أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواق مناديا عليها: من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء، وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفسا بذمتها وضميرها وعواطفها، ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء؟
أتريد أن أنصب نفسي سخرية في الأندية الخاصة والمجتمعات العامة، ألعب كما يلعب القرد، وأنطق كما تنطق الببغاء، وأتلون كما تتلون الحرباء رجاء أن أجد التفاتة من عيني أمير، أو أرى ابتسامة على شفتي وزير؟
أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوس من كثرة الانحناء! وأن تتهدل أجفاني من كثرة الإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقة سميكة من كثرة السجود والجثي بين يدي العظماء؟
أتريد أن يكون لي لسانان: لسان كاذب أمدح به ذلك الذي اصطنعني واجتباني، ولسان أعدد به عيوبه وسيئاته؟ وأن يكون لي وجهان: وجه راض عنه؛ لأنه يذود عني ويحميني، ووجه ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟
أتريد أن أقضي حياتي كلها واقفا وسط دائرة واحدة أثب فيها وأطفر، وأتطاول بعنقي ليتوهم الناس أني طويل، وما أنا بطويل؟ أو أن أتخذ لي بوقا ضخما فيه ليتوهم السامعون أني جهوري الصوت، وما أنا إلا نافخ في بوق؟
أتريد أن أسير سفينة شعري في العالم بأذرع العظماء والكبراء بدلا من المجاذيف التي أنحتها بفأسي، وبشعور «الدوقات» الغانيات بدلا من الأشرعة التي أنسجها بيدي، وبتنهدات الأميرات العاشقات بدلا من الرياح الجارية التي يسخرها الله لي؟ أتريد أن أجعل حياتي الأدبية تحت رحمة المقرظين والناقدين، والراضين والساخطين، فإن شاءوا رفعوني إلى علياء السماء، وإن شاءوا هووا بي إلى أعماق الجحيم؟
ذلك ما لا يكون، والموت أهون علي من ذلك.
أريد أن أعيش حرا مستقلا، لا أخشى أحدا، ولا أهاب شيئا، لا يعنيني تهديد الجرائد التجارية الساقطة، ولا يفرحني أن تنشر الصحف الكبيرة اسمي بالأحرف الضخمة في أكبر أنهارها، ولا أبالي أتداول الناس قصائدي وتدارسوها، ورنت نغماتها في أرجاء المسارح أم بقيت في كسر خزانتي أقرؤها بنفسي لنفسي، وأتغنى بها في ساعات وحشتي وخلوتي!
أريد أن أعيش حرا مطلقا، أضحك كما أشاء وأبكي كما أريد، وأحتفظ بنظري سليما، وصوتي رنانا، وخطواتي منتظمة، ورأسي مرتفعا، وقولي صريحا، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد علي منه فذاك، وإلا تركته غير آسف عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلا من أن أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرظوه، والممثلين أن يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.
أحب ألا أنظم من الشعر إلا ما يجود به خاطري، وألا أنظم إلا بالطريقة التي أريدها أنا، لا التي يريدها الناس لي، وألا أمتع نظري إلا بمنظر الأزهار التي أغرسها بيدي في حديقتي، فإن قدر الله لي منزلة في الحياة فلن أكون مدينا بها لأحد غيري، ولن يكون فخرها عائدا إلا علي وحدي، ولا أسمح لأحد من الناس - كائنا من كان - أن يرفعني، بل لا بد لي من أن أرفع نفسي بنفسي.
Page inconnue