ولعلك زويت هذه الفضيلة عن الديك لأنه ربما أذن بالصبوح فنهض إلى الكأس الشرب كما قال " عبدة بن الطبيب ":
إذ أَشْرفَ الديكُ يدعو بعضَ أُسْرتِهِ ... إِلى الصَّبوحِ وهمْ قومٌ مَعازيلُ
وقال " الجعدي ":
ودَسْكَرةٍ صَوْتُ أَبوابِها ... كصوت المواتِحِ بالحَوْءَبِ
سبقتُ إِليها صياحَ الديوك ... وصوتَ نواقيسَ لم تُضْرَبِ
أتؤاخذ المؤمن من الديوك بذنب الكافر، وتلزم برها جريمة الغوى؟ إن ذلك لجهل منك، وكل العالم في الإسلام لا يخلون من قرناء كانوا على الكفر حتى اختلفت الأئمة في آباء رسول الله ﷺ وأجداده فقالت الشيعة: لم يكن بينه ﷺ وبين آدم إلا رجل مؤمن. وروى غيرهم أحاديث في ضد ذلك كثيرة، منها أنه " ﷺ " قال ل " عدي ابن حاتم الطائي " وقد قال له: يا رسول الله، اخبرني عن حاتم. فقال: " أبي وأبوك في النار " وفي حديث أنه قال: " اطلعت في النار فرأيت فيها قصي ابن كلاب يجر قصبه، فسألته عن من بيني وبينه من الآباء فقال: هلكوا ".
في أحاديث كثيرة. وفي الكتاب العزيز: " وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى ".
وقرأ " المدني ": " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بالجزم على النهي. فجاء في التفسير أن قال ﷺ: ليست شعري ما فعل أبواي؟ فقيل له: " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ".
ولعلك تؤاخذ الديك بما قال " بشار " فيه:
يا أَطيبَ الناسِ رِيقًا غَيْرَ مُخْتَبَرٍ ... إِلا شهادةَ أَطرافِ المساوِيكِ
قد زُرتِنا زَورةً في الدهرِ واحدةً ... عُودِي ولا تجعليها بَيضةَ الديك
وما الذي يلحق الديك فيما قال " بشار " من المسبة أو المأثم؟ وهل هو في هذا إلا مثله في قول " ذي الرمة " لما وصف سقط النار فقال:
وسِقْطٍ كَعيْنِ الديكِ نازعتُ صُحْبَتي ... أَباها، وهيَّأضنا لموضِعِها وَكْرا
فلمَّا بدتْ كفَّنتُها وهي طفلة ... بطَلْساءَ لم تكملْ ذراعًا ولا شِبْرا
وقلتُ له ارفَعْها إِليكَ وأحْيِها ... بِرُوحِكَ واقْتَتْ لها قيتةً قَدْرَا
وظاهِرْ لها من يابِسِ الشخْتِ واستَعِنْ ... عليها الصّبا واجعل يَدَيكَ لها سِتْرا
فما تَنَمَّتْ تأْكلُ الرِّمَّ لم تدَعْ ... ذوابلَ مما يجمعون ولا خُضْرَا
ولما جَرَتْ في الجَزْل جَرْيًا كأَنه ... سَنَا الفجر، أَهْلَلْنا لخالِقها شُكرا
فلا فضيلة للديك في أن " ذا الرمة " شبه عينه بسقط النار. كما أنه لا عار عليه فيما ذكر " بشار ". ولو أدركه من ذلك عيب لكان من يذكره الشعراء من النساء في النسيب ومن يعمدون له بكذب وهجاء، غير متعر من القالة ولا بريء من القصب ولعلك سمعت ما يتحدث به الناس عن الزمان القديم من أن الديك والغراب كان صديقين في الدهر الأول، وكانا يتنادمان. فشربا عند خمار أيامًا فلما نفد شراب الخمار وأحس الغراب أنه يريد الثمن، أصبح يومًا والديك نائم فقال للخمار: إني ماض فآتيك بحقك، وصاحبي هذا رهن عندك على مالك. وذهب فلم يعد. وذكر ذلك " أمية بن أبي الصلت الثقفي " قال:
بآيةِ قام يَنطِقُ كلُّ شيءٍ ... وخان أَمانةَ الدِّيكِ الغُرابُ
أَقاما يشربانِ الخَمْرَ دَهْرًا ... فخانَ العهدَ إِذ نَفِدَ الشرابُ
فمثل هذا الحديث لا ينبغي أن يلتفت إليه، وإنما تلك أكاذيب تحدث بها أهل الكتب من اليهود والنصارى وسمعها " أمية بن أبي الصلت " وغيره فنظمت في الشعر. و" أمية " توجد في شعره أخبار كان ينقلها من الكتب الموجودة في أيدي أهل الملتين المخالفتين. منها أن الهدهد قبر أمه في رأسه، فلذلك ريحته منتنة. قال:
غَيْمٌ وظلماءٌ وفضلُ سَحابةٍ ... أَيامَ كَفَّنَ واستزادَ الهُدهدُ
يَبْغِي القرارَ لأُمِّه لِيُجِنَّها ... فبَنَى عليها في قَفاه يَمْهَدُ
ولعلك إذا صح معك هذا الحديث، تعيب الديك بالغفلة والبله وتقول: قد جرى له مع الغراب ما سلف وكان ينبغي أن يتأدب، لأن المثل القديم:
1 / 38