La voix des profondeurs : Lectures et études en philosophie et psychologie
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس
Genres
ذهب كواين إلى أننا إذا شئنا أن نفهم لغة أخرى أو مخططا تصوريا مختلفا فإن علينا أن نترجمه. هناك فرق بين الفهم والترجمة؛ فالفهم يتعلق بقدرات والترجمة شيء ينخرط فيه المرء، يعني ذلك أنهما أمران مختلفان وأن أحدهما يعتمد على الآخر؛ ذلك أن عملية الترجمة (أو التفسير) تفترض الفهم مسبقا. ويتجلى ذلك في الطريقة التي نسلك بها، فالاستجابات التي نبديها تبين كيف تأتى لنا أن نفهم السلوك القصدي للآخرين. وبهذه الطريقة أيضا يتبين أننا نشارك تلك الثقافة، أو اللغة، المختلفة من حيث المبدأ، شكل الحياة الأساسي نفسه. وإذا استبعدنا ذلك فنحن إذن ننفي أي إمكان لاعتبار الآخرين بشرا، وأي إمكان لحدوث أي نوع من التواصل.
والنقد الآخر الموجه إلى أطروحات كواين يتصل بمشكلة «الإشارة/الأنطولوجيا»، فقد دفع كواين بدعوى «عدم التحديد في الترجمة» والتي ترتكز على دعوى «غموض الإشارة»، فإذا كان منطلقنا هو السلوك الملاحظ (السلوكية) فليس بإمكاننا على الإطلاق أن نعرف على أي شيء تصدق ألفاظ لغة ما وإلى أي شيء تشير. يرى دونالد دفيدسون أن هذه الفكرة لا تعدو أن تكون تأييدا لنظرة نسبية إلى الإشارة، وهو يؤيد كواين في أطروحته عن «عدم التحديد في الترجمة» و«غموض الإشارة» ولكنه يرفض منطوياتهما ويدرك المشكلات التي تجلبها النتائج المستمدة منهما، ذلك أن دفيدسون يرفض نسبية الإشارة ويذهب إلى أن الأنطولوجيا بأسرها شيء ثابت.
إذا صح مذهب كواين يكون من الممكن للإشارة، وكذلك للأنطولوجيا، أن تثبت إلى إطار وتنسب إليه، ولكن القول بأن الإشارة مثبتة بلغة ما يتضمن النظر إلى اللغة باعتبارها «لغة-موضوعا»
object-langauge ، أي أننا لا نستطيع أن ندخل هذا الأمر في الاعتبار ونضعه موضعه ما لم نتخذ «لغة شارحة» أو «ميتالغة»
metalanguge (لغة تتحدث عن لغة) ونستخدم اللغة استخداما «ميتالغويا»، أي أننا لا نملك أن نتحدث عن تلك النسبية ما لم نلجأ إلى لغة مختلفة. غير أننا ما إن نفعل ذلك حتى نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نظل نبدئ نفس الإجراء ونعيده إلى غير نهاية. وهذه واحدة من نقاط الفشل الواضحة في النسبية؛ فلكي نتحدث حول النسبية علينا أن نخرج منها، وعندئذ نرفضها، وينسحب هذا أيضا على مشكلة الأنطولوجيا؛ فإذا صح أن الأنطولوجيا، كما ذهب كواين، هي أنطولوجيا بالنسبة لمخطط، أو نسق، من الإحداثيات فلن يمكننا أن نقرر ذلك إلا بأن نعيد تأويل الأنطولوجيا في حدود نظرية مختلفة، غير أن هذه العملية تجابه بالمشكلات نفسها؛ فمثل هذه النسبية الأنطولوجية لا يمكن استنباطها من تلك القرارات المتعلقة بالمخطط أو النسق.
يحاول دفيدسون أن يتخذ موقفا وسطا يأخذ المخطط التصوري بالاعتبار دون الوقوع في النسبية الأنطولوجية التي تبدو لصيقة بمذهب كواين، فنحن بحاجة إلى مخطط تصوري لكي نفهم أي شيء من أشياء العالم (ذلك أن الأشياء لا توجد بمعزل عن المخططات التصورية) ونحن لا يمكن أن ننفصل عن أفكارنا لكي نقارنها بالواقع. غير أن هذا ليس نسبية ولا يعني صدق النسبية، بل هو، على حد قول بتنام، نوع من الواقعية البراجماتية.
نخلص من ذلك إلى أن هناك أكثر من طريقة لمقاربة الواقع. غير أن هذا ينبغي ألا يمضي بنا بعيدا إلى موقف نسبي متطرف، وإنما الحل العملي أن نتخذ موقفا وسطا بين طرفي الواقعية الميتافيزيقية من جهة والنسبية الأنطولوجية من جهة أخرى. إن قدر الأنثروبولوجي أن يواجه مصاعب وحدودا حين يشرع في تناول موضوع دراسته، غير أن لديه بعض الأدوات التي ينجز بها عمله ويبرره. إنه يسلم بتلك المصاعب والحدود التي يمكن أن تؤدي المبالغة في تقديرها إلى أطروحتي «عدم التحديد في الترجمة» و«غموض الإشارة». ربما لا يضمن الأنثروبولوجي الدقة المطلقة في دراسته، ولكن هذا لا يعني أنه صفر من أي تبرير وجيه لبحوثه. إن مصاعب الدراسة الثقافية هي مصاعب التواصل في المعنى. ويعتمد تأويل (وترجمة) الثقافات الأخرى (ومجالات الخطاب الأخرى) على قدرتنا على تمييز التشابهات والقواسم المشتركة في الآخرين، أي إدراك أهمية تلك الأنماط من السلوك المشتركة بيننا جميعا. أن نفهم «عبارة» يعني أن نفهم «لغة»، وأن نفهم «لغة» يعني أن نفهم «صورة من صور الحياة»
a form of life . (6-3) بعض مشكلات «اللامقايسة»
قلنا إن «اللامقايسة» تعني عدم وجود عنصر مشترك يمكننا بواسطته المقارنة، والمفاضلة، بين خطابين مختلفين. تفضي «اللامقايسة» إلى مصاعب كبرى في الفهم، وتوقع عجزا تواصليا بين الأشخاص الذين ينتمون إلى أنساق مختلفة، بحيث يستحيل عليهم تبادل المعنى فيما بينهم؛ فهذه الأنساق هي شيء مغلق منكفئ على حاله. ومن هذا المنطلق تعد «اللامقايسة» مؤيدا وظهيرا لتصور نسبي عن الواقع.
يتناول بتنام مبدأ «اللامقايسة» بالنقد الشديد، فيقول بأنها دعوى «مدحضة لذاتها»
Page inconnue