وادعيت أن حامل الدفين يكون الساج على كتفيه.
وهذه المثلة لا يرضى بها الباعة ولا أهل الدناءة، فكيف يحتملها العدل المرضى، وإنما تقبل شهادة الرجل إذا جمع بين الدين والمروءة؟ وما الذي أفقره إلى أن يحمل الساج على كتفيه كأنه مكترى للمهنة أو غلام نجار من بعض العامة؟ ولعمري إن الدف الذي يلعب به، فيه لغتان ومعاذ الله أن يحمل ذلك رجل فيه خير، وإنما تحمله الجواري الناشئات والعجائز يتكلفن حمله في الولائم. يقول النبي ﷺ: " أعلنوا النكاح واضربوا بالدف " وقال الراجز:
وطالما سُقْنا المطِيَّ زَفَّا
ليلًا وأَنتِ تقرعين الدُّفا
وإنما يعبر الرجل بحمل الجف إذا هجي. والمراد بذلك أنه من أهل التخنيث. قال الشاعر:
أَنَّى لِعَفَّانٍ أَبيكَ سَبيكةٌ ... صفراءُ والنهرُ العُبابُ الأزرقُ
ووَرِثْتَه دُفًّا له ويَراعةً ... جوفاءَ كان بِنَفْخِها يَتَمطَّقُ
وزعمت أن أهل " عزاز " في كل ليلة تبرك عليهم النعامة. وتلك أرض لا يطرقها النعام إلا بعد أن يصاد. فلو ادعيت ذلك للمزالف من الأرضين لكان أولى بك واخلق. ومثل هذا الكلام تقوله العرب على سبيل التقليل والاحتقار، كما قال:
ولو أَن عُصفورًا يَمُدُّ جَناحَه ... على آلِ طَيْىء كلِّها لاَستظَلَّتِ
وقال " زياد الأعجم ":
زعمتْ غُدانةُ أَن فيها سَيِّدًا ... ضخمًا يُواريه جَناحُ الجُندُبِ
يُرْويه ما يُرْوي الذبابَ فينتهي ... سُكرًا، ويُشبِعُهُ كُراعُ الأَرنب
وقد يجوز أن تعنى بقولك: تبرك عليهم النعامة، أي عندهم وفيهم.
كما يقال: نزلنا على بني فلان. ولا يراد أنهم نزلوا بأجسامهم على أجسام أولئك، إنما يراد أنهم كانوا تضيفوا القوم أو نزلوا بين ظهورهم. وإنما ينبغي أن تدعى مثل هذا في الأرض يكثر بها خيط النعام.
وأما أرض لا تمر بها النعامة إلا وهي مصيدة، فمحال.
وزعمت أن العدل من أهل " منبج " لا يرى عند قاضيهم أو واليهم مسلمًا.
ولو ذهب رسول قاصد يكشف عما قلت لوجدك مبطلًا متخرصًا.
ولا بد لعدول البلد وأماثل أهله، من السلام على الوالي والقاضي. وبهذه العادة جرت أخلاق الناس في كل الأوطان.
وزعمت أن السنانير إذا كانت في البادية تقلدت السيوف ولعبت بالرماح.
ولا يلعب بالرمح إلا من يقدر أن يطعن به. فلو صح هذا من دعواك لاجتمعت سنانير هذا الإقيلم فصدت الجيش الذي يعمد لأهله بالأذاة. لأن أهل كل دار لا يعدمون سنورًا من السنانير.
وادعيت أن أهل " بعل بك " يفرح كل واحد منهم أن تكون له أمة وأن كلهم يكرهون الحرائر.
وهذا خلق ليس عليه أحد من أهل البلاد. ويجوز أن تتفق هذه الشيمة في الرجل بعد الرجل، فأما أن يكون أهل البلد كلهم مصفقين على هذا الرأي، فمستحيل في النظر والمعقول. وما الذي يكرهون من الحرائر ويؤثرونه من الإماء؟ وليس أحد في الأرض يختار أن يكون أمة أمة. ومن أيمان العرب: أمي قينة إن كان كذا. ومن أمثالهم: لا تبل فوق أكمة ولا تحدث سرك ابن أمة. وما زال ذم الإماء موجودًا في منثور كلامهم والمنظوم. وفي كلام يروى عن " لقمان بن عاد " في حديث حزين الذي يذكره أصحاب الحديث، ذم لابن لأمة، وذلك أن " لقمان بن عاد " مكان له سبعة إخوة فخطبوا كلهم امرأة واحدة وخطبها لقمان معهم. واتفقوا على أن يصف لقمان كل واحد منهم فتختار أيهم شاءت.
فقال " لقمان ": خذي مني أخي ذا البجل، إذا كلأ القوم غفل، وإذا سعى القوم نسل، وإذا كان الشأن اتكل بعيد من نيء قريب من نضيح.
فلحيًا لصاحبنا لحيًا.
ثم قال: خذي مني أخي ذا الثجلة، يخصف نعلي ونعله، ويطعم أهلي وأهله، وإذا كان يومه قدمت قبله.
ثم قال: خذي مني أخي ذا العفاق، أفاق صفاق، يعمل الناقة والساق.
ثم قال: خذي مني أخي ذا النمر، حيي خفر، شجاع ظفر، أعجبني وهو خير منه إذا سكر. ثم قال: خذي مني أخي ذا الأمد، بحر ذو زبد، وجواب ليل سرمد.
ثم قال: خذي مني أخي ذا الحممة، يهب الناقة السنمة، والمائة البقرة العممة، والمائة الشاة الزهمة، وإذا كان على عاد ليلة مظلمة، قال: اكفوني الميمنة وأكفيكم المشأمة، وليس فيه لعثمة، سوى أنه ابن أمة.
1 / 58