La voix des profondeurs : Lectures et études en philosophie et psychologie
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
المعري
إن الصراع بين الحرية والسلطة هو أبرز سمات الأحقاب التاريخية التي نعلمها منذ القدم، وبخاصة في تاريخ اليونان والرومان وإنجلترا. غير أن هذا الصراع كان في الأزمنة القديمة بين المواطنين (أو طبقات منهم) وبين الحكومة، وكانت الحرية تعني الحماية ضد طغيان الحكام السياسيين؛ إذ كان ينظر إلى الحكام على أنهم في وضع مضاد بالضرورة للشعب الذي يحكمونه (باستثناء بعض من الحكومات الشعبية عند اليونان). وكان الحكام عبارة عن حاكم واحد أو قبيلة مهيمنة أو طبقة مغلقة، وكلهم يستمدون سلطتهم بالوراثة أو الغزو. وهم في جميع الأحوال لم يكونوا يتولون الحكم بمشيئة المحكومين ورغبتهم، ولم يكن سراة الناس يغامرون، وربما لا يرغبون، بالدخول في صراع مع الحكام، مهما تكن ألوان الحصانة التي يتمتعون بها ضد ممارساتهم الجائرة؛ فقد كان ينظر إلى سلطة الحكام على أنها ضرورية، ولكن أيضا على أنها شديدة الخطورة، فهي سلاح خليق بأن يستخدمه الحكام ضد رعاياهم استخداما لا يقل بحال عن استخدامه ضد العدو الخارجي. ولكي تتم حماية الأعضاء الأضعف في المجتمع من أن يقعوا فريسة لما لا حصر له من النسور الكواسر، فقد دعت الحاجة إلى وجود واحد أشد افتراسا من الباقين تفوض إليه مهمة كبحهم وإخضاعهم. غير أن ملك النسور لن يكون أقل ميلا لافتراس القطيع من أي واحد من صغار الطامعين؛ وعليه فقد كان لزاما على القطيع أن يكون في موقف دفاع دائم ضد منقاره ومخالبه؛ ولذا فقد كان هدف الوطنيين هو أن يضعوا حدودا للسلطة التي يسمح للحاكم بممارستها على المجتمع. وكان هذا الحد من سلطة الحاكم هو ما يعنونه بالحرية. ولقد حاولوا تحقيق ذلك بطريقتين: الأولى هي الحصول على اعتراف بضروب معينة من الحصانة تسمى الحريات السياسية أو الحقوق السياسية، والتي كان انتهاكها من قبل الحاكم يعد خرقا لواجبه، وإذا انتهكها بالفعل فإن مقاومته مقاومة خاصة أو التمرد عليه تمردا عاما يعد أمرا له ما يسوغه. والطريقة الثانية، وهي بصفة عامة متأخرة زمنيا عن الأولى، هي تأسيس ضوابط دستورية بموجبها تكون موافقة المجتمع ، أو هيئة من صنف ما يفترض أنها تمثل مصالح المجتمع، شرطا ضروريا لإجازة بعض القرارات المهمة التي تتخذها السلطة الحاكمة.
ولكن مع تقدم البشرية جاء الوقت الذي لم يعد فيه الناس يرون أي ضرورة طبيعية في أن يكون حكامهم سلطة مستقلة مصلحتها في تضاد مع مصلحتهم. وبدا لهم أن من الأفضل كثيرا أن يكون مختلف حكام الدولة مفوضين أو مندوبين عنهم متى شاءوا. وبهذه الطريقة وحدها يضمنون ضمانا تاما ألا يساء استخدام سلطات الحكومة ضدهم. ومن ثم فليس ما يدعو إلى الحد من سلطة الحكام ما داموا في هوية مع الشعب وما دامت مصالحهم وإراداتهم هي مصالح الأمة وإرادتها. وليس ما يدعو إلى أن تحمي الأمة نفسها من نفسها! فما سلطة الحكام إلا سلطة الأمة ذاتها وقد تركزت في أيديهم بحيث تجعل الأمة قادرة على استخدامها. وما الحكام في حقيقة الأمر إلا أداة الأمة أو «آلتها» في حكم نفسها. (3-2) طغيان الأغلبية
لا جدوى بأن تلجم الحكام بينما تترك «ديموس» نفسه حرا طليقا.
هذا حديث يبدو وجيها محكما ولكن فقط على صعيد نظري أو في فراغ تجريدي مثالي، فإذا ما انتقل إلى الصعيد العملي الفعلي اصطدم بإملاءات الحياة واحتك بتضاريس الواقع. لقد تبين بعد أن عبارات من قبيل «الحكم الذاتي» و«سلطة الشعب على نفسه» لا تعبر عن واقع الأمر ولا تترجمه ترجمة أمينة؛ فالشعب الذي يمارس السلطة ليس هو دائما الشعب الذي تمارس عليه السلطة. والحكم الذاتي الذي يتحدثون عنه ليس هو حكم كل فرد لنفسه، بل حكم كل فرد بواسطة الباقين مجتمعين، بل إن إرادة الشعب تعني عمليا إرادة الشطر الأكثر عددا أو الأكثر فاعلية من الشعب؛ أي الأغلبية، أو أولئك الذيم نجحوا في أن يجعلوا أنفسهم أغلبية. الشعب إذن قد يحب أن يكبت عددا من أفراده، وتلك إساءة لاستخدام السلطة تستوجب نفس الحذر والاحتراز الذي تستوجبه أي إساءة لاستخدام السلطة. لقد بات واضحا أن من أهم مشكلات المجتمع الديمقراطي مشكلة استبداد الرأي العام أو «طغيان الأغلبية» التي تميل إلى فرض رأيها على الأقلية، وبالتالي على الفرد، وبذلك تشكل تهديدا خطيرا للحرية.
3
وكغيره من أصناف الطغيان كان طغيان الأغلبية في بداية الأمر، وما يزال لدى العامة، يرهب جانبه بوصفه يعمل من خلال قرار السلطات العامة. ولكن سرعان ما أدرك المتفطنون من الناس أن المجتمع إذا ما تحول هو نفسه إلى طاغية (المجتمع ككل على الأفراد المنفصلين الذين يؤلفونه) فإن وسائل طغيانه لا تنحصر في قرارات ينفذها بأيدي موظفيه السياسيين. إن المجتمع قادر على تنفيذ أوامره الخاصة، وهو ينفذها فعلا. وإذا ما أصدر المجتمع أوامر خاطئة بدلا من الأوامر الصحيحة، أو إذا أصدر أي أوامر على الإطلاق في أشياء لا دخل له بها، فإنه بذلك يمارس طغيانا اجتماعيا أشد هولا من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي؛ ذلك أن هذا الطغيان الاجتماعي، وإن لم تدعمه عادة عقوبات شديدة، هو أمكن من سواه من ضروب الطغيان؛ فهو ينفذ نفاذا أعمق بكثير إلى تفصيلات الحياة ودقائقها، ويستعبد الروح نفسها.
التوقي إذن من طغيان الحاكم لا يكفي، فلا بد من الوقاية أيضا ضد طغيان الرأي السائد والشعور السائد، التوقي من ميل المجتمع، بطرق أخرى غير الجزاءات المدنية، إلى أن يفرض أفكاره وممارساته الخاصة كقواعد للسلوك على أولئك الذين يخرجون عليها، لكي يعيق نمو أي فردية لا تأتلف مع طرائقه (ويمنع تكوينها إن أمكن)، ولكي يرغم كل الشخصيات على أن تشكل نفسها وفق النموذج الخاص به. إن هناك حدا للتدخل المشروع للرأي الجمعي في استقلالية الفرد، والعثور على هذا الحد وصيانته من التعدي والانتهاك هو أمر لا يقل أهمية لرخاء البشر وسعادتهم عن الوقاية من الاستبداد السياسي.
حين ننتقل الآن من هذا الصعيد النظري الذي لا خلاف عليه إلى الصعيد العملي، ونسأل السؤال العملي «أين نضع هذا الحد؟» «أين نمد هذا الخط؟» «كيف نصل إلى التوافق السديد بين استقلالية الفرد وبين الضبط الاجتماعي؟» نجد أنفسنا بإزاء مشكلة شديدة الصعوبة، لم يحرز البشر تقدما كبيرا في حلها. إن تأمين حرية الفرد تعني أيضا وضع حدود لتدخل الآخرين، وإن كل ما يجعل الوجود ذا قيمة بالنسبة لأي فرد هو أمر يعتمد على فرض قيود على أفعال الآخرين؛ ومن ثم فإن بعض قواعد السلوك لا بد من فرضها بالقانون في المقام الأول وبالرأي في كثير من المناحي التي لا تصلح مجالا لعمل القانون. فما هي هذه القواعد؟
Page inconnue