بها نكبة من النكبات العظام، ففزعت إليه فيها تسأله أن يعينها عليها، ثقة منها بفضله وكرمه، وهمته ومروءته، وهي لا تعلم من شئون قلبه شيئا، ولا تدري أن هذا الذي تفزع إليه فيه إنما هي نفسه التي بين جنبيه، وحياته التي لا يملك في يده حياة غيرها!
ثم ما لبث أن رأى الصورة الأولى تتضاءل في نظره وتتصاغر حتى تلاشت واضمحلت، وظلت الثانية ثابتة في مكانها بارزة واضحة، تنظر إليه نظرة الضراعة والاسترحام، وتبسط إليه يد الرجاء والأمل، فالتفت إليها وقد هبت من بين أردانه رائحة الكرم، وقال لها بصوت قوي رنان لا تتخلله رنة الحزن، ولا تمازجه نغمة اليأس: «كوني مطمئنة يا روكسان، فإني سأتولى حمايته!» وما علم أنه قد نطق في نطقه بهذه الكلمة بحكم الموت على نفسه.
فقالت له: شكرا لك يا ابن عمي، فسأعتمد على وعدك ما حييت. قال: اعتمدي ما شئت. قالت: وكن صديقه الوفي الذي يأخذ بيده في جميع شدائده ومخاطره. قال: بل أصدق أصدقائه. قالت: وحل بينه وبين التعرض لأخطار المبارزات والمشاجرات. قال: إنه لن يبارز أبدا. قالت: أتقسم لي؟ قال: لا؛ لأني ما تعودت الكذب، فتلألأ وجهها فرحا وسرورا وقالت: الآن يمكنني أن أنصرف آمنة مطمئنة، شاكرة لك فضلك الذي لا أنساه أبدا، ثم تناولت برقعها فألقته على وجهها وهي تقول: إنك لم تتمم لي حديث الواقعة التي جرحت فيها، فحدثني عنها قليلا، يا للعجب! مائة رجل كانوا ضدك؟ إنك كفء لكل عظيمة يا ابن العم! لا تنس أن تقول له: أن يكتب إلي اليوم كتابا، حدثني حديث الواقعة يا صديقي، مائة رجل؟ يا للشجاعة النادرة؟ إن كرستيان لا يعلم أني أحبه حتى الساعة، فكن أول من يحمل إليه هذه البشرى، وقل لي: كيف استطعت أن تلقى وحدك هذا العدد الكثير، أو قل لي ذلك فيما بعد؛ لأنني تأخرت كثيرا، ولا بد لي من الذهاب الآن!
ثم نهضت ومدت إليه يدها، فقبلها. فقالت: إلى اللقاء يا ابن العم، إني أنتظر من كرستيان كتابا اليوم، ثم انصرفت.
فوقف على عتبة الباب يشيعها بنظراته، حتى غابت عن عينيه، ثم عاد يترنح هما وحزنا، حتى وصل إلى كرسيه فتهافت عليه وهو يقول: إنها تعجب لشجاعتي في تلك المعركة، وأنا في هذه الساعة أشجع مني في كل موقف وقفته في حياتي!
وكان راجنو قد أحس بخروج روكسان، فأطل من باب الحجرة، فرأى سيرانو جالسا جلسته تلك، فصاح به: أيمكننا الرجوع الآن يا سيدي؟ قال: نعم، فأشار إلى أصدقائه الشعراء، فدخلوا جميعا، ودخل في تلك الساعة نفسها من باب المطعم «كاربون دي كاستل جالو»، قائد فرقة الحرس، وهو يهدر بصوت كالرعد: قد عرفنا كل شيء يا سيرانو، وإني أهنئك من صميم قلبي بذلك النجاح العظيم الذي أحرزته ليلة أمس على أعدائك المائة! فنهض سيرانو متضعضعا، وانحنى بين يدي قائده وقال: شكرا لك يا سيدي. فقال: ما لي أراك شاحبا مصفرا؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ يخيل إلي أنك قد لقيت في تلك المعركة عناء عظيما! قال: نعم يا سيدي. قال: إن ورائي ثلاثين جنديا من أبناء فرقتك قد اجتمعوا في تلك الحانة المقابلة لهذا المطعم، وهم يريدون تهنئتك والاحتفال بانتصارك، فاذهب إليهم وقابلهم، ثم قال: لا، بل لا بد أن يأتوا هم إليك بأنفسهم ليهنئوك، تكرمة لك وإعظاما لشأنك، ثم وقف على عتبة باب المطعم، وصاح بأعلى صوته: أيها الأصدقاء، إن البطل لا يستطيع الحضور إليكم؛ لأنه تعب قليلا فاحضروا أنتم إليه، وما هي إلا هنيهة حتى أقبل الجنود الثلاثون يزلزلون الأرض بخفق نعالهم وصلصلة أسلحتهم، ويطمطمون بلغتهم الجاسكونية: سانديوس - ميل ديوس - كاب ديوس - مور ديوس - بوكاب ديوس، ثم دخلوا، ففزع راجنو عند رؤيتهم، لما هاله من طول قاماتهم وضخامة أجسامهم، وقال لهم: أكلكم أيها السادة جاسكونيون؟ فأجابوا جميعا بصوت واحد: نعم، كلنا، ثم اندفعوا نحو سيرانو يقبلونه ويعانقونه، ويهزون يده ويهتفون: ليحي البطل، لتحي جاسكوينا، ليحي الجيش، وهو يتململ في نفسه ويتبرم؛ ولكنه كان يبتسم في وجوههم ويستقبل تهانئهم له بالشكر والارتياح.
وكان خبر تلك المعركة قد انتشر في أنحاء باريس جميعها، فوفد جمهور عظيم من الناس إلى المطعم ، يتقدمهم «لبريه» صديق سيرانو، وهم يصيحون: ليحي البطل، لتحي فرنسا، ثم دخلوا جميعا يركضون ويتدافعون، ويحطمون كل شيء بين أيديهم، وراجنو واقف مكانه يتأمل هذا المنظر الغريب بسرور وارتياح، ويقول: وا طرباه! ها هو ذا الفن يتوج اليوم في مطعمي! حتى بلغوا مكان سيرانو، فداروا به يهنئونه ويقبلونه، وكلهم يناديه: أيها الأخ، أيها الصديق، أيها الزميل، فيقول في نفسه: وا عجبا لكم أيها الناس! لم يكن لي بالأمس بينكم صديق، واليوم كلكم أصدقائي!
ووقفت في تلك الساعة مركبة فخمة أمام باب المطعم، ونزل منها ثلاثة من الأشراف، فدخلوا الحانوت، وظلوا يدفعون الناس أمامهم دفعا حتى دنوا من سيرانو، فوضع أحدهم يده في يده وشد عليها بقوة، وقال له: آه لو كنت تدري يا صديقي مقدار سروري بك وبنجاحك! فالتفت إليه سيرانو غاضبا، وقال له: ما أنا بصديقك يا سيدي؛ لأنني ما عرفتك قبل اليوم! وقال له الآخر: إن بعض السيدات ينتظرنك في مركبتهن أمام الباب ليهنئنك بانتصارك، فلو تفضلت بمرافقتي إليهن لأقدمك لهن! فقال له: وكيف تسمح لنفسك يا سيدي أن تقدمني إلى غيرك قبل أن تقدم نفسك إلي؟ وقدم إليه الثالث كأسا من الخمر وقال له: اشرب معي يا سيدي نخب بأسك وشجاعتك، فالتفت إليه وقال له: يخيل إلي يا سيدي أنك أشجع مني؛ لأنك قدمت إلي شيئا قبل أن تعلم ما رأيي فيه، ثم دفع الكأس عنه بقوة فهراقها، وجاءه أحد مراسلي الصحف وقد أمسك بيمينه قلما وبيسراه قرطاسا، وقال له: قص علي حديث واقعتك أيها الفارس البطل لأنشره في جريدتي، فنظر إليه شزرا وقال له: إنني لم أقاتل من أجلك يا سيدي، ولا من أجل جريدتك، بل من أجل صديقي لينيير، فتململ لبريه من خشونته وجفائه، وكان جالسا على مقربة منه، فجذبه من ثوبه وقال له همسا: ما الذي أصابك يا سيرانو؟ وما هذه الخشونة التي تستقبل بها أصدقاءك الذين يهنئونك ويمجدونك؟ فقال له: لا تصدق كل ما تراه يا لبريه، فليس لي في العالم صديق سواك .
وإنهم لكذلك إذ ساد السكون وانقطعت الضوضاء، وانفرج الجمهور صفين متقابلين خاشعين مستكينين، وإذا الكونت دي جيش القائد الفرنسي العظيم قد أقبل يجرر أذياله، ويسدد أنفه إلى كبد السماء عظمة وخيلاء، ووراءه كثير من الأشراف ورجال الجيش، حتى توسط القاعة، فوقف ونادى: أين سيرانو؟ فالتفت سيرانو فرآه، فدهش وقال في نفسه: لعله جاء أيضا ليهنئني، ولئن فعل لتكونن أعجوبة الأعاجيب، ثم أجابه وهو واقف مكانه لا يتحرك ولا يحتفل: هأنذا يا سيدي. قال: أقدم إليك تهنئتي الخاصة، وأبلغك أن جناب القائد العام المارشال «دي جاسيون» قد أمرني أن أبلغك تهنئته لك، وثناءه عليك، وإعجابه بك، واغتباطه بعملك العظيم الذي قمت به ليلة أمس، وأضفت به إلى سجل الشجاعة الفرنسية صفحة من أشرف الصفحات وأمجدها، ولقد كان في شك من صحة الخبر، لولا أن أقسم له بعض الضباط الذين صحبوك ليلة أمس إلى «باب نيل» أنهم شاهدوا الحادثة بأعينهم، فرفع سيرانو نظره إلى الكونت بهدوء وسكون، وقال له: لا شك أن للمرشال قدما راسخة في الفنون الحربية وأساليبها، ومثله من يقدر أقدار الرجال، فبلغه شكري، فدهش الناس لجوابه الخشن الجافي، وطاش عقل لبريه حتى كاد يتفجر غيظا وحنقا، إلا أنه تماسك وتجلد وهمس في أذنه: إن هذا لا يليق بك مطلقا، قل له كلمة أجمل من هذه ردا على تحيته، واستقبل الصنيعة بمثلها، فصمت سيرانو هنيهة، ثم قال له بصوت خافت: دعني يا لبريه فإنني لا أطيق أن أشكر رجلا جاء لتهنئتي بانتصاري عليه! فقال له: يخيل إلي أنك متألم يا صديقي، فانتفض سيرانو وقال: أنا! لا، أتظن أنني أتألم أمام أحد مهما برح بي الهم وأمضني، أو أسمح لعدو من أعدائي أن يشمت بي ويرى بعينيه منظر بؤسي وشقائي؟ انتظر قليلا فسوف ترى، وكان الكونت قد جلس على كرسيه المعد له جلسة العظمة والكبرياء؛ فالتفت إلى سيرانو وقال له بنغمة الساخر الهازئ: إن تاريخك يا مسيو سيرانو حافل بالحوادث والوقائع، ويخيل إلي أنني رأيتك في فرقة هؤلاء الجاسكونيين الشياطين، أليس كذلك؟ فصاح الجاسكونيون جميعا: نعم هو في فرقتنا، ولنا بذلك الفخر العظيم، فالتفت الكونت إليهم، وقلب نظره في وجوههم وهم وقوف بجانب قائدهم «كاربون دي كاستل جالو»، وقال: أكل هؤلاء الذين تلوح عليهم مخايل العظمة الكاذبة جاسكونيون؟ فهتف كاربون بسيرانو وقال له: تفضل أيها البطل الباسل بتقديم فرقتي بالنيابة عني إلى حضرة القائد العظيم.
فمشى سيرانو نحو الكونت خطوتين، وأخذ يقدم إليه الفرقة بموشح بديع ارتجله في الحال، وضمنه الثناء عليهم والتنويه بفضلهم والإشادة بذكرهم حتى أتمه، فأعجب الكونت ببداهته وحضور ذهنه، وقال في نفسه: إن اصطناع شاعر مجيد كهذا الشاعر مفخرة عظمى لمن يصطنعه، وليس من الرأي أن يفلت مثله من أيدينا، ثم استدناه منه وقال له: أتحب أن تكون لي يا سيرانو؟ فانتفض وقال: لا يا سيدي، ولا لأي إنسان! قال: إن خالي الكردينال «ريشلييه» كثير الإعجاب بك وبأدبك، ويحب أن يراك، فإن شئت قدمتك إليه، ولقد قيل لي: إنك نظمت منذ عامين رواية تمثيلية جميلة لم توفق إلى تمثيلها حتى اليوم، فلو أنك ذهبت بها إليه، ورفعتها له لعرف لك فضلك فيها، وأحسن جزاءك عليها، كما أحسن من قبلك إلى غيرك من الكتاب والشعراء، فهمس لبريه في أذن سيرانو: لقد آن لروايتك «أجريبين» أن تمثل فليهنئك ذلك، فلم يلتفت إليه سيرانو، وقال للكونت بنغمة الساخر المتهكم: أحق ما تقول يا سيدي؟ قال: نعم، والرجل كما تعلم أديب بارع، راسخ القدم في النقد الأدبي، وسينظر في روايتك هذه نظر الناقد البصير، وربما أجرى فيها قلم تهذيبه وتنقيحه، فجاءت آية الآيات في حسنها وجمالها. فاكفهر وجه سيرانو وتفصد جبينه عرقا، وقال للكونت: ذلك مستحيل يا سيدي، وإن دمي ليجمد في عروقي عندما أتخيل أن إنسانا في العالم يحدث نفسه بتغيير حرف واحد من قصيدة من قصائدي، وما أنا في حاجة إلى الاستعانة على أدبي بأحد من الناس كائنا من كان! قال: ولكنك تعلم أنه إذا أعجبه بيت من الشعر دفع ثمنه غاليا، قال: نعم، أعلم ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يبذل فيه ثمنا مثل الذي بذلته؛ لأنني إنما أسكب فيه دم قلبي حارا، ودم القلب أغلى قيمة من الفضة والذهب. قال: إنك أبي النفس يا سيرانو. قال: نعم، وقد كان جديرا بك أن تفهم ذلك من قبل.
وهنا دخل رجل يحمل على يديه قبعات كثيرة قذرة، كان قد وجدها في ميدان المعركة عند «باب نيل»، من آثار الفارين والمنهزمين، فألقاها بين يدي سيرانو، وقال له: ها هي ذي أسلاب المعركة التي تركتها احتقارا لها وازدراء بها، قد حملتها إليك؛ لا لأنها تستحق عنايتك والتفاتك؛ بل لأنها دليل قاطع على جبن أعدائك ونذالتهم، فضحك الجمهور طويلا وظلوا يهتفون: قبعات الهاربين! قبعات الهاربين! وقال سيرانو وهو ينظر خلسة إلى وجه الكونت: ليت شعري من هو ذلك الجبان النذل الذي جرد مثل هذا الجيش السافل ليحارب به شاعرا مسكينا؟ ما أحسبه الآن إلا خزيان نادما، يتمنى أن لو انفجرت الأرض تحت قدميه، فهوى في أعماقها أبد الآبدين! فصاح الجمهور من كل ناحية: لا شك في ذلك، فارتعد الكونت غيظا، واربد وجهه، وصاح بصوت أجش كهزيم الرعد: ماذا تقولون؟ أنا الذي جرد هذا الجيش السافل كما تقولون؛ لأنني أردت تأديب ذلك الرجل الوقح البذيء، ولا يتولى تأديب سافل دنيء مثله إلا سفلة أدنياء، فقهقه سيرانو ضاحكا، وأخذ يجمع القبعات بحد سيفه، ثم دفعها تحت قدمي الكونت وقال له: إذن يمكنني يا سيدي أن أكلفك برد هذه القبعات إلى أصدقائك.
فثار الكونت من مكانه غاضبا، ونظر إلى سيرانو نظرة ملتهبة ينبعث الشرر من جوانبها، وقال له: هل قرأت أيها الرجل «دون كيشوت»؟ قال: نعم، قرأته وأنا حاسر الرأس إعجابا بذلك البطل الشريف. قال: أتذكر من قصصه قصة الطواحين الهوائية؟ فانحنى سيرانو وقال: نعم، «في الباب الثالث عشر». قال: ما رأيك فيمن يحاول مهاجمة تلك الطواحين أو اعتراض سبيلها؟ ففطن سيرانو لما أراد، وقال: ما كنت أظن أن أعدائي طواحين هوائية تذهب مع كل ريح. قال: إنها تمد أذراعها الطويلة لتتناول بها من يجسر على مقاومتها وتقذف به في الهوة العميقة. قال: أو الكوكب العالي! فصاح الكونت: مركبتي وخدمي! فابتدر الأشراف تنفيذ أمره، وظلوا يتراكضون ويتدافعون كأنهم بعض الخدم، وما هي إلا لحظات حتى حضرت المركبة، فخرج الكونت وخرج بخروجه جميع الأشراف والنبلاء، من حضر منهم معه، ومن حضر قبل ذلك، لا يحيون سيرانو ولا يدنون منه، ولا يرفعون أنظارهم إليه - مصانعة للكونت ومداهنة - فمشى وراءهم سيرانو يشيعهم إلى الباب، وهو يقول لهم: ماذا دهاكم يا أصدقائي؟ ما لكم تعرضون عني وتفرون مني؟ ما لكم لا تودعون البطل الذي جئتم الساعة لتهنئته وتكريمه؟
وما زال يشيعهم بأمثال هذه الكلمات حتى ركبوا جميعا مركباتهم وانصرفوا، فعاد إلى مكانه الأول وهتف بلبريه، فلباه فاستدناه منه واحتضنه إلى صدره وقال له: ألم أقل لك أيها الصديق: إنه ليس لي في العالم صديق سواك؟
نفس الشاعر
نكس لبريه رأسه مليا، ثم نظر إلى سيرانو نظرة حزينة مكتئبة، وقال له: قل لي أيها الصديق: ماذا أعددت لنفسك من الوسائل غدا للخلاص من هذه الهوة العميقة التي قذفت بنفسك فيها؟ واسمح لي أن أقول لك: إنك قد جننت جنونا لا أدري كيف يتركونك بعده خارج المارستان، أليس كل ما تستطيع الذود به عن نفسك في سلوك هذه الخطة العسراء أن تقول لي - كما تقول كل يوم: إنك تحب أن تعيش حرا مستقلا في حياتك، لا يسيطر عليك أي مسيطر من القيود والتقاليد؟ فليكن لك ما تريد، ولكن هل تستطيع أن تنكر أنك مغال متطرف؟ إنني لا أطلب إليك شيئا سوى أن تعترف لي بذلك، فابتسم سيرانو وقال له: إن كان هذا هو كل ما يرضيك فإني أعترف لك به، فتهلل لبريه فرحا وقال له: آه! لقد اعترفت أيها الصديق، فلزمتك الحجة التي لا قبل لك بدفعها. قال: إنني لا أنكر يا لبريه أنني رجل مغال متطرف كما تقول، ولكن في سبيل المبدأ والفكرة، والتطرف قبيح في كل شيء إلا في هذا السبيل، قال: ولكنك في حاجة إلى شيء من حسن السياسة وسعة الصدر، ولين الجانب؛ لتستطيع أن تصل إلى المجد الذي تحبه وتتعشقه.
فاستوى سيرانو في مكانه جالسا، وقد ظللت جبينه سحابة سوداء من الهم، واستحالت صورته إلى صورة مريعة مخيفة، وقال: ماذا تريد مني يا لبريه؟ وما هي الخطة التي تحب أن ترسمها لي لأنفذ من طريقها إلى المجد الذي تتحدث عنه، وتزعم أنني أتعشقه وأصبو إليه؟
أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيم من العظماء أو نبيل من النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مئونة عيشي، ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها، فيكون مثلي مثل شجرة «اللبلاب»، لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتص مادة حياته، بدلا من أن تعتمد في حياتها على نفسها؟ ذلك ما لا يكون.
أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواق مناديا عليها: من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء، وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفسا بذمتها وضميرها وعواطفها، ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء؟
أتريد أن أنصب نفسي سخرية في الأندية الخاصة والمجتمعات العامة، ألعب كما يلعب القرد، وأنطق كما تنطق الببغاء، وأتلون كما تتلون الحرباء رجاء أن أجد التفاتة من عيني أمير، أو أرى ابتسامة على شفتي وزير؟
أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوس من كثرة الانحناء! وأن تتهدل أجفاني من كثرة الإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقة سميكة من كثرة السجود والجثي بين يدي العظماء؟
أتريد أن يكون لي لسانان: لسان كاذب أمدح به ذلك الذي اصطنعني واجتباني، ولسان أعدد به عيوبه وسيئاته؟ وأن يكون لي وجهان: وجه راض عنه؛ لأنه يذود عني ويحميني، ووجه ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟
أتريد أن أقضي حياتي كلها واقفا وسط دائرة واحدة أثب فيها وأطفر، وأتطاول بعنقي ليتوهم الناس أني طويل، وما أنا بطويل؟ أو أن أتخذ لي بوقا ضخما فيه ليتوهم السامعون أني جهوري الصوت، وما أنا إلا نافخ في بوق؟
أتريد أن أسير سفينة شعري في العالم بأذرع العظماء والكبراء بدلا من المجاذيف التي أنحتها بفأسي، وبشعور «الدوقات» الغانيات بدلا من الأشرعة التي أنسجها بيدي، وبتنهدات الأميرات العاشقات بدلا من الرياح الجارية التي يسخرها الله لي؟ أتريد أن أجعل حياتي الأدبية تحت رحمة المقرظين والناقدين، والراضين والساخطين، فإن شاءوا رفعوني إلى علياء السماء، وإن شاءوا هووا بي إلى أعماق الجحيم؟
ذلك ما لا يكون، والموت أهون علي من ذلك.
أريد أن أعيش حرا مستقلا، لا أخشى أحدا، ولا أهاب شيئا، لا يعنيني تهديد الجرائد التجارية الساقطة، ولا يفرحني أن تنشر الصحف الكبيرة اسمي بالأحرف الضخمة في أكبر أنهارها، ولا أبالي أتداول الناس قصائدي وتدارسوها، ورنت نغماتها في أرجاء المسارح أم بقيت في كسر خزانتي أقرؤها بنفسي لنفسي، وأتغنى بها في ساعات وحشتي وخلوتي!
أريد أن أعيش حرا مطلقا، أضحك كما أشاء وأبكي كما أريد، وأحتفظ بنظري سليما، وصوتي رنانا، وخطواتي منتظمة، ورأسي مرتفعا، وقولي صريحا، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد علي منه فذاك، وإلا تركته غير آسف عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلا من أن أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرظوه، والممثلين أن يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.
أحب ألا أنظم من الشعر إلا ما يجود به خاطري، وألا أنظم إلا بالطريقة التي أريدها أنا، لا التي يريدها الناس لي، وألا أمتع نظري إلا بمنظر الأزهار التي أغرسها بيدي في حديقتي، فإن قدر الله لي منزلة في الحياة فلن أكون مدينا بها لأحد غيري، ولن يكون فخرها عائدا إلا علي وحدي، ولا أسمح لأحد من الناس - كائنا من كان - أن يرفعني، بل لا بد لي من أن أرفع نفسي بنفسي.
أريد أن أعيش حرا طليقا، أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقا أولئك، ولا خاشيا هؤلاء.
إن العبد المقيد بقيود الإحسان والنعم، لا يمكن أن يكون حرا طليقا، فليعفني الناس من أياديهم وصنائعهم؛ لأني لا أحب أن أكون عبدا لهم، ولا أسيرا في أيديهم.
وآخر ما أقول لك: إني أفضل أن أعيش ممقوتا مرذولا عند الناس على أن أعيش ذليلا مستعبدا لهم، ولا أحب أن أرتفع ارتفاع الزيزفون والسرو إذا كانت اليد التي ترفعني غير يدي، وحسبي من الرفعة والشرف أن أنال منها نصيبي الذي قسم لي قدر ما تسمح به قوتي ومواهبي، لا أزيد على ذلك شيئا.
فقال له لبريه: عش بنفسك وحيدا كما شئت، ولكن لا تكن عدوا للجميع.
قال: ربما أكون مغاليا في ذلك، ولكن ما دعاني إلى المغالاة في المعاداة إلا مغالاة معشر المتكلفين، والمتعملين في المصادقة والموالاة، وتصنعهم في اجتذاب الخلان والأصدقاء، وما بغض إلي التواد والتحاب إلا بغضي لتلك الابتسامات الباردة الثقيلة التي تنفرج عنها شفاههم كلما قابلوا صديقا أو عدوا، شريفا أو وضيعا، كريما أو لئيما، حتى أصبحت لا أحب شيئا في العالم حبي لبغض الناس إياي، ولا أكره شيئا كرهي لحبهم لي، وتوددهم إلي.
هذا هو عيبي الوحيد الذي لا أعرف لنفسي عيبا سواه، ولكنه عيب يعجبني جدا ويلذ لي كثيرا، وإنك لا تستطع أن تدرك مقدار ما أجده من اللذة والغبطة في نفسي عندما أسير في طريقي فأراه مملوءا بنظرات البغض، ملتهبا بنيران الحقد، وأرى نفسي محاطا بنطاق محكم من قلوب الساخطين والناقمين.
أما الشتائم التي أسمعها، واللعنات التي تصوب إلي، فهي أشبه الأشياء عندي بذلك البرد المتساقط الذي يتناثر من الجو على ردائي، ثم ينزلق عنه إلى الأرض فأدوسه بقدمي.
إن الصداقة الباردة المتفككة التي يسعى وراءها الناس أشبه شيء بالياقة الإيطالية اللينة، التي تتهدل حول العنق، فيتهدل العنق معها، فهي وإن كانت لينة مريحة إلا أنها رخوة مهلهلة ليست لها مسكة ولا قوام.
أما العداوة فهي الدرع الفولاذية الصلبة التي تدور بالجسم فتحفظ كيانه وقوته، وتمنعه عن أن يضعف أو أن يخور، وكل عدو جديد هو حلقة جديدة في تلك الدرع القوية المتينة.
فقال لبريه: إنني لم أرك في حياتي راضيا عن البغض مثل اليوم، وإن نفسي تحدثني بأن كارثة من الكوارث العظيمة قد نزلت بك فأثارت هذه الخواطر في نفسك.
فاضطرب سيرانو وخفت صوته، وهدأت تلك الزوبعة التي كانت ثائرة في نفسه، وقال: ماذا تقول يا لبريه؟ قال: أظن أنك قد عرفت منها عندما قابلتها أنها لا تحبك، فأنت ناقم على الحب، راض عن البغض، فنكس رأسه وصمت صمتا طويلا لا يقول فيه شيئا، ففهم لبريه كل شيء.
المعركة النفسية
وفي هذه اللحظة دخل المطعم البارون كرستيان يختال في حلته الجميلة، ورونقه الشائق البديع، ورأى أبناء فرقته مجتمعين، فتقدم لتحيتهم فلم يعبئوا به، وحاول أن يداخلهم ويتحبب إليهم كما هو شأن أبناء الفرقة الواحدة عندما يجتمعون في مكان واحد، فانقبضوا عنه، وتسللوا من جواره، فلم ير بدا من أن ينتبذ مكانا قصيا، ويجلس فيه وحده، فلم يقنعهم ذلك منه حتى أرادوا إزعاجه وإقلاقه، وكان من شأنهم - كما حدثت روكسان عنهم - أنهم لا يحبون أن يدخل فرقتهم غريب عنهم، عصبية لأنفسهم، واحتفاظا بجامعتهم، والجنوبيون في فرنسا ينظرون دائما إلى الشماليين بعين البغض والازدراء، ويسمون ترفهم ونعومتهم ضعفا وجبنا، فمشى أحدهم إلى سيرانو وقال له وهو يغمز كرستيان بعينه: قد كنت وعدتنا يا سيدي منذ هنيهة أن تقص علينا حديث الواقعة التي انتصرت فيها ليلة أمس على أعدائك الشماليين الجبناء، فحدثنا ذلك الحديث الآن؛ ليكون درسا تهذيبيا لهذا الفتى الشمالي المتأنث، وأشار إلى كرستيان، فانتفض كرستيان غضبا، والتفت إلى المتكلم وقال له: ماذا تقول؟ وكان سيرانو مشتغلا بمحادثة صديقه لبريه، وكان يفضي إليه بشأنه مع روكسان، فلم يشعر بشيء مما حوله، فتركه الفتى ومشى إلى كرستيان، فوقف أمامه وقال له: عندي نصيحة لك أيها السيد أحب أن أقدمها إليك؛ لتنتفع بها في مستقبل حياتك معنا، فألقى عليه كرستيان نظرة ازدراء واحتقار، وأشاح بوجهه عنه. فقال له الفتى: أترى هذا الرجل ذا الأنف الكبير والسحنة المخيفة الجالس هناك؟ إن ههنا كلمة لا يجوز لأحد النطق بها أمامه مطلقا، كما لا يجوز النطق بكلمة الحبل في بيت المشنوق، وأحب أن لا يفوتك العلم بها ضنا بحياتك، فعجب كرستيان لأمره، ورفع رأسه إليه وقال: أي كلمة تريد؟ قال انظر إلى وجهي تفهم معناها، فإنني لا أستطيع النطق بها، ثم وضع أصبعه على أنفه وهو يتلفت ويتحذر. فقال له: أتريد كلمة الأن ...؟ فقاطعه الفتى وقال: صه! إياك أن تتمها فيسمعها فيكون فيها هلاكك، فلم يرفع كرستيان طرفه إليه أنفة وكبرياء، فتقدم نحوه فتى آخر وقال له: ولا بد لك أن تعلم أيضا أن أحدا من الناس لا يحدث نفسه بمناوأة هذا الرجل أو مخاشنته، إلا إذا كان من رأيه أن يلاقي حتفه قبل نهاية أجله، ثم وقف به آخر وقال له: احذر الحذر كله من أن تنطق على مسمع منه بهذه الكلمة أو ما يشبهها، لا تصريحا ولا تلميحا، ولا كناية ولا تعريضا، فقد قتل في الأسبوع الماضي رجلا أخنف؛ لأنه ظنه يتخانف هزءا به وسخرية، وقتل آخر منذ يومين؛ لأنه أخرج منديله من جيبه وأدناه من أنفه!
وهكذا ظلوا يتقدمون نحوه واحدا بعد آخر، ينذرونه ويتوعدونه، ويهمسون في أذنه بكلمات مختلفة، ويشيرون بين يديه بإشارات غريبة، تهويلا عليه وإرهابا له، وهو صامت ساكن، لا يرفع طرفه إليهم، حتى برم بهم، فنهض من مكانه بهدوء وسكون، ومشى إلى «كاربون دي كاستل» قائد الفرقة وهو جالس على كرسيه، فوقف بين يديه وقال له: ماذا يصنع الإنسان يا سيدي القائد إذا رمت به المقادير بين جماعة من الجنوبيين الوقحاء، وهم لا يزالون يشاكسونه ويناوئونه، ويستثيرون غيظه وحفيظته بسفاهتهم ووقاحتهم؟ فأجابه القائد ببساطة غير محتفل به ولا مكترث: يبرهن لهم على أنه، وإن كان شماليا فهو شجاع مثلهم، فانحنى كرستيان بين يديه، وقال: سأفعل ما أشرت به يا سيدي، وعاد إلى مكانه الأول.
وكان سيرانو قد فرغ من حديثه مع لبريه واعتدل في جلسته، فهرع إليه الجنود من كل ناحية وأحاطوا به، وقالوا: الحديث يا سيرانو، فاتجه إليهم وأنشأ يقص عليهم قصته، ويقول:
تقدمت نحوهم وحدي منفردا ، وكان القمر يلمع في قبة السماء لمعان القطعة الفضية في رمال الصحراء؛ ثم لم يلبث أن غشيته سحابة دكناء، فصار الظلام حالكا مدلهما، لا يستطيع المرء أن يرى فيه أبعد من ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفه.»
فدهش القوم، واصفر وجه سيرانو وتهالك في نفسه، ثم صرخ بصوت كهزيم الرعد قائلا: من هذا الرجل؟ وهم بالهجوم عليه ليفتك به. فقال له أحد الجنود: هو رجل شمالي دخل فرقتنا صباح هذا اليوم، فجمد سيرانو في مكانه ذاهلا، ومر بخاطره كلمح البصر حديث روكسان. فقال: صباح هذا اليوم! وما اسمه؟ قال: يزعم أن اسمه البارون كرستيان دي نوفييت، فتضعضع سيرانو وتخاذل، وشعر أن نفسه تتسرب من بين جنبيه، وقال: آه، إنه هو، ثم استحالت صورته إلى صورة مرعبة مخيفة، وظلت أطرافه ترتجف ارتجافا شديدا، فتهافت على كرسي بجانبه، وصمت صمتا عميقا لا حس فيه ولا حركة، ثم أخذ يعود إلى نفسه شيئا فشيئا حتى هدأ، فألقى نظرة على الجنود المحيطين به، وقال لهم: ماذا كنت أقول لكم؟ آه لقد تذكرت، كنت أقول: إن الظلام في تلك الساعة كان حالكا جدا، حتى إن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى أبعد مما تحت قدميه.
وتوقف عن إتمام كلامه؛ لأنه تذكر مقاطعة كرستيان إياه عند وصوله إلى هذه الكلمة، فوثب من مكانه وثبة النمر الجائع، وهجم عليه هجمة ما كان عند الحاضرين ريب في أنها تحمل في طياتها الموت الأحمر، وهو يطمطم بلهجته الجاسكونية مورديوس - ميل ديوس، ولكنه لم يبلغ مكانه حتى جمد أمامه جمود التمثال فوق قاعدته، وظل يزفر زفيرا متتابعا، ثم تراجع بهدوء وسكون إلى مكانه الأول، والقوم يتبعونه بأنظارهم ويعجبون لأمره، ويقولون في أنفسهم: ما له يقدم ثم يحجم! وما الذي يبدو له فيتراجع بعد اندفاعه!
وما هي إلا هنيهة حتى هدأ وسكن، وعاد إلى حديثه يقول: وكنت أعلم أنني مقدم على خطر من أعظم الأخطار، وأنني إنما أحارب في الحقيقة رجلا عظيم الجاه والسلطان، لو شاء أن يسحقني بقدمه كما يسحق السائر النملة الدارجة في طريقه لفعل، بل لو شاء أن يضعني بين ...
فقاطعه كرستيان وقال: «منخريه.»
فاهتز سيرانو في كرسيه يمنة ويسرة، وغلى دمه في رأسه غليان الماء في مرجله، ولكنه لم يتوقف، بل استمر في حديثه يقول: ... بين شدقيه لما حال بينه وبين ذلك حائل؛ لأنه صهر الكردينال، والكردينال هو كل شيء في فرنسا، ومرت بي ساعة ضعف كنت أقول فيها لنفسي - وهنا نظر إلى كرستيان كأنه يخاطبه - إنك قد عرضت نفسك أيها الرجل المسكين بتهورك وجنونك للهلاك الذي لا بد لك منه، ووضعت أصبعك بين الشجرة ولحائها، وليس بكثير على رجل قاس مستبد كهذا الرجل أن يرغم ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفك.»
فتصامم سيرانو، وكأنه لم يسمع شيئا، وقال: ... إرادتك على ما يريد، ولكنني تجلدت واستمسكت، ولم أعبأ بهذه الاعتبارات جميعها، وقلت في نفسي: سر أيها الجاسكوني الحر، وامض في سبيلك قدما، لا تحفل بشيء مما يعترض طريقك، وقم بواجبك الذي حملت عبئه وعاهدت نفسك عليه، كما يفعل الحر الشريف، وبينا أنا أفكر في ذلك، إذ لمحت شقيا من أولئك الأشقياء يهيئ لي في هذا الظلام الحالك المدلهم ضربة قوية، فما هو إلا أن لمحتها حتى رغت منها بأسرع من ضربة السيف، فأفسدتها عليه، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي في الحال وجها لوجه ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أو أنفا لأنف.»
فزأر سيرانو زئيرا مخيفا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح: «يا لصواعق السماء ورجومها!»
فذعر القوم وأيقنوا بالشر، وأتلعوا إليه أعناقهم لينظروا ماذا يفعل، فلم يفعل شيئا، بل استمر في حديثه يقول: وجدت نفسي أمام مائة من الغوغاء الساقطين، تنم ثيابهم البالية وأزياؤهم القبيحة عن حقارتهم وسفالتهم، وتتصاعد من أردانهم القذرة روائح كريهة تملأ ... فقاطعة كرستيان وقال: «الأنف.»
فانفجرت شفتاه عن مثل ما تنفرج عنه شفتا الليث، ولكنه لم يلتفت إليه، واستمر يقول: تملأ الجو وتزهق النفس، فلم أتردد لحظة واحدة في الهجوم عليهم، ففتكت باثنين منهم، ثم أتبعتهما بثالث، وإذا بأحدهم يصوب إلي سهما ...
فقاطعه كرستيان وقال: «أنفيا.»
فلم يستطع على ذلك صبرا، وهب من مكانه هبوب العاصفة، وصرخ صرخة عظيمة: اخرجوا من هنا جميعكم ودعوني مع هذا الرجل وحدي!
ففروا من وجهه جميعا يستبقون الباب ويتراكضون، ويهمس كل منهم في أذن صاحبه: إنها وثبة الأسد ما في ذلك ريب، وراجنو يقلب كفيه حزنا وأسفا، ويقول: وا أسفا عليك أيها الفتى المسكين! ما أحسبها إلا لمحة الطرف حتى أراك قطعا متناثرة على مائدتي.
فلما خلا المكان بسيرانو وصاحبه، ظلا يتناظران ساعة في صمت وسكون، لا يفوهان بحرف واحد، وكرستيان ينتظر وقوع الكارثة، ويتأهب لها تأهب الجريء المقدام، ثم ما لبث أن رأى سيرانو يتقدم نحوه رويدا رويدا حتى وقف أمامه، ووضع يده على عاتقه، فارتعد كرستيان ارتعادا خفيفا، وبينا هو ينتظر عاصفة من الشر تهب عليه، إذ سمعه يناديه بنغمة لطيفة هادئة، ويقول له: سيدي كرستيان؟ فرفع طرفه إليه، فرآه باسما متطلقا، فعجب لأمره وقال له: ماذا تريد يا سيدي؟ قال: أريد أن أعانقك وأقبلك أيها الصديق، فتعال إلي، فظل كرستيان ينظر إليه نظرا حائرا متضعضعا، لا يفهم من أمره شيئا. فقال له سيرانو: تعال إلي وقبلني فإني أخوها، وقد بعثتني برسالة إليك فاستمعها، فازدادت حيرة كرستيان، ولم يفهم ما يريد، وقال له: أخو من يا سيدي؟ قال: أخو الفتاة التي تحبها. قال: أي فتاة تريد؟ قال: روكسان! أأنت أخوها؟ وظل يقلب نظره في وجهه كأنه يفتش عن وجه الشبه بين الأخوين فلا يجده، ففطن سيرانو لغرضه وقال: أخوها تقريبا، أي ابن عمها، فتلألأ وجه كرستيان سرورا، وقال: وهل حدثتك عني؟ قال: نعم. قال: وهل أخبرتك أنها تحبني؟ قال: ربما، فازداد سروره واغتباطه وقال له: ما أجمل هذه البشرى التي جئتني بها يا سيدي! وما أعظم شكري لك! فابتسم سيرانو وقال: ما أغرب عواطف النفوس، وما أسرع تقلباتها! فقال: اعف عني يا سيدي فقد أسأت إليك. قال: وما رأيك في تلك الأنفيات التي رميتني بها منذ هنيهة؟ قال: إنني أستردها جميعها وأجثو تحت قدميك معتذرا عنها، معتمدا على كرمك وإحسانك !
قال: الآن أستطيع أن أقول لك: إنها اعترفت لي بأنها تحبك حبا شديدا وشريفا، وتضمر لك في قلبها من الوجد مثل ما تضمر لها، وقد كلفتني أن أقول لك: إنها تنتظر منك اليوم كتابا. قال: وا أسفاه يا سيدي، ذلك ما لا أستطيعه. قال: ولم؟ قال: لأنني رجل عاطل من جميع المواهب والمزايا، لا أملك حلية من حلي الدنيا غير حلية الصمت، فإن عطلت منها هلكت وافتضحت! قال: عجبا لك، ألا تستطيع أن تكتب كتابا؟ قال: لا؛ لأني عيي بليد! قال: إنك مغال جدا، وحسبك من الذكاء أنك تعرف مقدار نفسك، على أن أسلوبك في مقاطعتي ومغايظتي يدل على أنك لم تحرم فضيلة الشجاعة والذكاء!
قال: أستطيع أحيانا أن أكون شجاعا إذا كان الحديث بيني وبين رجل، أما المرأة فإني أضعف الناس منة بين يديها. قال: ولكنك جميل، والجمال قوة يستمد منها اللسان فصاحته وبيانه. قال: لا أنكر أن لنظراتي تأثيرا خاصا على النساء، وأنني ما مررت بهن إلا استثرت بجمالي إعجابهن ودهشتهن، ولكنني أذوب حياء وخجلا إذا جلست إليهن أو جمع الحديث بيني وبينهن، وربما استطعت في بعض الأحيان أن أتحدث إليهن في بعض الشئون العامة التي لا يتحامى فيها أحد أحدا، حتى إذا وصلنا إلى حديث الحب كان الموت الأحمر أهون علي من أن أنطق بحرف واحد فيه! قال: إني لأعجب لأمرك جدا يا كرستيان، ويخيل إلي أنني لو كان لي مثل حظك في الجمال لأحسنت الكلام في الحب. قال: ويخيل لي أنا أيضا أنني لو كان لي مثل حظك في الفصاحة لاستطعت الكلام فيه. قال: ليتني أستطيع إذا جلست إلى النساء أن أستثير بجمالي إعجابهن ودهشتهن. قال: وليتني أستطيع إذا جلست إليهن أن أسترعي ببياني أسماعهن.
وصمت كرستيان لحظة، ثم قال: ولقد حدثوني عنها أنها فتاة ذكية متفوقة، تتعشق في الرجال الذكاء والفطنة قبل أن تتعشق فيهم الحسن والجمال، فماذا يكون شأني معها إذا كتبت إليها كتابا، فقرأته فلم تر بين سطوره إلا عيا وركاكة وضعفا واضطرابا ؟ فقال وهو يصعد نظره في وجهه ويصوبه، ويعجب بجماله ووضاءته: يخيل إلي يا كرستيان أنك لو أعرتني جمالك، أو لو أني أعرتك لساني، لتألف منا إنسان تام المواهب والمزايا! قال: نعم، ما في ذلك ريب. قال: ألا تتمنى أن تكون ذلك الإنسان؟ قال: نعم، أتمنى أن أكونه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن في استطاعتي أن أنفخ فيك روح الفصاحة وأنفث في صدرك سحرها، فإذا أنت أجمل الناس وأذكاهم معا! قال: لا أستطيع أن أتصور ذلك إلا إذا زعمت أنك من الساحرين. قال: ما في الأمر سحر ولا مخرقة، حدثني عن نفسك أولا، هل تعجز عن حفظ ما يلقى إليك من الجمل والكلمات، وإن لم تفهم معناه؟ قال: لا، فإن ذاكرتي قوية جدا، ولكنها كذاكرة الببغاء: تنقل ولا تعقل مما تنقل شيئا، وأظن أني قد فهمت غرضك الآن، وإني لأعجب أشد العجب من اهتمامك بهذا الأمر الاهتمام الشديد، ومن إلحاحك في تلمس الوسائل للوصول إليه هذا الإلحاح كله، كأنه شأن من شئونك الخاصة التي تعنيك.
قال: سأفضي إليك بسر المسألة، فاستمع لما أقول: إن روكسان ابنة عمي وصديقتي، ورفيقة صباي وطفولتي، ليس لها في العالم من صديق ولا معين سواي، ويهمني جدا أن أراها سعيدة في حياتها، هانئة في عيشها، لا يكدر عليها مكدر من عوادي ونكبات الأيام، ولا أكتمك أني أخاف عليها الخوف كله أن تحل بها في هذا الحب الذي اختارته لنفسها نكبة من النكبات العظام، أو فاجعة من الفواجع الجسام تقضي عليها وعلى آمالها، وما أحسبك تتمنى لها إلا ما أتمناه، أو تضمر لها في نفسك إلا العطف الذي أضمره لها، خصوصا أن الصلة التي بينكما ستتحول طبعا إلى عشرة زوجية طويلة، لا يقطع حبلها إلا الموت؛ لذلك أردت أن نتعاقد يدا واحدة على إسعادها وترفيه عيشها، وحماية ذلك الحب في قلبها، وحراسته من أن تغشاه غاشية من وساوس اليأس أو خيبة الأمل، أنت بحسنك وجمالك، وأنا بفصاحتي وبياني، تسمع صوتي ولكن من فمك، وتحس بروحي ، ولكن في جسمك، وتشرب عواطفي ولكن من كأسك، وتطرب لنغماتي ولكن من قيثارتك، أي إنني أتقمص في جسمك، وأتسرب بين حنايا ضلوعك، وأكمن في قرارة نفسك، فنستحيل - نحن الاثنين - إلى شخص واحد، أو تصبح أنت كل شيء، وأصبح أنا لا شيء، وما دامت سعادتها في الحياة تتوقف على أن ترى بجانبها إنسانا يجمع في نفسه بين موهبتي الفصاحة والجمال، فليتألف مني ومنك ذلك الإنسان الذي تريده وتتمناه، ولا تقل: إننا نخدعها بذلك أو نغترها، فإنا لا نريد بما نفعل إلا سعادتها وهناءها، هذا هو الغرض الذي أرمي إليه، ولا أرمي لغرض سواه.
فارتجف كرستيان وقال: إنك تخيفني جدا يا سيرانو، ويخيل إلي أن عقلي يحاول الفرار مني دهشة وعجبا، فإنك تقترح علي أمرا ما سمعت بمثله في حياتي! قال: إنك مغال يا كرستيان، والمسألة بسيطة جدا، ألم تقل لي منذ هنيهة إنك تخاف إن جالستها أو تحدثت إليها أن تملك وتجتويك فتموت عواطف الحب في قلبها، فما الذي يريبك مني وأنا لا أريد إلا ما تريد؟ ولا أرمي إلا إلى بقاء عاطفة الحب حية في قلبها نامية، فتتمتع أنت بعطف الفتاة التي تحبها، وأتمتع أنا بسعادة الصديقة التي أجلها وأحترمها وأحرص على راحتها وهدوئها. قال: وهل تشعر في نفسك أنك سعيد بذلك؟ فانتفض سيرانو انتفاضة خفيفة لم يشعر بها كرستيان، وقال بصوت خافت: سعيد! وصمت لحظة، ثم قال بصوت متهدج مرتعش: نعم سأكون سعيدا يا كرستيان؛ لأنني شاعر، والشاعر ممثل بفطرته؛ يلذ له دائما أن يلبس ثوبا غير ثوبه، ويتراءى في صورة غير صورته، فيمثل دور المجنون وهو عاقل، ودور الشجاع وهو جبان، ودور السعيد وهو شقي، ودور العاشق الولهان، وما في قلبه ذرة واحدة من الحب والغرام، فاسمح لي أن أمثل دور العاشق الولهان، فهو الدور الذي يلذ لي تمثيله أكثر من غيره، وكن أنت المسرح الذي أمثله عليه، وأخطر في أرجائه جيئة وذهوبا، كن اللسان وأنا الفكر، كن الجسم وأنا الروح، كن الجمال وأنا العقل، كن الزهرة وأنا العطر، كن العين وأنا النور المنبعث منها، كن القلب وأنا حبته الكامنة فيه، فلا تكتب إليها إلا ما أمليه عليك، ولا تحدثها إلا بما ألقنك إياه، وليكن ذلك سرا بيني وبينك لا تعرفه روكسان ولا يعرفه أحد من الناس.
فهدأ كرستيان وسري عنه، واستقر في نفسه أن الرجل صادق فيما يقول، ولكنه لو استطاع أن يفهم الحقيقة كما يفهمها بقية الناس لأدرك أن سيرانو عاشق مثله لتلك الفتاة التي يحبها، وأنه لما أخفق في حبه وساء حظه فيه، وعجز عن أن يفضي إلى حبيبته بذات نفسه وسريرة قلبه وجها لوجه، أراد أن يتخذ منه بوقا يهتف في جوفه بأناته وزفراته؛ لتصل إلى آذانها فتسمعها من حيث لا تراه ولا تشعر بمكانه، لا يرجو من وراء ذلك غرضا ولا غاية سوى أن يرفه عن نفسه بعض همومها وآلامها بالمناجاة والشكوى، كما يرفه المريض عن نفسه آلامه وأوجاعه بترديد الأنات وتصعيد الزفرات!
فقال له كرستيان: ولكن ما العمل في الكتاب الذي قلت لي إنها تريد أن أرسله إليها اليوم؟ فمد سيرانو يده إلى صدره، وأخرج تلك الرسالة التي كان يريد أن يقدمها إليها في الصباح فلم يفعل، وأعطاه إياها وقال له: ابعث إليها بهذه الرسالة، فهي تامة لا ينقصها غير التوقيع، فدهش كرستيان وعاودته وساوسه وهواجسه، وقال له: وهل كتبتها من أجلي؟ وما الذي دعاك إلى ذلك؟ قال: لم أكتبها من أجلك، ولا من أجل أحد من الناس، ولكننا معشر الشعراء لا تخلو جيوبنا غالبا من أمثال هذه الرسائل الغرامية الخيالية، فإننا - وإن كنا محرومين سعادة الحب وهناءه - نتخيل أحيانا صورا وهمية لا وجود لها في الخارج، نخاطبها ونناجيها كما يناجي المحب محبوبه؛ لنستطيع إمداد الفن الذي نشتغل به بحقائق الحياة وصورها، ولقد أودعت هذه الرسالة جميع ما يمكن المحب المفتتن أن يضمره في نفسه من لواعج الحب وخوالج الغرام، ولقد كانت أناتي وزفراتي قبل اليوم طائرة هائمة في أجواز الفضاء، لا تجد لها مستقرا ولا مهبطا، أما الآن فقد وجدت على يدك المستقر الذي تتطلبه وتسعى إليه، وستقرأ روكسان هذه الرسالة بعد ساعة، وسترى أنها الصورة الحقيقية لعواطفك وشعورك لا ينقصها شيء، حتى روح الإخلاص وجوهره. قال: ألا نحتاج لتغيير شيء فيها؟ قال: لا. قال: أخاف أن ترتاب بها. قال: كن على ثقة من أنها ستعتقد حين تقرؤها أنها ما كتبت إلا لها، وأنها هي التي أوحت بها إلى نفس كاتبها!
فتناول كرستيان الرسالة طائرا بها فرحا، وترامى على عنق سيرانو يقبله ويلثمه ويضمه إلى صدره ويقول: آه يا صديقي الكريم! ما أعظم شكري لك واغتباطي بصحبتك! وظل على ذلك هنيهة، وكان القوم وقوفا أمام باب المطعم، ينتظرون إذن سيرانو لهم بالرجوع، وهم يسمعون ضوضاء الحديث بينه وبين صاحبه، فيتوهمون أنه الجدال العنيف والخصام الشديد، حتى شعروا بذلك السكون الذي ساد بينهما، فريعوا وخيل إليهم أنه سكون الموت، فدفع راجنو الباب قليلا وأطل من فجوته فرأى هذا المنظر، فذعر وخيل إليه الرعب الذي لحقه أنه يرى منظر الموت، وأن كرستيان صريع بين يدي سيرانو، فظل يرتجف ارتجافا شديدا، فهمس القوم في أذنه: ماذا ترى؟ قال: دعوني، فإني لا أجرؤ على النظر وأكاد أموت خوفا ورعبا! فدفعوا الباب جميعا ودخلوا، ففهموا الحقيقة التي ما كانوا يتصورونها ولا يقدرونها في أنفسهم، ورأوا أن ذلك الصراع الذي كانوا يتوهمونه بين خصمين متباغضين، إنما هو عناق طويل بين صديقين مخلصين، فدهشوا دهشة كبيرة، وظل بعضهم يهمس في أذن بعض: إنه يعانقه ويلتزمه كأنه أصدق أصدقائه، وقال «كاربون دي كاستل»: أحمد الله تعالى فإن شيطاننا قد اهتدى، وصاح آخر: عجبا لك يا سيرانو! لقد أصبحت مسيحيا تقيا: إذا ضربك أحد على أحد منخريك أدرت له الآخر، فلم يغضب سيرانو هذه المرة، ولم يكترث، بل ابتسم له وتطلق.
وكان بين الداخلين «الرجل الهائل» صديق «ليز»، فأطمعه هذا الموقف في حلم سيرانو، وقال في نفسه: لقد فقد الرجل حميته وانطفأت شعلة حماسته، وأظن أني أستطيع أن أتكلم عن أنفه الآن باطمئنان، ثم أشار إلى ليز فاقتربت منه. فقال لها: سأريك الآن منظرا من أبدع المناظر وأبهجها، وأخذ يدور في أنحاء القاعة ويتنشق الهواء بصوت عال كأنما يشعر برائحة غريبة، حتى دنا من سيرانو فلمس كتفه، وقال له: ما هذه الرائحة الغريبة يا سيدي؟ فصمت سيرانو ولم يقل شيئا، فأدنى وجهه من وجهه، وأطال النظر إلى أنفه، وقال له: قل لي ما هذه الرائحة الغريبة المنتشرة في هذا الجو؟ فإنك تستطيع أن تفهمها أكثر مني! فما أتم كلمته حتى لطمه سيرانو على وجهه لطمة هائلة رنت في أرجاء القاعة، وقال: رائحة الذعر أيها الجبان! فصفق القوم تصفيقا شديدا، وأغربوا في الضحك جميعا، حتى «ليز»!
الفصل الثالث
حرفة الأدب
منزل روكسان منزل جميل أنيق، تمتد أمام بابه شرفة عالية بديعة، قائمة على ساريتين ضخمتين، تتسلق فوقهما أغصان شجرة ياسمين مغروسة أمام الباب حتى تصل إلى الشرفة، فتنتشر في أنحائها، ويقابل هذا المنزل منزل آخر يشبهه في شكله ورونقه، ولا يختلف عنه بشيء سوى أن حلقة بابه ملففة بقطعة من نسيج كأنها أصبع مجروحة مضمدة، وبين المنزلين ميدان واسع يتوسطه مقعد مستطيل من الرخام، جلست عليه وصيفة روكسان وراجنو الشواء يتحدثان، فمسح راجنو دمعة كانت تترقرق في عينيه، وقال لها: ولقد حزنت كثيرا لفرارها مع ذلك الضابط الخبيث، وبكيت ما شاء الله أن أفعل؛ لأنها كانت سلوة حياتي، ومعينتي على أمري، وما هي إلا أيام قلائل حتى تكشف الغطاء عن ذلك الإفلاس العظيم الذي كان كامنا في حسابي، والذي كنت أستره بجدي وجدها، وتراكمت علي الديون، وعجزت عن الوفاء، فلم أر بدا من الانتحار، فخلوت في حانوتي ليلة أمس، وألقيت آخية في عنقي، وما هو إلا أن صعدت على الكرسي، ووضعت قدمي على حافته لأدفعه من تحتي، حتى دخل سيرانو، فهاله الأمر وتعاظمه، وفهم للنظرة الأولى كل شيء، فابتدر الحبل فقطعه بسيفه وقال: ماذا أصابك أيها المسكين؟ فنفضت له جملة حالي وبثثته همي، فأشفق علي، وجذبني من يدي حتى جاء بي إلى هنا، وقص على روكسان قصتي، وقال لها: إن راجنو صديقنا، وصاحب اليد البيضاء علينا وعلى الأدباء جميعا شعرائهم وكتابهم، وهو وإن لم يكن من نوابغ الشعراء المجيدين، فهو أديب متفنن، محسن إلى رجال الشعر والأدب، ضنين بهم وبكرامتهم، فلم أحفل كثيرا بتلك الغمزة التي غمزنيها في حديثه، وما زال بها حتى استثار عطفها وشفقتها، فبكت رحمة بي واستدنتني إليها، وواستني ببعض الكلمات الطيبة، ثم عهدت إلي بهذا الشأن الذي أقوم به في منزلها كما تعلمين. فاستعبرت الوصيفة باكية وقالت: لقد كان يخيل إلي يا راجنو أنك سعيد الطالع في أعمالك، وأنك تربح كثيرا، فما الذي دهاك وجر عليك هذا البلاء؟ قال: حرفة الأدب يا سيدتي، فقد كنت أحب رجال الشعر، وكانت ليز تحب رجال السيف، فلم يزل «مارس» يأكل ما يشاء، ثم يلقي ما تبقى منه إلى «أبولون» حتى نزل بي ما ترين.
فرثت الوصيفة لحاله، وظلت تلاطفه وتواسيه حتى هدأ وسكن، ثم نهضت من مكانها واتجهت جهة الشرفة وظلت تنادي: سيدتي روكسان، أسرعي فقد دنا ميعاد المحاضرة، فأجابتها سيدتها من داخل البيت: هأنذي آتية فانتظري قليلا. فقال لها راجنو: أية محاضرة تريدين؟ قالت: سيحضر الساعة إلى منزل «كلومير» - وأشارت إلى ذلك المنزل المقابل لمنزل سيدتها - رجل من العلماء الباحثين، اسمه «ألكاندر»؛ ليلقي محاضرة عن الحب، وقد دعيت سيدتي لاستماعها، وسأذهب معها بالطبع، فضحك راجنو وقال: ما سمعت قبل اليوم أن الحب فن من الفنون التي تلقى فيها المحاضرات. قالت وهي تبتسم: ليس في الفنون ما هو أحق بالمحاضرات من الحب!
وهنا سمعا صوت قيثارة آتية من بعيد فالتفتا وراءهما، فإذا سيرانو مقبل ووراءه غلامان صغيران يحمل كل منهما في يده قيثارة يوقع عليها، وهو ينهرهما ويتغيظ عليهما كأنهما طالبان بين يدي مؤدبهما، ويقول لهما: قد أمرتكما أيها البليدان أن تثلثا النغمات، وأنتما تأبيان إلا تثنيتها. فقال له راجنو: بخ بخ يا سيرانو! متى كان عهدك بمعرفة المثالث والمثاني! قال: عهدي بها منذ ذلك اليوم الذي جثوت فيه بين يدي جاصندي الموسيقي العظيم، وما أنا إلا تلميذه وخريج مدرسته ، ثم التفت إلى أحد الغلامين وانتزع منه قيثارته، واستقبل شرفة روكسان، وأخذ يغني هذه القطعة: «قد جئت أسلم على ياسمينك، وأقدم تحياتي لورودك، وألثم بخضوع وخشوع أوراق زنابقك البيضاء ...» فسمعت روكسان صوته، فخرجت إلى الشرفة فرأته. فقالت: هأنذي قادمة يا سيرانو، وكانت قد فرغت من زينتها ولباسها، فنزلت فحيته وقالت له: ما هذا المنظر الغريب! ومن هذان الغلامان الصغيران؟ قال: هما ولدان موسيقيان قد ربحتهما اليوم في رهان، فضحكت وقالت: أي رهان؟ قال: قد جادلت اليوم «داسوسي» في مسألة نحوية موضوعها: «الفرق بين لا، وبلى»، واشتد بيننا اللجاج ساعة، فاستحمق وأشار إلى هذين الغلامين - وكانا واقفين بين يديه - وقال لي: سأراجع المسألة الآن في مظانها من الكتب، وليكونن هذان الغلامان طوع أمرك ليلة كاملة تذهب بهما حيث تشاء، ويغنيانك ما تريد، إن كان الفوز لك فيه، ثم قام إلى خزانة كتبه فراجع المسألة، فكان الحق في جانبي، فأخذت الغلامين وسرت بهما يغنيانني ويأتمران بأمري في كل ما أقترحه عليهما من الضروب والألحان حتى وصلنا إلى هنا. قالت: وهل أنت راض عنهما؟ قال: إنهما يجيدان بعض الإجادة، وقد طربت لنغماتهما ساعة ثم سئمتها، ولا أدري ماذا أصنع بهما الآن، وأحسب أني لا أستطيع احتمالهما حتى مطلع الفجر. وصمت هنيهة ثم ابتسم، والتفت إليهما وقال لهما: أتعرفان منزل مونفلوري الممثل البطين؟ قالا: نعم. قال: اذهبا إليه وقفا تحت نافذة مخدعه الذي ينام فيه، واضربا لحنا طويلا مزعجا مضطرب النغمات يذهب براحته وسكونه، ويملأ صدره غيظا وحنقا، ثم عودا إلي بعد ذلك.
فانحنى الغلامان بين يديه وانصرفا، فالتفت سيرانو إلى روكسان وقال لها: قد جئت أسأل سيدتي كما أسألها كل ليلة: ما رأيها في حبيبها كرستيان؟ ألا تزال تراه إنسانا كاملا خاليا من العيوب والهنات حتى الآن؟ قالت: نعم، ما في ذلك ريب، فلقد جمع الله له بين فضيلتي الجمال الباهر والذكاء النادر، وقلما اجتمعا لإنسان سواه. قال: أترين أنه ذكي إلى هذا الحد؟ قالت: نعم، بل أذكى من كل من عرفت في حياتي، حتى أنت يا سيرانو! فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطا عظيما، ولكنه تظاهر بالتبرم والاستياء، وهز رأسه كالمرتاب وقال: ربما! قالت: ولقد بلغ من الذكاء والفطنة تلك المنزلة التي يتكلم فيها المرء بأشياء غريبة مدهشة يظنها السامع لأول وهلة أنها لا شيء، والحقيقة أنها كل شيء، ولقد يضعف نور ذكائه أحيانا ويشرد ذهنه حتى يخيل إلي أنه عيي أو غبي، ولكنه متى عاد إلى نفسه صاغ بلباقة ومهارة تلك الجواهر البديعة، التي لم أر مثلها في حياتي! قال: وهل يحسن الكلام عن القلب؟ قالت: إنه لا يقنع بالكلام عنه حتى يحلله تحليلا دقيقا. قال: وما رأيك في كتابته؟ قالت: إنه يكتب أحسن مما يتكلم، وكأن أسلوبه الماء النمير المترقرق على بياض الحصباء، وما أجمل كلمته التي يقول فيها: «خذي من قلبي ما شئت، فسيبقى لي منه ما يكفيني»، ألا ترى أنه معنى بديع؟ قال: لا بأس به. قالت: واسمع هذه الجملة أيضا وقل لي ما رأيك فيها: «إن كان لا بد لك من أن تحتفظي بقلبي لديك فأعيريني قلبك بدلا منه، فإني في حاجة إليه لاحتمال ما ألاقيه في سبيلك من الآلام والأوجاع!» فقال وهو يكاد يطير في نفسه فرحا: إنه يناقض نفسه بنفسه، وأحيانا يغالي، وأحيانا يكون غير وفي! ولا أدري ماذا يريد بقلبه، فتململت روكسان وقالت: إنك تضايقني كثيرا يا سيرانو، وما أحسبك إلا غيورا، فانتفض سيرانو وخيل إليه أنها قد ألمت بسريرة نفسه: فظل ناظرا إليها ذاهلا لا يدري ماذا يقول، حتى قالت له: وكذلك أنتم - معشر الشعراء - لا يطيق أحدكم أن يسمع كلمة ثناء على رفيقه! فهدأ روعه وعلم أين ذهبت في حديثها، ثم قالت له: واسمع هذه الجملة أيضا فهي غاية الغايات في قوتها ومتانتها: «لو كان في استطاعتي أن أرسم قبلاتي على صفحات قرطاسي، لقرأت كتابي بشفتيك بدلا من عينيك!» ما رأيك في هذه أيضا؟ هل تستطيع أن تجد فيها مأخذا؟ قال: لا أنكر أنها جميلة بديعة، لولا ركة في بعض أجزائها، فاربد وجهها غيظا وقالت له: إنك عنيد يا سيرانو، فاسمع هذه القطعة أيضا، فهي خير من جميع ما مضى، فقاطعها وقال لها: وهل بلغ الاهتمام بأمره أن تستظهري كلماته وتعيها في صدرك؟ قالت: نعم. قال: ما يطمع كاتب من الكتاب في منزلة أعظم من هذه يا سيدتي. قالت: إنه نابغة عظيم ما في ذلك ريب، فاحمر وجهه خجلا كأنما خيل إليه أنها قد ألمت بسريرة قلبه، وأنها إنما تعنيه بكلامها، وقال: إنك تغالين يا روكسان.
وإنهما لكذلك إذا أقبلت الوصيفة مسرعة وقالت: قد جاء الكونت دي جيش، فاضطربت روكسان وقالت لسيرانو: لا أحب أن يراك هذا الرجل عندي، فأنت صديق كرستيان، وأخاف إن رآك هنا أن يدرك سر غرامي فيفجعني فيه، فادخل المنزل ولا تظهر له حتى ينصرف لشأنه. قال: سأفعل كل ما يرضيك يا روكسان، ودخل المنزل ودخلت الوصيفة وبقية الخدم وراءه.
دهاء المرأة
أقبل الكونت دي جيش، فرأى روكسان واقفة وحدها في مكانها، فانحنى بين يديها وحياها وقال لها: قد جئتك اليوم يا سيدتي مودعا، وربما كان الوداع الأخير! قالت: أمسافر أنت؟ قال: نعم، قد صدر الأمر إلى الجيش بالسفر إلى «أراس» بعد بضع ساعات لنخلصها من يد العدو، ويظهر لي أن نبأ سفري لم يؤثر عليك أقل تأثير. قالت: لا تظن ذلك يا سيدي الكونت. قال: أما أنا فإني حزين لفراقك حزنا شديدا، ولا أدري ما الله صانع بي بعد اليوم؟ هل كتب لي في لوح مقاديره أن أراك مرة أخرى؟ أم هو الفراق الدائم الذي لا لقاء من بعده؟ وأطرق برأسه حزينا مكتئبا، ثم قال لها: وهل علمت أن الملك قد عهد إلي برئاسة أركان حرب الجيش؟ قالت: ما كنت أعلم ذلك من قبل، وإنه لنجاح باهر يا سيدي الكونت، فلله درك! قال: أي إنني أصبحت صاحب السلطان المطلق على الجيش بأجمعه بعد القائد العام، وفي استطاعتي أن أنتقم لنفسي في ميدان المعركة من جميع أعدائي وخصومي، خصوصا ذلك الرجل الوقح الجريء ابن عمك سيرانو، وأن أحاسبه حسابا غير يسير على جرائمه وآثامه.
فذعرت روكسان وخفق قلبها خفقا شديدا، لا خوفا على سيرانو، بل على كرستيان؛ لأنها فهمت من كلامه أن فرقة شبان الحرس ستسافر مع بقية فرق الجيش. فقالت له: أتذهب فرقة شبان الحرس إلى الحرب؟ قال: نعم، كما تسافر جميع الفرق، فاصفر وجهها وتخاذلت أعضاؤها، ومدت يدها إلى المقعد فاعتمدت عليه، وهي تقول بصوت خافت متهافت: آه يا كرستيان! فعجب الكونت لأمرها وسألها ما بالها؟ قالت: إن هذا السفر يحزنني جدا، خصوصا عندما أتصور أن الشخص الذي يهمني أمره أكثر من كل إنسان في العالم يخوض تلك المعامع المهلكة، التي يرفرف عليها طائر الموت، ولا أعلم هل أراه بعد اليوم أم هذا آخر العهد به؟ فافتر ثغره، وتهلل وجهه بشرا وحبورا، وخيل إليه أنها إنما تعنيه بكلامها، وأنه هو الشخص الذي يشغلها ويعنيها، والذي تخشى عليه أن تلم به تلك الكارثة العظمى. فقال لها: ما كنت أعلم يا روكسان قبل اليوم أنك تضمرين لي في نفسك هذا الحب كله.
فصمتت لحظة، ثم التفتت إليه وقالت: وهل أنت مصمم على الانتقام من سيرانو؟ قال: نعم، إلا إذا كنت تكرهين ذلك. قالت: لا، بل لا أريد غير ذلك! قال: هذا ما أعتقد، ثم قال: ألا يزال هذا الرجل يختلف إلى منزلك حتى اليوم؟ قالت: لا، إنه لا يزورني إلا نادرا جدا، وليته لا يفعل، ولولا صلة القربى التي بيني وبينه ما أذنته بزيارتي! قال: قد حدثوني عنه أنه منصرف في هذه الأيام إلى مرافقة جندي نبيل من الحرس الطارئين، ويقولون: إنه لا يكاد يفارقه ليله ولا نهاره. قالت: ومن هو هذا الجندي النبيل؟ قال: قد نسيت اسمه الآن، وهو كما وصفوه لي: فتى طويل القامة، مشرق الوجه، أصفر الشعر، تلوح على محياه مخايل العز والنعمة، وتلمع في صفحة وجهه بارقة خفيفة من الجمال؛ ولكنه عيي بليد، ولا أفهم حتى الآن ما هي الصلة التي بينهما؟
فصمتت روكسان صمتا طويلا ذهبت نفسها فيه كل مذهب، ثم التفتت إليه بغتة ، وقالت له وهي تبتسم ابتسامة غريبة لا يفهم معناها إلا من فهم سريرة المرأة، واضطلع بغرائزها وسجاياها، وقالت له: أتظن يا سيدي الكونت أنك تكون قد انتقمت لنفسك منه إذا عرضته لنار الحرب التي يحبها ويعبدها، ولا يقترح شيئا سوى أن يصطلي بها ويخوض غمارها؟ هذه هي المرة الأولى التي رأيتك فيها تنظر في أمر من الأمور نظر الغرارة والسذاجة! قال: آه! لقد فاتني أن أتنبه إلى ذلك، فما العمل؟ قالت: عاقبه بحرمانه من أمنيته التي يتمناها، فذلك أقتل له من القتل، وأنكى له من الموت، فليسافر الجيش بأجمعه وليتخلف هو وحده، بل لتتخلف معه فرقته جميعا، فإنها كما علمت مؤلفة من أشرار متمردين يذهبون مذهبه في أخلاقه وطباعه، ويساعدونه في كل جرائمه وآثامه، ولتكن حجتك في ذلك إن شئت: أن باريس في حاجة إلى فرقة من الجيش تتخلف فيها للدفاع عنها وقت الحاجة، وأنك قد اخترت لها هذه الفرقة للدفاع عنها، وهكذا يموت الرجل هما وكمدا، وتتمزق أحشاؤه غيظا وحنقا، ويغرب نجم شهرته غروبا لا طلوع له من بعده، فيصبح بطل الطرق والشوارع، لا بطل الحروب والمعامع!
فابتهج الكونت ولمعت أسارير وجهه، ووضع يده على كتفها وقال لها: لله درك يا سيدتي! لقد صدق من قال: «لا يحسن الانتقام من الرجل مثل المرأة!»
ثم حنا عليها وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان! فنظرت إليه نظرة باسمة متلألئة، وأطرقت برأسها ولم تقل شيئا، ففسر ابتسامتها التفسير الذي أراده، وابتسامة المرأة لفظ مشترك يحتمل جميع المعاني وضروبها، من الحب القاتل إلى البغض العميق، ثم قال لها: ذلك ما كنت أقدره يا روكسان مذ عرفتك حتى اليوم، فلم يخطئ ظني، ثم أخرج من جيبه كتبا مغلفة، معنونة بعناوين فرق الجيش، فأمر نظره عليها إمرارا، حتى عثر بكتاب فرقة شبان الحرس، ففصله عن بقية الكتب ووضعه في صدره وهو يقول: ما أشد دهاءك يا روكسان، وما أوسع حيلتك! نعم إن مزاج الرجل حربي متوقد، فلا يقتله ولا يفت في عضده، ولا يلصق أنفه بالرغام غير حرمانه من ميدان الحرب، وتركه في شوارع باريس يتسكع فيها تسكع العاطلين المتبلدين، ثم نظر إليها باسما وقال لها: أهذا شأنك دائما يا روكسان: أن تكيدي للناس أمثال هذه المكايد؟ فابتسمت، وقالت: لا، بل لا أفعل ذلك إلا عند الضرورة.
فأطرق برأسه وصمت طويلا، وقد أخذت شفتاه تختلجان وترتجفان، كأنما تحدثه نفسه بشيء يحاول أن يقوله لها فلا يستطيعه، ثم تشجع وقال: بقيت لي كلمة أحب أن أقولها لك يا سيدتي، فهل تسمحين لي بها؟ قالت: قل ما تشاء فأنا مصغية إليك. قال: إنني أحببتك يا روكسان من عهد بعيد كما تعلمين، وكان كل أملي في حياتي أن أعيش بجانبك عيش القانع بك عن جميع متع الحياة ولذائذها، فحالت بيني وبينك الحوائل التي تعلمينها، وقد كنت أظن أنني سلوتك وغنيت عنك بغيرك، ونفضت يدي أبد الدهر منك، ثم ما لبثت أن علمت أنني واهم فيما ظننت، وأن ذلك الداء القديم لا يزال كامنا بين أنحاء ضلوعي، فسمج في نظري وجه الحياة، ومر في فمي مذاقها، وأصبحت حائرا قلقا لا يهدأ لي روع ولا يستقر بي مضجع، ولا أدري حين أراك وأرى ابتساماتك اللامعة المضيئة، ونظراتك العذبة الجميلة، هل تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر؟ أو أنها المصانعة والمجاملة ومجازاة الود بالود والرجاء بالتأميل؟ وما زال هذا الشك يساورني ليلي ونهاري حتى رأيت الآن بعيني تلك الرجفة الشديدة التي سرت في أعضائك عندما أنبأتك نبأ سفري، فعلمت أنك تحبينني، وما كشف أسرار الحب، ولا هتك الستر عن مخابئه ومكامنه مثل مواقف الوداع! وهأنذا الآن على وشك السفر ولا أعلم هل هو فراق وشيك أم هو السفر الدائم الذي لا رجعة من بعده؟ فأسألك أن تزوديني بقليل من الزاد أستعين به على مشقة السفر ووحشة الطريق، حتى إذا دنت الساعة الأخيرة تمثلت صورته في ذهني فهانت علي آلام الموت، فإن سمحت به فائذني لي أن أتخلف الليلة عن السفر مع الجيش، على ألا تطلع شمس الغد حتى أكون قد امتطيت جوادي، ولحقت به في المكان الذي وصل إليه.
فارتجفت روكسان وقالت: ولكن ماذا يقول الناس إذا رأوا رئيس أركان حرب الجيش قد تخلف عن جيشه، وبقي في باريس لغرض من أغراضه الغرامية؟
قال: ذلك ما لم يفتني النظر فيه والحيطة له، يوجد بالقرب من هذا المكان دير في شارع أورليان، أسسه رئيس الكابوشان الأب «أتاناس» وله قانون غريب، يقضي بألا يطأ أرضه أحد من الناس سوى رهبانه وقساوسته، وأنا وإن لم أكن راهبا ولا قسيسا ولكنني صهر الكردينال ريشلييه رئيس الكهنوت الأعظم، ولا شك أن الذين يخافونه ويخشون صولته لا يستطيعون أن يرفضوا نزولي بديرهم بضع ساعات، بل ليس في استطاعتهم إن أردت أن يمتنعوا عن أن يخبئوني تحت قلانسهم، أو في ثنايا طيالسهم أو فروج أكمامهم؛ لأنها واسعة جدا لا تضيق بمثلي؛ وهأنذا ذاهب الآن إلى ذلك الدير المقدس لأكمن فيه بضع ساعات، حتى إذا انتصف الليل لبست قناعي، وجئتك متنكرا في جنح الظلام، فلا يشعر أحد بمقدمي ولا منصرفي.
فاستطير عقل روكسان وجن جنونها، ودهمها من الأمر ما لا تعرف وجه الحيلة فيه، ولا طريق المخرج منه، ثم ما لبثت أن رجعت إلى نفسها، وملكت زمام عواطفها، وقالت له بهدوء وسكون: إن مجدك وعظمتك يا مولاي يأبيان عليك ذلك الإباء كله، ولئن استطعت أن تكاتم الناس أمرك، فإنك لا تستطيع أن تكاتمه نفسك أو تخادع فيه ضميرك.
إن فرنسا تطالب بطرد العدو عن أرضها واستنقاذها من يده القاهرة المسيطرة، فليكن هذا هو كل ما تفكر فيه، ولا يشغلك عنه شاغل من شهوات نفسك ولذائذها، ولا تسمح لأحد من الناس أن يتحدث عنك، لا بل لا تسمح لنفسك أن تحاسبك على ليلة قضيتها لاهيا ناعما في بيت امرأة تحبها، و«أراس» باكية حزينة تضطرب بين يدي قاهرها اضطراب الحمامة الوديعة في مخالب الصقر الجارح، وتصرخ صرخات مؤلمات أنت أول يا مولاي من يسمعها ويضطرب شعوره لها.
سر يا سيدي على رأس جيشك، وكن نجمه الذي يهتدي به في ظلماته، وملجأه الذي يأوي إليه في شدته، واعلم أنك لن تستطيع أن تنزل منزلة الحب والكرامة في نفوس الذين يحبونك إلا إذا كانت فرنسا أحب إليك منهم، بل من نفسك التي بين جنبيك.
فاستخزى لكلماتها وتضعضع، وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان؟ قالت: كيف لا أحب من صميم فؤادي من خفق قلبي خفقة الحزن والألم جزعا لفراقه، وإشفاقا على حياته؟ فصاح: وا طرباه! وا فرحتاه! سأنزل على حكمك في كل ما تريدين، وسأسافر الساعة طوعا لأمرك؛ فاذكريني دائما ولا تنسيني. قالت: لا أستطيع أن أنساك أبدا! فتناول يدها وقبلها، وانحنى بين يديها وانصرف.
وكانت روجينا وصيفة روكسان مختبئة وراء سارية الشرفة تسمع حديثهما وتفهم مغزاه، فما أبعد الكونت إلا قليلا حتى برزت من مخبئها، وهي تغرب في الضحك وتقول: ما أشد حزني لحزنك يا سيدتي! فضحكت روكسان وقالت لها: اكتمي كل شيء عن سيرانو، فإنه لا يغفر لي أبد الدهر حرماني إياه من الحرب، فوا رحمتاه له! ثم هتفت به، فخرج من المنزل وهو يقول: ما أكثر الذين يحبونك يا روكسان! قالت: نعم، ولكنني لا أحب إلا واحدا منهم! ثم قالت له: قد دعيت الليلة إلى هذا المنزل - وأشارت إلى منزل كلومير المقابل لمنزلها - لسماع المحاضرة التي يلقيها «ألكاندر» عن الحب، فأذن لي بالذهاب وابق أنت هنا، فإذا جاء كرستيان فقل له ينتظرني حتى أعود. قال: سأفعل إن شاء الله، ولكنك لم تخبريني كعادتك في أي موضع من مواضيع الحب تحبين أن يتحدث كرستيان الليلة إليك؟ قالت: لقد كان حديثنا بالأمس عن «موقف الوداع»، فليكن حديثنا الليلة عن «النظرة الأولى»، لا بل عن «الغيرة»، لا بل عن «الأمل الضائع»، لا بل اتركه على سجيته، لا تحدد له موضوعا خاصا حتى لا يستعد، فإنني أريد أن أختبر بديهته كما اختبرت رويته من قبل، فقل له يحدثني عن «الحب» وكفى. ثم حيته وانصرفت، وتبعتها وصيفتها.
وكان كرستيان مقبلا في تلك اللحظة، فسمع آخر كلماتها. فقال: ما الرأي يا سيرانو؟ قال: عد بنا إلى المنزل لمذاكرة الدرس الجديد، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى نكون قد فرغنا وعدنا قبل عودتها، فصمت كرستيان هنيهة، ثم رفع رأسه وقال: لا، لا أريد الليلة دروسا ولا مذاكرة، فإني أذوب شوقا لرؤيتها! قال: ولكنك لا تعرف كيف تحادثها؟ قال: دعني وشأني فقد شببت عن الطوق وتجاوزت تلك السن التي يعجز فيها المرء عن أن ينطق إلا بما يلقنه إياه أبواه وأظآره. فقال: إنك تخاطر بنفسك مخاطرة عظيمة. قال: فليكن ما أراد الله، فقد استحييت من نفسي لكثرة ما مثلت من هذا الدور الشائن المعيب، دور الآلة الموسيقية التي يوقع عليها ضاربها، فتنبعث منها نغماتها المطربة دون أن تشعر بنفسها وبما ينبعث منها، على أنني قد استفدت من دروسك الماضية ما يسمح لي بمحادثتها ومذاكرتها والإفاضة معها في كل شأن من الشئون التي أريدها، وما أنا بغبي إلى الدرجة التي تتصورها، فسأكلمها بنفسي، وسأشرح لها جميع عواطفي التي تختلج في صدري، وما أحسبها تطالبني بأكثر من ذلك! قال: وهل أنت على ثقة من نفسك؟ قال: كيفما كان الأمر فقد تجاوزت الصلة التي بيني وبينها حد الذرائع والوسائل، إلى الخالص المتين الذي تغتفر معه الهفوات، وتستحيل فيه السيئات إلى حسنات، ولئن عجزت عن أن أحدثها بلساني فسأحدثها بلسان القبلات واللثمات.
وهنا سمع صوت روكسان، وهي خارجة من منزل «كلومير» في جمع عظيم من النساء. فقال سيرانو لكرستيان: قد فات الأوان فأذن لي بالذهاب، فذعر كرستيان واستطير عقله، وقال: بل ابق معي يا صديقي! قال: لا، فقد أصبحت غنيا بنفسك عني! وتركه وانصرف.
ولكنه لم يبعد إلا قليلا حتى عاد متسللا من حيث لا يشعر به أحد، واختبأ وراء حائط الحديقة يتسمع حديثهما.
الشرفة
قالت روكسان لكرستيان - وقد جلسا معا على المقعد الرخامي في وسط الساحة: لم أدرك من المحاضرة الغرامية التي ألقيت في منزل «كلومير» إلا ختامها، فلم أستفد منه شيئا، فحدثني أنت عن الحب وأطلق لنفسك العنان فيه ما شئت، وها هو ذا الليل قد أظلنا بسكونه وهدوئه، وها هي ذي باريس قد أوت جميعها إلى مضجعها، فتحدث فإني مصغية إليك.
فارتجف كرستيان ارتجاف الطالب الضعيف في موقف الامتحان، ولكنه لم ير له بدا من أن يتكلم، فانثنى إليها وقال لها: أحبك يا روكسان! وصمت فقالت له: وأنا أحبك أيضا يا كرستيان، ثم ماذا؟ فلم يفتح الله عليه بكلمة أخرى؛ فعاد إلى نغمته الأولى وقال لها: أحبك يا روكسان حبا جما، وسكت. فقالت له: هذا هو النسيج فوشه وطرزه، فازداد ارتباكه واضطرابه، وقال: آه ما أشد حبي لك يا روكسان! قالت: ما شككت في ذلك قط، ولكني أريد أن تقول لي كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا ما أحبه أحد من قبلي أحدا. قالت: صور لي عواطفك وشعورك. قال: ليتك تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر لك. قالت: إنك تقدم لي من اللبن مخيضه وأنا لا أريد إلا زبدته، قل كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا يعجز لساني عن التعبير عنه؛ لأنه فوق طاقتي. قالت: ولكنني أريد أن تعبر لي عنه وأن تلمس بيدك أوتار قلبي، وتملك علي عواطفي وشعوري. قال: آه لو استطعت أن ألثم جيدك الفضي الجميل! فجزعت وانحرفت عنه قليلا، وقالت: كرستيان، إنك قد جننت! قال: ما أشوقني إلى لثمة من فيك أبرد بها غليلي! فنهضت قائمة وقالت: إنك تضايقني الليلة كثيرا يا سيدي! وأرادت الذهاب، فأمسك بثوبها وقال: عفوا يا روكسان فإن ذنبي عظيم، وما زال يضرع إليها بنظراته المنكسرة حتى هدأت وجلست. فقال لها: آه لو تعلمين كم أحبك! قالت: أهذا كل ما عندك؟ وأرادت النهوض مرة أخرى، فأمسك بيدها وقد طار صوابه والتاث عليه أمره وظل يقول لها: لا، لا تغضبي يا روكسان فإنني لا أحبك! فضحكت وقالت له: ذلك خير لي، فانتبه إلى هفوته وقال: لا تصدقي ما قلت لك فإني أردت أن أقولك لك: إنني لا أحبك فقط، بل أعبدك وأدين بك، فتململت وقالت: لقد ضاق صدري! قال: أعترف لك بأني قد أصبحت بليدا لا أفهم شيئا. قالت: ذلك ما يحزنني كثيرا، فالبلادة عندي والدمامة سواء، فاذهب الآن واجمع شتات ذهنك ثم عد إلي الليلة الآتية، ونهضت قائمة: فتشبث بها وقال: انتظري قليلا فإنني سأقول لك شيئا جميلا، انتظري يا روكسان فإنني أريد أن أقول لك.
فقاطعته وقالت: تريد أن تقول لي: إنك تحبني وتعبدني، وتموت وجدا بي؛ فلقد عرفت ذلك ولا أريد أن أسمع منه شيئا فاذهب لشأنك فقد ضقت بك ذرعا.
ثم تركته ودخلت المنزل، فجن جنونه وظل واقفا مكانه يتحرق ويتغيظ، ويقول: آه! ذلك ما كنت أخافه، أين أنت يا سيرانو؟ فما أتم كلمته حتى رأى سيرانو مقبلا عليه يبتسم ابتسامة المتهكم، ويقول له: أهنئك بالنجاح العظيم الذي أحرزته يا كرستيان! فانتفض وقال: أنت هنا؟ ثم ترامى بين ذراعيه وقال: الرحمة يا صديقي، فإني أكاد أموت غما! قال: وما الحيلة بعد الذي كان؟ لقد انقضى كل شيء فلا سبيل إلى الرجوع! قال: إن لم تر لي الساعة رأيا قتلت نفسي؛ إنني لا أستطيع أن أنصرف من هنا وهي واجدة علي، فارحمني واتخذها عندي يدا لا أنساها لك مدى الدهر!
فصمت سيرانو وهو يعالج في نفسه ألما ممضا لا تستشف مكانه من أعماق قلبه غير عين واحدة، وهي عين الله تعالى؛ ثم قال له: ها هو ذا الظلام حالك لا يلمع فيه نجم، وها هي ذي الطريق مقفرة لا يطرقها طارق؛ فاستمع لما ألقي عليك. فاستطير كرستيان فرحا، وتناول يده فقبلها وقال: آه يا سيدي، يخيل إلي أنك قد رأيت لي رأيا. قال: نعم إن ائتمرت بما آمرك به. قال: ما عصيت لك أمرا قبل اليوم. قال: قف هنا أمام الشرفة، وسأقف أنا من تحتها على قيد خطوة منك من حيث تراك روكسان ولا تراني، ثم نادها فإذا أشرفت عليك فسألقنك همسا ما يجب أن تقوله لها.
وإنهما لكذلك إذ أقبل الغلامان الموسيقيان اللذان كان أرسلهما سيرانو لإزعاج مونفلوري في مرقده. فقال لهما: أفعلتما ما أمرتكما به؟ قالا: نعم، ما زلنا نضرب اللحن المضطرب المشوش زمنا طويلا، حتى طاش عقله وجن جنونه، فأطل من النافذة وظل يشتمنا ويسبنا ويستعدي رجال الشرطة علينا حتى انصرفنا. قال: أحسنتما، فارجعا الآن وقفا على رأس هذا الشارع، وليكمن كل منكما وراء سارية من سواريه، وارقبا الطريق، فإذا رأيتما سوادا مقبلا فاضربا لحنا قصيرا. فقالا له: أي نوع من الألحان تريد أن نضرب؟ قال: اضربا لحنا محزنا إن كان القادم رجلا، ومفرحا إن كان امرأة، فعاد الغلامان أدراجهما ووقفا حيث أمرهما، ودفع سيرانو كرستيان وأقامه أمام الشرفة، ووقف هو من تحتها على مقربة منه، وقال له: نادها واخفض صوتك ما استطعت، فاتجه كرستيان إلى النافذة ونادى: روكسان! روكسان! فما لبثت أن فتحت الباب الموصل إلى الشرفة وخرجت إليها وقالت: من يناديني؟ قال: أنا. قالت: ومن «أنا»؟ قال: كرستيان. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أكلمك. قالت: ذلك مستحيل؛ لأنك لا تحسن الكلام! قال: أضرع إليك. قالت: إنك لا تحبني، ولو كان في قلبك ذرة واحدة من الحب لأحسنت الكلام فيه. قال وسيرانو يلقنه: يا لله! إنها تتهمني بأنني قد سلوتها في الساعة التي أتجرع فيها كأس الموت وجدا بها!
وكانت قد همت بالدخول، فاستوقفتها هذه الكلمة وقالت: وكيف تحبني؟ قال: قد اتخذ طفل الحب من نفسي الجائشة المضطربة أرجوحة لينة يلهو فيها ويلعب، وينمو ويترعرع، حتى إذا شب وأيفع وبلغ أشده، عقها وغدر بها وجازاها شر الجزاء على صنيعها، وقسا عليها القسوة التي يقسوها الطفل على عصفوره الضعيف المسكين.
فأصغت إليه، وشعرت أن في حديثه روحا جديدة لم تكن فيه من قبل. فقالت له: ولم لم تخنقه في مهده قبل أن يشب ويترعرع؟ قال: ما كنت أستطيع ذلك؛ لأنه ولد جبارا قويا متنمرا، حتى إنه استطاع وهو لا يزال يلعب في أرجوحته أن يصارع شيطان الكبرياء في حتى صرعه وألقاه جثة هامدة بين يديه.
فاتكأت روكسان على حافة شرفتها، وقد أطربتها هذه النغمة الجديدة، وقالت: ما أشد سواد هذا الظلام! إنني لا أتبين موقفك جيدا يا كرستيان، ولكنني أشعر أن كلامك ينير لي مكانك، فتكلم فإنك تطربني كثيرا، ولكن ما لي أرى نغمة حديثك تصدر عنك متقطعة، كأنما قد أصبت بالنقرس في مخيلتك، وكان عهدي بك قبل الآن طلق اللسان متدفقا كالسيل المنهمر! فذعر سيرانو وخاف أن ينكشف الأمر، فجذب كرستيان إلى ما تحت الشرفة، ووقف هو في مكانه، وانثنى إليه وأسر في أذنه: قد أصبح الموقف حرجا جدا فاصمت أنت، وسأتكلم أنا عنك بصوت يشبه صوتك، ثم أنشأ يجيب روكسان على سؤالها مقلدا صوت كرستيان، ويقول: ذلك لأن كلماتي تتخبط في هذا الظلام الحالك أثناء صعودها باحثة عن أذنك الصغيرة جدا، فلا يستقيم مسيرها! قالت: ولم لا تضطرب كلماتي في هبوطها اضطراب كلماتك في عروجها؟ قال: لأنها تنحدر إلى قلبي مباشرة، وقلبي رحب واسع فلا تضل طريقها، على أن كلماتي صاعدة وكلماتك منحدرة، والنزول أسهل من الصعود. قالت: ما أبدع هذا المعنى! ويخيل إلي الآن أن كلماتك قد انتظم مسيرها، فإنها تصل إلى أذني بأسرع من ذي قبل! قال: ذلك لأنها ألفت هذه الحركة وحذقتها، فصمتت لحظة، ثم دارت بعينيها في الفضاء وقالت: حقيقة إنني أتكلم من علو شاهق. قال: إذن فاحترسي، فإن كلمة واحدة قاسية تلقينها علي من موقفك هذا كافية لقتلي! فاستضحكت وقالت: لا تخف يا كرستيان، فإني آتية إليك لأحدثك وجها لوجه، قال: لا تفعلي، بل ابقي في مكانك. قالت: لم؟ قال: لأن هذا الموقف جميل جدا، يعجبني ويطربني، فلنتحدث كما نحن كأننا روحان هائمتان في أجواز الفضاء، تفتش كل منهما عن صاحبتها فلا تكاد تعثر بها، دعينا نتحدث كما نحن وبيننا هذا الموج المتلاطم من الدجنة الحالكة، لا ترين مني إلا سواد معطفي المسبل علي، ولا أرى منك إلا بياض ثوبك الصيفي الجميل، فأنت تمثلين الكوكب الساطع في سمائه، وأنا أمثل الظلام المخيم على سطح الغبراء!
إن لهذا الموقف الشعري الجميل في هذه الساعة الساكنة من الليل أعظم الفضل في صفاء ذهني، وانتعاش ويقظة قلبي وانطلاق لساني من حبيسته وجموده، فكوني كما أنت ولأكن كما أنا، لا تشعرين مني بغير خفقان قلبي، ولا أشعر منك بغير أشعة جمالك، أناجيك كأنني أناجي الله في علياء سمائه، وتصغين إلى نجائي إصغاء الملائكة الأبرار إلى أنات البائسين وزفراتهم على ظهر الأرض!
وكان قد غلبه الموقف على أمره واستلهاه حسنها، وجمالها واستغرق شعوره ووجدانه، فنسي أنه يتكلم بلسان غيره، فأطلق لنفسه عنانها، وأصبح يحدثها بنغمة غريبة لا هي نغمته ولا هي نغمة كرستيان، بل نغمة النفس الوالهة المعذبة المتألمة، فنالت من نفسها منالا عظيما، وقالت له: إنك تحدثني الآن يا كرستيان بلهجة غير لهجتك حتى ليخيل إلي أنك قد تبدلت من نفسك نفسا أخرى غيرها! قال: نعم؛ لأن كلامي قبل الآن لم يكن صادرا من أعماق قلبي؛ لأنني إنما كنت أحدثك بلسان ...
وكان يريد أن يقول: «كرستيان» فاستدرك هفوته، وقال: بلسان الدهشة والحيرة والاضطراب، الذي يلم بكل من يجرؤ على أن يقف موقفي هذا بين يديك، أما الآن فنفسي هادئة، وجأشي ساكن، وروحي مطمئنة، حتى ليخيل إلي أنني أناجيك للمرة الأولى في حياتي!
قالت: صدقت، ويخيل إلي أنا أيضا أنك تتكلم بصوت غير صوتك الأول. قال: نعم؛ لأنني استطعت في هذا السكون السائد والظلام الحالك الذي يحجبني عن العيون أن أكون أنا نفسي، وأنا أناجيك من طريقي لا من طريق ...
وأراد أن يقول: «غيري» فشعر بهفوته وحاول أن يصلحها فلم يستطع، فتلعثم وتلجلج. فقالت له: طريق من؟ قال: عفوا يا روكسان إن شرد لبي واضطرب جناني بين يديك، فقد سحرني وملك علي عقلي هذا الموقف الجديد الذي لم أقفه مرة في حياتي.
فعجبت لأمره وقالت: جديد؟ قال: نعم جديد؛ لأنه أول موقف استطعت فيه أن أكون صريحا في كلامي، حرا في أفكاري، جريئا في حديثي، أطلق العنان لنفسي فتهيم، وتنبعث حيث تشاء، لا يحول بينها وبين الغاية التي تريدها حائل. قالت: وهل لم يكن ذلك شأنك من قبل؟ قال: لا؛ لأن خوفي من هزئك بي، وسخريتك مني كان يزعجني جدا، ويملأ قلبي رعبا وخوفا! فدهشت وقالت: سخريتي؟ ولماذا؟ قال: تسخرين من تطرفي واندفاعي وتبسطي في الإفضاء بمكنونات نفسي، فقد كان قلبي دائما متسربلا بسربال عقلي، والعقل سربال ضاغط لا يطيقه القلب، وكنت كلما هممت أن أترك السبيل لعواطفي أن تفيض، وتنساب حيث تشاء أدركني الحياء والخجل، فتلومت واحتشمت ووقفت دون الغاية التي أريدها، ولا ألبث أن أتطلع إلى الكوكب النائي في سمائه، وأخطو الخطوات الأولى إليه لتناوله واستنزاله من فلكه، حتى أشعر بالخجل من نفسي، فأعود أدراجي قانعا من حظي بزهرة صغيرة أجدها في طريقي من زهرات حديقة السماء فأقتطفها. قالت: إن الزهرة جميلة أحيانا. قال: ولكنني لا أريد الليلة ولا أقنع بها. قالت: إنك ما كلمتني قط يا كرستيان بمثل هذه اللهجة البسيطة التي تكلمني بها الآن. قال: نعم، وليتنا نستطيع دائما أن نحتقر في مواقف الحب توافه الأشياء وحثالاتها، وأن نترك التأنق والتجمل في صلاتنا وعلائقنا، ونطلق العنان لأنفسنا لتعبر عن مشاعرها وعواطفها بالصورة التي تريدها، بدلا من أن نقيدها بتلك القيود الثقيلة التي تحبسها في محبس ضيق لا سبيل لها إلى التفلت منه.
فلنطرح بعيدا عنا هذه الكأس الذهبية الصغيرة، التي نتعاطى بها شرابنا قطرة قطرة، فلا نكاد نشعر بلذة ما نتعاطاه، ولنندفع معا إلى ذلك الغدير المترع المتدفق، فنجثو على ضفته ونكرع من مائه العذب حتى نرتوي.
البلاغة
قالت: ولكنني أحب البلاغة يا كرستيان. قال: إني أجل هذا الليل الساكن الهادئ، وهذا الموقف الجليل المهيب، وهذه النفحات العطرية المترقرقة، وهذه القبة الجوفاء المرصعة بمصابيحها اللامعة، أن أهينها بهذا الشيء الذي يسمونه البلاغة، أو أن يكون حديثي معك بتلك اللغة التي يتفكه بها العشاق الكاذبون في رسائلهم الغرامية، فلنتحدث بما توحيه إلينا ضمائرنا، لا بما توحيه إلينا دواوين الشعراء ورسائل الكتاب، ولنهدم تلك الحواجز المادية القائمة بين نفسينا حتى تتلامسا وتتماسا، وتستحيلا إلى نفس واحدة، فإنني أخشى إن نحن ظلننا نشتغل زمنا طويلا بهذه التجارب الكيميائية أن تتبخر عواطفنا، وتتلاشى في أجواز الفضاء، وأن يكون فيما نظنه كل شيء القضاء على كل شيء.
قالت: ولكن البلاغة جميلة جدا. قال: وأنا أكرهها في الحب، وأرى أن من أكبر الجرائم وأفظعها أن نشتغل عن أنفسنا ومطارح آمالنا ومسارح عواطفنا بإدارة هذه المعركة اللفظية التي لا طائل تحتها، وأن تكون تلك المحاولات التي لا فائدة منها هي غاية مقصدنا من الحب، ومنتهى أملنا منه، والثمرة الأخيرة التي نجنيها من حياتنا.
إننا ما اجتمعنا هنا لنرى كيف نتحدث، بل لنتحدث ونتناجى، وما وقفنا هذا الموقف الجليل المهيب بين أحضان هذه الطبيعة الحلوة العذبة؛ لنشتغل بتهذيب اللغة وابتكار الأساليب واختراع المعاني، ولا ليقول كل منا لصاحبه: ما أبلغك! وما أسمى خيالك، وما أبدع تصوراتك وأفكارك! ولا لنتدارس البلاغة وأصولها وقوانينها، ولا لنتحدى الشعراء والكتاب في أساليبهم ومناهجهم، بل ليسكب كل منا نفسه في نفس صاحبه فإذا هما نفس واحدة، تشعران بشعور واحد، وتحسان إحساسا واحدا، حتى لو استطعنا أن نصل إلى هذه الغاية، ونحن سكوت لا نتكلم ولا ننبس بحرف واحد فعلنا.
هذه هي البلاغة وهذه هي حقيقتها، أما الإغراق في التخيل، والمبالغة في الوصف، وخلق الصور والأساليب التي لا وجود لها في الخارج، ولا أساس لها في الذهن، وابتكار المعاني الغريبة التي تنبعث شرارتها من شعلة الذكاء، ولا تتفجر من ينبوع القلب، فهي وإن كانت جميلة محبوبة تستلهي الخاطر وتستوقف الناظر، لكنها ليست من البلاغة في شيء.
نريد أن نفارق هذا العالم المملوء بالأكاذيب والأباطيل، والصور والتهاويل، إلى أفق طاهر نقي، صاف مترقرق، نتكاشف فيه ونتراءى، ويتحدث كل منا إلى صاحبه بلغة تشبه في جمالها وحسنها، وبساطتها وطهارتها، ورقتها وعذوبتها، ذلك الأفق الجميل الذي نسبح فيه، ونطير في أجوائه؛ فيكون مثلنا مثل الكوكبين الهائمين في أجواز الفضاء، يتحادثان بلسان الضوء، ويتناجيان بلغة الأثير.
قالت: وماذا تقول لي لو أردت أن تحدثني بتلك اللغة؟ قال: ألقي إليك بكل ما يخطر ببالي من الكلمات مبعثرا غير منتظم ولا مرتب، كما تتناثر أوراق الزهر عن أغصانها، فأقول لك مثلا: أحبك يا روكسان حب العابد معبوده، لا أستطيع أن أصبر عنك لحظة واحدة، أصبحت على وشك الجنون بك، وربما أكون قد جننت من حيث لا أدري، كأن قلبي معبد وكأن اسمك ناقوسه، فإذا وقع نظري عليك ارتعدت وارتجفت، فرن اسمك في قلبي رنين الناقوس في المعبد، قد احتملت فيك فوق ما يستطيع أن يحتمله بشر، فما شكوت ولا تألمت، أحببت فيك كل شيء، وأحببت من أجلك كل شيء، أحببت فيك حتى كبرياءك، وأحببت من أجلك حتى شقائي، يخيل إلي أن الشمس على جدار قصرك أجمل منها على جدران القصور الأخرى، وأن الروض الذي تخطرين فيه أبدع رياض الدنيا والآخرة، لا أستطيع أن أنساك أو أنسى حالة من حالاتك أو حركة من حركاتك مهما طال عليها الزمن، رأيتك صباح الأحد الماضي، وأنت خارجة من بيتك وقد غيرت نظام شعرك الذي أعرفه لك، فأصبح لامعا متألقا يدور بوجهك دورة الهالة بالقمر، فبهرني هذا المنظر، وارتسم في شبكة عيني، فأصبحت أراه في كل ما يقع عليه نظري من المنظورات، كما يرى الناظر إلى ضوء الشمس هالة بيضاء في كل ما يتناوله بصره من الأشياء، وسمعتك منذ أيام تضحكين، فما غرد طائر على فنن ولا رنت قطرات الغيث على صفحات الماء، ولا مرت النسائم بين خمائل الأشجار، إلا خيل إلي أنني أسمع رنين تلك الضحكة في كل ما أسمع من هذه الألحان.
وهنا اضطربت روكسان، واشتد خفوق قلبها، وقالت بصوت خافت متهدج: «نعم، هذا هو الحب.»
قال: نعم، هو الحب الذي غالب قلبي حتى غلبه واتخذه أسيرا عنده، وهو حب شرس غيور، يتوقد حدة وحرارة، وإنه على ذلك متواضع بسيط، خال من الأثرة وحب النفس، إنني لا أستطيع أن أخلص لنفسي يا روكسان كما أخلص لك، إنني في سبيل هنائك أجود بهنائي كله وإن لم تشعري بذلك، حسبي من الدنيا أن أسمع من بعيد رنين ضحكاتك، فأعلم أنك سعيدة مغتبطة، وأن ما ضحيت به لك من سعادتي وهنائي كان هو السبب في هناء عيشك وراحة نفسك، كل نظرة من نظراتك تثير في فضيلة جديدة كانت كامنة بين أطواء قلبي لا أهتدي إلى مكانها، وتبث في نفسي خلق الشجاعة والإقدام، مم أخاف إن كنت راضية عني، وبم أعتبط إن كنت ساخطة علي؟ وهل الدنيا شيء سواك في إقبالها وإدبارها؟!
قالت: ما أعذب كلامك يا كرستيان! إن قلبي يخفق له خفقانا شديدا.
قال: أرأيت الآن كيف أن الكلمات الصادرة من القلب بلا تكلف ولا تصنع، لا يستطيع حائل أن يحول بينها وبين قلب سامعها؟ ألا تلمسين بيدك نفسي الحزينة، وهي صاعدة إليك في هذا الظلام الحالك؟ ألا تسمعين خفقان قلبي وهو يرن في جوف هذا الليل البهيم؟ آه! ما أحلى هذه الساعة وما أجملها! إنها الساعة الوحيدة التي ذقت فيها حلاوة السمر والمناجاة، ما كنت أصدق أن أقف يوما من الأيام هذا الموقف العظيم بين يديك: أتكلم وتسمعين، وأبثك ما في نفسي وتنصتين، ولم يبق لي من أرب في الحياة بعد اليوم، فليأت الموت إلي فقد بلغت جميع أماني وآمالي، ها هي ذي يدك ترتجف الآن من تأثير كلماتي كما ترجف الورقة الخضراء بين النسمات المتناوحة، ولقد نم عليك غصن الياسمين الذي تمسكين، فقد مشت فيه تلك الرجفة حتى وصلت إلى يدي!
ثم انحنى على طرف الغصن في يده فلثمه في صمت وسكون.
فقالت روكسان: نعم، إنني أرتجف وأبكي؛ وما بلغ امرؤ مني في حياته ما بلغت مني، ولقد سحرني حديثك وملك علي لبي حتى أصبحت أشعر أنني قد أصبحت ملك يدك، ولا شأن لي في أمر نفسي.
قال: فليأت الموت إلي إذن، فقد بلغت من حياتي ما كنت أرجو وأتمني، وليهنني أنني أنا الذي قدمت إليك بيدي تلك الكأس التي أسكرتك وأخذت بلبك، فلم يبق لي مما أتمناه غير شيء واحد. قالت: ما هو؟
وهنا نطق كرستيان وهو في مكانه تحت الشرفة بعد هذا الصمت الطويل، وقال: «قبلة!»
فذعر سيرانو وقال له بصوت خافت: لقد تسرعت في الطلب! قال: لا، إنها الآن ذاهلة مسحورة، فلأنتهز هذه الفرصة التي لا تواتيني في كل حين.
فقالت روكسان : ماذا قلت؟ فقال كرستيان: «أريد قبلة.»
فوكزه سيرانو برجله، وقال: اسكت يا كرستيان، فسمعت روكسان كلمته. فقالت له: مع من تتحدث؟ وهل كرستيان شخص سواك؟ قال: أتحدث مع نفسي، فقد ندمت على تطرفي واندفاعي في هذا المقترح الذي اقترحته، وقلت لنفسي: اسكت يا كرستيان، فحسبك منها أنها أصغت إليك، وسمعت صوت قلبك، وأذرفت من أجلك دمعة من دموعها الغالية، فلا تطمع فيما وراء ذلك!
وهنا رن صوت قيثارتي الغلامين من بعد. فقال كرستيان على لسان سيرانو: ادخلي الآن يا روكسان، فإني أسمع صوت قادم، ثم عودي إلي بعد قليل.
فدخلت روكسان غرفتها وأقفلت باب نافذتها، وأصغى سيرانو إلى الصوت، فسمع في آن واحد لحنين مختلفين: لحنا مفرحا، وآخر محزنا. فقال: يا للعجب! إن القادم ليس برجل ولا امرأة، فلا بد أن يكون قسيسا!
وما أتم حتى أقبل قسيس شيخ وبيده مصباح ضئيل، وجعل يمر بأبواب المنازل بابا بابا ويدني مصباحه منها ليتبينها، كأنه يفتش عن منزل يقصده، فتقدم نحوه سيرانو وقال له: إنك تعيد لنا أيها الشيخ عهد ديوجين، فهل تفتش عن منزل السيدة مادلين روبان الشهيرة بروكسان، فانبرى له كرستيان وهو يقول في نفسه: إن الرجل يضايقنا في مثل هذه الساعة، ولم ننته من أمر القبلة! وأمسك بيده وأشار له إلى جهة بعيدة، وقال له: هناك أيها الشيخ، هناك، فسر أمامك لا تعطف يمنة ولا يسرة حتى تجد المنزل الذي تريده! فشكر له الشيخ فضله وعاد أدراجه. فقال كرستيان لسيرانو: لا أستطيع أن أبرح هذا المكان حتى أنال القبلة التي أريدها! قال: لا تعجل يا صديقي، فستوافيكما سريعا تلك اللحظة السحرية العجيبة، لحظة الذهول والاستغراق التي تثملان فيها بخمرة الحب، وتذهلان فيها عن نفسيكما، فإذا شفتاكما ذاهبتان وحدهما كل منهما إلى صاحبتها حتى تتلامسا، وصمت لحظة ثم قال في نفسه: ما دامت تلك اللحظة آتية لا ريب فيها فخير لي أن أكون صاحب الفضل فيها، ثم قال له: نادها يا كرستيان، فستنال منها القبلة التي تريدها: فناداها، ففتحت النافذة ، وخرجت إلى الشرفة وهي تقول: أباق أنت يا كرستيان حتى الآن؟ فقال كرستيان على لسان سيرانو: لقد جاء الساعة هنا كاهن شيخ يسأل عن منزلك، فلم تعجبني زيارته في مثل هذا الوقت، فأضللته عن الطريق وأظن أن في يده كتابا، فذعرت روكسان واضطربت مخافة أن يكون الكونت دي جيش قد أخلف وعده، وتخلف عن السفر واختبأ في الدير، وأن يكون هذا الكاهن رسوله، ولكنها ما لبثت أن سرت عن نفسها، وأنساها موقف الغرام كل شيء عداه، وقالت: أظن أننا كنا نتكلم عن ... وتلعثم لسانها؛ فقال كرستيان: عن القبلة، وما لك لا تجسرين على النطق بها كأنها تحرق شفتيك؟ فإذا كان هذا شأنك مع لفظها، فكيف يكون شأنك مع معناها؟ تجلدي يا روكسان ولا تجزعي، فلقد تحولت منذ هنيهة من الدعابة إلى الاضطراب، ومنه إلى الخفقان، ومنه إلى التنهد، ومنه إلى البكاء؛ وليس بين الدموع والقبلة إلا رجفة.
القبلة
فارتعدت روكسان وقالت: لا أمنحك إياها حتى تصفها لي! قال: هي الميثاق الذي يعطى عن قرب، والوعد الصادق الذي لا ريبة فيه، والاعتراف بالحقيقة الواقعة، والنقطة المرقومة تحت باء الحب، والسر العميق الذي يصل إلى القلب من طريق الفم، واللحظة الأبدية التي يقصر زمنها وتدوم حلاوتها، واتفاق الخاطرين على معنى واحد، والطريق المختصر لاستنشاق رائحة القلب، وتذوق طعم النفس على الشفاه، لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها!
فاضطربت روكسان وقالت: حسبك يا كرستيان! فقال: إن القبلة شريفة يا سيدتي، حتى إن ملكة فرنسا لم تبخل بها على نبيل من نبلاء الإنجليز، وكلاهما شريف وعظيم. قالت: اسكت ولا تزد. قال: أنت الملكة التي أعبدها، وأدين لها أكبر مما دانت فرنسا لملكتها، وأنا اللورد بوكانجهام في صدقه وإخلاصه وألمه وحزنه. قالت: وفي جماله أيضا!
فانتفض سيرانو وشعر بوخزة الألم في قلبه، وقال: نعم، وفي جماله، ولقد كنت لذلك ناسيا. فقالت له: اصعد أيها السعيد المجدود لاقتطاف تلك الزهرة التي لا نظير لها!
فأخذ سيرانو بيد كرستيان، وقال له بصوت خافت: اصعد وتناول القبلة التي تريدها، فجبن وتلكأ وقال: ما أشد خجلي وحيائي! قال: اصعد أيها الحيوان، وتناول القبلة التي لا يستحقها منها غير شفتيك الورديتين! ثم دفعه بيده، فتسلق أغصان الياسمين حتى بلغ مكان روكسان على الشرفة، فألقت رأسها الجميل على عاتقه، فاحتضنها إليه ورسم على شفتيها تلك القبلة التي لها دوي النحل في صوتها، ومذاق العسل في حلاوتها، وعبير الأزهار في رائحتها، وسيرانو واضع يده على قلبه يتلوى في مكانه تلوي الملسوع، ويتأوه آهات خفيات مضمرات؛ ولكنه ما لبث أن ارعوى وتجمل، ولجأ إلى سلوته التي اعتاد أن يلجأ إليها كلما عظمت آلامه وهمومه، وأخذ يعزي نفسه، ويقول: يا مأدبة الحب العظيمة التي أنا صاحبها ومحييها، هنيئا للذين يذوقون طعامك، ويتناولون ثمارك، ويرتشفون كئوسك، أما أنا فحسبي منك هذا الفتات الذي يتناثر علي من مائدتك، فإن روكسان لا تقبل شفتي كرستيان، بل تقبل عليهما كلماتي التي ألقيتها في أذنها وسحرتها بها!
وهنا رن صوت قيثارتي الغلامين بلحنين مختلفين: لحن مفرح وآخر محزن، فسألت روكسان: ما هذا؟ فقال لها كرستيان: لعله سيرانو يتمشى في الطريق مع غلاميه الموسيقيين، فانفتل سيرانو من تحت الشرفة إلى موقف الغلامين فحدثهما قليلا ثم أشار إليهما بالانصراف، ومشى يترنح في مشيته كأنه شارب ثمل، ويتغنى ببعض الألحان كأنه قادم الساعة، فما وقع نظره على كرستيان حتى تظاهر بالدهشة، وقال له: أباق أنت هنا يا كرستيان حتى الآن؟ قال له بصوت عال تسمعه روكسان: نعم، أحدث روكسان وتحدثني، وإلى أين أنت ذاهب؟ قال: لقد مللت هذين الغلامين وسئمت ألحانهما وتعبت من طول المسير، فعزمت على الرواح إلى المنزل. فأشرفت عليه روكسان عندما سمعت صوته وقالت له: انتظرني يا سيرانو فإني قادمة إليك، وأقفلت باب الشرفة، وفي هذه اللحظة أقبل الكاهن بمصباحه وهو يحدث نفسه ويقول: ما زلت على رأيي الأول، فإن المنزل هنا في هذا الميدان!
وهنا ظهرت روكسان على عتبة بابها يتبعها كرستيان وراجنو، فلما رأت الكاهن ذعرت واضطربت، فتقدم نحوها وحياها ومد يده إليها بكتاب. فقالت له: ما هذا؟ قال: كتاب بعثني به إليك السيد الصالح التقي الكونت دي جيش، صهر سيدنا ومولانا صاحب القداسة الكردينال دي ريشلييه، من دير القديس «أتاناس»، ولا بد أن يكون مشتملا على غرض من الأغراض الشريفة المقدسة، أو مكرمة من المكارم العليا، فاقرئيه، فتناولته وقرأت فيه على مصباح راجنو وهو صامتة، هذه الكلمات:
سيدتي
الطبول تدق، وقد أعد الجيش عدته للرحيل، والجميع يظنون أني في مقدمته؛ ولكنني تخلفت وعصيت أمرك؛ لأنني لم أستطع السفر دون أن أتزود منك بذلك الزاد القليل الذي سألتك إياه؛ فاغتفري لي ذنبي، فإنني ما أذنبت إلا في سبيلك، وهأنذا قادم إليك بعد قليل، فمهدي لي سبيل زيارتك، إن ثغرك قد ابتسم لي اليوم ابتساما جميلا، ولا أحب أن أفارقك قبل أن أراه مرة أخرى يبتسم لي تلك الابتسامة البديعة المؤثرة، وقد بعثت إليك بكتابي هذا مع قسيس أبله لا يفهم من شئون الحياة شيئا سوى إقامة الصلوات، وتعزية المحتضرين، ومباركة المتزوجين، فلا يعنيك من أمره شيء.
دي جيش
وهنا برقت عيناها ببارق غريب، والتفتت إلى الكاهن وقالت له: اسمع يا أبت نص الكتاب، فهو بمثابة أمر صادر إليك، وأخذت تقرأ بصوت عال ما لا وجود له إلا في مخيلتها، وتقول:
سيدتي
يجب عليك إطاعة أمر قداسة الكردينال، وهو يأمرك أن تتزوجي الليلة سرا من البارون كرستيان دي نوفييت، وأنا وإن كنت أعلم أنك غير راضية عن هذا الزواج، وأنك لا تحبين هذا الفتى ولا تجدين في نفسك ارتياحا لمعاشرته، فإنني أرى لك أن تخضعي لأمر الكاهن الأعظم وتذعني لرغبته، فالخير كل الخير فيما يراه ويشير به، فاصبري على قضاء الله وقدره، وانتظري حسن المثوبة منه والجزاء الأوفى.
وقد بعثت إليك بكاهن من أفضل الكهان وأتقاهم وأحفظهم للأسرار؛ ليقوم بعقد هذا الزواج السري بينكما في منزلك، فاقرئي عليه كتابي هذا وبلغيه أمري، وكوني على ثقة من إخلاصي لك واحترامي الدائم لمقامك الكريم.
دي جيش
ثم طوت الكتاب وهي تتظاهر بالأسف والحزن ، وتقول: آه! ما أسوأ حظي وأعظم شقائي!
ثم همست في أذن كرستيان قائلة له: ألا ترى أنني أحسن قراءة الرسائل؟ قال: اسكتي، فإنني أكاد أموت فرحا!
أما الكاهن فقد تهلل وجهه وانبسطت أساريره، وظل يقول: له الله من سيد نبيل كريم! ما خاب ظني فيه وفي حسن مقاصده وشرف أغراضه! ثم رفع المصباح إلى وجه سيرانو وقال له: لعلك الزوج يا سيدي؟ فامتقع لون سيرانو، وأشاح بوجهه عنه، فتقدم نحوه كرستيان وقال: لا، بل أنا يا سيدي! فأدنى المصباح من وجهه، فرأى وجها جميلا مشرقا، فظل يهز رأسه كالمرتاب، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: يخيل إلي يا سيدتي أن مصيبتك في هذا الزواج ليست عظيمة كما تتوهمين! فارتعدت وخفق قلبها خفقا شديدا، مخافة أن يكون قد فهم شيئا، ثم ما لبثت أن عرفت وجه الحيلة في ذلك، ففتحت الكتاب بلهفة وقالت: لقد فاتني يا أبت أن أقرأ عليك الحاشية التي كتبها الكونت في كتابه، وهي تتعلق بديركم المقدس فاستمعها، وقرأت ما يأتي:
ويأمرك صاحب القداسة أيضا أن تتبرعي للدير من مالك الخاص بعشرة آلاف فرانك، فائتمري بأمره، وادخريها يدا عند الله صالحة.
فتلألأ وجه الكاهن واستطير فرحا وسرورا، ولم يبق لتلك الريبة التي خالجته أثر في نفسه، وقال لها: لا مناص لك يا بنيتي من الإذعان لأمر صاحب القداسة، والله يتولاك برعايته. فقالت: سأذعن لأمره وأمرك يا أبت، ثم هتفت براجنو، فأمرته أن يمشي أمامهم بمصباحه ففعل، فدخلوا المنزل جميعا، وتراجعت روكسان قليلا قبل دخولها، فجذبت سيرانو من يده وأسرت في أذنه قائلة: أما أنت فابق هنا حتى يأتي الكونت فامنعه من الدخول ودافعه بكل حيلة، وترفق في الأمر ما استطعت حتى يتم عقد الزواج. فقال: سأفعل ما يرضيك يا روكسان، فكوني مطمئنة، فتركته ولحقت بالقوم، وبقي هو وحده يفكر في الطريقة التي يمنع بها الكونت من الدخول إذا جاء.
سياحة في القمر
وما هي إلا هنيهة حتى رأى شبح الكونت مقبلا من بعيد، فخلع سيفه والتف بمعطفه وأنزل قبعته على عينيه، وتسلق شجرة الياسمين وكمن بين أغصانها، وأقبل الكونت واضعا على وجهه نقابا أسود وهو يتلمس الطريق في هذا الظلام الحالك، ويقول: ليت شعري أين ذهب ذلك الكاهن المنحوس؟ وماذا صنع بالرسالة التي بعثته بها؟ لا بد أن يكون قد بلغها روكسان وانصرف لشأنه، ولا بد أنها تنتظرني الساعة داخل المنزل!
واتجه جهة الباب، فما دنا منه حتى سقط جسم عظيم بين يديه سقطة هائلة دوت بها جوانب الميدان، كأنما هو هابط من علياء السماء؛ فتأمله، فإذا هو رجل متلفع ملثم، فذعر وتراجع وقال: من هذا؟ فتقدم نحوه سيرانو بخطوات بطيئة متثاقلة، وقال له بنغمة أشبه بنغمة الحالم المستغرق: كم الساعة الآن أيها الإنسان؟ فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل من سكان كوكب القمر، سقطت منه من زمن لا أعلم مقداره، هل هو يوم أو ساعة أو دقيقة أو عام أو أعوام؛ لأن صدمة السقوط أذهلتني عن نفسي فلم أفق إلا في هذه اللحظة، ولا أعلم هل سقطت في كوكب الأرض أم في كوكب آخر غيره، فقل لي أين أنا؟ وفي أي عام وفي أي يوم وفي أي ساعة؟ فعلم الكونت أنه مجنون أو ثمل، فأراد ملاينته ومداورته. فقال له: اسمح لي بالمرور أولا وسأخبرك فيما بعد عما تريد. قال: يخيل إلي أنك تظنني معتوها أو مخبولا، فاعلم أنني لا أحدثك عن خيال، بل عن حقيقة لا ريب فيها، وأنني قد سقطت من كوكب القمر سقوطا اضطراريا لم أملك فيه الخيار لنفسي، فظللت أتخبط بين الكواكب والنجوم والمذنبات والشهب، حتى وقعت في هذا المكان الذي أجهله ولا أعلم أين موقعه من العالم!
ثم رفع نظره إلى وجه الكونت وصرخ صرخة هائلة، فزع لها الرجل وتراجع بضع خطوات، وظل يسأله: ما بالك؟ فقال: دلني سواد وجهك وظلمته على أنني قد سقطت في خط الاستواء بين قبائل الزنوج! فوا أسفاه! ووا سوء حظاه! فلمس الكونت وجهه بيده، وكان قد ذهل عن نقابه، فحسره عنه وقال له: لا تخف، إنما هو نقاب أسود كنت أسدلته على وجهي لبعض الأسباب الخاصة، فهدأ سيرانو قليلا وقال له: عفوا يا سيدي، إذن أنا في فينيسيا أو فينا، فقل لي: في أي المدينتين أنا؟ فضجر الكونت، وقال له: سواء أكنت في هذه أم في تلك فدعني أمر، فإن إحدى السيدات تنتظرني! فقال: آه! لقد فهمت الآن، لا بد أن أكون في باريس بلد الوعود والمقابلات، والأسياد والسيدات، فالحمد لله على ذلك! ومد يده إلى ردائه وظل يمسحه كأنما ينفض الغبار عنه، ثم وقف متأدبا وأحنى رأسه بين يديه وقال له: اغفر لي يا سيدي مقابلتي إياك بهذه الملابس الرثة المغبرة، فقد كان سقوطي مع الزوبعة الأخيرة، فانتشر غبار الأثير على ملابسي، وامتلأت عيناي بذرات الضوء، وعلقت بنعلي بضع ريشات من ريش «النسر الطائر»، ثم مد يده إلى نعله كأنما يتناول ريشة عالقة بها، وظل ينفخها في الهواء.
فازداد غيظ الكونت وعظم ضجره، وقال له: تنح عن طريقي يا سيدي، فإني أريد الدخول، وظل يدفعه أمامه حتى بلغا الباب، فترامى سيرانو على الأرض ومد ساقه في مدخل الباب وكشف عنها، وقال له: انظر يا سيدي إلى ساقي، فقد عضني فيها «الدب الأكبر» عضة مؤلمة لا يزال أثرها باقيا حتى الآن، ولقد وقع لي ذلك في الساعة التي كان يطاردني فيها «السمك الرامح» برمحه المثلث الأسنة، وما أفلت من مخالب الدب حتى سقطت فوق حمة العقرب، فلدغتني في ساقي الثانية، وانظر ها هو ذا أثرها، ومد ساقه الثانية أيضا، فاستحال على الكونت المرور، ثم قال له: وأؤكد لك يا سيدي أنني لو عصرت أنفي الآن لجرى منه سيل دافق يغمر هذا الميدان جميعه، أتدري لماذا؟ قال: لا؛ لأني سقطت بعد ذلك في نهر «المجرة» فظللت أسبح فيه حتى أعياني الجهد، ولولا أن «الدب الأصغر» مد يده إلي فأنقذني لما نجوت، واعلم أنه لم يفعل ذلك تكرمة منه وتفضلا، بل كان يريد أن يعضني أيضا كما عضني أخوه من قبله، فعجز عن ذلك؛ لأن أسنانه صغيرة جدا كأنها حبب الكأس، فاستطعت الإفلات منه، وانحدرت إلى «القيثارة» فاخترمتها وعلقت يدي بوتر من أوتارها فانقطع، وظل معي حتى الآن، وسأريكه إذا أردت، ومد يده إلى جيبه كأنما يريد أن يخرجه، ثم قال: لا لزوم لذلك الآن، فقد عزمت على أن أؤلف كتابا أسميه «سياحة في القمر» أدون فيه هذه الرحلة جميعها، وسأرصع دفتيه بالشهب الصغيرة التي اصطدتها في معطفي من غابات السماء!
فاشتد جزع الكونت ونفد صبره، وقال له: ثم ماذا؟ قال: أظن أنك تريد أن تعرف الآن شيئا من أخبار سكان ذلك الكوكب، الذي عشت فيه حقبة من الزمان ... فقاطعه الكونت وقال: لا، لا أريد أن أعرف شيئا، فدعني أمر، فإن بيني وبين أصحاب هذا المنزل ميعادا لا بد لي من الوفاء به! قال: ولكنك وقد عرفت كيف نزلت من السماء لا بد لك أن تعرف كيف صعدت إليها، إنني صعدت إليها بطريقة عجيبة جدا، أنا الذي اخترعتها وابتكرتها، فلم ألجأ إلى النسر البليد كما فعل «رجيومونتانوس»، ولا إلى الحمامة البلهاء كما فعل «أركيتاس» ...
وكان دي جيش مولعا بعض الولع بعلم الفلك ولوع الكثير من الأشراف والنبلاء، الذين يزاولون بعض الفنون تجملا وتلهيا بدون أن يدركوا من أسرارها شيئا. فقال في نفسه: إن الرجل وإن كان مجنونا فهو واسع الاطلاع غزير المادة، واستهواه حديثه فبدأ ينصت له، واستمر سيرانو يقول: ... ولم أقلد أحدا من الطيارين الذين سبقوني، بل خطرت على بالي ست طرق لاختراق أطباق السموات لم تخطر على بال أحد من فحول علم الفلك ونوابغه، فدهش الكونت وقال: ست طرق؟ قال: نعم، هل تعدني أن تصغي إلي حتى أسردها عليك جميعها؟ قال: نعم أعدك بذلك، فتكلم وأوجز. قال: تعال إذن معي إلى هذا المقعد لنجلس عليه قليلا، فقد انتفض علي جرحي الذي في ساقي!
ثم جذبه من ردائه فأجلسه بجانبه وظل يقول له:
أولها:
أن أتجرد من ثيابي وأدير حول جسمي بضع قارورات بلورية ملأى بقطر الندى، ثم أقف تحت الشمس فتمد إلي خيوط أشعتها فتجذبني إليها ، كما هو شأنها في امتصاص الأبخرة والأنداء حين تشرق عليها.
وثانيها:
أن أعمد إلى صندوق كبير، فأفرغه من الهواء بواسطة حرارة المرايا المضلعة، ثم أملؤه بالأهوية المتصاعدة، وأجلس فيه فيصعد إلى العلا.
وثالثها:
أن أصنع جرادة من الصلب ذات أذرع كبيرة، وأضع في جوفها بارودا ملتهبا، ثم أمتطيها، فكلما فرقع البارود اندفعت صاعدة في جو السماء.
ورابعها:
أن أملأ «بالونا» بالدخان، والدخان كما تعلم يطلب العلا دائما، فأركبه فيصعد بي حيث أشاء.
وخامسها:
أن أدهن نفسي بنخاع الثور، فإذا دنا كوكب «فيبيه» أي القمر، من الأرض - وهو كما تعلم مولع بامتصاص هذا الدهن - امتصني معه.
وسادسها:
أن أركب لوحا من الحديد وأمسك بيدي قطعة من المغناطيس وأقذفها في الهواء، والمغناطيس كما تعلم يجذب الحديد، فإذا سقطت تلقفتها وقذفتها مرة أخرى، وهكذا حتى أصل إلى غايتي!
فأعجب الكونت بذكائه وفطنته، وقال له: حسبك ذلك، وائذن لي بالذهاب، وتأهب للقيام، فانزعج سيرانو وتشبث بردائه، وقال له: ولكن فاتك يا سيدي أن تسألني عن الطريقة التي اخترتها من بين تلك الطرق، واعتمدت عليها في هذه الرحلة القمرية؟ قال: قل لي وأسرع، قال: لم أختر واحدة منها، بل اخترت طريقة سابعة هي أغرب الجميع وأعجبها! قال: قل ما هي وعجل؟ قال: أراهن أنك لا تعرفها، ولو فكرت فيها ثلاثة أيام! فضاق صدر الكونت وقال: أعترف لك أني عاجز عن معرفتها، فقل لي ما هي فقد ضقت بك ذرعا، وثار من مكانه غاضبا، فوثب سيرانو واعترض سبيله وقال له: ها هي ذي فاستمعها، ثم مد ذراعيه إلى الأمام وظل يلوح بهما في الهواء كما يفعل السابح على سطح الماء ويقول: هو، هو، هو! فدهش الكونت وقال: ما هذا؟ قال: الموج المتلاطم. قال: لا أفهم ما تريده. قال: المد والجزر. قال: لا أفهم شيئا، فقل ماذا تريد؟ قال: بما أني أعلم أن القمر هو السبب في حركة المد والجزر، فقد نمت على ضفة النهر ساعة المد حتى غمرني الماء، وظللت منتظرا ساعة الجزر، وما هي إلا لحظات حتى دنا القمر من اللجة فجذبها وجذبني معها، ولم أزل صاعدا أخترق حجب السماء حجابا حجابا حتى، ومد صوته بها طويلا. فقال له الكونت بضجر شديد: حتى ماذا؟ وكان سيرانو قد سمع جلبة القوم وهم مقبلون من داخل المنزل، فعلم أن الأمر قد انتهى. فقال له: حتى تمت حفلة القران!
وألقى عنه رداءه ورفع قبعته عن رأسه، فظهر وجهه وفي مقدمته ذلك الأنف الضخم العظيم، فانتفض الكونت، وقال: سيرانو! ثم التفت وراءه فرأى العروسين مقبلين في ملابس عرسهما، وأمامهما الشموع، ووراءهما القسيس والخدم، ففهم كل شيء، وصاح: ماذا أرى؟ يخيل إلي أني جننت! وأخذ يدور بعينيه ههنا وههنا كالذاهل المخبول، ثم مشى نحو روكسان فانحنى بين يديها وقال له: لله درك يا سيدتي! إنك من أمهر الماكرات! ثم التفت إلى سيرانو وقال له: أقدم إليك تهنئتني أيها المخترع العظيم على تفوقك ونبوغك، وسيكون مؤلفك الجليل أعظم مؤلف نافع للمجتمع، ولا تنس أن ترصع دفتيه بتلك الشهب الذهبية التي اصطدتها في معطفك من غابات السماء! قال: سأفعل إن شاء الله يا سيدي، وسأقدم الكتاب إليك تذكارا لهذه المهزلة البديعة!
فأعرض عنه والتفت إلى القسيس، وقال له متهكما: لقد أديت الرسالة أيها الشيخ أحسن تأدية فلك الشكر على ذلك! فلم يفهم القسيس غرضه وقال له: لعلك راض عني يا مولاي! قال: نعم كل الرضا! ثم أخذ يخطو في تلك الساحة خطوات واسعة سريعة، ثم وقف ورفع رأسه بعظمة وخيلاء، وقد لبس وجهه تلك السحنة العسكرية القاسية، ونظر إلى روكسان نظرة جامدة مخيفة، وقال لها بصوت قاس شديد: ودعي زوجك يا سيدتي! فذعرت واصفر لونها، وقالت: لماذا؟ قال: لأن فرقة الحرس ستسافر الآن مع بقية فرق الجيش! وأخرج من ثنايا قميصه ذلك الكتاب الذي كان قد فصله عن بقية الكتب منذ ساعة، ونادى كرستيان بصوت هائل رنان، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: خذ هذا الكتاب وسلمه بنفسك إلى قائد فرقتك! فقالت روكسان: ولكنك كنت وعدتني أن تتخلف هذه الفرقة! فقاطعها وقال لها: قد غيرت رأيي عندما علمت أنك إنما كنت تكيدين لي لا لابن عمك سيرانو، فصمتت وقد نال من نفسها منالا شديدا، وملأ قلبها حزنا وشجنا أنها لم تكد تلمس بفمها شفة الكأس حتى انتزعت من يدها، ثم ترامت بين ذراعي زوجها، وظلت تقبله وتبكي بكاء مرا، فضمها إلى صدره وظل يبكي لبكائها، فصاح الكونت: حسبكما ذلك فأمامكما ليلة الزفاف، ولعلها قريبة جدا! ثم تركهما وانصرف ليصدر بعض أوامره إلى الجيش، وهو يرمي سيرانو بنظرات هائلة لو رمى بها أحدا غيره لصعق لها، على أن سيرانو كان في شاغل عنه بما كان يعالجه في أعماق نفسه من الألم الممض عند رؤية تلك القبلات الجميلة المتبادلة بين هذين العاشقين الجميلين، وظل يقول في نفسه: يا له من سعيد! ويا لي من شقي! كلانا يحبها، وكلانا يموت وجدا بها؛ ولكنه استطاع - لأنه جميل - أن يلثمها ويقبلها؛ ولم أستطع - لأني دميم - أن أنال منها شيئا في حياتي أكثر من أن أقبل طرف الغصن الذي كانت واضعة يدها على طرفه الآخر من حيث لا تدري، وها هو ذا الآن يضمها إلى صدره ضمة الوداع، ويتزود منها الزاد الذي يعينه على سفره الطويل وشقته البعيدة، أما أنا فكل زادي منها هذه الدمعة التي تترقرق في عيني، ولا أستطيع إرسالها مخافة أن تراها!
وهنا دقت طبول الجيش مؤذنة بالرحيل، فدنا منها سيرانو وقال لكرستيان: حسبك ذلك الآن فهيا بنا، فلم ينتبه كرستيان إليه، واستمر في شأنه، فظل يجذبه من يده ويقول: هيا بنا فقد دقت طبول الرحيل. فقال: أمهلني قليلا يا سيرانو، فإنك لا تعلم ما يصنع الفراق بقلوب العاشقين! قال: أعلم ذلك حق العلم فهيا بنا، فالتفتت إليه روكسان، وقالت له: إني أكل إليك أمره يا سيرانو، فعدني ألا يهدد حياته شيء! قال: سأجتهد إن شاء الله تعالى، قالت: وعدني أن يكون حذرا متيقظا. قال: سأحاول ذلك. قالت: وألا يتألم من البرد والصقيع في تلك الأجواء الثلجية الباردة! قال: سأفعل ما في وسعي. قالت: وأن يكون لي وفيا مخلصا. قال: أظنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك. قالت: وأن يكتب لي دائما. قال: أما هذه فأعدك بها!
الفصل الرابع
الميدان
بدأ الفجر يرسل أشعته الأولى إلى جوانب الميدان، وكانت فرقة الحرس نائمة في سفح تل مرتفع يحميها ويحمي مواقعها؛ وكانت قد مرت على الجنود ثلاثة أيام لم يذوقوا طعاما، ولم يتبلغوا بشيء، حتى ساءت حالهم، وشحبت ألوانهم، وخارت قواهم، فاستيقظ أحدهم وهو يتضور جوعا، ويقول: آه! ما أشد ألمي! فاستيقظ بعض رفاقه على صوت أنينه وظلوا يتضورون مثله، فشعر قائدهم بحركتهم، وكان واقفا على قمة التل ليله كله يتولى حراسة الموقع بنفسه، فانحدر إليهم وقلب نظره في وجوههم، ثم قال لهم: ناموا يا أولادي فالنهار لا يزال بعيدا! فقال له أحدهم: وكيف لنا بالنوم، وقد أقلق الجوع مضاجعنا، وحال بيننا وبين الغمض؟ فنكس رأسه وصمت، وقد أضمر بين جنبيه لوعة لا يعلم إلا الله مكانها من أعماق نفسه.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا من ناحية العدو بضع طلقات نارية، فثاروا جميعا وابتدروا سيوفهم فجردوها من أغمادها، فصاح فيهم «لبريه»: هدئوا روعكم يا إخواني والبثوا في أماكنكم، فإن سيرانو قد عاد من رحلته التي اعتاد أن يرحلها سحر كل ليلة، وأظن أن الأعداء قد لمحوا شبحه من بعيد فأطلقوا عليه بعض المقذوفات، وأرجو ألا يكون قد أصابه منها شيء! فسكن جأشهم وعادوا إلى مضاجعهم، وما هي إلا هنيهة حتى ظهر سيرانو على قمة التل، فهرع إليه صديقه لبريه متلهفا وقال له: هل جرحت؟ قال: لا؛ لأنهم يخطئونني دائما! قال: ولكني أخاف عليك إن أخطئوك اليوم أن يصيبوك غدا. قال: وماذا أصنع، وقد وعدتها عنه أن يكتب إليها كثيرا، ولا بد لي من الوفاء بعهدي! قال: إنك لم تخبرني حتى الآن عن الطريقة التي اتخذتها للتنكر والتواري عن عيون الأعداء وأرصادهم قال: لقد اهتديت من زمن إلى مسلك خفي وراء هذا الجبل، لا تناله أنظارهم، ولا تمتد إليه خواطرهم، فأنا أسلكه برفق وحذر حتى أصل إلى الموضع الذي أجد فيه من يتولى توصيل الكتاب إلى روكسان. قال: إذن يمكنك أن تأتينا كل ليلة بشيء من القوت نسد به جوعتنا. قال: ليتني أستطيع ذلك، بل ليتني أستطيع أن أقوت نفسي، إننا جئنا هنا لنحاصر الأعداء في أراس، فأصبحنا محصورين خارجها، وقد أحاط بنا جيش العدو من كل جانب، وأخذ علينا شعاب الأرض، فلا سبيل لنا إلى أي شيء حتى إلى القوت! وأطرق برأسه هنيهة ثم قال: ولقد وقفت الليلة أثناء عودتي على حركة في جيش العدو هائلة جدا، ويخيل إلي أن الغد يحمل في طياته أعظم حادثة مرت بنا في هذا الميدان، فإما نجا الجيش الفرنسي من مخالب الجوع، أو هلك من أوله إلى آخره!
فاصفر وجه لبريه وقال له: قل لي ماذا رأيت؟ قال: لا أستطيع؛ لأني لست على يقين، فدعني وشأني وأستودعك الله. قال: إلي أين؟ قال: إلى خيمتي لأكتب إلى روكسان رسالة الغد، وربما كانت الرسالة الأخيرة!
ثم مشى إلى خيمته ولبريه يتبعه بنظراته الحزينة الدامعة ويقول: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!
الوطن
نشرت الشمس رايتها البيضاء في آفاق السماء، فاستيقظ الجنود من نومهم يتألمون من الجوع ويترنحون ضعفا وإعياء، فتقدم نحوهم قائدهم، وحاول أن يعزيهم ويهون عليهم آلامهم، وهو إلى التعزية والتهوين أحوج منهم، فلم يأبهوا له، وأخذوا يرمونه بنظرات السخط والغضب، فأمرهم أن يتقلدوا أسلحتهم ويأخذوا أهبتهم، فأعرضوا عنه ولم يحفلوا له، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتغامزون، ومرت بأفواههم كلمة «الثورة»، وهي الكلمة الهائلة التي تأتي دائما في ترتيب قاموس الحياة بعد كلمة الجوع!
فانتفض القائد واستطير رعبا وفزعا، وهرع إلى خيمة سيرانو فهتف به، فلباه. فقال له: أدرك الجنود يا سيرانو، فقد نال منهم اليأس أو كاد، حتى نطقوا بكلمة الثورة المخيفة! فخرج إليهم سيرانو، وأخذ يخطو بينهم خطوات هادئة مطمئنة، ويسارقهم من حين إلى حين نظرات العتب والتأنيب، حتى سكنوا وهدءوا، وغضوا أبصارهم حياء منه وخجلا، ثم أخذ يمازحهم ويداعبهم ويفتن في مفاكهتهم ومطايبتهم، حتى سرى عنهم بعض ما بهم ، فقال له أحدهم: أما في هموم الحياة وآلامها ما يشغلك عن الفكاهة يا سيرانو؟ قال: لا، ولو أن لامرئ أن يختار لنفسه الميتة التي يريدها لاخترت لنفسي أن أموت في ليلة صافية الأديم متلألئة النجوم تحت قبة السماء، بأجمل سلاح وهو السيف، وفي أجمل بقعة وهي الميدان، وأن يكون آخر ما أنطق به ملحة لطيفة يتحرك بها فمي في الساعة التي يلمس فيها ذباب السيف قلبي.
ثم هتف: يا «برتراندو»، فلباه جندي شيخ قد أوفى على الستين من عمره. فقال له: أخرج نايك من كيسك، وغن لهؤلاء الأطفال الشرهين تلك الأغنية الجاسكونية، التي تذكرهم ببلادهم ومعاهد طفولتهم ومغاني صباهم، فأخذ الرجل يغنيها ويجيد في توقيعها، وسيرانو يغني معه، فأطرق الجنود برءوسهم وقد تمثلت لهم بلادهم كأنها حاضرة بين أيديهم، يرون جبالها ووديانها وغاباتها وأحراشها، ويرون الرعاة السمر بقلانسهم الحمراء يسوقون أمامهم قطعان البقر والأغنام، والفتيات الجميلات في أثوابهن القصيرة حاملات جرارهن على رءوسهن وهن ذاهبات إلى الغدران أو صادرات عنها، فأخذت مدامعهم تتحدر على خدودهم، فيمسحونها بأطراف أرديتهم في صمت وسكون.
فقال القائد لسيرانو: إنك تهيج أشجانهم وتستثير آلامهم بهذه الذكرى. قال: فليبكوا وليتألموا، علهم يتلهون قليلا عن آلام الجوع التي يكابدونها، وليت جميع آلامهم تنتقل من أمعائهم إلى قلوبهم فيستريحوا! قال: إني أخاف على حميتهم أن تفتر وتتضعضع، قال: لا يخفك ذلك يا سيدي، فإن بكاءهم على وطنهم الصغير لا ينسيهم واجبهم لوطنهم الكبير، وإن أردت أن تكون على بينة من ذلك فانظر ماذا أصنع، ثم أشار إشارة خفية إلى حامل الطبل أن يدق طبله دقة الهجوم، ففعل، فانتفض الجنود من أماكنهم وثاروا إلى أسلحتهم يتقلدونها. فقال للقائد: انظر يا سيدي إلى هؤلاء الأطفال الباكين كيف استحالوا في لحظة واحدة إلى ليوث كواسر، عندما سمعوا نداء وطنهم! ثم التفت إليهم فهدأ روعهم وقال: لا عدمتكم فرنسا يا أبناء جاسكونيا!
وإنهم لكذلك إذ هتف الحارس القائم على رأس التل باسم الكونت دي جيش رئيس أركان الحرب، فما سمع الجنود اسمه حتى وجموا وامتعضوا، وانتشر على وجوههم الألم والانقباض، وأخذ بعضهم يقول لبعض: ما أثقل ظله! ما أسمج وجهه! إنه فاسد الذوق، يلبس الشفوف الرقيقة فوق الدرع، ويلبس الحذاء اللامع في ميدان الحرب؛ ما أكثر تملقه! إنه لم ينجح في حياته إلا من طريق المداهنة، حسبه أنه صهر ذلك الرجل الذي يأكل في اليوم أربع أكلات في الوقت الذي لا نكاد نظفر فيه بأكلة واحدة في الأربعة أيام! فانتهرهم قائدهم «كاربون دي كاستل»، وقد سمع حديثهم، وقال لهم: ولكن لا تنسوا أنه جاسكوني مثلكم، فقال له أحدهم: نعم، ولكنه جاسكوني عاقل، وما خلق الجاسكوني إلا ليكون مجنونا! فقال سيرانو: نصيحتي إليكم يا إخواني أن تتجلدوا أمامه، وتكتموا في أعماق نفوسكم همومكم وآلامكم، ولا تسمحوا له بالشماتة بكم، أما أنا فسأجلس هناك قليلا على هذه الصخرة لأقرأ شيئا في كتاب «دي كارت»، حتى ينصرف ذلك الرجل لشأنه، فأسرعوا بمسح آثار الدموع من خدودهم، واستداروا حلقات صغيرة، وأخذوا يلعبون الورق، ويتضاحكون كأنهم لا يشكون هما ولا ألما، فدخل الكونت دي جيش متجهم الوجه مكفهر الجبين، وكان قد سمع آخر حديثهم، وقرأ على وجوههم ما يضمرون له من البغضاء بين جوانحهم، فصاح فيهم: لقد سمعت بأذني بعض ما تقولون أيها الأشقياء، فعلمت أنكم لا تتركون فرصة تمر بكم دون أن تتناولوني بألسنتكم، وتنالوا مني، فتسموني تارة متملقا، وأخرى منافقا، وتعيبوا علي حسن هندامي ونظافة ملبسي، كأنما ترون أن الجاسكوني لا يكون صحيح النسب إلا إذا تصعلك وتشعث، وأصبح من البائسين المفلوكين.
وكان يتكلم والجنود مقبلون على ألعابهم يتشاغلون بها كأنهم لا يسمعون ما يقول. فقال لهم وهو يشير إلى قائدهم: ولقد كنت أريد أن آمر قائدكم بمعاقبتكم، ولكنني ...
فقاطعه القائد وقال له: لو أنك فعلت ذلك يا سيدي لما أذعنت لأمرك!
فاصفر وجه الكونت وقال: ولماذا؟ قال: لأنني دفعت للقيادة العامة ضريبة الرئاسة، وهي تجعلني صاحب السلطان المطلق على فرقتي، لا ينازعني فيها منازع ولا أخضع في أمرها لإرادة غير إرادتي، وبعد، فليس من الرأي أن يحاسب القائد جنوده على الحب والبغض والرضا والسخط، أو أن يطلب إليهم شيئا سوى الطاعة والإذعان لأوامره ونواهيه!
فوجم الكونت ولم يستطع أن يقول شيئا، ولكنه التفت إلى الجنود وقال لهم: إني أحتقركم جميعا أيها السفهاء الثرثارون، وأحتقر مطاعنكم ومغامزكم؛ لأنني أعرف مكانة نفسي، كما أن الناس جميعا يعرفونها، وأعلم أنني جندي شريف مقدام لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، وقد رأيتم جميعا موقفي العظيم في «بابوم» الليلة الماضية، وهجومي بنفسي ثلاث مرات على رجال الكونت «دي بكوا»، حتى ألجأتهم إلى الهزيمة التي تعرفونها.
وكان سيرانو لا يزال مكبا على كتابه يقرأ فيه؛ فقال له وهو مطرق برأسه لا يرفعه: وما رأيك في وشاحك الأبيض يا سيدي؟ فدهش الكونت واصفر وجهه وقال له: ومن أين لك علم ذلك؟ نعم، وقع لي ليلة أمس أنني بينما كنت أجول في أنحاء الميدان لأجمع رجالي استعدادا للهجوم الثالث، إذ لمحت فصيلة صغيرة من فصائل جيش العدو تتقهقر على مقربة مني، فطمعت فيها واندفعت وراءها اندفاع اليائس المستقتل لا ألوي على شيء مما ورائي، فما هو إلا أن أدركتها وأعملت سيفي في ساقتها، حتى رأيتني بعد قليل وسط خطوط جيش العدو الأكبر، وإذا الخطر محدق بي من كل جانب فخفت الأسر، لا من أجل نفسي بل من أجل الجيش الذي أقوده وأدير حركاته، وكان الظلام حالكا جدا فلا ينم علي شيء سوى ردائي الأبيض، فأسرعت بإلقائه إلى الأرض لأستطيع أن أتوارى عن عيون الأعداء، فيخفى عليهم مكاني، ثم انسللت من بينهم، وغادرت صفوفهم آمنا مطمئنا، وما هو إلا أن بلغت مأمني حتى جمعت رجالي وكررت عليهم كرة هائلة، فكانت الواقعة الثالثة التي أحرزنا فيها ذلك النصر العظيم، فماذا تقولون في هذه الحيلة الغريبة؟ وكان الجنود لا يزالون مكبين على ألعابهم لا يرفعون إليه أنظارهم، يستمعون القصة وكأنهم لا يسمعونها، حتى انتهى منها، فأمسكوا عن اللعب وشخصوا بأبصارهم إلى سيرانو ليروا ماذا يقول. فقال له: إن هنري الرابع يا سيدي ما كان يرضى لنفسه - مهما كان الخطر المحدق به عظيما - أن يتنازل عن ريشته البيضاء لأعدائه! فتهلل الجنود فرحا وانبسطت أساريرهم وعادوا إلى جلبتهم وضوضائهم. فقال له الكونت: ذلك لا يعنيني، إنما الذي يعنيني أنني قد حقنت دمي، واستبقيت حياتي لوطني، وسلبت العدو يوما كان يريد أن يعده من أيام مجده وفخاره. قال: أما الفكرة فبديعة جدا لا أرتاب فيها، ولكن الذي أعلمه أن الجندي ما خلق إلا ليموت، فمن العار أن يخسر هذا الشرف بأي ثمن كان، وأقسم لك يا سيدي أنني لو كنت حاضرا معك في تلك الساعة ما هان علي أن أرى وشاحك العظيم في يد أعدائك دون أن أقاتل عنه حتى أفتديه ولو بحياتي. قال: قسم ضائع لا قيمة له؛ لأنك لم تكن معي! قال: بل كنت معك يا سيدي، وقاتلت عن وشاحك حتى استنقذته من يد أعدائك، وها هو ذا.
ومد يده إلى جيبه فاستخرج منه الوشاح وألقى به بين يديه، فاربد وجه الكونت وانتفض غيظا، وألقى على سيرانو وعلى الجنود نظرة شزراء ملتهبة، وقال لهم: أتدرون ماذا أصنع الآن بهذا الوشاح؟ قالوا: لا. قال: سألوح به في الجو تلويحا لا يسركم ولا يهنؤكم، وصعد إلى التل ولوح به ثلاث مرات في الهواء، والجنود يعجبون لأمره ولا يدرون ماذا يريد، ثم نزل وهو يقول: أما وقد انقضى كل شيء، فسأفضي إليكم بسر من أسرار الحرب ما زلت أكتمه في صدري حتى حان وقته، فاستمعوه: لقد اتفقت منذ أيام مع جاسوس من جواسيس العدو على أن يكون عونا لي على قومه فيما أريد، وأن يكون مخلصا لي مؤتمرا بأمري ... فقاطعه سيرانو وقال له: ولكنك تصطنع رجلا خائنا يا مولاي. قال: ومن أصطنع إن لم أصطنع الخائنين؟ فهو يدلني على مقاتل قومه وعوراتهم ومكامن أسرارهم، من حيث لا يدلهم على شيء إلا على ما أريد أن يدلهم عليه، أي إنه يخدعهم ويضللهم من حيث يظنون أنه ينصحهم ويصدقهم، وقد جمع قائدنا العام مجلسه الحربي صباح أمس، ونظر في كارثة الجوع التي نزلت بنا، فاستقر الرأي على أن يسافر هو بنفسه خلسة على رأس فرقتين من فرق الجيش إلى «أورلنس»؛ ليجلب منها المئونة والذخيرة، فسافر من حيث لا يشعر العدو بمكانه، وترك بقية الجيش هدفا للهجوم العام. فقال له كاربون: أخاف أن يعلم العدو بذلك فيكون الخطب عظيما، قال: قد علم فعلا وهو يتأهب منذ الأمس لمهاجمتنا! فهمس سيرانو في أذن لبريه: ذلك ما حدثتك عنه صباح اليوم، واستمر الكونت يقول: وقد بعثوا جاسوسهم هذا ليتفقد لهم خطوط جيشنا، ويدلهم على أضعف نقطة فيها ليهاجموها، فاتفقت معه على أن يدلهم على النقطة التي أريدها وأعطيه الإشارة منها، مضمرا في نفسي أن أغريهم بالهجوم على أقوى فرقة في الجيش؛ لتستطيع مشاغلتهم ومطاولتهم زمنا طويلا حتى يتمكن قائدنا من العودة بجيشه إلى مركزه آمنا سالما، ولما كانت فرقتكم هي أقوى فرق الجيش وأمضاها عزما، وأصلبها عودا، فقد رأيت أن أجعلها هدف ذلك الهجوم، وإن كنت أعلم أنها ستموت عن آخرها، وقد كنت أمرت ذلك الجاسوس أن يقف وراء هذا التل؛ لينتظر إشارتي فيذهب بها، وهأنتم أولاء ترون أنني قد أعطيته إياها بخفقة ذلك الوشاح، فاستعدوا للموت، فقد انقضى كل شيء.
فقال له سيرانو: أهذا كل انتقامك يا سيدي؟ إنك قد أحسنت إلينا من حيث أردت إساءتنا، فالجاسكوني لا يخاف الموت، بل يخاف الحياة مع الذل والعار! قال: ما شككت في شجاعتك قط يا سيرانو، فإن من يقاتل مائة رجل وحده فيغلبهم لا يبالي بخطر مهما عظم شأنه! ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: لا أكتمكم أنني كنت أستطيع أن أختار لاستقبال هذه النازلة فرقة أقل شجاعة من فرقتكم، لو أنني أحببتكم ورضيت عنكم وحمدت عشرتكم وسيرتكم، أما الآن فقد استطعت بعمل واحد أن أؤدي واجبي وأشفي غليلي! فقال له سيرانو: وشيء آخر يا سيدي. قال: وما هو؟ فمشى نحوه خطوة وأسر في أذنه: أن تترمل روكسان!
فارتعد الكونت ونكس رأسه وتسلل من مكانه دون أن يقول شيئا.
فالتفت سيرانو إلى الجنود وقال لهم: لقد آن أيها الأصدقاء أن نضع على شعار جاسكونيا ذي الألوان الستة، لونا دمويا أحمر كان ينقصه ليكون أجمل شعار في العالم، فكونوا عند ظني وظن فرنسا بكم، واعلموا أنه ما من ميتة في العالم أفخر ولا أمجد من هذه الميتة التي ستموتونها اليوم! فهتفوا جميعا بحياة جاسكونيا وحياة فرنسا، وابتدروا أسلحتهم يشحذونها ويصقلونها.
الدمعة
والتفت سيرانو فرأى كرستيان واقفا وراءه مطرقا جامدا، وقد انتشرت على وجهه غبرة سوداء من الحزن، فتقدم نحوه وقال له: أخائف أنت يا كرستيان؟ قال: لا، بل حزين لأني سأفارقها، فانتفض سيرانو عند سماع كلمة الفراق، ووضع يده على قلبه، ورفع عينيه إلى السماء، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئا، وصمت هنيهة ثم قال له: هون عليك الأمر يا صديقي، فرحمة الله أوسع من أن تضيق بنا. فقال: كنت أريد على الأقل أن أكتب لها كتاب وداع أبثها فيه خواطر نفسي ولواعجها في ساعتي الأخيرة. قال: لقد حدثتني نفسي ليلة الأمس - ولا أعلم كيف كان ذلك - بهذا المصير الذي سنصير إليه الآن، وأن هذا اليوم هو آخر أيامنا على وجه الأرض، فكتبت إليها على لسانك الكتاب الذي تريده، وسأبعث به إليها الآن. قال: أرنيه. قال: ها هو ذا، وأخرج الكتاب من جيبه فأعطاه إياه، فأخذ يقرؤه حتى وصل إلى سطر من سطوره الأخيرة، فتوقف ذاهلا مدهوشا وقال: غريب جدا! ما هذا الذي أرى؟ قال: ماذا؟ قال: نقطة بيضاء على الورق كأنها دمعة! فاختطف سيرانو الكتاب من يده وقال: أرني، وظل يتأمل فيه مصعدا منحدرا كأنه يفتش عن النقطة فلا يراها. فقال له كرستيان: إنها دمعة يا سيرانو ما في ذلك ريب ولا شك، فهل كنت تبكي؟ فانتفض، إلا أنه تجلد وتماسك وقال: نعم! قال: وما الذي أبكاك؟ قال: ذلك شأن الشعراء دائما، لا يتناولون موضوعا من الموضوعات المحزنة للكتابة فيه عن لسان غيرهم، حتى يتأثروا به كأنهم أبطاله، وأصحاب الشأن فيه، ولقد بدأت في كتابة هذا الكتاب، وأنت ماثل في ذهني لا تفارقه، فما زال يمتد بي الخيال ويطير بي في أجوائه، حتى تمثل لي أنني أنا الحزين المتألم والمفارق المفجوع، وأن الذي أصفه إنما هي هموم نفسي وآلامها، فانحدرت من عيني بالرغم مني هذه الدمعة التي تراها! فنظر إليه كرستيان نظرة غريبة، واختطف الكتاب من يده، وقال له: دعه معي الآن! ثم طواه ووضعه في ثنايا قميصه وانصرف.
جواز المرور
وقامت في هذه اللحظة ضجة في المعسكر، وسمعت أجراس مركبة قادمة من بعيد، وصائح يصيح من رجال الحرس بصوت غليظ أجش: من القادم؟ فصعد سيرانو وكرستيان وبعض رجال الحرس إلى التل لينظروا ماذا جرى، فرأوا مركبة مقفلة جميلة تحمل شارة من شارات الشرف، ويجلس بجانب حوذيها غلامان حسنا الزي والهندام، فما شك الجميع في أنها قادمة من باريس، وأن راكبها رسول من قبل الملك يحمل أمرا من أوامره؛ فاصطفوا صفين متقابلين، وسكنوا سكونا عميقا لا حس فيه ولا حركة، حتى وقفت المركبة على مقربة منهم، فأتلعوا إليها أعناقهم وشخصوا بأبصارهم لينظروا من القادم، ثم فتح بابها فإذا سيدة باهرة الجمال مشرقة الطلعة قد وثبت منها وثبة الجؤذر من خميلته؛ فصاح سيرانو وكرستيان معا بصوت واحد: روكسان! وكانت كما يقولون، فصعدت إلى التل بخفة ورشاقة حتى بلغت قمته، وقالت: صباح الخير أيها الأصدقاء، لعلكم جميعا بخير! فرفع الجنود قبعاتهم وأحنوا رءوسهم وعقدوا حولها نطاقا منهم ومن أنظارهم، وظلوا باهتين لمرآها ذاهلين، وكأنما أدركهم الخجل منها لرثاثة ملابسهم وتشعث هيئاتهم، فظلوا يمسحون لحاهم، ويفتلون شواربهم ويقلبون النظر في أعطافهم؛ ليروا هل لصق بها أو خالطها ما تقذى به عيون السيدات الجميلات، ومرت بهم روكسان في مواقفهم تحييهم واحدا فواحدا بابتساماتها اللامعة المتلألئة، وكلماتها العذبة الجميلة، حتى بلغت موقف كرستيان، فألقت نفسها بين ذراعيه. فقال لها وهو ذاهل مدهوش: ما الذي جاء بك يا روكسان؟ قالت: أنت الذي جئت بي يا زوجي العزيز.
وكان سيرانو واقفا مذ رآها وراء إحدى الربوات موقف الذاهل المشدوه، يرعد ويضطرب ويغالب في نفسه ثورة هائلة تتوثب نارها بين أضالعه، ثم ما لبث أن سمع صوتها تناديه، فانتبه من غشيته وتقدم نحوها، وانحنى بين يديها، فابتسمت له وصافحته مصافحة طويلة وقالت له: لعلك بخير يا ابن عمي! قال: نعم، وأشكر لك تفضلك بزيارتنا، وإن كنت أرجو أن تكون زيارة قصيرة! قالت: لماذا؟ قال: لأننا في ميدان حرب وأخشى أن يصيبك من شرها شيء! قالت: بل سأبقى معكم أطول مما تظنون، فأعدوا لي مقعدا أجلس عليه، فابتدر الجنود تلبية أمرها، ولم يبق بينهم حامل طبل أو صاحب صندوق إلا قدمه إليها، فجلست وهي تقول: ما أطول المسافة بين باريس وأراس، لقد كنت أظنها أقصر من ذلك، ولقد مررت في طريقي ببلاد شملها الخراب والدمار، ورأيت بعيني منظر الجائعين والمتألمين والصارخين، وما كنت أحب الحرب تنال من الإنسانية هذا المنال العظيم، والحق أقول يا أصدقائي: إن العاطفة التي جاءت بي إلى هنا أجمل وأرق من العاطفة التي جاءت بكم، فكم بين من يأتي ليقبل حبيبه، ومن يأتي ليقتل عدوه؟! والتفتت إلى كرستيان، وقالت له: أليس كذلك يا زوجي العزيز؟ قال: بلى. فقال لها سيرانو: ولكن كيف استطعت اختراق خطوط العدو، وتجشم هذه المخاطر كلها، قالت: لقد كان ذلك سهلا جدا يا ابن عمي، واسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أقول لكم: إن أعداءكم الإسبانيين قوم ظرفاء أرقاء، لم تسمح لهم شهامتهم وشرف نفوسهم أن يطلقوا النار على امرأة عزلاء، فلقد كنت كلما مررت بحارس من حراسهم فتحت نافذة مركبتي وأشرفت عليه، وابتسمت في وجهه ابتسامة لطيفة، فلا يلبث أن يستقبلني بمثلها، ويتنحى لي عن طريقي، فأمضي في سبيلي، فكانت الابتسامة هي «جواز المرور» الذي فتح لي جميع الأبواب الموصدة أمامي، حتى وصلت إلى هنا. قال: ألم يسألك أحد عن وجهتك التي تقصدينها؟ قالت: كان إذا سألني أحدهم قلت له: إنني ذاهبة لرؤية عشيقي! فتقع هذه الكلمة العذبة الجميلة من نفسه موقع الماء من مهجة الظامئ الهيمان، فيبش في وجهي ويحييني بإحناء رأسه ويتركني وشأني، فقاطعها كرستيان وقال لها: ولكنني لست بعشيقك يا سيدتي، بل زوجك. قالت: ما ارتبت في ذلك قط يا زوجي العزيز، ولكن كلمة العشيق تنال من نفس العاشق المفارق - وكلكم ذلك الرجل - ما لا تنال منها كلمة الزوج، فسامحني واغفر لي ذنبي.
وهنا دخل الكونت دي جيش رئيس أركان حرب الجيش، فرأى روكسان واقفة موقفها هذا بين الجنود، فدهش دهشة عظيمة إذ رآها، ودنا منها فحياها وقال لها: ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيدتي؟ قالت: جئت لأرى زوجي؛ لأنني لم أتمتع برؤيته بعد زواجي منه إلا تلك اللحظة القصيرة التي تعلمها، فاربد وجهه غيظا وقال لها: لقد أخطأت بعملك هذا خطأ عظيما، وليس من الرأي أن تلبثي هنا بعد الآن لحظة واحدة، فأعدي عدتك للرجوع من حيث أتيت، قالت: لماذا؟ قال: لأن المعركة ستدور بعد ساعة أو ساعتين، ولا مكان للنساء في ميادين الحروب. فقال كرستيان: وسنموت في تلك المعركة يا سيدتي عن آخرنا؛ لأن الكونت أراد ذلك، فذعرت روكسان واصفر وجهها، والتفتت إلى الكونت وقالت له: أصحيح ما يقول يا سيدي؟ إنك إذن تريد أن أصبح أرملة. قال: لا، وأقسم لك. قالت: ألا تعلم أنه إذا قدر لي هذا المصير كان ذلك آخر عهدي بالدنيا ونعيمها، واستحال على عين الشمس أن تراني بعد اليوم، إلا إذا استطاعت أن تخترق بأشعتها صفائح القبور! قال: أقسم لك يا سيدتي أنني ... فقاطعته وقالت: كيفما كان الأمر فمحال أن أغادر هذا المكان؛ لأنني أريد أن أموت مع أبناء وطني، فهتف سيرانو بصوت عال: لقد نطقت بكلمة الأبطال يا سيدتي فأهنئك، فابتسمت وقالت: ذلك لأنني ابنة عمك يا سيرانو، فصاح الجنود جميعا بصوت واحد: سندافع عنك يا سيدتي إلى الموت. قالت: شكرا لكم يا أصدقائي، ذلك أملي فيكم، وفي الدم الجاسكوني الذي يجري في عروقكم، فتقدم نحوها «كاربون» قائد الفرقة وانحنى بين يديها، وقال لها: أما وقد أصبحت شريكتنا في حظنا ومصيرنا فائذني لي أن ألجأ إليك في طلبة واحدة. قالت: وما هي؟ قال: أن تفتحي يدك القابضة على هذا المنديل الحريري الجميل . فلم تفهم ما يريد، ولكنها فتحت يدها فسقط المنديل على الأرض، فالتقطه وقال لها: إن فرقتي يا سيدتي ليست لها راية، وسيكون منديلك هذا رايتها التي تقاتل في ظلها، واعلمي أن جنودي سيموتون جميعا دفاعا عن الراية التي قدمتها لهم أجمل فتاة في فرنسا! ثم عقد المنديل بسنان رمحه الطويل، وركزه على قمة التل؛ فظلت الريح تعبث به، وظل الجنود ينظرون إليه نظر السائر إلى نجمة القطب الخافقة في كبد السماء.
الوليمة
فالتفتت روكسان إلى الجنود باسمة وقالت: ألا تقدمون لي شيئا من طعامكم وشرابكم أيها الإخوان، فإني أكاد أموت جوعا! فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وقد مشت في وجوههم صفرة الموت، ودهمهم من الأمر ما لم يكن يخطر لهم ببال، فشعرت روكسان بحيرتهم واضطرابهم، فابتسمت وقالت: أو قوموا بنا جميعا إلى مطعم «راجنو»؛ لنتناول عنده من الطعام ما نريد، فقال لها أحدهم: إنك تهزئين بنا يا سيدتي، فأين نحن من راجنو ومطعمه؟ قالت: إذن لا أستطيع أن أتصور كيف يكون سروركم واغتباطكم، إذا علمتم أنني قد نقلت لكم هذا المطعم وصاحبه من باريس إلى هنا؟
وتركتهم ذاهلين مدهوشين لكلامها، وصعدت إلى التل وصاحت: راجنو! راجنو! هات لنا غداءنا، فما أتمت كلمتها حتى أقبل راجنو، والغلامان الخادمان يحملون على أيديهم سلال الخبز، وصناديق الخمر، وأفخاذ اللحم الناضجة، وأنواع الفطائر والحلوى، فهتف الجنود: راجنو، راجنو! وداروا به يحيونه ويعتنقونه، ويجاذبونه أثوابه، فصاح فيهم: دعوني أيها الكسالى، واذهبوا إلى المركبة واحملوا الطعام الذي جئناكم به بأنفسكم، فحسبنا ما حملنا لكم، فهرعوا إلى المركبة وعادوا بما بقي فيها من لحم وخمر وحلوى وفاكهة، فرحين مغتبطين، وهم يقولون: كيف غفلت عيون الأعداء يا راجنو عن هذا الطعام الشهي؟ قال: لأن عيون روكسان الجميلة كانت أشهى إليهم منه.
وما هي إلا هنيهة حتى استداروا حلقات واسعة وأنشئوا يأكلون ويقصفون، وروكسان قائمة في خدمتهم؛ تقدم لهذا كأسا، ولهذا رغيفا، ولهذا سكينا، ومدامعها تتلألأ في عينيها رحمة بهم وإشفاقا عليهم، وسيرانو واقف ناحية ينظر إليها نظرة السرور والغبطة، ويردد بينه وبين نفسه: يا ملاك الرحمة والإحسان! يا أجمل نسمة طاهرة على وجه الأرض! يا نفسا نفية صافية لم يخلق الله لها مثالا بين نفوس البشر! حسبي منك أن أراك، وأن ينفذ شعاع من أشعة جمالك إلى قلبي المظلم الحالم، فيضيء ظلمته ويشرق في جوانبه.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا صوت الكونت دي جيش مقبلا من بعيد. فقال بعضهم لبعض: محال أن ينال هذا الرجل البغيض لقمة واحدة من طعامنا، فلنطو عنه كل شيء حتى ينصرف لشأنه! وما هي إلا كرة الطرف حتى اختفى كل شيء في ثنايا معاطفهم وفروج أكمامهم، ووراء صناديقهم، ثم دخل الكونت وهو يقول: ما هذه الرائحة الجديدة؟ فصمت الجنود ولم يقولوا شيئا، فظل يقلب النظر في وجوههم فيرى الحمرة التي سرت فيها من حرارة الغذاء ونشوة الشراب، فيعجب لها عجبا شديدا؛ ثم قال: ما لي أراكم منتعشين متهللين، وعهدي بكم قبل هذه اللحظة تتهافتون جوعا، وتتساقطون ضعفا وإعياء! فقال له سيرانو: إنها صحوة الموت يا سيدي! فأشاح بوجهه عنه، والتفت إلى روكسان، وقال لها: أباقية أنت هنا حتى الآن يا سيدتي؟ قالت: نعم، وما أنا ببارحة هذا المكان حتى أعود بكم أو أموت معكم! فأطرق هنيهة ثم رفع رأسه وهتف بكاربون، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: إنك ستدير المعركة المقبلة بالنيابة عني يا حضرة القائد. قال: وأنت يا سيدي؟ قال: أما أنا فباق هنا لأدافع عن روكسان بنفسي؛ لأني لا أستطيع أن أترك امرأة في خطر، فأكبر القوم جميعا هذه الشهامة الكبرى والعظمة النفسية، وهمس بعضهم في أذن بعض: إن الرجل لا يزال يجري في عروقه الدم الجاسكوني! فقال لهم سيرانو: إذن يمكننا أن نقدم إليه شيئا من طعامنا وشرابنا، فاندفعوا جميعا نحوه ومدوا إليه إيديهم بما معهم من الطعام والشراب، فألقى عليهم نظرة عالية مترفعة، وقال لهم: نعم، إنني أموت جوعا وسغبا، ولكن الجاسكوني الشريف لا يأكل فضلات طعام غيره، فصاح سيرانو: شهامة أخرى أيها الأصدقاء لا تنسوها له! وهتف: ليحي الكونت دي جيش! فهتف الجند بهتافه، فشكرهم الكونت بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يخطب فيهم خطبة الحرب، ويلقي عليهم الأوامر العسكرية، حتى قال لهم، وهو يشير إلى مدفع جاثم بين يديه: إنكم ما تعودتم إطلاق المدافع قبل اليوم، فاعلموا أن المدفع يتراجع بشدة عند خروج القذيفة منه، فكونوا على بينة من ذلك واحذروه، فصاح أحدهم بصوت عال: إن مدفع الجاسكونيين مثلهم يا سيدي لا يتراجع أبدا! فابتسم له وشكره، وقال: لا يخيبن أملي فيكم يا أبناء وطني، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: تعالي معي يا سيدتي لتشاهدي منظر استعراض الجيش، فأعطته يدها فصعدا معا إلى قمة التل.
وما أبعد إلا قليلا حتى مشى سيرانو إلى كرستيان، وقال له همسا: كلمة واحدة أريد أن أقولها لك يا سيدي، فامش معي قليلا، فمشى معه فقال له: ربما فاتحتك روكسان في شأن الرسائل التي كانت ترد عليها منك، وستقول لك إنها كانت تتلقى منك كل يوم رسالة؛ فلا يدهشك ذلك، ولا ترتبك لئلا يفتضح الأمر. قال: وهل كنت تكتب إليها كل يوم؟ قال: نعم؛ لأنني تعهدت لها عنك قبل سفرنا - كما تعلم - أن تكتب إليها كثيرا، فلم أر بدا من الوفاء، وما كان يكلفني ذلك أكثر من التعبير عن شعورك وخوالج نفسك، وذلك ما لا ينقصني العلم به، فإذا فاتحتك في هذا الشأن فلا يكن لك فيه قول غير الذي قلت لك. قال: وكيف كنت تستطيع توصيل هذه الرسائل إليها وقد حصرنا العدو من كل جانب وذادنا عن كل شيء، حتى عن طعامنا وشرابنا؟ قال: الأمر بسيط جدا: كنت أخرج في سحر كل ليلة متنكرا تحت جنح الظلام، فأكمن تارة وأظهر أخرى ...
فقاطعه كرستيان وقال له: وهل هذا بسيط جدا، الحق أقول لك يا صديقي: إنني أصبحت أعجب لأمرك كثيرا، ولئن استطعت أن أفهم كل شيء فإنني لا أستطيع أن أفهم اهتمامك بهذا الأمر هذا الاهتمام كله إلى درجة المخاطرة بحياتك في سبيله.
قال: ما في الأمر مخاطرة ولا مجازفة، فقد كان يلذ لي كثيرا أن أقوم لك بهذه الخدمة، وأن ألاقي ما ألاقي من الأخطار في سبيلها. قال: وما الذي كان يعجبك من ذلك؟ قال: التمثيل. قال: أي تمثيل؟ قال: تمثيل عواطفك وشعورك، فإنني مذ أخذت نفسي بتمثيل دورك في هذه المأساة المحزنة لم يزل يستهويني التمثيل ويهيمن على نفسي، حتى أصبحت أتخيل أنني صاحب الدور الذي أمثله، وأنني أنا المعني دونك بكتابة هذه الرسائل، والعناية بها والتذرع بكل وسيلة إلى توصيلها إليها. قال: وهل تبلغ لذة التمثيل بامرئ، هذه المبالغ كلها؟ قال: نعم، وكثيرا ما ذرف الممثلون دموعا لم يذرفها العاشقون أنفسهم. ثم التفت فرأى روكسان مقبلة فقال له: قد فهمت الآن كل شيء، فكن حكيما حازما.
ثم تسلل إلى خيمته، وتركه واقفا مكانه.
حقيقة الجمال
قال كرستيان لروكسان وقد جلسا معا على بعض المقاعد: هل لك أن تحدثيني يا روكسان: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فإنني لا أزال أعجب لأمرك كل العجب، ولا أكاد أصدق أن الحب يجشم صاحبه هذه الأخطار التي جشمتها نفسك في سبيله. قالت: لقد سحرتني وملكت علي لبي رسائلك العذبة الجميلة التي كنت ترسلها إلي صبيحة كل يوم وتودعها شعور قلبك، وهواجس نفسك، وتكتبها بتلك اللغة الغريبة المؤثرة التي لو لامست الصخر الأصم لانفجر وتناثرت شظاياه في أجواز الفضاء، وقد حاولت كثيرا أن أثبت لها وأقاوم تأثيرها على نفسي بكل سبيل، فغلبتني على أمري وقادتني إليك كما تراني.
قال: أمن أجل بضع رسائل بسيطة ...؟
فقاطعته وقالت: لا تقل بسيطة، بل هي الوحي الإلهي الذي ينزل على نفوس الملهمين من البشر، بل هي القوة الغيبية التي تهيمن على العالم، وتحيط به من جميع أقطاره دون أن يدرك أحد مكانها أو يعرف مأتاها، ولقد كان يخيل إلي وأنا أقرؤها أنني أرى صورتك فيها، كما يرى الناظر صورة البدر من وراء السحب الرقيقة، فأهوي إليها بفمي لأقبلها، فإذا أنا أقبل السطور والكلمات!
فأطرق كرستيان برأسه، وقد ألم بنفسه من الهم والكمد ما الله عالم به، واستمرت روكسان في حديثها تقول: إنني ما أحببتك يا كرستيان حبا صادقا متغلغلا في أعماق نفسي إلا منذ تلك الليلة التي رأيتك فيها واقفا تحت شرفتي تناجيني نجاء عذبا رقيقا بتلك النغمة الرقيقة المؤثرة، وتفضي إلي بذات نفسك، كأنك قد ألمستني فؤادك، ووضعت يدي على قلبك، ثم توالت علي رسائلك بعد ذلك، فكنت أسمع فيها دائما تلك النغمة الموسيقية الخلابة، وكأنك لا تزال واقفا أمام شرفتي تناجيني فلا أستطيع أن أملك نفسي دون البكاء والحنين، وأقسم لك لو أن «بينيلوب» وردت عليها من زوجها «عولس» تلك الرسائل التي وردت علي منك لما أطاقت صبرا على فراقه، ولألقت بنسيجها الذي عرفت به في التاريخ، وذهبت تفتش عنه بين سمع الأرض وبصرها حتى تلقاه.
فقال ونفسه تذوب حسرة وكمدا: ما كنت أقدر يا روكسان أن تلك الرسائل الصغيرة تبلغ من نفسك هذه المبالغ كلها. قالت: لقد كان سلطانها على نفسي عظيما جدا، وكنت أعيد قراءتها مرات كثيرة، حتى تتشربها نفسي وتتمثلها روحي، وحتى كان يخيل إلي أن كل كلمة من كلماتها ورقة تطير إلي من أوراق روحك، فما لبثت أن شعرت أنني قد أصبحت ملكا لك، وأسيرة في يديك، وأن أمر نفسي قد خرج من يدي، فلا حول لي فيه ولا حيلة.
فاكتأب كرستيان وتقبض وجهه، وقال لها: أهذا كل ما جاء بك إلى هنا؟ قالت: نعم، جئت لأستغفرك من ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، فقد أحببتك لأول عهدي بك لجمالك ورونقك وقسامة وجهك، كأن الجمال هو كل فضائلك ومزاياك، فأهنتك بذلك إهانة عظمى، أما الآن فإني أجثو بين يديك، لا بجسمي - فإنك لا تلبث أن ترفعني بيدك - بل بروحي التي لا يمكنك أن تغير مكانها منك أبدا، طالبة صفحك وعفوك عن تلك الجريمة التي اقترفتها، وما أحسبك تضن علي بذلك في هذه الساعة التي نقف فيها جميعا على أبواب الأبدية، ونودع فيها الحياة الوداع الأخير.
فانتفض كرستيان وشخص في وجهها ساعة، ثم قال لها: هذا شأنك في الماضي، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ قالت: كنت بعد ذلك أكثر تعقلا وروية، وأبعد فكرا ونظرا، فامتزج في نظري جمال صورتك بجمال نفسك، فاستحالتا إلى صورة واحدة فأحببتها. قال: والآن؟ قالت: أما الآن فقد انتصرت نفسك عليك انتصارا عظيما، فأصبحت لا أحب منك سواها، ولا أشعر بسلطان لغيرها على قلبي.
فاصفر وجهه اصفرارا شديدا، وأطرق برأسه، وظل يقول بينه وبين نفسه: إنها ما أحبتني في حياتها لحظة واحدة!
واستمرت هي في حديثها تقول: فليهنك ذلك الحب الثمين يا زوجي العزيز، فإن أسعد الناس حالا في هذه الحياة، وأحظاهم بنعمة العيش فيها أولئك الذين منحهم الله نفسا جميلة شعرية تتعشقها القلوب، وتتشربها النفوس، وتهفو لها الأحلام، وتقوم لهم في كل موقف ومقام مقام الجمال الجثماني إن فاتهم، أو نزلت به كارثة من كوارث الدهر، وما الجمال الجثماني إلا سحابة رقيقة تطير بها برودة الهواء، أو هضبة ثلجية تذيبها حرارة الشمس، وما أحب المحبون قط في الصور الجميلة جمالها ورونقها، بل جمال النفوس الكامنة في طياتها؛ ولا أبغض المبغضون في الصور الدميمة قبحها ودمامتها، بل قبح النفوس المستكنة فيها، فإذا اختلف العنوان عن الكتاب في إحدى الحالتين كان الفوز العظيم للجمال النفسي على صاحبه، وإني أعترف لك يا كرستيان بأني ما أحببتك عند النظرة الأولى إلا لجمالك؛ لأني ما كنت أرى في سماء حياتك كوكبا مشرقا سواه، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذ ذلك الكوكب يتضاءل أمام عيني شيئا فشيئا بجانب تلك الأشعة الباهرة، التي كانت تتدفق من ينبوع نفسك الجياشة الفياضة، حتى أصبحت لا أراه ولا أشعر به.
فازداد اضطرابه واصفراره، وظل ينظر إليها نظرا غريبا حائرا. فقالت له: ما لي أراك حزينا مكتئبا، كأنك في شك من هذا الانتصار العظيم الذي تم لنفسك عليك؟ فنظر إليها نظرة ساكنة جامدة، ثم قال: اسمعى يا روكسان، إنني لا أحفل بهذا الحب ولا أغتبط به، ولا أريد إلا أن تنظري إلي دائما بتلك العين التي نظرت بها إلي لأول عهدك بي. قالت: إني أعجب لأمرك كثيرا يا كرستيان، فإن الحب الذي تؤثره وتغتبط به حب تافه لا قيمة له ولا ثبات لظله، أما الآن فإني أحبك لصفاتك الكريمة النادرة التي قلما اجتمعت لمخلوق سواك: أحبك لذكائك الخارق، وفطنتك النادرة، وشرف عواطفك، ورقة شعورك، ولطف حسك، وسعة خيالك، وذلك البيان الرائق الصافي الذي يشف عن جوهر نفسك شفوف الغدير الساكن عن لآلئه وجواهره، أحبك من أجل ذلك كله حبا ثابتا راسخا لا تعبث به صروف الدهر، ولا تنال منه عاديات الأيام، حتى لو استحالت صورتك إلى صورة أخرى غيرها لما نقص حبي إياك ذرة واحدة!
فارتعد كرستيان وشعر أن نفسه قد بدأت تتسرب من بين جنبيه، فمد يده إليها ضارعا وقال: الرحمة يا روكسان! قالت: بل لو ذهب جمالك بحادثة من حوادث القضاء، فأصبحت بشع الصورة دميم الخلقة ...
فقاطعها وصاح: دميم الخلقة؟ قالت: نعم، وأقسم لك على ذلك يا زوجي العزيز، ويا أحب الناس إلي.
فظل يرتعد ويضطرب اضطرابا خيل إليها أنه نشوة الحب وسكرة السرور. فقالت له: أسعيد أنت الآن يا كرستيان؟ فنظر إليها نظرة غريبة لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءها، وقال: نعم سعيد جدا، ومن هو أولى بالسعادة مني؟ ونهض قائما يريد الانصراف. فقالت له: إلى أين؟ قال: لم يبق بيننا وبين المعركة إلا لحظات قليلة، ولا بد أن يكون هذا آخر اجتماع لنا، فالوداع يا روكسان وداعا لا لقاء بعده! فاضطربت وقالت: ولم يغلب يأسك على رجائك، ورحمة الله أوسع من أن تضيق بك؟ قال: إن السعادة أضن بنفسها من أن تثبت زمنا طويلا في مكان واحد! فالوداع يا روكسان!
وأخذ يبتعد عنها شيئا فشيئا دون أن يضع يده في يدها أو يقبلها قبلة الوداع، فمشت وراءه وهي تعجب لأمره وتقول: ما بالك يا كرستيان؟ قف قليلا لأقول لك كلمة واحدة ثم اصنع ما شئت، إنك لم تفهم غرضي! وأقسم لك أنك لو فهمته لعلمت أنني أحببتك حبا ما أحبه أحد من قبلي أحدا. قال: حسبك يا روكسان وعودي إلى هؤلاء الجنود المساكين البائسين، فإنهم يفكرون في مثل ما أفكر فيه، ويودعون الحياة كما أودعها، فاذهبي إليهم، واجلسي بينهم قليلا، وعزيهم بابتساماتك العذبة الجميلة عن همومهم وآلامهم، أما أنا فذاهب لقضاء بعض الشئون، وربما عدت إليك بعد قليل.
ثم اختفى عن نظرها.
المكاشفة
دخل كرستيان على سيرانو في خيمته شاحب اللون، مكفهر الجبين. فقال له سيرانو: ماذا بك يا صديقي؟ قال: إنها حدثتني الآن حديثا طويلا علمت منه أنها لا تحبني، بل ما أحبتني قط في يوم من أيام حياتها! قال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: وأقول أيضا إنها تحبك أنت، ولا تحب في الدنيا أحدا سواك.
فانتفض سيرانو انتفاضة شديدة كادت تتطاير لها أجزاء نفسه، وقال: أنا؟ قال: نعم؛ لأنها اعترفت لي بأنها لا تحب مني إلا نفسي، وأنت نفسي التي تكمن بين أضالعي، فهي تحبك حب العابد معبوده، وما جاءت هنا إلا من أجلك، وما أشك في أنك تضمر لها في قلبك من الحب مثل ما تضمر لك.
فصرخ سيرانو وقال: لا، وأقسم ...
فقاطعه كرستيان وقال: لا تفعل، فلقد نمت عليك تلك الدمعة التي رأيتها بعيني في كتاب الوداع الذي كتبته إليها، وما هي بدمعة الشعر كما تقول، بل دمعة الحب، وما كنت تكتب إليها عن لساني كما تزعم، بل عن لسانك أنت، فاعترف بأنك تحبها.
فأطرق سيرانو هنيهة ذهبت نفسه فيها كل مذهب، ثم رفع رأسه وقال: نعم يا كرستيان، أعترف لك بأني أحبها، وأقسم لك أنني ما طمعت فيها قط. قال: نعم، أعلم ذلك، فوا رحمتاه لك ولتلك الآلام الطوال التي قاسيتها في ماضي حياتك، أما الآن ففي استطاعتك أن تطمع فيها كما تشاء، ولا يوجد في العالم شيء يحول بينك وبينها. قال: لا أستطيع، فإن من يحمل وجها مثل وجهي لا يطمع في حياة الحب والغرام. قال: إنها أقسمت لي أنني لو كنت بشع الخلقة، دميم الوجه لما نقص حبها إياي ذرة واحدة، فانتعش سيرانو وقال: أوقالت لك ذلك؟ قال: نعم، ما زالت تقوله لي حتى أملتني وأضجرتني! قال: لا تحفل بقولها، فهي فتاة شعرية الأفكار والتصورات، تقول بلسانها غير الذي تضمره في أعماق نفسها، فابق محبوبها الجميل كما كنت، ولأبق أنا لسانك الناطق بين يديها حتى يقضي الله فينا جميعا بقضائه! قال: ذلك مستحيل بعد الآن، فإني أشعر في أعماق نفسي بخجل ما أحسب إلا أنه سيقضي على حياتي قبل أن تقضي عليها القذيفة التي تنتظرني في ساحة القتال، فاذهب إليها واعترف لها بكل شيء، وقل لها: إن الرجل الذي أحببته من أجل ذكائه وفطنته وذلاقة لسانه وقوة بيانه كاذب، عاش ينتحل مواهب الناس وفضائلهم لنفسه، وليس له فيها من الحظ شيء! قال: ذلك فوق الاحتمال يا كرستيان. قال: لا بد من ذلك، فليس من العدل أن أقتل هناءك من أجل أن الطبيعة جملتني بهذه الحلية البسيطة من الجمال. قال: وليس من العدل أن أفجعك في سعادتك؛ لأن الطبيعة منحتني شيئا من القدرة على التعبير عن عواطفي. قال: لا بد أن تفاتحها في موضوع حبك، فأنت محبوبها الحقيقي، أما أنا فخلعتك الجميلة التي تلبسها وتتجمل بها، فانزعها عنك، وتقدم إليها بأي ثوب تريده، فهي لا تبالي بجمال الأثواب وزخرفها، إنني ضقت ذرعا بهذه النفس الغريبة التي أحملها دائما بين جوانحي، حتى أعييت بأمرها إعياء شديدا، ولا راحة لي إلا في الخلاص منها! قال: إنك تريد شقائي يا صديقي: قال: لا، بل سعادتك، فاذهب إليها وقص عليها القصة من مبدئها إلى منتهاها، واترك لها الخيار في أمرها، فإن اختارتك فقد أنصفتك، ولقد كان عقد الزواج الذي جرى بيننا عقدا سريا لا تحفل به الكنيسة، ولا يعبأ به الناس، فما أسهل التخلص منه، وإن اختارتني لا أكون غاشا لها ولا خادعا. قال: ستختارك أنت بلا شك. قال: أرجو أن يكون كذلك، وها هي ذي مقبلة فاشرح لها كل شيء، أما أنا فذاهب إلى نهاية الخط لشأن من الشئون لا بد لي من قضائه، وربما عدت إليك بعد قليل.
فارتاب سيرانو في أمره، وأمسك بيده وقال له: إنني أقرأ على جبينك آية اليأس يا كرستيان، فهل تقسم لي أنك لا تقتل نفسك؟ قال: أقسم لك ألا أقتل نفسي، ثم التفت فرأى روكسان على مقربة منه. فقال لها: سيحدثك سيرانو حديثا خطيرا فاذهبي إليه.
ثم وضع يده على مقبض سيفه فجرده من غمده، وهرع إلى ساحة القتال وهو يقول: الوداع يا نور السماء!
الفاجعة
فدنت روكسان من سيرانو وقالت: ما باله؟ إني أعجب لأمره كثيرا، ولا أدري ما الذي دهاه، فما هو ذلك الحديث الخطير الذي تريد أن تحدثنيه؟ قال: لا شيء، إنه يهتم بأصغر الأمور وأبسطها، فلقد كان يروي لي تلك المحادثة التي دارت بينك وبينه منذ هنيهة. قالت: نعم، ويخيل إلي أنه لم يفهم غرضي، أو أنه في شك مما أفضيت به إليه؛ وأؤكد لك يا صديقي أنني ما قلت له إلا الحقيقة التي أعتقدها، فإنني أصبحت - بعد اطلاعي على تلك الرسائل البليغة التي كان يرسلها إلي كل يوم من ميدان الحرب - مفتتنة بعقله وذكائه أكثر من افتتاني بحسنه وجماله، حتى لو استحالت صورته إلى صورة أخرى غيرها، أو ذهب بجماله حادث من حوادث الدهر فأصبح ... ثم سكتت حياء وخجلا. فقال: دميما؟ قالت: نعم، ولو أصبح كذلك. قال: وبشع الصورة؟ قالت: نعم. قال: ومشوه الوجه؟ قالت: نعم. قال: وضحكة الناس وسخريتهم؟ قالت: إن من كان له مثل عقله ولسانه لا يكون ضحكة الناس وسخريتهم.
وهنا سمعا أول طلقة من طلقات المعركة، فلم يحفلا بها، واستمر سيرانو في حديثه يقول: أتحبينه برغم كل شيء؟ قالت: نعم برغم كل شيء، فقد غمر جمال نفسه جمال صورته حتى أصبحت لا أراها ولا أشعر بها، فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطا عظيما، وعلم أنه قد أشرف على السعادة التي ظل ينتظرها أعواما طوالا، ولم يبق بينه وبينها إلا كلمة أخرى ينطق بها، فإذا هي بين يديه.
في هذه اللحظة أقبل «لبريه» من ناحية الميدان مسرعا، وأسر في أذن سيرانو هذه الكلمة: «قد قتل كرستيان!» فانتفض وقال: وكيف قتل؟ قال: بأول قذيفة من قذائف المعركة، فاصفر وجهه وارتعدت فرائصه، وغشت على عينيه غمامة سوداء، فعجبت روكسان لأمره وقالت له: ما بك يا سيرانو؟ قال: لا شيء! قالت: أتمم حديثك، ماذا كنت تريد أن تقول لي؟ فصمت وأطرق هنيهة، وظل يقول بينه وبين نفسه: قد انقضى كل شيء، فلا أستطيع أن أقول شيئا، ولقد كان كرستيان صديقي وعشيري، فليس في استطاعتي أن أبني سعادتي على أنقاض شقائه! فظلت روكسان تنظر إليه ذاهلة حائرة، وتقول: ليت شعري ماذا جرى؟ وسيرانو مطرق لا يرفع رأسه، حتى أقبل جماعة من الجنود يحملون على أيديهم شيئا مسجى يشبه الجثة، فوضعوه ناحية، فارتعدت روكسان، وكأن نفسها حدثتها بما كان، فظلت تنظر إلى ذلك الشيء باهتة مدهوشة، وتقول: انظر يا سيرانو! ما هذا الذي أرى؟ أتدري ماذا يحمل هؤلاء الرجال؟ فانتبه إليها وقال: دعيهم وشأنهم يا سيدتي، واستمعي بقية حديثي، وحاول أن يجمع شتات ذهنه المبعثر فلم يستطع، فأخذ يتكلم كلاما مضطربا متقطعا، ويقول: كنت أريد أن أقول لك ... آه، ماذا كنت أريد أن أقول؟ لا أستطيع أن أقول شيئا، فقد انقضى كل شيء، كنت أريد أن أقول ... آه، قد تذكرت: أقسم لك يا روكسان أنك صادقة فيما قلت، نعم كان كرستيان كما قلت: فتى ... فقاطعته وصرخت صرخة عظيمة وقالت: كان؟! يخيل لي أنك ترثيه! ودفعته بيدها دفعة شديدة، وهرعت إلى الجثة، وكشفت الغطاء عنها، فإذا كرستيان في سكرة الموت.
فألقت بنفسها عليه، وقد أصابها مثل الجنون، وظلت تبكي وتنتحب انتحابا محزنا، وتصرخ صرخات مؤلمة، ثم لمحت في صدره الجرح الذي ينبعث منه الدم، فمزقت قميصها واقتطعت منه قطعة، وهرعت إلى موضع الماء لتبللها، ففتح كرستيان عينيه في تلك اللحظة وتأوه آهة طويلة، فدنا منه سيرانو وأكب عليه وهمس في أذنه: أبشر يا كرستيان، فقد بحت لها بكل شيء وخيرتها بيني وبينك، فاختارتك من دوني، وهي لا تحب أحدا سواك!
وعادت روكسان وفي يدها القطعة المبللة، فظلت تمسح بها الجرح، وتقول: إنه لا يزال حيا، وسيلتئم جرحه بعد قليل، وسيعيش بجانبي دهرا طويلا، أليس كذلك يا سيرانو؟ ثم وضعت خدها على خده، فشعرت ببرودة الموت تسري في جسمه، فاصفرت وتخاذلت أعضاؤها، وظلت تناجيه نجاءا محزنا مؤثرا، وتضرع إليه أن يعيش من أجلها؛ لأنها في حاجة إليه، ولا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعده، ثم وضعت يدها على صدره، فعثرت بذلك الكتاب الذي كان قد أخذه من سيرانو، فأمرت نظرها عليه فوجدته معنونا باسمها، ورأت عليه نقطة من الدم، وتلك القطرة من الدمع. فقالت: وا رحمتاه له! إنه كان يحدث نفسه بهذا المصير الذي صار إليه!
واحتضنته إلى صدرها وظلت تقبله وتلثمه، ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فحاول أن يتحرك فلم يستطع، فشهق شهقة كانت فيها نفسه!
المعركة
وكانت المعركة قد اشتدت، ودوى الميدان بصرخات الجنود وصيحاتهم، وقعقعة السلاح وأزيز الرصاص، وهتاف القواد بالجند أن تقدموا، ولا تتقهقروا أيها الأبطال البواسل، وانتزعوا النصر من بين مخالب أعدائكم انتزاعا، فهاج الموقف نفس سيرانو، فجذب يده من يد روكسان - وكانت آخذة بها - ليهجم مع الهاجمين، فاستوقفته وقالت له: ابق معي قليلا يا سيرانو، فلقد مات كرستيان، وليس في العالم من يعينني على نكبتي فيه سواك، لقد كنت الرجل الوحيد الذي عرفه حق المعرفة، وأدرك ما اشتملت عليه نفسه من الفضائل والمزايا، فقل لي: ألم يكن في حياته عظيما؟ قال: بلى. قالت: وذا همة عالية لا تسمو إليها همم الرجال؟ قال: بلى. قالت: وذا نفس عذبة صافية كأنها قطرة الندى المترقرقة في الزهرة الناضرة؟ قال: بلى. قالت: وشاعرا عبقريا لم تطلع الشمس على مثله في عهد من عهودها الخالية؟ قال: بلى. قالت: لقد هوى ذلك الكوكب المنير من سمائه، وانحدرت تلك الشمس المشرقة إلى مغربها من حيث لا رجعة لها، فوا أسفا عليه! ثم صرخت صرخة تتقطع لها نياط القلوب، وألقت بنفسها عليه، وظلت ترثيه وتندبه، وتذرف فوق جثته جميع ما أودع الله عيونها من دموع، فوقف سيرانو وجرد سيفه من غمده وقال: إنها الآن تبكيني في بكائها على كرستيان؛ فيجب أن أموت!
وكان رصاص الأعداء يحصد الجاسكونيين حصدا ، فيتساقطون تساقط أوراق الشجر الجافة أمام الزوبعة الهائلة، وهم لا ينثنون ولا يتحلحلون، والكونت دي جيش في مقدمتهم يصيح بصوت عال: ها هو ذا جيش قائدنا قد اقترب، فاصبروا ساعة أخرى يتم النصر لفرنسا، فصرخ سيرانو: الوداع يا روكسان! واندفع إلى قمة التل، فاستقبله الكونت، واعترض طريقه وقال له: قف مكانك، لا تلق بيدك إلى التهلكة، فقد آن أوان الهزيمة أو هلك الجنود جميعا. قال: إن الجاسكونيين لا يتراجعون ولو أمرتهم بذلك، فكل أمرهم إلي ودعني وشأني، فإنني ناقم موتور أريد أن أنتقم لصديقي الذي ثكلته! وهنائي الذي فقدته، فاذهب أنت إلى روكسان ودافع عنها كما وعدتها حتى تبلغ مأمنها!
ثم صاح في الجنود: تشجعوا أيها الأصدقاء ولا تتقهقروا، فالحياة أمامكم، وليست وراءكم، فتقدموا أيها الأبطال وموتوا جميعا، فما في الموت شيء سوى أن تنقلوا مكان اجتماعكم من الأرض إلى السماء، موتوا فالموت أهون عليكم من أن تروا وطنكم ذليلا في يد أعدائكم، وقد مات أصدقاؤكم ورفقاؤكم، فما بقاؤكم في الحياة من بعدهم؟ رفرف علينا أيها العلم الصغير المطرز باسمها، وابعث في قلوبنا جميعا روح القوة والشجاعة لنموت عن آخرنا تحت ظلك الخافق!
فظل الجنود ثابتين في أماكنهم ومنجل القضاء يحصدهم حصدا، حتى وصل جيش العدو إلى قمة التل، وصاح قائدهم: ألقوا بأسلحتكم أيها القوم، فستموتون جميعا إن لم تسلموا ولا يجدي عليكم الموت شيئا! فأجابه سيرانو: لا يسلم إلا الأذلاء الجبناء، وما فينا جبان ولا ذليل! الهجمة الأخيرة أيها الأبطال؛ فها هي ذي طبول القائد الأعظم تدنو منا وتقترب، وليس بينكم، وبين النصر إلا كرة واحدة.
وكان الأمر كما يقول، فما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى أشرف جيش القائد العام، وهاجم الأعداء من خلفهم، فالتحم الجيشان، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى تم النصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية، ولكن بعد أن تلاشى الجنود الجاسكونيون في المعمعة جميعا!
الفصل الخامس
بعد خمسة عشر عاما
لدير الراهبات بباريس فناء واسع قد غرست في أنحائه بضع أشجار ضخمة باسقة، قد تناثرت من تحتها أوراقها الساقطة الصفراء، ووضع في وسطه مقعد حجري هلالي الشكل، فخرجت الراهبات بعد أداء صلواتهن في محاريبهن، يتمشين في ذلك الفناء، ويتحدثن بأحاديث مختلفة، لا يخلو بعضها من ذكر العالم الدنيوي وشئونه، والحياة ووقائعها، كأن ذلك الحجاب الحجري الذي أسدل دونهن من الأسوار والجدران لم يستطع أن يقطع الصلة بينهن وبين الحياة التي هجرنها واطرحنها، وأقسمن بين يدي الله أن ينسينها أبد الدهر.
فلم يزل بين جوانحهن بصيص ضعيف من تلك الذكرى يلمع من حين إلى حين؛ لأنهن لا يستطعن - مهما بلغن من قوة اليقين ورسوخ الإيمان وثبات العزيمة - أن ينتزعن الطبيعة من بين جنوبهن، كما يرفعن قبعاتهن عن رءوسهن وأرديتهن عن أكتافهن، ويرمين بها وراء تلك الأسوار والجدران، كما أرادت منهن ذلك الشرائع النظرية التي لا صلة بينها وبين حقائق الحياة وطبائعها. فقالت الأخت «مارت» للأخت «كلير»: لقد رأيتك اليوم واقفة أمام المرآة مرتين، ورأيت في يدك مشطا تحاولين أن تمشطي به شعرك، وسأرفع أمرك إلى الرئيسة! قالت: إنك لا تستطيعين أن تفعلي إلا إذا استطعت أن تحدثيني عن تلك الأغنية الغرامية، التي كنت تتغنين بها ليلة أمس في غرفتك بصوت خافت شجي، كأنك تتذكرين بها عهدا قديما! فابتسمت الأخت «مارت» وقالت: إنني إن أعفيتك من الشكوى إلى الرئيسة، فلن أعفيك من الشكوى إلى المسيو بيرجراك عند حضوره! قالت: كأنك تأبين إلا أن نصبح ضحكة الناس وسخريتهم؛ فسيرانو رجل شديد قاس، يكره الحركات النسائية المتطرفة، وينعى عليها نعيا شديدا. قالت: ولكنه يذهب في نقده مذهب التهكم البديع المستطرف، فهو إلى الفكاهة أقرب منه إلى الجد. فقالت الأخت «مارجريت»: الحق أقول يا أخواتي، إنني لم أر في حياتي أظرف من هذا الرجل، ولا أعذب منه لسانا، ولا أحلى مجونا، ولا أطيب قلبا، ولا أنقى سريرة. فقالت لها «كلير»: أصحيح يا أختاه أنه يختلف إلى هذا الدير منذ اثني عشر عاما قالت: بل أكثر من ذلك، مذ هجرت ابنة عمه الأخت روكسان العالم الدنيوي، ونزلت بنا كما ينزل الطير الحزين وسط الطيور البيضاء، ومزجت سواد رهبانيتها بسواد حدادها، وسيرانو هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعزي نفسها، ويمسح دموعها، ويخفف أحزانها الكامنة في أعماق قلبها. فقالت «مارت»: ولكنه، ويا للأسف غير متمسك بواجباته الدينية، وهو إلى الإلحاد أقرب منه إلى الإيمان. فقالت «كلير»: أظن أننا نستطيع أن نهديه إذا نحن حاولنا منه ذلك.
وهنا أقبلت الرئيسة، وقد سمعت هذه الكلمة الأخيرة، فعلمت أنهن يتكلمن عن سيرانو. فقالت: إني أمنعكن جميعا عن مفاتحته في هذا الأمر، فدعنه وشأنه، والله يتولى أمره. فقالت: «مارت»: ولكنه مكابر عنيد، لا يزال يولع بمحادتي ومغايظتي كلما رآني؛ فقد قال لي يوم السبت الماضي عند حضوره: إنه أكل بالأمس لحما ودسما، فلم أطق استماع ذلك منه وكدت أختصمه، قالت: لا تصدقيه يا بنيتي، فإنه حينما جاءنا في المرة الماضية كان قد مر به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز! فدهشت الراهبات جميعا، ونظرن إلى الرئيسة باهتات مذهولات. فقالت لهن: لا يدهشكن ذلك يا بنياتي، فسيرانو رجل فقير معدم، لا يملك من متاع الدنيا شيئا. فقالت لها «مرجريت»: عجيب جدا! من أخبرك بذلك؟ قالت: صديقه «لبريه». قالت: ألا يساعده أحد؟ قالت: لا؛ لأنه لا يريد ذلك.
وإنهن لكذلك إذ أقبلت روكسان من ناحية باب الدير في لباسها الأسود، وبجانبها الكونت دي جيش، وكان قد وصل في مجده الدنيوي إلى الغاية القصوى التي لا غاية وراءها، فأصبح القائد العام للجيش الفرنسي، وأصبح يدعى «الدوق ماريشال دي جرامونت»، وكان قد أشرف في ذلك الوقت على سن الشيخوخة، فهدأت في نفسه تلك العواطف القديمة الثائرة، عواطف الشرور والشهوات، فأخذ نفسه بزيارة روكسان في ديرها من حين إلى حين للتعزية والوفاء والتكفير عن سيئاته الماضية إليها، فلم يزل سائرا معها حتى بلغا ذلك المقعد فجلسا عليه، ثم نظر إليها نظرة حزينة مكتئبة، وقال لها: أهكذا تعيشين دائما يا روكسان في عزلتك هذه، لا تفكرين في شأن من شئون الحياة، ولا تأسفين على عهد من عهودك الماضية؟ قالت : نعم دائما، لا أذكر غيره، ولا يمر بخاطري شيء سواه! قال: وهل غفرت لي ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، أم لا تزال في قلبك بقية من العتب والموجدة علي؟ فاغرورقت عيناها بالدموع وصمتت هنيهة، ثم رفعت نظرها إلى صليب الدير العظيم الماثل أمامها وقالت: ما دمت في هذا المكان، وما دام هذا ماثلا أمام عيني، فأنا أغتفر جميع الذنوب، حاضرها وماضيها. قال: وا رحمتاه لذلك الفتى المسكين! ما كنت أظن أن نفس إنسان في العالم تشتمل على مثل الصفات التي كانت تشتمل عليها نفسه، لولا أنك أقسمت لي على ذلك! قالت: إنك لو عرفته معرفتي إياه لامتلأت نفسك إعجابا به، وإعظاما له، ولكان حزنك عليه عظيما كحزني! قال: وهل لا تزالين محتفظة بكتابه الأخير حتى اليوم؟ قالت: إنه لا يفارق صدري قط، كأنه الكتاب المقدس. قال: أتحبينه حتى بعد الموت؟ قالت: يخيل إلي أحيانا أنه لم يمت؛ لأن مكانه من قلبي لا يزال باقيا كما هو، وكأن روحه ترفرف علي وتتبعني حيثما سرت وأنى حللت، ولا تزال ترن في أذني حتى الساعة تلك النغمة الجميلة التي كان يحدثني بها ليلة الشرفة، كأن لم يمر بها إلا يوم واحد. قال: وهل يأتي سيرانو لزيارتك أحيانا؟ قالت: نعم، يفد إلي دائما يوم السبت من كل أسبوع، في ساعة معينة لا يتأخر عنها ولا يتقدم، فإذا حضر رآني جالسة أمام منسجي، فيجلس على مقربة مني فوق مقعد يعدونه له، ويبدأ حديثه معي بالهزل والمجون والسخرية بي وبمنسجي، ويسميه «الحركة الدائمة التي لا نهاية لها»، فإذا فرغ من ذلك أخذ يقص علي حوادث الأسبوع يوما فيوما كأنه جريدة أسبوعية، واعلم يا سيدي أن ذلك الصديق القديم والأخ الوفي هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يسري عني بعض همومي وآلامي، ويحمل عني الشيء الكثير من أثقال هذه الحياة وأعبائها، ولولاه لمت في عزلتي هذه هما وكمدا.
وهنا فتح باب الدير ودخل «لبريه» فتقدم نحو روكسان فحياها. فقالت له: كيف حال صديقك يا لبريه؟ قال: في أسوأ حال يا سيدتي، فإن غرابة أخلاقه، وشذوذ طباعه، وتهوره في ميوله وآرائه، وصلابة عوده في خصوماته ومناظراته قد بلغت به المبلغ الذي كنت أتوقعه له من عهد بعيد: الفقر والعدم، والشقاء والبؤس، والخصوم الألداء، والأعداء الثائرين المتنمرين الذين يكيدون له ليلهم ونهارهم لا يهدءون ولا يفترون، وهو في غفلة عن هذا كله، لا يعجبه ولا يطربه ولا يلذ له غير الانتقاد المر، والتهكم المؤلم بالأشراف والنبلاء ورجال الدين، والأدباء والصحفيين، والشعراء والممثلين، لا يهادنهم ولا يواتيهم، ولا يهدأ عنهم لحظة واحدة، فينعى على القسيس نظرة واحدة يلقيها عرضا على وجه جميل، وعلى الشاعر معنى بسيطا يسرقه من شاعر متقدم، وعلى النبيل مشية الخيلاء يمشيها في طريقه، وعلى الصحفي نشر إعلان خمر في جريدته أو خبر مكذوب، كأنه موكل بهداية البشر، وتقويم اعوجاجهم وتهذيب أخلاقهم، وكل ما يعتذر به عن نفسه إن لامه في ذلك لائم أنه يقول ما يعتقد، وينطق بما يعلم، كأنما لا يوجد في العالم كله من يعلم ما يعلمه سواه، وما أظن الهيئة الاجتماعية التي يشاكسها ويثاورها، ويزعم أنه قادر على تقويم معوجها وإصلاح فاسدها تستطيع الصبر عليه طويلا، ويخيل إلي أن انتقامها منه سيكون هائلا جدا، وأنه سيموت عما قليل شهيد ذلك الشيء الذي يسميه «الحرية الفكرية والنقد الصحيح».
فقالت روكسان: ولكن سيفه القاطع يحميه من هؤلاء جميعا. قال: ربما يحميه، ولكنني أخشى عليه عدوا واحدا هو أشد عليه من جميع أعدائه. قالت: ومن هو؟ قال: الجوع، فإنه يقاسي من آلامه ما لا يستطيع أن يحتمله بشر، وكثيرا ما قضى الليالي ذوات العدد شادا منطقته على بطنه من السغب، لا يشكو ولا يتبرم، ولا يسمح لنفسه أن يمد يده إلى أحد غير خالقه، إلى أن تتيسر له اللقمة التي يعتقد أنها معجونة بعرق جبينه، فلا يمتن بها عليه أحد، حتى ذبل جسمه، وشحب لونه، وعرقت عظامه، وأصبح أشبه بالهيكل منه بالإنسان!
أما اللباس فقد أصبح عاريا منه إلا قليلا، ولقد باع في الأسابيع الأخيرة جميع ثيابه، فلم يبق له منها إلا رداء واحد من الصوف الأسود يتعهده بالترقيع من حين إلى حين، ولا أدري ماذا يكون شأنه غدا إذا نزل به ضيف الشتاء القادم، فلا يجد في غرفته المظلمة الباردة بصيصا ولا قبسا!
فقال الدوق: إنك تبالغ كثيرا يا لبريه في الحزن عليه والرثاء له، فسيرانو رجل عظيم، لا يكترث بآلام الحياة ومصائبها، ولا ينظر إليها بمثل العين التي تنظر بها إليها، ولقد عاش طول حياته حرا مستقلا في آرائه ومذاهبه، غير مبال بما يلاقيه في هذه السبيل من المكاره والآلام، ولا يزال شأنه في حاضره مثله في ماضيه، فاعجبوا به كل الإعجاب، ولا تهينوه بالتألم له والبكاء عليه!
فدهش لبريه وظل ينظر إلى الدوق نظرا حائرا مضطربا؛ لأنه ما كان يتوقع منه بعد الذي كان بينه وبين سيرانو أن يجري لسانه بكلمة ثناء عليه أو إعجاب به؛ فقال له الدوق: لا تعجب يا لبريه، فإنني وإن كنت أعلم أنني قد نلت من حياتي كل شيء، وأنه قد حرم كل شيء فأنا أعتقد أنه خير مني، وأن نفسه تشتمل على أفضل مما تشتمل عليه نفسي، وليتني أستطيع أن أستغفره ذنبي الذي أذنبته إليه، وأن أضع يده في يدي فأصافحه مصافحة الصديق للصديق.
ثم نهض قائما وقال: أستودعك الله يا روكسان، فنهضت روكسان لتوديعه، ومشت معه تشيعه إلى الباب. فقالت له وهي تسايره - وكان ذيل ردائها يجر معه كثيرا من أوراق الشجر الجافة المتساقطة، فيحدث صوتا أشبه بالحفيف: أتقول الحقيقة عن سيرانو يا سيدي أم أنت تتهكم به؟ قال: لا، بل أقول الحقيقة التي أعتقدها، وأقسم لك يا روكسان إنني كثيرا ما غبطته بيني وبين نفسي، وتمنيت أن أكون مثله! فدهشت وقالت: ولكنك عظيم يا مولاي! قال: إن المرء حينما يصل إلى ذروة العظمة في الحياة لا بد أن تمر به ساعات - مهما كان طاهرا وبريئا - يشعر فيها ببعض آلام خفية تلدغ نفسه وتؤلمها، وربما لا تبلغ في قوتها وتأثيرها مبلغ تبكيت الضمير، ولكنها على كل حال تزعجه وتقلقه، وتستولي على شيء من راحته وسكونه، وهل استطاع العظماء أن يكونوا عظماء إلا أنهم ارتقوا سلما بنيت درجاته من جماجم الموتى وأشلائهم، أو أن يناموا ملء جفونهم؛ إلا لأنهم أسهروا كثيرا من عيون البائسين والمعدمين في سبيل راحتهم وهنائهم، أو أن يمشوا في طريقهم رافعي الرءوس شامخي الأنوف؛ إلا لأن وراءهم كثيرا من المطرقين الصامتين، الذين لا تفارق أنظارهم الأرض هما وكمدا، وربما لا يشعرون بشيء من تلك الجرائم التي يقترفونها وهم في نشوة عزهم وضوضاء عظمتهم، ولكنهم متى خلوا إلى أنفسهم، وأووا إلى مضاجعهم، وساورتهم تلك الآلام الخفية اللاذعة التي لا يشعر بمثلها الجائعون والظامئون، والمرضى والمعوزون، لا تصدقي يا سيدتي أن في الدنيا سعيدا واحدا قد خلت كأسه التي يشربها من قذى ينغصها عليه، ولا بد للعظيم وهو صاعد إلى قمة عظمته أن يشعر أن ذيل معطفه المسبل وراءه يجر معه كثيرا من أنات الباكين، وصرخات المتألمين الذين بنى عظمته على أنقاض شقائهم، فيسمع لها خشخشة كخشخشة الأوراق الجافة التي يجرها وراءه ذيل معطفك الآن!
ثم وقف في مكانه وأطرق برأسه طويلا، فنظرت إليه روكسان ذاهلة، ووضعت يدها على عاتقه وقالت له: أتتألم يا مولاي؟ قال: نعم، فما نحن سعداء إلا في أنظار الناس واعتباراتهم، ولو كشف لهم من خبايا نفوسنا ما كشف لنا منها، ولمسوا بأيديهم مواقع الألم من أفئدتنا، لرثوا لنا أكثر مما نرثي لهم، ولرأوا أننا أولى الناس بالرحمة والإشفاق منهم، وليتهم يقفون على هذه الحقيقة فيعلموا أن السلامة والنجاة وراحة النفس وهدوءها في القناعة والإقلال، فيستريحوا من هموم الأحقاد وآلامها، فإنهم ما حسدونا، ولا اشتعلت بين جوانحهم نيران الحقد والموجدة علينا؛ إلا لأنهم ظنوا أننا سعداء، ولو نظروا إلينا بالعين التي ننظر بها إلى أنفسنا لضرعوا إلى الله تعالى أن ينجيهم مما ابتلانا به، ويريحهم من همومنا وشقائنا!
ثم مد يده إليها فصافحها وقال: أستودعك الله يا سيدتي، والتفت وهو منصرف إلى لبريه، وكان لا يزال واقفا في مكانه، فهتف به فلباه. فقال له: لي كلمة أريد أن أقولها لك، فتعال معي، فمشى وراءه، فالتفت إليه وقال له: نعم إن صديقك سيرانو بطل شجاع كما تقول روكسان، ولكنني علمت من طريق خاص لا أستطيع أن أبوح لك به، أن بعض أعدائه قد عزم على قتله غيلة، فاذهب إليه وحذره، وليقلل من الخروج من منزله ما استطاع. قال: ذلك مستحيل يا سيدي؛ لأنه لا يهاب شيئا، ولا يخاف أحدا! قال: لا تفارقه لحظة واحدة، فحياته في خطر عظيم. قال: سأفعل ما أستطيع يا مولاي، وسأشكر لك فضلك ما حييت، ثم تناول يده فقبلها وانصرف.
فما سار إلا قليلا حتى رأى «راجنو» مقبلا عليه، يولول ويستغيث، فسأله ما باله؛ فقال: خطب عظيم يا لبريه! قال: أي خطب؟ قال: قد أصيب صديقنا. قال: سيرانو؟ قال: نعم. قال: قل كل شيء وأوجز. قال: خرجت اليوم من منزلي ذاهبا إليه لزيارته في منزله، فلما وصلت إلى رأس الشارع الذي يسكنه رأيته خارجا من المنزل، فهرعت إليه لأدركه، حتى إذا لم يبق بيني وبينه إلا بضع خطوات، إذ سقط على رأسه من نافذة أحد المنازل المهجورة جذع عظيم، يخيل إلي أنه لم يسقط عفوا، بل تعمده به متعمد! فصرخ لبريه: يا للنذالة والجبن! ثم ماذا؟ قال: فدنوت منه، فرأيت، وياهول ما رأيت! رأيت ذلك الصديق الكريم، والرجل العظيم، والشاعر النابغة الجليل، ملقى على الأرض مضرجا بدمائه، وقد فتح في رأسه جرح كبير. قال: وهل مات؟ قال: لا، ولكن حالته سيئة جدا، فحملته إلى منزله، أو إلى ذلك الجحر الضيق الذي يسمونه منزلا ... قال: وهل يتألم؟ قال: لا؛ لأنه فقد رشده فلم يعد يشعر بشيء! قال: ألم يزره طبيب؟ قال: أشفق عليه طبيب من جيرانه فزاره. قال: وا رحمتاه لك أيها الصديق المسكين! لا تخبر روكسان الآن بهذا الخبر، وماذا قال الطبيب؟ قال: لم أفهم من كلامه شيئا، فإنه أخذ يردد كلمات كثيرة، حمى، التهاب، أغشية ... إلخ، آه يا سيدي لو رأيته وقد دارت برأسه الأربطة والضمائد، وأصبحت صورته أشبه شيء بصور الموتى في قبورهم! هيا بنا نذهب إليه، فهو وحيد في غرفته، وأخاف أن يحاول القيام من فراشه فيسقط ميتا، ثم ذهبا يعدوان ويتلهفان.
النغمة
جلست روكسان أمام منسجها في فناء الدير تنتظر حضور سيرانو، وكان قد جاء ميعاده الذي يحضر فيه من يوم السبت من كل أسبوع، وأخذت تقول: ما أجمل هذا اليوم! إن الخريف يخفف عني كثيرا من آلامي التي يهيجها الربيع ويستثيرها، فحمدا لك يا إلهي على ما منحت، وصبرا على ما ابتليت، ولك المنة العظمى في حالي رضاك وسخطك، ونعمائك وبأسائك! ما أعظم شكري لك يا سيرانو! إنك رسول العناية الإلهية إلي، والعزاء الباقي لي في هذه الحياة بعد ما فقدت كل عزاء وسلوى، فليت الله يتولى جزاءك عني، فإني لا أستطيع أن أقوم بشكرك!
وهنا حضرت راهبتان تحملان بين أيديهما المقعد الذي اعتاد سيرانو أن يجلس عليه عند حضوره، فوضعتاه وراء مجلس روكسان، فشكرتهما وانصرفتا، ثم دقت الساعة الرابعة، فأصغت إليها روكسان حتى انتهت دقاتها، ثم قالت: إنه سيأتي الآن! وأخذت تردد نظرها جهة الباب هنيهة، فلم يحضر، فمدت يديها إلى علبة إبرها وخيوطها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: قد دقت الساعة الرابعة منذ دقائق ولم يحضر، أين خيوطي؟ ها قد وجدتها، هذا يدهشني جدا! إنها المرة الأولى التي تأخر فيها عن ميعاده منذ خمسة عشر عاما، لا بد أن تكون الأخت «مارت» قد أزعجته بنصائحها وعظاتها، أين كستباني؟ ليت شعري ماذا حدث له؟ قد أوشك الظلام أن يخيم، وألوان الخيوط قاتمة فلا أستطيع التمييز بين متشابهاتها، إنه ما تأخر عن زيارتي قبل اليوم، ولكن لا بد أن يحضر الآن!
وهنا سقطت ورقة جافة من الشجر على منسجها، فاصفرت وقالت: ورقة ميتة قد انقضى أجلها فهوت إلى مستقرها! يا لله! إن الأوراق الجافة المتساقطة تزعجني جدا، لا يمكن لأي شيء مهما كان أن يحول بينه وبين الحضور!
وما أتمت كلمتها حتى وقفت راهبة على رأس السلم وصاحت: السيد بيرجراك! فانتعشت روكسان وقالت : ليدخل! فدخل وهو مصفر الوجه، يتوكأ على عصاه ويمشي ببطء شديد، وقد أسدل قبعته على جبينه فسترت الضمائد المحيطة برأسه، وكانت روكسان مشتغلة بترتيب خيوطها، وإصلاح منسجها، فلم تلتفت إليه حتى جلس على مقعده وحياها. فقالت له بنغمة العاتب دون أن تلتفت إليه: هذه أول مرة تأخرت فيها عن ميعادك منذ خمسة عشر عاما يا سيرانو! فأجابها بصوت قاتم مظلم يحاول أن يجعله ضاحكا رنانا: نعم يا سيدتي، يا لغرائب الدهر! ما كنت أظن أن شيئا في العالم حتى الموت، يستطيع أن يحول بيني وبين الحضور إليك في ميعادي، آه! إني أكاد أموت، غيظا وحنقا، ما أخرني عنك إلا ضيف ثقيل - يريد الموت - جاء لزيارتي في وقت غير مناسب، وما كنت أتوقع أن يفد إلي في مثل هذه الساعة! قالت: وكيف تخلصت منه؟ قال: لم أتخلص منه حتى الآن، وكل ما في الأمر أني اعتذرت إليه وقلت له: إن اليوم يوم السبت، وهو الميعاد الذي يجب علي فيه أن أقوم بزيارة صديق كريم لا يمكن أن يحول بيني وبين زيارته في هذا الميعاد حائل، فاذهب الآن وعد إلي بعد ساعة واحدة! قالت: إذن سيطول انتظاره لك إذا عاد إليك؛ لأني لا أسمح لك بالخروج من هنا قبل المساء! قال: ربما اضطررت للذهاب قبل ذلك!
وأغمض عينيه وأطرق برأسه، وكانت الأخت «مارت» مارة في تلك اللحظة، فأومأت روكسان إليها برأسها فحضرت. فقالت لسيرانو، وهي لا تزال مشتغلة بترتيب خيوطها: إنك لم تمزح مع الأخت «مارت» كعادتك يا سيرانو، فانتفض ورفع رأسه، فدهشت «مارت» عند رؤيته وفغرت فاها، وحاولت أن تتكلم فأشار إليها بالصمت، فلم تفهم شيئا ولكنها صمتت. فقال لها بصوت ضخم مضحك: اقتربي مني أيتها الأخت، ما لك تعرضين عني يا ذات العينين الجميلتين؟ هاتي يدك البيضاء لأقبلها باسم البركة والعبادة لا باسم الحب والغرام! واقتربي مني لأخبرك خبرا غريبا جدا. قالت وهي ترثي له ولحاله: وما هو؟ قال: قد أكلت بالأمس لحما ودسما، فما رأيك؟ فهزت رأسها، وظلت تقول بينها وبين نفسها: وا رحمتاه له! إنه يكذب علي، وربما مر به يومان لم يذق فيهما طعم الخبز كما فعل في المرة السابقة، ثم قالت له: أحب أن تزورني في غرفتي قبل خروجك من هنا، فسأقدم إليك هدية من الحلوى جميلة جدا. فقالت له روكسان: احذر أن تذهب إليها يا سيرانو، فإنها تريد أن تعظك! فقال سيرانو: أظن أن عظاتك الماضية يا مارت قد أخذت مأخذها من نفسي، فقد أصبحت أقرب إلى الإيمان مني إلى الكفر؛ ولذلك أسمح لك أن تصلي الليلة في معبدك من أجلي! فدهشت «مارت» وقالت: ماذا تقول؟ أتهزل أم تجد؟ قال: قد فات وقت الهزل، ولم يبق أمامي إلا الجد!
فانصرفت لشأنها، وهي تعجب لأمره كل العجب، وأقبل هو على روكسان، وقال لها وهي لا تزال مكبة على منسجها: ليت شعري هل أعيش، وهل يعيش العالم حتى يرى ختام هذا النسيج؟ قالت: كنت في انتظار سماع هذه الكلمة منك يا سيرانو، إن نسيجي لا ينتهي حتى تنتهي ملحك وأحماضك!
وفي هذه اللحظة هبت ريح شديدة، فتساقطت على الأرض أوراق كثيرة من أعالي الأشجار، فانقبضت روكسان وقالت: إن تساقط هذه الأوراق يحزنني جدا. قال: أما أنا فعلى عكس ذلك؛ لأنه يعجبني منها كثيرا أنها برغم حزنها على فراق أغصانها التي تركتها، وبرغم فزعها من الفناء الذي يستقبلها على وجه الأرض، فهي تتساقط برقة ورشاقة، وتقضي هذه السياحة القصيرة بين الحياة والموت مائسة مختالة، كأنها في حفلة رقص أو مجمع شراب! فقالت: إني أسمع منك نغمة حزن يا سيرانو؛ فهل أنت حزين؟ قال: لا، وليس من عادتي أن ألجأ إلى الحزن في أي موقف من المواقف، حتى في الموقف الذي يحزن فيه الناس جميعا. قالت: فلندع الأوراق تتساقط كيفما تشاء، وأسمعني جريدتك الأسبوعية فإني في شوق عظيم إليها. قال: اسمعي يا سيدتي، وكان الألم قد نال منه منالا عظيما، وبدأ الذهول يخيم على عقله، فأنشأ يقول:
يوم السبت:
أصيب الملك بمرض الحمى على أثر ثماني أكلات أكلها من عنب «سيت»، فحكم الطبيب على مرضه بطعنة مبضع في قلبه لاقترافه جريمة الاعتداء على صاحب الجلالة!
يوم الأحد:
أشعلوا ليلة الحفلة الكبرى في قصر الملك ثلاثا وستين وسبعمائة شمعة بيضاء. يقولون: إن جيوشنا قد انتصرت على جيوش جان النمسوي، شنق أربعة من السحرة، حقنوا كلب السيدة «داتيس» الصغير.
فاعترضته روكسان وقالت: ما هذه الأخبار يا سيرانو؟
فاستمر في كلامه يقول:
يوم الاثنين:
لا شيء سوى أن «ليجدامير» استبدلت بعشيقها ...
فتململت روكسان وقالت: ما هذا الذي تقول؟ إنك تمزح يا صديقي، فلم يلتفت إليها وظل يقول:
يوم الثلاثاء:
انتقل البلاط كله إلى «فونتنبلو».
يوم الأربعاء:
قالت السيدة «دي مونتجلا» للكونت دي فيسك: «لا.»
يوم الخميس:
توجت «فانسيني» ملكة على فرنسا، أو ما هو في معنى ذلك.
يوم الجمعة:
قالت السيدة «دي مونتجلا» للكونت دي فيسك: «نعم.»
وهنا ثقلت عيناه، واحتبس صوته، واهتز هزة شديدة، ثم سقط رأسه على صدره، وساد من حوله سكون عميق، فاستغربت روكسان سكوته، والتفتت وراءها فرأته على هذه الحالة، ولم تكن قد نظرت إليه قبل هذه اللحظة، فارتاعت وهرعت إليه، ووضعت يدها على عاتقه ونادته: سيرانو! فانتفض ورفع رأسه، وظل يدير يديه حول قبعته ويضغطها ضغطا شديدا، ويقول: لا شيء، لا شيء، أؤكد لك يا سيدتي أن الأمر بسيط جدا. قالت: قل لي ما بك يا سيرانو؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ قال: لا شيء، إنه الجرح القديم الذي أصبت به في معركة «أراس» لا يزال يعاودني من حين إلى حين، حتى الآن، فتنهدت، وأرسلت بصرها إلى السماء، ثم قالت: كل منا له جرح قديم يا سيرانو، غير أن جرحك في جسمك، وجرحي هنا دائما لا يندمل أبدا، وأشارت إلى قلبها، ثم قالت: هنا كتاب الوداع الأخير الذي كتبه إلي قبل موته، قد تشعث وتقبض واصفر ورقه، ولا تزال آثار القطرتين: قطرة الدمع، وقطرة الدم ظاهرة فيه!
فارتعد سيرانو وقال: كتابه الأخير؟ وشخص ببصره إلى السماء كأنما يتذكر شيئا بعيدا، ثم قال: ألا تذكرين يا روكسان أنك كنت وعدتني مرة باطلاعي على هذا الكتاب؟ قالت: نعم، أذكر ذلك. قال: هل لك أن تفي بوعدك الآن؟ قالت: ها هو ذا، ومدت يدها إلى صدرها فأخرجت الكتاب من كيس صغير حريري معلق في عنقها، وأعطته إياه، ثم عادت إلى مقعدها.
وكان الليل قد بدأ يرخي سدوله على أكناف الدير، فأخذت روكسان ترتب خيوطها وإبرها لتضعها في علبتها، وأخذ سيرانو يقرأ الكتاب بصوت عال رنان، كأنما هو يخطب أو يهتف أو يناجي، ويقول: «الوداع يا روكسان، فإني سأموت عما قليل، وربما كانت هذه الليلة آخر ليالي في الحياة!
وكنت أرجو أن أعيش بجانبك لأتولى حراسة سعادتك التي عاهدت نفسي على أن أكفلها لك ما حييت، فحالت المقادير بيني وبين ذلك، فليت شعري ماذا يكون حالك من بعدي؟
إنني لا أخاف الموت من أجلي، بل من أجلك، ويخيل إلي أنك ستقضين من بعد موتي أياما شديدة عليك، وعلى نفسك الرقيقة الحساسة، وهذا كل جزعي من الموت، فوا رحمتاه لك أيتها الصديقة المسكينة!»
وكانت روكسان تصغي إلى قراءته ذاهلة مدهوشة، وتقول بينها وبين نفسها: ما أغرب صوته وما أعظم تأثيره! إنه يقرأ وكأنه يحدثني ويناجيني، ويخيل إلي أن وراء هذه النغمة الغريبة التي ينطق بها سرا كامنا في أعماق نفسه!
واستمر هو في قراءته يقول: «ستغتمض عيناي بعد قليل، وستنطفئ تلك النظرات التي كانت مرآتك الصقيلة التي تتراءى فيها صورتك البديعة الساحرة، وترتسم فيها دقائق حسنك وأسرار جمالك، فمن لك بمرآة ترين فيها نفسك بعد أن تمتلئ عيناي بتراب القبر! إن بين جنبي كنزا ثمينا من حبك لم أستطع أن أكشف لك إلا عن مقدار قليل من جواهره ولآلئه، وكنت أود أن أفرغه جميعه بين يديك قبل موتي، ولكن ماذا أصنع وقد أعجلني الموت عنه ولا حيلة لي في قضاء الله وقدره! الوداع يا روكسان، الوداع يا حبيبتي، الوداع يا أعز الناس علي، وآثرهم في نفسي! إن قلبي لم يفارقك لحظة واحدة في حياتي، وسيبقى ملازما لك بعد مماتي، فليكن عزائي عنك أن روحي سترفرف عليك، وتحوم حولك في كل مكان تكونين فيه، فكأننا لم نفترق، وكأن حجاب الموت المسبل دوننا وهم من الأوهام، وباطل من الأباطيل!»
وكان قد ذهل عن الكتاب الذي في يده وعن كل ما يحيط به من الأشياء، ولم يبق في خياله سوى أنه يناجي المرأة التي يحبها، ويفضي إليها بأسرار نفسه، ويودعها الوداع الأخير، فأغمض عينيه واستغرق في شعوره ووجدانه، واستحال صوته إلى صوت غريب لا يشبه الأصوات في رنته ونغمته؛ لأنه صوت الروح وهتافها ونفثاتها المتصاعدة إلى آفاق السماء، فظلت روكسان تضطرب وترتعد، وتقول بينها وبين نفسها: إنها نغمة غريبة جدا، تذكرني بنغمة مثلها سمعتها في ساعة من ساعات حياتي الماضية، فليت شعري متى كان ذلك؟
وكان الظلام قد نشر ملاءته السوداء على أكتاف الدير، فالتفتت إليه وحدقت النظر فيه، فلمحت بياض الكتاب في يده، فعجبت له كيف يستطيع القراءة في هذا الظلام الحالك، فنهضت من مكانها، ومشت نحوه تختلس خطواتها اختلاسا حتى بلغته، فوقفت بجانبه، فرأت عينيه مغمضتين، ورأته لا يزال مستمرا في قراءته، فاشتد ذعرها وخوفها، ووضعت يدها على كتفه، وقالت له: كيف تستطيع القراءة والظلام حالك وعيناك مغمضتان؟ فانتفض انتفاضة شديدة، فسقط الكتاب من يده، وسقط رأسه على صدره!
وساد بينهما سكون عميق ذهل كل منهما فيه عن نفسه، ثم أخذت روكسان تستفيق شيئا فشيئا، وتقول بينها وبين نفسها: آه، ماذا أرى؟! إن الأمر هائل جدا إن النغمة التي أسمعها منه الآن هي بعينها النغمة التي كانت ترن في أذني ليلة الشرفة منذ خمسة عشر عاما! لا بد أن يكون هو صاحبها! آه ما أعظم شقائي! لقد فهمت الآن كل شيء، وليتني ما فهمت شيئا! ثم وقفت أمام سيرانو صامتة مطرقة حتى استفاق من غشيته، فتقدمت نحوه، وأخذت بيده وقالت له: لا تخف عني شيئا يا صديقي، فقد علمت الحقيقة المؤلمة التي لا ريب فيها، لقد كنت أنت الذي ناجاني ليلة الشرفة، وحدثني عن الحب، وكشف لي عن خبايا القلب الإنساني !
فقاطعها وهو يرتجف ويرتعد، وقال: لا، لا، لم أكن أنا. قالت: وكان الظلام في تلك الليلة حالكا جدا فلم أستطع أن أتبينك لأعلم أنك أنت الذي يحدثني ويناجيني! فصاح: لا، وأقسم لك. قالت: وكانت تلك الكلمات العذبة الجميلة التي سحرتني وملكت علي شعوري ووجداني كلماتك! فصرخ: لا، بل كلماته. قالت: وذلك الصوت الموسيقي الذي كان يرن في أذني رنين القيثارة الإلهية في آذان سكان السماء، كان صوتك! قال: لا. قالت: وتلك الرسائل البليغة المؤثرة التي جشمتني مشقة السفر من باريس إلى أراس، كانت رسائلك! قال: لا. قالت: وذلك الكتاب الذي قرأته الآن بتلك النغمة العذبة الجميلة، كان كتابك! قال: لا تصدقي ذلك يا سيدتي، فما أذكر أنني أحببتك في حياتي قط! قالت: أحببتني ولا تزال تحبني حتى الساعة! قال: ذلك مستحيل؛ لأن مثلي لا يجرؤ على أن يحب مثلك! قالت: ذلك ما حملك على كتمان أمرك وتمثيل هذا الدور المحزن الأليم! قال وقد بدأ صوته يضعف ويتهدج: إنك واهمة يا روكسان. قالت: ما أنا بواهمة ولا مخدوعة، ولم كتمت أمرك عني هذه السنين الطوال ما دمت تحبني، وما دام هذا الكتاب كتابك وهذه الدمعة دمعتك؟ قال: ولكن الدم دمه. قالت: قد اعترفت من حيث لا تدري، فوا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!
وأطرقت برأسها إطراقا طويلا لا يعلم إلا الله ماذا كانت تحدثها نفسها فيه، وإنهما لكذلك إذ دخل لبريه وراجنو وهما يصيحان ويولولان حتى دنوا من سيرانو. فقال لبريه: ماذا صنعت بنفسك أيها المسكين؟ ولماذا جئت إلى هنا وقد أوصاك الطبيب بملازمة فراشك لا تبرحه لحظة واحدة؟ فصاحت روكسان: الطبيب! ولماذا؟ قال لبريه: ألا تعلمين ما حل به يا سيدتي حتى الآن؟ قالت: لا أعلم شيئا، فأراد أن يقص عليها القصة، فقاطعه سيرانو وقال له: أتدري يا لبريه لم جئت إلى هنا برغم أوامر الطبيب؟ قال: لا. قال: لأتلو على روكسان الجريدة الأسبوعية التي اعتدت أن أتلوها عليها يوم السبت من كل أسبوع، ولا أستطيع أن أخلف وعدي لها ! ثم التفت إلى روكسان، وقال لها: إنني لم أتمم لك جريدتي الأسبوعية، فاسمحي لي بإتمامها، ثم أنشأ يقول: وفي يوم السبت الثالث والعشرين من شهر مايو سنة 1655، قتل المسيو سيرانو دي بيرجراك!
وهنا حسر قبعته عن رأسه فظهرت الأربطة والضمائد المحيطة به مضرجة بالدم: فذعرت روكسان وحنت عليه، وقالت: ماذا صنعوا بك يا صديقي؟
قال: كنت أتمنى طول حياتي أن أموت في ميدان حرب بضربة سيف من يد بطل، فقضى الله أن أموت في زقاق ضيق بجذع شجرة من يد خادم، لأكون قد حرمت من كل شيء في حياتي، حتى الميتة التي أحبها!
وأطرق برأسه ثانية، وظل على ذلك ساعة وقد ساد من حولة سكون عميق لا تسمع فيه إلا معمعة الأحشاء المتقدة في قلوب الجاثين حوله.
ثم استفاق قليلا، فرفع رأسه وفتح عينيه، فرأى راجنو جاثيا تحت قدميه يبكي وينتحب، فقال له: لا تبك يا راجنو، وقل لي ما مهنتك اليوم، فإن لك في كل يوم مهنة جديدة؟ قال: أنا الآن خادم عند «موليير»، ولكني سأترك خدمته منذ الغد. قال: لماذا؟ قال: لأنه لص من لصوص الأدب، وهم عندي أقبح اللصوص وأسفلهم! قال وهو يبتسم: هل سرق من شعرك شيئا؟ قال: لا، بل من شعرك أنت، فقد سطا على روايتك «أجريبين»، وأخذ منها موقفا كاملا وضمنه روايته الجديدة «إسكابين» التي مثلت ليلة أمس. قال: لقد أحسن فيما فعل، وماذا كان وقع ذلك الموقف في نفوس الجماهير؟ قال: ما زالوا يضحكون حتى رحموا أنفسهم. قال: ذلك كل ما يهمني، فلقد قدر لي طول عمري أن يكون دوري في رواية الحياة دور الملقن، الذي لا يعده الجمهور شيئا وهو كل شيء!
ثم التفت إلى روكسان وقال لها: أتذكرين تلك الليلة التي كنت أحدثك فيها بلسان كرستيان؟ قالت: نعم، أذكرها ولا أذكر شيئا سواها. قال: إنها رمز حياتي من أولها إلى آخرها، صعد كرستيان منذ خمسة عشر عاما إلى شرفتك؛ ليتناول القبلة التي سمحت له بها مكافأة له على تلك الكلمات البليغة المؤثرة التي أنا صاحبها ومبتكرها، واليوم يتمتع «موليير» بهتاف الجماهير، وتهليلهم إعجابا بتلك القطعة الهزلية البديعة التي خطها قلمي، وما أنا بآسف على ذلك ولا واجد، فكرستيان فتى جميل، فيجب أن ينال هو القبلة، وموليير شاعر شهير، فيجب أن يكون هو صاحب القطعة!
والتفت حوله فرأى الراهبات داخلات إلى الكنيسة في ملابسهن البيضاء، وهن يرتلن صلواتهن على نغمات «الأرغن»، فأصغى إلى أصواتهن ساعة ثم تأوه طويلا وقال: آه، ما كنت أعبأ بالحياة، ولا آسف على شيء فيها لولا الموسيقي وروكسان؛ ولئن كان صحيحا ما يقولون من أن في السماء موسيقي كما في الأرض، وأن الصديقين اللذين يفترقان في هذه الدار يلتقيان في الدار الأخرى غدا، فليس ورائي ما آسف على فراقه!
فصاحت روكسان: ابق في الحياة يا سيرانو فإنني أحبك! قال: ذلك مستحيل، إلا إذا استطاعت كلمتك هذه أن تمحو قبحي ودمامتي، كما رووا في بعض الأساطير أن أميرا دميم الخلقة سمع مرة من يقول له: إني أحبك، فتلاشى قبحه بتأثير تلك الكلمة، وأصبح جميلا وضيئا، ولو أنني عشت بعد اليوم ألف سنة ما نقص ثقل أنفي قيراطا واحدا!
فبكت واشتد نشيجها، وقالت: اغفر لي ذنبي يا سيرانو، فقد كنت السبب في جميع ما حل بك في حياتك من المصائب. قال: لا، بل بالعكس، فلقد قضيت حياتي كلها محروما لذة عطف المرأة وحنانها، حتى إن أمي كما حدثوني لم تكن تستطيع أن تراني جميلا كما يرى الأمهات أولادهن المشوهين، ولو كانت لي أخت أو عمة أو خالة لكان شأنهن معي ذلك الشأن، ولم أر يوما من الأيام في عيون النساء جميعا - جميلات كن أو دميمات - غير نظرات الهزء والسخرية والنفور والاشمئزاز، وأنت المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تتخذني صديقا، واستطعت أن ألجأ من عطفها ورحمتها إلى ظل ظليل، فما أعظم شكري لك! فقالت: عش يا سيرانو فإني أحبك، بل ما أحببت في حياتي أحدا سواك، وما لبست ثوب الحداد خمسة عشر عاما إلا من أجلك! قال: لا تحاولي الغدر بكرستيان يا سيدتي، واحذري أن يخف حزنك عليه، وبكاؤك على مصرعه، فإنه صديقي، وكل ما أطلبه إليك أن تضمي إلى شارات حدادك شارة صغيرة من أجلي؛ ليكون حزنك علي جزءا من حزنك عليه. فصاحت: آه ما أشقاني! لقد أحببت في حياتي حبيبا واحدا ففقدته مرتين!
وكان كوكب الليل قد أشرق من مطلعه، فانبسطت أشعته في فناء الدير، فانتعش سيرانو حين رآه وقال: ها هو ذا صديقي «فيبيه» قد أرسل إلي أشعته لتحملني إليه، فشكرا له على ذلك، سأصعد الليلة إلى السماء على نعش جميل من تلك الأشعة الفضية اللامعة، بدون أن أحتاج إلى تلك الآلات الرافعة التي سردتها على الكونت دي جيش، وسيكون مقامي هناك في ذلك الكوكب الجميل مع تلك النفوس العظيمة، التي أحبها وأجلها: سقراط، وأفلاطون، وغاليلي، وجميع الذين ماتوا ضحايا صدقهم وإخلاصهم!
وهنا انتحب لبريه وقال: وا أسفا عليك أيها الصديق الكريم! وما أشد ظلمة الحياة من بعدك!
فانتبه إليه سيرانو وقال له: لا تحزن علي كثيرا يا لبريه؛ فإني ذاهب لملاقاة صديقي كاربون دي كاستل، وسائر أبناء وطني الذين ماتوا ميتة الشرف والفخار في ميدان أراس، وسيكون مجتمعنا هناك جميلا جدا لا يكدره علينا ممثل ثقيل، ولا نبيل جاهل ولا شاعر مغرور!
وصمت صمتا طويلا كان يعاني فيه من الآلام ما لا يحتمله بشر، ثم ثار من مكانه هائجا مضطربا، وجرد سيفه من غمده وأخذ يصيح: لا لا، لا أريد أن أموت على هذا المقعد ميتة العاجز الجبان! فذعر أصدقاؤه ونهضوا بنهوضه، وحاول راجنو أن يمسكه، فدفعه عنه، وأسند ظهره إلى شجرة ضخمة، وقال: دعوني فإني أريد أن أموت واقفا.
وأخذ ينظر أمامه ويحدق النظر، كأنما يرى شبحا مقبلا عليه، ثم قال: تعال أيها الموت! تقدم ولا تخف! فقد أصبحت رجلا ضعيفا خائرا، لا قبل لي بمواثبتك ومغالبتك، تقدم، فما أنا بسيرانو دي بيرجراك، إنما أنا خياله الماضي وصورته الضئيلة، فهل بلغ بك الجبن أن تخاف الصور والخيالات؟ لقد ضعف في يدي ذلك السيف الذي كنت أقاتلك به، وأصبح رأسي ثقيلا ويداي مغلولتين، وكأن قدمي مصبوبتان في قالب من الرصاص، أقبل ولا تخف، ما لي أراك تنظر إلى أنفي نظر الساخر الهازئ؟ أشماتة هي أيها الساقط الجبان؟ ماذا تقول؟ تقول: إنك أقوى مني؟ نعم، ما أنكرت عليك ذلك، ولكني على هذا سأقاتلك وأثبت؛ لا لأني أطمع في أن أنتصر عليك؛ بل لأني أريد أن أموت ميتة الأبطال من قبلي!
ثم أخذ يدير عينيه يمنة ويسرة ويقول: من هؤلاء؟ مرحبا بكن أيتها الرذائل، لقد عرفتكن يا أعدائي القدماء؟ ما أكثر عددكن، وأقبح وجوهكن! نعم، سأموت، ولكن بعد أن شفيت منكن عليلي ومثلت بكن أقبح تمثيل، اغربن من وجهي، قبحكن الله وقبح صوركن وأزياءكن.
وظل يطعن بسيفه يمينا وشمالا، وأمام ووراء، ويقول: خذ أيها الكذب، خذ أيها الطمع، مت أيها الغدر، تبا لك أيتها الخيانة!
وظل يدور حول نفسه ساعة حتى بلغ منه الجهد، فسقط بين أذرع لبريه وراجنو، وظل على ذلك هنيهة، ثم فتح عينيه وحدق النظر أمامه طويلا، وقال: تقدم أيها الموت وخذ ما تريد مني؛ أتدري ماذا تستطيع أن تسلبني؟ إنك تستطيع أن تسلبني حياتي، وجسمي، وهذا السيف العزيز علي، وهذه الريشة التي وضعتها يد الفخار في قبعتي، بل جميع ما تملك يدي، ولكن شيئا واحدا لا تستطيع أن تسلبنيه، وسيرافقني في سفرتي التي انتويتها إلى السماء حتى أقف به بين يدي الله تعالى رافع الرأس عزة وفخارا، وهو ...
وهنا عجز عن النطق، فحاول أن ينطق الكلمة التي أرادها فلم يستطع، فانحنت عليه روكسان وقبلته في جبينه، وأرسلت دمعة حارة على وجهه، وقالت: وما هو يا سيرانو؟ ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فابتسم وقال: حريتي واستقلالي!
ثم خفق قلبه الخفقة التي لم يخفق بعدها!
وكذلك انقضت حياة هذا الرجل العظيم كما تنقضي حياة أمثاله من العظماء؛ لم يتمتع يوما واحدا برؤية مجده وعظمته، حتى إذا قضى سمح له التاريخ بعد مماته بما ضن به عليه في حياته! •••
أما روكسان فلم يعلم الناس من أمرها بعد ذلك شيئا سوى أن مقعدها الذي كانت تقعد عليه أمام منسجها قد أصبح خاليا مقفرا، فلم يعرفوا ألزمت جوف محرابها تدعو الله تعالى ليلها ونهارها أن يلحقها بصديقها، أم رقدت بجانبه في مقبرة الدير الرقدة الدائمة!
Page inconnue