فصاح نجا قائلا: أتعرف يا سيدي أني كتبت نسخا من هذه القصيدة، وبعثت بها إلى مصر وبغداد ودمشق وفارس وإفريقية والأندلس؟
كان سيف الدولة يسمع هذا الحوار، ولكنه لم يطق أن يصبر طويلا فدخل الحجرة غاضبا، وقال: ما هذا الهذر الذي تخوضان فيه؟ قاتل الله المتنبي وشعره! أكلما ذهبت إلى مكان سمعت الناس يتحدثون في هذا الوغد أو يدرسون شعره؟ إن بابي سيغلق دونه بعد اليوم. لقد علمت من ابن عمي أبي فراس من شأن هذا الرجل ما كنت أجهل. إنه يتقلب في نعمتي، ويضمر لي ولمملكتي أسوأ ما ينطوي عليه ضمير. فليذهب إلى حيث يشاء، وليجعل من ملوك الأقطار التي ينزل بها آلهة تعبد، فلست في حاجة إلى هذره وهرائه.
ولما انصرف سيف الدولة التفت ابن سعيد إلى نجا، وقال هامسا: دسيسة جديدة ورب الكعبة. لقد أوشك أعداء أبي الطيب أن يظفروا به هذه المرة، ولكني لن أنيلهم مأربا. لن أتركهم ينالون من هذا السر السماوي غرضا. إنه الحسد يا بني الذي قتل النبوغ في العرب، وذهب بريح العرب. أين نعلاي؟ - إلى أين أيها الشيخ؟ - إلى أبي الطيب. إلى نادرة عطارد. إلى الذي يقول:
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
صلح
سار أبو الحسن بن سعيد حزينا مطرقا، يخرج من درب إلى درب، ويتخلص من زحام ليغرق في زحام، وكانت حلب في ذلك الحين من أعظم مدن الشام، تشرف على نهر قويق، ويحيط بها سور شاهق، بني بالحجر الأبيض الضخم، به ستة أبواب، وإلى جانب السور قلعتها الحصينة الحمراء، التي تطل على المدينة شامخة متحدية كما يربض الأسد حول العرين، وكانت فسيحة الطرق، كثيرة القصور ذات الطابع البيزنطي، كثيرة المساجد والفنادق والمتاجر والحدائق، مزدحمة بالسكان من عرب وترك وأرمن وروم.
سار ابن سعيد حتى بلغ ساحة الناعورة، حيث القصر السامق الذي أهداه سيف الدولة إلى المتنبي، فولج بابه مهرولا، فتلقاه العبيد، وأقبل عليه مسعود كبير الخدم فحياه في أدب ولطف. فابتدره الشيخ: أين سيدك أبو الطيب؟ - في حجرة الزوار يا سيدي. - من معه الآن يا مسعود؟ - معه الحسين الصنوبري وأبو الفرج المخزومي. - فيم يتحدثون؟ فابتسم العبد وأجاب: في الشعر يا سيدي، وهل في حلب اليوم حديث إلا في الشعر، وغزوات الروم؟
وانفلت ابن سعيد من بين يدي العبد إلى لقاء المتنبي، فدخل حجرة فسيحة، ثمينة الأثاث، فرشت أرضها بالبسط الفارسية، وغطيت نوافذها بسجوف الحرير المصرية، ونضدت حولها الأرائك، وكان أكثر ما يسترعي نظر الناظر فيها كثرة خزائن الكتب، وكثرة المناضد التي ألقيت عليها الكتب أكداسا، وكان المتنبي جالسا أو على الأصح مضطجعا على كرسي ضخم، في صدر المجلس، وهو طويل فاره في التاسعة والثلاثين من عمره، خفيف اللحم، أسمر اللون، عريض الجبهة، براق العينين، شديد سوداهما، مستقيم الأنف، ترتفع أرنبته إلى ما يقرب من الشمم، في شفتيه رقة، وفي عنقه صيد، وفي ملامحه ثقة المعتز بنفسه، وفي نظراته كبرياء العباقرة، وفي صدره المرتفع ما ينم على ما يملأ هذا الصدر من آمال جسام، وكان يرتدي ثوب فارس كامل العدة، ويهز قدمه بين الحين والحين في إعجاب وزهو، فتصطدم بغمد سيفه الذي طال نجاده.
دخل ابن سعيد فقطع على المتحدثين حديثهم، وحياه المتنبي بنظرة لطيفة، فيها ترحيب لم يذهب بجماله ما فيها من كبرياء، وأخذ المخزومي يصل الحديث، ويقول: فلما رآني ... فابتدره ابن سعيد سائلا: من الذي رآك؟ - أبو الحصين الرقي قاضي حلب. كنت أقول: إنني كنت مارا بالأمس بسوق الوراقين، وكان الرقي جالسا عند وضاح بن سعيد الوراق، فلما رآني صاح: إلي يا أبا الفرج فإن شيطاني لا يريد أن يفارقني اليوم، لقد تلجلج في صدري بيت من الشعر منذ الصباح، وقد عيل صبري في رده إلى قائله، فهل لك أن تنقذ أخاك من خيال الشك؟ قلت: هات يا سيدي، لعل الله معقب بعد عسرا يسرا. قال: من قائل هذا البيت يا ابن أخي؟:
Page inconnue