حول القرآن ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ استفهام للتوبيخ والإِنكار والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي وقد كنتم في العدم نُطفًا في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي أخرجكم إِلى الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء الآجال ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعث من القبور ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للحساب والجزاء يوم النشور.
ثم ذكر تعالى برهانًا على البعث فقال ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا﴾ أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ أي ثم وجّه إرادته إلى السماء ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.
البَلاَغَة: ١ - قوله ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ مجاز من باب إِطلاق الملزوم وإِرادة اللازم، والمعنى: لا يترك فعبّر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه.
٢ - قوله ﴿يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ فيه (استعارة مكنية) حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية.
٣ - قوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ هو من باب (الالتفات) للتوبيخ والتقريع، فقد كان الكلام بصيغة الغيبة ثم التفت فخاطبهم بصيغة الحضور، وهو ضرب من ضروب البديع.
٤ - قوله ﴿عَلِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة، ومعناه الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، قال أبو حيان: وصف تعالى نفسه ب (عالم وعليم وعلام) وهذان للمبالغة، وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في (علامة) ولا يجوز وصفه به تعالى.
الفوَائِد: الأولى: قال الزمخشري: التمثيل إِنما يصار إِليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إِلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، ألا ترى إِلى الحق لما كان أبلج واضحًا جليًا، كيف تمثَّل له بالضياء والنور؟ وإِلى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثّل له بالظلمة؟ ولما كان حال الآلهة التي جعلها الكفار أندادًا لله تعالى ليس أحقر منها وأقل، لذلك ضرب لها المثل ببيت العنكبوت في الضعف والوهن ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] وجعلت أقل من الذباب وأخسَّ قدرًا ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: ٧٣] والعجبُ منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور، والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة في حواضرهم وبواديهم.
1 / 39