La voix des profondeurs : Lectures et études en philosophie et psychologie
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
إهداء
مقدمة
1 - بين العلم والتعالم
2 - فقه الديمقراطية
3 - الطب النفسي والنظرية العامة للأنظمة
4 - ألوان من النسبية
إهداء
مقدمة
1 - بين العلم والتعالم
2 - فقه الديمقراطية
Page inconnue
3 - الطب النفسي والنظرية العامة للأنظمة
4 - ألوان من النسبية
صوت الأعماق
صوت الأعماق
قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
تأليف
عادل مصطفى
لنعترف بأننا ما إن نبدأ التفكير، فلن يضمن أحد أين سينتهي بنا الأمر. والأمر الوحيد المضمون هو أن أهدافا وغايات ونظما كثيرة يكون مآلها عندئذ إلى الانهيار.
جون ديوي
إهداء
Page inconnue
إلى الأخ الكريم
أ.د محمد صبري راضي
أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية
نابغة الطب والفن والأدب. •••
وأيضا إلى صديقتي شيرين مختار التي تكلؤني دائما بالعون الصادق والرأي السديد.
مقدمة
يشتمل هذا الكتاب على فصول أربعة، هي بمثابة هوامش على وضعنا الفكري الراهن الذي بلغ من التخبط والتردي مبلغا لا يصلح معه إلا مراجعة الأسس والعودة إلى المنابع؛ وأعني بها منابع الفكر المعاصر التي أصبحت حقا إنسانيا مكتسبا وإرثا بشريا مشاعا غير مقصور على أمة دون أمة أو موقوف على قوم دون قوم.
لم يعد أحد بحاجة إلى «زرقاء يمامة» حديثة لكي يدرك أن العالم مقدم على مرحلة جديدة من الانصهار والاندماج تتضخم فيها الكيانات العابرة للحدود الإقليمية ويشهد مفهوم «الاستقلال» و«السيادة»
sovereignty
زلزالا عنيفا، في هذا العصر الذي فاجأتنا فيه تقنيات الاتصال بما لم يكن في الحسبان، ففتحت من فوقنا السماوات ورفعت الأغطية. لم يعد الانكفاء الثقافي ممكنا، وبات الانزواء في الكهوف المحلية والالتحاف بالتصورات القديمة أمرا مستحيلا. علينا أن نطلب المعرفة أينما بزغت، ونحج إلى العلم حيثما كان، و«ألا نخشى من الأمواج بل من الخروق في سفينتنا.» علينا أن نخرج مختارين من كهوف الماضي، قبل أن نبرز منها مضطرين بروز الضب من الجحر المدخن وبروز الدود من الجيف المحترقة. (1) بين العلم والتعالم
Page inconnue
يعرض الفصل الأول لأزمة التعليم، ويقدم تجربة فكرية شهيرة للفيلسوف الأمريكي جون سيرا أخذنا بجانبها الصائب وضربنا صفحا عن جانبها الخلافي. تظهرنا تجربة «صندوق اللغة الصينية»
Chines Box
لجون سيرل على أن المرء يمكن، بطريقة ما، أن يبدو ذكيا وهو غير ذكي، ويبدو فاهما وهو لا يفهم، ويبدو متعلما وهو أمي صميم. وربما يكون المرفق التعليمي عندنا قد تحول بأسره إلى «صندوق لغة صينية» كبير، يبرمج فيه عقل النشء على تقديم خربشات ردا على خربشات، منذ باع القائمون عليه التعليم و«أكلوا من خبز الهيكل»، واختزل التعليم إلى امتحان وبرمجة آلية، وتمرس بتقديم إجابات جاهزة عن أسئلة جاهزة، وتعويل على الذاكرة المحض. وكأنه تواطؤ عام على تنصيب الجهل، وعلى وأد الإبداع وطمس المبدعين وهم في المهد براعم. (2) فقه الديمقراطية
ونعرض في الفصل الثاني لقضية الديمقراطية، فلا نجد بدا من العودة إلى أبجديتها كما وضعها معلمو الديمقراطية الكبار من أمثال جون ستيوارت مل وجون ديوي وشارلس فرانكل وكارل بوبر؛ ذلك أننا نستخدم هذه اللفظة في مماحكاتنا الهزلية استخداما يزيغ بها عن معناها القويم الذي قصده بها أئمتها، والذي يجعلها الآلية السياسية التي من شأنها أن تخلق مجتمعا قادرا على حل مشكلاته وتصحيح أخطائه وتعديل وجهته دون كلفة باهظة ودون إراقة دماء.
والديمقراطية قبل كل شيء مناخ.
إنها المناخ الصحي للنبتة البشرية المبدعة المفطورة على التحول والخلق لا على التكرار والاجترار. إن الحرية التي يتيحها المناخ الديمقراطي ليست ترفا ورفاهة وزيادة فضل؛ إنها «خاصة جوهرية»
essential property
للنبتة البشرية، بها تكون ما هي وبدونها تكون أي شيء آخر. وأنت حين تسلب الإنسان حريته فأنت لا تسلبه شيئا يمكن أن يعيش بدونه أو يتقوم بغيره، إنما تسلبه «ماهيته» التي بها يكون بشرا يبتكر ويختار ويبدع نفسه، ويحمل بالتالي مسئوليته ولا يلقيها، بمكر وتواطؤ أخرس، على عاتق الطغاة يختارون له ويسيرونه ويحملون عنه عبء الحياة.
لسنا نعني بذلك أن الديمقراطية مفتاح سحري يحل جميع المشكلات أو حجاب موصوف يحفظ حامله من العين، أو باب مغارة أسطورية يفضي إلى الكنز في لحظة فارقة تفصل بين الشقاء والنعيم.
الديمقراطية ليست بابا بل طريق،
Page inconnue
طريق تعبده الأقدام ذاتها،
طريق «يخط لا من أجل السير وإنما بفعله.»
ومن ثم فلا وجه ولا مبرر ولا معنى لتسويف السير. (3) الطب النفسي ونظرية الأنظمة
ويعرض الفصل الثالث ل «النظرية العامة للأنظمة»
general systems theory
ومتضمناتها في مجال الطب النفسي. كان لدفيج فون برتالانفي، مؤسس نظرية الأنظمة، مدركا للفرق الجذري بين الأنظمة الفيزيائية والأنظمة البيولوجية، وكان يضيق بهيمنة الفيزياء التقليدية على العلم الحديث؛ ذلك أن ميكانيكا نيوتن كانت علما للقوى والمسارات، بينما يحتاج الفكر التطوري الناشئ آنذاك إلى علم جديد للكيانات المركبة المعقدة. أدرك برتالانفي أن الكائنات الحية هي «أنظمة مفتوحة»
open systems
لا يمكن للديناميكا الحرارية الكلاسيكية أن تصفها. وقد أسمى هذه الأنظمة «مفتوحة» لأنها تحتاج إلى أن تتغذى على فيض مستمر من المادة والطاقة من بيئتها كيما تبقى على قيد الحياة. «ليس الكائن العضوي بالنظام السكوني المغلق على الخارج والمكون دائما من نفس المكونات، بل هو نظام مفتوح في حالة «شبه الثبات» حيث المادة واردة إليه من البيئة الخارجية وصادرة منه إلى تلك البيئة، بشكل مستمر وبدون توقف.» وعلى خلاف الأنظمة المغلقة التي تظل في توازن حراري، فإن الأنظمة المفتوحة تحفظ نفسها بعيدا عن التوازن، في هذه الحالة من الثبات الديناميكي القائم على التدفق المستمر والتغير الدائب. ومن هنا كانت الديناميكا الحرارية الكلاسيكية غير ملائمة لوصف الأنظمة المفتوحة.
لقد جرت مياه كثيرة في مجال الفكر البيولوجي وحدث تحول كبير في «النموذج الإرشادي»
paradigm
Page inconnue
أفضى إلى ما يعرف الآن ب «الفكر الإيكولوجي» (البيئي). يقف الفكر الإيكولوجي على النقيض من الفكر العلمي التقليدي الذي يقوم على التجزئة والتحليل ويعوق - بحكم طبيعته ذاتها - فهم الأنظمة الإيكولوجية؛ فالفكر العقلاني التقليدي هو فكر «خطي»،
linear
بينما ينشأ الوعي الإيكولوجي عن حدس عميق بالأنظمة غير الخطية. لقد أخذ الفكر التجزيئي الردي يثبت فشله في جميع الميادين كلما ظهرت على الساحة مشكلات تتعلق بتصورات من قبيل «النسق»، «الكلية»، «الغائية» ... وتطلب الأمر طرائق جديدة من التفكير.
كانت الحاجة إلى نموذج جديد ملحة بشكل خاص في مجالي علم النفس والطب النفسي؛ حيث فشل التصور «الآلي» للإنسان بجميع تجلياته السلوكية والتحليلية والسيبرنيطيقية في إفساح مجال تفسيري لما يتحلى به الكائن البشري من خصائص فريدة : كالإبداعية، وحرية الإرادة، وسطوة المثل العليا، وأفعال التضحية والإيثار، وتجاوز الذات، والكدح إلى «غاية»
telos
تجذبه من الأمام ولا تدفعه «من الخلف»
a tergo ، وكلها خصائص جوهرية لا يسعها التفسير الآلي بالغا ما بلغ من الدقة والتعقيد.
تقدم نظرية الأنظمة هذا النموذج البديل الذي يؤكد على الكل العضوي، ويرى إلى الإنسان ككائن فاعل إيجابي نشط، يعيش في عالم رمزي ويميل نحو التنظيم الأعلى الذي تتيحه طبيعة النظام المفتوح للكائن العضوي الحي، ويفسح مجالا للقيم المقصورة على الإنسان والقيم «فوق-البيولوجية» داخل النظرية العلمية للعالم. (4) ألوان من النسبية
وفي القسم الرابع عرض مفصل لضروب من النسبية، هو بمثابة هامش مطول على متن «صراع الثقافات». وهو في الأصل قراءة في موسوعة ستانفورد الفلسفية أثريتها بقراءات عديدة في الفكر العلمي الجديد وفلسفة القيم. يقوم هذا الجهد على فكرة أن المعرفة قوة مغيرة محررة. ونحن حين نقف على الآليات التي تجعلنا نرى العالم من زاوية واحدة فرضتها علينا ثقافتنا التي نشأنا عليها، نكون في الوقت نفسه وبالفعل ذاته قد تحررنا بشكل ما من سجن الإطار وملكنا مفتاحه. عندئذ فقط نكون في موضع نملك منه أن نفرق بين الضروري والعرضي، بين الأزلي والتاريخي، بين الإلهي والبشري، بين الكوني والمحلي، بين المطلق والنسبي.
من شأن الصدام بين الأطر الثقافية المختلفة أن يولد الحس النقدي الذي يحرر سجناء الأطر من انحيازاتهم اللاشعورية، ويخلصهم من مفاهيم برمتها تشربوها مع ثقافتهم المحلية ومن نظريات بأكملها ابتلعوها مع لغتهم القومية التي لقنوها صغارا. وليس من قبيل المصادفة أن الحضارات الكبرى كانت ثمرة لصدام ثقافي؛ فالصدام الثقافي خير لا شر. ومن تلاقح الآراء وتبادل النقد ينشأ العلم وتنمو المعرفة.
Page inconnue
هكذا يتبين أن الصدمة الثقافية التي تتعرض لها اليوم جميع الأمم في عصر «السماء المفتوحة» هي شيء يدعو للاستبشار والتفاؤل أكثر مما يدعو للهلع والتوجس. إن ثورة المعلومات، وتقنيات الاتصال التي فاقت التوقع، قد جعلت «الآخر» يقاسمنا دارنا ويؤاكلنا في صحننا! ذلك خير؛ فإلمامنا بثقافات الآخرين وطرائقهم يجعلنا أقدر على غربلة مفاهيمنا وتطويرها وإثرائها، ويجعلنا أقدر على فصل العابر من الدائم والمتحول من الثابت، ويجعلنا، مثلما نود؛ أنفذ بصيرة بما هو مقدس مثالي مفارق سرمد.
يستدعي ذلك في الذهن قول هيجل «ينبغي أن أتعرف على نفسي في الغريب.» لقد قدم هيجل تصورا للثقافة يقربها من مفهوم «البيت» - أي المكان «المجرد»، حيث تأوي الروح في نهاية المطاف - كمقابل ل «المنزل» أي المكان العياني الملموس الذي أدخله متى شئت وأخرج منه، وأبنيه وأهدمه. وهو تصور غير بعيد عن تصور هيدجر للثقافة بوصفها تقصيا تاريخيا للجوانب المشتركة مع الآخرين، وغير بعيد عما ذهب إليه هيدجر من أن فكرة الثقافة نفسها - الثقافة المفردة الواعية بذاتها - تتطلب، من أجل تحقق هويتها، المقارنة بالثقافات الأخرى. «أن يتعرف المرء على خاصته في المغاير، أن يكون «في بيته» وهو في المغاير - تلك هي الحركة الأساسية للروح؛ الروح التي يتألف وجودها من العودة إلى نفسها مما هو آخر.»
يؤكد هيجل على أن الثقافة ليست حيزا عيانيا كالمنزل، وإنما هي بقعة أكثر تجريدا كالبيت. ويذهب أيضا إلى أن المرء لا يتأتى له أن يميز ثقافة ما ويقدرها - حتى ثقافته الأم - إلا بالتأمل في الثقافات الأخرى والانعكاس عليها. والحق أن ما يقوله هيجل هو أكثر من مجرد مصاداة لفكرة التعرف الذاتي التي يتضمنها تصور هيدجر عن الثقافة كطريق أو مسلك، والتي تقول بأن ليس لدينا معالم نحدد بها مسار طريقنا سوى النظر إلى الطرق الأخرى. أن أميز نفسي في الغريب ليست مسألة نظر أو حتى حركة جسدية؛ فالتقاء الثقافات الذي يتطلبه وعي أن أي ثقافة بذاتها لا يشبه تغيير المنازل، إنما هو عند هيجل مهمة أصعب من ذلك بكثير: مهمة أن أجعل بيتا لنفسي في الغريب - أن نتخذ ثقافات بديلة بأن نجد بيوتا هناك - في تلك الثقافة الجديدة - وأن نعود إلى أنفسنا إذ ذاك!
وبعد:
ليست السكنى في الغريب واتخاذ بيت في المغاير شيئا ثانويا أو ترفا زائدا يمكن أن يتم الأمر بدونه، بل إن «روح الثقافة نفسها تتألف حصرا من العودة إلى ذاتها مما هو آخر.» فأن نكون في بيتنا حقا في مكان ما يتطلب منا أن نكون في بيتنا في أماكن عديدة!
د. عادل مصطفى
الكويت في 23 / 1 / 2004م
الفصل الأول
بين العلم والتعالم
حجرة اللغة الصينية
Page inconnue
التظاهر بالعلم «فن» من أقبح الفنون وأشأمها فألا وأنقعها سما.
للفيلسوف الأمريكي جون سيرل
John Searle
تجربة فكرية
thought experiment
تعرف باسم «حجرة اللغة الصينية»، دفع بها لأول مرة على صفحات مجلة العلوم السلوكية وعلوم المخ عام 1980م، فحظيت بشهرة واسعة، وأثارت وما تزال جدلا عريضا في الأوساط الفلسفية والعلمية المعنية بفلسفة العقل والعلوم المعرفية والذكاء الصناعي. أراد سيرل من تجربته أن يقوض دعوى «الذكاء الصناعي الفائق»
strong AI
التي تقول بأن الحواسيب الجيدة البرمجة لديها فهم أو حالات معرفية، وأن برامجها يمكن أن تساعدنا في تفسير المعرفة البشرية. (1) تجارب الفكر
Thought Experiments «التجربة الفكرية» هي تجربة تتم بالكامل في الذهن، وتتعامل مع مواقف لن تفحص في المختبر، وتفترض أحيانا مواقف لا يمكن أن تفحص ولا يمكن أن تحدث في الطبيعة. وتعتبر تجارب الفكر أداة علمية وفلسفية حقيقية. وإذا كنا في التجربة العادية نحدث بالفعل مسلسلا من الأحداث، فنحن في تجربة الفكر مدعوون إلى تخيل مسلسل. وبوسعنا عندئذ أن نتبين أن نتيجة ما سوف تترتب أو أن وصفا معينا هو وصف ملائم، أو أن عجزنا عن وصف الموقف يحمل في ذاته نتائج معينة.
ومن أشهر تجارب الفكر في التاريخ تجربة «الكهف» لأفلاطون، التي يلقي فيها ظلالا من الشك على معرفتنا الحسية بالأشياء والأحداث، وتجربة ديكارت عن «الشيطان الخبيث»
Page inconnue
malin genie
الذي يعبث بعقولنا ويرينا الباطل حقا، وتجربة ابن سينا عن «الإنسان المعلق في الفضاء» لإثبات وجود النفس وجوهريتها وبالتالي خلودها، وتجارب فكر شهيرة أخرى لجون لوك وجاليليو وهربرت سبنسر وشرودنجر وأينشتين/بودلسكي/روزن. وقد كانت تجارب الفكر - وما تزال - تستخدم على نطاق واسع وبنجاح كبير، وقد لعبت دورا عظيما في تقدم الفيزياء. ولعل النظرية النسبية قد قامت بتمامها في الفكر قبل أن تزكيها التجربة ويؤيدها الواقع، فردت للفكر مكانته وأعادت «الموضوعية» إلى نصابها الصحيح. (2) تجربة سيرل
تعد تجربة جون سيرل رد فعل لإحدى نظريات العقل (الذهن) هي نظرية التمثيل
the Representational Theory of Mind ، وهي النظرية القائلة بأن الذهن يتعامل مع رموز أشبه ما تكون بالتعليمات
instructions
في برنامج آلة من الآلات، وأن هذه الرموز هي تمثيلات لجوانب من العالم، وبذلك تصور العقل في صورة آلة سيمانتية (دلالية) عبارة عن جهاز يعمل وفقا لمبادئ صورية
formal
ونظمية (تراكيبية)
syntactic
محضة ولكن بطريقة تحترم المعاني ولا تخالفها. ويعني ذلك على وجه التقريب أن العمليات الذهنية، رغم أنها تعمى عن معاني الرموز التي تتناولها، فإن تناولها لا يفترق بحال عن تناول من امتلك فهما لهذه الرموز؛ فأنت حين تصدر أمرا مكتوبا أو منطوقا لحاسوبك بأن يطبع وثيقة ما، فإن الحاسوب لا يقوم بتفسير المدخل
Page inconnue
input
في خطوة أولى ثم يعمل بعد ذلك بناء على فهمه لذلك التفسير، إنما الوجه الصحيح لما يجري هو أن الآليات التي تعالج
process
الأمر الذي قمت بإصداره لا تكترث البتة بمعناه، إلا أن الجهاز مبرمج بطريقة من شأنها أن تجعل النظم (التركيب)
syntax
يعكس الدلالة (المعاني)
semantics : إنه يعمل بالضبط «كما لو» كان يفهم أمرك. (3) حجرة (صندوق) اللغة الصينية
Chinese Room (Box)
ولكن هل هذا هو كل ما هنالك في عملية الفهم؟
يقول جون سيرل بإصرار وحسم: كلا، ويهيب بك أن تتخيل أنك تقعد في حجرة ضيقة بلا نوافذ، وعند قدميك سلة كبيرة تحتوي على كم ضخم من الأحرف الصينية البلاستيكية، وإن تكن على جهل تام بما تكونه هذه الأشياء؛ فأنت تجهل الصينية، وكل ما بمقدورك أن تحدس به هو أن هذه الوحدات بالسلة، ربما تكون زخارف من البلاستيك أعدت لتصميم تجريدي: خربشات. تخيل الآن أنك، من خلال شق بالجدار تستقبل كل حين دفعة من الأحرف الصينية، ورغم أن هذه الأحرف لا تعني شيئا بالنسبة لك فأنت مزود بدليل إرشادي طوع يدك (مكتوب بلغتك الأم) يرشدك - إذا ما شهدت تتابعا بعينه من الخربشات البلاستيكية يأتي من خلال الشق - بأن عليك أن تقدم تتابعا معينا آخر من مخزونك بالسلة، معتمدا في تمييز الخربشات على الشكل المحض. وتخيل أنك قد تمرست بذلك وصرت ماهرا فيه بل صرت مع الوقت ضليعا في هذه العملية تحفظ عن ظهر قلب دليلا إرشاديا ضخما، وتقدم تتابعا من الخربشات ردا على كل تتابع يقدم إليك، وتؤدي ذلك للتو واللحظة، وبشكل يكاد يكون تلقائيا.
Page inconnue
تخيل الآن أن هناك خارج الحجرة مجموعة من العلماء الصينيين، لست تدري بوجودهم على الإطلاق، وأنهم يدفعون إلى غرفتك بأرتال من الخربشات هي عبارة عن أسئلة باللغة الصينية، وأنت ترد بأرتال من الخربشات تبلغ أن تكون إجابات عن هذه الأسئلة. مثال ذلك أن أحدهم قدم سلسلة من الرموز تعني بالصينية «من هو فيلسوفك المفضل؟» فقدمت بدورك، مسترشدا بالدليل الضخم، سلسلة من الرموز تعني باللغة الصينية (وإن كنت تجهل ذلك) «فيلسوفي المفضل هو دونالد دافيدسون، وإن أكن أيضا معجبا بمارتن بيوبر أيما إعجاب.» إنك بغير شك ستثير دهشة المتحدث وستبدو للعلماء الصينيين كما لو كنت تعرف الصينية، ولكنك في الحقيقة لا تفهم الصينية، إنك تسلك «كما لو كنت» تفهم، إنك تسلك مثل آل سيمانتية وتملك كل ما يمكن للذكاء الصناعي أن يضعه فيك عن طريق أحد البرامج الكمبيوترية، ولكنك لا تفقه من الصينية حرفا، ومبلغك أنك تقلد الناطق بالصينية.
هكذا يفند سيرل نظرية التمثيل القائمة على فكرة أن العقل آلة سيمانتية وأن العمليات الذهنية عبارة عن تناول صوري لرموز غير مفسرة. غير أن التجربة تثبت أن العقل أكثر من ذلك. إن الإنسان الآلي أو جهاز الحاسوب يخدعنا بسلوك مبرمج، ويوهمنا بأنه ذكي وبأن لديه عقلا، بينما هو في الحقيقة دون ذلك، وقصاراه أنه يتظاهر بالذكاء ويقلد الفهم. (4) نقد تجربة سيرل
تعرضت تجربة سيرل لانتقادات عنيفة من جانب أنصار نظرية التمثيل وغيرهم، أهمها أن سيرل قد ارتكب «مصادرة على المطلوب»
begging the question
حين افترض أنه لا يوجد في حجرة اللغة الصينية أي فهم للصينية، ويعود ذلك إلى أن التجربة تدعونا إلى التركيز على مكون واحد من مكونات النظام لا على النظام ككل، وهذا المكون الواحد هو «أنت»، جالسا على كرسيك تفرز الأحرف التي تملأ السلة وتجهل الصينية جهلا تاما. ولكن حقيقة الأمر أنه بينما تجهل أنت الصينية فإن النسق الكلي، الذي تعد أنت جزءا منه، يفهم الصينية! هذا النسق الذي يشملك كما يشمل السلة والأحرف والدليل الإرشادي.
وفي صياغة أحدث لحجة حجرة اللغة الصينية يقول سيرل في مقال له ملحا على المغزى الرئيسي لتجربته: «إن غاية القصة هي أن تذكرنا بحقيقة تصورية ما نفتأ نعرفها على الدوام، وهي أن هناك فرقا بين تناول العناصر التراكيبية للغات وبين الفهم الفعلي للغة على مستوى سيمانتي (دلالي). إن الشيء الذي يفتقده الذكاء الصناعي في تقليده للسلوك المعرفي هو ذلك التمييز بين النظم (التركيب) والمعاني (الدلالة)؛ فحين نفهم لغة ما فهما حقيقيا فنحن نمتلك إذ ذاك شيئا ما يتجاوز المستوى الصوري أو النظمي؛ نمتلك الدلالة
semantics . ونحن لا نقوم بمجرد رص رموز صورية غير مفسرة، بل نعرف فعلا ما تعنيه.» (5) الجانب الصائب من تجربة سيرل
حين عرضت بغير قليل من التفصيل لتجربة سيرل، لم يكن يعنيني موقعها من فلسفة العقل، بل متضمناتها في صميم حياتنا. وحين قلت إنها استهدفت للنقد لم يكن يعنيني وجهها المغلوط، بل وجهها الصائب. إن في تجرية سيرل جانبا يبقى صائبا على الدوام وشديد الأهمية حتى في نظر منتقديه. ونحن نجتزئ هنا بهذا الجانب الذي لا يمكن أن يجحده أحد سواء كان متفقا مع سيرل في مجمل مذهبه أو لم يكن. إنه صائب في توكيده على أن تجربته تظهرنا على أن شيئا ما أو شخصا ما يمكن أن يبدو ذكيا وهو غير ذكي، ويبدو فاهما وهو لا يفهم، ويبدو محاورا وهو لا يحاور. ونحن في حياتنا الخاصة كثيرا ما نتظاهر بسمات أو قدرات ذهنية لا نمتلكها في واقع الأمر، ونسلك «كما لو» كنا نعرف ونحن لا نعرف؛ فالسلوك الظاهر قد يخفي الجهل ويواري الأمية الصميمة وراء قناع صفيق.
ويبدو أن هذا الداء قد استفحل عندنا حتى أصبح التظاهر بالعلم فنا قائما بذاته، وبرنامجا حاسوبيا يعلمك من غير معلم كيف تتشدق وتتعالم وتختلب الجهل بظاهر المعرفة. ونحن نصادف ذلك في صورته الكاريكاتورية لدى زمرة من كتابنا الأميين، أي الذين لا يقرءون، غير أنهم يكتبون! فكيف كان ذلك؟ ... بالحجرة الصينية! إن كتابنا الأميين لا يكتبون حقا بل يتقمصون شخصية الكتاب الحقيقيين ويلوكون رطانتهم وأساليبهم، ويقلدون ما يتصورون أنه حال الكتابة وما تشبه أن تكون، ولا يتورعون عن نقل فقرات برمتها من بطون الكتب لا صلة لها بموضوعهم فيتمحلون لها الصلة، ويزجون بها زجا ويقحمونها إقحاما؛ ليموهوا بها على هزالهم وفقر مادتهم، ويتعمدون إقحام أسماء مذاهب «كبيرة» وأسماء أعلام جهيرة حتى يوهموا القارئ أنهم يلمون بهذه المذاهب ويعرفون هؤلاء الأعلام. ودأبهم في ذلك أن يمسوا الأفكار الكبرى مسا خارجيا لا يتجاوز القشور، وألا يوغلوا في العمق شبرا واحدا حتى لا يفتضح أمرهم وينكشف جهلهم بما يتحدثون عنه، وأن يتشبثوا دائما بعلامات التنصيص والفقرات المقتبسة يرتقونها معا كمرقعة الدراويش، فلا يفرغ القارئ الأخضر من قراءتهم إلا وقد وقر في ظنه أن هذا الدعي أو ذاك لا بد أن يكون حبرا باقعة لا هم له إلا العلم ولا شغل له إلا التحصيل. ولا يدري أن صاحبنا الكاتب جهول أمي لا يقرأ ولا يعرف، ولكنها بركة الحجرة الصينية. (6) علم اللغة، الحاسوب، البرامج
ينقسم علم اللغة العام
Page inconnue
Linguistics
إلى ثلاثة أقسام كبرى: علم نظم الجملة (التراكيبية)
Syntactics
ويدرس علاقات العلامات اللغوية ببعضها البعض، وعلم دلالة الألفاظ (المعاني)
Semantics
ويدرس علاقة العلامات اللغوية بالواقع الخارج عن اللغة
extralinguistic ، والتداولية
وتدرس علاقة العلامات اللغوية بمستخدميها من بني الإنسان.
إن علم النظم هو الذي يعنينا في هذا المقام. وقد قلنا إنه يضطلع بدراسة علاقة العلامات اللغوية (الكلمات، التعبيرات، الجمل) بعضها ببعض، فلكل لغة تراكيبها الخاصة؛ أي لكل لغة مجموعة من قواعد التضام
combination rules
Page inconnue
التي تحدد كيف تجتمع كلمات من مختلف الفصائل النحوية وتتجاور معا، ويشمل علم النظم أيضا كل تلك الملامح الصورية للغة ما، والتي يمكن أن تخضع للدراسة بمعزل عن المعنى. ويعد التوكيد على النظم شيئا وثيق الصلة بتلك البرامج البحثية - سواء في علم المنطق أو اللغة أو الحاسوب - التي تحاول أن تكتشف مقدار الحساب
computation (أو «التفكير» بتعبير اللغة العادية) الذي يمكن أن يجرى بدون الرجوع إلى المعنى. فإذا أمكننا صياغة قواعد لتناول الرموز قائمة على شكل الرمز أو أية خصائص أخرى، فمن الممكن أن تأخذ هذه القواعد صورة الحسابات الرمزية
algorithms
أي قواعد يؤدي اتباعها إلى نتيجة صحيحة فريدة لا ثاني لها، أو مجموعة من التعليمات المتدرجة، إذا ما اتبعت خطوة خطوة على الوجه الصحيح أدت دائما وأبدا إلى إجابة محددة أو حل دقيق. إن أنظمة الحساب الرمزي، بعبارة أخرى، هي مناهج مضمونة لا تخفق بأية حال (
foolproof ). فالعمليات الحسابية الأساسية من جمع وطرح وضرب وقسمة هي من هذا الصنف. وحيث إن تطبيق الحساب الرمزي لا يتطلب إبداعا أو حكما، فليس من المستغرب أن تكون هذه المناهج هي بعينها التي يمكن أن يبرمج الحاسوب لكي يؤديها. ومن الواضح أن آلة الجيب الحاسبة تفعل الكثير من ذلك في نطاق من العمليات الحسابية؛ إن شكل الإشارات المدخلة هو الذي يحدد شكل الإشارات المخرجة دون أي ذكر لما تعنيه الإشارات المدخلة (أي بمعزل عن علم دلالة الألفاظ).
هذا على وجه التقريب هو ما يجري بالحجرة الصينية ... صيغة من البرامج الحاسوبية. فالبرنامج الحاسوبي هو مجموعة من القواعد (أو التعليمات أو الأحكام) يغذى بها الكمبيوتر بغرض تأدية عملية معينة. تتصف هذه القواعد بأنها صورية محض لا حكم لها إلا على العلاقات القائمة بين عناصرها الداخلية
syntax
ولا تكترث بعلاقة هذه العناصر بالعالم الكائن خارج البرنامج
semantics . وبوسعنا أن نقول، بمصطلح فلسفي تقني، إن برنامج الحاسوب يتسم بنوع خاص من «الأناوحدية»
solipsism ؛ فهو منغلق على حاله ساقط في بئر ذاته لا يعنيه أي شيء خارج عنها، بل لا يعرف ولا يدري بهذا الشيء.
Page inconnue
لعل شيئا قريبا من هذا هو ما كان يعيق الكثير من برامج إعادة التأهيل المعرفي لمرضى الفصام، والتي كانت تقوم على تدريب المريض بشكل فردي على أداء مهمة معرفية محددة؛ فكثيرا ما كان الباحثون يصابون بالإحباط إذ يكتشفون أن تمرس المريض بأداء مهمة معرفية معينة من خلال تدريب حصري محدد لا تضمن لهذه المهارة أن تعم لتشمل مهام أخرى شبيهة، فانتهى بعض الباحثين إلى أن أفضل عون يمكن تقديمه لتحسين الأداء المعرفي للمريض هو تطوير برامج تدريب من الواقع الحقيقي أو شبيهة بالواقع الحقيقي. (7) تعليمنا والحجرة الصينية
منذ عقود خلت تفرخ مدارسنا وجامعاتنا ملايين من الخريجين، من بينهم مئات بل ألوف تنبئ درجاتهم بنبوغ استثنائي (مائة بالمائة، تقل قليلا أو تزيد قليلا!)
ألوف/مائة بالمائة؛ إنها أرقام غريبة مريبة أوسع مما يشي به الحال وأسخى مما عهدناه من شيم الزمان. في الأمر لا بد خدعة، وربما كيد واحتيال.
أما أن في الأمر خدعة فهو أظهر من أن نقف عنده. ويبقى السؤال الجاد الحقيقي هو: كيف كان ذلك؟ وأحسب أن الجواب الآن قد أسفر وأبلج وكاد يفقأ عين أوديب: «الحجرة الصينية»!
منذ عقود خلت، ولأسباب يضيق المقام ببحثها، لم يكن الطالب عندنا يتعلم بل يمتحن! اختزل التعليم إلى امتحان، وأي امتحان؟ امتحان مبسط مباشر يقوم على أسئلة مسبقة عيانية تهيب بالتفكيرالتقاربي
convergent
غير الإبداعي وتتطلب الأجوبة الحاضرة الأحادية. امتحان يربي الذهن التجميعي النملي، ويعزز الفكر الخطي العقيم، ويغرس الخلق الاتباعي الذليل. وتحول المرفق التعليمي بأسره إلى غرفة صينية كبيرة، يبرمج فيها عقل النشء على تقديم خربشات ردا على خربشات، وفقا لمبادئ صورية نظمية، واتباعا لدليل إرشادي من الملخصات والمبسطات والدروس الخصوصية ونماذج الأسئلة والأجوبة ... إلخ. وكأنه تواطؤ عام على تنصيب الجهل، وعلى وأد الإبداع وطمس المبدعين وهم بعد براعم، وكأن العميد (د. طه حسين) كان يصرخ في واد عندما كتب يقول في «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1937م محذرا من هذا المآل الوبيل: «الأصل في الامتحان أنه وسيلة لا غاية، وأنه مقياس تعتمد عليه الدولة لتجيز للشاب أن ينتقل من طور إلى طور من أطوار التعليم، وهو مستعد لهذا الانتقال استعدادا صحيحا أو مقاربا. هذا هو الأصل، ولكن أخلاقنا التعليمية جرت على ما يناقض هذا أشد المناقضة، ففهمنا الامتحان على أنه غاية لا وسيلة، وأجرينا أمور التعليم كلها على هذا الفهم الخاطئ السخيف، وأذعنا ذلك في نفوس الصبية والشباب، وفي نفوس الأسر، حتى أصبح ذلك جزءا من عقليتنا، وأصلا من أصول تصورنا للأشياء وحكمنا عليها، فالأسرة حين ترسل ابنها إلى المدرسة تفكر في تعليمه من غير شك، ولكنها لا تفهم هذا التعليم إلا مقرونا بالامتحان الذي يدل على انتفاع الصبي به ونجاحه فيه، وهي من أجل ذلك تعيش معلقة بآخر العام، وبهذه الورقة التي ستأتيها من المدرسة أو من الوزارة لتنبئها بأن الصبي أو الفتى قد جاز الامتحان فنجح أو أخفق فيه.
ولا يكاد الصبي يبلغ المدرسة ويستقر أياما حتى يشعر بأن أمامه غاية يجب أن يبلغها، وهي أن يؤدي الامتحان وينجح فيه.
وإذن فالصبي منذ يدخل المدرسة موجه إلى الامتحان أكثر مما هو موجه إلى العلم، مهيأ للامتحان أكثر مما هو مهيأ للحياة ... وإذن فقد استحالت المدرسة إلى مصنع بغيض يهيئ التلاميذ للامتحان ليس غير ... وأظنك توافقني على أن هذا كله شيء والتعليم شيء آخر، وأظنك توافقني أيضا على أن تصور الامتحان على هذا النحو قلب للأوضاع، وجعل التعليم وسيلة بعد أن كان غاية، وجعل الامتحان غاية بعد أن كان وسيلة. وحسبك بهذا فسادا للتعليم، ولكن هذا لا يفسد التعليم وحده كما قلت، بل يفسد العقل والخلق أيضا. وما رأيك في الصبي الذي ينشأ على اعتبار الوسائل غايات والغايات وسائل، فيفهم الأشياء فهما مقلوبا ويحكم على الأمور حكما معكوسا؟! ومن هنا لا ينبغي أن ننكر ما تراه من عناية شبابنا بالتافه من الأمر وإكبارهم للسخيف وإعراضهم عن عظائم الأمور، بل عجزهم عن الشعور بعظائم الأمور؛ لأن هؤلاء الشباب ينشئون على العناية بالامتحان وهو تافه، وعلى إكبار الشهادة وهي سخيفة، وعلى الإعراض عن العلم وهو لب الحياة وخلاصتها.
وليس الغش هو الذي يقترف ويضبط أثناء الامتحان فحسب، بل هناك غش آخر لعله أشد من هذا خطرا؛ غش خفي نحسه ولا نكاد ندل عليه، ولعل أخلاقنا الدراسية أن تبيحه أحيانا، غش يشترك فيه المعلمون والمتعلمون حين يهيئ المعلمون تلاميذهم تهيئة خاصة لأداء الامتحان ، وحين يقفون بهم فيطيلون الوقوف عند هذا الجزء أو ذاك من أجزاء البرنامج، وحين يعيدون معهم المقرر فيلحون عليهم في استذكار هذه المسألة أو تلك، وحين ينشرون لهم الكتب التي تشتمل على نماذج للأسئلة التي يمكن أن تعرض في الامتحان.»
Page inconnue
انتهى كلام العميد وأظنك الآن قد وقفت على السر الذي يجعلك تخاطب طالبا من نوابغ هذا الزمان فيفجعك بذهن سوقي أمي، وعلى السر الذي كان يجعل كبار الأساتذة من جيل العمالقة يصابون بخيبة أمل في طلابهم النوابغ بعد أن يتخرجوا ويتبوءوا مناصبهم بهيئة التدريس؛ إذ يتكشف أن أكثرهم خلو من أي قدرة بحثية وعاطل من أية ملكة إبداعية أصيلة؛ ذلك أن طالبهم النابغ كان يدرس ويمتحن على طريقة الحجرة الصينية: توثين للامتحان، وبرمجة آلية، وتمرس بتقديم إجابات جاهزة عن أسئلة جاهزة، وتعويل على الذاكرة المحض. فلما أن خرج من الحجرة الصينية إلى العالم الحقيقي تاركا بالحجرة سلته ودليله الإرشادي تكشف أنه، ببساطة، لا يعرف شيئا. (8) الألفية الثالثة
الألفان خيال منطقي، وحد اعتسافي يفرضه النظام العددي العشري.
وليس عام ألفين سوى امتداد طبيعي لما قبله وتحصيل حاصل.
غير أن الخيال المنطقي الحسابي هو حقيقة نفسية أصيلة، وبعض النقاط الحسابية هي أيضا نقاط توقف إجباري لمحاسبة النفس وتأمل الذات، ومواعيد للتحول والتغيير مضروبة بين الطباع الراسخة المتحجرة والزمن المتدفق السيال.
الفصل الثاني
فقه الديمقراطية
(1) تمهيد
ربما تكون قلة منا، نحن الأثينيين، هي القادرة على وضع السياسات، لكننا جميعا نملك القدرة على الحكم عليها. وبدلا من أن ننظر إلى الحوار على أنه حجر عثرة في طريق الفعل، فنحن نراه مقدمة لا غنى عنها لأي فعل سديد على الإطلاق.
بركليز
لماذا تثار اليوم مسألة الديمقراطية؟
Page inconnue
لماذا تتنادى الأصوات بهذه اللفظة العتيقة في هذا الوقت العصيب الذي يشهد أحداثا كبرى تأبى أن يعلو فوق صوتها صوت؟
لماذا تمتد الأيدي إلى هذا الملف المنسي تريد أن تمسح عنه التراب وتقرأ فيه مزيدا من الصفحات وتتبين منه مزيدا من الأسطر؟
أخشى أن الجواب مؤلم كغسيل الجرح، وأن مسألة الديمقراطية ما كانت لتثار بكل هذا الإلحاح، وتتوارد في كل هذه الخواطر، لو لم يكن الجميع قد استشعر في نفسه، على اختلاف الدرجة، أن الوطن مريض وأن غياب الديمقراطية لعقود طويلة ربما يكون وراء هذا الداء الذي أصابنا والهزال الذي ألم بنا.
لقد امتحنت الأمة في نفسها امتحانا قاسيا كشف أن ثقلها في الميزان هين وأوراقها على الطاولة قليلة، وأنها لم تعد «تفعل» في الملمات بل «تنفعل».
لقد تراكمت عليها الواجبات إذن وأصبح عليها أن تفعل أشياء كثيرة على المدى الطويل، وأصبح عليها مهام جسام لا بد من القيام بها إن كان لها أن تسترد شيئا من عافيتها المهدرة، وتستعيد شيئا من إبائها الجريح.
لا بد من مراجعة شاملة لكل سياساتنا بدءا من النظام السياسي الذي خلف فجوة بين النظم والشعوب، ومرورا بنظام التعليم الذي أخلف أجيالا روبوتية تكرر ولا تبدع، ولغتنا التي تذبل وتهزل ولا تعيننا على التعمق والابتكار، وانتهاء بمنظومة القيم التي شغلتنا بتافه الأمور عن هائلها.
لا بد من تسليط أضواء النقد على كل جوانب حياتنا وأولها قدرتنا ذاتها على تحمل النقد.
وحين نقصر حديثنا في هذا المقام على جانب واحد هو الديمقراطية، فنحن - بحكم طبيعة الموضوع ذاته
ispo facto - إنما نمس جميع الجوانب الأخرى في الوقت نفسه؛ ذلك أن المغزى الحقيقي للديمقراطية هو في المناخ الذي تفرزه أكثر مما هو في أسلوب الممارسة السياسية الذي تتبناه. ولو وعينا ذلك لأدركنا منذ البداية أن الديمقراطية شرط ضروري لأي تقدم أو نهوض في الزمن الحديث، وأنها لا يمكن أن ترد ولا يمكن أن تسوف، وأن الدعاوى القائلة بأن أمام الأمة الآن قضايا أكثر إلحاحا من الديمقراطية، والدعاوى التي تتحدث عن الديمقراطية كما لو كانت نقيضا للوحدة أو للتكامل أو قطبا مقابلا للتضامن والاستقرار، والدعاوى التي تصادر - مصادرة مضمرة - بأن الديمقراطية عائق يحول دون الحسم والمواجهة، والدعاوى التي تتجر بهاجس «الإرهاب» وتروج لأسطورة «الطوارئ» و«الظروف الاستثنائية» و«المرحلة التاريخية» (الأزلية الأبدية)؛ كل هذه الدعاوى لا تعدو أن تكون مناورات مكشوفة ومداورات بائسة لا تهدف إلى تكامل ولا تضامن ولا مواجهة، ولا تؤدي إلا إلى غاية واحدة: بقاء الأمور على ما هي عليه وتحنيط الوضع القائم لمصلحة المستفيد من الوضع، ولغرض في نفس زيد وحاجة في «بطن» يعقوب. وحصاد هذا الشوك عرفناه وجربناه؛ مزيد من الضعف والتردي، ومزيد من الهوان والمذلة.
لست ترى في هذه الدعاوى غير مغالطات تخلط المستويات المنطقية وتقع في خطأ مقولي
Page inconnue
category mistake
ظاهر؛ فالديمقراطية ليست «قضية» كغيرها من «القضايا»، تكون لها الصدارة أو لغيرها، الديمقراطية هي قضية كل قضية، وشرط كل قضية؛ لأنها هي التي تقدم الأرضية التي يتم عليها كل شيء، والمناخ الذي يصلح به كل شيء: التكامل والتضامن والاستقرار والحسم والمواجهة وما شئت. وما كانت الديمقراطية يوما حائلا بين أمة وبين أن تتماسك أو تتكامل أو تكسب حربا أو تحسم أمرا. ويقينا أنها كانت لأهلها في كل ذلك وفي غيره سندا وظهيرا. (1-1) فقه الديمقراطية
الديمقراطية منهج سياسي له أصوله وفلسفته، وله أئمة منظرون يعلمون الناس أبجديته ويبصرونهم بمراميه. ولعل أقصر الطرق إلى فهم الديمقراطية هو أن نتجه مباشرة إلى هؤلاء، فنكون كمن يرد المنابع فيغنى بها عن سقايات شحيحة لا تشفيه ولا ترويه، ولا يدري كم تداولتها من أيد وكم خالطتها من أوشاب.
تقوم الفكرة الديمقراطية، في شطر كبير منها، على مذهب المنفعة العامة
utilitarianism ، وبخاصة في صياغة الفيلسوف التجريبي الإنجليزي جون ستوارت مل
J. S. Mill (1806-1873م)، يعرف مل مذهب المنفعة بأنه تلك الوجهة من الرأي القائلة بأن «الأفعال هي خير بقدر ما تنزع إلى أن تعزز السعادة، وهي شر بقدر ما تنزع إلى أن تورث الشقاء.» وقال: إن على الفاعل وهو بصدد تقدير المشروعية الأخلاقية لفعله أن يتقصى نتائجه لا من حيث تأثيرها عليه فحسب، بل من حيث تأثيرها على أي شخص تمسه هذه النتائج. ولعل من أكبر نقاط القوة في مذهب المنفعة كرؤية أخلاقية تقدمية هي التزامه بفكرة المساواة بين الأفراد، فليست لذاتي وآلامي بأهم ولا بأهون من لذات أي إنسان آخر وآلامه. ربما يمتعني أن أستمع إلى مذياعي في حافلة مزدحمة، ولكني قد أعرض عن هذا لأنه يؤذي الآخرين. ملكية اللذات والآلام إذن هي شيء خارج عن الموضوع من الوجهة الخلقية، إنما الاعتبار كله هو ل «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.»
وقد دفع كارل بوبر فيما بعد بصيغة جديدة لمذهب المنفعة العامة تمثل إضافة للمذهب لا نقضا له، وهي صيغة تعكس التوجه التكذيبي في المعرفة العلمية عند بوبر بقدر ما تعكس توجهه العلمي في الفكر السياسي. ويطلق على هذه الصيغة «مذهب المنفعة السلبي»
negative utilitarianism . في هذا المذهب يأخذ بوبر، كعادته، طريقا عكسيا
via negativa ، ويلح على «أقل قدر ممكن من المعاناة للجميع.» يتميز مبدأ بوبر بأنه يلفت الأنظار مباشرة إلى المشكلات، ويحفز على الفعل العاجل لإصلاح ما يتكشف من العيوب. إننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء، ولكننا نعرف جيدا وسائل لتقليل شقائهم! إنه مبدأ سياسي عملي، إن لم يكن مبدأ أخلاقيا أساسيا، ومصاداة للمبدأ الإسلامي «دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة.» وهو فضلا عن ذلك مبدأ يكرس نفسه للتغيير. إنه ينطلق من الحرص على مصلحة البشر ويشتمل على رغبة في إعادة تشكيل المؤسسات.
ولا يعدم المرء أسسا ميتافيزيقية يقوم عليها كل نظام يعامل الفرد كغاية، ويضع الذات الفردية في الصدارة من اهتمامه. الذات الفردة هي الكيان الميتافيزيقي الفعلي، والحقيقة الأنطولوجية النهائية. الكائن الحق هو الفرد. الذي «يوجد» و«يسعد» و«يشقى» هو الفرد. وما «الجماعة» و«الدولة» و«العصبة» - على حتميتها وواقعيتها وحقيقة ما ينبثق عن مستوياتها من قوانين جديدة تنعكس على الذوات بالضرورة - إلا كائنات اعتبارية (أو قل إنها أنساق
Page inconnue
systems
على مستوى وجودي أعلى تنبثق لها خصائص جديدة اجتماعية ليس منها اللذة والألم أو السعادة والشقاء). «الدولة» لا تأكل ولا تشرب، ولا تجوع ولا تعرى، ولا تموت ولا تبعث، ولا تفرح ولا تحزن، ولا تجزع ولا تدمى ولا ينفطر قلبها، إنما يفعل ذلك الأفراد الجزئيون. وحين نضم أفراد البشر معا فإنهم يبقون بشرا أيضا ولا يتحولون إلى صنف آخر من «الجوهر»، على حد تعبير جون ستيوارت مل
J. S. Mill . ومن ثم فالغاية الحقيقية هي سعادة الأفراد بما هم أفراد؛ إذ ليس هناك، ببساطة، أي كائنات حقيقية أخرى لكي نسبغ عليها شيئا! ونحن إذا كنا نهتم بقوة المجتمع وصلاح أمره فإن غايتنا القصوى هي أن ينعكس ذلك على الذات الفردة ويعود بالخير والصلاح. ولعل هذا التصور، وإن كان مشربا بالنزعة السيكولوجية عند مل، هو من أجدى التصورات وأكثرها سدادا؛ إذ يعصمنا من أوهام المذهب الجمعي
collectivism
والنزعة الكلية
holism ، ومن التورط في المفاهيم الرومانسية لروسو وهيجل، من مثل «الإرادة العامة»، أو «الروح القومي»، أو «عقل الجماعة»، وما إليها من تصورات ينبغي ألا نأخذها بأكثر من قيمتها المجازية أو الاستعارية، وألا ننسب إليها وضعا ميتافيزيقيا أو كيانا أنطولوجيا.
في ضوء هذه الاعتبارات الأخلاقية والميتافيزيقية يمكننا أن نرى بوضوح أن الشكل السياسي ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق الغايات القابعة في النطاق العريض للعلاقات البشرية وللارتقاء بالشخصية الإنسانية. يقول الفيلسوف الأمريكي الكبير جون ديوي
J. Dewey (1859-1952م) إن حق الاقتراع العام، والانتخابات المتكررة، ومسئولية أصحاب السلطة السياسية أمام الناخبين، ما هي إلا «وسائل» قد ثبت نفعها في تجسيم الديمقراطية كطريقة إنسانية حقة للعيش. إنها وسائل وليست غايات، ويتعين الحكم عليها على أساس قدرتها على تحقيق غاياتها. ونحن إذا وضعنا الوسائل موضع الغايات التي تخدمها هذه الوسائل ستكون فعلتنا ضربا من الوثنية وعبادة الأصنام. تستند هذه الأشكال السياسية الديمقراطية إلى فكرة أنه ليس هناك فرد بلغ من الحكمة أن يعرف للآخرين مصالحهم ووسائل سعادتهم وخيرهم أكثر منهم، وأن يفرضها عليهم بغير رضاهم. كل فرد يتأثر في فعله ومتعته بحالته المترتبة على النظام السياسي الذي يعيش في ظله، ومن ثم فإن له حقا في تحديد هذا النظام.
1
تقوم الفكرة الديمقراطية على أن الناس سواسية قانونيا وسياسيا. صحيح أنهم خلقوا غير سواسية في المواهب الطبيعية، إلا أن هذا التفاوت ليس حجة ضد المساواة وإنما هو حجة لها؛ فالمساواة أمام القانون ليست «واقعة» موضوعية ولا قانونا طبيعيا، إنما هي «مطلب» سياسي قائم على قرار أخلاقي، ولا علاقة له البتة بالنظرية القائلة بأن الناس ولدوا سواسية بالطبيعة، بل إن المساواة (تساوي الفرصة) هي التي تضمن وترعى التفاوت العقلي بين بني البشر؛ لأن مساواة الفرصة تضمن للمواهب الفردية حق التميز والنمو وتحمي أصحاب المواهب من أن ينالهم اضطهاد ممن يقلون عنهم موهبة.
Page inconnue
وتقوم الفكرة الديمقراطية أيضا على أن الحرية الإنسانية هي حرية العقل بالدرجة الأساس؛ حرية الإيمان والضمير، حرية الرأي والاجتماع لتبادل الرأي، حرية الصحافة كوسيط للاتصال. وبغير هذه الحقوق لن يعود الأفراد أحرارا للارتقاء، وسيحرم المجتمع من جهدهم ومواهبهم وأفضل إسهاماتهم. وأنت حين تسلب الإنسان حرية عقله وتتولى عنه مهمة القرار فأنت تعفيه أيضا من المسئولية وتسلبه الإحساس بالصالح العام، وتبث فيه روح السلبية والاكتفاء من العمل بأقل القليل. إنك تحمله على أن يتبنى أسلوب العمل «الدفاعي» الذي لا يهدف إلا إلى أن يقيه من عقاب التقصير، والذي يتجنب المبادأة والمغامرة والإبداع. (1-2) لماذا تفشل الديمقراطيات
لماذا تتلكأ بعض المجتمعات في الأخذ بالنظام الديمقراطي؟
ولماذا تنهار بعض الديمقراطيات الناشئة ويفضل الناس عليها أنظمة أوتوقراطية؟
يبدو، من وجهة نظر جون ديوي، أن طول عهد الكتل البشرية بالاستبداد وتمرسها بالقهر بجميع أشكاله، السياسية والاقتصادية والنفسية، يجعلها متكيفة بالعبودية لا ترى القيود قيودا. ولعلها تستمرئ هذه القيود وتراها أمرا سويا وطبيعيا. ويبدو أن في جبلة العقل البشري، بوصفه رهين الثقافة وصنيعتها، أن يعبر «فجوة هيوم» وثبا: فيقفز مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، ويميل إلى أن يرى أوضاعه التي نشأ عليها، مهما بلغت من سوء، لا كمجرد أوضاع معطاة «للوصف»
description
و«النقد» و«التغيير»، بل كمقاييس للصواب والسواء والخير ومعايير
norms
للقيمة.
ومن الحق أيضا أن الحرية، كما بين الوجوديون، هي عبء وهم؛ لأن توأمها المسئولية ودوارها القلق، وهو أمر تفهمه الجموع البشرية بالغريزة، فتمتلئ بما أسماه سارتر «سوء الطوية»
mauvais foi
Page inconnue
ويغريها بالتنازل عن هذه الحرية العبء، ويدفعها إلى التواطؤ الأخرس مع القلة المستبدة: «احمل عني هذا العبء وخذ ما شئت.» لقد طال عهد معظم المجتمعات البشرية بالقهر حتى انسلخ عنها «موقع الضبط »
locus of control
وصارت تؤمن بأن مصائرها تتقرر من خارجها وأن القيادة أمر يفرض من فوق. ونما هذا الاعتقاد منذ فجر التاريخ. وحتى بعد أن توطدت الأنظمة السياسية الديمقراطية، اسميا، فقد استمرت معتقدات ونظرات إلى الحياة والعمل نشأت عندما كان البشر يقادون من الخارج ويخضعون لقوى تعسفية بقيت قائمة في الأسرة والكنيسة وإدارات العمل والمدرسة. وأثبتت التجربة أنه ما دامت هذه المعتقدات باقية فإن الديمقراطية لن تكون راسخة القدم أبدا. (1-3) الديمقراطية لا تتجزأ
إن العجز عن حمل المسئولية يتفاقم ويستفحل حين تنكر هذه المسئولية وتحجب. وما من مستبد في التاريخ إلا كان يبرر أسلوبه بعدم صلاحية رعاياه للمشاركة في الحكم. ثمة حلقة استبدادية خبيثة تبدأ بإنكار القدرة على المشاركة في الرأي وتمر بالاستلاب وتنتهي بعجز حقيقي عن المشاركة. وإن كسر هذه الحلقة الخبيثة لا يتم إلا بالممارسة. وحجة الديمقراطية هنا هي أن أفضل وسيلة لتوليد قوة بناءة وإحياء القدرة على المبادرة هي الممارسة؛ فالقدرة والصلاحية لا يجيئان إلا بفضل الاعتياد والتمرس. يقول جون ديوي: «في أي مكان تعرضت فيه الديمقراطية للسقوط، كان مرد ذلك إلى مؤثرين من خارج نطاق السياسة؛ أي لأن الديمقراطية لم تجر في دماء الشعب وتمتزج بكيانه، ولم يكن لها دور في سلوك حياته اليومية، واقتصرت مظاهرها على البرلمان أو الانتخابات والمعارك الدائرة بين الأحزاب. وأثبت ذلك بالقطع أنه ما لم تصبح العادات الديمقراطية في الفكر والعمل جزءا من كيان الشعب، فإن الديمقراطية السياسية لن تكون بمأمن؛ فهي لن تكون قادرة على الصمود في فراغ، بل يجب أن تستند على وجود الأساليب الديمقراطية في جميع العلاقات الاجتماعية. ولا تقل العلاقات القائمة في الأنظمة التعليمية أهمية في هذا الشأن عن العلاقات القائمة في الصناعة والأعمال الإدارية. ولعلها مكافئة لها.»
2 (2) تشارلس فرانكل
ربما لذلك يحس المرء أن الريح خفت عندما يسافر من مجتمعات متسلطة إلى مجتمعات حرة.
تشارلس فرانكل
يعد شارلس فرانكل (1917-1980م) واحدا من أولئك الأئمة الثقات في فقه الديمقراطية. وقد قام بتدريس الفلسفة بجامعة كولومبيا ، وكان من المؤثرين الكبار داخل حلقة البراجماتية الليبرالية بالولايات المتحدة في مجال الفلسفة السياسية والاجتماعية والفكر التربوي.
يتساءل فرانكل: لماذا الديمقراطية؟ لماذا نختار الديمقراطية من بين غيرها من النظم السياسية الممكنة؟ ويطلق العنان لتأملاته التي تضع اليد على الجواب الصحيح؛ لأنها وضعتها على السؤال الصحيح؛ السؤال الذي يلمس مواضع الغموض ويمسك بجمع المشكلة. يقول فرانكل: لقد تعرضنا في هذا القرن (العشرين) للتجريدات الأيديولوجية والسياسية بدرجة مفرطة، ورأينا مدى استعداد الناس لأن تضحي في سبيل اليقين الأيديولوجي. وليس من المستغرب أن يكون أصحاب الوعي المرهف قد تكون لديهم شيء قريب من أيديولوجية الارتياب، وأنهم لا بد أن ينظروا بعين الشك والسخط إلى جميع المسائل المتعلقة بتبرير الأنظمة السياسية؛ لماذا نختار الديمقراطية؟! وهل بوسعنا - وقد تثقفنا في مدرسة واقعية صارمة علمتنا ما هي مخاطر الاعتقاد - سوى أن نقول إن التعصب شيء مقيت وإننا يجب أن نختار الديمقراطية لأنها لا تدعونا إلى الاعتقاد إلا في أقل القليل؟
بل هي تدعونا إلى الكثير من الاعتقاد! وإنني لا أظن أن بإمكاننا أن نثبت أن الحقيقة الداخلية عن العالم أو عن التاريخ الإنساني أو النفس البشرية تحملنا على أن نتبنى مثلا ديمقراطية. فاختيار مثال سياسي هو أمر مختلف عن عملية إثبات صدق مبرهنة من المبرهنات في نسق هندسي ما. وإن أولئك الذين يظنون أن الديمقراطية تحتاج إلى هذا النوع من التبرير إنما يثيرون حولها الشكوك بشكل غير مباشر. فعلى الرغم من التضخم السيمانتي (الدلالي) الذي يعاني منه النقاش الراهن حول المثل السياسية، فإن الأسباب التي تدعونا إلى اختيار الديمقراطية ليست غامضة ولا صعبة، غير أنها أسباب مقلقة تهيب بمعتنقيها أن يراهنوا رهانا كبيرا على قدرتهم على العيش وفق ما وقع عليه اختيارهم. (2-1) أهمية المنهج السياسي الديمقراطي
Page inconnue