قال موراي في عناد: «كانوا يطيرون فعلا بطائرات بولندية إلى السويد دون أن يلحق الألمان بهم ... وكانت الطائرات تقصف فرنسا ويهرب طياروها.» «هل تظن أن شخصا لافتا للانتباه مثل فيكتور يستطيع الهروب؟ هل تظن أن شخصا لافتا للانتباه على هذا النحو سيجري إرساله في مهمة سرية؟ يجب أن يبدو المرء مثل الممثل أليك جينيس حتى يجري إرساله في مهمة سرية.»
قال موراي: «ربما لأنه يبدو لافتا للانتباه للغاية يبدو لا غبار عليه ... ربما سيبدو وكأنه آخر شخص على الأرض يمكن أن يرسل في مهمة سرية، وسيكون ذلك هو السبب في أن أحدا لن يشك فيه.»
ربما للمرة الأولى، ظن أن شكوك باربرا كانت تلقائية ومزعجة. كانت مثل سمة شخصية، حركة لاإرادية.
كان قد دار هذا الحديث بعد أن جاء فيكتور وبياتريس إلى العشاء. كان موراي قلقا حيال لقاء فيكتور وباربرا. كان يرغب في تقديم كل إلى الآخر، حتى يتباهى بكل منهما أمام الآخر. لكن عندما جاءت الفرصة لم يكونا في أفضل حالتهما، بدا كل منهما متحفظا فاترا عصبيا وساخرا.
كان يوم حفلة العشاء، في أواخر مايو، باردا وممطرا بشكل غريب. كان الطفلان - كانت فليسيتي تبلغ خمسة أعوام آنذاك، وآدم ثلاثة - يلعبان في الداخل طوال اليوم، معطلين باربرا عن أداء أعمالها، ومثيرين الفوضى في غرفة المعيشة، التي كانت قد نظفتها، وبحلول وقت النوم لم يكونا قد تعبا بما يكفي ليخلدا إلى النوم. لم تسهم الأمسية الخفيفة الطويلة بأي حال من الأحوال في جعل الطفلين ينامان. كانت هناك طلبات كثيرة لتناول الماء، وشكاوى من وجود مغص، وشكاوى من كلب كاد يعض فليسيتي الأسبوع الماضي. أخيرا، هرع آدم إلى غرفة المعيشة لا يرتدي سوى القطعة العلوية فقط من بيجامته، وهو يصرخ: «أريد بيكي، أريد بيكي.» كانت «بيكي» كلمة يستخدمها الصغير للإشارة إلى «البسكويت»، والتي لم يعد يستخدمها. كان يبدو على الأرجح أن فليسيتي أوحت إليه بعمل هذا المشهد التمثيلي، وربما دربته عليه. رفعه موراي إلى أعلى وحمله إلى غرفة الأطفال وضربه بشدة على مؤخرته العارية، ثم ضرب فليسيتي بشكل أعنف، وعاد إلى غرفة الطعام وهو يحك يديه معا، لاعبا دورا كان يكرهه، ألا وهو دور المؤدب الحازم. بينما ظل باب غرفة الأطفال مغلقا، لم يحل ذلك دون أن يخرج منها صوت صراخ طويل وغاضب.
سار كل شيء على نحو سيئ منذ بداية هذه الزيارة. كان موراي قد فتح الباب وقال دون تحفظ: «تلقي أشجار الكستناء بمشاعلها، وتتدفق الزهور من الزعرور البري بسبب الرياح!» مشيرا إلى الطقس، وظانا أن بياتريس ستستحسن سماع قصيدة إنجليزية. قال فيكتور باسما ومتحيرا: «ماذا؟ ماذا تقول؟» وقالت بياتريس: «إنها قصيدة.» كما لو كان قد سأل أحد: «ما هذا الذي يجري عبر الطريق؟» وأجابت قائلة: «هذا خنزير الأرض.»
ظل مرح فيكتور غير باد. بدت ابتسامته الكبيرة التي تبرق فيها عيناه، وضحكته، في غير موضعها ومصطنعة، بلا حيوية. حتى بشرته بدت باهتة ورمادية مصفرة. كان مثل تمثال أمير في قصة تذكرها موراي، قصة أطفال. ينتزع الأمير عينيه المصنوعة من الجواهر لبيعها لمساعدة الفقراء، ثم يتبرع بكل جلده المصنوع من أوراق الأشجار الذهبية لخدمة الغرض نفسه. يرشده طائر سنونو صغير أثناء عماه، ويظل صديقه الوحيد.
كانت رائحة الطهو تشيع في المنزل بأسره. كانت باربرا قد أعدت لحم خنزير مشوي. كانت قد أعدت البطاطس وفق وصفة جديدة، مقطعة وطاهية إياها في الفرن في إناء غطي بطبقة من الزبد. كانت قطع البطاطس تبدو دسمة، وغير ناضجة تماما بالنسبة إلى موراي. كانت الخضراوات الأخرى مسواة أكثر مما ينبغي؛ نظرا لأن باربرا كانت قد تعرضت لمضايقات وتوقفات كثيرة في المطبخ بسبب الأطفال. كانت فطيرة جوز البقان ثقيلة جدا على المعدة كحلوى تقدم بعد هذا الطعام، وكانت حوافها بنية أكثر مما ينبغي. لم تحاول بياتريس حتى أن تتناول قطعة منها، ولم تفرغ حتى من تناول قطع البطاطس في طبقها. لم تضحك عندما خرج آدم محمولا وهو يصرخ. ربما شعرت أن الطفلين يجب أن يجري تربيتهما والحد من جماحهما على نحو صارم مثل الجياد.
جال موراي بفكره، وأدرك أنه لم يلتق ويحب امرأة قط من قبل كانت شغوفة إلى حد الجنون بالجياد. كانت أولئك النساء ضيقات الأفق، متزمتات، لا حس دعابة لديهن، ولم يكن عادة جميلات. كانت بياتريس تمتلك بشرة وردية، تكاد تكون على طبيعتها. كان شعرها داكنا ويحيل إلى اللون الأبيض، وكان مقصوصا دون قصة مميزة. لم تكن تضع أحمر شفاه، وهو شيء عجيب كان بمثابة إشارة إلى الزهد أو الإهمال المزري لدى امرأة في ذلك الوقت. كان فستانها بلون عش الغراب غير مربوط من الوسط جيدا، ما كان يشي بأنها لم تكن مهتمة بحفلة العشاء هذه، ولم تكن مستعدة أن تقدم أي تنازلات.
كانت باربرا، في المقابل، ترتدي جونلة من القطن المصقول تمتزج فيها ألوان الأصفر والبرتقالي والنحاسي، وحزاما أسود مشدودا، وبلوزة سوداء مفتوحة الصدر، وأقراطا مستديرة كبيرة ورخيصة. كان أحد الأشياء في باربرا التي لم يكن موراي يفهمها ولم يكن فخورا بها - في مقابل الأشياء التي لم يكن يفهمها، لكنه كان فخورا بها - هو ميل باربرا هذا إلى ارتداء الملابس المثيرة الرخيصة؛ فتحات صدر كبيرة، أحزمة محكمة الربط، وبناطيل ضيقة جدا مثل تلك التي يرتديها مصارع الثيران. كانت تسير في شوارع والي مبرزة مفاتن جسدها، الذي كان جسدا مثيرا وفق نمط هذا الوقت - أو أحد نمطيه، ليس نمط أودري هيبورن بل نمط تينا لويز - وكان الإحراج الذي يتسبب فيه ذلك لموراي معقدا ولا يمكن وصفه؛ كان يشعر أنها تفعل شيئا لا يتلائم مع جديتها وتحفظها، نبرتها الساخرة. كانت تتصرف بطريقة ربما تنبأت بها أمه. (كانت أمه تقول: «أنا متأكدة أنها فتاة طيبة حقا، لكنني لست متأكدة تماما مما إذا كانت تلقت تعليما جيدا.» حتى مواري كان يدرك أن أمه لم تكن تشير إلى الكتب التي ربما قرأتها باربرا، أو إلى الدرجات التي كانت تحصل عليها في المدرسة.) كان الأمر الأكثر إزعاجا هو أنها كانت تتصرف على نحو لم يكن حتى يتوافق مع طبيعتها الجنسية، أو ما كان موراي يعرفه عنها، وكان عليه أن يفترض أنه يعرف كل شيء عنها. لم تكن شهوانية جدا في حقيقة الأمر. في بعض الأحيان كان يظن أنها تتظاهر بأنها شهوانية أكثر مما هي عليه في حقيقة الأمر. هذا ما كانت توحي به إليه الملابس المثيرة التي كانت ترتديها، وكان هذا هو السبب في كونه لم يستطع التحدث عن هذا الأمر لها. كان ثمة شيء غير مؤكد، خطر، مفرط في ملابسها. كان مستعدا للتغاضي عن أي أشياء سيئة في باربرا - ربما عدم تعاطفها أو عنادها - لكن كان لا يرغب في أن يتقبل فيها شيئا يجعلها تبدو حمقاء أو حزينة.
Page inconnue