الأنفيات
وهنا تقدم رجل زري الهيئة قذر المنظر، تلوح على وجهه سمات المهانة والضعة، ممزوجة بالوقاحة والسماجة، وقال له بصوت خشن أجش: لا يقف موقفك هذا يا سيدي ولا يجرؤ على مثل ما جرؤت عليه إلا أحد رجلين: إما عظيم، أو صنيعة رجل عظيم، فهل لك أن تخبرني من هو مولاك الذي أنت صنيعته؟ فعجب سيرانو لأمره، وظل يردد نظره فيه ساعة، ثم قال له: ما أنا بصنيعة أحد أيها الرجل. قال: أليس لك سيد يحميك ويرعاك؟ قال: لا! قال: ألا تلجأ في ساعات شدتك وحرجك إلى نبيل من نبلاء هذا البلد أو أمير من أمرائه يسبل عليك ستر حمايته؟ قال: قلت لك: «لا» مرتين، فهل ترى حتما لازما أن أقولها لك مائة مرة لتفهمها؟ ثم وضع يده على مقبض سيفه، وقال: ليس لي حام ولا سيد غير هذا! فقال: إذن لا تطلع عليك شمس الغد حتى تكون قد شددت رحلك وتزودت زادك، وغادرت باريس إلى بلد ناء لا رجعة لك منه أبد الدهر! قال: لماذا؟ قال: لأن مونفلوري الذي أهنته الليلة، صنيعة رجل عظيم هو الدوق «دي كندال»، وذراع هذا الرجل طويلة جدا تتناول أبعد الأشياء، ولو كانت في قرن الشمس. قال: ولكنها ليست أطول من ذراعي حين أصلها بسيفي! قال: إنك لا تستطيع أن تزعم في نفسك أنك ... فقاطعه سيرانو وصاح: أستطيع أن أزعم كل شيء أيها الفضولي الثرثار، فاغرب عن وجهي، واطلب لنفسك طريق الخلاص مني! فظل الرجل جامدا مكانه يحدق فيه تحديقا شديدا، لا يطرف ولا يتحرك، فانفجر سيرانو غيظا، وانقض عليه وأخذ بتلابيبه وقال له: اخرج من هنا حالا أو حدثني ما لي أراك تنظر إلى أنفي هذه النظرة المريبة؟ فصعق الرجل في مكانه، وظل يرتعد بين يديه، وكان يعلم الناس جميعا أن سيرانو لا يغضب لشيء من الأشياء غضبه لأنفه، ولا ينتقم لشيء انتقامه له، وقال: أنا يا سيدي! قال: نعم أنت، فما الذي تراه غريبا فيه؟ قال: إنك واهم يا سيدي، فإنني - وأقسم لك - ما فكرت قط في شيء مما تقول. قال: أتراه رخوا متهدلا كخرطوم الفيل؟ قال: لا يا سيدي. قال: أو محدودبا كمنقار البومة؟ قال: لا يا سيدي. قال: أويخيل إليك أن أرنبته دمل كبير يزعجك منظره؟ قال: أبدا يا سيدي، وما فكرت في ذلك قط.
قال: أويتراءى لك أن الذباب يمشي متزلقا فوق تضاريسه؟
قال: لا يا سيدي، لم يخطر ببالي شيء من ذلك، وأقسم لك.
قال: أتراه أعجوبة من أعاجيب الدهر أو فلتة من فلتات الطبيعة؟
قال: لا يا سيدي، لا هذا ولا ذاك. قال: أترى لونه مضرا بالنظر، أو وضعه خارجا عن الحد، أو شكله مخالفا للآداب العامة؟ قال: آه يا إلهي! إنني لم أسمح لنفسي بالنظر إليه مطلقا. قال: ولم لا تسمح لنفسك بالنظر إليه، أتشمئز منه؟ قال: أبدا يا سيدي وأقسم لك. قال: أهو في نظرك كبير جدا إلى هذا الحد؟ قال: لا، بل صغير جدا لا أكاد أشعر به. قال: أتهزأ بي أيها الرجل؟ قال: عفوا يا سيدي فإني لا أدري ما أقول. قال: وهل تظن أيها الغبي الأحمق أن الأنف الصغير مفخرة من المفاخر التي يعتز بها صاحبها؟ نعم إن أنفي كبير جدا؛ لا يكبره أنف في هذا البلد، وذلك ما أفخر به كل الفخر؛ لأن الأنف الكبير عنوان الكرم والشرف، والشجاعة والشمم، وأنا ذلك الذي اجتمعت له هذه الصفات جميعها، أما الوجه الكروي الأملس المجرد من هذا العنوان الشريف - كوجهك هذا - فلا يستحق غير اللطم، ولطمه على وجهه لطمة هائلة، ثم وكزه برجله، ففر الرجل هاربا من بين يديه وهو يصيح: النجدة النجدة! فعاد سيرانو إلى مكانه، وجلس على كرسيه مفتخرا معتزا، وظل يقول: هذا إنذار مني لجميع الفضوليين الثرثارين الذين يحاولون أن يهزءوا بهذا الموضع الناتئ في وجهي ألا يفعلوا، فإن حدثتهم نفوسهم بشيء من ذلك - سواء أكانوا من الغوغاء أم من النبلاء - فليعلموا أنني لا أسمح لهم بالفرار من يدي كما سمحت لهذا الجبان الرعديد، قبل أن أغرس ذباب سيفي في سويداء قلوبهم.
فانتفض الأشراف غيظا وثاروا من أماكنهم، وقال الكونت دي جيش: يخيل إلي أن الرجل قد بدأ يضايقنا، ثم انحدر من المسرح تتبعه حاشيته، حتى دنا من سيرانو، والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ألا يوجد بينكم من يصلح لمقارعة هذا الرجل؟ فقال الكونت فالفير: أنا صاحبه يا سيدي فانتظر قليلا، فإني سأفوق إليه سهما لا قبل له بالنجاة منه، ثم تقدم نحو سيرانو وهو جالس على كرسيه جلسة العظمة والكبرياء، وظل يردد النظر في وجهه طويلا، ثم قال له: إن أنفك أيها الرجل قبيح جدا! فرفع سيرانو نظره إليه بهدوء وسكون، ثم قهقه قهقهة طويلة، وقال: ثم ماذا؟ قال: لا شيء سوى أن أقول لك مرة أخرى: إن أنفك أعجوبة من أعاجيب الزمان! فنهض سيرانو عن كرسيه متثاقلا، وتقدم نحوه خطوة، وألقى عليه نظرة من تلكم النظرات الهائلة التي اعتاد أن يصرع بها خصومه حين يلقيها عليهم، وقال له: ثم ماذا؟ فاضطرب الفيكونت وشعر بدبيب الخوف في قلبه، وقال: لا شيء! قال: أهذا هو السهم القاتل الذي أردت أن ترميني به؟ لقد كنت أظن أنك أذكى من ذلك، فازداد اضطراب الفيكونت وقال: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أقول لك: إن مجال القول في الآناف ذو سعة، ولو كان عندك ذرة واحدة من الفطنة والذكاء، أو أن لك بعض العلم بأساليب الخطاب ومناهجه، لاستطعت أن تقول لي في هذا الموضوع شيئا كثيرا، كأن تقول لي مثلا بلهجة «المتنطعين»: لو كان لي أيها الرجل أنف مثل أنفك هذا لأرحت نفسي والعالم منه بضربة واحدة من حد سيفي.
وبلهجة «المتلطفين»: حبذا لو صنعت يا سيدي لأنفك هذا كأسا خاصة به، فإني أراه يشرب معك من كأسك التي تشرب منها.
وبأسلوب «الواصفين»: ما أرى أنفك إلا صخرة عاتية، أو قمة عالية، أو هضبة مشرفة، أو روشنا مطلا، أو رأسا ناتئا، أو لسانا ممتدا.
وبنغمة «الفضوليين»: ما هذا الشيء الناتئ في وجهك يا سيدي؟ أمحارة مستطيلة، أم دواة للكتابة، أم صندوق للأمواس، أو علبة للمقاريض؟
Page inconnue