وقيعة
صلح
صراع
رحيل
لقاء
ضجيج
حب
دسائس
خيبة
مرض
Page inconnue
فرار
وقيعة
صلح
صراع
رحيل
لقاء
ضجيج
حب
دسائس
خيبة
Page inconnue
مرض
فرار
الشاعر الطموح
الشاعر الطموح
تأليف
علي الجارم
وقيعة
فارس فارع القد، وسيم الطلعة، تكشف أسارير وجهه عن نبل عريق، وشرف رفيع، وتنطق ملامحه ونظرات عينيه بشجاعة تفرق منها الشجعان، وبطولة يعز مثلها على الأبطال، وكان يتقلد سيفا حلي غمده بالذهب، وزين بنفيس الجوهر، ويتنكب رمحا تقبل أشعة الشمس سنانه فترسل بريقا وهاجا يكاد يحسر العيون، وقد امتطى جوادا كريما راح يهملج في بخترة وزهو، كأنه كان يعتز بكرم سلالته، أو يتيه بشرف منبت فارسه الشعشاع.
سار الجواد بين الوخد والخبب في طريق مدينة حلب، في يوم صائف من سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، فانفجرت السابلة عن طريقه كما تنفرج أمواج البحر أمام سفينة تداعب شراعها الرياح، وأخذ الناس يتهامسون في إجلال وخشية: هذا أبو فراس! هذا ابن عم الأمير! هذا بطل حصن برزويه! هذا فارس الدولة وشاعرها المغرد! وكان بين القوم رجل قوي الأسر مفتول العضلات، ظهرت في وجهه سطور كتبتها السيوف، ونقطتها النبال، فدلت على أن عمارا القضاعي جندي قديم مغامر، عرك الوقائع وعركته، وخاض غمارها فغمرته، قال عمار لمن بجانبه في صوت خافت: لقد شهدت خمس وقائع مع هذا البطل، رأيت فيها من إقدامه وجرأته، وصدق درايته بالحروب، ما يكاد يذهل المجاهد عن كوارث الحروب. فأجابه صاحبه: لقد كنت إذا مشاهدا لا محاربا. فابتسم عمار ابتسامة مبهمة فيها ازدراء، وفيها رفق القوي بالضعيف، وفيها اعتزاز الشجاع بمكانته. ثم قال: كنت مشاهدا حقا، ولكن لا كما تشاهد اليوم أبا فراس، وهو يتمايل فوق جواده اللعوب في دروب حلب، وقد نصبت السلم على المدينة ورواقها، وأصبح أهلها لا يخافون إلا من سهام عيون الحسان! دعك يا صاحبي من ذكر الحرب والمحاربين فتلك دماء طهر الله منها سيوف الجبناء. - أتعد كل من لم يشهد الحرب جبانا؟ - إن اقتراب الروم من أطراف مملكتنا، وضغنهم القديم الموروث على المسلمين وملوك المسلمين، وادعاءهم أن بلادنا قطعة من مملكتهم الواسعة، اغتصبها منهم الإسلام بسيفه، ثم ما أعدوه لنا من غوائل الحرب؛ كالنار اليونانية والدبابات الهائلة، كل هؤلاء مما يوجب الجهاد، ويدفع كل مسلم إلى امتشاق الحسام، والموت في سبيل دينه ووطنه شهما كريما. - أما أنا فلن أمتشق الحسام، ولن أخوض غمار الهيجاء. فنظر إليه عمار في اشمئزاز، وقال ولسانه يتعثر من الغيظ: كنت أظن قبل أن أراك أن اللحى من خصائص الرجال. - وهي لا تزال من خصائص الرجال، وإن أمامك لرجلا. - رجل بلا قلب. - رجل لولاه ما امتلأت خياشيمك كبرا، ولا انثنى عطفك تيها عند ذكر الحرب والنزال. - من تكون؟ - أكون كما أكون. - بالله قل لي من تكون؟ فأجاب الرجل وفوق شفتيه ابتسامة ماكرة: أنا يا سيدي الشجاع المغوار صانع سيوف، لولا يده هذه ما جردت أنت ولا قائدك أبو فراس في الحرب صمصاما.
فضحك عمار طويلا، ومد يده إلى صاحبه في سرور، يشعر به من وجد في عدو صديقا جديدا. ثم أخذ يشد على يده ويهزها هزا، ويقول: صانع سيوف؟! حقا لولاك ما حملتنا إلى الجهاد قدم. نعم يا صاحبي، أنت لا تشهد الهيجاء، ولكنك حقا نون النصر فيها وصاده وراؤه، ولولاك ما عز للمسلمين جانب، ولا خفق على حصونهم علم. انظر؛ ما أظن أبا فراس إلا ذاهبا إلى قصر الرحبة. - إني لمحت في وجهه كدرة الغضب، وأخشى أن يكون قد جاء إلى الأمير نذير جديد من قبل الروم. - أظنهم سيقضون وقتا طويلا يلعقون فيه جراحهم، بعد هزيمتهم في «سروج». تلك كانت موقعة رائعة حقا. لقد زحف فيها الروم علينا في عديد الحصى، وقد اشتجرت رماحهم حتى سدت الأفق، وصال بطاريقهم، ووثبت دباباتهم، وتطايرت نيرانهم التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وقد أعجبتهم في ذلك اليوم قوتهم، وزهاهم ما أجلبوا به من خيل ورجل وعدة وعتاد، وزلزل المسلمون زلزالا شديدا، واتجهت عينا سيف الدولة إلى السماء في رجاء المستغيث، حتى إذا اشتد الكرب، وبلغت القلوب الحناجر، سمعنا على الرغم من لجب الحرب زمازمها، صوتا مجلجلا يصيح: إلي إلي أيها المجاهدون! إن أبا فراس قائدكم المفاخر بشجاعتكم يدعوكم لتخطفوا ثمر النصر من أيدي هؤلاء العلوج. إن دباباتهم لن تغني عنهم اليوم شيئا، وإن قلبا يملؤه الإيمان، وذراعا تشدها العزيمة، أقوى من كل ما جمعوا وعدوا. إننا أيها الأبطال لم نجاهد لأرض وقلاع، وإنما نجاهد لدين وتاريخ ومجد قديم. إن الروم إذا برعوا في الحرب فهم في الفرار أبرع إذا حمي الوطيس، وصدقت الحملة. إلي إلي أيها المجاهدون، ثم إلى الجنة إلى الجنة أيها الشهداء! وما كاد يتم نداءه حتى وثب بجواده نحو الحصن، ونحن خلفه كالأسود الغاضبة، ريع حماها، وديس عرينها، وتكاثر حوله الروم فكان يطوح برؤوسهم يمنة ويسرة، كما ينثر الزراع الحب. حتى إذا وصل إلى القمة خلع راية الروم، وقذف بها في التراب ثم صاح: الله أكبر! الله أكبر! فردد الجيش صيحته، وتواثب المسلمون على الحصن، حتى أجلوا الروم عنه، فانطلقوا خلف بطاريقهم في سرعة الريح يلتمسون الفرار، وعاد المسلمون بالنصر والأسرى والأسلاب والغنائم. - لقد كان ذلك فتحا مبينا. - وسيتلوه فتوح لو اتحد العرب، وكانوا يدا على من سواهم. عم صباحا يا صاحبي، واعمل في طبع السيوف ليل نهار، فإني أخشى أننا لا نزال في بداية صراع طويل الأمد.
Page inconnue
بلغ أبو فراس أرض الحلبة، وهي في سفح جبل الجوشن، ووصل بعد قليل إلى قصر سيف الدولة بن حمدان، وكان قصرا سامق البنيان، يطل على نهر قويق، بذل فيه المهندسون والرسامون كل ما في مكنة البشر من إبداع، وزينت حيطانه وسقوفه بالنقوش البارعة، والتهاويل الرائعة، وكان لقاعته الكبرى، وهي قاعة الرسل خمس قباب تحملها اثنتان وأربعون ومائة سارية من الرخام الأبيض الناصع، المحلى بالذهب، وبها مئات من النوافذ الزجاجية البديعة الألوان، أما الأثاث فكان فوق ما يصف الشعر ويرسم الخيال، وقد أحاطت بالقصر الحدائق والبحيرات يجري إليها الماء من تماثيل سمك ضخم، صنع من خالص النضار، وركبت له عيون من ثمين الجواهر.
وما كاد أبو فراس يثب من صهوة جواده، حتى تلقاه بشارة ونجا، غلاما سيف الدولة، بما يليق بمنزلته من إجلال وحفاوة، وكان أبو فراس لا يزال عابسا متجهم الوجه، فانحنى نحوه نجا قائلا: سعد صباح الأمير، ما للوجه المشرق البسام تعلوه اليوم سحابة عابسة؟ فهل في الأمر شيء يا مولاي؟ - لا شيء يا نجا، ولكنها ظنون الشاعر وهواجسه، التي كثيرا ما تطغى على ثبات الفارس وركانته، وتصور له في الحلم ذلا، وفي الإقدام طيشا وجهلا. أتعرف يا نجا لمن هذا البيت:
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام؟
فأسرع نجا، وكان من أنصار المتنبي المعجبين به فقال: هو يا سيدي لأبي الطيب من قصيدته التي يقول فيها:
إن بعضا من القريض هذاء
ليس شيئا وبعضه إحكام
فاربد وجه أبي فراس، وقال: نعم، إنه لذلك الزق المنتفخ بالعظمة الحمقاء، والغرور الكاذب، أين ابن عمي يا نجا؟ - في القاعة الكبرى يا سيدي. فسار أبو فراس في دهاليز القصر وأبهائة، وقد انتثر فيها العبيد والمماليك الروم، يروحون ويجيئون في حركة دائبة، ورهبة وإطراق، يعرف كيف يصطنعهما رجال القصور. فلما وصل إلى القاعة تلقاه سيف الدولة مرحبا باشا، وكان سيف الدولة جسيما قسيما، واسع العينين تشع منهما عزيمة المجاهدين، وفي وجهه سمرة العرب، وملامح النبل والبطولة.
أخذ أبو فراس يتحدث عن الجيش، وما يبذل في إعداده لمكافحة الروم، وردهم إلى تخومهم. فتململ سيف الدولة في حزن وأسى، وقال: أخشى يا ابن عمي أن القوم هنا لا يدركون ما يحيط بالدولة من خطر داهم، فإني أرى أكثرهم منصرفا عن الجهاد ثقة بي، واعتمادا على عظم قوتي، كأن في سيفي سحرا بابليا إذا لوحت به للأعداء انهارت جيوشهم في طرفة عين. إن بمملكتي أبطالا، ولكن بطولتهم مخبوءة مغمدة؛ لأنهم يظنون أنهم يعيشون في ظلال وارفة من الأمن، وأن أعظم معونة يبذلونها للدولة أن يسيروا في مواكبها، ويأخذوا زينتهم في صدور مجالسها. - نحن لا تعوزنا السيوف يا مولاي، ولا تعوزنا السواعد المفتولة، ولا القلوب الضيغمية، وكل عربي منا يضع قلبه ورمحه في أول الصفوف، إذا جد الجد، وأذن مؤذن الجهاد، ولكن الذي نحن في أشد الحاجة إليه حقا أصوات رنانة مجلجلة، تثير الحمية، وتلهب العزائم، وتخلق من اليأس ثقة، ومن التردد إقداما، وتذكر بالمجد الغابر، وتوجه الأمل الحائر، وتوقظ النفوس إلى ما يحيط بها من كوارث تريد أن تنقض. المملكة يا سيدي تتحرق شوقا إلى من يذيع مآثرها، وينشر مفاخرها، ويملأ الآذان بوقائعها المظفرة، وبحسن بلاء أبطالها الميامين. - ألا يقوم المتنبي بهذا، وهو خير شاعر أنبتته أرض العرب؟ - إنه لا يقوم بشيء منه يا مولاي، وهو رجل صلف تياه، شائك الخلق نافر الطبع، أبغض الناس فأبغضوه فنفرت قلوبهم من شعره. - إن بيتا واحدا من شعره كفيل بأن يملأ الآفاق، ويشغل الدنيا، ويرفع الدولة التي يغني بمديحها إلى مسارح النجوم. - إن الشعر يا ابن العم روح قبل أن يكون لفظا ووزنا، وهو شعاع من نفس قائله، ونور يفيض به قلب صاحبه، فإذا كانت تلك النفس مظلمة قاتمة مدنسة بالحقير من الأغراض، وكان ذلك القلب نهبا للأطماع الدنيئة، جاء منهما الكلام فاترا خائرا مقطوع النفس، ضعيف المنة. - هل ترى من هذا النوع قوله:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
Page inconnue
مصائب قوم عند قوم فوائد؟ - وماذا في هذا البيت يا مولاي؟ إنه لم يبذل فيه جهدا، ولم يعمل روية، ويعلم الله أنه استرق معناه سرقة الطوار البارع في النهار المبصر. استرقه من شاعر دفنته يا مولاي حيا بالانصراف عنه، والاستهانة بشعره. استرقه من شاعر غنى بمجد دولتك، فما ألقيت إليه سمعا، وأشاد بمآثرك فما حققت له أملا. ذلك الشاعر يا مولاي هو أبو الحسين الناشئ الأصغر، الذي يقول فيك حينما شغلك عنه انصرافك إلى ذلك المتنبي، واحتفاؤك به، وإسكات كل صوت للشعراء دونه:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما
أخط بأقلامي على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب ألم يكن
تودده طبعا فصار تكلفا؟ - حقا كان من حق الناشئ علي أن ينال من إقبالي عليه ما هو حقيق بشعره وأدبه، إني أعذره يا أبا فراس، فقد أبطأ عنه عطائي حينا من الدهر طويلا: هل سرق معناه الرائع من هذا الشاعر الذي ظلمناه وبخسناه حقه؟ - نعم يا ابن العم سرق المعنى من قصيدة لهذا الشاعر ينوه فيها بصولة بني حمدان، ويذم بني العباس، الذين لا يفتئون يدسون لهم الدسائس غيرة وحسدا، ويغرون في الخفاء بعض القبائل الخارجة علينا، كبني كلاب وبني العجلان، بالانتقاض على مملكتنا، ومصارحتنا بالعصيان، فهو يقول:
إليكم يا بني العباس عني فإنني
إلى لله من ميلي إليكم لتائب
تركت طريق الرشد بعد اتضاحه
وأقصاكم عنه ظنون كواذب
أترضون أن تطوى صحائف عصبة
Page inconnue
كرام لهم في السابقين مراتب
فلا تذكروا منهم مثالب إنما
مثالب قوم عند قوم مناقب - حيا الله أبا الحسين! لقد أحسن الزود عنا، ولكني لا أرى أن أبا الطيب سرق منه معناه، لأن هذه في ناحية، وبيت أبي الطيب في ناحية، إلا أن تدعي أنه سرق الأسلوب والأسلوب ملك شائع لجميع الشعراء. لا يا ابن العم إن المتنبي أرفع قدرا، وأبعد منزلة في الشعر، من أن يتدلى إلى فتات غيره. إنني شاعر قبل أن أكون ملكا وفارسا، ومعرفتي بابتداع الكلام لا تقل عن درايتي بامتشاق الحسام.
فاربد وجه أبي فراس قليلا، وأطرق واجما، ثم رفع رأسه وعلى وجهه ابتسامة الظفر، وقال: مهلا يا ابن العم، فما خالجني شك من تمكنك من ناصية الشعر، واستذلالك أوابد المعاني، ولولا ذلك ما أجاد شعراء المملكة في مديحك، ولا جودوا في الثناء عليك؛ لأنهم يعلمون أنهم يعرضون نسيجهم على خير بزاز، ويقدمون فنهم إلى أمهر الأدباء في تصاريف الكلام، ولعمري إن شاعرا لم يسبق مولاي في وصف قوس قزح حين يقول:
وساق صبيح للصبوح دعوته
فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم
فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
على الجو دكنا، والحواشي على الأرض
Page inconnue
يطرزها قوس الغمام بأصفر
على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل
مصبغة، والبعض أقصر من بعض
وإذا لم يرض مولاي أن يكون المتنبي قد أغار على بيت الناشئ، فما أظنه يجحد أن شاعره اللص سرق هذا المعنى بعينه من قول الحارث بن حلزة:
ربما قرت عيون بشجا
مرمض قد سخنت منه عيون
وأكبر الظن أن شاعره، وهو أعجز من أن يمتد حفظه إلى العهد الجاهلي، وجد الطريق سهلة مذللة إلى حبيب بن أوس الطائي، فاغتصب المعنى من قوله:
ما إن ترى شيئا لشيء محييا
حتى تلاقيه لآخر قاتلا
Page inconnue
ماذا تقول يا سيدي في هذه السرقة الصارخة، وتلك الإغارة الوقحة، التي لا تقل عن إغارات اللصوص، وقطاع الطريق؟ - لقد نظر المتنبي إلى معنى الطائي ما في ذلك شك. - ثم إن هذا السارق لا ينكس رأسه خزيا، بل ينفخ خياشيمه، ويتحدى كل شاعر من شعراء مولاي في جبرية وعجب، إنه في هذه القصيدة التي استشهد مولاي ببيت منها يقول:
خليلي ما لي لا أرى غير شاعر
فلم منهم الدعوى ومني القصائد؟
ويقول في أول قصيدة أنشدها بين يدي سيدي:
غضبت له لما رأيت صفاته
بلا واصف، والشعر تهذي طماطمه
فيصف جميع شعراء مملكته بأنهم عجم لا يبينون، وعلوج لا يفهمون، وأشهد أن الشعراء لم يغضوا عنه عجزا عن معارضته، فإن لكل منهم لسانا لو ضرب به حجرا لفلقه، وإن في شاعرك المغرور المتشدق من وضاعة النسب، وسماجة الخلق، ولؤم العنصر، ما يغري ضواري الشعراء، وما تتحلب له نهما أفواه الهجاء، ولكنهم سكتوا مرغمين محزونين؛ لأنه في كنف مولاي وحمايته، ولأنهم يظنون أن ثلبه، وتمريغه في التراب، قد يغضب مولاهم، فتركوه لك يا سيدي ولكنك تركته عليهم يمزق أعراضهم، ويسخر من فنهم، ويتحداهم في بذاءة وجبروت، وقد كان من أثر هذا أن انصرف الشعراء عن مدحك، فلا يحييك منهم شاعر بكلمة، وتفرد بك هذا الشاعر الدخيل فأخذ يتيه عليك، ويخاطبك مخاطبة الند والنظير، ويمر العام فلا يجود عليك إلا بقصيدة أو قصيدتين، بعد أن تلح في الطلب، وتلحف في المسألة، وبذلك انقلب الوضع، وعكس الأمر، وأصبح الأمير يستجدي شاعره، وأصبح الشاعر يراوغ ويماطل في العطاء ، ما هذه الحال يا مولاي؟! - لقد قلت حقا يا ابن العم، ولكني أخشى إذا انصرفنا عن هذا الشاعر أو صرفناه، أن يلحق بأعدائنا، فيرفع من شأنهم، ويشيد بمجدهم، وقد علمت أن عبد الإخشيد بمصر يبذل الآن فوق ما يستطاع لاستهوائه وإغرائه بالجاه والمال؛ ليصل إلى أرض مصر، ولست تجهل يا أبا فراس ما بيننا وبين الإخشيد من عداء محتدم، فقد وثبت علينا جيوشه منذ سنوات فاستولت على دمشق زينة العواصم، وغرة جبين الشام.
فإذا ذهب المتنبي إلى العبد زاد دولته قوة، ومسح عنه عار الرق ووصل نسبه بمعد بن عدنان. ثم إني أخشى، وهو لدود الخصام علقمي اللسان ألا يتعفف عن أن ينال بهجائه، وهو نفسه الذي يقول:
ومكايد السفهاء واقعة بهم
وعداوة الشعراء بئس المقتنى - إنه لن يذهب إلى مصر يا مولاي، كن من ذلك على يقين. إنه يذهب إلى العراق؛ ليتصل بالخليفة والوزير المهلبي فإن كبره سيزين له أنه أحق شعراء الأرض بالاتصال بالخليفة، وأن شعره أغلى من أن يبعثر على الأمراء وحكام الأطراف، وإذا بلغ بغداد يا ابن العم فإن مائة دينار من خزانتك هذه، ترسل إلى ابن الحجاج وابن سكرة، وهما أقذع الشعراء هجاء، وأفحشهم سبابا كفيلة بأن تشغله عن هجاء الناس جميعا، وتدفعه إلى الانصراف إلى نفسه. - لا أكذبك أبا فراس إني سئمت كبره وإدلاله وتجنيه، ولن أنسى ما اشترطه علي ذلك الأحمق عند أول اتصاله بي من ألا يكلف تقبيل الأرض بين يدي، وألا يخلع سيفه في حضرتي، وألا ينشدني شعرا إلا وهو جالس، ولقد قبلت منه كل ذلك على مضض، حين ظننت أن إغداقي عليه، وإحساني إيه يروضان من نفسه الجامحة، فما أجدى ذلك فتيلا. - إنك يا مولاي تمنحه كل عام ثلاثة آلاف دينار، غير ما تفيض عليه من الصلات والهبات، ثم إنك لا تظفر منه بعد كل هذا إلا بثلاث قصائد، نصف أبياتها في مدح نفسه، والازدهاء بمواهبه، ولو فرقت في كل عام مائتي دينار على عشرين شاعرا لأتوا بالمعجز المطرب، ولبزوا ذلك الوقع في كل ما يتبجح به من إجادة وإعجاز، وإن شعراء مملكتك، والشعراء الوافدين عليك قد يزيدون على المائة وهم يا ابن العم يرتقبون منك نظرة عطف؛ ليملئوا الدنيا باسمك دويا، ويرسلوا أجنحة الشعر بمديحك خفاقة في الآفاق. - صدقت أبا فراس لن يكون لهذا الشاعر الزنيم مكان من رعايتي بعد اليوم! غير أني أرى أن نخرج من هذا الأمر بكياسة ورفق، كما دخلنا فيه بكياسة ورفق. - هذا ما أشير به يا مولاي، ويكفي أن تصد عنه شهرا حتى يزمع الرحيل.
Page inconnue
وحينما انتهى أبو فراس من إحكام مؤامرته، حيا سيف الدولة وانصرف، وما كاد يعود إلى قصره، وكان بالقرب من برج أبي الحارث، حتى رأى به طائفة من الشعراء ينتظرون عودته، بينهم أبو العباس النامي، وأبو الحسين الناشئ، وأبو القاسم الزاهي، وأبو الفرج السامري، وكان من ألد أعداء أبي الطيب الحاقدين عليه. فلما رأواه هموا لاستقباله محتفين، وطفقوا يسألونه في شوق ولهفة عما تم في أمر المتنبي وسيف الدولة من نبذ المتنبي، وتقريب شعراء مملكته. فطار الفرح بقلوبهم، وأخذ كل منهم يفكر في مطلع قصيدة يمدح بها سيف الدولة؛ ليكون من السابقين الأولين.
أخذ سيف الدولة يفكر في أمر المتنبي، بعد أن تركه أبو فراس وقد تراكمت عليه الهموم، وانتابته الظنون، وعبثت به الهواجس. فهو مرة يرى أن أبا الطيب صناجة ملكه، وناشر فضله، وأنه الغاية التي تقطع دونها أنفاس الملوك، والحلم الذي يتطلع إلى تحقيقه كل أمير، وأنه أشعر من رددت أصداءه آفاق العرب، وأندى صوت يجلجل بالشعر فيخوض البحار، ويثب الجبال، لا يقف دونه سد، ولا يعترضه حائل، وأن شعره جيش أقوى من الجيش، وعتاد يزدري بكل عتاد. من هو سيف الدولة حتى يظفر بدولة الشعر كلها مجتمعة في رجل يمجد أفعاله، ويخلد محامده، ويبث الرعب في قلوب أعدائه؟
يرى سيف الدولة كل هذا، فيرفع رأسه باسما مبتهجا، وقد كاد يثلج صدره برد اليقين، ولكنه لا يفتأ حتى تهجم عليه الوساوس من كل مكان، صارخة عاوية وهي تصيح : ما هذا التدلي إلى الحضيض؟ وما هذا الاستخذاء لشاعر مجنون بالعظمة تياه على الملوك؟ أنت يا ابن حمدان ملك من سلالة ملوك، ولكنك في سبيل أمل كاذب، من نبي كاذب، نزلت بنفسك إلى الهاوية حتى صرت له مملوكا! اذكر إن كنت ناسيا أنه يقبل صلاتك الجزيلة آنفا، ويتقلب في نعمتك حاقدا، واذكر إن كنت ناسيا أنه لا يجود عليك بقصيدة إلا كارها متثاقلا، ثم اذكر أنك كثيرا ما استبطأت مديحه فأفنيت الحيل في استجدائه، فتارة ترسل إليه أبياتا لشاعر ليقول على مثالها، وتارة تزعم أنك أعجبت ببيت قديم لتستثير خاطره الراكد، وخياله الكليل. كل هذا وهو سادر في غروره وكبريائه، يسخر في خبيئة نفسه من الملوك والمماليك، ويردد في صدره قولته الحمقاء:
أي محل أرتقي
أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الل
ه وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي
إنه وايم الحق رجل ثقيل الظل، مستكره الطباع، ولو كان ينطق بالوحي، ويستملي شعره من ملائكة السماء! إن نفرة الناس منه ذهبت بروعة شعره، فلم يجد بين القلوب منزلا، ويل له مني؟ لن يعيش هذا الرجل في مملكتي بعد اليوم، فإنه لا تؤمن عواقبه، وهو حقود لئيم، يسخط على اليد تمتد إليه بالإحسان، ويأنف من النعمة يسوقها إليها كريم. أليس هو القائل:
Page inconnue
مدحت قوما وإن عشنا نظمت لهم
قصائدا من إناث الخيل والحصن
تحت العجاج قوافيها مضمرة
إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
لا. لا. فليخسأ ذلك المتشدق. أو ليرحل من بلادي إلى أي بلد شاء. لا أريد شعرا، ولا أريد ذلك المجد الموهوم الذي سيخلده شعره.
قال سيف الدولة هذا، وهو يحرك ذراعيه فعل الغاضب المحموم. ثم قام متجها إلى الجناح الذي به أهله بعد أن زالت عنه آلام الشكوك، وسكنت نفسه إلى ما عقد عليه العزم، وبينما هو يسير في دهليز طويل، إذ سمع أصواتا في حجرة، فاقترب وأنصت، فإذا غلامه نجا وأبو الحسن بن سعيد راوية المتنبي يتحاوران، فأرهف السمع فإذا نجا يقول: إنها من أروع قصائده، وكل شعره رائع خلاب. استمع لي يا مولانا، وأصلح خطئي إذا أخطأت:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
فإنك كنت الشرق للشمس والغربا
وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا
فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا؟
Page inconnue
فصاح ابن سعيد: هذا شعر كان في صدور الشعراء سرا مكتوما حتى جاء أبو الطيب فأفشاه، وكان في كهف الغيب رحيقا مختوما حتى ظهر ابن الحسين ففض ختامه. اقرأ يا بني من مديحه:
هنيئا لأهل الثغر رأيك فيهم
وإنك حزب الله صرت لهم حزبا
وأنك رعت الدهر فيها وريبه
فإن شك فليحدث بساحتها خطبا
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم
ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
سراياك تترى والدمستق هارب
وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
أتى (مرعشا) يستقرب البعد مقبلا
Page inconnue
وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
كذا يترك الأعداء من يكره القنا
ويقفل من كانت غنيمته رعبا
مضى بعدما التف الرماحان ساعة
كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا
ولكنه ولى وللطعن سورة
إذ ذكرتها نفسه لمس الجنبا
الله! الله! هذا فيض الكريم الفتاح، هذا ليس بشعر يا ولدي، إنه يكاد يكون من وحي جبريل. إن شعراء سيف الدولة جميعا أعجز من أن يقولوا:
ولكنه ولى وللطعن سورة
إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا
Page inconnue
فصاح نجا قائلا: أتعرف يا سيدي أني كتبت نسخا من هذه القصيدة، وبعثت بها إلى مصر وبغداد ودمشق وفارس وإفريقية والأندلس؟
كان سيف الدولة يسمع هذا الحوار، ولكنه لم يطق أن يصبر طويلا فدخل الحجرة غاضبا، وقال: ما هذا الهذر الذي تخوضان فيه؟ قاتل الله المتنبي وشعره! أكلما ذهبت إلى مكان سمعت الناس يتحدثون في هذا الوغد أو يدرسون شعره؟ إن بابي سيغلق دونه بعد اليوم. لقد علمت من ابن عمي أبي فراس من شأن هذا الرجل ما كنت أجهل. إنه يتقلب في نعمتي، ويضمر لي ولمملكتي أسوأ ما ينطوي عليه ضمير. فليذهب إلى حيث يشاء، وليجعل من ملوك الأقطار التي ينزل بها آلهة تعبد، فلست في حاجة إلى هذره وهرائه.
ولما انصرف سيف الدولة التفت ابن سعيد إلى نجا، وقال هامسا: دسيسة جديدة ورب الكعبة. لقد أوشك أعداء أبي الطيب أن يظفروا به هذه المرة، ولكني لن أنيلهم مأربا. لن أتركهم ينالون من هذا السر السماوي غرضا. إنه الحسد يا بني الذي قتل النبوغ في العرب، وذهب بريح العرب. أين نعلاي؟ - إلى أين أيها الشيخ؟ - إلى أبي الطيب. إلى نادرة عطارد. إلى الذي يقول:
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
صلح
سار أبو الحسن بن سعيد حزينا مطرقا، يخرج من درب إلى درب، ويتخلص من زحام ليغرق في زحام، وكانت حلب في ذلك الحين من أعظم مدن الشام، تشرف على نهر قويق، ويحيط بها سور شاهق، بني بالحجر الأبيض الضخم، به ستة أبواب، وإلى جانب السور قلعتها الحصينة الحمراء، التي تطل على المدينة شامخة متحدية كما يربض الأسد حول العرين، وكانت فسيحة الطرق، كثيرة القصور ذات الطابع البيزنطي، كثيرة المساجد والفنادق والمتاجر والحدائق، مزدحمة بالسكان من عرب وترك وأرمن وروم.
سار ابن سعيد حتى بلغ ساحة الناعورة، حيث القصر السامق الذي أهداه سيف الدولة إلى المتنبي، فولج بابه مهرولا، فتلقاه العبيد، وأقبل عليه مسعود كبير الخدم فحياه في أدب ولطف. فابتدره الشيخ: أين سيدك أبو الطيب؟ - في حجرة الزوار يا سيدي. - من معه الآن يا مسعود؟ - معه الحسين الصنوبري وأبو الفرج المخزومي. - فيم يتحدثون؟ فابتسم العبد وأجاب: في الشعر يا سيدي، وهل في حلب اليوم حديث إلا في الشعر، وغزوات الروم؟
وانفلت ابن سعيد من بين يدي العبد إلى لقاء المتنبي، فدخل حجرة فسيحة، ثمينة الأثاث، فرشت أرضها بالبسط الفارسية، وغطيت نوافذها بسجوف الحرير المصرية، ونضدت حولها الأرائك، وكان أكثر ما يسترعي نظر الناظر فيها كثرة خزائن الكتب، وكثرة المناضد التي ألقيت عليها الكتب أكداسا، وكان المتنبي جالسا أو على الأصح مضطجعا على كرسي ضخم، في صدر المجلس، وهو طويل فاره في التاسعة والثلاثين من عمره، خفيف اللحم، أسمر اللون، عريض الجبهة، براق العينين، شديد سوداهما، مستقيم الأنف، ترتفع أرنبته إلى ما يقرب من الشمم، في شفتيه رقة، وفي عنقه صيد، وفي ملامحه ثقة المعتز بنفسه، وفي نظراته كبرياء العباقرة، وفي صدره المرتفع ما ينم على ما يملأ هذا الصدر من آمال جسام، وكان يرتدي ثوب فارس كامل العدة، ويهز قدمه بين الحين والحين في إعجاب وزهو، فتصطدم بغمد سيفه الذي طال نجاده.
دخل ابن سعيد فقطع على المتحدثين حديثهم، وحياه المتنبي بنظرة لطيفة، فيها ترحيب لم يذهب بجماله ما فيها من كبرياء، وأخذ المخزومي يصل الحديث، ويقول: فلما رآني ... فابتدره ابن سعيد سائلا: من الذي رآك؟ - أبو الحصين الرقي قاضي حلب. كنت أقول: إنني كنت مارا بالأمس بسوق الوراقين، وكان الرقي جالسا عند وضاح بن سعيد الوراق، فلما رآني صاح: إلي يا أبا الفرج فإن شيطاني لا يريد أن يفارقني اليوم، لقد تلجلج في صدري بيت من الشعر منذ الصباح، وقد عيل صبري في رده إلى قائله، فهل لك أن تنقذ أخاك من خيال الشك؟ قلت: هات يا سيدي، لعل الله معقب بعد عسرا يسرا. قال: من قائل هذا البيت يا ابن أخي؟:
Page inconnue
خير أعضائنا الرءوس ولكن
فضلتها بقصدك الأقدام
وكنت أعلم أن الشيخ حاقد على أبي الطيب وشديد الكراهة له، كثير الإيقاع بينه وبين سيف الدولة. فقلت: قائل هذا هو الذي يقول:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مردها الأجسام
فقال: أحسن والله وأجاد! فمن هو؟ قلت: هو الذي يقول:
عقدت سنابكها عليها عثيرا
لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
فقال: هذا وحي السموات العلا! فمن هو والله ولا تطل؟ قلت: هو أيضا الذي يقول:
أقبلتها غرر الجياد كأنما
Page inconnue
أيدي بني عمران في جيهاتها
فصاح هذا تشبيه عز أن يناله خيال، من هذا الشاعر ناشدتك الله؟ قلت هو الذي يكيد له سيدي القاضي، ويصارحه بالعداء، ويدس له عند سيف الدولة! فصاح: هو المتنبي إذا. آمنت أنه الشاعر! إنه يا ابن أخي يحيينا بشعره، ولكنه يميتنا في اليوم ألف مرة بزهوه وإعجابه.
فضحك القوم، وابتسم المتنبي ابتسامة فاترة، ملؤها السخرية والأنفة . ثم قال في تعاظم: عجبا لهؤلاء القوم! إن لم أنزل إلى الوهدة التي تردوا فيها، والحمأة التي تمرغوا في دنسها، قالوا: إنني مزهو متكبر. إنهم يسمون الفضيلة عجبا، والإباء كبرا، والتنزه عن الدنايا تيها وصلفا، وماذا أصنع وقد خلق الله لي نفسا عزوفا عن كل ما يشين، طموحا إلى ما فوق السماء إن كان للسماء فوق؟ وإني أشهدكم أني ضقت بهم قبل أن يضيقوا بي. إنني طائر يعيش في غير وكره، وأمل حائر لا يجد له مستقرا، ولطالما نفرت نفسي من مجالسهم، واشمأزت من عبثهم ولهوهم. فإني إذا لم أعاقر الخمر معهم، قالوا جلف نابي الخلق سيء المعاشرة، وإذا لم أتدل إلى مغازلة النساء المتبذلات، قالوا: سمج الذوق، غير مصقول الطباع، وإذا لم أتخذ من الغلمان أسرابا وأسرابا كما يفعلون نبزوني بأسوأ الصفات، وأشنع الألقاب. فماذا أصنع في هؤلاء، والفجور عندهم محمدة، والسمو إلى معالي الأمور كبر وغرور؟ ولقد يذهب بي الفكر والهم أحيانا إلى أن أعتزم الرحيل عنهم، وقطع المفاوز دونهم، فإنه لا يزال في فسيح الأرض مضطرب للكريم الذي يطلب ما يعجز الطير ورده، ويبتغي ما هو أجل من أن يسمى.
دعاني منذ أيام أحمد بن نصر وزير سيف الدولة، إلى مجلس من مجالس أنسه ولهوه، فأبيت وأبيت، ولكنه أطال في الرجاء وألحف، فذهبت إلى داره كأنما أقاد إليها بالسلاسل. وماذا رأيت؟ رأيت طائفة من كبار المملكة، بينهم أبو فراس وأبو الحصين الرقي هذا الذي يزعم أن زهوي وإعجابي يميته في اليوم ألف مرة، ورأيت كثيرا من قواد الجيش، وأدعياء الشعر والأدب في هذه المدينة، رأيتهم وقد لعبت الخمر برءوسهم جميعا، فذهب عنهم العقل، وطار منهم الحياء، وكان السقاة يطوفون بالأكواب، فما مروا برجل إلا أفرغ كؤوسهم في بطنه، وشرب شرب الهيم، وكانت الجواري الروميات، وهن في أجمل زينتهن، يرسلن شباكهن لصيد القلوب وإثارة النزوات: بين غمزة ساحرة، وبسمة فاتنة، وانثناء لعطف، واهتزاز لنهد، وقبلات ترسل بالأكف، وإشارات تعبث بالعقول، وهمسات أثيمات، وذعر مصطنع، واستنكار مبتدع، ودلال ينسي الرجل عرضه، وإغراء يوقظ الفتنة النائمة، وقرب في تباعد، وتباعد في قرب، وغضب في طيه رضا، ورضا في غضونه غضب، وقامت بين القوم راقصة تكاد تكون متجردة فذهبت بالبقية من عقولهم، وأخذت ما تركته الخمر فيهم، وزينت النشوة لهذا الرقي قاضي حلب، الذي يكره مني زهوي وإعجابي أن يقوم ويرقص بين تصفيق والقوم، وترديد الألحان، وكان ينشد أبياتا عبث السكر بأوزانها، ولعبت بنت الحان بقوافيها. أما أنا فلم أستطع البقاء، فاتخذت من انصراف القوم إلى لهوهم سترا، وخرجت أتلفت ورائي، وأجمع من هذا الدنس أثوابي.
ذلك هو الذي يريدني هؤلاء المستهترون علي أن أفعله، وأن أشاركهم فيه، وإلا كنت ثقيل الظل، شائك الجانب، غليظ القلب فظا. لا يا صحابي إني خلقت من طينة غير طينتهم، ورميت إلى غاية غير غايتهم، وإذا كان لساني لسان شاعر، فإن قلبي قلب ... ثم ترددت قليلا، فقال المخزومي: قلب أسد؟ فالتفت إليه المتنبي، وقال: لا. كنت أريد كلمة أخرى ندعها الآن يا أبا الفرج. ثم أذن العصر، فقام من حضر للصلاة، وبقي المتنبي جالسا في متكئه يقلب في ديوان أبي تمام، وكان على منضدة أمامه، وكان يرسل إليه لمحات خاطفة، فمرة يبتسم احتقارا، وأخرى يهز رأسه استحسانا، وثالثة يمد شفتيه في استنكار وسخط.
فلما قضيت الصلاة حيا القوم أبا الطيب وانصرفوا، وبقي ابن سعيد قلقا ينفخ من الهم والغضب، فالتفت إليه أبو الطيب سائلا: ما لي أراك قلقا يا أبا الحسن؟ - لا شيء يا أخي، إلا أني سمعت اليوم حديثا أطار صوابي، وضاعفت من همي وحزني. فلقد علمت في هذا الصباح أن القوم يأتمرون بك، وأنهم لم يتركوا في كنانتهم سهما مسموما حتى رموك به. فخذ حذرك أبا الطيب، إني لك من الناصحين. - القوم يأتمرون بي؟! حياك الله وبياك يا أبا الحسن! ولكن ليس هذا بنبأ جديد. قل لهم ما قلته لغيرهم:
إني وإن لمت حاسدي فما
أنكر أني عقوبة لهم
وكيف لا يحسد امرؤ علم
له على كل هامة قدم - إن الأمر يا سيدي جد وما هو بالهزل، وإن أبا فراس وشيعته أعظم من أن يستهان بأمرهم، أو يفض الحديث عنهم ببيتين من الشعر، إنهم يكيدون لك، وينصبون لك الحبائل، ويمشون لك الضراء، فحاربهم بسيوفهم، واقتلهم بالسم الذي أعدوه لك. إن الفلسفة التي تسير بهديها، والتي تستريح إليك نفسك، وتهدأ بها هواجسك، لن تغني في هذا الزمان فتيلا. إننا يا سيدي نعيش في جو قاتم بالدسائس، مختنق بالفتن، ومن خطل الرأي أن يخطو المرء في أرض تزدحم بالأفاعي وهو لا يحمل ترياقا، أو يسير في مسبعة وهو لا يستصحب الحذر. لقد أزعج القوم إباؤك وشممك، وتلك المشية المزهوة التي تكاد تشم فيها عظمة الملك من أعطافك، وتلك النظرات المتسامية التي تعد من تحتها من الناس ذبابا أو نمالا. إن العظمة يا أبا الطيب لا يراها الناس إلا تحت رداء من التواضع، والنبل معنى تدركه العقول ولا تبصره العيون. خض مع الناس فيما يخوضون، وخذهم كما يكونون، واحتل إذا وجدت الاحتيال مطية لمآربك، وبش في وجوه قوم وقلبك يلعنهم. - لا. لا. يا أبا الحسن. ذلك عهد ودعته منذ حين، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيها، ولن أفسد خلقي لفساد أخلاق الناس، ولن أضيع مروءتي بين ملق دنيء، وخداع وبيء. أنت تريدني على أن أقذف بأخلاقي ورجولتي في التراب؛ لأرتدي ثوبا من الرياء مخرقا، ولماذا؟ لأن طائفة من السادرين الآثمة الذين أعيش بينهم، تؤلمهم رؤية الفضيلة، ويؤذيهم أن يعتز المرء بنفسه. لا يا أبا الحسن عرج على حديث آخر. - ليس لي اليوم حديث إلا هذا، فإن لي فيك اعتقادا أرسخ من الجبال. أعتقد أنك الشاعر الذي بعث على رأس هذا القرن لينهض بالعرب، وليغني بمآثر العرب، وليعيد مجد دولة العرب، ولن أجد لك ميدانا بين دويلات الإسلام أوسع من حلب، ولا ملكا يساير رنين شعرك صليل سيوفه إلا سيف الدولة. إنه الملك الفذ الذي يقارع الروم، وهم يتوثبون على أطراف مملكته بعددهم وعديدهم في صولة وقوة وشهوة للانتقام، والحرب يا أبا الطيب لن تسير غازية، فاتحة، مظفرة إلا على ألحان الشعر الحماسي الذي يلهب الوجدان، ويقذف الرعب في قلب الجبان، ولن يكون هذا الشعر إلا شعرك يا ابن الحسين، ولن تكون النغمات السماوية إلا من مزهرك المرنان. أنت لست ملك نفسك يا رجل. أنت ملك العرب جميعا، أنت هبة الزمان الجديد الذي جاء ليصلح بك ما أفسده الزمان القديم، وإذا هجرت حاضرة سيف الدولة فأين تذهب؟ قد يخيل إليك أن تذهب إلى العراق، ويا ويلي من العراق وتعسي!! إنه الآن تحت سيطرة طغاة من الديلم، وخليفتنا المطيع لله - فك الله أسره - يعيش الآن في قفص يسمونه عرشا، بعد أن خلع الديلم ابن عمه المستكفي بالله وسملوا عينيه، وهو اليوم يجلس على سرير الملك كما يجلس القرد المذعور الذي تذهب عيناه يمينا وشمالا أينما ذهبت عصا صاحبه. هذه هي بغداد التي كانت زينة الدنيا وبهجة الدهور، أيام الرشيد والمأمون، وهناك الوزير المهلبي، وقد جمع حوله حثالة الكتاب، وشذاذ الشعراء الذين يرسلهم على أعدائه كما ترسل الكلاب المضراة فلا يتركون أديما صحيحا، ولا عرضا سليما. هل تستطيع أن تعيش في هذا الجو يا أبا الطيب؟ وفي أي شيء تقول الشعر هناك؟ في الكأس والطاس والغواني والغلمان! نعم ليس هناك مجال إلا هذا المجال القذر الدنس، فليس هناك غزو ولا فتح، حتى لقد صدئت سيوفهم في أغمادها، إن كان لا يزال في أغمادهم سيوف، ومن تظن سيكون من نظرائك وأندادك؟ سيكون من هؤلاء ابن الحجاج الوقح، وابن سكرة المفحش، وابن لنكك السباب. لا يا سيدي، إن رضيت بهذا فلن أرضاه لك، وقد يجول بخاطرك أن تذهب إلى مصر، وإني أربأ بك أن تفعل هذا، وأن تجعل من نفسك عبدا للعبد الأسود، ويا لضيعة الشعر ويا لضيعة الأدب إذا انحدر إلى هذه الهاوية! قد تقول أذهب إلى فارس، ولكن ثقتي بك تأبى علي أن أتخيل أن مثلك يذهب هذا المذهب، ويبيع عروبته وتاريخه بثمن بخس، دراهم معدودات. أنصت إلي يا أبا الطيب، ليس لنبوغك مجال إلا في حلب ، وليس لعقود شعرك مكان أجمل ولا أشرف من جيد سيف الدولة. فأقم في ذراه، واعتصم برضاه، وجامل من حوله، وكن فسيح الصدر، واسع الحيلة، واترك خلق الله في ملك الله. - إني أحب سيف الدولة يا أبا الحسن، أحب فيه شجاعته وإقدامه وكرم سجيته وصبره على الجهاد، وأود أن أعيش في كنفه، وأن أدفن في الأرض التي طهرها سيفه من رجس الغزاة المغيرين، ولكن في حاشيته عصابة اتخذت من أبي فراس زعيما، بغضت إلي حلب وملكها، وحببت إلي الذهاب ثانية إلى الصحراء، حيث كنت أعيش في طليعة شبابي مع جفاة الأعراب، فما رأيت منهم إلا نجدة وعزة وأنفة عن كل ما يشين. - إن أبا فراس هذا هو الذي جئت لأحدثك في شأنه اليوم. فقد ملأ قلب سيف الدولة غيظا منك وحقدا عليك، وذكر له من تيهك وجبريتك وامتهانك لشأنه ما دفع سيف الدولة إلى أن يعقد العزم على سد بابه دونك. رآني اليوم مع نجا وهو يقرأ علي بائيتك الأخيرة فصاح فينا غاضبا، وأخذ يرميك بكل قارعة، ويصمك بكل قاصمة، وينذر ويتوعد؛ لذلك هرولت إليك مسرعا حتى نرد كيد القوم في نحرهم، ونظفر برضا سيف الدولة دونهم. - وكيف نظفر برضاه وهو على ما وصفت؟ - إن سيف الدولة قلب دوار، يكون الصبا ويكون الدبور، فهو في لحظة سيل هدار العباب، وفي أخرى صفحة غدير سجسج يتعثر فوقه النسيم. هو الآن غضبان، ولكنه إذا سكت عنه الغضب عاد طفلا غريرا يسهل اجتذابه، ويسلس قياده. - دعني أرحل عنه بسلام يا أبا الحسن، فإن النفوس إذا تنافرت قل أن تعود إلى ودادها. - هذا كلامكم معشر الشعراء، ولكن النفوس تتنافر ثم تتعانق، ولا يصفو الود إلا بعد أن يخلص من الكدر. - من الذي يخلص ود سيف الدولة من هذا الكدر؟ - أخته خولة. فإنها مفتونة بشعرك، كثيرة الإعجاب بك، وهي ترى- أن خروجك من مملكة أخيها لا يقل عن دخول الروم فيها، وسيف الدولة مشغوف بها حبا، لا يرد لها كلمة ولا يخيب رجاء. فلو ألحت عليه في أمرك، لأحبطت كيد القوم، وأعادتك إلى ما كنت فيه من المنزلة والكرامة. - افعل ما تشاء يا أبا الحسن، ولو خيرت ما اخترت. - إني سأختار لك. فلا يكن في صدرك حرج، وسأمر على دارك غدا بالخبر اليقين.
Page inconnue
فلما جاء الغد أسرع أبو الحسن بن سعيد إلى دار المتنبي، فلم يجده ورأى ابنه محسدا فقال له: قل لأبيك يا محسد: إن الأمير يبلغه تحيته ورضاه، ويود أن يقابله في قاعة الرسل في صبيحة غد؛ ليستمع لإنشاد القصيدة الجديدة، وقل له: إن الجمع سيكون حاشدا، عم مساء يا محسد. ثم بلغه عني ألا ينسى قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
صراع
عاد المتنبي إلى داره حزينا مثقلا بالهموم والأوجال، يهز رأسه صامتا مطرقا، فابتدره محسد وألقى عليه رسالة أبي الحسن لم يخرم منها حرفا. فالتفت إليه أبوه في تثاقل، وقال: إذا سيكون الموعد غدا؟ - نعم يا أبي، وهو يقول: إن الجمع سيكون حاشدا. - إنه يوم الفصل يا محسد، وسيعلمون غدا من السباق المبرز.
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت، أم ذعر الذعر؟
وأقبل مسعود فقال: إن العشاء قد أعد يا سيدي.
ليس لي في الطعام من أرب الليلة يا مسعود. أوقد الشموع في حجرة نومي، وأعد بجانبها شموعا أخرى، فقد يطول بي السهاد في هذه الليلة الليلاء، وأحضر أقلاما وأوراقا ودواة بجانب سريري. أسرع يا مسعود، فإن مجد سيدك الليلة في ميزان القدر. فأسرع العبد ينجز ما أمر به، وتخفف المتنبي من بعض أثوابه، وهو يتمتم: غدا سيرون! غدا سيكون لي معهم ومع أميرهم شأن أي شأن! غدا يعلمون أني كالحجاج بن يوسف لا يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، وغدا يستيقنون أن الشعر إذا تنفست به نفس جريئة، كان ملكا على الملوك، وأميرا على الأمراء. من هؤلاء ليت شعري ومن آباؤهم؟ كان آباؤهم زعماء طائفة من فتاكي العرب، أغاروا على أطراف الخلافة، وهي تترنح للسقوط، فمزقوا أشلاءها، واقتطعوا لأنفسهم منها طرفا، وأصبحوا في طرفة عين ملوكا لهم عرش وصولجان، وجند وسلطان، ولم لا أوطد ملكا كما وطدوا؟ وأشيد مجدا مغتصبا كما شيدوا، ما دام الأمر للقوة، والحكم لأطراف الأسنة؟ ثم أطرق حزينا وهز رأسه في ألم وحسرة، وقال: ولكن هؤلاء لهم عشيرة وعصبة، ولهم أعوان وأحلاف في القبائل، ولهم في الرياسة مجد قديم، أما أنا فقد:
أظمتني الدنيا فلما جئتها
Page inconnue
مستسقيا مطرت علي مصائبا
ثم زفر وقال: نعم يا أبا الطيب، لقد قسا عليك القدر، فأنشأك في أسرة خاملة النسب، تجاهد بجدع الأنف أن ينساها الناس، وأن ينسوا اتصالك بها، وليس لك غير عزمك وسيفك وشعرك من عشير أو قبيل. فأين أنت من المطالب العظام والمقاصد الجسام؟. نعم. لقد قسا عليك القدر، فخلق لك نفسا شامخا تواقة غلابة طماحة إلى الملك، ولم يخلق لك من آلات العظمة والملك ما يصل بك إلى أدنى هذه الغايات. هذا هو دأب القدر دائما، يضع السيف في يد من لا يستطيع حمله، ويهب المال لمن لا يحسن تدبيره، ويكيل الحمد والثناء لمن لا يفهم معنى الحمد والثناء.
جلس المتنبي أمام منضدته، ومد يده إلى القلم، وأطرق طويلا يفكر في ابتداء القصيدة، فجال بخاطره أن يقول:
نقل الواشي حديثا فكذب
كن مجيري منه يا خير العرب
ولكنه هز رأسه هزا عنيفا، وقال: لا. لا. هذا مطلع يدل على ضعف نفسي، واهتمامي بالوشاة. ثم إن تسمية سيف الدولة في أول القصيدة بخير العرب إغراق فاضح، وسرف في المديح لا يصح أن يعطى في جرعة واحدة، وعدل عن هذا المطلع، وأخذ يفكر في مطلع آخر؛ فعرض له أن يقول:
غال بعض الحب عذل العاذل
ومضى الباقي بمطل الماطل
غير أنه مد شفته السفلى استنكارا، وقال: لا. لن يصلح هذا مطلعا فإن فيه إيغالا في القطيعة، ومصارحة بالجفاء، وإذا اغتال العذل بعض الحب، وذهب مطل الحبيب بباقيه، فماذا يبقى منه للرجل؟ وماذا أرجو عنده بعد أن كاشفته بانقطاع حبل الود بيننا؟ ثم فكر قليلا، وصاح في اهتمام: لقد وجدت المطلع، لقد وجدته. هذا هو:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
Page inconnue
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ثم وقف وأخذ يجول في أنحاء الحجرة، وهو يهمهم ويزمجر زمجرة النمر الجريح، وكلما حام حوله طائر الشعر أطرق وزمزم حتى يلتقطه فيسرع إلى أوراقه فيدون البيت أو البيتين، وكان من يراه وهو يذرع أرض الحجرة شاخص العينين، يلوح بذراعيه أحيانا، ويضرب بقدمه الأرض أحيانا، ويتحدث إلى الشموع والحيطان أحيانا، يظنه مجنونا ذهب عقله وطار لبه.
فرغ المتنبي من قصيدته قبل أن تظهر خيوط الصباح، فطوى أوراقه، وألقى بنفسه على سريره، ولكن هيهات لمثله أن ينام! فلما شاع نور الشمس في الأفق، تناول نزرا من الطعام، ثم ارتدى ملابسه، وأمر مسعودا بإعداد جواده، ولما هم بالركوب رأى أبا الحسن بن سعيد في انتظاره، فابتدره ابن سعيد: هل أتممت القصيدة؟ - نعمت أتممت قاصمة الظهر، وقارعة الأبد. - أرجو ألا تقسو فيها على أعدائك يا أبا الطيب. - ليكن ما يكون.
ولما بلغا قصر سيف الدولة، نزل أبو الطيب عن جواده فتلقاه نجا في بشر وترحاب، وهمس في أذنه قائلا: اليوم يومك يا أبا الطيب. فإن أعداءك هنا جميعا، وقد جمعوا مكرهم، وألقوا حبالهم وعصيهم. فهز المتنبي كتفه في تيه، وقال: إن هؤلاء لا يهزون شعرة من مفرقي:
أنا الذي بين الإله به الأق
دار والمرء حيثما جعله
جوهرة تفرح الشراف به
وغصة لا تسيغها السفله
ودخل المتنبي قاعة الرسل، فرأى سيف الدولة في صدر الإيوان، وحوله الوزراء والفقهاء ورجال العلم والأدب، وكان بالمجلس عدد عديد من أعداء المتنبي بينهم الزاهي والنامي وأبو الفرج السامري، وكان على رأس هؤلاء أبو فراس وأبو العشائر، وقد أخذا ينظران ذات اليمين وذات الشمال في قلق واضطراب.
دخل المتنبي فسلم على الأمير مطأطئ الرأس حزينا، ورد سيف الدولة تحيته مدلا عابسا، وسكت الجمع، وتحفز أعداء أبي الطيب للوثوب، فشرع ينشد حتى إذا بلغ قوله:
Page inconnue
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم؟
صاح به أبو الفرج السامري: ويلك يا دعي كندة. لقد هجوت الأمير؛ لأنك تزعم أن الناس جميعا لا يحبونه إلا ادعاء، وأنك وحدك الذي يحبه حبا صادقا، وهل هذا إلا هجو صراح؟ فانصرف عنه أبو الطيب غير مكترث، واستمر في الإنشاد، فلما قال:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
قال أبو فراس: قد مسخت قول دعبل:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت
عيني دموعا، وأنت الخصم والحكم
فقال المتنبي وهو ينظر إلى الأمير ويشير إلى أبي فراس:
أعيذها نظرات منك صادقة
Page inconnue
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فعلم أبو فراس أنه يعنيه، فقال: ومن أنت يا ابن عبدان حتى تأخذ أعراض أهل الأمير في مجلسه؟ فواصل المتنبي إنشاده ولم يلق إليه أذنا إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
فزاد ذلك في غيظ أبي فراس، وقال: قد سرقت هذا من عمرو بن عروة بن العبد إذ يقول:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت
دهرا وأظهرت إغرابا وإبداعا
حتى فتحت بإعجاز خصصت به
Page inconnue