وزعمت أن أهل " رفنية " يأمنون البيت والمسجد ويفرقون من الدار وما الذي أوجب فرقهم منها؟ وهل البيت إلا جزء من أجزائها؟ وأما قولك إن العرب كانت تتشاءم بالصرد، فذلك معروف منهم.
أنشد " ابن الأعرابي ".
تَغْتَالُ عَرْضَ النُّقْبَةِ المُزالَهْ ... ولم تَبَطَّنْها على غِلالهِ
إِلاَّ بِحُسْنِ الخُلْقِ والنَّبَاله ... آذنَ بالبَيْنِ صُرَيْدُ الضالَهِ
فظلَّ منه القلبُ في بَلبَالَه ... يَنزو كنَزْوِ الظبْيِ في الحِبَالَه
وأنشد " أبو الفضل ابن العميد " في رسالته إلى " ابن سمكة ":
دَعَا صُرَدٌ يومًا على غُصْنِ شَوْحَطٍ ... وصاحَ بِذاتِ البَيْنِ منها غُرابُها
فقُلتُ: أَتصريدٌ وشَحْطٌ وغُرْبَةٌ ... فهذا لَعمري شَحْطُها واغتِرابها
وأما الذي حكيت عن " بحتر " فأمر لا يسلم لك. وهذه أخبار " البحتري الشاعر " تقرأ وتنسخ، لم يزعم أحد من الرواة أنه كان يستصحب صردًا أو غيره من الطير. وفي " منبج " رجال من ولده لا يرى مع أحد منهم صرد، ولعل فيهم من لم يسمع باسمه قط.
وأما قولك: إن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذا ركب دعا له البرج والصور بدعاء يفهم، فيجوز أن تكون عنيت بدعائهما له، حسن أثره فيهما. فإن مثل هذا يوجد في كلام العرب وغيرها كثيرًا. وفي الكتاب الكريم: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " فتسبيح الحجر وما جرى مجراه، إنما هو أثر الصنعة فيه، وشهادته للعاقل إذا رآه: أن له بارئًا قديرًا يفعل ما يريد.
وقال الشاعر يمدح رجلًا:
خَبَّرَ عن فَعالِكَ الأَرض واستَنْ ... طَقَ منها اليَبَاب والمَعْمُورا
وقد كثر في الأشعار الحكاية عن الطلل والربع، ومخاطبة الشاعر لما يحن إليه من جبل أو ماء. ويروي ل " حاتم الطائي ":
أَتَتْني من الرَّيَّانِ أَمْسِ رِسالةٌ ... وغَدْوًا يَجيءُ ما يقول مُوَاسِلُ
هما يسأَلانِ ما فَعلتُ، وإِنني ... كذلك عما أَحْدَثَا أَنا سَائِلُ
فقلت: أَلا كيف الزمانُ عَليكما ... فقالا: بِخَيْرٍ، كلُّ أَرضِكَ سائلُ
فحكى عن الريان ومواسل كلامًا لا يقدر عليه إلا من يعقل، وهما موضعان في جبلي طيء. ويقال إنه كان عند بعض الملوك فدعاه إلى المقام عنده وتركه وطنه. فقال له حاتم: لي صديقان، أنا أشاورهما في ذلك. ثم دخل على الملك بعد أيام فأنشده هذا الشعر يوهمه أن الريان ومواسلًا رجلان وهذا نحو مما قال آخر:
ودِدْتُ وأَبْرَقُ العَيْشومِ أَنَّا ... نكونُ معًا جميعًا في رِداءِ
أُبَاشِرُه وقد نَدِيَتْ رُبَاه ... فأُلْصِقُ صِحَّةً منه بِدَاءِ
فجعل أبرق العيشوم يود.
وفي الكتاب الكريم في صفة جهنم: " تدعو من أدبر وتولى ".
فذهب بعض الناس إلى أنها تتكلم بإذن الله في ذلك اليوم كما يتكلم الآدميون. وقال آخرون: أخذها لهم هو دعاؤها إياهم.
وإن كنت أردت أن البرج والصور يتكلمان، فقد جريت على عادتك في الإحالة.
وزعمت أن عبيده - أعز الله نصره - يرغبون في البق ويحبونه، ويبغضون الذباب.
وإن البق والذباب لبغيضان إلى كل حيوان. ألم تسمع قول " جرير ":
ظَلِلْنا بِمُسْتَنِّ الحَرورِ كأَننا ... لدَى فَس مستَقبِلِ الريحِ صَائِم
من البُلْقِ رَمَّاحٍ يَظلُّ يَشُقُّه ... أَذَى البَقِّ إِلا ما احتمى بالقوائِم
فوصف أذاة البق الأبل. وإنما يصف بيتًا بنوه لهم على قسي وسيوف.
كما تذكر العرب في الشعر أنها تفعل إذا نزلت في الهاجرة.
وقال آخر وهو يصف بيتًا بني على نحو ما ذكره " جرير ":
ومُجَوَّفٍ قَلِقِ القوائمِ سابِحٍ ... تَهفُو قوائمُه ولَمَّا تَبرَحِ
سَلسِ القِيادِ متى تُنازِعْ جانِبًا ... منه يَرُعْكَ شِماسُه أَو يَرْمَحِ
فإذا كانت الخيل تأذى بالبق، فبنو آدم أولى بالأذاة. قال الشاعر:
يا حاضِرِي الماءَ لا مَعروف عندكمُ ... لكنْ أَذَاكُمْ إِلينا رائِحٌ غَادِ
بِتْنَا عُذوبًا وباتَ البَقُّ يَلسِبُنا ... نَشْوِي القَراحَ كأَنْ لا حَيَّ بالوادِ
1 / 60