وكان غوردون يريد أن يقي نفوس جميع الناس إلا نفسه، ويمكنني الآن أن أنتقد غوردون من حيث إنه لم يحفر خنادق ولم يقم تحصينات تحمي السراي، ولكن الأرجح أن الذي منع غوردون من عمل ذلك أنه خشي أن يتهم بالاهتمام بحياته، وربما كان هذا أيضا هو السبب في عدم وضعه حراسا حول السراي.
وكان يمكنه أن يستعمل عددا من الجنود لهذا الغرض، وهل يمكن أحدا أن يشك في الفائدة التي تعود على الجميع من حماية نفسه؟ وكان يمكنه بمثل هذا الحرس أن يصل إلى الباخرة «إسماعيلية» القريبة من السراي. وكان فرغلي ربان هذه الباخرة قد رأى العدو وهو يهجم على السراي، فوقف بالباخرة ينتظر مجيء غوردون، ولم يبرح الشط حتى تأكد أنه قتل، فاقتلع المرساة وسار إلى وسط النهر ثم أخذ يروح ويغدو أمام المدينة حتى أشار إليه الدراويش بعفو المهدي.
وكان لفرغلي زوجة وعائلة في الخرطوم، فسلم بعد أن حصل على الأمان، ولكن ما كان أكثر انخداعه! فإنه ذهب إلى بيته فوجد ابنه - وكان في العاشرة من عمره - مقتولا ووجد زوجته قد ألقت بنفسها على ابنها وجسمها ممزق بالحراب.
وليس من الممكن أن يصف الإنسان مبلغ الفظاعة والقسوة في المذبحة التي تلت قتل غوردون؛ فإنه لم ينج أحد سوى الرجال والنساء من العبيد وكل امرأة عليها شيء من الملاحة من الأحرار، أما غير هؤلاء الذين نجوا من القتل فلم تكن نجاتهم إلا مصادفة. وانتحر كثير من الناس وكان من بينهم محمد باشا حسن ناظر المالية، فإنه زحف إلى جنب ابنته وزوجها، وكان كلاهما قد قتل، وقد رآه أصدقاؤه في هذه الحال فحضوه على الفرار ولكنه أبى، فحاولوا أن يأخذوه عنوة ولكنه صار يصيح ويدعو على المهدي ودراويشه، فمر به بعض الدراويش فأجهزوا عليه.
وقتل عدد من الناس من أيدي عبيدهم السابقين وكانوا قد انضموا إلى العدو، وكانوا أدلاءه فاشتركوا الآن في القتل والنهب والاغتصاب.
ويمكن أن يملأ الإنسان مجلدا عن هذه الفظائع التي ارتكبت في ذلك اليوم المشئوم، ولكني أشك في مصير الذين أبقي على حياتهم؛ هل كان أفضل من مصير القتلى؟
وعندما احتل الدراويش المنازل شرع في البحث عن الكنوز ولم يكن يقبل عذر أو إنكار، وكان معظم السكان قد خبئوا أموالهم، فكان كل من يشتبه فيه يعذب حتى يفشي السر أو حتى يقتنع معذبه بأنه لا يملك شيئا، وكان السوط يستعمل بإسراف، فكان الناس يجلدون حتى يتناثر لحمهم، ومن ضروب التعذيب التي كانت تستعمل أن يعلق الرجل من إبهاميه إلى عمود من الخشب فيترجح هو تحته في الهواء حتى يغمى عليه، وكانوا يأتون بسلخين من القصب الهندي ويضعون كلا منهما على وجه الرجل ثم يربطون طرفيهما ثم يضرب هذان السلخان بعصا فيحدث من اهتزازهما آلام مضنية، وكانوا يعذبون النساء بهذه الكيفية أيضا، ويعذبونهن في أماكن أجسامهن الحساسة بطريقة لا يمكنني أن أصفها هنا، وحسب القارئ أن يعرف أن أفظع الطرق في التعذيب كانت تستعمل للحصول على الأموال.
ولم ينج من هذا التعذيب سوى النساء الصغيرات في السن والفتيات؛ وذلك خوفا من أن يعترض هذا التعذيب الغاية التي ستستخدم لها هذه النساء والفتيات.
وجميع هؤلاء النساء والفتيات أرسلن إلى المهدي يوم فتح الخرطوم، فاصطفى منهن ما أراد ورد سائرهن إلى الخلفاء والأمراء، واستمر جمع النساء والانتخاب بينهن عدة أسابيع، حتى امتلأت بهن بيوت هؤلاء الأوغاد الشهوانيين، بل فاضت بشباب الخرطوم الذي قضى عليهن النحس أن يقعن في أيدي الدراويش.
وفي اليوم التالي منح عفو عام لجميع الأهالي ما عدا الشايجية الذين أهدر دمهم، ولكن على الرغم من هذا العفو استمر القتل وارتكاب الفظائع عدة أيام بعد سقوط الخرطوم.
Page inconnue