ويحك؛ ما أبعدك من الصدق! وفي هذه البلدة خلق كثير من الرجال، وأحذيتهم النعال العربية، فمن أين لهم هذه البطارقة كلها؟ والذين يدعون الخبرة بملك الروم، يزعمون أن عدد بطارقتهم اثنا عشر بطريقًا، لا يزيدون على هذه العدة ولا ينقصون. فإذا فقد منهم رجل جعلوا مكانه سواه. وهذا ترتيب يجب أن يكون إلى ملكهم: إن شاء جعلهم عشرين وإن شاء جعلهم عشرة. فأما ادعاؤك لهذه المحلة أن فيها من البطارقة آلافًا، فكذب لا ريب فيه.
وزعمت أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - إذا حضر ميدان السلم نزل المسيح.
ولو صح هذا عند البطرك لقصد ميدانه - أعز الله نصره - حتى ينظر صحة ما تقول، ولبطل حج الأفرنج وغيرهم من أهل دينهم إلى " بيت المقدس " ولنقلوه إلى ميدان " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه -، ولجاءت الرهبان من نجران والحبشة وآفاق الأرض وتركوا الصوامع، رغبة في النظر إلى " المسيح " ﵇.
وقولك إن رجلًا ببلد كذا يفعل ويصنع - وذكرت أشياء تنقض الصلاة - قم قلت إن المسلمين واليهود والنصارى يشعدون أنه يصلي في تلك الحال.
فيجوز أن تكون أردت بقولك: يصلي، في آخر كلامك، ما يستقبل من الزمان. وقد يجوز للرجل أن يرى السابح في الماء وصائد السمك، ويشهد في تلك الحال أنه يصلي فيما بعد.
وادعيت على القصبة المسكينة، أن " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - يبغضها، وكذلك غيره من الأمراء الراشدين.
ولو صح ما زعمت لأحرق بالكتاب الواحد من الحضرة العالية جميع قصباء الشام حتى لا يجد أحد قصبة يستعين بها في بناء ولا يشد فيها المخمة لسفر ما غزله الشبثان نعند الروافد وأعالي الجدر، ولما وجد راع قصبة يتخذ منها نقيبًا ليشايع بين الإبل.
ولم رميت القصبة بهذه العظيمة؟ لعلك شربت يومًا ماء القصباء فاستوبلته، فيقال إنه ماء رديء للشارب. وقد اختلفوا في قول " الهذلي ":
متى ما أَشَأْ غيرَ زهو الملو ... كِ أَتْرُكْكَ رَهْطًا على حُيَّضِ
وأَكْحَلْكَ بالصَّابِ أَو بالجَليَ ... ففَتِّح لِكُحلْكَ أَو غَمِّضِ
وأُسْعِطْكَ في الأَنفِ ماءَ الأَبا ... ءِ مِمَّا يُثَمَّلُ بالمخْوَضِ
فقيل: أراد بماء الأباء عصارة ورق القصب، وهو من القواتل.
وقيل: أراد الماء الذي ينبت فيه القصب.
وادعيت أن بدمشق سمرة مسلمين يحلون السبت؛ وما حدث بما قلت خبير، إنما السمرة قوم من يهود.
وادعيت أن " البارة " تسافر كما يسافر الركبان. وقد روى عن " ابن عباس " أن بعض جبال " مكة " - وأغلب ظني أنه أبو قبيس - كان من جبال خراسان فجاء مهاجرًا إلى مكة. ولعمري إن جبال مكة تستوجب أن تظهر لها المعجزة وتنزل عليها الآيات، فأما " البارة " فقرية من قرى الشام دامرة المسجد ليس بينها فرق وبين غيرها من إن القريات. وقد كان وقع بها حريق من الروم وغيرهم، فليت شعري في ظنك، هل أحدثت لها النار مزاجًا حيوانيًا تقدر به على السفر؟ سبحان الله تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرا.
وادعيت أن أهل الزوج يفرقون من النائم.
فيا للعجب، أيأمنون الحي ويخافون مناسب الميت؟ قال الله تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ".
وقيل لبعض الحكماء: صف لنا الموت. فقال: نومة طويلة. فقالوا: صف لنا النوم. فقال: موتة قصيرة.
وأما القرية المعروفة ب " أورم "، فقد نزلت فيها صيفًا وعاينت بها شبانًا لا يرفعون رءوسهم من النوم. وبت بها ليالي وأحسست غطيطًا من كل جهة.
وزعمت أن العدل من عدول القاضي بمدينة السلام، لا يدخل عليه إلا ومعه دفان كل واحد منهما أحب إليه من مائة دينار.
ولو أنهما مأشوران من خشب القطر لما زاد الأمر على ما ادعيت.
وما حاجة العدل إلى حمل الدفين؟ أيكتب فيهما ما يسمع من العلم؟ فبعض الناس تكون معه ألواح صغار يكتب فيها ما يسنح له من الفوائد، وأغلاها قيمة لا قدر له.
وقد يجوز أن تعني رغبة الرجل فيما يستودعه الدقيق من العلم، فإن الكلمة الواحدة ربما عدلت عند العالم بدرة أو أكثر. والمعروف من أهل العراق أنهم يكتبون العلم في الجيد من ورق خراسان، ولا نعلم أحدًا من عدولهم يحضر مجلس القاضي ومعه دفان بهذه الصفة.
1 / 57