وقد قتل الأقران حتى قتلته
بأضعف قرم في أذل مكان
أتته المنايا في طريق خفية
على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها
بطول يمين واتساع جنان
هذا أبدع رثاء لشبيب، وهذه أكبر تهمة لكافور باغتياله. أين يذهب بك يا أبا الطيب؟ أجننت؟ - إن عيبي عندكم أنني أقول ما في نفسي ولا أتملق تملق الإماء. - قل ما في نفسك لي وللكثير من أصدقائك، ولكن لا تقله في حشد من النقاد ينتظرون الفرصة للإيقاع بك. لقد نصحك الشريف فلم تنصت لنصحه. - إن شعري لا يطاوعني على الكذب الصراح، يا ابن رشدين. - غير من خلقك قليلا حتى تصرف عنك عين كافور. - أنا لا أبالي بكافور، ولا آبه لجبان يقتل الناس بالسم، وسأصون شعري عن هذا الأحمق حتى يصدق في وعده، أو يأذن الله برحيلي عنه. فجذبه ابن رشدين من يده، وقال: هلم بنا إلى الدار، وانطلق الاثنان صوب دار ابن رشدين فلاقتهما عائشة مرحة ضحوكا، وهي تقول: لا أشك في أنك أبدعت اليوم يا أبا الطيب؛ لأنك تعود اليوم إلى فنك الذي امتزت فيه، وهو وصف الوقائع وتمجيد الظافرين، وقد عشت بيننا عيشة هادئة ليس فيها إلا سلم دائم، واستقرار هنيء، وهذا الجو لم يخلق له شعرك الذي لا يجلجل إلا في قتام الحروب، وصليل السيوف، وكلما قرأت شعرك في وقائع سيف الدولة أسفت لأنك فارقته، ولكني لا ألبث أن أعود إلى الأثرة فأستهين بالشعر كله في جانب الظفر بمودتك. ليس عندنا هنا روم يغيرون على تخومنا، وليس عندنا قبائل متناكرة يخلعون طاعة الأمير كلما صاح بهم صائح. فنحن نعيش في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تسمع فيها لاغية، وقد جبلنا على السمع والطاعة لأمرائنا، واجتمعت كلمتنا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ لذلك كنت أفكر في شأنك يا أبا الطيب آسفة معتقدة أنك لم تخلق لهذا السكون الشامل، والأمن الوارف، وأتخيل أنك ولدت في ليلة عاصفة كثيرة الأنواء والأعاصير، كان الرعد فيها يصدع أقطار السماء، والصواعق تنقض كأنها رؤوس الشياطين! لقد صدئ سيفك في غمده هنا يا أبا الطيب، ومل جوادك من طول الوقوف. إن مثلك لم يخلق ليجلس في شمس الشتاء، أو يقضي أصيل يوم الصيف في زورق يقذف به نسيم النيل الواني من مصر إلى حلوان، وإنما خلقت للصراع والصدام، وأن تدخل من قتام في قتام؛ لهذا حين علمت أنك ستنشد اليوم قصيدة في تهنئة كافور بالظفر بشبيب، قلت في نفسي لقد جاء أوان صاحبي، وستسمع مصر اليوم شعرا جمعت تفاعليه من أسنة الرماح وشفار السيوف. فماذا قلت يا فارس الهيجاء؟ - قلت يا سيدتي قصيدة كان كل ذنبي فيها في رأي أخيك أنني كنت صادقا. - ما عليك من أخي. هات القصيدة. ثم جذبت الورقة من يده، وأخذت تقرأ، فلما أتمت قراءتها صاحت: إني لأجد ريح يوسف، وإني لأرى في هذا الشعر صاحبي القديم وهو يعود ثانية إلى عترته، فيصف الحرب ومواقع القتال، ولن يستطيع شاعر من شعراء الإنس والجن أن يصور قدرة ملك كما يصورها هذا البيت:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوقه شيء عن الدوران - ماذا تقول في هذه القصيدة يا صالح؟ - أقول: إنها ملأى ببدائع الفن، ولكنها فارغة من السياسة. فقهقهت عائشة طويلا وقالت: أنت يا صالح منذ لحقت بديوان الرسائل وأنت تخشى من كل شيء، وتتهم كل شيء. قاتل الله المناصب، فكم أذلت أعناقا، وأخرست أفواها. ليس في القصيدة شيء إلا أن يخرج بها المتعنتون إلى غير مخرجها، إن فيها مديحا رائعا لكافور لم يظفر الرشيد والمأمون بمثله. فماذا فيها يا صالح مما تراه خارجا عن سياج السياسة؟ - فيها يا أديبتي البارعة أبيات إلى الذم أقرب منها إلى المديح، ولا يعلم إلا الله ما تكون العاقبة لو تطفل خبيث ففسر لكافور معنى هذا البيت:
ولله سر في علاك وإنما
Page inconnue