أرأيت السالف من الخيل المتقدمة، ك: أعوج والوجيه ومذهب وقيد وبذوة وحلاء وسبل وذي الصوفة والخزز وزاد الركب، وغيرهن من فحول الخيل وإناثها، لم يرو لفرس منها شعر. وأولاها بارتجال الأوزان واقتضاب الرجز والقصيد، ما كان منها في ملك الشعراء. لأنها تأذن لشدوهم بالأشعار وهم جلوس فوق الصهوات، كخيل: " الكندي، وعدي وأبي داود، وطفيل ".
ولم يأت عنها بيت من ذلك ولا مصراع.
وتلا خيل العرب في التكرمة، إبلها السائمة والمستعملة. وإنما جمهور الموزون الذي نقل عن العرب، في الخيل والإبل والنساء. فهل سمعت أحدًا من الرواة نسب إلى الناقة أو الجمل بيتًا أو بيتين؟ والمنثور من الكلم جنس للمنظوم. وعلى حسب ما يتسع في القول المتكلم، يتصرف لدى النظم الشاعر. ولذلك صح أن العرب أوفر الأمم حظًا في الموزون، لأن لغتهم تستبحر وإن لم تبن منها أوزان الشعر.
وقد علمت أن صوتك له نوعان: الحمحمة والشحيج، وكلاهما لا مسلك له في الموزونات، لأن الكلمة إذا اجتمع فيها ساكنان يتوسطانها لم يمكن أن تنظم في حشو البيت العربي إلا في موضع واحد، كقوله:
فَرُمْنا القِصاصَ وكان التَّقاصُّ ... فرضًا وحَتْمًا على المُسلمينا
وليس ذلك بمعروف ولكنه شاذ مرفوض. وما شذ من كل الأسماء فإنه لا ينكسر به القياس. وإذا كان الساكنان جمع بينهما في آخر الكلمة وقف وسكوت، فإنما يستعمل ذلك في أواخر أوزان معروفة، تسعة أو عشرة، كقول القائل:
جاءَ شقيقٌ عارضًا رمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رماحْ
هل أَحْدَثَ الدهرُ لنا ضُؤلةً ... أَم هل رَقَتْ أمّ شَقيقٍ سلاحْ
وكقول " عمرو بن شاس ":
وكأسٍ كمُستدمي الغزالِ مَزجتُها ... لأَبيضَ عصَّاءِ العواذلِ مِفضالْ
كآدمَ لم يُؤثِرْ بعِرنينِه الشَّبَا ... ولا الحبْلُ، تخشاه القَرومُ إِذا صالْ
في أشباه لذلك.
والإبل أكثر افتنانًا في الأصوات، لأن من أصواتها: الحنين والأطيط والسجع والتحوب والعجيج والجرجرة، والهدر وأصنافه وهي: الفحيح والكتيت والكشيش والقصف والقرقرة والزغد والشحشحة والقلخ. ومن أصواتها الرغاء والبغام. وكل ذلك، على اختلافه، لا تتألف منه الأوزان.
وكذلك أكثر أصوات الحيوان، لا تعتدل ولا يمكن دخولها في المنظوم، لأنها تقطع الأجراس أو تمد، فيكون كالذي جمع بين ساكنين أو أكثر.
ألا ترى أن العصفور أقصر أوصاته إذا حكى، حرف متحرك بعده ساكن، ولو تابع ذلك مقطعًا لعرف لصوته حد، ولكنه يواصل بغير فصل فيخرج قريه إلى غير أصوات الآدميين. والغراب إذا حكوا صوته قالوا: غاق. وذلك متحرك بعده ساكنان، إلا أن تكسر القاف فيصير ساكنًا بين متحركين.
ومن تأمل صياح الغربان وجدها في بعض الأوقات تبدأ بمتحركين بعدهما ساكن، ثم تمد فيصير ذلك في الحكاية أربعة أحرف. وقد يجوز أن تختلف أصوات الغربان يحسب اختلاف الأرضين والأحيان.
وهذا الأمير - أعز الله نصره - الذي أومأت إليه، عارف بغوامض القريض، فإنما يحمل التمر من حضرته إلى " هجر " وتهدي الزهرة من مجلسه إلى الروضة العميمة، ويسافر بالنغبة من علمه إلى البحر الزاخر. وما أغناك أيها البائس أن يضحك منك في الآدميين، وأن تصير هزأة في جنسك!.
ومن بديع ما خطر لك، توهمك أن إلى إفهام بني آدم سبيلًا للحيوان: إنما يعلم الرجل ظمء فرسه بصوت يسمعه لم تجر العادة بمثله في حال الري. وكذلك يعرف طلبه للقضيم أو المرتع، ونزاعه إلى ما فرق من الخيل.
فأما أن يقول حيوان ليس بالناطق كلامًا يفهمه عنه الإنس فمتعذر ذلك. وكل ما تسمعه من دعوى العرب، فإنما هو على معنى المجاز وتصور الشيء بالصورة التي ليست له.
وإنما مثلك فيما سألتني من إبلاغ مدحتك إلى حضرة " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " مثل الذئب لما وصفه " الحارثي " وذكر ماء ورده فقال:
وماءٍ كأَن الطحلبَ الجَوْنَ فوقَه ... طروقًا على أَرجائه ثائرُ الغِسْلِ
وجدتُ عليه الذئبَ يَعوِي كأَنه ... خليعٌ خَلا عن كلِّ مالٍ ومن أَهْلِ
فقلتُ له: يا ذئبُ هل لك في أَخٍ ... يُجازِي بلا غُرْمٍ عليكَ ولا خَذْلِ
فقال: هداكَ اللهُ إِنك إِنما ... دعوتَ لما لم يأْتِه سَبُعٌ قبلي
1 / 18