من أفضل ما قيل عن الكتاب
صديقة شبابي
فايف بوينتس
مينسيتونج
أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط
البرتقال والتفاح
صور الثلج
خير ورحمة
آه، ماذا يجدي؟
بطريقة مختلفة
Page inconnue
وقت الباروكة
من أفضل ما قيل عن الكتاب
صديقة شبابي
فايف بوينتس
مينسيتونج
أمسكيني جيدا، لا تدعيني أسقط
البرتقال والتفاح
صور الثلج
خير ورحمة
آه، ماذا يجدي؟
Page inconnue
بطريقة مختلفة
وقت الباروكة
صديقة شبابي
صديقة شبابي
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد سعد طنطاوي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
Page inconnue
من أفضل ما قيل عن الكتاب
«أليس مونرو هي تشيكوف العصر، وستتفوق على معظم معاصريها.»
سينثيا أوزيك «كل مجموعة من مجموعات أليس مونرو القصصية تبرز براعة لغوية ودقة في الرؤية وقوة ووضوحا أخلاقيين، مما يجعل مسألة تفوقها على معاصريها فكرة لا تقاوم.»
صحيفة «شيكاجو تريبيون» «تمتلك قصص أليس مونرو كل العناصر التي يرغب فيها أي قارئ: النوادر، والتفاصيل اليومية البراقة، والشغف الجنسي، وتاريخ العائلات، والشخصيات غريبة الأطوار، والمناظر الطبيعية الجديدة، وحس الفكاهة، والحكمة.»
صحيفة «فيلادلفيا إنكوايرر» «أليس مونرو شخصية خفيفة الظل، وصاحبة أسلوب يتميز بالبراعة الشديدة. عباراتها وجملها - رغم أنها ليست مليئة بالصور البيانية - دائما ذات إيقاع مميز وإحكام رائع بنبرة ساخرة. إنها كاتبة من طراز نادر، لا تخشى الكتابة عن أشخاص في مثل ذكائها.»
مجلة «نيوزويك» «أليس مونرو أديبة عبقرية ... راصدة منقطعة النظير للطبيعة الإنسانية.»
صحيفة «صنداي تايمز» (لندن) «أليس مونرو واحدة من أبرع وأمهر الكتاب في الأدب القصصي المعاصر ... مجموعة رائعة من القصص القصيرة المصاغة بأسلوب بارع والمؤثرة بشكل عميق.»
ميتشيكو كاكوتاني
صحيفة «ذا نيويورك تايمز»
إلى ذكرى أمي
Page inconnue
صديقة شبابي
مهداة إلى آر جيه تي مع الشكر
اعتدت على أن أحلم بأمي، وعلى الرغم من أن التفاصيل كانت تختلف داخل الحلم، فكانت المفاجأة فيه دائما واحدة لا تتغير؛ يتوقف الحلم؛ نظرا - مثلما أظن - للبراءة المذهلة في آماله، ولليسر المفرط في غفرانه.
في الحلم أكون في نفس عمري الحقيقي، وأعيش الحياة التي أحياها فعلا، وأكتشف أن أمي لا تزال حية. (في حقيقة الأمر، توفيت أمي عندما كنت في أوائل العشرينيات، وكانت هي في أوائل الخمسينيات.) في بعض الأحيان، أجد نفسي في مطبخنا القديم؛ حيث كانت أمي تصنع عجينة الفطائر على المائدة، أو تغسل الصحون في وعاء التنظيف المتهالك كريمي اللون ذي الحافة الحمراء. وفي أحيان أخرى أقابلها مصادفة في الشارع، في أماكن لم أتوقع أن أراها فيها قط، ربما أراها تسير عبر بهو فندق أنيق، أو تقف في طابور في أحد المطارات. كانت تبدو في حالة صحية طيبة، لا تبدو شابة تماما، ولا تغيب عنها آثار مرض الشلل الذي ظلت أسيرته لعقد من الزمان أو أكثر قبل أن تفيض روحها، لكنها كانت تبدو أفضل حالا مما أستطيع أن أذكر، الأمر الذي كان يدهشني كثيرا. كانت تقول: «آه، أشعر برجفة بسيطة في ذراعي، وتيبس طفيف أعلى هذا الجانب من وجهي. الأمر مؤلم، لكني أتغلب عليه.»
استعدت حينها ما كنت قد فقدته في حياة اليقظة؛ استعدت حيوية وجه وصوت أمي قبل أن تصاب عضلات حلقها بالتيبس، وقبل أن تكتسي ملامحها بقناع شجي جامد خال من أي تعبير. كيف أستطيع أن أنسى - كذا كنت أحدث نفسي في الحلم - الدعابة العفوية التي كانت تحظى بها، دعابة مرحة لا ساخرة، وخفة الظل والرغبة الدائمة في التغيير والثقة؟ كنت سأقول إنني أشعر بالأسف؛ لأنني ما رأيتها منذ هذا الوقت الطويل، وهو ما يعني أنني لم أشعر بالذنب بل بالأسف؛ لأنني احتفظت بأفكار غريبة في رأسي بدلا من هذه الحقيقة الواقعة - وكان أكثر الأشياء غرابة ولطفا على الإطلاق بالنسبة لي إجابتها الصريحة الواضحة.
قالت أمي: «آه، حسنا، أن يحدث هذا متأخرا أفضل من ألا يحدث على الإطلاق. كنت متأكدة أني سأراك يوما ما.» •••
عندما كانت أمي شابة ذات وجه ناعم مرح، تغطي رجليها الممتلئتين جوارب حريرية رائعة غير شفافة (رأيت صورة فوتوغرافية لها مع تلاميذها)، كانت تدرس في إحدى مدارس الفصل الواحد، وتسمى مدرسة جريفز، في وادي أوتاوا. كانت المدرسة تقع على ناصية مزرعة تملكها عائلة جريفز، وهي مزرعة أجمل من أن تنتمي إلى هذا البلد؛ كانت هناك حقول جيدة التصريف، دون وجود أي من صخور العصر ما قبل الكمبري التي تشق طريقها عبر الأرض، وهناك نهر تنتصب أشجار الصفصاف على حوافه يمر بحذاء الأرض، وأجمة سكرية، وأكواخ خشبية، ومنزل كبير غير مزين لم يجر طلاء جدرانه الخشبية من قبل، بل تركت كي تتحلل. كانت أمي تقول: إن الخشب عندما يترك حتى يتحلل في وادي أوتاوا - ولا أعرف سببا لذلك - لم يكن لون الخشب يتحول إلى الرمادي بل إلى الأسود. كانت أمي تقول: إن ثمة شيئا - لا شك - في الهواء. كانت أمي تتحدث كثيرا عن وادي أوتاوا، موطنها - كانت أمي قد نشأت على مسافة عشرين ميلا تقريبا من مدرسة جريفز - في لهجة جازمة محيرة، مركزة على أشياء فيه تجعله مختلفا عن أي مكان آخر على وجه الأرض؛ حيث تتحول المنازل فيه إلى اللون الأسود، ويحظى الشراب المستخرج من أشجار القيقب بمذاق لا يضاهيه مذاق أي شراب من النوع نفسه في أي مكان آخر، وتسير الدببة الهوينى على مرمى البصر من المزارع. بالطبع، أصبت بخيبة الأمل عندما رأيت مؤخرا المكان؛ لم يكن واديا على الإطلاق، إذا كنت تعني بالوادي شقا بين مرتفعين، بل كان مزيجا من الحقول المنبسطة والصخور الخفيضة والأجمات الكثيفة والبحيرات الصغيرة؛ نوع من الريف المختلط، غير المنظم بلا انسجام طبيعي، مكان لا يمكن وصفه بسهولة.
لم تكن الأكواخ الخشبية والمنزل غير المطلي - وهي مظاهر شائعة في المزارع الفقيرة - في حالة عائلة جريفز علامة على الفقر بل على اعتقاد ما؛ كان آل جريفز يمتلكون المال لكنهم لم يكونوا ينفقونه، هذا ما قاله الناس لأمي. كان آل جريفز يكدحون، وكانوا أبعد ما يكونون عن الجهل، لكنهم كانوا رجعيين جدا؛ لم تكن لديهم سيارة أو كهرباء أو هاتف أو جرار، بينما ظن بعض الناس أن ذلك مرجعه إلى أنهم كاميرونيون - كانوا وحدهم في منطقة المدرسة ممن ينتمون إلى هذا المذهب الديني - لم تحرم كنيستهم في واقع الأمر (التي كانوا هم أنفسهم يطلقون عليها الكنيسة المشيخية الإصلاحية) المحركات أو الكهرباء أو أي اختراعات من هذا النوع، بل فقط ألعاب الورق والرقص ومشاهدة الأفلام، وفي أيام الآحاد أي نشاط غير ديني أو غير حتمي.
لم تستطع أمي أن تحدد على وجه اليقين طبيعة الكاميرونيين، أو لماذا كان يطلق عليهم هذا الاسم، مجرد مذهب غريب وارد من اسكتلندا، مثلما كانت تقول في ثقة استنادا إلى المذهب الإنجيلي المتسامح الذي كانت تدين به. كانت المدرسة في المدرسة تسكن دوما في مقابل أجر لدى آل جريفز، وكانت أمي تشعر بشيء من الرعب لفكرة أنها ستعيش في ذلك المنزل الأسود الخشبي الذي تصاب الحياة فيه بالشلل أيام الآحاد، وتنيره المصابيح المضاءة بزيت الفحم، وتسكنه الأفكار البدائية. لكن كانت أمي مخطوبة في ذلك الوقت، وكانت ترغب في تجهيز مستلزمات عرسها بدلا من أن تمضي وقتا طيبا في التسكع في أرجاء البلدة وحسب، ورأت أنها تستطيع أن تعود إلى المنزل يوم أحد واحد كل ثلاثة أيام آحاد. (في أيام الآحاد في منزل آل جريفز، يمكن أن توقد نارا للتدفئة لا للطهي، ولا يمكنك أبدا غلي الماء في القدر لعمل شاي، ولا يجدر بك كتابة خطاب أو سحق ذبابة. على أي حال، كانت أمي معفاة كما اتضح لاحقا من هذه القواعد. كانت فلورا جريفز تقول ساخرة من أمي: «لا، لا، لا تشملك هذه الأمور، ما عليك سوى عمل ما أنت معتادة عليه.» بعد فترة، صارت أمي وفلورا أصدقاء إلى درجة أنها لم تعد حتى تذهب إلى منزلها أيام الآحاد مثلما قررت.)
كانت فلورا وإيلي الأختين المتبقيتين من العائلة؛ كانت إيلي متزوجة لرجل يدعى روبرت ديل، الذي كان يعيش هناك وكان يدير المزرعة، لكنه لم يفلح في تغيير اسمها في ذهن أحد إلى مزرعة ديل. من خلال الطريقة التي كان الناس يتحدثون بها، كانت أمي تتوقع أن تكون الأختان جريفز وروبرت ديل في منتصف العمر على الأقل، لكن إيلي، الأخت الصغرى، كانت لا تزيد عن ثلاثين عاما، وكانت فلورا أكبر منها بسبع أو ثماني سنوات، ربما كان عمر روبرت ديل بين الاثنتين.
Page inconnue
كان المنزل مقسوما بطريقة غير متوقعة. لم يكن الزوجان يعيشان مع فلورا؛ فعند وقت زواجهما، تركت فلورا لهما غرفة الاستقبال وغرفة الطعام، وغرف النوم الأمامية، والسلم، والمطبخ الشتوي. لم تكن ثمة حاجة لاتخاذ قرار بشأن الحمام؛ نظرا لعدم وجوده. احتفظت فلورا بالمطبخ الصيفي، ذي السقف المفتوح والحوائط الطوبية غير المصقولة، وتم تحويل حجرة المؤن القديمة إلى غرفة جلوس وغرفة طعام ضيقة، وغرفتين خلفيتين، خصصت إحداهما لأمي. كانت المدرسة التي تعمل في المدرسة تعيش مع فلورا، في الجزء الأفقر من المنزل، لكن لم تعبأ أمي بذلك. أعجبت أمي على الفور بفلورا وروحها المرحة، على الرغم من الصمت والجو المرضي في الغرف الأمامية. في جزء فلورا، لم يكن صحيحا أن جميع وسائل الترفيه كانت ممنوعة؛ كانت فلورا تمتلك لعبة كروكينول، وقد علمت أمي كيف تلعبها.
بطبيعة الحال، جرى عمل هذا التقسيم باعتبار أن روبرت وإيلي سيكونان عائلة، وباعتبار أنهما سيحتاجان لمساحة أكبر. لم يحدث ذلك؛ ظل روبرت وإيلي متزوجين مدة اثني عشر عاما ولم يعش طفل لهما. كانت إيلي تحمل مرارا وتكرارا، لكن مات طفلان عند الولادة، وأجهضت في باقي المرات الأخرى. خلال عام أمي الأول في المزرعة، كانت إيلي فيما يبدو تقضي وقتا أطول في الفراش، وكانت أمي تظن أنها حبلى مرة أخرى، لكن لم يشر أحد إلى ذلك قط؛ لم يكن مثل هؤلاء ليتحدثوا عن أمور كهذه. لم يكن من الممكن أن تعرف شيئا من شكل إيلي عندما كانت تقوم من السرير وتتجول في المكان؛ لأن مظهر جسدها كان ممشوقا واهنا وبدا صدرها مترهلا. كانت تفوح من إيلي رائحة المرض، وكانت تتذمر بطريقة طفولية من كل شيء. كانت فلورا تعتني بها وتقوم بجميع الأعمال. كانت فلورا تنظف الملابس وترتب الغرف وتطهو الوجبات التي تقدم في جانبي المنزل، فضلا عن مساعدة روبرت في حلب الماشية وغربلة المحاصيل. كانت فلورا تستيقظ قبل شروق الشمس ولم يكن يبدو أنها تكل قط. في الربيع الأول الذي كانت أمي موجودة خلاله في المزرعة، جرى البدء في عملية تنظيف واسعة، خلالها ارتقت فلورا السلالم الخشبية بنفسها، وفكت النوافذ ونظفتها ووضعتها في أحد الأركان، وأخرجت الأثاث كله من غرفة تلو أخرى، بحيث تستطيع تنظيف القطع الخشبية والأرضيات. غسلت فلورا جميع الصحون والأكواب في الخزائن المفترض أنها نظيفة في الأساس، وقامت بتنظيف جميع الأواني والملاعق بالماء المغلي. تملكتها هذه الحاجة إلى التنظيف والطاقة مما حال دون نومها؛ فكانت أمي تستيقظ على صوت تفكيك أنابيب تهوية الموقد، أو المقشة الملفوفة في فوطة أواني وهي تزيل شبكات العناكب المغطاة بالدخان. كان فيض من ضوء باهر يأتي عبر النوافذ المغسولة منزوعة الستائر. كانت نظافة المكان مذهلة. صارت أمي تنام الآن على ملاءات جرى تبييضها وتنشيتها على نحو جعل حكة تسري في جسدها. كانت إيلي المريضة تشتكي يوميا من رائحة سوائل التلميع ومساحيق التنظيف. كانت يدا فلورا خشنتين، لكن مزاجها العام ظل ممتازا. أضفى منديلها وميدعتها وملابس العمل المتسعة الخاصة بروبرت التي ارتدتها أثناء عملية ارتقاء السلالم مظهر الممثل الكوميدي، وهو ما يدل على الخفة وصعوبة توقع ما يمكن أن تفعله في اللحظة التالية.
أطلقت عليها أمي الدرويش الدوار.
قالت لها أمي: «أنت نموذج للدرويش الدوار.» فتوقفت فلورا فورا عن العمل؛ إذ كانت تريد أن تعرف المقصود من ذلك. سارعت أمي وشرحت لها، على الرغم من خوفها من أن تجرح المشاعر الدينية لديها. (لم تكن مشاعر دينية تماما؛ لا يمكن أن تسميها كذلك، قل التزام ديني.) بالطبع، لم يكن الأمر كذلك، لم يكن ثمة غلظة أو احتراز خيلائي في تدين فلورا. لم تكن فلورا تخشى الوثنيين؛ فقد كانت دوما تعيش وسطهم. أعجبتها فكرة أن تكون درويشا وذهبت إلى أختها تخبرها عن ذلك. «هل تعرفين ماذا قالت المدرسة عني؟»
كانت فلورا وإيلي امرأتين ذواتي شعر أسود، وعينين سوداوين، وكانتا طويلتين، وأكتافهما غير عريضة، وأرجلهما طويلة. بينما كانت إيلي - بالطبع - حطاما، كانت فلورا لا تزال منتصبة القامة ورشيقة. كانت أمي تقول إنها يمكن أن تبدو مثل ملكة، وهي تركب عند ذهابها إلى المدينة في العربة الكبيرة التي كانتا تمتلكانها. عندما كانت هي وروبرت يذهبان إلى الكنيسة، كانا يركبان عربة صغيرة أو زلاجة يجرها حصان، لكنهما عندما كانا يذهبان إلى المدينة، كانا ينقلان عادة أجولة من الصوف - كان لديهما بعض الخراف - أو من محاصيل المزرعة لبيعها، وكانا يجلبان المؤن إلى المنزل عند عودتهما. لم يقوما بهذه الرحلة التي لا تزيد عن بضعة أميال كثيرا. كان روبرت يركب في المقدمة لقيادة الحصان، ورغم أن فلورا كانت تستطيع قيادة أي حصان جيدا، كان الرجل هو الذي يجب أن يقود دوما. كانت فلورا تقف في الخلف ممسكة بالأجولة. كانت تقف في الرحلة من المدينة وإليها، محافظة على توازنها، ومرتدية قبعتها السوداء - كان الأمر مضحكا وإن لم يكن تماما. كانت أمي ترى أنها تبدو مثل ملكة غجرية، بشعرها الأسود وبشرتها التي كانت تبدو دوما وكأنها قد اسمرت نتيجة تعرضها للشمس، وسكينتها الرقيقة والحازمة في آن واحد. بطبيعة الحال، كان ينقص فلورا الأساور الذهبية والملابس البراقة. كانت أمي تحسدها على رشاقة جسدها، وجمال عظام وجنتيها. •••
عند عودتها في الخريف في السنة الثانية، علمت أمي بأمر إيلي.
قالت فلورا: «أختي لديها ورم.» لم يتحدث أحد عن وجود سرطان لديها.
كانت أمي قد سمعت بذلك من قبل، كان الناس يشكون في ذلك. كانت أمي تعرف الكثير من الأشخاص في المنطقة حينها؛ فقد نشأت علاقة صداقة قوية بين أمي وامرأة شابة كانت تعمل في مكتب البريد، وصارت هذه المرأة إحدى وصيفات أمي في حفل زفافها لاحقا. سردت قصة فلورا وإيلي وروبرت - أو كل ما كان يعرف الناس عنهم - في صور متعددة، لم تشعر أمي أنها كانت تستمع إلى نميمة؛ نظرا لأنها كانت على استعداد دوما للدفاع عند سماعها أي انتقاد لفلورا - حيث كانت أمي لا تسمح بذلك. لكن لم ينتقد أحد فلورا، كان الجميع يقول إن فلورا كانت تتصرف مثل القديسة، وحتى عندما كانت تتطرف في تصرفاتها، مثلما فعلت عند تقسيم المنزل، كان سلوكها راقيا مثل القديسات.
جاء روبرت للعمل في مزرعة آل جريفز قبل شهور قليلة من وفاة والد الفتاتين، كانا يعرفانه قبلا من الكنيسة. (كانت أمي تقول: إن تلك الكنيسة، التي ذهبت إليها مرة بدافع الفضول، عبارة عن مبنى كئيب يوجد على بعد أميال على الجانب الآخر من المدينة؛ حيث لا يوجد أرغن أو بيانو، وكان هناك زجاج خال من أي رسوم في النوافذ، وقس هرم واهن تستغرق موعظته عدة ساعات، ورجل يقرع شوكة رنانة أثناء الغناء.) كان روبرت قد غادر اسكتلندا وكان في طريقه غربا. كان قد توقف لدى أقارب أو أشخاص يعرفهم؛ أعضاء في الكنيسة قليلة العدد. وقد جاء روبرت إلى منزل آل جريفز بهدف كسب بعض المال على الأرجح. وسرعان ما تمت خطبته إلى فلورا. بينما لم يكن بوسعهما الذهاب إلى حفلات الرقص أو إلى حفلات لعب الورق مثل الخطباء الآخرين، كانا يذهبان في نزهات سير طويلة. كانت إيلي - بصورة غير رسمية - هي المرافقة للخطيبين أمام الناس التي تراقب حركاتهما. كانت إيلي حينها فتاة استفزازية، وجامحة، وطويلة الشعر، ووقحة، وطفولية، وممتلئة بالطاقة الوثابة. كانت تجري عبر التلال وتضرب بقوة سيقان البوصير، وهي تصرخ وتقفز وتتظاهر بأنها كالمحارب الذي على صهوة جواد، أو الجواد ذاته. كان ذلك عندما كانت تبلغ خمسة عشر، أو ستة عشر عاما. لم يكن يستطيع أحد سوى فلورا السيطرة عليها، وعموما كانت فلورا تسخر منها فقط، وكانت معتادة على تصرفاتها بحيث لم تتساءل عما إذا كان ثمة خطب في عقلها. كانتا مغرمتين إحداهما بالأخرى بصورة مدهشة. كانت إيلي، بجسدها الطويل النحيف، ووجهها الطويل الشاحب، بمثابة نسخة من فلورا؛ النسخة التي تراها عادة في العائلات، التي بسبب وجود بعض الاختلاف أو المبالغة في الملامح أو اللون، كانت وسامة شخص تتحول إلى قبح - أو ما يشبه قبحا - في الشخص الآخر. لكن لم تكن إيلي تغار من ذلك، كانت تحب تمشيط شعر فلورا وربطه معا. كانتا تقضيان معا أوقاتا عظيمة وهما تغسلان إحداهما شعر الأخرى. كانتا قريبتين إحداهما من الأخرى جدا، وكانت العلاقة بينهما مثل بنت وأمها؛ لذا، عندما خطب روبرت فلورا، أو خطبته فلورا - لم يعلم أحد كيف تطورت الأمور بينهما - كان يجب ضم إيلي إلى صحبتهما. لم تظهر إيلي أي كراهية تجاه روبرت، لكنها كانت تتبعهما وتقاطعهما أثناء سيرهما، كانت تختبئ وراء الأجمات وتفاجئهما وهما معا، أو تتسلل خلفهما في خفة بحيث تتمكن من الانقضاض عليهما وتفاجئهما. كان الناس يرونها تفعل ذلك، وكانوا يسمعون نكاتها. كانت إيلي دائما بالغة السوء في المزح، وفي بعض الأحيان أفضى بها ذلك إلى مشكلات مع والدها، غير أن فلورا قامت بحمايتها. كانت تضع الشوك في فراش روبرت، وكانت تضع السكين والشوكة بشكل معكوس في موضع جلوسه على المائدة، كانت تبدل دلاء اللبن بحيث تعطيه الدلو القديم المثقوب. كان روبرت، من أجل إرضاء فلورا، لا يغضبها.
جعل الأب فلورا وروبرت يحددان يوم الزفاف قبل عام كامل منه، وبعد وفاته لم يقدما موعده قط. ظل روبرت يعيش في المنزل. لم يكن أحد يعرف كيف يمكن إخبار فلورا أن هذا أمر مشين، أو يبدو مشينا. كانت فلورا ستكتفي بالسؤال عن السبب. بدلا من تقديم موعد الزفاف، قامت فلورا بتأخيره، من الربيع التالي إلى أوائل الخريف بحيث يمر عام كامل بين يوم الزفاف ويوم وفاة والدها. عام بين زفاف وجنازة - بدا ذلك مناسبا لها. كانت تثق تماما في صبر روبرت وفي عفتها.
Page inconnue
أو على الأقل كانت تثق في نفسها. حدثت جلبة في الشتاء؛ كانت إيلي تتقيأ وتبكي، وهربت واختبأت في أكوام القش، وكانت تصرخ عندما وجدوها وجذبوها خارجها، وكانت تقفز على أرضية الحظيرة، وتجري في دوائر، وتهيم على وجهها في الجليد. لقد فقدت إيلي صوابها. كان على فلورا الاتصال بالطبيب. أخبرت فلورا الطبيب أن دورتها الشهرية توقفت، فهل أدى احتباس الدم داخلها إلى إصابتها بالجنون؟ كان على روبرت الإمساك بها وتقييدها، ووضعها هو وفلورا في الفراش. لم تكن ترغب في تناول الطعام، كانت تهز رأسها فقط من جانب إلى آخر، وهي تصرخ، كان الأمر يبدو كما لو أنها ستموت دون أن تتفوه بكلمة. ظهرت الحقيقة بطريقة ما، لا عبر الطبيب، الذي لم يستطع الاقتراب منها بما يكفي لفحصها بسبب حركاتها العنيفة. بل على الأرجح كان روبرت هو من اعترف. أخيرا، استطاعت فلورا أن تلتقط بعض أطراف الحقيقة، وتعاملت مع الأمر بنبل شديد. كان يجب أن يكون ثمة زفاف الآن، وإن لم يكن الزفاف المقرر.
زفاف بدون كعكة، ولا ملابس جديدة، ولا رحلة شهر عسل، ولا تهاني، فقط زيارة مشينة سريعة إلى مقر إقامة القس لإتمام مراسم الزواج. اعتقد بعض الأشخاص، عندما رأوا اسمي الزوجين على الأوراق، أن محرر عقد الزواج خلط بين اسمي الأختين، ظنوا أن العروس من المفترض أن تكون فلورا. زفاف سريع لفلورا! لا، كانت فلورا هي من قامت بكي بذلة روبرت - لا بد أنها قامت بذلك - وساعدت إيلي على النهوض من الفراش وحممتها وجعلتها تبدو في صورة طيبة. كانت فلورا هي من انتقى زهرة إبرة الراعي من النافذة ووضعتها في فستان أختها، ولم تنزعها إيلي. كانت إيلي ضعيفة آنذاك، ولم تعد تقاوم في عنف أو تبكي. تركت إيلي فلورا تعدل من هندامها، وتركت نفسها تتزوج، ولم تعد شرسة منذ ذلك الحين.
قسمت فلورا المنزل. ساعدت بنفسها روبرت على بناء الهياكل الضرورية للتقسيم. حملت إيلي واستمر الحمل حتى نهاية المدة المحددة للوضع - لم يدع أحد أن ولادة الطفل كانت مبكرة - لكن ولد الطفل ميتا بعد عملية ولادة طويلة وعسيرة. ربما أضرت إيلي بالطفل عندما قفزت من أعلى الحظيرة ووقعت وأخذت تتدحرج على الجليد وأخذت تضرب نفسها، حتى لو لم تكن قد فعلت ذلك، كان الناس سيتوقعون حدوث شيء خطأ، مع هذا الطفل أو ربما مع أي طفل آخر ستحمل به لاحقا. ينزل الرب عقابه بالزيجات السريعة - ليس فقط المشيخيون هم من كانوا يعتقدون ذلك، بل تقريبا الجميع. كان يعتقد أن الرب يعاقب الزنا بأطفال يتوفون عند ولادتهم، أو أطفال يولدون بلهاء، أو أطفال لهم شفة أرنبية، أو أطراف ضامرة، أو حنف في الأقدام .
في هذه الحالة تواصل العقاب. أجهضت إيلي مرة بعد أخرى، ثم توفي طفل آخر عند الولادة، ثم أجهضت مجددا أكثر من مرة. كانت تحمل بشكل مستمر، وكانت فترات حملها مليئة بنوبات قيء كانت تستمر أياما، ونوبات صداع، وتقلصات، ونوبات دوار. كانت حالات الإجهاض مستنزفة لجسمها مثل حالات الحمل الكاملة. لم تستطع إيلي القيام بواجباتها المنزلية؛ كانت تسير في المكان مستندة على المقاعد. مرت فترة صمتها الجامد، وصارت شكاءة؛ فإذا جاء أحد لزيارتها، كانت تتحدث عن تفاصيل نوبات الصداع التي كانت تصيبها، أو تشير إلى نوبة الإغماء الأخيرة التي تعرضت لها، أو حتى - أمام الرجال، وأمام الفتيات غير المتزوجات أو الأطفال - تحكي تفصيلا عما أسمته فلورا «حالات خيبة الأمل الشديدة» التي كانت تتعرض لها. وعندما كان الحاضرون يغيرون الموضوع أو يأخذون الأطفال بعيدا، كانت تتجهم. كانت تطلب علاجا جديدا، وتنتقد الطبيب انتقادا لاذعا، وكانت تلقي باللائمة على فلورا. كانت تتهم فلورا بغسيل الأطباق في جلبة شديدة حتى تزعجها، وبجذب شعرها - شعر إيلي - بشدة عند تمشيط شعرها، وباستبدال مزيج الماء والعسل في شح واضح بدوائها الحقيقي. مهما قالت، كانت فلورا تهدئ من روعها، وكل من كان يحضر إلى المنزل كان يحكي حكايات مثل هذه. كانت فلورا تقول: «أين فتاتي الصغيرة؟ أين إيلي؟ هذه ليست إيلي التي أعرفها، هذا شخص سيئ الطباع حل محلها!»
في أمسيات الشتاء، بعد مساعدة روبرت في القيام بأعمال المزرعة، كانت فلورا تغتسل وتغير ملابسها ثم تذهب إلى إيلي لتقرأ لها لتنام. ربما كانت أمي تزورهما، مصطحبة معها أي أعمال حياكة كانت تمارسها، كجزء من تجهيزات عرسها. كان فراش إيلي موضوعا في غرفة الطعام الكبيرة، حيث كان هناك مصباح غازي فوق المائدة. كانت أمي تجلس على جانب من المائدة تخيط، وكانت فلورا تجلس على الجانب الآخر تقرأ بصوت مرتفع. في بعض الأحيان كانت إيلي تقول: «لا أستطيع أن أسمعك.» أو إذا كانت فلورا قد توقفت لبرهة لترتاح، فكانت إيلي تقول: «لم أنم بعد.»
ماذا كانت فلورا تقرأ؟ قصصا حول الحياة الاسكتلندية، لم تكن أعمالا كلاسيكية، بل قصصا حول القنافذ والجدات المضحكات. كان اسم الكتاب الوحيد الذي استطاعت أمي تذكره هو «وي ماكجريجور». لم تستطع أمي متابعة القصص جيدا، أو الضحك عندما كانت فلورا تضحك وإيلي تتذمر، نظرا للهجة الاسكتلندية أو طريقة القراءة بهذه اللكنة الصعبة. فاجأ أمي أن فلورا استطاعت عمل ذلك؛ فلم تكن تلك هي الطريقة التي كانت تتحدث فلورا بها، على الإطلاق. (لكن ألم تكن تلك هي الطريقة التي كان روبرت يتحدث بها؟ ربما لهذا السبب لم تخبرني أمي بأي شيء قاله روبرت، ولم تتحدث عنه كجزء من المشهد على الإطلاق. لا بد أنه كان هناك، لا بد أنه كان يجلس هناك في الغرفة، فقد كانوا يدفئون فقط الغرفة الرئيسية في المنزل. أراه أسود الشعر، عريض المنكبين، بقوة حصان يعمل على حرث الأرض، ونفس نوع الجمال الكالح المكبوت الذي يتمتع به.)
ثم كانت فلورا تقول: «يكفي هذا الليلة.» كانت تنتقي كتابا آخر، كتابا قديما كتبه واعظ ينتمي إلى مذهبهم. كان في الكتاب أشياء لم تسمع أمي بها قط. أي أشياء؟ لم تستطع أن تفصح. كل الأشياء في مذهبهم العتيق الرجعي. كان يجعل هذا إيلي تخلد إلى النوم، أو يجعلها تتظاهر أنها نائمة، بعد قراءة صفحتين.
كل هذه المنظومة من الأخيار والملعونين، لا بد أنها ما كانت أمي تقصده؛ كل المناقشات حول الوهم وحتمية الإرادة الحرة: القدر، والخلاص الغامض، مجموعة المعتقدات المتداخلة والمتناقضة التي تتحدث عن العذاب والاستسلام، لكن التي يرى البعض أنهم لا يمكنهم مقاومتها. كانت أمي تستطيع مقاومة ذلك. لم يكن مذهبها متشددا، وكانت معنوياتها آنذاك مرتفعة. إن أمي لم تكن لتشغف بتلك الأفكار على الإطلاق.
لكن كانت أمي تتساءل (في صمت): ما هذا الذي كان يقرأ لامرأة تحتضر؟ كان هذا أقوى انتقاد أخذته أمي على فلورا.
لم ترد الإجابة - إن هذا هو الشيء الوحيد، إذا كنت مؤمنا متدينا - إلى خاطرها قط. •••
Page inconnue
بحلول الربيع، كانت قد وصلت ممرضة. كانت هذه هي الطريقة التي كانت الأشياء تتم من خلالها آنذاك. كان الناس يموتون في منازلهم، وكانوا يستعينون في مرضهم الأخير بممرضات تأتيهم في منازلهم لعلاجهم.
كان اسم الممرضة أودري أتكينسون، وكانت امرأة بدينة ترتدي مشدات مشدودة مثل أطواق البراميل، ذات شعر مموج بلون الشمعدان النحاسي، وفم يحدد ملامحه طلاء شفاه يتجاوز حدوده الضيقة. جاءت في سيارة إلى فناء المنزل - سيارتها الخاصة، سيارة داكنة الخضرة، لامعة، وفارهة. انتشرت الأنباء حول أودري أتكينسون وسيارتها سريعا. ثارت الأسئلة: من أين جاءت بالمال؟ هل غير أحد الحمقى الأثرياء وصيته لصالحها؟ هل قامت بابتزاز أحد؟ أم هل سرقت حفنة من الأوراق المالية كانت مخفية تحت مرتبة فراش أحد الموتى؟ كيف يمكن الوثوق بها؟
كانت سيارتها هي السيارة الأولى التي تقبع في فناء آل جريفز ليلا.
قالت أودري أتكينسون إنها لم يجر استدعاؤها من قبل لنظر إحدى الحالات في منزل بدائي كذلك المنزل. قالت إن الأمر كان يفوق تصورها؛ فكيف يمكن أن يعيش أناس على هذا النحو؟
قالت لأمي: «حتى لا يرجع ذلك إلى أنهم فقراء، أليس الأمر كذلك؟ هذا ما أستطيع أن أفهمه، أو لا يرجع حتى الأمر إلى مذهبهم. إذن، ما مرد الأمر؟ إنهم لا يعبئون!»
حاولت في البداية أن تقترب من أمي، كما لو كانتا ستصبحان حليفتين طبيعيتين في هذا المكان الموحش. تحدثت كما لو كانتا في العمر نفسه - كلتاهما أنيقة، وذكية، تحب قضاء وقت طيب، وتمتلك أفكارا عصرية. عرضت على أمي أن تعلمها قيادة السيارة، وعرضت على أمي سجائر، أغرت أمي فكرة تعلم قيادة السيارة أكثر من تدخين السجائر، لكنها رفضت وكانت ستنتظر زوجها كي يعلمها. رفعت أودري أتكينسون حاجبيها البرتقاليين المائلين إلى اللون الوردي قبالة أمي خلف ظهر فلورا، وكانت أمي في شدة الغضب؛ كانت أمي تكره الممرضات أكثر مما كانت فلورا تكرههن.
قالت أمي: «كنت أعرف حقيقة أمرها، لكن فلورا لم تكن تعرفها.» كانت أمي تعني أنها لمحت آثار حياة رخيصة، ربما حتى بارات، ورجال سيئي الأخلاق، وصفقات صعبة في الحياة، وهي أشياء كانت فلورا من النقاء الداخلي بحيث لا تلحظها.
بدأت فلورا في عملية التنظيف الكبرى مجددا. نشرت فلورا الستائر فوق العوارض الخشبية، وقامت بنفض الأبسطة المنشورة، وقفزت صاعدة السلم لتنظيف الحواف العليا من الأتربة، لكنها كانت تتعطل طوال الوقت بسبب اعتراضات الممرضة أتكينسون.
كانت الممرضة أتكينسون تقول في أدب مصطنع: «كنت أتساءل إذا كنا نستطيع أن نقلل من هذه الجلبة؟ أنا لا أطلب إلا راحة مريضتي.» كانت دوما تتحدث عن إيلي باعتبارها «مريضتي»، وكانت تتظاهر أنها الوحيدة التي تحميها وتجبر الآخرين على احترامها، لكنها لم تكن تظهر احتراما كبيرا لإيلي. كانت تقول، وهي تجر المخلوقة المسكينة إلى وسادتها: «هيلا هوب.» وكانت تقول لإيلي إنها لن تسمح بالتذمر والشكاية. كانت تقول لها: «أنت لا تساعدين نفسك البتة هكذا، وبالتأكيد لا تساعدينني على أن آتي إليك سريعا. ربما يجب عليك أن تتعلمي أن تتحكمي في نفسك.» هكذا كانت تصيح منفعلة في وجه إيلي مؤنبة إياها عندما كانت ترى تقرحات إيلي في الفراش، كما لو أن ذلك كان سببا آخر في وصم المنزل. كانت تطلب مستحضرات لتنظيف الجلد، ومراهم وصابونا باهظ الثمن، كلها، بلا شك، لوقاية جلدها هي، الذي زعمت تضرره من الماء العسر. (كيف يكون الماء عسرا؟! كانت أمي تسأل - التي كانت تدافع عن أهل هذا البيت مثلما لم يفعل أحد: كيف يكون الماء عسرا وهو يأتي من برميل ماء المطر؟!)
كانت الممرضة أتكينسون تريد قشدة، أيضا كانت تقول: إن عليهم الاحتفاظ بكمية منها، لا بيعها بالكامل إلى معمل الألبان. أرادت أتكينسون أن تصنع أصنافا مغذية من الحساء والبودنج لمريضتها. صنعت بالفعل بودنج وجيلي من خلائط معلبة لم يعرفها هذا المنزل من قبل. كانت أمي مقتنعة أنها كانت تأكل كل ما تعده.
Page inconnue
كانت فلورا لا تزال تقرأ لإيلي، لكنها كانت تقرأ مقتطفات قصيرة من الكتاب المقدس. عندما كانت تفرغ من قراءتها وتنتصب واقفة، كانت إيلي تحاول التعلق بها. كانت إيلي تنتحب، وفي بعض الأحيان كانت تشكو شكاوى مضحكة؛ كانت تقول: إن ثمة بقرة عائدة إلى المنزل، تحاول دخول الغرفة وقتلها.
كانت الممرضة أتكينسون تقول: «عادة تراودهم بعض الأفكار كتلك. لا يجب أن تستجيبي لها وإلا لن تدعك تذهبين ليلا أو نهارا. هكذا هم، لا يفكرون إلا في أنفسهم. الآن، عندما أكون وحدي معها، تسيطر على نفسها جيدا، لا أجد أي مشكلات على الإطلاق، لكن عندما تكونين هنا، أجدني أواجه متاعب مرة أخرى؛ لأنها تراك وتنزعج. هل ترغبين في أن تجعلي عملي أكثر صعوبة؟ أعني أنك أحضرتني هنا لأرعاها، أليس كذلك؟»
كانت فلورا تقول: «إيلي، الآن عزيزتي إيلي يجب أن أذهب.» وكانت تقول للممرضة: «أتفهم الأمر. أتفهم أنك يجب أن تكوني مسئولة عن الأمور هنا، وأنا معجبة بك للعمل الرائع الذي تقومين به. يجب أن تتحلي في عملك بكثير من الصبر والعطف.»
كانت أمي تتعجب لذلك؛ هل كانت فلورا لا ترى الأمور على حقيقتها حقا، أو تراها كانت تأمل من خلال هذا الثناء غير المستحق أن تحث الممرضة أتكينسون على أن تتحلى بالصبر والعطف اللذين لا تتحلى بهما؟ كانت الممرضة أتكينسون فظة المشاعر، ولا ترى في نفسها أية نقيصة، مما يصعب معه أن تقع في شرك محاولة كتلك.
كانت أمي تقول: «هذا عمل صعب، لا شك في ذلك، ولا يستطيع كثيرون القيام به. إنها ليست كتلك الممرضات في المستشفى اللائي يتوفر لهن كل شيء يحتاجونه دون مشقة.» لم يكن لديها وقت كثير للمناقشة - كانت تحاول الاستماع إلى برنامج «ميك بيليف بولروم» في الراديو الخاص بها الذي يعمل بالبطاريات.
كانت أمي مشغولة باختبارات نهاية العام وتمارين شهر يونيو في المدرسة. كانت تستعد لزفافها في شهر يوليو. جاء الأصدقاء في سيارات واصطحبوها إلى الخياطة، وإلى الحفلات، ولتختار شكل بطاقات الدعوة التي ترغب فيها ولشراء تورتة الزفاف. ظهرت زهور الليلك، وطالت الليالي، وعادت الطيور وعششت، وكانت أمي تتألق أكثر فأكثر في أعين الآخرين، وهي على وشك الانطلاق إلى مغامرة الزواج الجليلة الرائعة. كان فستانها سيزين بزهور من الحرير، وكان وشاح وجهها سيزين بطوق من اللؤلؤ المنمق. كانت أمي تنتمي إلى الجيل الأول من الشابات اللائي كن يدخرن أموالهن لحفلات زفافهن - حفلات أكثر أبهة مما كان آباؤهن يستطيعون تحمل تكلفتها.
في أمسيتها الأخيرة، جاءت الصديقة من مكتب البريد لاصطحابها، ومعها ملابسها وكتبها والأشياء التي صنعتها لتجهيزات عرسها، و«الهدايا» التي أعطاها تلاميذها وآخرون إياها. ثار هرج ومرج وضحك كثير حول وضع كل هذه الأشياء في السيارة. خرجت فلورا من المنزل وساعدت أمي في وضع أشيائها. قالت فلورا ضاحكة: هذه المرأة التي في طريقها إلى الزواج مزعجة أكثر مما كنت أظن. أهدت فلورا أمي مفرشا للتسريحة، كانت قد غزلته سرا. كان لا يمكن منع الممرضة أتكينسون من المشاركة في مناسبة مهمة؛ قدمت زجاجة عطر كهدية. وقفت فلورا على المنحدر إلى جانب المنزل وهي تلوح مودعة أمي. كانت قد جرت دعوتها إلى الزفاف، لكنها بالطبع قالت إنها لن تستطيع المجيء، لا تستطيع «الخروج» في مثل ذلك الوقت. كانت المرة الأخيرة على الإطلاق التي رأت أمي فيها فلورا هي هذه المرة التي كانت فلورا تقف فيها وحيدة، تلوح في حماس مرتدية ميدعة التنظيف وعصابة الرأس، على المنحدر الأخضر إلى جانب المنزل أسود الجدران، في ضوء المساء.
قالت الصديقة من مكتب البريد: «حسنا، ربما ستحظى الآن بما لم تكن لتحظى به في المرة الأولى؛ ربما سيتمكنان الآن من الزواج. هل هي كبيرة سنا على أن تكون عائلة؟ كم عمرها على أي حال؟»
كانت أمي تعتقد أن هذه طريقة فظة للغاية للحديث عن فلورا، وأجابت أنها لا تعرف. في المقابل، كانت تقر في قرارة نفسها أنها كانت تفكر في الشيء ذاته. •••
عندما تزوجت واستقرت في بيتها، على مسافة ثلاثمائة ميل، تلقت أمي خطابا من فلورا. ماتت إيلي، ماتت متمسكة بمذهبها، مثلما قالت فلورا، راضية بوفاتها. ظلت الممرضة أتكينسون مقيمة في المنزل لفترة، حتى حان موعد مغادرتها لمتابعة حالتها التالية. كان ذلك في أواخر الصيف.
Page inconnue
لم ترد أخبار من فلورا عما حدث لاحقا. عندما كتبت إليها في الكريسماس، بدت كما لو كانت تأخذ على محمل التسليم أن أخبارها تنقل إليها وأنها لن تأتي بجديد.
كتبت فلورا قائلة: «لعلك سمعت بالتأكيد ... أن روبرت والممرضة أتكينسون تزوجا، هما يعيشان هنا، في الجزء الخاص بروبرت في المنزل، يقومان بإجراء بعض الإصلاحات فيه ليلائمهما. لعل من قبيل سوء الأدب أن أطلق عليها الممرضة أتكينسون، مثلما أرى أنني دعيتها توا، كان يجب أن أسميها أودري.»
بالطبع، كانت صديقة مكتب البريد قد كتبت إلى أمي، مثلما فعل آخرون. كانت صدمة وفضيحة مروعتين، ومسألة أثارت المقاطعة بأسرها؛ نظرا لغرابة وسرية زواج روبرت مثل زواجه الأول (وإن لم يكن للسبب نفسه بالتأكيد)، وزرع الممرضة أتكينسون بصورة دائمة في المقاطعة، وخسارة فلورا للمرة الثانية، لم يسمع أحد بوجود أي نوع من المغازلة بين الاثنين، وتساءلوا: كيف استطاعت المرأة أن تغريه بالزواج منها؟ هل وعدته بإنجاب أطفال، كاذبة عليه بشأن عمرها؟
لم تنته المفاجآت بالزواج بأي حال من الأحوال؛ فلم تضع العروس وقتا واستكملت على الفور «إجراء الإصلاحات» التي ذكرتها فلورا، ثم جاءت الكهرباء والهاتف. كانت الممرضة أتكينسون - إذ سيطلق عليها الممرضة أتكينسون دوما - تسمع عبر الهاتف تعنف من يقومون بالطلاء، وتعليق ورق الحائط، وخدمات التوصيل. قامت بتجديد كل شيء. قامت بشراء سخان كهربائي ووضعته في حمام، ولا يعلم أحد من أين جاءت بالأموال؟ هل كانت أموالها؟ حصلت عليها من خلال صفقات متعلقة بمرضى على فراش الوفاة؟ من خلال صفقات إرث مشبوهة؟ هل كانت الأموال أموال روبرت، نصيبه؟ نصيب إيلي، الذي تركته له وللممرضة أتكينسون ليستمتعا به، هذان الزوجان عديما الحياء!
جرت عمليات التطوير هذه جميعها في جانب واحد فقط من المنزل، ظل جانب فلورا كما هو؛ لا وجود لمصابيح كهربية، ولا وجود لورق حائط جديد، ولا ستائر معدنية. عندما جرى طلاء المنزل من الخارج - باللون الكريمي بزخارف داكنة الخضرة - ترك جانب فلورا كما هو، قوبلت هذه البداية الغريبة في البداية بشيء من الشفقة والامتعاض، ثم بتعاطف أقل؛ علامة على عناد فلورا وغرابتها (كان باستطاعتها شراء طلاء، وجعل جانبها يبدو أكثر أناقة)، وأخيرا صار الأمر بمثابة مزحة. جاء الناس من كل حدب وصوب لمشاهدة المنزل.
كان يقام حفل راقص دوما في المدرسة لأي زوجين متزوجين حديثا. كان يجري تقديم مبلغ نقدي - يطلق عليه «محفظة مالية» - إليهما. أعلنت الممرضة أتكينسون أنها لا تمانع في اتباع هذا التقليد، على الرغم من أن عائلة زوجها كانت تحرم الرقص. اعتقد البعض أن من العار إرضاء الممرضة أتكينسون، ما يمثل صفعة على وجه فلورا. اتسم آخرون بفضول مفرط حال دون إحجامهم عن التطفل، كانوا يريدون أن يروا كيف سيتصرف الزوجان المتزوجان حديثا. هل سيرقص روبرت؟ ما شكل الفستان الذي سترتديه العروس؟ تأخر تنظيم الحفل فترة، ثم ما لبث أن تم وتلقت أمي الأنباء.
ارتدت العروس الفستان الذي كانت قد ارتدته في زفافها، أو هكذا قالت، لكن من يرتدي فستانا كذلك في منزل القس؟ لعل الأمر الأكثر احتمالا أنها ابتاعت الفستان خصيصى من أجل ظهورها في حفل الرقص. فستان من الستان الأبيض الناصع، له عنق على هيئة قلب، فستان لشابة صغيرة جدا. ارتدى العريس بذلة جديدة لونها أزرق داكن، وكانت العروس قد غرست زهرة في عروة سترته. كان منظرهما لافتا للانتباه. كان شعرها مصففا بحيث يعمي الأبصار من خلال الانعكاسات النحاسية البراقة، وبدا وجهها كما لو كان سيتهشم لو حدث أن أراحته على كتف رجل أثناء الرقص. رقصت، بالطبع؛ رقصت مع الجميع إلا العريس، الذي جلس محصورا في أحد مقاعد المدرسة قبالة الحائط. رقصت مع كل الرجال في الحفل - جميع الرجال زعموا أن عليهم الرقص معها، هكذا كان التقليد - ثم جرجرت روبرت خارج المقعد لتلقي المبلغ النقدي ولشكر الجميع على أمانيهم الطيبة. أشارت خفية إلى النساء في غرفة المعاطف أنها تشعر أنها ليست على ما يرام، للسبب المعتاد الذي تذكره أي عروس جديد. لم يصدقها أحد، وحقيقة لم يظهر شيء يدل على ذلك، إذا كانت فعلا تشعر كما تقول. ظنت بعض النساء أنها كانت تكذب عليهن حقدا منها، وتهينهن وتستخف بهن بحيث تظن أنهن بهذه السذاجة. لم يعترضها أحد، ولم يتصرف أحد بوقاحة نحوها ؛ ربما نظرا لأنه من الواضح أنها كانت قادرة على التصرف بوقاحة بحيث لا يمكن أن يقف أمامها أحد.
لم تكن فلورا حاضرة في الحفل.
قالت الممرضة أتكينسون: «سلفتي لا ترقص. لا تزال متمسكة بعادات الزمن الفائت.» دعتهم جميعا للسخرية من فلورا، التي كانت تدعوها دوما سلفتي، على الرغم من أنه لم يكن لها أي حق في أن تدعوها كذلك.
كتبت أمي خطابا إلى فلورا بعد سماعها بكل هذه الأشياء. من خلال بعدها عن المشهد، وربما في غمار الأهمية المولاة إليها نظرا لوضعها الجديد كعروس جديد، ربما غاب عنها طبيعة الشخص الذي كانت تكاتبه. عبرت أمي عن تعاطفها وأظهرت جام غضبها، ونقدت بشكل مباشر وعنيف المرأة التي - مثلما كانت ترى أمي - أعطت فلورا صفعة شديدة. أجابت فلورا على خطاب أمي قائلة إنها لا تعلم من أي مصدر تتلقى أمي أخبارها، لكن يبدو أنها أساءت الفهم، أو استمعت إلى أشخاص حاقدين، أو قفزت إلى نتائج غير مبررة. ما حدث في عائلة فلورا لا يعني أحدا، وبالتأكيد لا يوجد ما يستدعي أن يشعر أحد بالأسف أو الغضب نيابة عنها. قالت فلورا إنها كانت سعيدة وتشعر بالرضى عن حياتها، مثلما كانت دوما، ولا تتدخل فيما يفعل أو يريد الآخرون؛ لأن هذه الأشياء لا تعنيها. تمنت فلورا لأمي وافر السعادة في زواجها، وأملت في أن تصبح قريبا جدا منشغلة بمسئولياتها الخاصة، بحيث لا تهتم بحياة الآخرين الذين كانت تعرفهم.
Page inconnue
أصاب هذا الخطاب المكتوب جيدا أمي بجرح بالغ، مثلما قالت أمي. توقفت وفلورا عن تبادل الرسائل. صارت أمي منشغلة حقيقة بحياتها الخاصة، وأخيرا صارت أسيرة لها.
مع ذلك، كانت أمي تفكر في فلورا. بعد سنوات، عندما كانت تتحدث في بعض الأحيان عن الأشياء التي كان بإمكانها أن تكونها أو تحققها، كانت تقول: «لو قدر لي أن أكون كاتبة - وأظن أنني كنت أستطيع أن أكون كذلك؛ كنت أستطيع أن أكون كاتبة، وقتها كنت سأكتب قصة حياة فلورا. هل تعلمين ماذا كنت سأسمي قصتها؟ «المرأة العذراء».» «المرأة العذراء ». قالت هذه الكلمات في نغمة تتسم بالجلال والعاطفية المفرطة لم أكن بحاجة إليها، كنت أعرف - أو أظنني كنت أعرف - تماما قيمة ما كانت تجده في هذه الكلمات؛ الجلال والغموض، الإشارة إلى نقد تحول إلى توقير. كنت أبلغ من العمر خمسة عشر أو ستة عشر عاما في ذلك الوقت، وكنت أعتقد أنني أستطيع قراءة عقل أمي، كنت أستطيع أن أرى ما كانت ستفعله بشخصية فلورا، وما فعلته فعلا. كانت ستصنع منها شخصية نبيلة، شخصية تتقبل بصدر رحب الخيانة، الغدر، شخصية تغفر وتتوارى عن الأنظار، لا مرة واحدة بل مرتين. لا توجد لحظة واحدة من الشكوى. تمضي فلورا في ممارسة أعمالها الممتعة، تنظف المنزل، وتنظف حظيرة الأبقار، وتنظف تجمعات دموية من فراش أختها، وعندما بدا أن المستقبل أخيرا يفتح لها ذراعيه - تموت إيلي، ويتضرع روبرت من أجل أن تغفر له، وستفعل ذلك نظرا لطبيعتها النبيلة - يجيء دور أودري أتكينسون التي تقود سيارتها إلى فناء المنزل، وتقف حائلا أمام سعادة فلورا ومستقبلها، بصورة غير مفهومة وأكثر عمقا في المرة الثانية أكثر من المرة الأولى. يجب على فلورا أن تتحمل طلاء المنزل، وتركيب المصابيح الكهربية، وجميع الأنشطة الصاخبة في الجانب الآخر من المنزل، برنامج «ميك بليف بولروم» ومسلسل «آموس آند آندي». لا مزيد من القصص الهزلية الاسكتلندية أو المواعظ القديمة. يجب على فلورا أن تودعهما في طريقهما إلى حفل الرقص - حبيبها القديم وتلك المرأة بليدة العواطف، الغبية، وغير الجميلة على الإطلاق في فستان الزفاف الستان الأبيض. تجري السخرية من فلورا. (وبالطبع تركت فلورا المزرعة من أجل إيلي وروبرت، وبالطبع ورث روبرت إيلي، والآن يئول كل شيء إلى أودري أتكينسون.) ينتصر الأشرار. كل شيء كالمعتاد في حياتنا؛ يستتر الأخيار في صبر وتواضع، ويهديهم يقين لا تستطيع الأحداث أن تعكر صفوه.
هذه هي الصورة التي خلت أن أمي ستصيغ قصتها بها. في ظل معاناتها، أصبحت أفكارها روحية أكثر، وكان يوجد في صوتها في بعض الأحيان خفوت، استثارة مهيبة كانت تستثيرني، وتنبهني إلى ما كان يبدو خطرا شخصيا يتهددني. شعرت بوجود سحابة كبيرة من الأفكار الغامضة والمشاعر الروحية تتربص بي، وهي سلطة أم قعيدة لا يمكن مقاومتها، والتي تستطيع أن تمسك بي وتخنقني. كان لا يبدو أن ثمة نهاية لذلك. كان علي أن أظل ناقدة، وساخرة، أجادل وأواجه. أخيرا، توقفت حتى عن ذلك وصرت أعارضها في صمت.
هذه طريقة مهذبة للقول بأنني لم أكن الصدر الحاني لها، وكنت صحبة غير طيبة لها عندما لم يكن لديها ملاذ آخر تلجأ إليه.
كانت لدي أفكاري الخاصة حول قصة فلورا. لم أعتقد أنني أستطيع كتابة رواية، لكنني كنت أرغب في كتابة واحدة. كنت سأتخذ مسارا آخر، كنت أقرأ ما بين سطور قصة أمي وأملأ فراغ ما كانت تتركه. كانت فلورا التي أتصورها سمراء مثلما كانت فلورا التي كانت تحكي عنها أمي بيضاء. ففي استمتاعها بالمواقف السيئة التي تعرضت لها وبقدرتها على الغفران، وتلصصها على مآسي حياة أختها، كنت سأتصورها ساحرة مشيخية، تقرأ من كتابها المسموم. يتطلب الأمر قسوة مماثلة، الوحشية البريئة نسبيا للممرضة منعدمة المشاعر، لدفعها بعيدا، حتى يتحسن وضعها في الظلال. لكنها تم إقصاؤها؛ أقصتها قوة الجنس والحقد العادي بعيدا، وحبستها في القسم الخاص بها من المنزل مع المصابيح التي تضاء بزيت الفحم. انكمشت، تقوقعت، تصلبت عظامها، وازدادت مفاصلها خشونة، وأرى الجمال المجرد للنهاية التي سأبتغيها - يا لها من نهاية! ستصبح قعيدة، مصابة بالتهاب المفاصل، لا تكاد تقدر على الحركة. الآن، أودري أتكينسون تظهر في كامل لياقتها، تطالب بالبيت كله. تريد أن تزيل تلك التقسيمات التي عملها روبرت بمساعدة فلورا عندما تزوج إيلي. ستوفر غرفة لإيلي، وستعتني بها. (لا ترغب أودري أتكينسون في أن يجري النظر إليها باعتبارها وحشا، وربما هي ليست كذلك حقيقة.) لذا، في أحد الأيام يحمل روبرت فلورا - للمرة الأولى والأخيرة بين ذراعيه - إلى الغرفة التي أعدتها زوجته أودري لها، وبمجرد استقرار فلورا في ركنها المضاء والمدفأ جيدا، تتولى أودري أتكينسون مهمة تنظيف الغرف الخالية حديثا، غرف فلورا. تحمل كومة من الكتب القديمة إلى الفناء. يحل الربيع مجددا، وقت تنظيف المنزل، الموسم الذي كانت فلورا نفسها تمارس عمليات التنظيف هذه فيه، والآن يبدو وجه فلورا الشاحب من وراء الستائر الشبكية الجديدة. لقد جرجرت نفسها من ركنها، لكي ترى السماء ذات اللون الأزرق الصافي بسحبها العالية المتزلقة فوق الحقول الندية، وطيور الغراب المتناحرة، والجداول الوافرة، وأفرع الأشجار الآخذة في الاحمرار. ترى الدخان يتصاعد من موقد إحراق القمامة في الفناء؛ حيث تحترق كتبها، تلك الكتب القديمة العفنة، مثلما كانت تسميها أودري. الكلمات والصفحات، ظهر الكتب داكنة اللون النذيرة بالشؤم. الأخيار، الملعونون، الآمال الواهية، العذابات العظيمة، كلها تحترق ويتصاعد الدخان منها. كانت تلك هي النهاية.
بالنسبة إلي، كان الشخص الغامض حقا في القصة، مثلما كانت ترويها أمي، روبرت. فهو لم يقل شيئا البتة؛ يخطب إلى فلورا، يسير إلى جوارها بحذاء النهر عندما تفاجئهم إيلي، يجد أشواك إيلي في فراشه، يصنع جميع أعمال النجارة اللازمة لزواجه هو وإيلي، يستمع أو لا يستمع بينما تقرأ فلورا. أخيرا، يجلس محصورا في أحد مقاعد المدرسة بينما ترقص عروسه المبالغة في حركاتها وملابسها مع جميع الرجال.
هذا كل ما أعرفه عن تصرفاته ومرات ظهوره. رغم ذلك، كان هو الشخص الذي بدأ كل شيء من خلاله، سرا. «فعلها» بإيلي. فعلها بتلك الفتاة المتوحشة النحيلة في وقت كان مخطوبا إلى أختها، وفعلها بها مرارا وتكرارا عندما لم تكن أكثر من مجرد جسد سقيم مسكين، امرأة لا تقوى على حمل طفل، راقدة في الفراش.
لا بد أنه فعلها بأودري أتكينسون أيضا، ولكن في ظل نتائج أقل كارثية.
تلك الكلمات، «فعلها ب ...» - الكلمات التي لم تكن أمي، فضلا عن فلورا، لتتفوه بها - كانت ببساطة مثيرة بالنسبة لي، لم أشعر بأي قدر من النفور أو الامتعاض بأي شكل حيالها، كنت أتجاهل التحذير، لم يكن مصير إيلي حتى ليردعني، ليس حتى عندما فكرت في هذا اللقاء الأول، التهور فيه الناتج عن اليأس، قد الملابس والمقاومة. اعتدت اختلاس النظرات الطويلة إلى الرجال في تلك الأيام. كنت أعجب بمعاصمهم ورقابهم وأي جزء من صدورهم ما كان يسمح زر مفتوح برؤيته، بل آذانهم وأقدامهم في الأحذية. لم أكن أتوقع أي شيء عقلاني من الرجال، فهم تتملكهم فقط شهوتهم. دارت أفكار مشابهة بخلدي حول روبرت.
كان ما جعل فلورا شريرة في قصتي هو ما جعلها مثار إعجاب في قصة أمي؛ ابتعادها عن الجنس. كنت أقاوم كل شيء تحاول أمي أن تلقنني إياه حول هذا الموضوع، كنت أكره حتى انخفاض صوتها، التحذير الغامض التي كانت تتناول من خلاله الموضوع. نشأت أمي في عصر وفي مكان كان الجنس عملية مرعبة بالنسبة إلى النساء. كانت أمي تعرف أنها قد تموت بسببه؛ لذا، كانت تعلي من قدر الاحتشام، والعفة، والفتور الشعوري، الذي قد يقيك. ونشأت أنا مرتعبة من تلك الحماية، الطغيان المهذب الذي بدا كما لو كان ينتشر في جميع مناحي الحياة، لفرض حفلات الشاي وارتداء القفازات البيضاء فرضا وجميع أشكال التفاهات الطنانة. كنت أفضل الكلمات السيئة والتطفل، كنت أداعب نفسي بفكرة طيش وهيمنة الرجل. كان الغريب في الأمر أن أفكار أمي كانت متوافقة مع بعض الأفكار التقدمية في عصرها، وكانت أفكاري تردد صدى الأفكار التي كانت مفضلة في زمني، كان ذلك بالرغم من أننا كنا نظن أنفسنا مستقلتين، وكنا نعيش في مكان متخلف لم تمر عليه هذه التغيرات. كان الأمر كما لو أن الميول التي بدت أكثر تجذرا في عقولنا، الأكثر خصوصية وغرابة، جاءت في صورة بذور تذروها رياح عاتية، تبحث عن أي مكان محتمل تقر فيه، عن أي لفتة ترحيب. •••
Page inconnue
قبل وقت غير طويل من وفاتها، عندما كنت لا أزال أقيم في المنزل، تلقت أمي خطابا من فلورا الحقيقية. جاء الخطاب من تلك المدينة قرب المزرعة، المدينة التي اعتادت فلورا أن تذهب إليها، في العربة الكبيرة مع روبرت، ممسكة بأجولة الصوف أو البطاطس.
كتبت فلورا أنها لم تعد تعيش في المزرعة.
كتبت قائلة: «لا يزال روبرت وأودري يعيشان هناك ... بخلاف بعض المتاعب في ظهره، كان روبرت يتمتع بصحة جيدة. دورة أودري الدموية كانت ضعيفة، وكانت تصاب بضيق في التنفس كثيرا. يقول الطبيب: إنها يجب أن تفقد بعض وزنها، لكن يبدو أن أيا من النظم الغذائية التي تتبعها لا يجدي. كانت أمور المزرعة تسير على خير ما يرام. أوقفوا تربية الخراف بالكامل وتحولوا إلى تربية الأبقار الحلوب. فمثلما قد تكوني سمعتي، أهم الأشياء على الإطلاق الآن هو الحصول على حصة اللبن من الحكومة، ثم يصبح كل شيء على ما يرام. الإسطبل القديم مزود بماكينات حلب وأحدث المعدات، يا له من أمر رائع! عندما أذهب إلى هناك، لا أكاد أعرف أين أنا.»
استمرت في حديثها قائلة إنها تعيش في المدينة منذ بضع سنوات، وإنها حصلت على وظيفة في أحد المتاجر، لا بد أنها قالت أي نوع من المتاجر كان ذلك، لكنني لا أذكر الآن. بالطبع، لم تذكر شيئا عما قادها إلى ذلك القرار، سواء كان قد جرى طردها من مزرعتها، أو باعت حصتها، دون أن تجني فيما يبدو كثيرا من وراء ذلك. شددت على صداقتها مع روبرت وأودري، وقالت إن صحتها جيدة.
كتبت قائلة: «سمعت أنك لم تكوني محظوظة في حياتك؛ قابلت مصادفة سليتا بارنز التي كانت تدعى سليتا ستابلتون في مكتب البريد في موطني، وأخبرتني أن لديك بعض المشكلات في عضلاتك، وقالت إن قدرتك على الكلام تأثرت أيضا. أحزنني سماع ذلك، لكن يستطيع الأطباء عمل الكثير هذه الأيام؛ لذا آمل أن يستطيع الأطباء مساعدتك.»
خطاب مزعج، لا يتحدث عن أشياء كثيرة. لا توجد أي إشارة في الخطاب إلى إرادة الله أو دوره في ابتلاءاتنا، لا يوجد أي ذكر حول ما إذا كانت فلورا لا تزال تذهب إلى تلك الكنيسة. لا أعتقد أن أمي قامت بالرد على هذا الخطاب. كان خطها الجميل، وأسلوبها في الكتابة كمدرسة قد تدهورا، وكانت بالكاد تستطيع الإمساك بالقلم، كانت دوما تشرع في كتابة الخطابات ولا تستطيع الفراغ من كتابتها. كنت أجدها ملقاة في أنحاء المنزل. كانت خطاباتها تبدأ قائلة: «عزيزتي ماري»، و«حبيبتي روث»، و«عزيزتي الصغيرة جوان (على الرغم من أنني أدرك أنك لم تعودي صغيرة)»، و«صديقتي القديمة العزيزة سليتا»، و«محبوبتي مارجريت». كان أولئك النساء صديقاتها منذ أيام التدريس، أيام دراستها بكلية المعلمين، ومن المدرسة الثانوية. كان قليلا منهن من تلاميذها السابقين. كانت أمي تقول في تحد: لدي أصدقاء في جميع أنحاء البلاد. لدي أصدقاء أعزاء جدا.
أتذكر رؤية أحد الخطابات الذي كان يبدأ هكذا: «صديقة شبابي». لا أعلم إلى من كان الخطاب موجها؛ كن جميعهن صديقات شبابها. لا أتذكر أي خطاب كان يبدأ «عزيزتي وحبيبتي فلورا»، كنت أنظر إلى الخطابات دوما، محاولة أن أقرأ عبارات التحية والجمل القليلة التي كانت قد كتبتها، ونظرا لأنني لم أكن أتحمل أن أشعر بالحزن، كنت أشعر بعدم الصبر تجاه اللغة المنمقة، التي تستجدي بشكل مباشر الحب والشفقة. «كانت ستتلقى المزيد من ذلك.» هكذا كنت أحدث نفسي (أعني أكثر مما كنت أبعث به إليها)، إذا استطاعت الانسحاب في كرامة، بدلا من محاولتها طوال الوقت التأثير علي بأفكارها المريضة.
كنت قد فقدت الاهتمام بفلورا في ذلك الوقت، كنت أفكر دوما في القصص، وفي ذلك الوقت ربما كانت لدي قصة جديدة تدور بخلدي.
لكنني كنت أفكر بها منذ ذاك الحين، كنت أحدث نفسي أي نوع من المتاجر التي تعمل بها: متجر بيع أدوات معدنية، أم متجر مستلزمات منزلية رخيصة؛ حيث كانت ترتدي معطفا، أم صيدلية؛ حيث كانت ترتدي زيا مثل الممرضات، أم متجر ملابس نسائية؛ حيث يتوقع أن تبدو في هيئة أنيقة؟ ربما كان عليها أن تعرف أكثر عن خلاطات الطعام، أو المناشير الجنزيرية، أو الملابس الداخلية النسائية، أو مستحضرات التجميل، أو حتى العوازل الذكرية. ربما كان عليها أن تعمل طوال اليوم في ضوء المصابيح الكهربية، وتشغل ماكينة دفع نقدي. أتراها تصفف شعرها في صورة تموجات، وتطلي أظافرها، وتضع طلاء شفاه؟ لا بد أنها وجدت مكانا تعيش فيه - شقة صغيرة بها مطبخ صغير، مطلة على الشارع الرئيسي، أو غرفة في نزل. كيف تستطيع المضي في الحياة بمذهبها الكاميروني؟ كيف كانت تستطيع بلوغ تلك الكنيسة القصية إلا إذا نجحت في شراء سيارة وتعلمت قيادتها؟ وإذا فعلت ذلك فربما لم تكن تكتفي بقيادة السيارة إلى الكنيسة بل إلى أماكن أخرى، ربما تسافر في عطلات، ربما تستأجر كوخا يطل على بحيرة لمدة أسبوع، وتتعلم السباحة، وتزور إحدى المدن، ربما تتناول الطعام في مطعم، ربما في مطعم يجري تقديم المشروبات الكحولية فيه، ربما تصادق نساء مطلقات.
ربما تصادق رجلا، أخا أرملا لصديق، ربما رجلا لم يعرف أنها كاميرونية أو من هم الكاميرونيون، رجلا لا يعرف شيئا عن قصتها، رجلا لم يكن قد سمع قط عن الطلاء الجزئي للمنزل أو الخيانتين، أو أن الأمر تطلب منها كامل كرامتها وبراءتها حتى تتجنب أن تصبح أضحوكة. ربما يرغب في اصطحابها للرقص، وربما يجب عليها أن تفسر لماذا لا تستطيع الذهاب معه. ربما يندهش لكنه لن يصاب بخيبة أمل؛ فربما يبدو أمر المذهب الكاميروني هذا كله غريبا بالنسبة إليه، ولكن شيئا مثيرا، وهكذا بالنسبة للجميع. نشأت فلورا وفق تعاليم مذهب غريب، هكذا سيقول الناس. عاشت فترة طويلة في مزرعة مهجورة. رغم أنها غريبة الأطوار بعض الشيء، فإنها لطيفة حقا وجميلة أيضا، خاصة عندما قامت بتصفيف شعرها.
Page inconnue
ربما أدخل أحد المتاجر فأجدها.
لا، لا، ستكون قد ماتت منذ وقت طويل حينها.
لكن هب أنني دخلت أحد المتاجر، ربما أحد المتاجر متعددة الأقسام، وأرى مكانا مزدحما، توجد به معروضات معروضة بشكل تقليدي، متجر على غرار المتاجر قديمة الطراز في فترة الخمسينيات. هب أن امرأة طويلة وسيمة، ظهرت في رشاقة، أتت تلبي طلبي، وكنت أعرف إلى حد ما - على الرغم من الشعر المرشوش والمنفوش والأظفار والشفاه الوردية أو المرجانية اللون - أن هذه هي فلورا، كنت سأرغب في أن أقول لها إنني كنت أعرف، أعرف قصتها، على الرغم من أننا لم نلتق قط. أتصور نفسي أحاول أن أخبرها. (هذا حلم الآن، أفهمه كحلم.) أتصورها تستمع، برزانة تحسد عليها، لكن ها هي تهز رأسها، تبتسم إلي، وفي ابتسامتها شيء من الاستهزاء، خبث خفي واثق، وسأم أيضا. بينما لا يدهشها أني أقول لها ذلك، تسأم من الأمر، مني، ومن فكرتي عنها، معلوماتي، فكرتي أنني ربما أعرف شيئا عنها.
بالطبع، إنها أمي التي أفكر بها، أمي مثلما كانت تظهر في تلك الأحلام، تقول بنبرة غفران أريحية مدهشة: «لا شيء، مجرد رجفة بسيطة. أوه، كنت أعلم أنك ستأتين يوما.» أمي تفاجئني، وتفعلها غير عابئة. قناع وجهها، مصيرها، ومعظم آلامها ذهبت عنها. كم كنت أشعر بالراحة، بالسعادة! لكن أتذكر الآن أنني كنت منزعجة أيضا، أقول إنني أشعر بأنني خدعت قليلا. نعم، أشعر بالإهانة، بالخديعة، بالغدر، بسبب هذا التحول المرحب به، هذا التحرر. كانت أمي تتحرك في غير اكتراث خارج سجنها القديم، مظهرة خيارات وقدرات لم أحلم قط أنها كانت تمتلكها، تحولات أكثر من ذاتها نفسها. لقد حولت أمي هذه الكتلة المريرة من الحب التي كنت أحملها كل هذا الوقت إلى شبح؛ شيء بلا نفع وغير مرغوب فيه، مثل الحمل الكاذب. •••
مثلما اكتشفت، فإن الكاميرونيين - أو بالأحرى كانوا - مجموعة متشددة متبقية من المعاهدين؛ أولئك الاسكتلنديين الذين في القرن السابع عشر تعاهدوا أمام الرب على رفض كتب الصلوات والأساقفة، أو أي مسحة من البابوية أو التدخل من قبل الملك. يأتي اسمهم من ريتشارد كاميرون، أحد الواعظين المحظورين، أو واعظي «الشوارع»، الذي سرعان ما جرى قتله. خاض الكاميرونيون - الذين ظلوا يفضلون لفترة طويلة أن يطلق عليهم المشيخيون الإصلاحيون - المعركة وهم ينشدون المزمارين الرابع والسبعين والثامن والسبعين. قطع الكاميرونيون أسقف كنيسة القديس أندروز إربا حتى الموت على الطريق العام، وامتطوا صهوة جيادهم فوق جسده. وقد شلح أحد قساوستهم - وهو منتش انتشاء بالغا وهو يعدم - جميع الواعظين الآخرين في العالم أجمع.
فايف بوينتس
أثناء شربهما الفودكا وعصير البرتقال في ساحة المقطورات (عربات الإقامة) على المنحدرات الصخرية فوق بحيرة هورون، يحكي نيل باور قصة لبريندا. وقعت أحداث القصة في مكان بعيد جدا، في مدينة فيكتوريا، بكولومبيا البريطانية، حيث نشأ نيل. رغم أن نيل ليس أصغر كثيرا من بريندا - أقل من ثلاث سنوات - يبدو بالنسبة لها في بعض الأحيان كما لو كان يفصل بينهما جيل كامل؛ لأن بريندا نشأت هنا، وأقامت هنا، وتزوجت كورنيليس زنت عندما كانت تبلغ عشرين عاما، بينما نشأ نيل على الساحل الغربي، حيث كانت الأشياء مختلفة جدا، وترك منزله - عندما كان يبلغ من العمر ستة عشر عاما - للسفر والعمل في أنحاء البلاد.
لم تر بريندا من مدينة فيكتوريا، في الصور، سوى الزهور والجياد. كانت الزهور تتدلى من سلال معلقة من أعمدة إنارة قديمة الطراز، التي تملأ المغارات وتزين المتنزهات، وكانت الجياد تجر عربات من السائحين لمشاهدة المناظر الرائعة.
يقول نيل: «ليست هذه سوى الأشياء التافهة التي يشاهدها السائحون ... تقريبا نصف المكان لا يضم إلا هذه الأشياء التافهة. ليست هذه هي الأماكن التي أتحدث عنها.»
يتحدث نيل عن فايف بوينتس، وهو كان - ولا يزال - قسما، أو ربما ركنا من المدينة؛ حيث كانت هناك مدرسة وصيدلية وبقالة صينية ومتجر حلوى. عندما كان نيل لا يزال في المدرسة، كانت تدير متجر الحلوى امرأة عجوز دائمة التبرم، لها حاجبان مرسومان. كانت معتادة على ترك قطتها تتمدد في الشمس على النافذة. بعد وفاتها، تولى أشخاص آخرون أوروبيون، لا بولنديون أو تشيكيون، بل من دولة ما أصغر - كرواتيا، أهذه دولة؟ - إدارة المتجر وأدخلوا تعديلات عليه؛ تخلصوا من الحلوى القديمة والبالونات البالية التي لا تنفخ، والأقلام الجافة التي لا تكتب، وحبات الفول المكسيكية النطاطة الفاسدة. قاموا بطلاء المتجر بالكامل ووضعوا بعض المقاعد والموائد. كانوا لا يزالون يبيعون الحلوى - لكن في برطمانات نظيفة الآن، بدلا من الصناديق الكرتونية التي تبول عليها القطط - والمساطر والمماحي. بدءوا أيضا في العمل كمقهى صغير، يقدم قهوة ومشروبات غازية وكعكا منزليا.
Page inconnue
كانت الزوجة التي تصنع الكعك حيية وسريعة الاهتياج، وإذا جئتها وحاولت دفع مقابل ما اشتريت، فستنادي على زوجها باللغة الكرواتية، أو أي ما كانت اللغة التي تناديه بها - دعنا نفترض أنها الكرواتية - في رهبة بحيث تجعلك تشعر كما لو أنك قد اقتحمت منزلها وانتهكت خصوصيتها. كان الزوج يتحدث الإنجليزية بشكل جيد جدا. كان رجلا صغير الحجم أصلع، مهذبا وعصبيا، مدخنا شرها جدا، وكانت هي امرأة ضخمة، سمينة، كتفاها محنيتان، ترتدي دوما ميدعة وسترة صوفية مغزولة. كان يغسل النوافذ ويكنس الممر الجانبي ويتلقى الأموال من الزبائن، وكانت هي تعد المخبوزات وتصنع الكعك وتصنع أشياء لم يسمع الناس عنها من قبل، لكن سرعان ما تصير مشهورة، مثل البيروغة وخبز بذور الخشخاش.
كانت ابنتاهما تتحدثان الإنجليزية تماما مثل الكنديين، وكانتا تذهبان إلى مدرسة الراهبات. ترجع البنتان من مدرستهما مرتديتين زيهما المدرسي في آخر المساء، وتبدآن العمل مباشرة. كانت الأخت الصغرى تغسل فناجين القهوة والأكواب وتنظف الموائد، في حين كانت الأخت الكبرى تقوم بباقي الأعمال؛ فكانت تقدم الطلبات للزبائن، وتشغل ماكينة الدفع النقدي، وتضع الطلبات على صواني التقديم، وتفرق الأطفال الصغار الذين يقتربون من المحل دون أن يشتروا شيئا. وعندما تفرغ الأخت الصغرى من عملها، كانت تجلس في الغرفة الخلفية لتؤدي فروضها المنزلية، بينما لم تكن الأخت الكبرى تستريح قط، فإذا لم يكن لديها أي عمل عليها القيام به، فكانت تكتفي بالجلوس إلى ماكينة الدفع النقدي، تراقب ما يحدث.
كانت الأخت الصغرى تسمى ليزا، وكانت الأخت الكبرى تدعى ماريا، كانت ليزا صغيرة الحجم وجميلة الشكل بالنسبة لطفلة في سنها، في المقابل، كانت ماريا تقريبا في حدود الثالثة عشرة من عمرها، تمتلك نهدين كبيرين مترهلين، وبطنا كبيرة مستديرة، ورجلين سمينتين. كانت ترتدي نظارة، وكانت تضفر شعرها حول رأسها. كانت تبدو كما لو أنها في الخمسين من عمرها.
وكانت تتصرف كما لو أنها كذلك، على النحو الذي تولت به إدارة المتجر. كان والداها لا يمانعان في إفساح المجال لها. انسحبت الأم إلى الغرفة الخلفية، وصار الأب يكتفي بتقديم المساعدة لها. كانت ماريا تفهم الإنجليزية وتفهم في الأمور المالية، ولم يكن ثمة شيء يخيفها. كان كل الأطفال الصغار يقولون: «أف لماريا هذه، أليست فظة؟» كانت تبدو كما لو أنها تعرف كل شيء عن إدارة الأعمال. •••
كانت بريندا وزوجها يديران عملا حرا أيضا. اشتريا مزرعة جنوب بحيرة لوجان وملآ المخزن فيها بأدوات منزلية مستعملة (التي كان كورنيليس يعرف كيف يصلحها)، وأثاث مستعمل وأشياء أخرى كثيرة: أطباق، وصور، وسكاكين، وشوك، وحلي، ومجوهرات، يقبل الناس على شرائها نظرا لرخص ثمنها. كان اسم المكان مخزن زنت للأثاث. محليا، كان الكثير من الناس يشيرون إليه باسم «الأثاث المستعمل على الطريق السريع».
لم يكن هذا عملهما دوما. كانت بريندا تدرس في حضانة أطفال، وكان كورنيليس - الذي يكبرها باثني عشر عاما - يعمل في منجم الملح في والي، المطل على البحيرة. بعد وقوع الحادث له، كان عليهما أن يفكرا في شيء يمكنه فعله بينما هو جالس معظم الوقت، واستخدما المال الذي كان بحوزتهما في شراء مزرعة قديمة، لكن مبانيها في حالة جيدة. تركت بريندا عملها، نظرا لكثرة ما كان على كورنيليس عمله بنفسه. كانت تمر ساعات خلال اليوم، وفي بعض الأحيان أيام طوال كان يرقد فقط ويشاهد التليفزيون، أو كان يرقد على أرضية غرفة المعيشة يحاول التكيف مع الألم.
في الأمسيات، كان كورنيليس يحب أن يقود الشاحنة إلى والي. لا تبادر بريندا أبدا بالعرض عليه بأن تقود هي الشاحنة، بل تنتظره أن يبادر قائلا: «لماذا لا تقودين أنت؟» إذا لم يرد أن تؤثر حركة ذراعيه أو قدميه على ظهره. كان الأطفال معتادين على الذهاب معهم، لكنهم الآن في المرحلة الثانوية - لورنا في الصف الحادي عشر، ومارك في الصف التاسع - ولذلك فهم عادة لا يرغبون في ذلك الآن. تجلس بريندا وكورنيليس في الشاحنة الواقفة في مكان الانتظار، وينظرون إلى طيور النورس المتراصة حول حائل الأمواج، وصوامع الغلال، والأعمدة الهائلة المضاءة باللون الأخضر، والممرات المنحدرة التي توصل للمنجم الذي كان كورنيليس يعمل فيه؛ حيث توجد تلال من الملح الرمادي الخشن. في بعض الأحيان، كان يوجد قارب طويل في الميناء. بالطبع، توجد قوارب للتنزه في الصيف، وأشخاص يتزلجون على المياه، وأناس يصطادون من على رصيف الميناء. كان وقت الغروب يجري الإعلان عنه يوميا على لوحة في الشاطئ آنذاك؛ فكان الناس يأتون إلى الشاطئ خصيصى لرؤيته. الآن، في أكتوبر، اللوحة خالية والأنوار مضاءة بطول الميناء - لا يزال هناك واحد أو اثنان من هواة الصيد يصطادان - ويبدو الماء متلاطم الأمواج وباردا، ويبدو الميناء كمكان تجاري بحت.
لا يزال ثمة عمل يجري على الشاطئ. منذ أوائل الربيع السابق، وضعت صخور صلبة في بعض الأماكن، ووضعت رمال في أماكن أخرى، وأنشئ لسان صخري طويل، وكل هذا يكون معا حاجزا لحماية الشاطئ، مع وجود طريق غير ممهد بحذائه، كانا يقودان الشاحنة عليه. كان كورنيليس لا يعبأ بظهره؛ فكل ما كان يريده هو أن يشاهد كل هذا. كانت الشاحنات الكبيرة، والجرافات، والبلدوزرات تعمل طوال اليوم، ولا تزال قابعة هناك، كوحوش طيعة ساكنة مؤقتا، في المساء. هنا يعمل نيل؛ يقود نيل هذه الأشياء، ينقل الصخور في المكان، ويخلي المساحات المطلوبة، ويمهد الطريق الذي يقود بريندا وكورنيليس شاحنتهما عليه. إنه يعمل لدى شركة فوردايس للمقاولات، ومقرها لوجان، والتي تحظى بعقد تنفيذ هذا المشروع.
ينظر كورنيليس إلى كل شيء. يعرف ما تحمله القوارب (قمح لين، وملح، وذرة) وإلى أين تذهب، ويعرف طريقة تعميق مجرى الميناء، ويريد دوما أن يلقي نظرة على الأنبوب الهائل الذي يمتد بزاوية إلى الشاطئ ويعبره، مخرجا ماء ورواسب طينية وصخورا من قاع البحيرة الذي لم ير ضوء النهار قط. يذهب ويقف بجانب هذا الأنبوب ليستمع إلى الجلبة الجارية داخله، الأصوات المدوية للصخور والمياه التي تهدر في طريقها. يتساءل عما سيفعله شتاء قاس بكل هذه التغييرات والترتيبات إذا أزاحت البحيرة الصخور وما في الشاطئ، ثم طرحتها جانبا وبدأت في نحر المنحدرات الطينية، مثلما حدث من قبل.
تستمع بريندا إلى كورنيليس وتفكر في نيل. تشعر بالمتعة في أن تتواجد في المكان الذي يقضي نيل معظم أوقاته. تحب أن تفكر في الضوضاء والحركة المستمرة لهذه الآلات وفي الرجال ذوي الأذرع العارية الذين يقودون هذه الآلات القوية في سهولة بالغة، كما لو كانوا يعرفون على نحو طبيعي ما ستفضي إليه هذه الأصوات المدوية والحركة العنيفة التي تتم على الشاطئ. وكذلك شخصياتهم العفوية وحلاوة روحهم. إنها تعشق رائحة العمل في أجسادهم، اللغة التي يتحدثون بها، استغراقهم في أعمالهم، وتجاهلهم لها. ترغب في أن تحصل على رجل خرج لتوه من خضم كل ذلك.
Page inconnue
عندما تكون هناك مع كورنيليس ولم تر نيل لفترة، تشعر بعدم راحة ووحدة، كما لو كان هذا عالم يدير ظهره لها، لكن بعد لقائها بنيل، تنظر إليه كمملكتها؛ وكل ما فيه ملكها. في الليلة السابقة على الليلة التي يلتقيان فيها - الليلة الماضية، على سبيل المثال - كان يجب أن تشعر بالسعادة والتلهف، لكن في حقيقة الأمر تبدو الأربع والعشرون ساعة الماضية، بل اليومان أو الثلاثة الأخيرة، مليئة أكثر مما ينبغي بالمتاعب، بحيث لم يكن بوسعها أن تشعر إلا بالحذر والقلق. عد تنازلي؛ فهي تعد الساعات حقيقة. لديها ميل إلى ملء الساعات المتبقية بأعمال طيبة؛ أعمال تنظيف في المنزل كانت تؤجلها، جز الحشائش، إجراء عملية إعادة ترتيب لمخزن الأثاث، بل انتزاع الحشائش الضارة من الحديقة الصخرية. صباح يوم اللقاء نفسه تمر الساعات أبطأ ما يكون وتمتلئ بالمخاطر. توجد لديها قصة دوما تختلقها حول المكان الذي من المفترض أن تذهب إليه فيما بعد الظهيرة، غير أن ما ستفعله لا يمكن أن يكون ضروريا جدا - حيث سيجذب هذا الانتباه أكثر من اللازم إلى الأمر - لذا ثمة احتمال، دوما، أن يحدث شيء يجعل كورنيليس يقول: «هلا تؤجلين ذلك إلى وقت لاحق خلال الأسبوع؟ هلا تفعلين ذلك في يوم آخر؟» ليس عدم قدرتها على لقاء نيل في هذه الحالة هو ما يزعجها؛ حيث سينتظر نيل ساعة أو ما إلى ذلك، ثم سيعرف ما حدث، بل هو أنها تعتقد أنها لم تعد تستطيع تحمل الأمر؛ أن تكون على هذا القدر من القرب منه، ثم لا تستطيع أن تقابله. غير أنها لا تشعر بأي اشتياق جسدي خلال ساعات العذاب الأخيرة تلك، حتى استعداداتها السرية - اغتسالها، إزالة الشعر الزائد من جسدها، دهان جسدها بالزيت، والتعطر - لم يكن يثيرها. تظل جامدة، تؤرقها التفاصيل، الأكاذيب، الترتيبات، حتى اللحظة التي ترى فيها سيارة نيل. كان يتبع الخوف من أنها لن تستطيع ترك زوجها للقاء نيل، خلال فترة القيادة التي تستمر خمس عشرة دقيقة؛ الخوف من عدم مجيئه إلى هذه البقعة الخالية المتطرفة، عند المستنقع التي هي مكان لقائهما. لعل ما كانت تتطلع إليه، خلال تلك الساعات الأخيرة، شيء غير مادي، شيء إذا فقدته فلن يصبح مثل فقدان وجبة يتوق المرء إليها في جوعه بل مناسبة تعتمد عليها حياتك أو خلاصك. •••
بحلول الوقت الذي صار نيل فيه مراهقا أكبر سنا - وإن لم يكن كبيرا بحيث يمكن أن يذهب إلى الحانات، بل كان ما زال يتردد على متجر حلوى فايف بوينتس (احتفظت العائلة الكرواتية بالاسم الأصلي) - كان التغيير قد بدأ، وهو ما يتذكره كل من كان حيا آنذاك. (هذا ما يعتقد نيل، لكن بريندا تقول: «لا أعرف، بالنسبة إلي كان كل ذلك مجرد تغيير في المكان.») أسقط في يد الجميع، لم يكن أحد مستعدا. كانت بعض المدارس تتشدد حيال إطالة الشعر «للصبية»، وظن البعض بإمكانية التغاضي عن ذلك والتركيز على الأمور المهمة. كان كل ما يطلبونه هو ربط الشعر برباط مرن. وماذا عن الملابس، السلاسل، القطع المصنوعة من حبات الخرز، والصنادل المصنوعة من الحبال، والملابس المصنوعة من القطن الهندي، والتطريزات الأفريقية؟ كل شيء صار هكذا فجأة ناعما وفضفاضا ولامعا. في فيكتوريا، ربما لم يجر احتواء التغيير بالقدر الكافي مثلما جرى في أماكن أخرى. تسرب التغيير. ربما جعل المناخ الناس أكثر لينا، لا الشباب فقط. كان ثمة انتشار هائل للزهور الورقية وتدخين الماريجوانا والموسيقى (الأشياء التي كانت تبدو غير مألوفة على الإطلاق آنذاك، مثلما يقول نيل، وتبدو الآن عادية جدا)، والموسيقى الخارجة من نوافذ مباني وسط المدينة التي كانت تتعانق مع أعلام مرخية، فوق أحواض الزهور في متنزه بيكون هيل بارك، وصولا إلى الأجمات الصفراء على المنحدرات الصخرية المطلة على البحر، إلى الشواطئ السعيدة المطلة على القمم السحرية لجبال الأولمب. كان الجميع مشاركا في الحدث. •••
كان أساتذة الجامعات يتجولون في الأرجاء واضعين زهورا خلف آذانهم، وكانت الأمهات تسير تفعل الشيء نفسه. كان نيل وأصدقاؤه يزدرون هؤلاء الناس فطريا؛ هؤلاء العجائز الهيبيز الحذرين. دخل نيل وأصدقاؤه عالم المخدرات والموسيقى بشكل جدي.
عندما كانوا يريدون أن يتعاطوا المخدرات، كانوا يذهبون إلى خارج متجر الحلوى. في بعض الأحيان، كانوا يذهبون إلى أماكن بعيدة مثل المقابر ويجلسون فوق الحاجز البحري. في بعض الأحيان كانوا يجلسون بجانب السقيفة خلف المتجر. لم يكن بإمكانهم الدخول؛ فقد كانت السقيفة مغلقة. ثم كانوا يدخلون متجر الحلوى ويشربون المياه الغازية ويأكلون سندويتشات الهمبورجر والهمبورجر بالجبن والكعك والحلوى المحلاة بالقرفة؛ لأنهم كانوا يتضورون جوعا. كانوا يسندون ظهورهم إلى مقاعدهم ويتأملون الزخارف تتحرك في السقف القديم المصنوع من الصفيح المضغوط، الذي قام الكرواتيون بطلائه باللون الأبيض. كانوا يتخيلون الزهور، والأبراج، والطيور، والوحوش، وكأنها تسبح عاليا فوق رءوسهم.
تقول بريندا سائلة: «ماذا كنتم تتعاطون؟» «صنف رائع جدا، إلا إذا كان ما اشتريناه فاسدا؛ حشيشا، ومواد مهلوسة، وميسكالين في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان مزيجا من هذا وذاك. أشياء غير ضارة على الإطلاق.» «أقصى ما فعلته هو أنني دخنت ثلث سيجارة على الشاطئ، حينما لم أكن متأكدة ماذا كان ذلك، وعندما عدت إلى المنزل صفعني أبي على وجهي.» (ليست هذه هي الحقيقة؛ كان ذلك كورنيليس، صفعها كورنيليس على وجهها. كان ذلك قبل أن يتزوجا، عندما كان كورنيليس يعمل في الدوام الليلي في المنجم، وكانت هي تجلس في منطقة الشاطئ بعد حلول الظلام مع بعض الأصدقاء من نفس عمرها. في اليوم التالي أخبرته، فصفعها على وجهها.)
كان كل ما فعلوه في متجر الحلوى هو الأكل، وعمل أفعال لا معنى لها، والجلوس في انتشاء، وممارسة ألعاب غبية، مثل عمل سباقات بينهم للسيارات اللعبة على الموائد. في إحدى المرات، رقد أحدهم على الأرض وقاموا برش الكاتشب عليه. لم يعبأ أحد؛ لم يكن زبائن النهار - ربات البيوت اللائي كن يشترين المخبوزات، وأرباب المعاشات الذين كانوا يقضون أوقات فراغهم يحتسون القهوة - يأتون ليلا قط. كانت الأم وليزا قد عادتا إلى المنزل الذي كانت العائلة تعيش فيه في المقطورة، ثم بدأ الأب في العودة إلى المنزل، بعد فترة قصيرة من وقت العشاء. كانت ماريا هي من تبقى بالمتجر. لم تكن تعبأ بما كانوا يفعلونه، طالما لم يسببوا أي خسائر، وطالما كانوا يدفعون.
كان هذا هو عالم المخدرات الذي كان الصبية الأكبر سنا ينتمون إليه، العالم الذي أبقوا الصبية الأصغر خارجه. مر وقت قصير قبل أن يلاحظوا أن الصبية الأصغر كانوا يخفون شيئا أيضا؛ كان لديهم عالمهم السري الخاص بهم. كانوا يزدادون وقاحة وإحساسا بذواتهم. كان بعضهم يضايقون بشدة الصبية الأكبر سنا حتى يشتروا لهم مخدرات. هكذا صار جليا كيف كانت تتوفر لديهم بعض الأموال التي مصدرها غير معروف.
لدى نيل الآن أخ أصغر منه يسمى جوناثان. شخص مستقيم جدا الآن، متزوج ويعمل مدرسا. بدأ جوناثان بالتلميح، وهو ما كان يفعله صبية آخرون، لم يستطيعوا الاحتفاظ بالسر لأنفسهم، وسرعان ما ذاع الأمر. كانوا يحصلون على أموالهم من ماريا. كانت ماريا تدفع لهم ليضاجعوها. كانوا يضاجعونها في السقيفة الخلفية بعد أن تغلق المتجر ليلا؛ حيث كان لديها مفتاح السقيفة.
كانت تتحكم أيضا في الدخل اليومي للمتجر. كانت تقوم بإفراغ درج ماكينة الدفع النقدي ليلا، وكانت تمسك الدفاتر. كان والداها يثقان فيها. لم لا؟ كانت حاذقة في الحساب، وكانت تكرس حياتها لإدارة أعمال المتجر. كانت تفهم عمليات إدارة المتجر بالكامل أفضل من والديها. كان يبدو أنهما يشعران بالطمأنينة إزاء الأمور المالية، ولم يكونا يريدان أن يضعا أموالهما في البنك. كانا يضعان الأموال في خزانة أو ربما في صندوق محكم الغلق في مكان ما، وكانا يأخذان منه قدر حاجتهما. لا بد أنهما شعرا أنهما لا يستطيعان الثقة بأحد، أو بالبنوك أو أي شخص، خارج دائرة العائلة. كم كانت ماريا عطية من الرب إليهما! فهي متزنة وذكية، ليست جميلة جدا ما يغريها بأن تضع آمالها أو طاقتها في أي شيء آخر بخلاف إدارة أعمال المتجر. كانت ماريا بمثابة الوتد في العائلة.
كانت أطول بمقدار رأس، وأثقل وزنا بمقدار ثلاثين أو أربعين رطلا من هؤلاء الصبية الذين كانت تدفع لهم. •••
Page inconnue
توجد لحظات سيئة قليلة دوما بعد أن تقود بريندا شاحنتها من الطريق السريع - حيث يكون لديها عذر للقيادة هناك، حال رآها أحد - إلى الطريق الجانبي. كانت شاحنتها لافتة للانتباه، لا يمكن أن يخطئها أحد. لكن بمجرد أن تعزم أمرها وتشرع في الأمر، وهي تقود إلى مكان ليس من المفترض أن تكون فيه، تشعر أنها أقوى. وعندما تقود سيارتها إلى طريق المستنقع المهجور، لا يوجد أي عذر ممكن تقديمه. إذا رآها أحد هنا، فسيكون أمرها قد انتهى. عليها أن تقود مسافة نصف ميل تقريبا في العراء قبل أن تصل إلى منطقة الأشجار. كانت تأمل في أن تزرع الذرة، التي كانت ستنمو لارتفاعات طويلة وتخفيها، لكنهم لم يزرعوا ذرة بل فاصوليا. على الأقل لم يجر رش الطرق الجانبية هنا؛ كانت الحشائش والطحالب وأجمات التوت قد نمت عاليا، وإن لم يكن عاليا بما يكفي لإخفاء شاحنة. كانت هناك أزهار عصا الذهب والصقلاب، قرون بذورها مفتوحة، وكانت عناقيد متدلية من الفواكه السامة البراقة، والكرم البري فوق كل شيء، وتزحف حتى إلى الطريق. وأخيرا، صارت بريندا في الداخل، دخلت نفق الأشجار؛ شجر أرز وشوكران، وعند الدخول أكثر في المنطقة الأكثر بللا كانت توجد أشجار الطمراق الرفيعة، والكثير من أشجار القيقب اللينة ذات الأوراق الصفراء والبنية المرقطة. لا يوجد ماء آسن، ولا توجد برك سوداء، حتى في الأماكن القصية في منطقة الأشجار. كانا محظوظين في ظل الصيف الجاف والخريف. كانت ونيل محظوظين، وليس المزارعون؛ فإذا كانت السنة ممطرة، ما كانا سيلجئان لهذا المكان. كانت الأخاديد الصلبة التي تمر عجلات سيارتها فيها ستصبح طينا لزجا وكانت النقطة التي تنحرف عندها بالسيارة في آخر المكان ستصبح مجرد منخفض طيني.
تقع هذه البقعة داخل تلك المنطقة بنحو ميل ونصف الميل. هناك أماكن صعبة في القيادة فيها، تلي منحدرين صغيرين يبرزان من المستنقع، وجسرا خشبيا ضيقا فوق جدول لا تستطيع أن ترى أي ماء تحته، فقط بعض نباتات قرة العين والقراص المصفرة، التي تمتص غذاءها من الطين الجاف.
يقود نيل سيارة من طراز ميركوري زرقاء قديمة - أزرق قاتم - والتي يمكنها السير في بركة، بقعة من ظلام المستنقعات تحت الأشجار. جاهدت بريندا حتى ترى السيارة، وهي لا تمانع في أن تصل هناك قبله بدقائق، حتى تتمالك نفسها، وتفرد شعرها، وتفحص مكياجها، وترش عنقها (وفي بعض الأحيان بين رجليها أيضا) بعطر بحقيبة يدها. تصبح قلقة عند مرور أكثر من بضع دقائق. لا تخشى الكلاب البرية أو المعتدين أو الأعين التي تتلصص عليها من بين الأيكات - كانت معتادة على قطف التوت هنا عندما كانت طفلة؛ وهكذا عرفت هذا المكان. تخاف مما قد لا يكون هناك، لا مما هو موجود؛ غياب نيل، إمكانية تخليه عنها، إنكاره المفاجئ لها. إن هذا يمكن أن يحول أي مكان، أي شيء، إلى مكان قبيح وخطر وغبي. أشجار أو حدائق أو أماكن انتظار أو مقاهي - لا يهم. في إحدى المرات، لم يأت؛ كان مريضا، ربما كان بسبب تسمم غذائي أو آلام رهيبة بالرأس بسبب الإفراط في شرب الخمر، والتي لم يصادفها من قبل في حياته، مثلما أخبرها عبر الهاتف تلك الليلة، وكان عليها أن تتظاهر أن شخصا كان يهاتفهم ليبيعهم أريكة. لم تنس فترة انتظارها قط؛ فقدان الأمل، الحرارة، والبق - كان ذلك في شهر يوليو - وكان جسدها يرشح عرقا، هنا في شاحنتها، مثل إقرار يائس بالهزيمة.
ها هو، لقد أتى قبلها، تستطيع أن ترى أحد مصابيح السيارة الميركوري عبر ظلال أشجار الأرز الكثيفة. يبدو الأمر كشخص يلقي نفسه بالماء عندما يكون جسده شديد الحرارة، مجروحا ومقروصا في كل مكان جراء قطف التوت من الأجمة في الصيف؛ العذوبة المحيطة بالأمر، العطف البارد الذي يغرق جميع مشاكلك في أعماقه الفجائية. تركن بريندا شاحنتها وتعدل من شعرها وتقفز خارجة منها، وتجرب الباب لترى ما إذا كان موصدا، وإلا سيرسلها نيل على عجل إلى الشاحنة، مثل كورنيليس، لتتأكد من أنها قد أغلقتها. تسير عبر المسافة المشمسة الصغيرة، الأرض التي تتناثر الأوراق عليها، ترى نفسها تسير، مرتدية بنطالها الأبيض الضيق والبلوزة الفيروزية، وحزاما أبيض متدليا، وحذاء بكعب عال ، وحقيبتها فوق كتفها. امرأة رشيقة، بشرتها بيضاء منمشة، وعيناها زرقاوان تحفهما ظلال وخطوط تحديد زرقاء، والتي تغلق على نحو جذاب إزاء أي إضاءة. تنعكس الشمس على شعرها الأشقر الضارب إلى الحمرة - والذي تم تصفيفه بالأمس - مثل تاج من البتلات. ترتدي الكعب العالي فقط من أجل قطع هذه المسافة القصيرة، فقط من أجل لحظة عبور الطريق هذه عندما تقع عيناه عليها، من أجل حركة الحوض والطول الزائدين التي يمنحها الكعب إياها.
في الغالب، يتضاجعان في سيارته، هنا تماما في مكان لقائهما، رغم أنهما يظلان يخبر كل منهما الآخر أن ينتظر: توقف، انتظر حتى نصل إلى المقطورة. تعني «انتظر» عكس ما تشير إليه، بعد برهة. في إحدى المرات، بدآ المضاجعة بينما كانا لا يزالان يقودان. خلعت بريندا بنطالها وتنورتها الصيفية الفضفاضة، غير منبسة بكلمة، ناظرة إلى الأمام مباشرة، وانتهى بهما المطاف بالتوقف على جانب الطريق السريع، مخاطرين في ذلك أيما مخاطرة. الآن، عندما يمران بهذه النقطة، تقول دوما شيئا من قبيل: «لا تحد عن الطريق هنا.» أو «يجب أن توضع علامة تحذيرية هنا.»
يقول نيل: «لافتة تاريخية!»
لديهما تاريخ من العلاقة الجسدية، تماما مثل العائلات أو الأشخاص الذين يذهبون إلى المدرسة معا. ليس لديهما أشياء أخرى أكثر من ذلك. لم يتناولا وجبة واحدة معا، أو يشاهدا فيلما. مع ذلك، يمران معا ببعض المغامرات المعقدة والأخطار، ليس فقط مغامرة من نوع التوقف على جانب الطريق السريع للمضاجعة. ويقومان بأشياء خطرة، كل يدهش الآخر بها، على نحو صحيح دوما. في الأحلام، يراودك إحساس أنك شاهدت هذا الحلم من قبل، أن هذا الحلم يتكرر مرارا، وتعلم أن الأمر ليس على هذا النحو من البساطة. تعلم أن ثمة نظاما خفيا كاملا يطلق عليه اسم «الأحلام»، بما أنه ليس ثمة اسم أفضل تطلقه عليه، وأن هذا النظام لا يشبه الطرق أو الأنفاق، بل يشبه أكثر الشبكة الجسدية الحية، التي تنكمش وتتمدد كلها، والتي تكون غير متوقعة لكنها مألوفة في نهاية المطاف؛ حيث توجد أنت الآن، حيث كنت دوما. كانت الأمور تمضي على هذا النحو معهما ومع الجنس، تسير إلى مكان كذلك، وكانا يفهمان الأشياء نفسها حول الأمر برمته ويثقان أحدهما في الآخر، حتى الآن.
في مرة أخرى على الطريق السريع، رأت بريندا سيارة بيضاء ذات غطاء قابل للطي، سيارة بيضاء قديمة من طراز موستانج غير مكشوفة تقترب - كان ذلك في الصيف - فاختبأت في أرضية السيارة. قالت: «من في تلك السيارة؟ انظر، سريعا، قل لي.»
قال نيل: «فتيات، أربع أو خمس فتيات يبحثن عن شباب.»
قالت بريندا مختبئة مرة أخرى: «ابنتي! من الجيد أنني لم أربط حزام الأمان.» «هل لديك ابنة كبيرة بما يكفي كي تقود سيارة؟ وهل ابنتك تمتلك سيارة ذات غطاء قابل للطي؟» «سيارة صديقتها. لا تقود لورنا بعد، لكنها تستطيع؛ فهي تبلغ من العمر ستة عشر عاما.»
Page inconnue
شعرت أن ثمة أشياء كان يمكن أن يتفوه بها، والتي أملت ألا يفعل. الأشياء التي يشعر الرجال أنهم مدفعون لقولها عن الفتيات الصغيرات.
قالت بريندا: «كان من الممكن أن يكون لديك فتاة في مثل عمرها ... ربما لديك مثلها، لكنك لا تعرف. لقد كذبت علي هي أيضا، كانت تقول إنها ذاهبة لتلعب التنس.»
مرة أخرى لم يقل شيئا كانت تأمل ألا تسمعه، أي إشارة خبيثة تذكرها بالكذب. لقد مر الخطر.
كل ما قاله هو: «لا عليك، خذي الأمور ببساطة. لم يحدث شيء.»
لم يكن لديها سبيل لمعرفة كم كان يفهم مشاعرها في تلك اللحظة، أو ما إذا كان يفهم أي شيء عنها على الإطلاق. لم يذكرا كورنيليس قط، رغم أنه كان الشخص الذي تحدث نيل إليه أولا عندما جاء إلى مخزن الأثاث. كان يبحث عن دراجة، دراجة رخيصة كي يقودها في الطرق الريفية. لم يكن لديهما أي دراجات آنذاك، لكنه لم يرحل وظل يتحدث مع كورنيليس لفترة، عن نوع الدراجة التي يريدها، عن طرق إصلاح أو تحسين هذا النوع من الدراجات، عن كيف يمكن أن يجدا دراجة مثل التي يريدها. قال إنه سيمر عليهما مرة أخرى. حدث ذلك فعلا ، في وقت قريب جدا، ولم يكن هناك سوى بريندا. كان كورنيليس قد ذهب إلى المنزل ليستريح قليلا، كان ذلك اليوم أحد الأيام الصعبة بالنسبة إليه. أوضح نيل وبريندا أحدهما إلى الآخر كل شيء آنذاك، على الرغم أنهما لم يقولا شيئا محددا. عندما هاتفها نيل وطلب منها أن تحتسي معه شرابا، في حانة على طريق البحيرة، كانت تعلم ماذا كان يقصد وكانت تعلم كيف سترد عليه.
أخبرته أنها لم تفعل شيئا كذلك من قبل قط. كانت تلك كذبة من ناحية، وكان ذلك صحيحا من ناحية أخرى. •••
خلال ساعات عمل المتجر، لم تجعل ماريا التعاملات تتداخل بعضها مع بعض. كان الجميع يدفع مثلما هو معتاد. لم تكن تتصرف بطريقة مختلفة على الإطلاق؛ كانت لا تزال مسئولة عن أمور المتجر. كان الصبية يعلمون أن لديهم قوة تفاوضية، لكنهم لم يكونوا واثقين قط إلى أي مدى؛ دولار، دولارين، خمسة دولارات. لم يكن الأمر كما لو كان أن عليها أن تركن إلى واحد أو اثنين منهما. كان ثمة دوما أصدقاء في الخارج، منتظرين وراغبين، وكانت تصطحب أحدهم إلى السقيفة قبل أن تستقل الحافلة إلى المنزل. حذرتهم أنها ستتوقف عن التعامل معهم إذا تفوهوا بكلمة، وصدقوها لفترة. لم تكن تستخدمهم بانتظام في البداية، أو كثيرا جدا.
كان ذلك في البداية. مع مرور أشهر قليلة، بدأت الأمور تتغير. تزايدت احتياجات ماريا. صارت عملية التفاوض أقل سرية وأكثر صعوبة. شاع الأمر. تقلصت سلطة ماريا، ثم سحقت سحقا. «هيا ماريا، أعطني عشرة دولارات. أنا أيضا. ماريا، أعطني عشرة دولارات أنا أيضا. هيا ماريا، تعرفينني جيدا.» «عشرين دولارا ماريا. أعطني عشرين دولارا هيا. عشرين دولارا. أنت مدينة لي ماريا. هيا الآن. لا ترغبين في أن أخبر أحدا. هيا ماريا.» «عشرون، ثم عشرون، عشرون». ماريا تستسلم. تذهب إلى السقيفة كل ليلة. ثم بدأ بعض الصبية في الرفض، وكأن ليس لديها ما يكفيها من متاعب. يريدون المال أولا. يأخذون المال ثم يرفضون. يقولون إنها لم تدفع لهم. كانت تدفع لهم، كانت تدفع لهم أمام شهود، وكان الشهود ينكرون ذلك. يهزون رءوسهم، ويسخرون منها. «لم تدفعي له قط. لم أرك قط. ادفعي لي الآن وسأذهب. أعدك بأن أفعل. سأذهب. ادفعي لي عشرين دولارا ماريا.»
وها هم الصبية الأكبر سنا، الذين عرفوا من أشقائهم الأصغر ماذا يجري، يأتون إليها عند ماكينة الدفع النقدي ويقولون: «ماذا عني ماريا؟ تعرفينني أنا أيضا. هيا ماريا، ماذا عن عشرين دولارا؟» هؤلاء الفتية لا يذهبون معها إلى السقيفة أبدا. هل كانت تظن أنهم سيفعلون؟ لا يعدونها حتى بذلك، لا يسألونها إلا مالا فقط. «أنت تعرفينني منذ فترة طويلة ماريا.» يهددون ويتملقون: «ألست صديقك أنا أيضا، يا ماريا؟»
لم يكن أحد صديقا لماريا.
Page inconnue
كان هدوء ماريا الوقور المترقب قد ذهب. صارت شرسة، ومتجهمة، وخبيثة. بينما كانت ترمقهم بنظرات مفعمة بالكراهية، واصلت إعطاءهم المال، واصلت إعطاءهم الدولارات. لا تحاول حتى أن تتفاوض، أو تجادل، أو ترفض، بعد الآن. في إحدى نوبات غضبها العارم فعلت ذلك، غضب عارم صامت. كلما زادت إهاناتهم لها، كانت الأوراق المالية فئة العشرين دولارا تطير خارجة من درج ماكينة الدفع النقدي. لم تفعل إلا أقل القليل، ربما لا شيء، لكسب مودتهم الآن.
كان نيل وأصدقاؤه منتشين طوال الوقت. طوال الوقت الآن توفر لديهم هذا المال. يرون تدفقات جميلة لذرات متطايرة من أسطح موائد الفورميكا. تهرب أرواحهم المغيبة من تحت أظافر أصابعهم. ذهب صواب ماريا، واستنزفت أموال المتجر. كيف يمكن أن يستمر ذلك؟ ما نهاية ذلك كله؟ يجب أن تلجأ ماريا الآن إلى صندوق المال محكم الإغلاق؛ لا تكاد تكفيها الأموال في درج ماكينة الدفع النقدي بنهاية اليوم. وتظل أمها تعد المخبوزات طوال الوقت وتصنع البيروغة، ويظل الأب يكنس الممر الجانبي ويحيي الزبائن. لم يخبرهم أحد بالأمر، وتمضي بهم الأمور كالمعتاد.
كان يجب أن يعرفا بأنفسهما. وجدا فاتورة لم تدفعها ماريا - شيئا من هذا القبيل، شخص أتى معه فاتورة غير مدفوعة - وذهبا لأخذ مال لتسديدها، فلم يجدا أي نقود. لم يكن ثمة مال حيث كانوا يحتفظان به، في خزانة، أو صندوق محكم الإغلاق، أو أي شيء من هذا القبيل، ولم يكن موجودا في أي مكان آخر؛ ذهب المال. هكذا عرفوا بالأمر.
أنفقت ماريا كل المال، كل ما ادخروه، كل أرباحهم التي تراكمت ببطء، كل الأموال التي كانوا يديرون عملهم من خلالها. حقا، كل شيء! لا يستطيعون دفع الإيجار الآن، لا يستطيعون دفع فاتورة الكهرباء أو الدفع لموردي بضائعهم. لا يستطيعون الاستمرار في إدارة متجر الحلوى. على الأقل، اعتقدوا أنهم لا يستطيعون ذلك. ربما لا يملكون الحماس اللازم للاستمرار في إدارة المتجر.
أغلق المتجر. وضعت لافتة على الباب تقول: «مغلق حتى إشعار آخر.» مر عام كامل قبل إعادة فتح المتجر. تحول المتجر إلى مغسلة قائمة على الخدمة الذاتية.
قال الناس إن السبب في ذلك كان أم ماريا، تلك المرأة الضخمة الخنوعة المحنية، التي أصرت على إثبات التهمة على ابنتها. كانت مذعورة من اللغة الإنجليزية وماكينة الدفع النقدي، لكنها دفعت بماريا إلى المحكمة. بالطبع، أدينت ماريا لكنها كحدث جرى إيداعها في مكان لرعاية الأحداث، ولم يكن ثمة شيء يمكن عمله حيال الصبية على الإطلاق. كذبوا كلهم على أي حال؛ قالوا إنهم لا علاقة لهم بالأمر. لا بد أن والدي ماريا وجدا عملا، لا بد أنهما واصلا العيش في فيكتوريا؛ نظرا لأن ليزا واصلت العيش فيها. كانت لا تزال تسبح لدى مسابح جمعية الشبان المسيحيين، وخلال بضع سنوات كانت تعمل في متجر إيتون في مجال مستحضرات التجميل. كانت ساحرة ومتغطرسة جدا آنذاك. •••
يحضر نيل فودكا وعصير برتقال دوما ليشرباهما هو وبريندا. هذا اختيار بريندا. قرأت في موضع ما أن عصير البرتقال يجدد فيتامين سي الذي تستنزفه المشروبات الكحولية، وهي تأمل ألا يلاحظ أحد أنها احتست الفودكا من خلال رائحة فمها. ينظم نيل الأشياء داخل المقطورة، أو هكذا تعتقد؛ نظرا للحقيبة الورقية الممتلئة بعلب الجعة الموضوعة على خزانة المؤن، وكومة من الصحف المكبوسة معا - غير المثنية في حقيقة الأمر - وزوج الجوارب الموضوع في أحد الأركان. ربما يفعل زميله في السكن ذلك؛ رجل يدعى جاري، لم تقابله بريندا قط أو ترى صورة له، ولن تعرفه إذا التقيا في الشارع. هل سيعرفها هو؟ يعرف أنها تأتي هنا، ويعرف متى؛ هل يعرف حتى اسمها؟ هل يميز عطرها، رائحة علاقتها الجنسية مع نيل، عندما يعود إلى البيت في المساء؟ تحب المقطورة، النحو الذي لا يبدو أي شيء فيها منظما أو دائما. توضع الأشياء حيثما تصبح مناسبة. لا توجد ستائر أو حصائر طعام، ولا توجد حتى زجاجات ملح وفلفل، فقط ملاحة وعلبة فلفل، مثلما تأتي من المطعم. تعشق رؤية فراش نيل غير مرتب، عليه غطاء فوقه نقوش مربعة، ووسادة مستوية، ليس فراش زوجين أو فراش مرض وراحة وتعقيد، بل فراش شهوته ونومه، وكلاهما مجهد وداع إلى الغفلة. إنها تحب حياة جسده، على يقين تام بحقوقه. تريد أوامر منه لا طلبات. تريد أن تصبح مرتعه.
لا يزعجها قليلا إلا قذارة الحمام، مثل قذارة أي شخص آخر، وترغب في أن يهتما أكثر بتنظيف الحمام وحوض الاغتسال.
يجلسان إلى المائدة لاحتساء الشراب، ينظران إلى الخارج عبر نافذة المقطورة إلى ماء البحيرة الفولاذي، المتلألئ المضطرب. الأشجار هنا - نظرا لأنها مكشوفة للرياح التي تهب على البحيرة - عارية تقريبا من الأوراق. هياكل شجر البتولا والحور متصلبة وبراقة والقش يحيط بالماء. ربما تكون هناك ثلوج خلال شهر، وبالتأكيد خلال شهرين. سيجري إغلاق طريق البحر، وربط القوارب الصغيرة في الشتاء، وسيكون ثمة مساحة ثلجية رائعة من الشاطئ إلى المياه. يقول نيل إنه لا يعرف ماذا سيفعل، بمجرد انتهاء العمل في الشاطئ. ربما سيبقى، ويحاول الحصول على وظيفة أخرى. ربما سيتقدم بطلب تأمين بطالة لفترة، ويشتري عربة ثلجية، ويستمتع بالشتاء، أو قد يرحل ويبحث عن وظيفة في مكان آخر، ويزور الأصدقاء. لديه أصدقاء في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وخارجها، ولديه أصدقاء من بيرو.
تقول بريندا: «ماذا حدث بعد ذلك؟ هل لديك أدنى فكرة عما حدث لماريا؟»
Page inconnue
يقول نيل: لا، ليس لديه أدنى فكرة عنها.
لن تبرح القصة بريندا وشأنها؛ فستلازمها مثل طبقة على اللسان، مذاق في الفم.
تقول بريندا: «حسنا، ربما تزوجت بعد أن خرجت. تتزوج كثيرات ممن هن لسن على قدر كبير من الجمال. هذا مؤكد. ربما فقدت بعض الوزن وتبدو أجمل.»
يقول نيل: «مؤكد ... ربما يدفع رجال لها، وليس العكس.» «أو ربما لا تزال قابعة في واحد من تلك الأماكن، تلك الأماكن التي يضعون الناس فيها.»
تشعر بألم الآن بين رجليها، أمر معتاد بعد واحد من هذه اللقاءات. إذا كانت ستقف في هذه اللحظة، فكانت ستشعر بارتجاف في ذلك المكان، ستشعر بأن الدماء تتدفق ثانية عبر الأوردة والشرايين الصغيرة جميعها التي جرى سحقها وجرحها، ستشعر بنفسها ترتجف مثل بثرة كبيرة منتفخة.
ترتشف رشفة طويلة وتقول: «إذن، كم استطعت أن تحصل منها؟»
يقول نيل: «لم أحصل على أي شيء على الإطلاق؛ كنت فقط أعرف هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يفعلون ذلك. لقد كان أخي جوناثان هو من يأخذ منها أموالا. أتساءل عما سيقوله إذا ذكرته بالأمر الآن.» «الصبية الأكبر أيضا! كنت تقول: إن الصبية الأكبر كانوا يعرفون. لا تقل لي إنك كنت فقط تشاهد ما يحدث ولم تحصل على نصيبك.» «إن ما «أقوله» لك هو الحقيقة، لم أحصل على شيء البتة.»
طقطقت بريندا بلسانها تعبيرا عن امتعاضها، وأفرغت محتويات الكأس في فمها ثم حركته على المائدة، وهي تنظر في ريبة إلى الدوائر التي بداخله.
يقول نيل: «هل تريدين كأسا آخر؟» يتناول الكأس منها.
تقول له: «علي أن أذهب ... حالا.» ربما تضاجع أحدا في عجلة إذا كان هذا ضروريا، لكنك تحتاج إلى وقت كي تتعارك معه. هل هذا هو ما هما في طريقهما إليه؟ عراك؟ تشعر بالتوتر لكنها سعيدة. سعادتها قصيرة وخاصة، ليست سعادة من ذلك النوع الذي يفيض خارجك ويلون كل شيء من حولك، ويجعلك غير مكترث في أريحية بما تقول. العكس تماما؛ تشعر بالخفة والتوتر والتشرذم. عندما يأتيها نيل بكأس آخر ممتلئ، تتجرع رشفة واحدة منه مباشرة، حتى تحافظ على هذا الإحساس.
Page inconnue
تقول: «اسمك كاسم زوجي! من المضحك أنني لم أفكر في ذلك من قبل .»
كانت قد فكرت في ذلك من قبل. لم تذكر ذلك فقط من قبل، ظانة أن هذا شيئا لن يحب نيل أن يسمعه.
يقول: «كورنيليس ليس كنيل.» «هذا اسم هولندي. وبعض الهولنديين يختصرون الاسم إلى نيل.» «حسنا، لكنني لست هولنديا، واسمي ليس كورنيليس، بل نيل.» «لكن يظل الأمر أن اسمه إذا جرى اختصاره كنت ستدعى مثله.» «اسمه ليس مختصرا.» «لم أقل ذلك. قلت إذا كان سيجري اختصاره.» «إذن، لماذا تقولين إذا لم يختصر؟»
لا بد أن شعورا مماثلا يراوده هو أيضا؛ ذلك الصعود البطيء الذي لا يقاوم لانفعال جديد، الحاجة إلى قول وسماع أشياء سيئة. يا لها من متعة جامحة ومحررة للمشاعر التي توجد في الحركة الأولى! ويا له من إغراء مثير للاستمرار، والذي سيؤدي حتما إلى خراب! لا تستطيع أن تتوقف من أجل التفكير في السبب عن حاجتك إلى ذلك الخراب. فأنت تفعل ذلك وحسب.
يسأل نيل فجأة: «لماذا علينا أن نشرب في كل مرة؟ هل نرغب في أن نتحول إلى مدمني كحوليات أو شيء من هذا القبيل؟»
ترتشف بريندا رشفة سريعة وتدفع بكأسها بعيدا، وتقول له: «من عليه أن يشرب؟»
تعتقد أنه يقصد أنهما يجب أن يشربا القهوة، أو المشروبات الغازية، لكنه ينهض ويذهب إلى التسريحة حيث يحتفظ بملابسه، ويفتح درجا، ويقول لها: «تعالي إلى هنا.»
تقول له: «لا أريد أن أرى أيا من هذه الأشياء.» «أنت لا تعرفين أصلا ما يوجد هنا.» «بالطبع أعرف.»
بالطبع هي لا تعرف، ليس على وجه التحديد. «هل تظنين أن شيئا ما سيعضك؟»
ترتشف بريندا رشفة أخرى من كأسها وتظل تنظر خارج النافذة. تبدأ الشمس في الغروب، دافعة بضوئها البراق عبر المائدة لتدفئ يديها.
Page inconnue