كان الزحام شديدا في شارع الرامبلا، ضاعت أناجيل في الزحام، جرفتها أجسام الناس بعيدا، بينما توقفت الفتاة تتطلع إلى امرأة واقفة مثل التمثال، تؤدي دور البانتوميم، بشرتها مدهونة بلون أسود يشبه القطران، ملابسها بيضاء شفافة، فوق رأسها مظلة بيضاء مفتوحة، رموشها ثابتة كثيفة سوداء. تجمع حولها الأطفال فابتسمت، ظهرت أسنانها بيضاء مشرقة كالشمس، عيناها سوداوان مليئتان بالسواد، ثم تجمدت مرة أخرى مثل تمثال من الحجر، ألقى الأطفال بعض النقود في القبعة البيضاء الكبيرة عند قدميها.
وسط الأطفال رأتها، ترتدي ثوبا زاهي الألوان، حول عنقها عقد من الزهور، عيناها الكبيرتان يكسوهما البريق، نجمتان تلمعان بالضوء، تقاطيع وجهها بارزة كأنما منحوتة في صخرة، في عينيها النظرة الحزينة وإن ابتسمت، تراها في النوم منذ طفولتها، تطل من المرآة منذ نظرت إلى وجهها في المرآة. - صباح؟
التفت الطفلة ناحيتها مندهشة، مترددة، شدتها من يدها امرأة ضخمة الجسم، ترتدي قبعة رمادية فيها ريشة حمراء، فوق عينيها نظارة سوداء، تشبهان العينين المدفونتين داخل ثقبي النقاب الأسود.
قضت الفتاة الليل مفتوحة العينين، تسترجع الوجوه في ملجأ الأطفال، في الصباح جاءت أناجيل، قالت أرخص الأطفال من إثيوبيا ومصر والسودان، أغلى الأطفال من روسيا والصين وإسرائيل، وفي المتوسط لا يقل ثمن الطفل أو الطفلة عن ثلاثين ألف «دولار». •••
جاءتها رسالة من سميح، يطلب منها العودة، ينتظرها بشوق كبير ومعها طفلتها، «هي طفلتنا ألا تذكرين! وبأي اسم تختارين، «زباتيرو» يحمل اسم أمه، وهو أفضل من الملوك والرؤساء الحاملين لاسم الأب.»
وجاءتها رسالة من كارمن، تطلب منها العودة إلى الوطن، ومعها الطفلة، «هي طفلتنا نحن الثلاثة، أنت وأنا ورستم، أنت الأم الأصلية وأنا الأم الفرعية، والأب الأصلي هو رستم، وإن شئت يمكن إضافة سميح، هذه الطفلة محظوظة لها أمان اثنتان وأبوان.» •••
الحنين إلى الوطن تحسه تحت ضلوعها، ضربات القلب القوية في تتابع وانتظام، مع الضربات الأخرى تحت جدار البطن، داخل الأحشاء تحولت فلذة الكبد إلى طفلة تشبهها، رأت صورتها من خلال الأشعة، وابتسم الطبيب الكاتالاني، مبروك يا نورية، كان يناديها باسم أمها «نورية»، «ستكون طفلة جميلة ماذا تسميها؟» قالت «سيكون لها اسم أمي»، قال الطبيب، «يمكنك إضافة اسم أبيك إن شئت»، «لم يكن لي أب»، ضحك الطبيب، «أنت محظوظة مثلي، لم أعرف إلا أمي مثل «زباتيرو» ... أحمل اسمها وأشعر بالفخر.» •••
حملقت يولاندا طويلا في عيني الطفلة السوداوين يكسوهما البريق، ثم شهقت، باسم الأب والابن والروح القدس، هذه الطفلة هي حفيدتي، عيناها بالضبط هما عيناه، حين كان طفلا، ابني فرانسيسك، هاجر إلى أستراليا، انقطعت عني أخباره، رسمت يولاندا الصليب على صدرها، الحمد لله والشكر لك يا رب، عوضتني عن ابني بهذه الطفلة، عيناها بالضبط هما عيناه، كأنما أراه أمامي، ابني، فلذة كبدي.
حضنت يولاندا الطفلة بذراعيها، دموعها تنهمر، أنفاسها تلهث، صوتها يرتعش متمتمة بآيات من الإنجيل، «أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك في السماء كذلك على الأرض، لك الملك والمجد إلى الأبد ... آمين»، تجهش بالبكاء، تغيرت يولاندا منذ نظرت في عيني الطفلة، كأنما عثرت على نفسها الضائعة، كأنما استردت أبناءها وبناتها المهاجرين، في بلاد العالم، أبوها المسيح هو الذي ردهم إليها دفعة واحدة، في نظرة واحدة من عيني الطفلة، اسمها نورية باسم ابنتها الغائبة، باسم الإلهة الكاتالانية القديمة نورية، لك الملك والمجد إلى الأبد يا رب العالمين.
وأرسلت إليها مريم الشاعرة قصيدة بعنوان نورية الشجاعة، التي جاءت إلى الدنيا رغم أنف الدنيا، ضد إرادة الجميع، جاءت نورية مثل شعاع الشمس، لا تقدر القوى النووية أن تمنع ظهور الشمس، خفقة القلب تحت الضلوع، فلذة الكبد في الأحشاء، وكلمة الحب في قصيدة الشعر.
Page inconnue