وكان على بعد ساعة من منزلنا قصر جميل لضابط إيطالي الأصل فرنسي التبعة، كان يدعى الكونت فيليبون.
وكان هذا الكونت يصرف مدة الصيف في هذا القصر مع امرأته وابنه الفيكونت أندريا، أكبر مجرم ظهر على وجه الأرض من أيام آدم وحواء.
أما الكونت فإنه كان رجلا حاد المزاج شرس الأخلاق، بعكس امرأته التي كانت مثال اللطف والدعة، والذي ظهر لي أنه كان يسيء إليها إساءة شديدة أثرت شر تأثير على مزاجها اللطيف، فإن رائيها كان يظنها في الثمانين من عمرها مع أنها لم تبلغ الخمسين.
وكانت علائق الوداد بين الكونت وبين أبي متينة، فذهب بي يوما إلى قصره حيث عرفت الكونتسة التي أحبتني بحنان وإشفاق، فصرت أزورها في كل يوم وهي تزداد نحولا، ولكنها كانت تتعزى بقربي منها بعض العزاء.
فما مضى على ذلك شهر حتى تبينت أنها عائشة مع زوجها كغريبين في هذا القصر، وعرفت ابنها الفيكونت أندريا، فتبين لي أيضا أنه لا يحب أمه على الإطلاق.
لم تزل تلك المرأة الفاضلة تزيدها العزلة وهنا والأحزان ذبولا حتى دنت ساعتها الأخيرة وأحست بالنزع الشديد في ليلة برد هواؤها وأظلم جوها، وهي تقاسي ألم النزع وحدها؛ لأن زوجها وابنها كانا في الصيد.
فبعثت تدعوني إليها، فأتيت على الفور ورأيتها مسجاة على فراشها تختلج، والكاهن بقربها يصلي صلاة الموت، وبعض الخدم ركع يبكون.
وكانت تبحث عبثا بنظرها الملتهب عن ابنها، ففاضت روحها الطاهرة في الساعة العاشرة، وكانت آخر ما قالت: «أندريا يا أيها الابن العقوق.» وأذكر أني سمعت خادما طاعنا في السن قال بصوت منخفض: «إن الفيكونت هو الذي قتل أمه.»
وبعد موتها بيومين عاد الكونت وابنه إلى القصر، وكان الفيكونت يكاد لا يفارق منزلنا، فلم يمض على هذا الائتلاف ثلاثة أشهر حتى استعضنا باللسان عن العين في نقل أحاديث قلبينا، ولا أعلم كيف دخل حبه إلى قلبي، ولا كيف فتنت به بعد أن علمت أنه كان السبب في موت أمه، بل أعلم أنه مرت بنا ساعة آمنت به كما تؤمن الملائكة بالله، فاستسلمت إليه، وضحيت - وا أسفاه - نفسا زكية على هيكل ذلك الحب الفاسد.
ومما كان يقوله لي بعد ذلك: مرتا إني أقسم لك بما تريدين من الأيمان أني سأتزوج بك. كنت عندما ألح عليه بوفاء وعوده كان يتعلل برفض أبيه؛ لما بين عائلتينا من التفاوت في الغنى، ويقول: إن ذلك لا يكون قبل وفاة أبي، وقد اتخذ من هذا الحاجز حجة على وجوب هربنا، فقال لي يوما: ألا تذهبين معي إلى إيطاليا فأتزوج بك فيها؟ - وأبوك؟ - إنه يغضب حينا، ثم لا يلبث أن يرضى. - وأبي؟ - سندعوه إلينا. - إذن فلنخبره بما عزمنا عليه، فهو لا يرفض إذا اعترفت له بما كان بيننا، ولئن يكون معنا أجدر بنا وأشرف لنا من أن نكون وحدنا.
Page inconnue