" لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ". وقد قيل إن النبي ﷺ قال ذلك ل " أبي عزة " الشاعر وكان يهجو النبي ﷺ. فأسر " يوم بدر " فأطلقه. فلما وصل إلى " مكة " عاد إلى ما كان فيه من الهجاء. فأتى به مرة أخرى أسيرًا فسأله الإطلاق فقال ﵇: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ".
وإنما تعنى برجوع الديك إلى مصاحبة الغراب قول الشاعر:
ولاحِقةٍ بأَعْجازِ المطايَا ... يَقيلُ الديكُ فيها والغُرابُ
وليس في هذا البيت دليل على اجتماع هذين، وإنما هو بيت معنى، يعنى بقوله " ولاحقة بأعجاز المطايا " الظلال. والديك والغراب وكل الحيوان الذي في الأرض يقيل في الظلال إلا أن يكون الحرباء وما هو مثله في البروز للشمس. ولعلك لحقك حسد للديك لما سمعت قول القائل:
كأَنَّ الديكَ، دِيكَ بني نُمَيْرٍ ... أَميرُ المؤمنين على السريرِ
فهذا تشبيه لا فخر للديك به. أليس " علي " ﵁ قد مر ب " عبد الرحمن بن عتاب " وهو مقتول، فقال: هذا يعسوب قريش؟ فأي فخر لليعسوب بذلك؟ وفي حديث آخر: " فعندها يضرب يعسوب الدين بذنبه فتجتمع إليه فرق المسلمين كما تجتمع قزع الخريف " وإنما اليعسوب ذكر النحل، وقد يسمى ذكر الجراد يعسوبًا وكذلك بعض الجعلان. ولا فضيلة للشيء من أحناش الأرض زقع به التشبيه. وإنما هذا البيت لرجل يصف نفسه بالسكر وزوال العقل، وأنه قد بلغ إلى حال يتصور فيها الأشياء بغير ما هي عليه. والأبيات:
شرِبْنَا شَربةً من ذاتِ عِرْقٍ ... بأَطرافِ الزُّجاجِ من العَصيرِ
وأُخرى بالمُرَوَّحِ ثم رُحْنَا ... نرى العُصفورَ في خَلْقِ البَعيرِ
كأَن الديكَ، ديكَ بني نُميرٍ ... أَميرُ المؤمنين على السريرِ
ورُحْتُ أَرى الكواكبَ دانياتٍ ... تنالُ أَنامِلَ الرجُلِ القَصِيرِ
أُدافِعُهنَّ عن رأسِي بِكَفِّي ... وأَمْسَحُ جانبَ القَمَرِ المُنيرِ
وإن كان في الديك بعض البله، فإنه مما يوصف به أهل الخير. وقد جاء في الحديث عن " المسيح ﵇ ": كونوا بلهًا مثل الحمام.
وفي الحديث المأثور أنه دخل الجنة فوجد عامة أهلها البله. فأما التباله فخلة يمدح بها الرجل إذا وصف بالكرم. قال " أبو دهبل الجمحي ":
تَخَالُ فيه إِذا حاوَرْتَه بَلَهًا ... عن مالِه وهو وافي العَقْلِ والوَرَعِ
أما النساء فقد كثر وصفهن بالبله. قال " حسان ":
منْ كلِّ ناعِمَةٍ غَضيضٍ طَرْفُها ... بَلهاءَ غيرِ وشيكةِ الإقدام
وقال " أبو النجم ":
مِنْ كلِّ عَجْزاءَ سَقِيط البُرْقُعِ ... بلهاءَ لم تُحفَظْ ولم تُضيَّعِ
وقال " المرقش ":
في كلِّ يومٍ لها مِقْطرَةٌ ... فيها كِباءٌ مُعَدٌّ وحَميمْ
لا تصطَلي النارَ بالليلِ ولا ... توقَظُ للضيفِ، بلهاءُ نَئٌومْ
ولعلك تؤاخذ الديك، فحل الدجاج، بما جناه المعروف به " ديك الجن " الشاعر، فإنه كان شريبًا سكيرًا، وربما نطق بالإلحاد، وهو القائل:
هي الدنيا وقد نَعِمُوا بأُخرى ... وتسويفث الظنونِ من السَّواف
إلا أنه قد أقر في بعض شعره بذنبه واستغفر. وقد جرى على ألسن العامة: المقر بذنبه كالتائب إلى ربه. وإنما عنيت قوله:
أَستَغفِرُ اللهَ لذنبي كلِّه ... قتلتُ إِنسانًا بغير حِلِّه
لُحسْنِ عينيه وحُسْنِ دَلّه ... وانصرم اليومُ ولم أُصَلِّه
وقد مر من قول الصاهل من أن توافق الأسماء لا يوجب اتفاق المعاني المقصودة، ما فيه كفاية. وليس لك حجة في أن النحويين ربما أعملوا الحرف عمل الحرف إذا كان في لفظه ولم يكن في معناه. وكذلك قالوا في بيت " الفرزدق ":
لو لم تَكُنْ غطفانُ لا ذُنوبَ لها ... إِليَّ زادتْ ذوو أَحسابِها عُمْرَا
فزعموا أن " لا " ها هنا زائدة، وأنها علمت عمل النافية، والمعنى أنه أثبت الذنوب لغطفان. وكذلك قول الآخر:
يُرَجّى المرءُ ما إِن لا يَراهُ ... وتَعْرِضُ دونَ أَدناه الخُطوبُ
فإن الخفيفة قد جرت عادتها أن تدخل زائدة بعد ما النافية.
كما قال " فروة بن مسيك المرادي ":
1 / 39