من ذكرها لحقارتها ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فما دونها في الصغر ﴿الفاسقين﴾ أصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافق فاسق لخروجه عن طاعة ربه، قال الفراء: الفاسق مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، ويسمى الفاسق فاسقًا لخروجه عن طاعة الله، وتسمى الفأرة فويسقه لخروجها لأجل المضرة. ﴿يَنقُضُونَ﴾ النقض: فسخ التركيب وإِفساد ما أبرمته من بناءٍ، أو حبلٍ، أو عهد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ [النحل: ٩٢] وقال ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥] أي فبنقضهم الميثاق ﴿عَهْدَ﴾ العهد: المَوْثق الذي يعطيه الإِنسان لغيره ويقال عهد إِليه أي أوصاه ﴿الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠] العهد المؤكد باليمين وهو أبلغ من العهد. ﴿استوى﴾ الاستواء في الأصل: الاعتدال والاستقامة يقال: استوى العود إِذا قام واعتدل، واستوى إِليه كالسهم إِذا قصده قصدًا مستويًا، وقال ثعلب: الاستواء: الإِقبال على الشيء. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ خلقهن وأتقنهن وقيل معناه: صيّرهن.
سَبَبُ النزّول: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.
التفسِير: يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا﴾ أي إن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيُّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيرًا كان أو كبيرًا ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله ﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا﴾؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ قال تعالى في الرد عليهم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يضل بهذا المثل كثيرًا من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيرًا من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد ﷺ َ من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإيمان، وإثارة الشبهات
1 / 38