وأهمل أمري مدة الحصار، وكان حرسي يغير كل يوم وكانت معاملتهم تختلف، وكانت الرقابة تشتد علي إذا كان الحرس مؤلفا من عبيد أسرى، ولكن إذا كانوا جنودا يعرفونني فإنني كنت ألاقي منهم بعض الحرية، وكانوا يؤدون لي الخدمات الصغيرة، ولكنهم كانوا يمنعونني من مخاطبة أي إنسان، وكان طعامي سيئا، وكان أبو أنجة مشتغلا بالحصار فبقيت أنا مدة غيابه تحت رحمة زوجاته، وكان قد أمرهن بطعامي.
وحدث في إحدى المرار أن حارسي كان أحد جنودي القدماء، فبعثته برسالة إلى رئيسة زوجات أبي أنجة أشكو إليها عدم إطعامي مدة يومين، فأرسلت إلي جوابها تقول: «هل يظن عبد القادر أننا نسمنه هنا بينما عمه غوردون باشا لا عمل له إلا في إلقاء القنابل على زوجنا الذي ربما يقتل بسببه؟!»
وقد كانت هذه المرأة مصيبة في قولها إذا اعتبرت وجهة نظرها.
وكان يسمح أحيانا لبعض اليونان بالمجيء إلي ومخاطبتي، وكانوا يخبرونني بما يجد من الأخبار.
وكنا عندما حططنا رحالنا هنا قد قبض على لبتون بك وقيد بالسلاسل بتهمة محاولة الانضمام إلى غوردون، ولما فتشت أمتعته وجدت فيها وثيقة وقع عليها الضابط، مؤداها أنه اضطر إلى تسليم المديرية وأخذت زوجته وابنته البالغة من العمر خمس سنوات إلى بيت المال، وكانت زوجته زنجية في خدمة «روسيت» القنصل الألماني من الخرطوم، ولما عين مديرا في دارفور ذهبت معه، فلما مات في الفاشر التحقت بلبتون بك وسافرت معه إلى بحر الغزال، وأمر الخليفة بتصفية جميع ما يمتلكه لبتون، ولكنه أذن لزوجة لبتون وابنته بأن يكون معهما خادم.
وفي أحد الأيام جاءني جورجي كالامنتينو وأخبرني بأن الجيش الإنجليزي بقيادة ولسون يتقدم نحو دنقلة، ولكنه لا يزال في صعيد مصر وإن كانت الطلائع قد بلغت دنقلة.
وكان غوردون بعد أن أذاع منشور إخلاء السودان قد أفهم أهالي الخرطوم أنه سيجيء إليهم جيش لإنجادهم، وتمكن من بث روح الشجاعة والرجاء في جنود الحامية؟ ولكن بقي الشك في ميعاد مجيء الجيش، وهل يأتي قبل فوات الفرصة؟
وفي أحد الأيام جاءني ملازم من قبل الخليفة وطوق عنقي وساقي بملفات أخرى غير ما كان علي، وأضاف إليها قضيبا من حديد، وظننت أن الغرض من ذلك إذلالي، وكنت لا أقوى قبلا على النهوض لثقل ما أحمله من القيود، فلم تزد إضافة هذه القيود الجديدة شيئا لأني كنت راقدا طول الوقت!
ومضى اليوم التالي دون أن يحدث فيه شيء، وكنت أسمع من وقت لآخر فرقعة العيارات بين المحصورين والحاصرين، ولكن اليونان الذين كانوا يزودونني قبلا من الأخبار منعوا الآن من مخاطبتي، فبقيت لذلك في جهل من كل ما يجري حولي.
وفي إحدى الليالي بعد غروب الشمس بنحو أربع ساعات عندما كان النوم يتسلل إلى أعضائي وينسيني ما أنا فيه، أمرني الحارس بأن أنهض في الحال، فوقفت ورأيت ملازمي الخليفة الذين أخبروني بأن الخليفة في أثرهم قادم إلي، ثم رأيت جماعة تحمل مصابيح فأخذت أسائل نفسي: لم يأتي إلي الخليفة الآن؟
Page inconnue