فقلت: «هل كان يجب علي أن ألقي نفسي على قدميه وأطلب منه العفو عن جرائم لم أرتكبها؟ أنا في يديه فليفعل بي ما يشاء.»
فقال: «غدا سنتحمل ونسير نحو الخرطوم ونضيق الحصار على المدينة ثم نهجم هجمة واحدة، وسأطلب من الخليفة أن تبقى معي وسيكون هذا أهون عليك من ذهابك إلى السجن.»
فشكرته وغادرني.
وقضيت اليوم كله وأنا وحدي، وكنت أؤدي الصلاة بعناية أمام الحرس وغيرهم، وكان في يدي مسبحة أسبح بها كما هو الشأن بين المسلمين الطيبين، ولكن الحقيقة أنني كنت أكرر عليها صلاة النصارى: «أبانا الذي في السموات.»
وكنت أرى على مسافة مني خيولي وخدمي وسائر أمتعتي، وجاء أحد خدمي إلي وأخبرني بأنه أمر بأن يلتحق بأبي أنجة.
وفي بكور اليوم التالي قرعت الطبول للتقدم، فقوضت الخيام وحملت الجمال وتحرك المعسكر بأجمعه، وكان الحديد في ساقي يمنعني من المشي، فأحضروا لي حمارا. وكانت السلسلة المربوطة بها الحلقة التي حول عنقي طويلة تحتوي على 83 حلقة، كنت أسلي نفسي بعدها وأطويها طيات حول جسمي. وحملت إلى ظهر الحمار يسندني من كل جانب رجل حتى لا أقع، وكنت وأنا سائر يمر بي أصدقائي فيتحسرون ولا يجسرون على مخاطبتي، ووقفنا بعد الظهر على ربوة أمكنتنا من رؤية نخيل الخرطوم، فشعرت بالشوق الشديد يغالبني للانضمام إلى الحامية.
ثم حططنا وأمرنا بضرب خيامنا مؤقتا تحت إمرة الخليفة عبد الله، أما الأمراء الآخرون فقد ذهب كل منهم بجنده واختار مكانا لمعسكره، وكنت في هذا الوقت قد شعرت بالجوع الشديد واشتقت إلى شيء من الطعام الذي قد قدمه لي أبو أنجة في الأمس، ولكن أبا أنجة كان قد التحق بالخليفة وكان قد نسيني.
وحدث أن زوجة أحد الحراس اهتدت إليه وأحضرت له خبزا من الذرة فأكلت معه، وفي الصباح استأنفنا مسيرنا وبقينا نمشي نحو ساعة، ثم حططنا ثانيا في المكان الذي اختير نهائيا للمعسكر.
وكان أبو أنجة قد رتب كل شيء لكي أبقى معه ولا أرسل إلى السجن، فنصبت لي خيمة ممزقة قديمة وضع حولها زريبة من الشوك، فقعدت تحت هذه الخيمة ووضع على بابها ديسة من الشوك يليها الحرس.
وأمر المهدي الآن بتضييق الحصار، وفي المساء أرسل عددا من الأمراء إلى الضفة الشرقية لمعونة واد النجومي وأبي حرجة، وطلب من جميع أهالي هذه الناحية أن ينضموا إلى المحاصرين، وأمر أبو أنجة وفضل المولى بأن يذهبا إلى قلعة أم درمان لحصارها، وكانت تقع على بعد نحو 400 متر من النهر من الضفة الغربية، وكان يدافع عنها فرج الله باشا وهو ضابط سوداني ترقى من رتبة كابتن في عام واحد إلى أن صار قائدا للقلعة، وكان الذي رقاه بهذه السرعة غوردون، وتمكن أبو أنجة من أن يحفر الخنادق بين القلعة والنهر ويضع فيها جنوده على الرغم من إطلاق النار عليه من البواخر والقلعة، بل تمكن أبو أنجة من أن يغرق إحدى هذه البواخر وهي الباخرة «حسينية» بواسطة مدفع سدد مرماه إليها، ولكن البحارة فروا إلى الخرطوم.
Page inconnue