هأنتذا قد بدأت تتقهقر؛ لأنني قد أفسدت عليك الضربة الوحيدة التي تعرفها، أوسعت لك المجال فاغتررت وهجمت، فلم تلبث أن فشلت وخذلت، ويل لك من المستقبل المظلم؛ فإني في المقطع الأخير أصيب! •••
اسأل الله رحمته وإحسانه، فها هو ذا الموت يرفرف فوق رأسك، قد سددت عليك جميع الأبواب، ولم تبق لك حيلة في دفع القضاء، قد وعدت ولا بد أن أفي بوعدي، أنني في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير أصيب!
وهنا ضربه ضربة هائلة اخترقت صدره، فسقط يترنح من وقع الضربة، وضجت القاعة بالتصفيق والتهليل، وأحاط القوم بسيرانو يباركونه ويمسحونه، وأخذت النساء تنثر عليه الورود والأزهار، وكانت روكسان أكثرهن اهتماما بالمبارزة وأشدهن سرورا بنتيجتها.
وظل الجماهير يصيحون بأصوات مختلفة: ما أشجعه! ما أشعره! إنه بطل عظيم، حادث بديع، منظر جميل، شاعر وبطل معا، لا يقول إلا ما يفعل، وقد أصابه في الكلمة الأخيرة من المقطع الأخير كما قال.
وتقدم نحوه السيد دارتنيان رئيس حراس الملك، ومد إليه يده وقال له: ائذن لي يا سيدي أن أشكرك وأصافحك، وأقول لك: إنك أفضل مبارز رأيته في حياتي! فلم يزد سيرانو على أن ألقى عليه نظرة هادئة ساكنة، ومد يده إليه فصافحه بسكون، ثم أخذ الناس ينصرفون من القاعة تباعا، وكان الممثل مونفلوري لا يزال واقفا في الطريق العام، فظلوا يسبونه ويشتمونه كلما مروا به، ويعيرونه بالجبن والفرار، حتى إذا لم يبق في الحانة أحد قال لبريه لسيرانو: هل لك في أن نتخلف هنا قليلا أيها الصديق؛ لأني أريد أن أتحدث إليك في بعض الشئون؟ فقال سيرانو لصاحب الحانة: أتأذن لنا أن نبقى هنا هنيهة أنا وصديقي لبريه؟ قال: نعم كما تشاء يا سيدي، وسأخرج أنا وجماعة الممثلين لنتناول طعام العشاء ونتنزه قليلا، ثم نعود بعد ساعة لتهيئة الرواية المقبلة، وصاح بالخدم: أغلقوا الأبواب وأبقوا الأنوار كما هي حتى نعود، ثم انصرف هو وسائر الممثلين.
سريرة سيرانو
قال لبريه لسيرانو: وأنت، ألا تريد أن تتعشى أيضا؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأني لا أملك نقودا! فقهقه لبريه ضاحكا، فدهش سيرانو والتفت إليه وقال له: مم تضحك؟ قال: تذكرت ذلك الموقف الجميل وأنت تخرج كيسك من جيبك وترمي به بكل قواك إلى بلروز وتقول له: خذ هذا أيها الرجل فهو لك. قال: ألا ترى أنها كانت حركة بديعة؟ قال: نعم، ولكنها لا تغني عن العشاء شيئا، ولا أدري ماذا تصنع بعد اليوم وأنت لا تزال في الأسبوع الأول من الشهر، ولا أحسب أن أباك يرسل إليك النفقة الشهرية مرة أخرى.
وكانت فتاة المقصف واقفة على مقربة تسمع حديثهما دون أن ينتبها إليها، فتحركت حركة مسموعة، فالتفت إليها سيرانو، فمشت نحوه ووضعت يدها على كتفه، وألقت عليه نظرة عطف وحنو لو أنها ألقتها على وجه غير وجهه لظنها الناس لجمالها ورقتها نظرة حب وغرام، وقالت له: أنت ضيفي الليلة يا سيدي، وها هو ذا الطعام بين يديك، فادن من المائدة، وتناول منها ما تشاء. فقال: شكرا لك يا صديقتي، وبالرغم من أن عظمتي الجاسكونية لا تسمح لي أن أمد يدي لتناول أي شيء من أي إنسان، فإني ألبي دعوتك إبقاء على صداقتك وودك! ثم تقدم نحو المائدة، وتناول ثلاث حبات من العنب، وقرصا صغيرا، وكأسا من الماء، وقال: هذا يكفيني. قالت له: خذ شيئا آخر. قال: لا حاجة بي إلى شيء بعد ذلك إلا إلى قبلة من يدك الجميلة، فاسمحي لي بها! وتناول يدها فقبلها، ووجهها يتلهب حياء وخجلا، ثم وضع الطعام بين يديه، وهو يتمتم بصوت ضعيف ويقول: «لقمة صغيرة لا تملأ معدة طفل، وثلاث حبات من العنب لا تملأ الفم، آه ما أشد جوعي!»
ثم التفت إلى لبريه، وقال له: ماذا كنت تريد أن تقول لي يا لبريه؟ تكلم فإني مصغ إليك. قال: كنت أريد أن أقول لك: إن هؤلاء الطائشين المغرورين الذين لا حديث لهم ليلهم ونهارهم إلا حديث الطعن والضرب والمغالبة والمصارعة سيفسدون عليك عقلك ، ويهدمون نظام حياتك، ولو أنك جريت معهم في هذا المضمار طويلا لكانت عاقبتك أوخم العواقب وأردأها، سل العقلاء أصحاب العقول الراجحة، والآراء المستحصدة ماذا كان وقع حادث الليلة في نفوسهم، وخاصة في نفس رجل عاقل كيس كنيافة الكردينال؟ فقال له وكان قد انتهى من طعامه: أكان الكردينال هنا؟ قال: نعم، ولا بد أن يكون رأيه فيك سيئا جدا. قال: لا، بالعكس؛ لأنه شاعر، والشاعر يعجبه دائما أن يرى بعينيه منظر سقوط رواية ينظمها شاعر آخر. قال: ولكنك قد اتخذت لك الليلة أعداء كثيرين لا أدري ماذا يكون شأنك معهم غدا. قال: كم تظنهم على وجه التقريب؟ قال: أربعين غير النساء. قال: اذكر لي بعضهم مثلا. قال: مونفلوري، دي جيش، دي جيجي، فالفير، باور مؤلف الرواية، الممثلون، أعضاء المجمع العلمي ... قال: كفى كفى، قد فهمت، إنها نتيجة جميلة جدا، كنت أظن أن أعدائي أصغر شأنا من ذلك! فعجب لبريه لأمره، وقال له: أعترف لك يا سيرانو أنني قد عييت بأمرك إعياء شديدا، وأصبحت لا أدري إلى أين تصل بك هذه الحالة الغريبة، وتلك الأساليب الشاذة، ولا أفهم ما هي حقيقة رأيك في الحياة؟ ولا ما هي خطتك التي انتهجتها لنفسك فيها؟ فأطرق سيرانو لحظة ثم رفع رأسه وقال له: اسمع يا لبريه إن الخطط في الحياة كثيرة جدا، ومتشعبة تشعبا يحار فيه العقل، ولقد ضللت في مسالكها برهة من الزمان لا أعرف ماذا آخذ منها، وماذا أدع، حتى اهتديت أخيرا إلى أبسطها وأسهلها. قال: وما هو؟ قال: هو أن أكون موضع الإعجاب في كل شيء ومن كل إنسان. قال: فليكن ما تريد، ولكن على شرط أن تكون أفعالك أشبه بأفعال العقلاء منها بأفعال المجانين. قال: لا أستطيع أن أعرف الحد الفاصل بين العقل والجنون.
قال: هل لك أن تخبرني لم تضمر في نفسك هذا البغض الشديد لمونفلوري، وما أذكر أن الرجل أساء إليك في حياته قط؟ قال: أبغضه لأنه - وهو ذلك العتل البطين الذي لا تستطيع يده أن تصل إلى سرته - يظن نفسه رشيقا جميلا يستطيع أن يخلب قلوب النساء، ويستهوي ألبابهن بخفته ورشاقته، فإذا وقف في المسرح للتمثيل ألقى عليهن في مقاصيرهن نظرات كنظرات الضفادع، بصورة تعافها الأنفس، وتندى لها الوجوه، ولقد أضمرت له في نفسي تلك الموجدة منذ الليلة التي رأيته يجترئ فيها على أن يوجه إليها نظراته الخنفسائية البشعة، فلقد خيل إلي في تلك الساعة أن دودة قذرة سوداء قد دبت من مكانها إلى وردة نضرة ناعمة فلصقت بها، فأزعجني هذا المنظر المؤلم إزعاجا شديدا، ولم أر بدا من معاقبته على جهله وغباوته، فحكمت عليه بالانقطاع عن التمثيل شهرا كاملا. فقال لبريه: ومن هي تلك التي تريد؟ ويخيل إلي أنك عاشق يا سيرانو، فابتسم ابتسامة الممتعض المتألم، ثم تنفس تنفسة طويلة كادت تتساقط لها جوانب نفسه، وقال: نعم يا لبريه! إنني أحب حبا قاتلا لا بد أن يسوقني إلى القبر.
Page inconnue