وحملت الغنائم إلى بيت المال ولكن بعد اختلاس أشياء كثيرة منها، ووزعت المنازل المهمة على الأمراء، ويمم المهدي والخليفة في الباخرة «إسماعيلية» إلى الخرطوم، ورأيا نتيجة انتصارهما الدموي، ولم يبد أحدهما أية علامة على التحسر أو الأسف، بل ذهب كل منهما إلى المنزل المخصص له، وكان كل منهما يقول لأتباعه: إن الله أنزل العقاب بسكان المدينة لعسفهم وعدم اتباعهم إيمان المهدي.
وقضيت الأيام الأولى في اللهو واتباع الشهوات، ولما شبع المهدي وأتباعه من النساء ابتدءوا يلتفتون إلى الخطر الذي يداهمهم من الخارج، فأمر الأمير عبد الرحمن واد نجومي المشهور بأن يجمع قوة كبيرة ويذهب بها إلى متمة لمقاومة الإنجليز ويطرد هؤلاء الكفار، الذين قيل إنهم بلغوا النيل قريبا من هذه البلدة.
وفي صباح يوم الأربعاء بعد سقوط الخرطوم بيومين حوالي الساعة الحادية عشرة، سمعنا إطلاق القنابل وعيارات البنادق في ناحية جزيرة توني ، ثم ظهرت باخرتان وهما «الثلامونية» و«بردين»، وكان عليهما السير تشارلس ولسون وعدد من الضباط والجنود الإنجليز جاءوا لإنقاذ غوردون، وكان السنجق خشم الموس وعبد الحميد محمد، اللذان كان غوردون أرسلهما لقيادة الشايجية، على هاتين الباخرتين أيضا، وسمعوا جميعا بما حدث لغوردون، ولكنهم أرادوا أن يتأكدوا من الخبر وجاءوا إلى نصف الطريق بين جزيرة توني والنيل الأبيض.
وأطلق الدراويش نيرانهم على الباخرتين من الخنادق الواقعة في الشمال الشرقي لقلعة أم درمان، ولكن الباخرتين عادتا في الحال عندما رأى رجالهما سقوط الخرطوم.
وسمعت بعد ذلك من بعض بحارة هاتين الباخرتين أنهم هم والإنجليز تأثروا لسقوط الخرطوم، وعرفوا أن السودان قد بات تحت سيطرة المهديين، وكان المفهوم من الحديث الذي كان يتحدث به الجنود على البواخر أن الغرض هو إنقاذ غوردون، فلما تأكد الخبر عن موته عادت البواخر إلى دنقلة.
ثم اتفق دليل الباخرة «الثلامونية» على أن يجنح بالباخرة إلى الشاطئ حتى يكسرها ثم يفر في النيل هو والربان عبد الحميد. ونجحت هذه الخطة وبلغ من شدة اصطدام الباخرة أنها عطبت حتى احتاجوا إلى نقل ما فيها بسرعة إلى الباخرة «بردين»، وفر كلاهما وقت الاصطدام وحصلا بواسطة أصدقائهما على عفو المهدي وعادا إلى الخرطوم، واستقبلهما المهدي استقبالا حسنا وامتدح صنيعهما في كسر الباخرة. ومع أن عبد الحميد كان من الشايجية المكروهين وأحد أقارب صالح واد المك، فإن المهدي خلع عليه مرقعة إكراما له، وكان عدد كثير من النساء قرابته قد سبين عند سقوط الخرطوم ووزعن على الأمراء، فلما عفي عنه أعدن إليه.
أما الباخرة «بردين» فإنها في عودتها جنحت وارتطمت بالوحل، ولما كانت حمولتها ثقيلة فإنه لم يمكن إنقاذها، وكان ذلك قريبا من متمة، وكان عليها السير تشارلس ولسون، فشعر عندئذ بحرج مركزه، وكان الجنود الذين معه قليلين فلم يكن في وسعه أن يعبر إلى الشط الغربي ليلتحق بسائر قوته في جوبات؛ لأن العدو كان قد خندق بينه وبينها في واد حبشي، وكانت قوة الدراويش في واد حبشي - بعدما أصابها من الخور وانحلال العزيمة بعد هزيمة أبو كلبة - قد عادت إليها شجاعتها بعد سقوط الخرطوم وانتشار خبر مجيء النجومي، وكان في جوبات باخرة ثالثة تدعى «صفية»، فأرسل السير تشارلس إليها ضابطا في زورق يطلب المعونة.
وقامت «صفية» في الحال وعلم العدو بذلك، فخندق على الشاطئ وتهيأ لمجيئها، فلما اقتربت صب عليها نارا حامية من البنادق والمدافع، ولكن الجنود فيها قاتلوا ببسالة عازمين عزما صادقا على إنجاد الباخرة «بردين» مهما كلفهم ذلك، واستمر سير الباخرة حتى أصيب المرجل.
ولكن الربان أمر في الحال بإصلاح الخلل، فأخذ العمال يصلحونه والنار تنصب عليهم من العدو. وقضي الليل كله في هذا الإصلاح، حتى إذا كان الصبح تمكنت «صفية» من استئناف السير ومقاتلة الدراويش، بل تمكنت من إسكات مدافعهم وقتل أميرهم حمد واد فايد وعدد آخر من صغار الأمراء.
وبلغت «صفية» «بردين» وأنقذت السير تشارلس ورجاله، وكان لهذا العمل العظيم أثر آخر في إنجاد الجنود الإنجليز في متمة.
Page inconnue