بكفيه، فالقتل الشريف شريف
وبلغ المتنبي داره وقد نال منه الجهد، واضطرب منه العصب، فارتمى فوق سريره يلهث ويردد أنفاسه ، وقد جالت في نفسه خواطر متباينة، وهجمت عليه ظنون متناقضة. هؤلاء الغلمان الذين طلبوا دمه إنما هم عن قوس ساداتهم رموا، وبأيديهم راشوا السهام. نعم إنه انتصر عليهم عند سيف الدولة اليوم ولكن هل يدوم هذا النصر، وحوله هؤلاء الذئاب، وهو يخطو فوق أرض كثيرة المزالق والأخاديد؟ إنه انتصر حقا ولكن هذا النصر قد يكون حافزا لأعدائه على الإسراع بالكيد له، وإحكام الخطة لدفعه في الهاوية. إنه انتصار يجر في ذيله الهزيمة. انتصار المصادفة الذي يعقبه انهزام تنصب شباكه الدسائس المحكمة، والمكر الخبيث، والغلمان الفتاكون الذين يرسلون سهامهم في غبش الظلام، وهل يستطيع أن يركن إلى سيف الدولة أو يثق بنصرته، وهو كما قال أبو الحسن رجل من هواء لا يدوم على حال. يملكه الغضب حينا فيرتد شيطانا رجيما، ويجتذبه الرضا بخيط من خيوط العنكبوت فيصبح ملكا كريما، وكيف يعيش شاعر غرد في هذا الجو القلق المضطرب؟ إني أوثر أن أعيش في عرين الأسد، وأرقد بين الحيات السود، وأنام في مجاري السيول، على أن أعيش بين سموم هذه الأحقاد يوما واحدا. غدا أرحل إلى أي مكان على رغم يقيني من أني لن أجد لسيف الدولة مثيلا بين الأمراء، ولكن ماذا أفعل والجنة تحف دائما بالمكاره، والورد لا يجنى إلا من الشوك؟ غدا أرحل إلى دمشق، ويفعل الله ما يشاء. يا محسد. فأسرع ابنه إلى ندائه، ووقف يتلقى أمره، فطلب منه أن يأمر العبيد بإعداد كل شيء للرحيل في الغد، ورأى أبو الطيب في وجه ابنه سمات التردد والعجب فصاح به: أطع ما آمرك به ولا تعوق. فقال محسد في تلعثم: إني في الحق في حيرة من هذا الأمر المفاجئ. لقد كان فوزك اليوم على أعدائك فوزا حاسما، وكان إقبال الأمير عليك واعترافه بسمو منزلتك حادثا فذا لم يسجل له الدهر مثيلا في تاريخ الملوك والشعراء. ثم بعد هذا يخطر لك أن ترحل عن هذا الجاه العريض، والمرتبة التي تتقطع دونها أعناق الشعراء! - مر العبيد أن يعدوا كل شيء، ولا تخاطبني في شأن الأمير. اذهب.
فخرج محسد متثاقلا والدهش يملك عليه لبه، فأمر مسعودا بالاستعداد للرحيل، وما كاد يلمع أول شعاع للصباح حتى وصل فارس يلهث جواده إلى دار أبي الطيب وطلب لقاءه فأدخل عليه. فقال الفارس: إني خادم سيدتي خولة أخت الأمير، وقد بعثتني برسالة إليك. - سيدتي خولة؟ تبعث إلي برسالة؟ أين هي؟ - ها هي ذي يا سيدي، ومد يده في كمه فأخرج منه كيسا من الحرير الأخضر خيطت جوانبه حول الرسالة، ففض المتنبي الكيس وأخرج الرسالة فكان فيها:
من خولة بنت عبد الله بن حمدان إلى أبي الطيب أحمد بن الحسين. أما بعد؛ فقد كانت قصيدتك التي أنشدتها اليوم آية بينة من آيات البيان، جديرة بأن تعلق على أستار الزمان، وأن يردد قوافيها الملوان. قرأها علي الليلة أبو الحسن بن سعيد، وشرح لي ما حدث من مقاطعة أبي فراس لك، وتحديه إياك، وما كان من انتصارك عليه، وما كاد يتم سرورنا حتى فوجئنا بتعرض غلمان أبي العشائر لك في الطريق، فغضب أخي أشد الغضب وبعث في طلب أبي العشائر، فلما جاءه تلقاه ساخطا لاعنا، واعتذر أبو العشائر وأطال الاعتذار، وأقسم إن شيئا من ذلك لم يكن بإشارته ولا بعلمه، ولم يخرج من لدنه حتى كتب أمرا بنفي هؤلاء الغلمان جميعا إلى الموصل؛ وقد جال بنفسي أن هذا الحادث قد يحفزك إلى الرحيل، بعد أن كنت مترددا. فأستحلفك بالله وبمجد العرب وبما تكن لأخي من مودة ألا تفعل. لا ترحل يا أبا الطيب فإن الدولة في أشد الحاجة إليك. أنت قلبها النابض، وزندها المفتول، وجيشها الذي لا يصاول. لا ترحل يا أبا الطيب واستمع لرجاء فتاة تقدر أدبك وفضلك. إن الدولة من غير أن يتردد فيها نغم شعرك كنانة بلا سهام، ودوحة بلا بلابل، والسلام عليك في الخالدين.
قرأ المتنبي الرسالة، ثم اطرق واجما مفكرا ينكت الأرض بعصا كانت في يده. ثم رفع رأسه وكأنما أفاق من غمه فقال للرسول: قبل يد مولاتي وقل لها: إن العبد لا يأبق ما أحسن به سيده، وإن طائرها سيظل رفافا غردا ما بعد عنه حفيف السهام، وإن الشعر لن يعصي أمرا لسيدة نساء «تغلب» ولا يرد كلمة مرت بأطهر شفتين، ونطق بها أصدق لسان.
وبقي المتنبي في كنف سيف الدولة بعد ذلك قرابة خمس سنين، بين سخط ورضا وعتب وإعتاب، وتجن وإدلال، وحضر بعض مواقع الروم مع سيف الدولة فأجاد وصفها، وشدا ببطولة رجالها، فملأ الدنيا، وشغل الناس، وطار شعره في الآفاق، ورددته الأفواه في كل مكان:
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
ولما طال به المقام كثر حساده، ومل سيف الدولة تيهه وكبريائه وضنه عليه بالمديح، فازدادت بينهم الجفوة، ولم يجد أعداء المتنبي بابا للنكاية به إلا ولجوه، وحينما ضاق المتنبي بأمرهم فكر في الرحيل، وكأنه كان ينظر بعين الغيب حقا حينما قال في آخر قصيدة أنشدها بين يدي سيف الدولة:
ولا تبال بشعر بعد شاعره
Page inconnue