ولما كان حب الله هو السعادة القصوى والغاية الأخيرة للأفعال الإنسانية، فإن من يحب الله يكون هو المطيع حقا للقانون الإلهي، لا عن خوف أو رجاء، بل عن معرفة لله، فهو يعلم أن معرفة الله وحبه هما الخير الأقصى، وهو ما يدركه الإنسان بذهنه لا ببدنه. أما القانون الإنساني فإنه يهدف إلى غاية أخرى وهي المحافظة على سلامة الإنسان وأمن الدولة، إلا إذا كان الوحي هو الذي شرعه؛ لأن معنى ذلك هو إرجاع الأشياء لله، وبهذا المعنى تكون شريعة موسى قانونا إلهيا بالرغم من أنها ليست شريعة شاملة، وأنها تكيفت حسب طبيعة شعب معين، وللمحافظة على سلامته، ما دام نور النبوة هو الذي شرعها.
63
وينتج عن ذلك حقائق أربع: (1)
قانون شامل، يصدق على كل الناس، ويستنبط من الطبيعة الإنسانية، ويدرك بالنور الفطري، ولكن هل يمكن بوساطة النور الفطري تصور الله كمشرع أو كأمير يسن القوانين للناس؟
64
إذا عرفنا طبيعة الله، وأن إرادته وذهنه شيء واحد، عرفنا أن أوامر الله بالتحريم أو بالتحليل حقائق أبدية، تتضمن ضرورة أبدية.
65
لقد أوحى الله لآدم الشر الذي سيكون النتيجة الضرورية لفعله، ولكنه لم يوح إليه ضرورة نتيجة هذا الشر، أي أن آدم لم يدرك الوحي كحقيقة أبدية، بل أدركه كقانون أو كقاعدة، تقرر وجوب ثواب أو عقاب، نتيجة لفعل ما، وليس لطبيعة الفعل نفسه، بل طبقا لمشيئة أمير وإرادته المطلقة، فنظرا لنقص معرفة آدم، أصبح الوحي قانونا، والله مشرعا وأميرا؛ ولهذا السبب أيضا أصبحت الوصايا العشر شريعة للعبرانيين وحدهم، لأنهم لم يعرفوا الله كحقيقة أبدية، وذلك أن الله لم يتحدث إليهم مباشرة من خلال وسائل حسية، وكذلك تلقى الأنبياء أوامر الله، دون أن يدركوها كحقائق أبدية، حتى موسى نفسه الذي أدرك الوحي كشرائع تخص العبرانيين، تنظم حياتهم، دون أن يدركها كحقائق أبدية؛ لذلك تصور الله كمشرع أو كملك أو كأمير أو كحاكم، أو على أقصى تقدير، كموجود عادل ورحيم، يتصف بكل الصفات الإنسانية التي يجب إبعادها كلية عن الطبيعة الإلهية.
66
المسيح هو الوحيد الذي أدرك الأشياء كحقائق أبدية، لأن المسيح كان أقرب إلى فم الله منه إلى نبيه، فقد أوحى الله بوساطة روح المسيح بعض الأشياء، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة والأصوات المخلوقة والرؤى، ولم يتكيف الوحي حسب آراء المسيح ومعتقداته ، كما تكيف مع باقي الأنبياء؛ وذلك لأن المسيح لم يرسل إلى اليهود وحدهم، بل إلى البشر جميعا، كما لم يتكيف الوحي حسب معتقدات شعب معين، بل تضمن تعاليم شاملة للإنسانية كلها، أي حقائق أبدية. لقد أعطى الله المسيح حقائق الوحي مباشرة بلا واسطة، أي بمعرفة عقلية، لأن المعرفة العقلية هي إدراك الأشياء بلا توسط من الكلمات أو الصور، ومع أن حديثه كان أكثر وضوحا من الأنبياء، إلا أنه لم يخل من غموض، فقد استعمل لغة الرمز والمثل، خاصة وأنه كان يخاطب قوما لم يتحرروا بعد من عبودية القانون، ومع ذلك استطاع المسيح تثبيت الحقائق الإلهية وطبعها في القلوب.
Page inconnue