الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية1
مقدمة المترجم1
رسالة في اللاهوت والسياسة1
مقدمة المؤلف
1 - النبوة
2 - الأنبياء
3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا عليهم؟
4 - القانون الإلهي
5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص
6 - المعجزات
7 - تفسير الكتاب
8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة
9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟
10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها
11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء
12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا
13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة
14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
15 - اللاهوت ليس خادما للعقل
16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3
17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا
18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها
19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية
20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة
الإهداء
مقدمة الطبعة الثانية1
مقدمة المترجم1
رسالة في اللاهوت والسياسة1
مقدمة المؤلف
1 - النبوة
2 - الأنبياء
3 - رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا عليهم؟
4 - القانون الإلهي
5 - السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص
6 - المعجزات
7 - تفسير الكتاب
8 - البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة
9 - أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟
10 - فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها
11 - مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء
12 - الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا
13 - الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة
14 - ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
15 - اللاهوت ليس خادما للعقل
16 - مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3
17 - نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا
18 - استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها
19 - السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية
20 - حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة
رسالة في اللاهوت والسياسة
رسالة في اللاهوت والسياسة
تأليف
باروخ سبينوزا
ترجمة
حسن حنفي
مراجعة
فؤاد زكريا
الإهداء
إلى من ينظرون إلى الكتب المقدسة نظرة علمية ...
المترجم
مقدمة الطبعة الثانية1
«رسالة في اللاهوت والسياسة» أوسع النصوص الفلسفية العربية انتشارا. تقرأ في معظم الجامعات العربية؛ لأنها تعبر عن الوضع الحالي للفكر العربي وعما يصبو إليه من نهضة وتقدم. وما زالت قادرة على المساهمة في التأسيس الفلسفي للربيع العربي الذي انطلق من خضم التجربة الحية، وأتون القهر والفقر والتهميش والضياع والبطالة والفساد على النحو الآتي: (1)
التمييز بين التوحيد والعقائد الكلامية؛ فالتوحيد فطري في النفس يقوم على التنزيه دون التشبيه أو التجسيم، ينبع من الأخلاق والعمل الصالح، وهو معنى حديث «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» أو «الدين المعاملة». والعقائد تصورات إنسانية لما لا يمكن تصوره، تخفي وراءها صراع الفرق، وهو صراع سياسي على السلطة تتبناها الكنيسة، وتدافع عن إحداها ضد الصياغات الأخرى للفرق الضالة الخارجة عن الرحمة الإلهية. (2)
يقوم على العقل، ويثبت بالبرهان، أما العقائد فإنها تقوم على الخيال والصور الفنية والتشبيهات الإنسانية،
ليس كمثله شيء . أما العقائد فأمثال وصور وخيالات تؤدي إلى السحر والخرافة، وتبعث على الوهم والخوف أو الطمع والجشع. يتعامل العقل مع المعاني والدلالات والعبر، في حين يؤدي الخيال إلى قصص الأنبياء ومعجزاتهم والتي تتضخم جيلا وراء جيل في الروايات الشفاهية. (3)
ويقوم على التقوى الباطنية، ولا يحتاج إلى شعائر خارجية؛ رسوم وطقوس. والتقوى الباطنية تقوم على الصدق والتطابق مع النفس وتستبعد كل ازدواجية بين الداخل والخارج، في حين أن الطقوس قد لا تنبع عن إيمان صادق. تبغي التظاهر والتفاخر وطلب المنافع والسعي وراء الرئاسة. قد تقوم على النفاق، والتناقض بين الداخل والخارج
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم . (4)
ولا ينبع من النصوص الدينية التي قد تكون محرفة، لم تحفظ تاريخيا لمرورها بمرحلة شفاهية قد تصل إلى ستة قرون مثل التوراة، يعمل فيها الخيال، وتحملها الثقافات الشعبية، وقد تؤول تأويلا حرفيا فتوقع في عكس ما تهدف إليه؛ التشبيه بدلا من التنزيه، والرأسمالية بدلا عن الاشتراكية، والعنصرية بدلا من الإنسانية ، والحرب بدلا من السلام. (5)
وتأويلها الصحيح يتفق مع العقل والواقع، مع البداهة والمصالح العامة للناس. فالقانون الإلهي لا يتعارض مع القانون العقلي والقانون الطبيعي، والمعجزات حوادث طبيعية تقع وفقا لقانون طبيعي لا نفهمه، وبتقدم العلم يمكن فهمها، فلا تصبح مصدرا للسحر والخرافة، بل واقعا لكشف القوانين الطبيعية. (6)
وتهدف «الرسالة» إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية؛ أي الكنيسة عن الدولة من أجل تأسيس مجتمع مدني تقوم السلطة السياسية فيه على الاختيار الحر، والعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم،
وأمرهم شورى بينهم ، مثلها الأعلى «مواطن حر في دولة حرة».
فهل تحقق هذا المثل؟ أين؟ ومتى؟
د. حسن حنفي
مدينة نصر، 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2011
مقدمة المترجم1
أولا: الترجمة الهادفة
إن اختيار نصوص بعينها للترجمة في حد ذاته تأليف غير مباشر، ويكون المترجم في هذه الحالة مؤلفا بطريق غير مباشر. قد يكون الدافع لاتباع هذا المنهج - التأليف من خلال الترجمة - هو حساسية الموضوع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعديا صارخا على حقوقها أو جرأة على عقلية مجتمع ما لم يبلغ بعد من التطور والتنوير ما يستطيع به تقبل الموضوع الجديد بسهولة ويسر، أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال الآخرين حتى تتحول القضية من الذاتية إلى الموضوعية. مهما يكن من شيء فالترجمة المختارة اختيارا دقيقا لما يناسب العصر واحتياجاته هي في صميمها تأليف يرتكز على التاريخ الحضاري، والترجمة الهادفة تخدم الغرض نفسه الذي يسعى إليه التأليف الواعي للداعية.
وإن من مهام المفكر في البلاد النامية التعريف بأهم التحولات الفكرية التي حدثت في الحضارات الأخرى والتي تحدث من جديد في حضارته. ولا يعني ذلك أن كل حضارة لا بد أن تمر بالنمط الحضاري الأوروبي وبمراحل تطوره، بل يعني وجود أبنية تاريخية متجانسة في حضارتين أو أكثر. فالاتجاه العقلي في القرن السابع عشر، وقيام العقل بوظيفته في تحليل التراث القديم قد يشابه كل دعوة عقلانية يقوم بها بعض المفكرين لإعادة بناء القديم، كما حدث لدينا في أوائل هذا القرن. ومن ثم، كان التعريف بهذا الاتجاه العقلي إسهاما فعالا في التيار العقلي في مجتمعنا الحالي، وتطويرا للاتجاه العقلي في تراثنا القديم، وتحقيقا لمزيد من الجرأة نحو الثقة بالعقل، أسوة بهذا النمط الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة قرون.
ليس الغرض من هذه المقدمة هو عرض لفلسفة سبينوزا ككل؛ فتلك مهمة مؤرخ الفلسفة وأستاذها،
2
وليس الغرض أيضا هو تقديم للنص وذلك عن طريق شرحه والتعليق عليه وإرجاعه إلى مصادره، فتلك مهمة الشارح والمعلق وكثيرا ما تحققت.
3
وليس الغرض أيضا دراسة مشكلة جزئية في موقف سبينوزا من الكتب المقدسة مثل مشكلة التفسير أو التعبير؛ فتلك مهمة المتخصصين والمحققين،
4
بل الغرض هو تطوير محاولة سبينوزا. ويتم ذلك بوسائل ثلاث:
الأولى:
تأكيد صدق تحليلات سبينوزا؛ وذلك بإعطاء تحليلات جديدة ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، والكشف عما تركه سبينوزا غامضا نظرا لظروف العصر. وقد قيل عن سبينوزا من قبل: إنه فيلسوف مقنع يقول نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر للذكاء أو للتاريخ أو للتطور الطبيعي. وعلى هذا النحو لا يعني التقديم مجرد العرض بل التطوير والتطبيق والتأييد. وهذه ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل الذي يولد بالتعامل معه أفكارا أخرى. ولا يعني ذلك الخروج على سبينوزا، أو التحمس له أكثر مما يجب، أو الوقوع في التطرف عندما يصبح الباحث سبينوزيا أكثر من سبينوزا نفسه؛ لأن هذا هو مصير الأفكار في التاريخ، عندما يفكر فيلسوف على فيلسوف سابق، فقد فكر هيجل على جدل أفلاطون وكانط، كما فكر ماركس على جدل هيجل.
الثانية:
إخراج سبينوزا من أبحاثه الخاصة وإلحاقه بالتراث الفلسفي في القرن السابع عشر بأكمله، سواء بديكارت فيما يتعلق بالمنهج، أو بريتشار سيمون وجان أوستريك فيما يتعلق بالنقد التاريخي للكتب المقدسة، ثم إخراج سبينوزا من القرن السابع عشر وإلحاقه بالتراث النقدي كله في القرون التالية؛ سواء فيما يتعلق بالنقد الفلسفي في القرن الثامن عشر، أو النقد العلمي في القرن التاسع عشر، أو النقد التاريخي ومدرسة الصور الأدبية في هذا القرن. ومن ثم يبدو سبينوزا معاصرا أشد المعاصرة، كما يبدو النقد التاريخي المعاصر وكأن له جذوره في مناهج سبينوزا النقدية.
والثالثة :
هي إسقاط المادة التي عمل عليها سبينوزا، وإحلال مادة أخرى محلها، مع الإبقاء على المنهج نفسه؛ أعني إسقاط التراث اليهودي وإحلال تراث ديني آخر، وليكن التراث الإسلامي، حتى تتضح جدة سبينوزا وأصالته فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة. وقد كان هذا المنهج متبعا عند الشراح المسلمين في شروحهم على أعمال أرسطو. فمثلا، يترك ابن رشد في شرحه للخطابة الأمثلة التي يوردها أرسطو من الخطباء والشعراء والتراجيديين اليونان، ويضع بدلها أمثلة من الخطابة والشعر والنثر العربي؛ حتى يعيد صياغة النظريات العلمية والأدبية ابتداء من مادة جديدة، وحتى يمكنه تأييد هذه النظريات وتطويرها، وإكمال ما نقص منها. وكان سبينوزا نفسه يود تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية باعتباره أحد فقهاء اللغة العبرية والتراث اليهودي القديم، بل ويعترف هو نفسه بأنه لم يستطع تحليل العهد الجديد تحليلا وافيا لنقص في معرفته باللغة اليونانية. ومع ذلك، فلقد عمم سبينوزا تحليلاته، على قدر ما استطاع، على التراث المسيحي واليوناني والروماني والإسلامي.
ومع أن صورة التراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التركي، حتى ليتحدث عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين، وهي صورة الطغيان الفكري، والتعصب الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، والوقوع في الخرافة. ومع أنه يعتبر القرآن أشعارا للقراء دون الاستفادة منها في الحياة العملية، فإن مواقف سبينوزا ومناهجه في التفسير ونظرياته عن ثنائية الحقيقة أو الحقيقة المزدوجة لها ما يشابهها في التراث الإسلامي عند الفلاسفة، خاصة عند ابن رشد. وقد كان سبينوزا على علم بها من خلال موسى بن ميمون. وليس الغرض من ذكر ذلك هو الوقوع في منهج الأثر والتأثر، وإرجاع فضل سبينوزا إلى التراث الإسلامي، أو إحياء التراث الإسلامي بآراء سبينوزا، بل القصد منه إثبات المشكلات المشتركة، والحلول المتشابهة التي قدمها سبينوزا والفلاسفة المسلمون. وهذا هو الغرض من الاستشهاد المستمر بالتراث الإسلامي، فقد تكون هناك مواقف فكرية واحدة للفكر الحر بالنسبة للدين، أو قد تكون هناك أبنية واحدة للنص الديني أيا كان، يستطيع كل مفسر أن يصل إليها.
لذلك تجنبنا الوقوع في العلمية التاريخية، وإثارة بعض المشكلات التي تدل على التعاليم أكثر مما تدل على العلم، مثل تاريخ كتابة الرسالة، وصلة فصولها بعضها بالبعض الآخر، وأيها متقدم وأيها متأخر، وتناطح الآراء حول هذه المسائل، فهي مشكلة خاصة تتعلق بتحقيق النص ونشره أكثر مما تتعلق بأفكار النص ونظرياته. وكذلك آثرنا التعامل مع الأفكار، مع إعطائها أكبر قدر من الصحة والعمومية. ولا يضير ذلك العلمية في شيء؛ إذ إن العلمية لا تعني التحقيق الميكروسكوبي، والالتصاق بالحروف، مع ذكر عشرات من المراجع، ما قرئ منها وما لم يقرأ، حتى يوحي الباحث بوفرة المعلومات، وبسعة الاطلاع، بل العلمية أن تبرز الفكرة، وأن توضع في مكانها الصحيح حتى يظهر أثرها وفعلها. ومع أن الرسالة نفسها قد كتبت بأساليب عدة، بأسلوب أدبي في بعض الفصول يبدو فيه سبينوزا أديبا ناقدا، وهي الفصول التي كتبت بدقة روحية واحدة، مثل الفصل السادس عن المعجزات، وبأسلوب علمي تحليلي محشو بالشواهد النقلية، وبالتحليلات اللغوية، يظهر فيها سبينوزا الشارح اللغوي، وهي الفصول التي كان قد جمعها من قبل ثم أدخلها في صلب الرسالة كدعامة علمية، وكأساس تاريخي لأفكاره. إلا أن الأسلوب الأدبي هو الغالب عليها، خاصة إذا قارناها بالأسلوب الفلسفي الجاف الذي كتب به سبينوزا سائر مؤلفاته. لقد كتب سبينوزا رسالته مرات عديدة، وعلى فترات متقطعة، يعبر عن حدسه أولا بأسلوب سهل يسير، وبأفكاره الشخصية ثم يدلل عليه بعد ذلك بالبرهان، وبالتحليلات التاريخية حتى يطور القديم، ويتأصل الجديد. ولكننا شئنا في هذه المقدمة اتباع الأسلوب السهل اليسير؛ فهي مكتوبة للجمهور العريض لا للصفوة المثقفة حتى يعم الانتفاع بها ما دامت مهمة المفكر الحالية هي إعطاء أكبر قدر ممكن من التنوير لأكبر عدد من الناس.
ثانيا: سبينوزا وديكارت
5
سبينوزا هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقا جذريا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، خاصة في مجال الدين، وأعني الكتب المقدسة والكنيسة والعقائد والتاريخ المقدس ... إلخ؛ لذلك كانت هناك محاولات لاغتياله في حين أن ديكارت كان صديقا لرجال الدين الذين كانوا يجدون في منهجه، باعتراف ديكارت نفسه، دعامة للدين، ونصرة لعقائده. ويكفي لذلك الاطلاع على إهداء التأملات لعلماء أصول الدين، وكيف أن ديكارت كان متفقا معهم في الغاية وهي إثبات العقائد، وإن اختلف معهم في الوسيلة مؤقتا. فالغاية واحدة، وهي إثبات وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس، وهي القضايا الدينية الثلاث في كل فكر ديني تقليدي. يبدو ديكارت وكأنه فيلسوف العقل الذي لا يقبل شيئا على أنه حق ما لم يكن كذلك، ولكن في الحقيقة إن الوحي والعقائد يندان عن العقل ويقتصر العقل على التبرير؛ أي إن ديكارت لا يتعدى ما كان سائدا في العصر الوسيط المتقدم أومن كي أعقل.»
6
يريد ديكارت إثبات حقائق الدين ببراهين عقلية حتى يمكن إقناع الكافرين؛ أي إنه على هذا النحو لا يفترق عن بسكال في أن كليهما يقوم بالدفاع عن العقيدة المسيحية،
7
بل إن الإيمان بالحقائق الدينية ليس فعلا للعقل بل فعل للإرادة؛
8
لذلك لا يطبق عليه مقاييس الوضوح والتميز، أكثر من ذلك أن كل الحقائق الدينية تتعدى حدود العقل، ولا يمكن الإنسان التصديق بها إلا بمعونة من السماء، وبفضل من الله؛ أي أن ديكارت يبدو هنا هادما للعقل، ومعطلا لوظائفه في فهم الحقائق الدينية.
9
ومع أن ديكارت معروف في العصور الحديثة بأنه أحد مؤسسي العلم الحديث، إلا أننا نجد أن الله هو الضامن لصدق الحقائق، وأن ديكارت بهذا المعنى يقيم العلم على وجود الله وصدقه، وأن الله هو محور مذهبه، خاصة إذا علمنا أنه الواقعة الأولى بعد الكوجيتو، وأنه هو الضامن لوجود العالم، وأن العالم لديه حركة وامتداد، أي مقولتان رياضيتان وليس عالما للفعل والسلوك.
10
أما سبينوزا، فهو الذي طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد،
11
فليس العقل فقط هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، بل هو أيضا أفضل شيء في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى. وإذا كانت الأفكار الواضحة والمتميزة هي المثل الأعلى لليقين فإن سبينوزا يحلل النبوة ويخرجها من نطاق الأفكار الواضحة والتصورات الغامضة، كما يرفض وضع الآيات الواضحة مع الأشياء الغامضة، ثم تفسير الآيات الواضحة تفسيرا خياليا حسب هوى المفسر، كما يستعمل الوضوح والتميز كجدل في براهينه العقلية، فما دام كل ما تعلمه بوضوح وتميز إما أن يكون معروفا بذاته، أو بغيره تعلمه بوضوح وتميز، فإن المعجزة لا تستطيع أن تدلنا على وجود الله، أو على ماهيته وطبيعته؛ لأننا لا نعلمها بوضوح وتميز. أما الله فإنه فكرة واضحة ومتميزة، ولا تحتاج إلى برهان. وإذا كان ديكارت، في مثل سلة التفاح المشهور، يري تنقية الأفكار الواضحة المتميزة من الأفكار الغامضة، فإن سبينوزا بتطبيقه هذا المنهج أيضا في النقد التاريخي للكتاب المقدس يفصل الآيات الصحيحة عن الآيات المكذوبة أو المشكوك فيها.
وسبينوزا أيضا هو الوحيد من الديكارتيين الذي طبق منهج ديكارت في السياسة، فدرس أنظمة الحكم، وقارن بينها، ونقد الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد المطلق، وانتهى إلى أن النظام الديمقراطي هو أكثر النظم اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة؛ فنحن نعلم أن ديكارت قد استثنى من الشك أيضا النظم السياسية، والتشريعات الوطنية، وعادات البلد؛ أي أنه أخرج الجانب الاجتماعي كله من الشك وقصره على الفكر.
12
وبذلك يكون سبينوزا سابقا على كانط وهيجل في هذا اللون من التفكير السياسي من أجل تحديد الصلة بين الفكر والواقع، أو بين الدين والدولة، أو بين مهمة المفكر ومهمة السياسي. في حين أن مالبرانش اقتصر على التبشير بالمسيحية حتى حدود الصين، وأن بسكال رضي بملكوت السموات، ورفض ملكوت الأرض كما فعل أوغسطين من قبل، وأن ليبنتز قدم مشروعا لغزو مصر باعتباره نقطة الالتقاء بين الشرق والغرب، أي أنها الرابطة الجوهرية
Vainculum Substantiale
التي يبحث عنها ليبنتز في حساب التفاضل والتكامل وفي حساب الاحتمالات.
لقد قيل دفاعا عن ديكارت إن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة. يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في سبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وسواء أكان هذا الدفاع عن حق أم عن حب، فإن الثورة الحقيقية في الفكر الديني والواقع السياسي قد قام بها سبينوزا. رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية والسياسية في عصره بل وفي كل عصر، وتطبيق للنور الطبيعي في مجال الدين والسياسة حتى لا يخلط الناس بين البدع الإنسانية والتعاليم الإلهية، أو بين التصديق الساذج والإيمان الصادق، أو بين الجدل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل والخير، أو بين الفتن والمصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام الداخلي في الإنسان وفي الدولة. أراد سبينوزا البحث عن الوضوح والتميز في الواقع الديني والسياسي، وألا يقبل شيئا على أنه حق في أمور الدين أو الدنيا ما لم يكن كذلك، فإن كان ديكارت قد وجد في المنهج الاستنباطي بغيته وطريقه إلى التصديق بالرسالات السماوية، وإذا كانت مهمة ديكارت والعصر الحديث معه هي تبرير الدين، فقد كانت مهمة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع الكتاب المقدس للنقد التاريخي.
ولا وجه للمقارنة بين مقدمة التأملات التي يهدي فيها ديكارت كتابه إلى علماء أصول الدين وبين آخر فقرة في مقدمة رسالة سبينوزا التي يخضع فيها رسالته للسلطات العليا في هولندا. فديكارت يؤكد أن ليس في تأملاته ما يعارض الدين، بل إنه يحتوي على تأييد لأهم قضاياه: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس؛ أي أنه لم يأت بجديد بالنسبة لمفكري العصر الوسيط إلا من حيث الطابع الشخصي الأوغسطيني، هذا الطابع الموجود أيضا لدى سبينوزا. أما فقرة سبينوزا فإنها تدل على استعداده لمقارعة الحجة بالحجة، وهو يعلم أن نتائج بحثه في الوحي الإلهي وفي نظام الحكم ستؤدي حتما إلى انقلاب القوم عليه. فديكارت يصالح رجال الدين، ويهادن النظم الملكية، وسبينوزا يبغي المصلحة العامة ضد رجال الدين، وضد نظم الحكم القائمة، ويعلم أن الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنها من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملق للسلطة، والسعي لها.
وإذا كان ديكارت هو المسئول عن كل تبرير للعقائد في صياغة جديدة وعن وضع التعالي بدل الله، فإن سبينوزا هو المسئول عن كل دراسة علمية أي نقدية ونفسية لها، وعن وضع الله في النفس البشرية مؤمنا بالحلول الميتافيزيقي. وإذا كان ديكارت هو المسئول عن «ثنائية العصر الحديث» من قسمة الوجود إلى إله خالق وعالم مخلوق، وقسمة الإنسان إلى نفس خالدة وبدن فان، فإن سبينوزا هو المسئول عن إعادة الوحدة في الوجود، بالتوحيد بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، وفي التوحيد بين النفس والبدن، وجعل النفس فكرة البدن. فإذا كان ديكارت صاحب إصلاح جزئي بالنسبة للفكر الديني في العصر الوسيط، فإن سبينوزا هو صاحب الثورة الجذرية في الفكر الديني في العصر الحديث. وإذا كان البعض منا في أوائل هذا القرن يروج لديكارت صاحب أنصاف الحلول، فالأجدى بنا في النصف الثاني من هذا القرن البحث عن الحلول الجذرية كما فعل سبينوزا منذ أكثر من ثلاثة قرون.
13
ثالثا: موضوع الرسالة
يحدد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي يضعه بعد العنوان الأول «وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.» للرسالة إذن هدفان؛ الأول: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، أو بتعبير آخر، أن العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على سلامة الدولة، أي أن العقل أيضا هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة.
فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة، وإذا سادت الخرافة ضاع العقل. وتظهر الخرافة في إرجاع ظواهر الطبيعة إلى علل أولى، أو إلى قوى وهمية، أو إلى أفعال خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجن والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيبة. وإن خرجت هذه الظواهر الطبيعية عن المألوف بدت وكأنها معجزات وخوارق يمكن معرفتها، والتنبؤ بوقوعها عن طريق الكهانة والعرافة والسحر، لا عن طريق العلل المباشرة التي تفسر وجود الظواهر كما يدركها العقل.
وتنشأ الخرافة من سيادة الأهواء والانفعالات على العقل، وعلى رأسها الخوف والرجاء؛ إذ يتذبذب الشعور الديني بين الخوف والرجاء، أو بين الرهبة والرغبة. فالحوادث الحسنة فأل طيب، والحوادث السيئة تبعث على التطير والتشاؤم، ويرتبط بالخوف العجز عندما يود الشعور الديني التأثير على الطبيعة باستدعاء الأرواح، لا بالفعل المباشر، أو بطلب العون الإلهي، أو بالنذور، أو بالصلاة لدرء الكوارث، أو لاستجلاب الرزق، لدفع البركان، أو لإهطال المطر. كل أولئك مظاهر للعجز أمام الطبيعة، فلا ذرف الدمع خشية ورهبة يجدي، ولا الدعاء أملا ورجاء يفيد، ومن ثم قد يصبح أعجز الناس هو أكثرهم حكمة. فإذا كان الخوف سبب الخرافة، فإن الخوف نفسه سينشأ عن نقص في الشجاعة، وقد يكون التأليه نتيجة لهذا النقص، وهو ما لحظه برجسون أيضا على كل تفكير مثالي من أنه ضعف في الإرادة
Aeilléite ، كما قد يقوم الإيمان على الكراهية والتعصب، فبعض المؤمنين هم أكثر الناس قدرة على الكراهية، وأشدهم تعصبا حتى ليعرف قوة الإيمان بقوة غضبهم وحقدهم على البشر. وربما يقوم على الذلة والغرور، فإن كان المؤمن في حاجة إلى شيء ذل نفسه، وإن كان غنيا عن العالمين ركبه الغرور، أي أن سبينوزا يبدو وكأنه من أنصار المدرسة النفسية في تاريخ الأديان التي تدرس مظاهر التدين على أنها ظواهر نفسية أو مرضية؛ إذ إن معظمها يقوم على مواقف عزاء أو تعويض نفسي عندما يتم اللجوء إلى الله في حالة الكرب، أو عن مواقف نفاق وتغطية، كما يتستر على الغني بالتفاوت في الرزق، وبالقضاء والقدر، وكما يتستر بالدين على الإشباع الجنسي، كما يفعل الشيخ المتصابي، أو من أجل الحصول على مصلحة شخصية، كما هو واضح في الشحاذة.
والخرافة والوهم والعجز هي من أسباب الوقوع في التقديس، تقديس موجود متعال خارج الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، كما يفعل الحاكم المطلق، أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات. فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إدراكه داخل العالم، وخوف منه، وإبعاد له، خاصة إذا أصبح هذا المقدس مرادفا للسر، أو هو وقوع في الوثنية المجردة، أو الوثنية الحسية.
وأشد غرابة من ذلك أن يتميز المؤمنون في إيمانهم بعقائدهم وشعائرهم وملابسهم وألقابهم، فيظن الجمهور أن الدين هو المناصب في المعابد التي يتعيش فيها رجال الدين، أو يتعيشون عليها، حتى أصبح الكهنوت غواية الجميع، اشتاقته أشد القلوب قسوة، وحتى أصبح الشره والطمع طريق الدعوة إلى الدين وإلى الله. تحولت الكنائس إلى مسارح، وتحول رجال الدين إلى خطباء محترفين، لا يرومون تعليم الشعب بل التكسب منه، والتعيش عليه، وجل غايتهم أن يعجب الناس بهم وبما يبتدعونه في الدين. وطبيعي أن يبدأ التنافس والحسد فيما بينهم على ما اغتنموه، فلا عجب إذن إن لم يبق من الدين إلا مظهره الخارجي - أي عبادة الأوثان
Adoration
لا عبادة الله
Adulation - ومن الإيمان إلا التصديق بالأحكام السابقة، خاصة أحكام من ينزلون بالبشر إلى مستوى الحيوانات، لأنهم يمنعونهم حرية الحكم، وحرية التمييز بين الخطأ والصواب.
أما الدين كما يتصوره الصوفية، فهو مجموعة من الخرافات والخزعبلات والأوهام، حتى أصبح الدين احتقارا للعقل، وبعدا عن الذهن الذي قيل عنه إنه فاسد بالطبع، مع أنهم لو كانوا قد اهتدوا إليه بالنور الفطري لما أصابهم الغرور، ولما وقعوا في الكذب، ولعبدوا الله حبا فيه، لا كراهية للناس، ولما اضطهدوا مخالفيهم في الرأي، ولعطفوا عليهم، ولحرصوا على سلامة الآخرين كما يحرصون على سلامتهم، ولما أعجبوا بأسرار الكتاب التي لا تتعدى بعض التأملات الأفلاطونية الأرسطية، أو التوفيق بينها وبين الكتاب؛ حتى لا يتهمهم الناس باتباع فلسفة الوثنيين، وحتى لا يقعوا في أخطاء اليونان، جعلوا الأنبياء يهذون. فضلا عن ذلك، فإنهم لم يشكوا مطلقا في المصدر الإلهي للكتاب المقدس، وكلما شعروا فيه بالأسرار أطاعوه طاعة عمياء، مع أن إثبات المصدر الإلهي للكتاب لا بد أن يكون نتيجة للبحث العلمي لمحتواه.
الدين إذن على ما يقول فويرباخ موقف مغترب، أي إنه موقف غير طبيعي، والموقف العقلي العلمي هو الموقف الطبيعي. التدين والنور الفطري نقيضان؛ إذ يعتبر المتدين النور الفطري مصدرا للاتدين وللإلحاد وللبدع، مع أن التدين نفسه قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية. فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين القائم على الأوهام والخرافات وثنية حسية؛ أي إلحاد صحيح. ومن ثم كان اللاتدين شرط العلم وكان رفض التأليه شرط إدراك الطبيعة، فالإنسان موجود في عالم واحد وهو العالم الطبيعي وليس في عالمين؛ لأن الفكر تحليل للطبيعة.
القضاء على السلوك الانفعالي إذن خطوة نحو العقلانية، فإذا عرفنا مدى شيوع السلوك الانفعالي في البلاد النامية، ومدى تدخل الأهواء والانفعالات في العلاقات الشخصية وفي تقدير المواقف وفي سن القوانين وتطبيقها، عرفنا أن سيادة الانفعال وغياب العقل أحد مظاهر التخلف.
ويستخدم الدين أيضا للسيطرة على الجماهير ولإبقائها تحت سيطرة السلطة، إذ يكثر الدكتاتور من مظاهر العظمة في بناء المعابد، والاحتفالات بالموالد، حتى يمكن عن طريق التأليه الخضوع لله أو للدكتاتور، والطاعة العمياء له؛ لذلك كانت الخرافة أفضل الوسائل لتسيير العامة، فيكفي للسلطات العليا الاحتفال بالموالد، وبأتقياء الله، وبعبادة الصالحين حتى تسير العامة وراءها فينظر إلى الملوك باعتبارهم آلهة، ويتم تجميل الدين بالشعائر «الطقوس» وتزيين الملوك بالقصور والتيجان. فالخرافة هي أساس النظام الملكي، باعتباره النظام التقليدي الذي يقوم على حكم الفرد المطلق الذي يبغي خداع الناس، وإرهابهم باسم الدين من أجل السيطرة عليهم، واستعبادهم، ووضع قيود على الفكر والعقيدة، في حين أن العقل لا يسود إلا في النظام الجمهوري الذي يكون فيه المواطن حرا في فكره وعقيدته، والذي يخضع فيه سلوكه لتشريع الدولة.
وهنا يبدو الهدف الثاني من رسالة سبينوزا هو دراسة الصلة بين الدين والدولة، أو كما يقول هو: بين اللاهوت والسياسة. فاللاهوت ليس نظرية في الله فقط بل ينشأ عنه نظام اجتماعي كذلك، وليس الدين عقائد فحسب، بل ينشأ عنه نظام سياسي كذلك. والحقيقة أن رسالة سبينوزا ليست دراسة للصلة بين اللاهوت والسياسة بقدر ما هي دراسة للصلة بين السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية،
14
أي إن غرض سبينوزا هو دراسة الصلة بين اللاهوت القائم بالفعل والنظم السياسية القائمة، أو إن شئنا الصلة بين السلطة اللاهوتية الممثلة في رجال الدين أو في الكنيسة وبين السلطة المدنية الممثلة في الحكم أو في رئيس الدولة، فهي دراسة واقعية للأوضاع التي عاش فيها سبينوزا من تداخل السلطتين اللاهوتية والسياسية، وكلاهما كما رأينا يقوم على الخرافة، ومنع حرية الرأي والقضاء على العقل؛ لذلك تم التواطؤ بين المعابد وأقسام الشرطة، أو يتم التمسح بالمعابد كما تحدث الزلفى للسلطات!
ولما كانت حرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإن حرية الرأي أيضا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فحرية الفكر هي دعامة الرأي العام، والرأي العام هو الراصد لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، فإذا قضي على حرية الفكر، قضي على الرأي العام، وأصبحت الدولة بلا دعامة داخلية. يفعل الحاكم ما يشاء وتفعل أجهزة الحكم ما تريد، وبالتالي تنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن الدولة.
لذلك يجب على السلطات العامة ألا تتدخل في الحريات الفردية، وإلا لتعرض أمن الدولة للخطر. فهذا هو الحق الطبيعي للفرد، كل فرد حر بطبيعته، وكل فرد هو الضامن لحريته. وتنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية، وتنتصر لبعض العقائد، وتعادي البعض الآخر، ولن تتوقف الفتن إلا إذا وضعت الدولة الأفعال وحدها، دون الأقوال، تحت القانون؛ حتى يستطيع كل مواطن أن يعبد الله كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، بدل أن تقطع الرقاب من أجل أقوال كلها ظنية. لا احتكار للفكر ولا حكر عليه، وليس من حق الدولة التدخل في حرية المفكر أو في الرقابة عليه. وكيف تنتصر الدولة لرأي على رأي سواء في اللاهوت أم في السياسة، وليس هناك تفسير واحد صحيح للدين والباقي خطأ؟ لكل إنسان الحق في فهم الوحي وتأويله كما يشاء، وإن التسلط والتحزب لرأي دون رأي ليؤدي حتما إلى ضياع الإيمان. حرية الرأي إذن يجب أن تكون مكفولة للمواطنين جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، وليست القاضية عليها. فلا ينبغي أن تكون الدولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع. حرية الرأي إذن ضرورة اجتماعية حتى يعم الأمن والسلام في الدولة، وإن الحاكم الذي يظن أن تثبيت قواعد حكمه إنما يكون بالقهر والطغيان، وبالقضاء على حرية الفكر، ينتهي لا محالة إلى غير ما قصد إليه؛ لأن في القضاء على حرية الفكر قضاء على الدولة، بل إن القانون الإلهي نفسه يمنح هذه الحرية لجميع الناس، ولا يبدو ذلك غريبا لأن الدولة نفسها قد نشأت بعقد اجتماعي بين الأفراد يفوض سلطتهم إلى الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، فسلطة الدولة ممثلة لسلطة الأفراد؛ لذلك لا يجوز للسلطات العليا، وهي الممثلة للشعب، أن تعمل ضده، أو أن تقضي على حريته التي فوضها لها بإرادة حرة. تنشأ النظم الدكتاتورية عندما تفعل السلطات العليا ما تريد، بغض النظر عما فوضه الأفراد لها من حقوق.
والحقيقة أن موضوع رسالة سبينوزا ليس هو اللاهوت فحسب، أو السياسة فحسب، أو حتى الصلة بينهما، بل - بتعبير أدق - الوحي في التاريخ. عندما تتحقق النبوة في فترة معينة، وعند شعب معين، يأتي الوحي للتغلب على الطبيعة السائدة في الشعب، فينجح إلى حين، ثم تنتهي الطبيعة السائدة بالتغلب على الوحي. ومن ثم فموضوع الرسالة هو فلسفة التاريخ الديني أو التاريخ المقدس على ما يقال. لقد أتى الوحي للشعب اليهودي حتى يتغلب على طبيعته الحسية المادية، وعلى تكوينه الوثني، ولكنه انتهى إلى أن سادته الوثنية، وتغلبت عليه الطبيعة الحسية، ثم أتى الوحي المسيحي داعيا للسلام، من أجل التغلب على الطبيعة الحربية الرومانية، وداعيا للطهارة الروحية، من أجل التغلب على المادية الحسية اليهودية والرومانية، ولكنه انتهى إلى أن سادته الحروب والتعصب، وتغلبت عليه المادية الحسية. ويمكن القول أيضا بأن الوحي الإسلامي جاء حتى تكون الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإذا هي الآن مستعمرة من الخارج أو مسلوبة الثروات من الداخل؛ أي إنها انتهت إلى عكس ما قصد إليه الوحي.
رسالة سبينوزا إذن هي دراسة لمصير الوحي في التاريخ وكيف أنه ينقلب إلى الضد؛ فالمسيحية دعوة للروح وللسلام والتضحية تتحول إلى مجتمع تسوده المظهرية والتعصب والكراهية، واليهودية دعوة للطاعة تنقلب إلى مجتمع عاص، والإسلام دعوة لإقامة خير أمة أخرجت للناس ينقلب إلى مجتمع يسوده التخلف ويحكمه الاستعمار. يدرس سبينوزا هذا القلب، قلب الروح إلى مادة والوحي إلى كتاب، والمعنى إلى حرف، والتدين إلى خرافة، والتقوى إلى طقوس وشعائر، والإيمان إلى تعصب، والحقيقة إلى بطلان، والتعاليم الإلهية إلى بدع، والنور الفطري إلى جهل، والمعابد إلى مسارح، والدين إلى وثنية، والإنسان إلى حيوان، وكأن الدافع الحيوي ينتهي بالضرورة إلى سقوط مادي، وكأن اللهب ينتهي بالضرورة إلى رماد.
15
رابعا: النقد التاريخي للكتب المقدسة
يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة، كما يعتبر من أهم مكاسب الحضارة الأوروبية بالنسبة لدراسة التوراة والإنجيل، نتجت عن تأليه العقل في القرن السابع عشر، قرن سبينوزا، وإخضاع الطبيعة له، فكما أن هناك نظاما للطبيعة، هناك أيضا قوانين لضبط صحة الراوية، ولا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني؛ كلاهما يخضع للعقل وقواعده. وقد حمل لواء النقد في هذا القرن ثلاثة: سبينوزا، ريتشارد سيمون، جان أوستريك.
16
فما إن وضع القرن الثامن عشر العقل في الإنسان، وحول التفكير الرياضي إلى التفكير الإنساني، حتى أصبح كبار النقاد هم كبار الإنسانيين، مثل فولتير ولسبخ وهردر. وكان النقد باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية.
وما إن تحولت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى فلسفة للعلم في القرن التاسع عشر، حتى تحول النقد أيضا من النقد الفلسفي باسم الإنسان إلى النقد العلمي القائم على تحقيق النصوص، والمقارنة بينها، والاعتماد على فقه اللغة، وعلم الأساطير المقارنة، وتم وضع قواعد المنهج التاريخي بعد كشف «الشعور التاريخي» عند دلتاي، وتقدم العلوم الإنسانية. وقد كانت فلسفة هيجل أحد المصادر التي خرجت منها المدرسة الأسطورية في النقد، عند شتراوس وباور، فكما وصف هيجل تطور الروح وصف نقاد المدرسة الأسطورية، وهم من اليساريين، تطور العقيدة الموازي لتطور النص واعتبروا كليهما من فعل الروح ومن وضعها.
ويعتبر النقد التاريخي أهم الأسباب في نشأة حركة التجديد الديني في الفكر المعاصر،
17
فقد قام البعد الشعوري في النص الديني، وأصبح النص يعبر عن التجارب الحية للجماعة الدينية الأولى التي نشأ النص منها، ومن ثم كان لا بد من وضع النص في الحياة
Sitz im Leben
ودراسة المكونات النفسية للشعور الجماعي الأول، مثل واقعة الانتظار، أو خيبة الأمل، أو الشعور بالاضطهاد. وأصبحت رسائل الحواريين تعبر عن تجارب شخصية لهم، بل وعن عقدهم النفسية ورغباتهم. عاشت الجماعة الأولى أفكارها، ثم عبرت عنها بالنصوص بعد ذلك، وهي التي جمعت في مجموعات صغيرة، ثم في مجموعات كبيرة، حتى تكونت الأناجيل في القرن الثاني التي كانت تعد بالعشرات، ثم اختارت الكنيسة أربعة منها، ما يتفق مع عقائدها وقننتها في القرن الرابع،
18
وأصبح منهج التفسير - كما وضعه بولنمان - هو إرجاع النص إلى التحليل الوجودي للإنسان، بعد أن تتبع نشأته، ونشأة الأسطورة التي يعبر النص عنها.
ولكن الذي يميز نقد سبينوزا هو جمعه بين كل أنواع النقد هذه التي ظهرت في القرون الثلاثة الماضية، فهو نقد عقلي يقوم على استعمال العقل الرياضي الهندسي، كما هو الحال في كتاب «الأخلاق»، وهو نقد إنساني يقوم على استعمال النور الفطري كنور طبيعي في الإنسان، ويهدف إلى تحليل القوى الإنسانية من إدراك وتخيل وانفعال، وهو أيضا نقد علمي يدرس النص الديني كما تدرس الظاهرة الطبيعية ويحاول إخضاعه لقواعد ثابتة، والوصول إلى قوانين لتطور الراوية كما يخضع العالم الظاهرة الطبيعية لقواعد المنهج العلمي، ويصل إلى قوانين تحكم الظواهر، فالناقد كالعالم سواء بسواء، كلاهما يدرس الظاهرة التي أمامه، ويحاول الوصول إلى قوانينها التي تحكمها. وقد كان نقد سبينوزا سببا في نشأة حركة التنوير في اليهودية قبل أن تبدأ، وما زال أحد دعائم التجديد الديني على الإطلاق.
والنقد التاريخي سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس، وهو الضامن لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تحتوي على الوحي الإلهي، وتحتاج إلى تحقيق تاريخي مضبوط. يرفض سبينوزا وجهة النظر المحافظة التي تثبت المصدر الإلهي للكتاب قبل تطبيق قواعد المنهج التاريخي، وتكون مهمة النقد في هذه الحالة تبرير محتوى الكتاب، بما فيه من خلق جماعي، وأساطير دخيلة من البيئات المجاورة؛ لذلك أصر بعض النقاد على أن الناقد يجب أن يترك إيمانه جانبا، بل اشترط البعض الآخر أن الناقد لا بد أن يكون لا إيمان له حتى لا يتدخل إيمانه في تزييف البحث التاريخي.
19
يدرك سبينوزا أهمية هذا العلم الجديد، هذا العلم الذي جهله القدماء أو الذي ضاع منه جزء كبير لم يصلنا منه شيء. مهمة العصر الحديث إذن هي وضع قواعد هذا العلم وتكملتها ورفض الزائف منها، مع أن ذلك يبدو متأخرا للغاية، إذ لم يعد الناس يتقبلون بسهولة تحكيم العقل في الكتاب وتطبيق قواعد المنهج التاريخي على الروايات.
ويحلل سبينوزا أسفار التوراة سفرا سفرا، مبينا نصيب كل منها من الصحة التاريخية. فالأسفار الخمسة
لم يكتبها موسى، بالرغم من تأكيد الفريسيين ذلك، حتى أن ابن عزرا، وهو العالم الناقد الحر، لم يجرؤ على الجهار بذلك. كتب الأسفار الخمسة إنسان آخر، عاش بعد موسى بمدة طويلة، وذلك لبعض الأسباب التي يذكرها ابن عزرا مثل: (أ)
لم يكتب موسى مقدمة سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن. (ب)
كان سفر موسى مكتوبا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر حجرا، أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن. (ج)
قيل في سفر التثنية: «وقد كتب موسى التوراة.» ولا يمكن أن يقول موسى ذلك إن كان هو كاتبها. (د)
في سفر التكوين، يعلق الكاتب قائلا: «وكان الكنعانيون في هذه الأرض.» مما يدل على أن الوضع قد تغير وقت تدوين الكاتب هذا السفر، أي بعد موت موسى وطرد الكنعانيين، وبذلك لا يكون موسى هو الراوي. (ه)
في سفر التكوين سمي «جبل موريا» جبل الله، ولم يسم بهذا الاسم إلا بعد بناء المعبد، وهو ما تم بعد عصر موسى. (و)
في سفر التثنية، وضعت بعض الآيات في قصة أوج، توحي بأن الرواية كتبت بعد موت موسى بمدة طويلة؛ إذ يروي المؤلف أشياء حدثت منذ زمن بعيد.
ثم يضيف سبينوزا على ملحوظات ابن عزرا هذه ملحوظات أخرى: (أ)
كتابة الأسفار بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلم . (ب)
مقارنة موت موسى ولحده والحزن عليه بموت الأنبياء التالين له. (ج)
تسمية بعض الأماكن بأسماء مختلفة عما كانت عليها في عصر موسى. (د)
استمرار الرواية في الزمان حتى بعد موت موسى.
20
وقد كان موسى يقرأ «سفر العهد» على الشعب، وهو السفر الذي أملاه الله عليه في جلسة قصيرة، مما يدل على أن ما كتبه موسى أقل بكثير مما لدينا الآن، ثم شرح هذا السفر الأول، ودون شرحه في سفر «شريعة الله»، ثم أضاف عليه يشوع شرحا آخر. وقد ضاع هذا السفر الذي يجمع بين سفر موسى وسفر يشوع، أما السفر الأصلي، فقد أدخل في الأسفار الخمسة التي لدينا الآن، ولا يمكن التمييز بينهما.
ولم يكتب يشوع السفر المسمى باسمه، بل كتبه إنسان آخر، أراد كتابة سيرته، وإثبات فضله وشهرته، وتمت الرواية إلى ما بعد موته بقرون عدة، ويوجد جزء من هذه الرواية في سفر القضاة، مما يدل على أنه كانت هناك روايات من قبل ضمت إلى العهد القديم، باعتباره تاريخا وطنيا لبني إسرائيل، أو سجلا قوميا لهم.
21
ولا يظن أحد ذو عقل سليم أن القضاة أنفسهم هم الذين كتبوا سفرهم؛ لأن مقدمة الإصحاح الحادي والعشرين تدل على أن كاتبا واحدا قد كتبه، ويعلن هذا الكاتب أنه في زمانه، لم يكن هناك أي ملك من ملوك بني إسرائيل، مما يدل على أنه لم يكتب بعد أن استولى الملوك على السلطة.
22
ولم يكتب صموئيل سفره؛ لأن الرواية تمتد إلى ما بعد موته بقرون عديدة.
23
ولم يكتب الملوك أنفسهم سفر الملوك، بل أخذ، باعتراف الملوك أنفسهم، من كتب حكم سليمان، وأخبار ملوك يهوذا، وأخبار ملوك إسرائيل، والتي تروي قصصا قديمة سابقة على عصر كاتب السفر.
24
وقد كتب هذه الأسفار كلها مؤلف واحد، أراد أن يقص تاريخ العبرانيين منذ نشأتهم حتى تخريب المدينة الأول، ويتضح هذا من تتابع الروايات، والربط بينها، وتحديد غاية معينة له، جعلت الأسفار تتميز بخصائص ثلاث: وحدة الغرض، وارتباط الروايات، وتدوينها المتأخر بعد الحوادث بعدة قرون. ويظن سبينوزا أنه عزرا
Esdras ؛ لأن الروايات كلها تنتهي قبله، ويذكر الكتاب أن عزرا قد أعمل كل جهده في البحث في الشريعة وفي عرضها، ويذكر عزرا في السفر الذي يحمل اسمه بالشهادة نفسها، بأنه قد وهب حياته لتنقية الشريعة وعرضها، وهذا ما يفسر لنا سر الإضافات على سفر التثنية كما لاحظ ابن عزرا ذلك واختلاف صيغة الوصايا العشر في التثنية عنها في الخروج، وكذلك التغييرات التي طرأت على النص الأصلي. وقد سميت الأسفار بأسماء الأنبياء لأن النبي هو الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السفر كله، فالأسفار الخمسة تدور حول موسى، ثم نسبت إليه، والسفر السادس يدور حول يشوع فنسب إليه، والسابع حول القضاة فسمي سفر القضاة، والثامن حول روث فسمي سفر روث والتاسع والعاشر حول صموئيل فسميا سفر صموئيل الأول والثاني، والحادي عشر والثاني عشر حول الملوك فسميا سفر الملوك الأول والثاني.
ولكن هل الكاتب عزرا هو من أعطى الروايات صيغتها النهائية؟ لم يكن عزرا هو من أعطى هذه الأسفار صيغتها النهائية، بل اقتصر عمله على جمع الروايات من كتب أخرى، ونسخها، ونقلها دون ترتيب أو تحقيق، مما يفسر وجود الروايات نفسها بألفاظ مختلفة في عدد من الأسفار، كما تثبت ألفاظ الرواية أنها كانت مكتوبة بعد أن حدثت الوقائع بزمن طويل. هذا الاضطراب الزماني
Anachronisme
هو الوسيلة التي يتبعها سبينوزا وكل النقاد في التعرف على زمن كتابة الرواية، والشك في نسبتها إلى مؤلفها المعروف.
25
ولقد نقل عزرا هذه الروايات في نصه دون تحقيق، وكثير من الروايات مستقاة من كتب المؤرخين، وهذا يفسر اختلافاتها فيما بينها، فمثلا نجد في الأسفار الخمسة خلطا بين الروايات والوصايا بلا ترتيب، كما نجد الاضطراب الزماني، وتكرار القصص نفسها مع اختلافات جوهرية في الألفاظ، مما يؤكد أننا أمام مجموعة من النصوص المجموعة بلا فحص أو ترتيب. وهذا موجود أيضا في الأسفار السبعة التالية حتى هدم المدينة؛ لذلك جاءت النصوص منقوصة ومتعارضة؛ لأنها مأخوذة من مصادر متعددة، ولم ينجح الأحبار في محاولاتهم للتوفيق بينها. لقد جهل العبرانيون الأوائل لغتهم، ولم يعرفوا كيفية وضع نظام في الرواية، ولم يكن هناك منهج أو قاعدة تتبع في تفسير الكتاب، وكان كل راو أو كاتب يفسر حسب هواه، ولم تحفظ الأجيال الماضية هذه الأسفار حتى تسربت الأخطاء إليها، فلقد لاحظ النساخ الأوائل صيغا مشكوكا فيها، وفقرات ساقطة دون أن يحصوها كلها. ولا توجد أخطاء كثيرة في النصوص التي تحتوي على التعاليم الخلقية، أو هناك أخطاء ولكن لا تؤثر في جوهر هذه التعاليم، واتفاق الروايات مع بعضها البعض. وفيما عدا ذلك، هناك أخطاء كثيرة يدعي المفسرون المتحذلقون أنها أسرار إلهية، أبقاها الله في الكتاب بعناية، فيؤولون النقاط والحروف والعلامات، حتى المسافات البيضاء التي يتركها النساخ، وهذا كله ادعاء كاذب، ويناقض العقل، فلا توجد أية أسرار في الكتاب، كما تدعي القبالة. أما التعليقات الهامشية، فهي صيغ مشكوك فيها، أراد الناسخ وضعها في الهامش لقراءات محتملة إذا التبست عليه الحروف - ولم يضعه الأنبيا أو الرواة كما يدعي الفريسيون - حتى يختار القراء إحداها، وقد تكون أخطاء عن غير عمد، لم يشأ الناسخ تركها؛ لأنها جزء من الوحي، والحقيقة أن قراءات الهامش تحتوي على بعض الكلمات القديمة التي لم تعد تستعمل أو بعض الكلمات المكشوفة التي تحرج الناسخ من وضعها في النص، ومع ذلك، فهي صيغ مشكوك فيها بالرغم من اتفاق بعضها مع قواعد اللغة العبرية أكثر من اتفاق النص الأصلي معها؛ لذلك رفضها الماسوريون. ويوجد أكثر من صيغة، ولكنها لم تصل إلينا. ومما لا شك فيه، أنه كانت هناك صيغتان على الأقل للنص، بسبب استبدال الحروف، ولأن الناسخ لم تكن لديه إلا نسخ قليلة، نسختان أو ثلاث على الأكثر، ولم يكتب عزرا نفسه شيئا من هذه القراءات، ولم يشأ النساخ تغييرها بدافع من الورع الديني.
خلاصة القول إن أسفار الكتاب المقدس لم يكتبها مؤلف واحد في عصر واحد لجمهور واحد، بل كتبها مؤلفون كثيرون في عصور متعاقبة لجماهير مختلفة في المزاج والتكوين، ويمتد التدوين إلى ألفي عام وربما أكثر من ذلك.
26
فإذا فحصنا باقي أسفار الكتاب سفرا سفرا، وجدنا أن سفر أخبار الأيام قد كتب بعد موت عزرا بمدة طويلة ، وربما بعد إعادة بناء المعبد، ونجهل مؤلفه ومقدار سلطته، وفائدته، وعقيدته، بل إننا لنعجب من إدخال هذا السفر في الكتاب المقدس، واستبعاد سفر الحكمة، وسفر طوبيا، وغيرها من الأسفار التي يقال عنها أنها منتحلة.
27
وقد جمع سفر المزامير، وقسم إلى خمسة أجزاء بعد بناء المعبد.
28
كذلك جمعت الأمثال في الوقت نفسه، وقد أراد بعض الأحبار استبعاده مع سفر الجامعة من الكتاب المقدس، والإبقاء على الأسفار الأخرى التي تنقصنا، والتي لا نعلم عنها شيئا، فضلا عن أن هناك شكا في نقلها لنا نقلا حرفيا.
29
وهذا يدل على أن التقنين لم يخضع لمناهج النقد التاريخي، بل لاختيار البشر. فقد اختار الفريسيون، وهم حفظة التراث، ما شاءوا واستبعدوا ما شاءوا، بناء على ما يتفق وعقائدهم، كما رفض الصدوقيون الأسفار التي تتحدث عن حشر الأجساد؛ لذلك لا بد من إثبات سلطة كل كتاب على حدة، إذ لا يكفي إثبات المصدر الإلهي للكتاب ككل حتى تثبت سلطة الأسفار كل على حدة.
أما أسفار الأنبياء، فإنها قد أخذت من كتب أخرى، وهي تتبع ترتيبا مخالفا للترتيب الزمني لظهور الأنبياء أو الترتيب الزمني لظهور كلامهم وكتاباتهم، كما أنها لا تحتوي على جميع الأنبياء بل على بعض منهم، وجد هنا وهناك، ولا يحتوي كل سفر على كل النبوة، بل على أجزاء منها فقط.
30
بدأ أشعيا نبوته واستمرت حتى بعد انتهاء السفر، ومع أن هذا السفر أسطورة إلا أنه ناقص.
31
وسفر إرميا مجموعة مأخوذة من كتب أخرى متعددة، ويكون خليطا من نصوص بلا ترتيب، ودون مراعاة للأزمنة، وبعض الإصحاحات مستمد من سفر باروخ، وذلك يدل على أنه لم يكن هناك فصل حاد بين أسفار الأنبياء، كما يدل على وجود مصادر أخرى تشمل روايات توضع في هذا السفر أو في ذاك، وهو ما يفسر تكرار النصوص في الأسفار المختلفة، كما هو الحال في الأناجيل المتقابلة (متى، مرقص، لوقا).
32
أما سفر باروخ، فيقال إن إرميا نفسه هو الذي أملاه عليه، ولا يذكر سفر باروخ إلا جزءا من نبوة باروخ.
33
وتدل الإصحاحات الأولى من سفر حزقيال على أنه مجرد شذرات، كما تكشف حروف العطف عن الأجزاء الناقصة، بل إن أول السفر يدل على استمرار النبوة لا على بدئها. ويذكر يوسف في تاريخه بعض الوقائع عن حزقيال لا يذكر عنها السفر شيئا. ونظرا لتعارضه مع الأسفار الخمسة، فقد مال بعض الأحبار إلى رفضه، وإخراجه عن مجموعة الأسفار المقننة.
34
أما سفر هوشع فقد كتب بعد موت هوشع بمدة طويلة، ولا يذكر السفر إلا جزءا ضئيلا من نبوته، مع أن هوشع قد عاش حوالي أربعة وثمانين عاما على ما يذكر الكتاب.
35
ولم يذكر سفر يونان (يونس) إلا نبوته لليونانيين، مع أن يونان قد تنبأ أيضا للإسرائيليين.
36
أما سفر أيوب، فيظن البعض أن موسى هو مؤلفه، وأن القصة كلها مثل، وهذا هو رأي موسى بن ميمون وبعض الأحبار، ويظن البعض الآخر أن القصة حقيقية، ويرى ابن عزرا أن السفر قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى، ويفترض سبينوزا أن أيوب كان وثنيا، وكان شقيا في حياته، ثم أصبح سعيدا في النهاية. وقد أعطت هذه القصة الفرصة للكاتب لمناقشة العناية الإلهية في حوار مع إنسان متأمل لا مع مريض شقي. ومما يؤكد رأي ابن عزرا، أن هناك تشابها بين سفر أيوب وسفر الوثنيين.
37
وقد كتب دانيال سفره ابتداء من الإصحاح الثامن، أما الإصحاحات السبعة الأولى فمجهولة المؤلف، وربما كتبت باللغة الكلدانية، وهذا لا ينفي قدسيتها؛ لأن الوحي وحي بالمعنى لا باللفظ.
38
أما سفر عزرا، فإنه يأتي مباشرة بعد سفر دانيال، كحلقة تابعة له، ويقص تاريخ العبرانيين منذ الأسر الأول، ويوحي السفر بأن كاتبيها واحد.
39
ويرتبط سفر أستير الأول بسفر عزرا، ويدل على ذلك طريقة الربط بينهما، وهو سفر آخر غير الذي كتبه مردخاي، فقد فقد هذا السفر الأخير على ما يظن ابن عزرا، ومؤلفه هو نفس كاتب أسفار دانيال وعزرا ونحميا المسمى بسفر عزرا الثاني.
40
هناك إذن مؤلف واحد للأسفار الأربعة: دانيال وعزرا واستير ونحميا، وقد أخذ المؤلف معلوماته من سجلات الأحبار والقضاة والأمراء الذين كانوا يحتفظون فيها بأخبارهم، كما كان يفعل الملوك. وقد ذكرت هذه السجلات في أسفار الملوك، كما ذكرت سجلات الأمراء في سفر نحميا الأول وفي سفر المكابيين الأول. ومن المحتمل أن تكون هذه الأسفار من وضع الصدوقيين، وهو ما يفسر رفض الفريسيين لها، وتحتوي على بعض الأساطير الموضوعة عن عمد. قد تكون الغاية من هذه الأسفار البرهنة على تحقق نبوة دانيال، ولكنها مملوءة بالأخطاء التي ترجع إلى تسرع النساخ، وفي التعليقات الهامشية كثير من هذه الأخطاء. وقد نقلت هذه النسخ من أصول غير صحيحة، وغير موثوق بها، كما يشهد بذلك الجد سليمان، وكل محاولة يقوم بها البعض للتوفيق بينها تكشف مزيدا من الأخطاء.
وسفر المكابيين الأول مأخوذ من أخبار ملوك اليهود، هذه الأخبار التي عني الكتبة والمؤرخون بتدوينها، وهي مذكورة في سفر الملوك الأول، وأخبار الأمراء، والأخبار مذكورة في سفر نحميا، وفي سفر المكابيين الأول.
41
ولم يحدث تقنين لأسفار العهد القديم قبل عصر المكابيين. وقد اختيرت في المعبد الثاني، وهم الذين وضعوا الأقوال في الصلاة. ويشير الفريسيون أنفسهم إلى اجتماعهم لأخذهم قرار التقنين مع ما يتفق مع عقائدهم.
42
خامسا: منهج التفسير
إذا كان الشعور الديني ذا أبعاد ثلاثة: الشعور التاريخي، ووظيفته نقل الوحي شفاهيا أم كتابيا، وضمان صحته وضبطه عبر التاريخ، والشعور الفكري، ومهمته فهم الوحي - بعد التأكد من صحته - وتفسيره، وتحويله إلى أسس نظرية للسلوك، وأخيرا الشعور العملي، ومهمته تحويل الوحي - بعد التأكد من صحته وفهم معناه - إلى أنماط للسلوك، وإلى مناهج عملية في الحياة حتى يصبح الوحي نظاما للعالم، ويتم تحقيق الوحدة بين الفكر والواقع، أو بين الروح والطبيعة، أو إن شئنا، بين الله والعالم،
43
فإن سبينوزا لا يخرج عن هذا التقسيم، فيدرس النبوة أولا كشعور تاريخي، ثم يدرس مناهج التفسير كشعور فكري، ثم ينتهي بعد ذلك إلى السلوك والحياة العملية في دراسته للصلة بين الدين والدولة، ونظام الحكم الأمثل في الشعور العملي.
44
ومع ذلك، فالتفسير عند سبينوزا هو المسألة العامة التي تضم كثيرا من المسائل النقدية والعملية على السواء.
والتفسير ليس حكرا على فرد معين، أو على سلطة بعينها، بل لكل فرد الحرية المطلقة في أن يفسر كما يشاء، وفي أن يؤمن وأن يتصور العقائد كما يريد، وفي أن يفسر الكتاب على مستوى فهمه؛ إذ إن الكتاب نفسه قد دون على مستوى فهم العامة، وطبقا لآراء الأنبياء، ومعتقدات الرواة. يرفض سبينوزا سلطة الكنيسة في التفسير، وما تدعيه من حق في تفسير الكتاب المقدس، كما رفضها لوثر من قبل، فالله لا يحرم على الفرد حرية البحث ولا يمنعه حقه في التفكير والفهم والتفسير. وبناء على ذلك، لا يحق لنا اتهام مؤسس الفرق الدينية بالكفر. إذن هم كيفوا الكتاب حسب عقائدهم الخاصة، بما أنه قد تكيف من قبل حسب عقلية الأنبياء، وحسب التكوين النفسي للجماهير في عصره. ولكن يعاب عليهم منعهم الآخرين حرية البحث والتفكير، واعتبارهم أعداء لله وللبشر؛ لأنهم يختلفون معهم في الآراء والمعتقدات، حتى ولو كانوا يعيشون عيشة الفضيلة الحقة، واعتبارهم أصفياء الله، إذا اتفقوا معهم في العقائد والمعتقدات، حتى ولو كان سلوكهم مشينا. وهذا كله مما يجلب الشقاء للفرد وللجماعة.
ويعتمد سبينوزا في تحليله للكتاب على المبدأ البروتستانتي «الكتاب وحده»
Sola Scriptura ، دون الالتجاء إلى سلطة آباء الكنيسة أو التراث المسيحي إبان العصور؛ لذلك يملأ سبينوزا الرسالة بالشواهد النقلية من الكتاب المقدس ولا يضيف على أقوال الأنبياء شيئا، ولو أنه يلجأ في بعض الأحيان في دراسته لتاريخ العبرانيين إلى التراث اليهودي أو لبعض النظريات الفلسفية عن ابن عزرا أو ابن ميمون أو البكار.
ويرفض سبينوزا كل التفسيرات التي تقوم على الهوى وعلى الخرافة وعلى الأوهام، فهي كلها بدع تؤخذ على أنها كلام الله، ويجبر الآخرون على الاعتقاد بها. وتلجأ بعض هذه التفسيرات إلى السلطة الإلهية حتى لا يظهر الآخرون أخطاءها، ويقوم البعض الآخر على الإيمان بالخرافات واحتقار العقل، ويعتمد البعض الثالث على الأسرار والغموض والاشتباه على التأويلات والتخريجات، وإخراج الكلم عن مواضعه، ووضع معتقدات لا عقلية صادرة عن انفعالات النفس.
لذلك يقترح سبينوزا منهجا آخر لتفسير النص مثل منهج تفسير الطبيعة ، يقوم على الملاحظة والتجربة، وعلى جمع المعطيات اليقينية، ووضع الفروض، واستخلاص النتائج. وفي حالة الكتاب يكون منهجا لاستقصاء الحقائق التاريخية اليقينية، والانتهاء منها إلى أفكار مؤلفي الأسفار، وبذلك نضمن صحة النتائج، كما نضمن صحة المعرفة التي نحصل عليها بالنور الفطري. مع أن الكتاب يعالج كثيرا من الموضوعات التي لا يمكن معرفتها بالنور الفطري، مثل قصص الأنبياء ووحيهم وقصص المعجزات، أي الروايات عن وقائع خارقة للعادة في الطبيعة تكيفت حسب آراء الرواة وأحكامهم السابقة، هؤلاء الذين نقلوها أو دونوها، والوحي الذي تكيف مع آراء الأنبياء، أي بعض الموضوعات التي تتعدى حدود المعرفة الإنسانية، بمعنى أنها تتطلب استقصاء تاريخيا؛ لذلك يجب أن نستخلص معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. ومع أننا نستطيع إثبات التعاليم الخلقية بالأفكار الشائعة إلا أننا يجب علينا استخلاصها أيضا من الكتاب نفسه. ومع أن هذه التعاليم الخلقية لا المعجزات، يمكنها إثبات المصدر الإلهي للكتاب، إلا أن منهج تفسير الكتاب يجب أن يقوم على فحص الروايات، كما يقوم المنهج الطبيعي على فحص الظواهر الطبيعية بأقصى درجة من الوضوح.
ويتضمن البحث التاريخي خطوات ثلاثا: (1)
معرفة خصائص وطبيعة اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس، والتي تحدث بها مؤلفوها، وبذلك يمكننا معرفة معاني النصوص حسب الاستعمال العرفي لها. ولما كانت اللغة العبرية لغة الكلام والتدوين يجب إذن معرفة اللغة العبرية للعهدين القديم والجديد.
ولكن هذه الخطوة يصعب القيام بها، كما أنها تتطلب شرطا يصعب تحقيقه؛ فليس لدينا معرفة كاملة باللغة العبرية، ولم يترك القدماء لنا شيئا مضبوطا، فلم يترك لنا علماء اللغة معاجم وكتبا نعرف منها مبادئ اللغة العبرية، أو قواعد اللغة، أو في الخطابة، فقد فقدت الأمة العبرية كل شيء، ولم يبق إلا بعض المنوعات الأدبية، وضاعت أسماء النباتات والحيوانات والطيور والأسماك، وهناك أسماء وأفعال كثيرة في التوراة مجهولة أو مشكوك فيها، كما لا نعلم أساليب اللغة وطرق بيانها بعد أن طواها النسيان؛ لذلك لا نستطيع معرفة معاني النصوص طبقا لاستعمال الكلمات، فهناك كلمات معروفة للغاية، ولكن معناها غامض، لا يمكن العثور عليه. هذا بالإضافة إلى طبيعة هذه اللغة نفسها وعباراتها الغامضة التي لا يمكن لأي منهج توضيحها. ومن أسباب هذا الغموض: (أ)
استبدال الحروف التي لها المخرج نفسه، الشفاه، الأسنان، الحنجرة، اللسان، الحلق. (ب)
غياب الأزمنة (الحاضر، الماضي الناقص، الماضي التام، المستقبل السابق) في الصيغة الإخبارية، وغياب جميع الأزمنة إلا الحاضر في صيغة الأمر والصيغة المصدرية، وغياب الأزمنة جميعها في الصيغة الإنشائية. (ج)
غياب الحروف المتحركة. (د)
غياب التنقيط والتشكيل لبيان أجزاء الكلام، وقد وضع فيما بعد، مما يدعونا إلى الشك في القراءات الحالية.
بالإضافة إلى ذلك، تواجهنا صعوبة لغوية أخرى، وهو أننا لا نملك أسفار الكتاب بلغته الأصلية التي كتبت بها أول مرة خاصة العهد الجديد، فقد كتب إنجيل متى ورسالة بولس إلى العبرانيين باللغة العبرية، وضاع النص الأصلي، كما لا نعلم بأية لغة كتب سفر أيوب؛ إذ يؤكد ابن عزرا أنه كتب بلغة أخرى، ثم ترجم إلى العبرية.
45 (2)
جمع النصوص وفهرستها في موضوعات رئيسة، حتى يمكن استعمال النصوص التي تتعلق بالموضوع نفسه مرة واحدة. يجب إذن تحويل الكتب المقدسة إلى معاجم مفهرسة، حتى يسهل استعمالها حسب الموضوع، كما يمكن تبويب الآيات حسب الوضوح والغموض، فتوضع الآيات الواضحة معا والمتشابهة معا. ويعني الوضوح هنا فهم النص حسب السياق، وليس حسب العقل؛ لأن مهمة التفسير فهم النص، لا معرفة الحقيقة، كما لا ينبغي الخلط بين فهم النص وإدراك الأشياء الطبيعية، حتى لا نخلط بين معنى الآية وحقيقة الأشياء، علينا فقط الاعتماد على اللغة، أو على الاستدلالات، ابتداء من الكتاب. فمثلا «الله نار» آية واضحة مع أنه معناها معارض للعقل وللنور الطبيعي؛ لذلك يجب وضعها في قسم الاستعارة. وإذا كانت هناك بعض الآيات متفقة مع العقل، ولم نستخلص معناها من الكتاب، يجب التوقف عندها؛ إذ إنه لا ينبغي الابتعاد عن المعنى الحرفي للآية والاستعمال اللغوي، بصرف النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع العقل.
لا توجد طريقة إذن لتحديد معنى النصوص إلا طريقة جمع النصوص وهي طريقة لا توضح النصوص الغامضة إلا مصادفة، وهي طريقة مجدية للتعرف على فكر الأنبياء، فيما يتعلق بالأمور غير الحسية، والتي لا تدرك إلا بالخيال، أما ما يمكن إدراكه بالذهن، أي الأمور النظرية، والتي نستطيع تصورها بسهولة مثل التعاليم الخلقية، فهي عامة بسيطة سهلة، لا تحتاج إلا إلى النور الفطري.
ولا يجوز في جمع النصوص وضع الآيات الواضحة مع الآيات الغامضة، حتى يمكن تفسير الثانية بالأولى، وإلا قام التفسير حسب الهوى. فإذا كان النص صريحا على أن الشمس تدور حول الأرض، فلا يجوز التعسف في التفسير، وإخفاء معناه، أو تحويله إلى معنى آخر حتى يتفق مع الحقيقة العلمية، فلم يكن يشوع، وهو الذي تحدث في هذا النص، عالما في الفلك، لا يجوز إذن إخراج الكلم عن مواضعه، وتأويل النص، والتعسف معه، وتحميله أكثر مما يحتمل.
46 (3)
معرفة الظروف والملابسات التي كتبت فيها الرواية، أي معرفة حياة مؤلف السفر، وتقاليده، وأخلاقه، والغاية من السفر، ومناسبته، وعصره، ولغته، ثم مصير السفر نفسه؛ جمعه، ونقله، ونسخه، والاختلافات بين النسخ، وتقنينها، وتحليلها؛ حتى يمكن التفرقة بين آيات التشريع وآيات الأخلاق، وحتى نستطيع التعرف على موهبة المؤلف الأدبية، وحتى لا نخلط بين التعاليم الوقتية والتعاليم الإلهية الأميرية، وكل ذلك حتى يمكننا أخيرا تحديد درجة سلطته، والوثوق بالسفر، فلربما غيرته يد آثمة عن عمد، أو دخله التحريف والتغيير والتبديل.
ولكن أمام هذه الخطوة صعوبات جمة؛ وذلك لأننا نجهل الظروف الخاصة لكل الأسفار المقدسة، كما نجهل مؤلفي كثير من الأسفار، كما نجهل كاتبيها، وموضوعاتها، ومناسباتها، ورواتها، ومن وقعت في أيديهم، وعدد نسخها، والاختلافات بينها، ومصادرها، خاصة إذا كانت تروي أشياء غامضة، لا يمكن إدراكها أو تصديقها، ما دمنا نجهل قصد مؤلفها. فإذا عرفنا كل ذلك، يمكننا أن نتخلص من أحكامنا السابقة، نفهم النص كما أراده مؤلفه، ولا نحكم عليه سلفا بأنها أسطورية أو سياسية أو دينية.
وبعد القيام بهذه الخطوات الثلاث من البحث التاريخي، نبدأ في دراسة فكر الأنبياء والروح القدس. وكما نفعل في الطبيعة عندما نبدأ بدراسة أكثر الأشياء عمومية، مثل الحركة والسكون، كذلك نفعل في الكتاب بدراسة أكثر الأشياء عمومية، وهو ما أوحى به جميع الأنبياء كعقيدة أبدية نافعة للبشر جميعا؛ أي وجود الله القادر الذي تجب عبادته وحده، والذي يرعى كل شيء، ويحب من يحبون الجار كحبهم لأنفسهم،
47
أما طبيعة الله، فيختلف الأنبياء عليها، ويمكن للفيلسوف دراستها بالنور الفطري، وبعد ذلك يمكن الانتقال إلى موضوعات أقل شمولا، مثل السلوك في الحياة، وهو ما يمكن استنباطه من المبادئ العامة الأولى، ونوضح كل ما تشابه منه باللجوء إلى هذه المبادئ العامة. فإذا حدث تعارض، فإنه يمكن حله عن طريق معرفة المناسبة والزمان والمكان الذي كتبت فيه هذه النصوص، أي عن طريق الرجوع إلى الموقف التاريخي الذي نشأ فيه النص.
48
ففي كثير من الأحيان يتحدث المسيح كداع للخير، لا كمشرع، ويريد تطهير النفس، لا تصحيح الأفعال. فالدعوة إلى التسامح تكون في عصر الاضطهاد، والدعوة إلى العدل تكون في دولة لا يكون للمواطنين فيها الحقوق نفسها، وهذا ما يقتضيه النور الفطري أيضا.
ومن الصعب دراسة الأمور النظرية المحضة؛ إذ لم يتفق الأنبياء عليها فيما بينهم، بعد أن تكيفت رواياتهم حسب آرائهم السابقة في عصرهم.
49
فلا يجوز استنتاج أقوال نبي من نصوص واضحة لنبي آخر إلا بعد إثبات تطابق وجهتي نظرهم.
ودراسة الأشياء من العام إلى الخاص دراسة نظرية محضة للوحي،
50
إذ نبدأ بدراسة بتعريف النبي والوحي والمعجزة. وفي دراسة النبوة لا يجوز الخلط بين فكر النبي وفكر الراوي، كما لا يجوز الخلط في الوحي بين ما سمعه الأنبياء بالفعل وبين ما أرادوا التعبير عنه بالصور الذهنية.
والذي يعطينا مقدار الصحة التاريخية للنص هو منهج التفسير (ويعني به سبينوزا منهج النقد التاريخي). أما السنة النبوية (التراث الديني اليهودي كما هو موجود لدى الفرق مثل الفريسيين)، أو العصمة البابوية كما هو الحال عند الكاثوليك الروم، فلا يعطيان أي يقين. فقد رفض اليهود الأوائل هذا التراث الديني (الميدراش مثلا) لأن الأحبار لم ينقلوها عن موسى كما يدعي الفريسيون. لقد أقيمت السلطة الدينية عند اليهود لتطبيق الشريعة، وهي قانون الدولة ، لا لتفسير الكتاب المقدس أو تقنينه؛ لأن لكل فرد الحق في تفسيره بالنور الفطري، ولكل باحث الحق في تطبيق قواعد المنهج التاريخي لإثبات مقدار صحة النصوص.
كذلك يعطينا منهج التفسير اللغوي المعاني الصحيحة للألفاظ، لأنه إذا أمكن تغيير معنى النص بسهولة، فإنه لا يمكن تغيير معنى الكلمة أو اللفظ؛ لأن الكلمة يحكمها معناها الطويل، ومن يريد تغيير معناها عليه تغيير تاريخ استعمالها وهذا مستحيل، فاللغة محفوظة في تراثها عند الشعب وعند علماء اللغة، فإذا غير العلماء معنى النص، فإنهم لا يستطيعون تغيير معاني الكلمات، ومن الصعب إعطاء الكلمات معاني جديدة كلية مخالفة لمعانيها القديمة؛ لذلك لا يمكن تحريف معاني الكلمات بالرغم من جواز تحريف النصوص، وتغيير فكر الأنبياء بتغيير النص أو بإساءة التأويل.
فإذا كانت كل هذه الصعوبات اللغوية والتاريخية تمنعنا من معرفة الأشياء التي لا يمكن إدراكها، والتي يمكن تخيلها فحسب، فإنها لا تمنعنا من تصور الأشياء التي يمكننا إدراكها بالذهن. فقد كتب إقليدس أشياء سهلة في كل لغة، ولا تهم معرفة اللغة الأصلية معرفة كاملة، بل لا يهم معرفة أية لغة معرفة كاملة، ولا يهم أيضا معرفة حياته، وعاداته، وتقاليده، وظروف الكتابة، ومناسباتها، والغاية منها، وطرق جمعها، ومن تناولها. والتعاليم الخلقية في الكتاب المقدس يمكن إدراكها على هذا النحو، فإننا نفهمها بسهولة ويسر، ونعلم معاني الآيات عن يقين؛ إذ يتم التعبير عنها بأكثر الألفاظ شيوعا وبساطة، لأن الخلاص الحقيقي يكون في اطمئنان النفس، وهذا ما يمكن معرفته بوضوح.
وعلى هذا النحو لا يتطلب منهج التفسير إلا النور الفطري الذي يقتضي استنباط الأشياء الغامضة من الأشياء الواضحة، وهو منهج يسير للغاية، إلا أنه استعصى على الناس لطول نسيانهم له، وليس هناك ما يدعى «نورا فوق الطبيعة»
Lumière surnaturelle
كما يدعي البعض؛ وذلك لأن كل ما يقال عنه تفسير بنور يفوق الطبيعة إن هو إلا ابتداع إنساني محض. وإن صعوبة التفسير لا تأتي من عدم كفاية النور الفطري كما يدعون، بل من التكاسل والإهمال في المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب. وليس هذا النور الذي يفوق الطبيعة هبة من الله للمؤمنين، فقد خاطب الأنبياء والحواريون المؤمنين والكفار على السواء؛ وعلى هذا النحو يمكن أن يقال: إن كل ما يناقض العقل أو الطبيعة يجب حذفه؛ لأنه زيادة من الراوي، لإثارة النفوس، وتحريك الخيال.
لذلك يرفض سبينوزا منهج موسى بن ميمون الذي يعتبر أن لكل نص معاني عديدة قد تكون متعارضة، ويكون أصوبها أكثرها اتفاقا مع العقل، فإذا تعارض العقل مع النقل (المعنى الحرفي) وجب تأويل النص،
51
وقد طبق ابن ميمون منهجه هذا، وانتهى إلى القول بقدم العالم، وهو رأي أرسطو، وتأويل النص المقدس حسب هذه النظرية، بل إن النص، في رأيه، يدعو لها صراحة. يرفض سبينوزا منهج ابن ميمون؛ لأنه يدل على أن هناك أشياء كثيرة في الكتاب لا يمكن استنباطها بالنور الفطري، وأنه لا بد لذلك من نور يفوق الطبيعة، أما العامة التي تجهل طرق الاستدلال والبراهين، فإنها ستحتاج إلى استفتاء الفلاسفة، والاعتقاد بعصمتهم في تفسير الكتاب، وبذلك تنشأ سلطة كهنوتية جديدة، يحترمها العامة. صحيح أن منهج سبينوزا يتطلب معرفة اللغة العبرية، ولكن يكفي أن تكون هذه المعرفة على مستوى العامة؛ فقد كانت لغة الحيث في ذلك العصر، في الوقت نفسه الذي يجهلون فيه البراهين على حقائق الوحي. يؤدي منهج ابن ميمون إلى استحالة معرفة العامة بحقائق الوحي، مع أن حقائق الوحي الخاصة بالسعادة، وبحياة الفضيلة، يمكن للناس جميعا إدراكها، وفي أي لغة كانت، دون شهادة المفسرين أو العلماء، يفترض منهج ابن ميمون اتفاق الأنبياء فيما بينهم، وكأنهم فلاسفة كبار، وهذا غير صحيح؛ لأن الأنبياء جهلوا كثيرا من الحقائق، واستعملوا أسلوب التخييل، للتأثير على النفوس، كما يفترض منهج ابن ميمون أن الكتاب لا يمكن تفسيره بالكتاب، مع أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب نفسه. وأخيرا يسمح منهج ابن ميمون بتفسير النصوص حسب آرائنا السابقة، وبتبديل المعاني الحرفية للنصوص، مع أن كثيرا من النصوص تند عن العقل، وينتهي منهج ابن ميمون إلى زعزعة ثقة العامة في الوحي، وفي إيمانهم بالكتاب.
لا يمكن إذن، في رأي سبينوزا ، إخضاع النص لشيء آخر غيره، مثل فلسفة أفلاطون، أو أرسطو أو تأويله تأويلا مجازيا، حتى يتفق مع العقل، أو إخراج ما فيه من أسرار إلهية مدعاة، هي مجرد أوهام وخيالات، أو خرافات وأساطير.
سادسا: النبوة
بدأ سبينوزا بدراسة النبوة لأنها الموضوع الذي يتناوله الباحث عندما يريد دراسة الوحي؛ إذ يتم كشف الوحي من خلال النبوة، والنبوة في الغالب وحي مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوة جانبين: الأول صلتها بمصدر الوحي، أي النبوة على المستوى الرأسي كما تحدده صلة النبي بالله، والثاني النبوة صلة النبي بالرواة وانتقالها من رواية إلى رواية، حتى يتم التدوين، ثم انتقال المصاحف من يد إلى يد حتى يتم التقنين، أي النبوة على المستوى الأفقي كما يحدده وضعها وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول يدرسه سبينوزا في أول الرسالة ثم يدرس الجانب الثاني بعد ذلك وهو بصدد النقد التاريخي للكتب المقدسة. والحقيقة أن الجانب الأول موضوع للفلسفة الإلهية، وهي نظرية النبوة بالمعنى الضيق، والمعروفة باسم نظرية الاتصال في الفلسفة الإسلامية، والثانوي موضوع لأصول الفقه أو لعلم الحديث الذي يدرس الرواية وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول مبحث ميتافيزيقي افتراضي، والثاني مبحث تاريخي علمي. الأول لا يتعدى الظن، والثاني هو المنطق الموضوعي لها.
ولا يتناول سبينوزا الجانب الأول من النبوة إلا بقدر يسير. فإذا كانت النبوة تعني تدخل الله في قوانين الطبيعة، فإن ذلك لم يحدث، لأن قدرة الله هي قدرة الطبيعة، وصفات الله هي قوانين الطبيعة، كما أن قدرة الله لا تفسر شيئا؛ لأن السبب المتعالي لا يمكنه تفسير واقعة طبيعية.
وكما أن قدرة الله ليست هي السبب في تفسير النبوة، كذلك «روح الله». صحيح أن الكتاب المقدس يذكر «روح الله» أو «روح الله للأنبياء» أو يخبر بأن الأنبياء قد تحدثوا باسم روح الله، ولكن كلمة «روح» في اللغة العبرية تعني اشتقاقيا (ريح) نسمة، نفس، نفخ، تنفس، قوة، طاقة، استعداد، قيمة، رأي، إرادة، رغبة، دافع ... إلخ؛ كما تستعمل للتعبير عن الانفعالات مثل التواضع، والغرور، والمحبة، والكراهية، وتقلب المزاج، والطبيعة؛ كما تستعمل أيضا للدلالة على روح الإنسان، ومناطق العالم. وهذه المعاني كلها مجازية صرفة؛ إذ تنسب كل واقعة لله إذا كانت جزءا من طبيعته، فيقال: «قدرة الله»، أو إذا كانت خاضعة لقدرته، فيقال: «سماء الله»، أو إذا كانت مخصصة لله، فيقال: معبد الله، أو إذا كانت منقولة عن السنة النبوية، فيقال: «شريعة الله»، أو إذا كانت تعبر عن درجة في التفضيل، فيقال: «جبال الله».
52
وقد كان من عادة اليهود نسبة كل شيء لله يجهلون علته المباشرة بل يعتبرون وقائع الطبيعة كلها أعمالا لله، خاصة خوارق العادات، أو الأشياء غير المألوفة عادة، فالرجل الطويل «نبي الله»، ومن هذه الناحية لا يختلف اليهود عن الوثنيين. لا تعني إذن «روح لله» أي معنى حقيقي، بل تعني عدة معان مجازية، خاصة أن اليهود كانوا يعتبرون الجسد مصدر الشر، والروح مصدر الخير. وقد استعملت هذه المعاني المجازية كتشبيهات على طريقة التوراة التي لا يمكنها التعبير عن الحقائق الإلهية إلا بالصور الإنسانية، فعندما يذكر كتاب أن روح الله كانت في النبي، أو أن الله أنزل روحه على البشر، فإن ذلك يعني أن الأنبياء كانوا بشرا ممتازين، يؤمنون بالله إيمانا صادقا، ويعبدونه عن حق ويستطيعون إدراك الأحكام الإلهية، إذ تدل الروح على النشاط الذهني أو على الحكم؛ ولذلك سميت الشريعة روح الله، وكذلك يمكن تسمية خيال النبي فكر الله،
53
والحقيقة أن فكر الله مطبوع في البشر جميعا، كالمعرفة الفطرية تماما، ولكن اعتقادا من العبرانيين أنهم أصفياء الله، ادعوا أن روح الله قد حلت في أنبيائهم؛ لأن العامة تجهل العلل المباشرة للمعرفة النبوية، وتعتريها الدهشة أمامها؛ لذلك نسبوا هذه المعرفة إلى الله كما تعودوا أن ينسبوا إليه كل شيء غريب عليهم.
فإن لم تكن قدرة الله أو روح الله سبب النبوة، فإنه لم يبق أمامنا إلا روح الإنسان، فالروح الإنسانية وطبيعتها هي السبب الأول في وجود الوحي لأنها قادرة على تكوين بعض الأفكار، تفسر بها طبيعة الأشياء، وتدل بها على الحياة الصحيحة، فلو لم تكن هناك روح إنسانية، لما كانت هناك نبوة، ولو لم يكن هناك إنسان، لما كان هناك الوحي. لا يهم سبينوزا إذن المصدر الإلهي للنبوة، بل يهمه أنها واقعة إنسانية، حدثت بالفعل، وبذلك يكون الدليل على النبوة هو وجود النبي، لا وجود الله.
كيف يظهر الوحي إذن من خلال النبوة؟ الوحي
Révélation
هو كلام الله للبشر على لسان الأنبياء، أو كشف الله نفسه للأنبياء، فالوحي كشف أو رؤية
Offenbarung . في الحالة الأولى يتم كشف الوحي للأنبياء بالكلمات، وفي الحالة الثانية يكشف الله عن نفسه وعن الوحي بالرؤية، وفي بعض الأحيان يتم الكشف بالوسيلتين معا. وتكون هاتان الوسيلتان إما حقيقة من الله، أو خيالا ووهما واختراعا من صنع الإنسان؛ إذ يتخيل النبي وهو في ساعة اليقظة أنه يسمع أو يرى شيئا لا وجود له في الواقع، وقد أوحى الله الشريعة إلى موسى بصوت حقيقي، وهو الصوت الوحيد الذي سمعه موسى في تاريخ النبوة كله، بل في تاريخ التوراة كلها، أما الصوت الذي سمعه النبي دانيال كصوت عالي
Géli
الذي تعود صموئيل سماعه، وكذلك الصوت الذي سمعه أبيملك فصوت خيالي سمعه وهو نائم، إلا أن بعض اليهود يرون أن الوصايا العشر لم تبلغ حرفيا، بل سمع موسى مجرد ضوضاء شديدة، لا تتميز فيها الكلمات، ثم أدركت الوصايا العشر إدراكا روحيا من خلال هذه الضوضاء، وهذا ما يفسر اختلاف النص في الخروج عنه في التثنية ويدل على أن الله قد أبلغ الوصايا العشر معنى لا لفظا. وهذا لا ينفي سماع صوت حقيقي، ثم التعبير عنه بالصوت الإنساني، ولكن يستحيل أن يعبر الصوت المخلوق عن ماهية الله ووجوده؛ وذلك لأن الروح الإنسانية هي التي تحرك الفم، فضلا عن أن اليهود لم يعرفوا من الله حتى ذلك الوقت إلا اسمه وأرادوا أن يوقنوا بوجوده، وبالطبع لا ينفع في ذلك الصوت المخلوق أو حركات الفم، بالإضافة إلى أن الشريعة تنفي صفة الجسمية عن الله حتى لا يحيد اليهود عن عبادته. على أن هذا الاختلاف في نص الوصايا العشر بين السفرين المذكورين، الخروج والتثنية، يرجع في الحقيقة إلى اختلاف في التدوين، وهو أمر يمكن معرفته وتقصيه بالنقد التاريخي للكتاب المقدس، كما سيفعل سبينوزا ويثبت أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة،
54
أو يمكن التوفيق بينها باستخدام التفسير المجازي لبعض التعبيرات.
وفضلا عن الصوت أو الكلام، ظهر الله أيضا ظهورا حسيا عندما أراد أن يظهر غضبه لداود، فأراه ملكا ممسكا بسيف، بالرغم من إنكار موسى بن ميمون ذلك، واعتباره مجرد حلم، كما كشف الله ليوسف نصره باستعمال بعض الصور الذهنية من مخيلة النبي، لا باستعمال رؤية حقيقية، كما كشف ليشوع عونه لليهود في المعركة بالرؤى والكلمات معا، فأراه ملكا قابضا على سيف على رأس الجنود، مؤيدا بالكلمات في حركاته واتجاهاته، وكشف لأشعيا أيضا بعض المظاهر الحسية، وأخبره بترك الشعب للعناية الإلهية، وتصور النبي الله مستويا على عرش عال، في حين لطخ الإسرائيليون أنفسهم بالوحل، وغاصوا في الدخان. رؤية موسى وحدها كانت بلا رموز، فقد كان موسى كليم الله.
ولكن هناك أيضا وسيلة للاتصال المباشر دون الاستعانة بمظهر حسي، صوتا كان أم جسما، وهي الوسيلة التي يخبرنا بها الله عن ماهيته، وهذا يقتضي وجود روح غير عادية، ولم يصل مخلوق إلى هذه الدرجة العالية إلا المسيح الذي اتصل بالله اتصال الروح بالروح، فصوت المسيح هو صوت الله الذي سمعه موسى من قبل، وحكمة الله التي تفوق الحكمة الإنسانية قد تجسدت في المسيح، وبذلك يصبح المسيح هو طريق الخلاص كما كانت شريعة موسى من قبل. وباستثناء المسيح لم يدرك نبي آخر إلا بالمخيلة باستخدام الكلام أو الصور الحسية؛ ولذلك لا تتطلب هبة النبوة إلا خيالا خصبا.
55
يرفض سبينوزا إذن كل نظريات الكنيسة حول طبيعة المسيح وشخصه، إله أم إنسان. إله وإنسان أم إنسان وإله. ولا يرى المسيح إلا في دوره المعرفي، وسيلة مباشرة للاتصال بالله لمعرفة ماهيته، وسيلة عند المسيح وعند الحواريين وعند الفيلسوف. فإذا كان موسى قد تحدث مع الله وجها لوجه، فإن المسيح قد اتصل بالله اتصال الروح بالروح. المسيح طريق للمعرفة وليس مسيحا شخصيا أو مسيحا كونيا.
مهمة النبي إذن هي التبليغ والتعبير، فالوحي أو النبوة معرفة يقينية يوحيها الله للإنسان عن طريق النبي الذي يبلغه للبشر ويعبر عنه. مهمة النبي هي صياغة الوحي، أي المعاني الصرفة، بأسلوبه وبطريقته وباستدلالاته الفطرية أو البيئية المكتسبة حسب مستوى فهم العامة. لم يرسل الله وحيا بالمعنى واللفظ، ولكنه أعطى المعنى، فقد يقذفه في قلب النبي الذي يقوم بصياغته في ألفاظ من عنده،
56
وقد كان النبي عند اليهود مجرد مفسر
Interprète
أو الخطيب بالإضافة إلى مهمته في التنبؤ بالمستقبل، وكذلك سمي يشوع بلعم عرافا أو مبشرا.
يدرك النبي الوحي بمخيلته أي بالكلمات والصور الذهنية صادقة أم كاذبة؛ لذلك تجاوز الأنبياء معرفة الأشياء بالحدود العقلية، وعبروا عنها بالرموز والأمثلة، كما عبروا عن الحقائق الروحية بالتشبيهات الحسية، وهو الأسلوب المتفق مع طبيعة الخيال. ولما كان الخيال غامضا متقلبا، ظهرت النبوة عند بعض الناس على فترات متباعدة في حياتهم. لم يكن للأنبياء فكر أكمل، بل خيال أخصب، فمع أن سليمان قد ملأ الأرض علما وحكمة، إلا أنه لم يتمتع بهبة النبوة، وعلى عكس منه، كانت لهاجر هبة النبوة دون أن يكون لها علم، فمن يتميزون بالخيال الخصب يكونون أقل قدرة على المعرفة العقلية، ومن يتميزون بالعقل يكونون أقل قدرة على الصور الخيالية؛ لذلك لا تحتوي أسفار الأنبياء على معرفة عقلية للأشياء الطبيعية، بل على صور خيالية للتأثير على النفوس.
ويتكيف الوحي حسب خيال الأنبياء وقدراتهم كما تكيف بعد ذلك حسب معتقدات الحواريين والدعاة وأساليبهم في نشر الدعوة. يختلف الأنبياء فيما بينهم حسب خيالهم وطبعهم ومعتقداتهم وآرائهم، فالنبي الفرح توحى إليه الحقائق بحوادث سعيدة، والنبي الحزين تؤيده آيات حزينة، والنبي ذو الخيال المرهف توحى إليه الأشياء بصور ناعمة رقيقة، والنبي الريفي يوحى إليه بصور ريفية، والنبي الجندي يوحى إليه بصور عسكرية، والنبي رجل البلاط يوحى إليه بصور ملكية. ويختلف الأنبياء فيما بينهم حسب معتقداتهم في السحر والتنجيم، فتوحى إليهم الموضوعات السحرية كما أوحيت للمجوس ولادة المسيح. ومن يؤمنون بالكهانة والعرافة يوحى إليهم في أمعاء الضحايا، ومن يؤمنون بحرية الاختيار يوحى إليهم بأن الله لا يتدخل في أفعال البشر.
وكما يتكيف الوحي حسب عقلية الأنبياء ومزاجهم وقدراتهم العقلية ومخيلتهم فإنه يتكيف أيضا حسب عقلية الجمهور وطبقا للمستوى الثقافي للعصر، فلم يقل الأنبياء شيئا عن صفات الله إلا ما اتفق مع المعتقدات الشائعة للجمهور، ومع البيئة الثقافية للعصر، فلم يعرف آدم أن الله قادر قدرة مطلقة، وعالم علما مطلقا؛ ذلك لأنه قد اختبأ من الله، واعتذر عن خطيئته، وكأنه يعتذر لبشر مثله، وقد سمع آدم أيضا صوت أقدام الله وهو يسير في الجنة، وحادثه وسامره. لقد جهل آدم صفات الله كلها إلا صفة واحدة وهو أنه خالق كل شيء. كذلك لم يكشف الله عن نفسه إلا طبقا لمستوى فهم العامة ولمعتقدات الأنبياء، فكشف عن نفسه لقايين على أنه لا يعلم أمور البشر، وكشف عن نفسه للابان على أنه إله إبراهيم. أما يونان فقد حاول الهرب من حضور الله المطلق وتخيله في يهوذا فقط. أما موسى الذي بلغ التوحيد على يده درجة عالية من الصفاء فإن الله كشف عن نفسه له على أنه لا يعلم المستقبل، ولم يعلم موسى عن الله إلا أنه موجود
Ego sum qui sum ، وعبر عن ذلك باسم «يهوه» الذي يدل على الوجود في أبعاد الزمن الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل. لم يعبر موسى عن الله بأية صورة حسية، مع أنه رحيم لطيف غيور، ولا يمكن أن يرى لضعف الإنسان، ينسب إليه موسى قدرة مطلقة، فهو أعظم الآلهة، أعظم ممن خلقهم، وأعطاهم قدرا من سلطانه، خلق الله هذا العالم من عدم، ونظمه، ووضع في الطبيعة بذور الأشياء، وله على الجميع حق مطلق. وطبقا لهذا الحق، اختار العبرانيين من بين الأمم الأخرى التي تركها للآلهة الأخرى؛ لذلك سمى الله إله إسرائيل وإله أورشليم في مقابل آلهة الأمم الأخرى، ولا تعبد إسرائيل إلا إلهها الخاص. وقد ظن موسى أن هذا الإله يسكن في السموات، فقد نزل الله على الجبل، وصعد موسى إليه من على الجبل، وهي الفكرة الشائعة عند الوثنيين. وهكذا نجد أن وحي موسى متفق مع آرائه الخاصة، ومع معتقدات البيئة، وحينما عبدت إسرائيل العجل أرسل الله لهم ملكا، أي موجودا عظيما لعبادته لتخلي الله عنهم. لا يتميز بنو إسرائيل في معتقداتهم عن الوثنيين الذين يعتقدون في الموجودات الإلهية كالملائكة وغيرها. وما كان لمعتنقي الخرافة أن يصلوا إلى معرفة صحيحة بالله، أو أن يعلمهم موسى قواعد السلوك في الحياة كفيلسوف يؤمن بحرية الفكر، بل كمشرع يجبرهم على الخضوع للشريعة؛ لذلك كان حب الله لديهم مظهرا من مظاهر العبودية لا الحرية. وقد أمرهم موسى بعبادة الله وحبه لنعمه عليهم، وهددهم بالعقاب الذي ينتظرهم إذا هم تعدوا حدود الشريعة، ووعدهم بالجزاء إن هم عملوا بها. كان موسى يعلم العبرانيين كما يعلم الآباء أطفالهم الذين لم تكتمل عقولهم بعد؛ لذلك لم يعلمهم الفضائل أو الحياة السعيدة الحقة.
57
أما سليمان، فقد تصور الله تصورا عقليا بالنور الفطري وبذلك تميز عن أنبياء عصره، وكان أعلى من الشريعة التي وضعت من أجل ضعاف العقول الذين لا يستطيعون إدراك الحقائق بالنور الفطري، وأعلن زوال نعم الحياة، وأنه لا يوجد أفضل من العقل وأشر من نقص العقل. ولكن سليمان لم يراع الشريعة مطلقا، بل خرقها علنا، ولم يكن سلوكه سلوك فيلسوف، وذلك لسعيه وراء اللذات.
وقد بلغ تصور الأنبياء للوحي وللحقائق الإلهية إلى حد أن بعض الأحبار شكوا في الأنبياء، كما وقع لسفر حزقيال، فقد بلغت آراء هذا النبي حدا أن حاول بعض الأحبار حذفه من أسفار العهد القديم، لاختلافه مع تصور موسى، لولا أن أتى حنانيا وشرحه لهم، ولكن لم يمنع هذا الشرح من وجود تعارض صارخ بين آراء حزقيال وأسفار الخروج وإرميا وصموئيل ويوئيل بالنسبة لله والخطيئة والتوبة والغفران.
لم تجعل النبوة الأنبياء أكثر علما بل تركتهم وأفكارهم السابقة؛ ولذلك لا يجوز لنا تصديقهم في الأمور النظرية. لقد جهل الأنبياء أشياء كثيرة، على غير ما تظن العامة، مع أن الأنبياء في رأيهم قد أحاطوا بكل شيء، بل إن كثيرا من أقوالهم في تناقض صريح مع العلم، فقد ظن يشوع أن الشمس تدور حول الأرض لأنه لم يكن عالما في الفلك، كذلك جهل يشوع انكسار أشعة الشمس على البرد المعلق في الهواء، وقد ظن أشعيا أن تناقص الظل يرجع إلى تناقص الشمس. لقد جهل الأنبياء الأسباب الحقيقية للظواهر الكونية. أما سليمان فلم يكن رياضيا مع أنه باني المعبد، واعتقد نوح أن العالم لم يكن مسكونا إلا في فلسطين. كان الأنبياء بشرا ولا ينقص جهلهم بعلل الظواهر الكونية من تقواهم ومن إخلاصهم شيئا.
لا ضير إذن أن يجهل الأنبياء الحقائق النظرية مثلا فيما يتعلق بالأرض والشمس والظل وقوانين الطبيعة؛ لأن الأنبياء ليسوا علماء، أو علماء طبيعة، بل هم بشر، يستعملون أخطاء البشر كصور فنية للتعبير بها عن تعاليمهم النبوية؛ لذلك، لم تختلف تصوراتهم عن ماهية الله وطبيعته وصفاته عن تصورات العامة، حتى موسى، الذي أدرك أن الله ليس كمثله شيء وهو الواحد الصمد، عبر عن الله بصور حسية، ونسب إليه الانفعالات والأهواء البشرية.
ولكن جهل الأنبياء بالأمور النظرية لا يعني جهلهم بالإحسان وبقواعد السلوك في الحياة. وإن كان لا يجوز لنا أن نأخذ من الأنبياء معرفة بالأمور الطبيعية والروحية، فإنه يجوز لنا تصديقهم فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، وهو العدل والإحسان. وفيما عدا ذلك كل فرد حر أن يعتقد ما يشاء، وكما يتفق مع عقله، فقد أوحى الله لقايين حرية الإرادة لا كعقيدة فلسفية نظرية، وهي متضمنة بالفعل في الوحي، بل ليحيا حياة أفضل، وهو توجيه يتفق مع فهم قايين، وقد فعل المسيح الشيء نفسه عندما خاطب الفريسيين بمبادئهم الخاصة، دون أن يعتقد في وجود الشياطين ومملكة الشياطين، وكذلك عندما خاطب تلاميذه ودعاهم للأخلاق الفاضلة دون أن يعتقدوا في وجود الملائكة ومملكة الملائكة.
58
ولما كانت النبوة لا تعتمد على يقين الفعل، وهي الأفكار الواضحة والمتميزة أو الاستدلالات الرياضية، فإن الأنبياء قد حصلوا على يقينهم من الوحي نفسه، معتمدين على ما أتوا به من آيات، فقد طلب إبراهيم آية بعد أن تلقى الوعد من ربه. ومن هذه الناحية تكون النبوة أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تعتمد في يقينها على الآيات، بل تستمد يقينها من طبيعتها، لم يكن يقين النبوة يقينا رياضيا بل يقينا خلقيا، وبالرغم مما قد يثير ذلك من شك في الوحي وفي النبوة، فإن للنبوة درجة عظيمة من اليقين، ويقوم هذا اليقين على أسس ثلاثة: (1)
تخيل الأنبياء الأشياء الموحى بها بطريقة حية كإدراكنا للأشياء الطبيعية. (2)
الآيات التي يعتمد عليها الأنبياء. (3)
ميل الأنبياء الطبيعي إلى العدل والخير.
ولكن هل هناك صلة بين المعرفة النبوية والمعرفة الطبيعية؟ يظن البعض أن المعرفة الطبيعية أي المعرفة الإنسانية أقل بكثير من المعرفة النبوية، وهذا غير صحيح، فالنبوة معرفة يقينية، أوحاها الله للناس، والمعرفة الطبيعية معرفة يقينية، وصل إليها العقل بمفرده، كلاهما معرفة يقينية، النبي هو مفسر الأوامر الإلهية للناس لأنهم لا يقدرون بأنفسهم على الاتصال بالله، ولا يقدرون إلا على إدراكها بالإيمان، والمعرفة الطبيعية أيضا معرفة إلهية، لأنها معرفة يقينية، ولكن العلماء ليسوا أنبياء؛ لأن المعرفة الطبيعية تعتمد على النور الفطري، لا على النور النبوي، فالله يتحدث، ونحن نعرف حديثه، إما من المعرفة النبوية، أو من المعرفة الفطرية، وكل ما نعرفه بوضوح وتميز يصدر عن طبيعة الله وتصورنا له. المعرفة النبوية خاصة بالأنبياء وحدهم، والمعرفة الطبيعية عامة للبشر جميعا، ولكن العامة وحدها تحتقر المعرفة الطبيعية، ولا تعترف إلا بالمواهب الخاصة، وتخرج الوحي من نطاق المعرفة العقلية. والحقيقة أنه لا فرق بينهما إلا في شيئين: الأول أن المعرفة النبوية تستعمل الصور الخيالية من أجل التأثير على النفوس، في حين أن المعرفة الطبيعية تدرك الحقائق ذاتها دون تخييل، والثاني أن المعرفة الطبيعية غايتها الحق، في حين أن المعرفة النبوية غايتها الخير، وفيما عدا الوسيلة والغاية لا فرق بين النبي والفيلسوف.
59
سابعا: الميثاق المؤقت والميثاق الأبدي
لقد أعطيت النبوة للناس، ولكنها أعطيت بوساطة إنسان معين، وهو النبي، لشعب معين، وهم بنو إسرائيل، وكأن الوحي لا يذاع ولا يكشف إلا لشعور جماعي لشعب معين، وكأن النبوة لا ترسل إلا لدى قوم ذوي بناء اجتماعي قائم. لم يتناثر الوحي مرة هنا ومرة هناك، بل ظل في مسار واحد له لدى بني إسرائيل حتى اكتملت النبوة في المسيح، آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولكن هل يعني ذلك ميزة معينة لهذا الشعب على غيره من الشعوب؟ هل يدل ذلك على أن الله إله خاص بهم لا تشاركهم فيه الشعوب الأخرى؟ هل يعني أن الله عقد معهم ميثاقا أبديا من أجل تفضيلهم على سائر البشر، ومن أجل اصطفائهم؟
ليس السعادة الحقة في حصول البعض على المغانم وحرمان الآخرين منها، كما لا يكون الناس أكثر سعادة إذا هم حصلوا على مغانم أكثر، والذي يفرح بهذه السعادة التي تفوق سعادة الآخرين يكون فرحه فرحا صبيانيا، وناشئا عن الحقد والحسد. السعادة هي الحكمة ومعرفة الحق، لا أن يكون الإنسان أحكم من الآخرين، أو أن يحرم الآخرون من الحكمة؛ فذلك لن يزيد من سعادته شيئا، ومن يفرح لسعادته ولشقاء الآخرين يكون حسودا شريرا، لا يعرف السعادة الحقيقية، وطمأنينة النفس.
لذلك، عندما يخبرنا الكتاب بما فضل الله به العبرانيين حتى يحثهم على طاعة الشريعة، فليس معنى ذلك أنهم حصلوا على السعادة الحقة وحدهم دون غيرهم؛ فما كانت سعادتهم أقل لو أن الله دعا جميع البشر إلى الخلاص، وما كان الله أقل رعاية لهم لو أنه رعى الآخرين أيضا، وما كانت الشريعة أقل عدالة لو أنها وضعت للناس جميعا، وما كانت المعجزات أقل قدرة لو أجراها الله للناس جميعا. وعندما أخبر الله سليمان بأنه لا يوجد من يفوقه حكمة، فإنه أراد بذلك أن يعبر عن مدى حكمته، لا عن أنه لم يعد أحدا سواه بحكمة أعظم من حكمته. صحيح أن الله أعطى موسى الشريعة للعبرانيين، وأنه خاطبهم، وكشف لهم عن نفسه كما لم يحدث لأمة أخرى، ولكنه لم يستبعد الأمم الأخرى من علمه ورحمته، بل إن العبرانيين، بالرغم مما أعطاهم الله من فضله، لم يكونوا أصفياء الله فيما يتعلق بالحياة الحقة والتأملات السامية.
لقد أرسل الله الوحي للبشر، فكان لا بد أن تحدث النبوة في جماعة، وقد حدثت في بني إسرائيل لظروف تاريخية محضة، أي لظروف طارئة، دون أن يدل على اختيار أبدي لهم، أو على اصطفاء الله لهم، وتفضيلهم على العالمين؛ وذلك لأنه إذا كان كل ما يصبو إليه الإنسان لا يتعدى أشياء ثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، السيطرة على انفعالات النفس للتحقق بالفضيلة ثم العيش في سلام مع جسم سليم، فإن وسائل الحصول على الغايتين، الأولى والثانية، موجودة في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم فهي لا تقتصر على أمة دون أمة. أما الغاية الثالثة فهي تعتمد على الأشياء الخارجية، كما تعتمد على الرزق والحظ الذي يجهله الجميع؛ لذلك اعتمد الناس على تنظيم حياتهم، وتعودوا على اليقظة، وقد دلت التجربة على أن أفضل وسيلة لذلك هو تكوين مجتمع تحكمه القوانين، وذلك باحتلال بقعة من الأرض، وتوحيد قوى سكانها في هيكل اجتماعي واحد؛ إذ يعطي المجتمع مزيدا من الأمن والاستقرار، ويكون أقل اعتمادا على الحظوظ الخارجية، ويتجاوز مرحلة المجتمع البدائي الذي يعتمد كلية على هذه الحظوظ، أو يعتمد على مجتمع آخر يحكمه، أو إذا تخلص من المخاطر، يقدس حكم الله من حيث تأثيره في الموجودات الطبيعية، لا في الأفكار الإنسانية لأن الله قد أعطاه كل شيء، دون انتظار منه، وكأنه معجزة.
لذلك، فإن النظام الاجتماعي هو الذي يميز أمة عن أمة؛ ولهذا السبب، تم اختيار الأمة العبرانية، وبهذا المعنى تم تفضيلها على باقي الأمم، نظرا لنظامها الاجتماعي، ولغنمها المادي. وقد بقيت الدولة العبرانية سنين طويلة، ولم يكن السبب في ذلك تفوقها في العقل، أو في صفاء النفس، بل تفوق العبرانيين في تدبير شئونهم المادية، وفيما عدا ذلك، يتساوى العبرانيون مع غيرهم. وإذا فكرنا قليلا، وجدنا أن العبرانيين كانوا يعتقدون في الله اعتقادات فظة، ولا يمكن لله أن يفضلهم من أجلها، لقد اختارهم الله ليسرهم في الحياة ولثرائهم، ولم يعد الله البطارقة شيئا سوى ذلك، ولم تعد الشريعة شيئا، جزاء رعاية العبرانيين لها ، إلا الإبقاء على الدولة، ومظاهر النعيم الدنيوي، ولم توعدهم، عقابا لهم على نقض الميثاق، إلا بالقضاء على الدولة، وإصابتهم بأعظم المحن. كانت للعبرانيين شرائعهم الخاصة، وكذلك كانت لكل أمة قوانينها الخاصة، ولم يكن حب الله للعبرانيين أعظم من حبه لسائر الأمم، بل إن الله أظهر من المعجزات أكثر مما أظهر للعبرانيين، ولم تكن هبة النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم، بل كانت عامة للأمم جميعا، وهذا ما يشهد به التاريخ المقدس، فكان للوثنيين أنبياءهم الذين لم يعتن العبرانيون بتسجيلهم، وتدوين قصصهم؛ لأنهم لم يسجلوا في العهد القديم إلا شئونهم الخاصة حتى جعلوه تاريخا وطنيا لهم. ومع أن الفريسيين يدعون أن النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم، إلا أن موسى لم يطلب إلها خاصا بأمته وحدها، لأن الله إله الجميع إله العبرانيين والأمم الأخرى على السواء.
60
أما التشريع الذي سنه موسى لهم، فإنه لا يلزم إلا اليهود وحدهم، ولا يلزم أي شعب آخر، بل إن اليهود أنفسهم لم يخضعوا لهذا التشريع إلا في أثناء قيام دولتهم؛ ولهذا السبب اختارهم الله، ولكنه كان اختيارا مؤقتا، لا اختيارا أبديا، كما اختار الكنعانيين من قبل، ثم رفضهم لسعيهم وراء اللذات، ولرخاوتهم، ولعبادتهم الزائفة. ولقد حذر موسى العبرانيين من أن يرتكبوا نكاح المحرمات، كما فعل الكنعانيون من قبل، وإلا لقضوا على الدولة، وهناك نصوص كثيرة في الكتاب المقدس تدل على أن الله لم يصطف العبرانيين إلى الأبد. هناك فئة قليلة وهي القلة القليلة الباقية المؤمنة من الشعب
le petit reste
أهل الكهف مثلا، عاهدوا الله على ميثاق التقوى والحب والفضيلة والفضل، ومن خلال هذه الفئة يستمر الوحي في التاريخ، ويبقى الإيمان في الشعب، وهي النتيجة النهائية التي يتم الحصول عليها من تطور الوحي في التاريخ، والحصيلة الإيجابية له، بعد أن يفشل في نشر الإيمان في الشعور الجماعي عند الجمهور. ولقد دعا أنبياء الأمم الأخرى إلى الميثاق نفسه، ميثاق الفضيلة، وهو الميثاق الأبدي، ميثاق معرفة الله وحبه، ميثاق شامل لا يفرق بين العبرانيين والأمم الأخرى، ولكن العبرانيين وضعوا هذا الميثاق، ميثاق الفضيلة الحقة ، في كلمات يتمتعون بها، وقرابين يقدمونها، وشعائر يقيمونها، وبنوا المعبد والمدينة، أي إنهم كعادتهم لم يستطيعوا إدراك الأشياء الروحية إلا بمظاهر حسية، أهمها بناء الدولة. واليوم لم يعد للعبرانيين هذا الحق بعد انهيار دولتهم وبعد خرقهم ميثاق الفضيلة والطاعة. وحق عليهم أن يكونوا مشتتين في أنحاء الأرض، ومنبوذين من جميع الأمم، حتى جلبوا على أنفسهم حقد الجميع بإقامتهم الشعائر المعارضة لشعائر الأمم، ولإصرارهم على طقس الختان، وعدم الاختلاط بالشعوب، والتميز عنهم، والتجمع في بلدان خاصة، أو في أحياء (الجيتو). والأمثلة التاريخية كثيرة تشهد على ذلك، فبالرغم من تخلي يهود إسبانيا عن دينهم وتحولهم غلى الكاثوليكية، وتمتعهم بالحقوق نفسها التي للإسبان، إلا أنهم حافظوا على طقس الختان، رمزا للرباط الأبدي، وما زالوا يتوقون لإعادة بناء الدولة.
61
ثامنا: القانون الإلهي والقانون الإنساني
لم ينزل الوحي فكرا فقط، بل نزل أيضا نظاما للكون، أو كما يقول المسلمون: الدين عقيدة وشريعة، وقد كان الدين اليهودي عند موسى شريعة أكثر منه عقيدة، وكان الدين المسيحي عقيدة أكثر منه شريعة. والشريعة هي القانون الإلهي الذي تمت صياغته في قانون إنساني.
والقانون على الإطلاق هو اندراج جميع الأفراد في مجموعة معينة تحت قاعدة واحدة. ويعتمد القانون إما على الضرورة الطبيعية أو على القرار الإنساني، ويعتمد القانون على الضرورة الطبيعية عندما يصدر عن الطبيعة نفسها، أو عن تعريف الموضوع، ويعتمد على القرار الإنساني، ويسمى في هذه الحالة قاعدة، عندما يجعل الحياة أكثر ملاءمة وأمنا، أو عندما يصدره الناس لأنفسهم أو للآخرين لأسباب أخرى. فإذا اصطدمت أجسام كبيرة بأجسام صغيرة، فإنها تفقد من حركتها بقدر ما تعطي، هذا قانون شامل يصدر عن ضرورة في الطبيعة، وعندما يتذكر إنسان شيئا ما ويتذكر شيئا آخر مشابها، هذا قانون شامل يصدر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية. أما إذا تنازل الناس عن حقوقهم طوعا أو اختيارا، فإن ذلك ينتج عن قرار إنساني. ومع أن مثل هذا القانون يعتمد على القرار الإنساني، إلا أن كل شيء محدد طبقا لقوانين الطبيعة الشاملة؛ لأن الإنسان جزء من الطبيعة وقدرتها.
أما القانون بمعناه الخاص فهو الأمر الذي ينفذه الإنسان، والذي يحدد قدرته أو الذي يأمره بما يستطيع، ويكون الأمر هنا قاعدة للحياة يفرضها الإنسان على نفسه أو على الآخرين لغاية معينة. وقد قام المشرعون بوضع القوانين حتى تسير الحياة وفقا للعقل، ويصحب القانون الجزاء والعقاب، خاصة للعامة؛ وذلك لأن الخاصة يعلمون الغاية من القوانين، حتى قبل وضعها، فالعامة تخضع للقوانين التي يسنها الآخرون لها خوفا من العقاب، أما الخاصة الذين يسلكون سلوكا فاضلا، فإنهم يتبعون قراراتهم الخاصة لا ما يضعه الآخرون لهم، ويكون العدل حينئذ في اتباع القرار الخاص. ومن هنا، جاءت التفرقة بين القانون الإلهي والقانون الإنساني، فالقانون الإلهي يبغي الخير الأقصى أي معرفة الله وحبه، في حين أن القانون الإنساني يبغي أمن الحياة وسلامة الدولة.
وتكون معرفتنا يقينية إذا اعتمدت كلية على معرفتنا بالله وحدها؛ لأنه لا يمكن إدراك شيء أو تصوره بدون الله. وتظل معرفتنا الإنسانية موضوعا للشك ما دامت فكرتنا عن الله غير واضحة ومتميزة، بل إن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله. ولما كان لا يمكن إدراك شيء أو تصوره بدون الله، فلا شك أن كل الموجودات الطبيعية تتضمن تصور الله، وتعبر عنه بقدر درجتها في الجوهر والكمال، فكلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية كملت معرفتنا بالله. إن معرفتنا بالخير الأقصى لا تعتمد على معرفة الله وحدها، بل هي على وجه التحديد هذه المعرفة نفسها؛ وذلك لأن الإنسان أكمل الموجودات الطبيعية، وأقرب إلى الكمال، عن طريق المعرفة العقلية لله، أي الموجود الأعظم الكامل، أي إن خيرنا الأعظم وسعادتنا القصوى في معرفة الله وحبه، الأمر الإلهي إذن هو فكرة الله في أنفسنا، والقانون الإلهي هو حضور الله في أنفسنا، وهذا هو موضوع علم الأخلاق الشامل
L’Ethique Universelle .
62
ولما كان حب الله هو السعادة القصوى والغاية الأخيرة للأفعال الإنسانية، فإن من يحب الله يكون هو المطيع حقا للقانون الإلهي، لا عن خوف أو رجاء، بل عن معرفة لله، فهو يعلم أن معرفة الله وحبه هما الخير الأقصى، وهو ما يدركه الإنسان بذهنه لا ببدنه. أما القانون الإنساني فإنه يهدف إلى غاية أخرى وهي المحافظة على سلامة الإنسان وأمن الدولة، إلا إذا كان الوحي هو الذي شرعه؛ لأن معنى ذلك هو إرجاع الأشياء لله، وبهذا المعنى تكون شريعة موسى قانونا إلهيا بالرغم من أنها ليست شريعة شاملة، وأنها تكيفت حسب طبيعة شعب معين، وللمحافظة على سلامته، ما دام نور النبوة هو الذي شرعها.
63
وينتج عن ذلك حقائق أربع: (1)
قانون شامل، يصدق على كل الناس، ويستنبط من الطبيعة الإنسانية، ويدرك بالنور الفطري، ولكن هل يمكن بوساطة النور الفطري تصور الله كمشرع أو كأمير يسن القوانين للناس؟
64
إذا عرفنا طبيعة الله، وأن إرادته وذهنه شيء واحد، عرفنا أن أوامر الله بالتحريم أو بالتحليل حقائق أبدية، تتضمن ضرورة أبدية.
65
لقد أوحى الله لآدم الشر الذي سيكون النتيجة الضرورية لفعله، ولكنه لم يوح إليه ضرورة نتيجة هذا الشر، أي أن آدم لم يدرك الوحي كحقيقة أبدية، بل أدركه كقانون أو كقاعدة، تقرر وجوب ثواب أو عقاب، نتيجة لفعل ما، وليس لطبيعة الفعل نفسه، بل طبقا لمشيئة أمير وإرادته المطلقة، فنظرا لنقص معرفة آدم، أصبح الوحي قانونا، والله مشرعا وأميرا؛ ولهذا السبب أيضا أصبحت الوصايا العشر شريعة للعبرانيين وحدهم، لأنهم لم يعرفوا الله كحقيقة أبدية، وذلك أن الله لم يتحدث إليهم مباشرة من خلال وسائل حسية، وكذلك تلقى الأنبياء أوامر الله، دون أن يدركوها كحقائق أبدية، حتى موسى نفسه الذي أدرك الوحي كشرائع تخص العبرانيين، تنظم حياتهم، دون أن يدركها كحقائق أبدية؛ لذلك تصور الله كمشرع أو كملك أو كأمير أو كحاكم، أو على أقصى تقدير، كموجود عادل ورحيم، يتصف بكل الصفات الإنسانية التي يجب إبعادها كلية عن الطبيعة الإلهية.
66
المسيح هو الوحيد الذي أدرك الأشياء كحقائق أبدية، لأن المسيح كان أقرب إلى فم الله منه إلى نبيه، فقد أوحى الله بوساطة روح المسيح بعض الأشياء، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة والأصوات المخلوقة والرؤى، ولم يتكيف الوحي حسب آراء المسيح ومعتقداته ، كما تكيف مع باقي الأنبياء؛ وذلك لأن المسيح لم يرسل إلى اليهود وحدهم، بل إلى البشر جميعا، كما لم يتكيف الوحي حسب معتقدات شعب معين، بل تضمن تعاليم شاملة للإنسانية كلها، أي حقائق أبدية. لقد أعطى الله المسيح حقائق الوحي مباشرة بلا واسطة، أي بمعرفة عقلية، لأن المعرفة العقلية هي إدراك الأشياء بلا توسط من الكلمات أو الصور، ومع أن حديثه كان أكثر وضوحا من الأنبياء، إلا أنه لم يخل من غموض، فقد استعمل لغة الرمز والمثل، خاصة وأنه كان يخاطب قوما لم يتحرروا بعد من عبودية القانون، ومع ذلك استطاع المسيح تثبيت الحقائق الإلهية وطبعها في القلوب.
خلاصة القول إن العامة الذين تنقصهم المعرفة هم الذين يتصورون الله كمشرع أو كأمير، ويسمونه عادلا ورحيما، والحقيقة أنه يفعل ويوجه كل شيء بضرورة طبيعته وكمالها.
ولكن الفيلسوف، شأنه شأن المسيح، يستطيع إدراك الوحي بالنور الفطري لذلك سمى سليمان العقل «ينبوع الحياة الحقة» ويكون الشقاء في ضياع العقل؛ وذلك لأن عقلنا وعلمنا يعتمدان على معرفتنا بالله وتصورنا له، وهذا العالم من شأنه الحث على الأخلاق الصحيحة والسياسة السليمة، وهي الأخلاق الطبيعية التي تتفق مع أخلاق الفضيلة، وبذلك يكون النعيم في تنمية العقل الطبيعي؛ وذلك لأن النور الفطري قادر على إدراك القانون الإلهي.
67 (2)
القانون الإلهي لا يقتضي التصديق بالروايات مهما كان مضمونها، لأننا نعرفه من الطبيعة الإنسانية، في حين أن الروايات مقيدة بالظروف التاريخية التي نشأت فيها، فالتصديق بالمعجزات المتضمنة في الرواية لا يمكن أن يعطينا معرفة الله أو حبه؛ لأن حب الله يصدر عن معرفته، ومعرفة الله تنتج من الأفكار العامة التي يكون بعضها معروفا، يمكنها أن تعطينا بعض أوجه النفع في الحياة العملية، وتفيدنا في معرفة سلوك الآخرين.
فإذا كان هناك طريقان: طريق العقل وطريق التجربة،
68
الأول طريق النور الفطري لعدد قليل من الناس والثاني طريق الرواية للعامة، وقد استعمل الكتاب المقدس كلا الطريقين، فالفيلسوف لا يحتاج إلى الرواية؛ لأنه يدرك حقائق الوحي بالنور الفطري، أما العامة فإن التصديق بالروايات ضروري لها؛ لأنها لا تستطيع إدراك الأمور النظرية، ومن ينكر هذه الروايات لأنه لا يؤمن بالله فهو كافر جاحد، ومن يجهلها ويؤمن بالله بالنور الفطري، ويراعي قواعد السلوك، فإنه يحصل على السعادة الأبدية أكثر مما يحصل عليها العامة؛ لأن لديه معرفة واضحة ومتميزة عن الحقائق الإلهية. ولما كانت العامة غير قادرة على البرهنة على معتقداتها بالبحث الدقيق في جميع الروايات وصحتها، فعليها أن تؤمن بها كما هي ما دامت تحثها على الطاعة والإخلاص، وما دامت عاجزة عن أن تحكم على صحة هذه الروايات أو على مضمونها،
69
وتحتاج العامة بالإضافة إلى هذه الروايات إلى رجال الدين وإلى القسس وإلى الكنيسة.
فمع أن الروايات أفضل من التاريخ البشري الدنيوي، ومع أن بعضها أفضل من بعض من حيث استخدامها في نشر المعتقدات، إلا أن التصديق بها لا صلة له بالقانون الإلهي، ولا يؤدي إلى السعادة الأبدية، قد نجهل هذه الروايات كلية، ومع ذلك يظل سلوكنا فاضلا ونحصل على السعادة الأبدية لو كانت روح المسيح فينا. ويظن بعض اليهود أن تطبيق قواعد السلوك القويم لا يؤدي إلى السعادة الأبدية، ما دام إدراكها قد تم بالنور الفطري، ولم يبق من الوحي شيئا، وهو رأي موسى بن ميمون ويوسف بن شيم طوب، ولن تنفعهم أخلاق أرسطو في الخلاص، لأنهم يدركونها بالوحي. وهذا ظن باطل، لا يؤيده العقل أو الكتاب. وهكذا يبدو سبينوزا أكثر عقلانية من ابن ميمون الذي ما زال يريد إفساح المجال للوحي بجوار العقل، في حين أن سبينوزا يكتفي بحياة الفضيلة وبإدراك النور الفطري حتى يحصل الإنسان على السعادة الأبدية.
70 (3)
القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلب إقامة الشعائر والطقوس أي مجرد حركات، وأعمال للجوارح لا تكون خيرة إلا بالنسبة لنظام معين.
71
لا يتطلب القانون الإلهي أفعالا يتجاوز تبريرها حدود العقل الإنساني، فالخير الحقيقي يدركه النور الفطري، أما الخير التابع لنظام أو قانون فليس إلا وهما. فإذا كان القانون الإلهي شاملا محظورا في النفس، فقد وضعت الشعائر والطقوس في العهد القديم للعبرانيين وحدهم، وتكيفت حسب دولتهم، ولا يقوم بها الأفراد كل على حدة، بل تقوم بها الجماعة ، ولا شأن لهذه الطقوس بالقانون الإلهي، أو بالسعادة والفضيلة، بل تتعلق باختيار العبرانيين من حيث النعيم الدنيوي، وسلامة الدولة، لأن هذه الشعائر لا تقام إلا في الدولة، وقد نسبت إلى الله فقط؛ لأنها صادرة عن الوحي.
ولكن كيف استطاعت هذه الشعائر المحافظة على الدولة، وما السبب في ذلك، مع أن القانون الإلهي هو هذا القانون الشامل الذي هو القاعدة للحياة الحقيقية، لا هذه الطقوس؟ ليس غرض الشعائر الحصول على السعادة بل النعيم الدنيوي للدولة كالثروة والنصر أو للجماعة كالصحة واللذات الدنيوية، بل إن التعاليم الخلقية لم تعط في الأسفار الخمسة كقانون شامل، بل كوصايا تكيفت مع عقلية العبرانيين وحدهم، ولمصلحة دولتهم. وقد حرم موسى القتل والسرقة كما يحرمها الفقيه أو النبي أو المشرع أو الأمير، ولم يقبل الاستدلال في هذه الأحكام أو فهمها، بل علق عليها الثواب والعقاب نتيجة لما يصيب الفرد والدولة من نفع أو ضرر، فالزنا ضار بالدولة، لأنه خلط للأنساب، وضياع للأمن، ولو أراد موسى الجانب الخلقي لأدان أيضا زنا القلب، أو زنا النفس، أي رضاء النفس وموافقتها الباطنية على فعل الرذيلة، كما أدانه المسيح من أجل إقامة قانون شامل، ولو أنه وعد أيضا بجزاء روحي لا بدني؛ لذلك لم ينسخ المسيح الشريعة القديمة، ولم يشأ وضع شريعة جديدة بل أعطى تعاليم خلقية، وميزها عن قوانين الدولة؛ لذلك يخطئ الفريسيون عندما يريدون الحصول على السعادة عن طريق القواعد القانونية، أي شريعة موسى، لأن هذه القوانين لا تبغي إلا مصلحة الدولة، أما العهد الجديد فقد احتوى على تعاليم خلقية، ويعد من يراعيها بملكوت السموات، وقد ترك الحواريون أنفسهم الشعائر بعد التبشير بالإنجيل عند شعوب الدول الأخرى. أما التزام الفريسيين بالشعائر بعد القضاء على الدولة، فإنه يكشف عن عدائهم للمسيحيين، لا عن رغبتهم في إرضاء الله؛ وذلك لأنهم تركوا الشعائر في سبي بابل، وتركوا شريعة موسى، وخضعوا لشعائر الدولة الجديدة، لم يكن على اليهود الالتزام بالشريعة بعد انهيار الدولة أو قبل قيامها، فلم تكن لهم قبل خروجهم من مصر شريعة خاصة، بل كانوا خاضعين لقانون الطبيعة أو لقوانين الدولة التي عاشوا فيها، حيث إنها لا تعارض القانون الإلهي الطبيعي، ولم يضح البطارقة بالقرابين تنفيذا لأمر الله الشامل، بل لبث روح التقوى في نفوسهم، وكانوا قد تعودوا على ذلك منذ القدم.
ولكن كيف تساعد الشعائر على المحافظة على الدولة؟ الشعائر هي السبيل الوحيد للأفراد في جماعة حتى تستطيع الوقوف أمام العدو ساعة الخطر، كما أنها تساعد على الترابط الاجتماعي من الداخل، وتقوم الجماعة على تقسيم العمل، ويحتاج تقسيم العمل إلى تنظيم قانوني، دون أن يخضع البعض للبعض الآخر؛ لأنه ليس هناك أقسى من سلب الناس حرياتهم بعد حصولهم عليها.
72
لذلك وجب تنظيم المجتمع وإقامة قانون يطيعه الجميع، سواء كان ممثلا في شخص أم في جماعة تكون لها الكلمة العليا أمام العامة، وتكون هذه القوانين في دولة ترى فيها الجماعة تحقيقا لرغبتها لا خوفا منها، ثم يطيع الجميع هذه القوانين التي ارتضاها الجميع بحرية تامة، وبذلك لا تفقد الجماعة حريتها، ويقوم كل فرد بعمله عن رضا وبحماس بالغ.
وهذا ما حدث للعبرانيين تماما، فعندما خرجوا من مصر لم تكن لهم أية قوانين، وكان باستطاعتهم وضع قوانين جديدة على هواهم، وإقامة دولة، واحتلال أرض، ولكنهم فضلوا الالتزام بقوانين الجماعة، وظلت السلطة في يد فرد واحد له وحده الحق في تفسيرها. واستطاع موسى أن يكون ذلك الفرد لما يتمتع به من فضائل إلهية، وحاول إقناع الشعب بالقوانين عن طريق الاقتناع والرضا، لا بالخوف والتهديد؛ وذلك لسببين: الأول، عصيان الشعب الطبيعي المعروف في تاريخ الأنبياء، والثاني، خطر الحرب الذي يحتم إقناع الجند، وحثهم على الدفاع عن طوع لا عن كراهية. ولهذا السبب أدخل موسى الدين في الدولة، حتى يؤدي الشعب واجبه بدافع التقوى، لا بدافع الخوف، كما ربط موسى الشعب بالوعود المادية والمنافع الدنيوية.
كان الغرض من الشعائر والطقوس أن يقوم العبرانيون بأنفسهم بالأعمال التي تطلبها الدولة منهم، ولكنهم كانوا دائما يقومون بها تنفيذا لأوامر الآخرين، وبالتالي لم تؤد الطقوس والشعائر إلى أية سعادة حتى الشعائر والطقوس المسيحية، خاصة أنها من وضع الحواريين وليس من وضع المسيح أو من وضع الكنيسة، كعلامة لها، لا كطريق للسعادة. لم يكن لها غرض سياسي، بل كانت من أجل المجتمع كله، ومن يعيش وحده ليس عليه الالتزام بها، ومن يعيش في دولة غير مسيحية عليه أن يكف عن إقامة الشعائر حتى يمكنه أن يعيش سعيدا، مثل المسيحيين الذين يعيشون في اليابان. (4)
القانون الإلهي يعطي أكبر جزاء وهو معرفة هذا القانون نفسه أي معرفة الله وحبه بروح صافية ثابتة من رجال أحرار، أما العقاب فهو بمنع الخيرات ووقوع في عبودية الجسد لنفس هزيلة مائعة.
73
تاسعا: المعجزة
استعمل سبينوزا في دراسته للنبوة منهج النص الذي يعتمد على الكتاب وحده، أما في دراسته للمعجزة فإنه اعتمد على النور الفطري؛ وذلك لأن النبوة تتعدى حدود الذهن الإنساني، هي موضوع اللاهوت، ولا تدرس إلا بمبادئ الوحي، أو كتاريخ لمعرفة طبيعتها وخصائصها، في حين أن المعجزة موضوع فلسفي محض، يمكن دراسته بالاعتماد على النور الفطري. وقد كان يمكن أيضا دراستها بمنهج النص؛ إذ يؤيد الكتاب بوجه عام خضوع كل شيء لنظام ثابت للطبيعة لا يتغير، ولا يوجد نص واحد يدل على خرق قوانين الطبيعة، فمن يريد استعمال منهج النص فإنه سينتهي حتما إلى ما يدركه النور الفطري من أن الإيمان بالمعجزة ليس ضروريا للخلاص.
وكما سمي العلم الذي يتعدى حدود المنهج الإنساني علما إلهيا، فقد تعود الناس تسمية كل عمل إلهي يجهلون عنه عملا إلهيا. ويظن العامة أن قدرة الله لا تظهر إلا عندما تخرق قوانين الطبيعة، خاصة إذا كان في هذا الخرق مكسب مادي له، كما تظن أن أكبر برهان على وجود الله هو خلل نظام الطبيعة، وترى أن تفسير هذه الظواهر بعللها الطبيعية المباشرة إنكار لوجود الله، الله والطبيعة عند العامة طرفان متناقضان، إذا عمل الله تتوقف الطبيعة، وإذا عملت الطبيعة توقف الله. هناك إذن قوتان متمايزتان متعارضتان: قوة الله وقوة الطبيعة التي تخضع لقوة الله أو التي خلقها الله كما تتصور العامة، قوة الله مثل قوة الملك وقوة الطبيعة كقوة عارضة لاحقة به، أو كقوة الرعية بالنسبة للدكتاتور، وتسمي العامة عجائب الطبيعة أفعال الله أو معجزات تعبيرا عن تقواهم، وجهلا منهم بعلوم الطبيعة وبالعلل الطبيعية، وتقديسا منهم لما يجهلونه أو يعجبون به، ولا تتصور عظمة الله إلا عندما تقهر قوانين الطبيعة، وقد تبنى هذا التصور اليهود الأوائل.
والحقيقة أن نظام الطبيعة ثابت لا يتغير، ولا يحدث فيه شيء مخالف له. أما بالنسبة لله، فكل ما يريده الله يتضمن حقيقة وضرورة أبديتين؛ وذلك لأن عقل الله وإرادته شيء واحد، ولأن كل شيء يحدث إنما يحدث بمشيئة الله، ومن ثم تكون قوانين الطبيعة الشاملة أوامر إلهية، تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها، فلو حدث شيء مخالف لهذه القوانين، فإنه بالتالي يناقض عقل الله وطبيعته، ولو فعل الله شيئا مناقضا لقوانين الطبيعة، فإنه يعمل ضد طبيعته هو، وهذا مستحيل. إن قدرة الطبيعة هي قدرة الله، وقدرة الله مماثلة لماهيته، وقوانين الطبيعة لانهائية حتى تستوعب العقل الإلهي كله، وإلا فلنتصور الله خالقا للطبيعة بقوانين عاجزة، ثم يأتي الله ليقدم العون لها بين اللحظة والأخرى، وهذا مناف للعقل؛ وعلى هذا النحو تكون المعجزة عملا من أعمال الطبيعة، نجهل عللها، ولا نستطيع إدراكها بالنور الفطري، وبالتالي يمكن تفسير المعجزات التي يرويها الكتاب لو عرفنا عللها الطبيعية.
لا نستطيع إذن عن طريق المعجزة معرفة وجود الله أو ماهيته أو عنايته، نستطيع أن نعرف ذلك عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، بل إن وجود المعجزات يجعلنا نشك في وجود الله. لنفرض مثلا أن معجزة قد وقعت، فإما أن يكون لها علة نجهلها، أو أن يكون الله هو علتها، فإذا كنا نجهل علتها الطبيعية، وكان كل ما يحدث من علل طبيعية يحدث أيضا بقدرة الله، فإن المعجزة، مهما كان سببها تتجاوز حدود الذهن الإنساني، ولما كان كل ما نعلمه بوضوح ونميزه نعلمه إما بذاته أو بغيره نعلمه أيضا بوضوح وتميز، فإننا لا نستطيع أن نعرف الله بالمعجزة، أنها ليست واضحة ومتميزة، وعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء، وأن أفعال الطبيعة تصدر عن ماهية الله، وأن قوانين الطبيعة هي مشيئة الله، فإننا نعلم طبيعة الله أفضل مما نعلم الأشياء الطبيعية، ونعلم الأشياء الطبيعية بعد علمنا بطبيعة الله، وتكون أعمال الله هي ما نعلمه بوضوح وتميز، لا ما نجهله كلية، وما يثير خيال العامة. وتعطينا حوادث الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتميز تصور الله على نحو أفضل وأكمل. والإنسان الساذج هو الذي عندما يجهل شيئا ينسبه إلى الله، فضلا عن أن المعجزة واقعة محدودة، لا تدل إلا على قدرة محدودة، ولا تثبت وجود الله وقدرته المطلقة، في حين أن قوانين الطبيعة تشمل على عدد لا نهائي من الموضوعات، وهي قوانين ثابتة لا تتغير، وبالتالي فإنها تكون أعظم برهان على وجود الله. والمعجزة التي تخرق قوانين الطبيعة لا تؤدي إلى معرفة الله فقط، بل تجعلنا نشك في وجوده، وبذلك يؤدي الإيمان بالمعجزات إلى الكفر والإلحاد. وهذا ما تدل عليه نصوص الكتاب، عندما يذكر أن النبي الكاذب يمكنه أيضا القيام بالمعجزات. خلاصة القول أن اليهود لم يكن باستطاعتهم تصور الله تصورا صحيحا، بالرغم مما شاهدوه من معجزات، في حين أن الفلاسفة يعرفون الله معرفة واضحة ومتميزة، بمعرفتهم للطبيعة، لا عن طريق المعجزات، ويحصلون على الفضيلة بالامتثال لأوامر الطبيعة لا بمناهضتها.
وعلى هذا الأساس، يشرح سبينوزا أهم المفاهيم التي توحي بتدخل خارجي في الطبيعة في اللاهوت التقليدي، شمل: حكم الله، عون الله الخارجي، عون الله الداخلي، اختيار الله، الحظ أو الرزق.
فحكم الله هو نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو تسلسل الموجودات الطبيعية؛ وذلك لأن قوانين الطبيعة الشاملة هي مشيئة الله الأبدية التي تتضمن حقائق وضرورة أبديتين، فإن قلنا إن كل شيء يسير حسب قوانين الطبيعة، أو طبقا لمشيئة الله، فإننا نقول الشيء نفسه، فصفات الله هي قوانين الطبيعة، بل إن الله هو الطبيعة، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة.
أما عون الله الخارجي، فهو ما تقدمه الطبيعة للإنسان دون جهد منه، ويستعين به في حكمه وحفظ وجوده؛ وذلك لأن قوة الله هي قوة الطبيعة التي يتحدد بها كل شيء، ويكون عون الله الداخلي هو ما يصدر عن الطبيعة الإنسانية بقدرتها الخاصة، للمحافظة على وجودها.
أما اختيار الله، فإنه يتم طبقا لنظام الطبيعة السابق، أي بحكم الله ومشيئته الأبدية، ولا يستطيع أحد أن يختار طريقته في الحياة، أو أن يختار أي شيء إلا بدعوة من الله.
أما الحظ أو الرزق، فهو حكم الله من حيث سيطرته على الأمور الإنسانية بعلل خارجية لا يتوقعها الإنسان، ولا مجال فيه للصدفة.
وهناك نصوص كثيرة في الكتاب تدل على أن مشيئة الله أو إرادته ليست شيئا آخر سوى نظام الطبيعة،
74
فعندما يذكر الكتاب أن شيئا قد حدث وفقا للمشيئة الإلهية، فإنه يعني أن شيئا قد وقع وفقا لنظام الطبيعة، لا كما يتصور العامة من أن الطبيعة قد توقفت عن العمل أو تخلخل نظامها، ولم يعبر الكتاب صراحة عن هذه الحقيقة لأن مهمته ليست التعريف بالأشياء بعللها الطبيعية، أو إعطاء حقائق نظرية بل إثارة الخيال والتأثير على النفوس، في أسلوب شعري، يثير الإعجاب، ويطبع التقوى في النفوس. وكثيرا ما تصمت الروايات، ولا تذكر العلل الطبيعية، لأن غرضها ليس إقناع العقل، بل إثارة الخيال. فكثير مما تذكره الروايات على أنه حدث، لم يحدث بالفعل، بل مجرد صورة شعرية، أو قد حدث، ولكن طبقا لقوانين الطبيعة. أما إذا كانت هناك واقعة مناقضة لقوانين الطبيعة صراحة فيجب اعتبارها زيادة في الكتاب، أضافها المحرفون؛ إذ إن كل ما يناقض الطبيعية يناقض العقل، وكل ما يناقض العقل يجب رفضه. وكثير من الروايات إبداع شعري، أو تعبير عن الأحكام السابقة للرواة. فمن النادر أن يذكر الناس شيئا كما حدث بالفعل، دون أن يزيدوا عليه شيئا، سواء في طريقة الرواية، أو في حجمها، أو إضافة شيء من حكمهم الخاص. وعندما يكون الانتباه مركزا على شيء جديد، فإنهم يدركون شيئا مخالفا لما يحدث بالفعل، خاصة إذا تجاوز هذا الشيء حدود فهم الراوي ، وأضاف إليه حكمه. وكثيرا ما اختلفت روايتان للحادثة نفسها، لاختلاف إضافات الرواة عليها، كل حسب تأثره بما رأى وبما سمع، حتى إنه يصعب العثور على النواة الأولى؛ ولذلك حتى يتم تفسير المعجزة، يجب معرفة أفكار الرواة الأوائل، وآراء المدونين لها، ثم الفصل بين هذه الأفكار والتمثلات الحسية وبين شهادة الواقع، وإلا وقعنا في الخلط بين آراء الرواة والحادثة أو بين الخيال والواقع. وكثيرا ما ذكر الرواة أشياء، كنا نظن أنها حدثت بالفعل مع أنها من محض خيالهم مثل نزول الله من السماء في عمود من دخان على جبل سيناء وصعود إلياس إلى السماء في عربة من نار تجرها أحصنة من نار. وفي سفر صموئيل تسمى الرياح الساخنة التي أذابت الصقيع والجليد كلمة الله وتسمى النار والرياح «مساعدي الله»؛ لذلك، علينا أيضا أن نتأكد من سلامة الحواس التي تطبع على الخيال.
75
ولتفسير المعجزة تفسيرا صحيحا علينا أيضا دراسة أساليب البيان عند العبرانيين وطرق البلاغة، فكثيرا ما كانت تروى المعجزات على نحو بلاغي، للتعبير عن أشياء أخرى، دون أن تكون وقعت بالفعل، ولا يتم ذلك رغبة في إدخال بعض المحسنات البديعية فحسب، بل إخلاصا من الرواة في رواياتهم. خلاصة القول إنه ليس هناك ما يستعصي على النور الفطري، أو العلم الطبيعي، فقد جهل اليهود العلل الثانية ونسبوا إلى الله كل شيء بدافع من الإيمان الصادق، فالله هو مقدر الرزق ومشبع الرغبات، فكلما ذكر الكتاب قال الرب لا يعني أنه يعطي نبوة او معرفة تفوق الطبيعة، بل لا بد من أن نستوثق من ظروف الرواية وملابساتها على أن هناك نبوة حدثت بالفعل.
76
عاشرا: النبي والحواري
بعد أن انتهى سبينوزا من دراسة العهد القديم في الفصول العشرة الأولى، بدأ بدراسة العهد الجديد. ويركز دراسته على موضوع واحد جوهري وهو الفرق بين النبي والحواري، وهو الفرق الذي غفله المسيحيون أنفسهم في الخلط بين الوحي والإلهام، أو باصطلاح المسلمين، بين النبي والصحابي، أو بلغة النقد، بين الكتاب
Ecriture
والتراث
Tradition
وبلغة العهد الجديد بين الأناجيل والرسائل. ويأخذ سبينوزا بولس، أقوى شخصية بين الحواريين، كمثل للمقارنة بين النبي والحواري.
فمن ناحية الأسلوب يؤكد النبي أنه يتحدث بناء على تفويض من الله، أما الحواري فإنه يؤكد أنه يتحدث باسمه، ويعبر عن تفكيره وآرائه الشخصية. النبوة من عند الله، أما رسالة الحواري فإنها من عنده هو. النبوة توقيف من الله واختيار إلهي للنبي، ورسالة الحواري تطوع من لدنه ومن أي فرد يشعر بأن لديه القدرة على نشر الدعوة، النبوة لا تخطئ فهي يقينية، أما الحواري فيخطئ ويعيب، ورسالته ظنية، يمكن الشك فيها باعتراف الحواري نفسه.
ومن حيث طريقة التعبير، نجد أن النبي لا يستدل، بل يتحدث معتمدا على السلطة الإلهية، أما الحواري فإنه يستدل ويناقش، يجادل ويحاج. يبلغ النبي حقائق النبوة التي عرفها من الوحي، أما الحواري فإنه يفكر ويعتمد على العقل وعلى النور الفطري.
77
أما موسى فإنه عندما يستدل لا يعتمد على العقل، بل يدعو للفضيلة كما يدعو الواعظ ولا يتحدث باسمه بل باسم الله، وقد يقترب النبي من الاستدلال، لو كانت معرفته بحقائق الوحي أقرب إلى المعرفة الفطرية؛
78
لأن معرفة الأنبياء عادة تأتي من فوق الطبيعة
Surnaturelle . لم يكن لدى بولس إذن وحي من فوق الطبيعة بل آراء شخصية له، ونداءات إنسانية ودعوات للأخوة وللفضيلة، وهو ما يعترف به بولس نفسه، في حين أن موسى قد بعث بأمر الله، وتحدث بوحي منه، وبلغ رسالته. وكما اختار بولس أقواله اختار أيضا، بمحض إرادته، الأماكن التي بشر فيها، في حين أن موسى قد بشر في أماكن حددها الله له ووجهه فيها، لقد بشر الحواريون باعتبارهم علماء وفقهاء ورجال دين، لا باعتبارهم أنبياء، وهم بهذا المعنى قد أرسلوا إلى البشر جميعا، في حين أن النبي قد أرسل لأمة معينة؛ لأن تبليغ الرسالة ليس موقوفا على شعب معين أو مكان معين أو وقت معين.
79
فإذا بدأ الحواري إحدى رسائله بتأكيد صفته كحواري، لا كنبي وتأكيد سلطته، فإنما يفعل ذلك لجذب انتباه القارئ أو السامع ، وإذا تحدث الحواري عن روح الله، فإنه يعني آراءه الشخصية ، كما يدل السياق على ذلك، وقد وصل الحواري إلى بعض حقائق الوحي بالنور الفطري، مثل دعوته إلى الأخلاق، وهي جوهر المسيحية. وكان الحواري يعتمد في بعض الأحيان على الآيات لنشر الدعوة.
80
وقد اختار كل حواري الطريقة التي تلائمه لنشر الدعوة ولتحذير الناس، فأقام بولس المسيحية على أسس خاصة به، مستبعدا الأسس الأخرى لسائر الحواريين، فقد دعا بولس مثلا إلى إمكان الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال، وأكد عقيدة القدر السابق
في حين أن يعقوب دعا إلى إمكان الخلاص بالإيمان والعمل معا، فالإيمان دون العمل إيمان ميت - معارضا بذلك عقيدة بولس. وقد كان هذا الاختلاف في الأسس سببا للتفرق والتشيع إلى طوائف مختلفة داخل الكنيسة وخارجها، ولن تتوقف هذه الاختلافات إلا إذا كفت الكنيسة عن الدخول في التأملات النظرية، وعادت إلى العقيدة السمحة التي دعا إليها المسيح. ولكن الحواريين لم يستطيعوا ذلك، ونسوا الإنجيل، وأنسوه الناس معهم، وقد كان بولس من بينهم جميعا أشدهم تحزبا للمسيحية العقائدية والديانة المذهبية، وهي التي أصبحت فيما بعد المسيحية الرسمية، مما جعل البعض يتحيزون معه، والبعض الآخر ضده، وقد ساعد بولس في ذلك تكوينه الرباني
rabbinique
اليهودي، ومعرفته بتاريخ الأنبياء، ودراسته لطرق التأويل في مدرسة الجماليل
Gamaliel
وإحاطته بثقافة العصر اليونانية، خاصة أن دعوته كانت موجهة إليهم حتى سمي حواري الأمم
L’Apôtre des Gentilles .
81
أحد عشر: الوحي المكتوب والوحي المطبوع
بعد أن وضع سبينوزا الكتاب المقدس موضع البحث، وانتهى إلى كثير من النتائج النقدية الصحيحة التي أيدها النقد بعد ذلك في القرون التالية، وضع تفرقة بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع:
فالأول:
هو موضوع النقد، أي دراسة الوحي من حيث الرواية ونقلها وصحتها ولغتها، أي الوحي من حيث هو صورة، والثاني موضوع الفلسفة أو التصوف، وهو الوحي من حيث هو معنى مطبوع في القلب، ومسطور في النفس، وبين صورتي الوحي ما بين الأرض والسماء.
82
الوحي المكتوب قابل للتغيير والتبديل، وخاضع للتحريف والتزييف، وهو الوحي الذي دافع عنه الصدوقيون في إيمانهم بالشريعة المكتوبة في الألواح، وهو الوحي موضوع النقد التاريخي. هو صورة حسية للوحي المطبوع، لذلك لا يمس النقد التاريخي جوهر الوحي أي معناه وفحواه، بل الصورة اللفظية والشكل التاريخي.
83
وعندما يقال وقع التحريف والتبديل والتزييف في الوحي، فإن المقصود هو الوحي المكتوب لا المطبوع، وإلا لقدسنا الصورة والتماثيل. ولا يمكن الخلط بين الوحيين لأن الذي يعتبر الوحي المكتوب هو الوحي المطبوع فإنه يريد تفادي نتائج النقد التاريخي، كما يريد الإبقاء على التزييف في النص والإيمان بعقائد على هواه،
84
ومن يعتبر الوحي المطبوع هو الوحي المكتوب، فإنه يريد ترك نفسه بلا ضابط، ما دام الوحي قد حرف وبدل، ولم تعد ثمة حقيقة يمكن الإيمان بها، وتوجيه سلوك الناس عليها.
ولا تعني هذه التفرقة إنكار قدسية الكتاب؛ لأن القدسية تعزى إلى الكتاب لو كان غرضه التقوى والتدين، ويكون الكتاب مقدسا أو من عند الله طالما يحث الناس على ممارسة الفضيلة وحياة التقوى، فإذا لم يؤد الكتاب هذا الغرض، وإذا توقف الناس عن ممارسة هذه الحياة السليمة، وإذا ضاع منهم التدين الصحيح، لم يعد الكتاب مقدسا أو من عند الله. فالكتاب لا يكون مقدسا أو من عند الله إلا بقدر ما يؤثر في الناس، ويدعوهم إلى حياة الفضيلة والتقوى، فالقداسة هي أن يكون الإنسان نقيا والألوهية أن يكون الإنسان إلهيا، وبلغة معاصرة نقول: إن القداسة للاستعمال وإن الكتاب لا يعني شيئا إلا في الاستعمال، وإن الكلمات لا تكون تقية في ذاتها إلا بترتيب خاص، يوحي بالفضيلة ويحث عليها؛ لذلك كان تقديس الحرف وقوعا في الوثنية وكان تقبيل الكتب المقدسة، وتغليفها بالذهب ووضعها على الرءوس، وحفظها في أحجبة على الصدور وقوعا في المادية الحسية. المقدس هو المعنى الذي يحث على التقوى.
85
فإذا نظرنا إلى الكتاب المقدس وجدنا أن نصوصه قد جمعت من كتب التاريخ والسير، وأنها قد تغيرت وتبدلت وحرفت للوقائع الآتية: (أ)
لم تكتب أسفار العهدين بتفويض من الله مرة واحدة، وفي عصر واحد لكل العصور، بل كتبها مؤلفون كثيرون، صدفة، وفي عصور متعددة، طبقا لظروف العصر، وآراء الكتاب وأغراضهم، وهذا ما يثبته الفحص التاريخي للكتاب المقدس. (ب)
اختلاف الوحي، وهو كلام الله، عن تفكير الأنبياء، فيما عدا النصوص التي تدعو إلى حياة الفضيلة. (ج)
تقنين أسفار العهد القديم باختيار مجلس الفريسيين، وأسفار العهد الجديد بقرارات المجامع الكنسية، واستبعاد أسفار كثيرة أخرى كانت أيضا مقدسة في ذلك الوقت، وكانت تحتوي على كثير من النصوص إن لم تكن كلها، تدعو لحياة الفضيلة، ولم يكن أعضاء المجالس أنبياء، ولم يكونوا أيضا نقادا بالمعنى الحديث بل كانوا لاهوتيين، يستبقون أو يستبعدون النصوص وفقا لمعتقداتهم المطابقة لأهوائهم. (د)
لم يكتب الحواريون باعتبارهم أنبياء، بل باعتبارهم رجال دين، واختاروا أكثر الطرق ملاءمة لهم في الإقناع، ويمكن الاستغناء عن كثير من كتاباتهم، دون أن ينقص ذلك من الوحي شيئا. (ه)
هناك أربعة أناجيل، ولم يقصد الله أن يقص حياة المسيح أربع مرات، ويوجد في كل إنجيل ما لا يوجد في الإنجيل الآخر، ولم يختر الله هؤلاء الكتاب الأربعة، ولم يخبرهم بشيء، بل كيف كل منهم إنجيله طبقا لبيئته وعصره ولإثبات ما يريد إثباته، ولا تتفق الأناجيل الأربعة إلا على النزر اليسير الذي يمكن الاستغناء عنه، دون أن يؤثر في فهم الإنجيل، ودون أن ينقص من سعادة الناس أو الذي يمكن إدراكه، إذا كان دعوة لحياة الفضيلة، بالنور الفطري.
لا يقع التبديل إذن إلا في الوحي المكتوب لا في الوحي المطبوع، ولا يقع التحريف إلا في الألفاظ لا في المعاني. فقد تتغير الألفاظ وتتبدل النصوص، ولكن يبقى المعنى واحدا من حيث هو دعوة للطاعة وللخلاص، وبذلك لا تنقص ألوهية الكتاب ولا تزيد بتغيير الكلمات أو تبديلها. وبهذا المعنى يمكن أن يقال: إن الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل، وهو الذي يمكن تلخيصه في «أحب جارك كما تحب نفسك.» فهذا هو أساس الدين كله الذي لا يقع فيه الخطأ، كذلك وجود الله وعنايته الشاملة وقدرته وصدور الخير والشر منه، والفضل الإلهي، كل ذلك يدعو له الكتاب في كل موضع منه بوضوح ، كذلك الحقائق الخلقية، مثل العدل والإحسان، فالقانون الشامل الذي دعا إليه الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل. أما أسباب الشقاق والاختلاف فهي المعجزات، التي يشقى فيها الفلاسفة، والموضوعات النظرية التي يمكن لكل فرد أن يبتدع فيها كما يشاء، وهي موضوعات لا تهم في شيء؛ سواء كانت صحيحة أم باطلة.
وفرق ثان:
بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع، فالأول لا سبيل إلى إدراكه إلا بالوحي، أي بالراوية والنبوة، في حين أن الثاني يمكن إدراكه بالنور الفطري. الأول يمكن إدراكه من الخارج، والثاني من الداخل. الأول عن طريق الحواس، السمع أو البصر، والثاني عن طريق العقل.
86
وفرق ثالث:
وهو أن الوحي المكتوب يتضمن الشريعة، أي تنظيم أعمال الجوارح، في حين أن الوحي المطبوع لا يتضمن إلا التقوى والفضيلة أي تنظيم أعمال النفس؛ لذلك كان العهد القديم متضمنا للشريعة، والعهد الجديد حاويا للحب وشريعة القلب.
87
وفرق رابع:
هو أن الوحي المكتوب أتى لأمة معينة، وهي الأمة العبرانية، في زمان معين ومكان معين، في حين أن الوحي المطبوع أتى للناس جميعا في كل زمان ومكان. لقد أعطى الله العبرانيين العهد في صورة مكتوبة، لأنهم كانوا في مرحلة الطفولة، وما إن بلغوا مرحلة النضج حتى أخبرهم موسى بأن العهد مطبوع في قلوبهم، وإذا كان الميثاق المكتوب قد ضاع وانقضى بعد حنث اليهود له، فإن الميثاق الشامل الذي يربط الإنسانية كلها بالله ما زال قائما، والميثاق مسطور في القلب وفي الفكر لا في المصاحف، والعهد ليس هو تابوت العهد بل الميثاق الأبدي. قد يضيع التابوت، ولكن يبقى الميثاق في قلوب الأتقياء، وقد ينهدم المعبد ولكن تبقى التقوى في قلوب الأصفياء، فالله لا يوجد إلا للأتقياء والأصفياء. وإذا كان الميثاق المكتوب قد أعطي مرة من جانب الله، فإن الميثاق الحي معطى كإمكانية محضة، يستطيع كل تقي أن يدخل فيه، فإذا راعى الإنسان الميثاق وحافظ عليه راعاه الله من جانبه واصطفاه.
88
ثاني عشر: النظر والعمل
ومن أهم التيارات في الفلسفة الحديثة تحويل المسيحية من مستوى النظر إلى مستوى العمل، فقد تحول الدين عند كانط من المعرفة إلى الأخلاق، وعند هيجل من العقائد إلى التاريخ، وعند سبينوزا من النظر إلى العمل، كما أصبح أساسه النظري يسيرا للغاية، لا شأن له بالتعقيدات العقائدية التي لا نهاية لها،
89
فتعاليم الكتاب عند سبينوزا يسيرة للغاية تدعو إلى الطاعة، وتعاليمه الإلهية لها هدف عملي في الحياة اليومية؛ لذلك لم يكن للأنبياء ذكاء خارق للعادة، بل كان لهم خيال خصب؛ ولهذا السبب أيضا لم يذع الوحي أسرارا فلسفية، بل أعطى أفكارا سهلة للغاية، طبقا للآراء السابقة لكل مؤلف، كما أعطى تعاليم يسهل إدراكها على كل فرد أيا كان، ولم يستعمل منهج الاستنباط، بل أعطى بعض الحقائق للاعتقاد، وأيدها بالتجربة وهي المعجزة، واستعمل أسلوب التأثير في القلوب، وتحريك النفوس، وإن كانت هناك صعوبة في فهم الكتاب، فإنها ترجع إلى اللغة، لا إلى الموضوع ذاته، خاصة أن الأنبياء قد دعوا كل الناس، ولم يدعوا اللاهوتيين فحسب. وقد دعت هذه الظروف إلى جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة التي يسهل على كل فرد إدراكها، لا مجموعة من النظريات الفلسفية، أو التأملات الميتافيزيقية الخالصة، لا يحتوي الكتاب على أي سر فلسفي، وكل ما يدعيه البعض من أسرار إن هي إلا تفسيرات حولت الدين إلى أكاديمية للجدل والمناقشة، وتقنين لنظريات الوثنيين التي يرجع أغلبها إلى أفلاطون وأرسطو، فالكتاب لديهم هو الجامع لكل علم ممكن، والحقيقة أن الكتاب لا يحتوي على أية عقيدة فلسفية خالصة، بل على بعض الأفكار السهلة؛ وذلك لأن غرض الكتاب ليس إعطاءنا معرفة علمية بل دعوتنا إلى الطاعة ورفض العصيان، وطاعة الله في حب الجار، ولا يتطلب الكتاب أية معرفة أخرى إلا ما يحث فيها على الطاعة؛ لذلك يجب فصل كل ما عداها عن الدين، وإخراجه منه، لأنه لا يتعدى كونه آراء ظنية، لا يمكن إدراكها بالنور الفطري، وكل ادعاء بحاجتنا إلى نور يفوق الطبيعة حتى يمكننا إدراكها هو ادعاء كاذب، لأنه لا يوجد نور يفوق الطبيعة، لا يوجد نور سوى النور الفطري.
إن المعرفة العقلية، وهي المعرفة الصحيحة، لم تعط كل المؤمنين، في حين أن الطاعة قد دعي الجميع إليها، لم يطلب الأنبياء من المؤمنين إلا معرفة العدل والإحسان، وهو ما يثبته الكتاب نفسه؛ إذ لم يعرف العبرانيون ماهية الله، بل عرفوا آثاره، وهو ما يدل عليه لفظ «يهوه» الذي يشير إلى صلة الله بمخلوقاته، ولم يعرف صفاته معرفة عقلية خالصة إلا الخاص، فالناس سواء في الطاعة، ولكنهم يختلفون في الحكمة؛ لذلك لم يطلب الأنبياء من الناس إلا العدل والإحسان، أي الصفات التي يمكن أن تكون قواعد للسلوك في حياتهم العملية، وهذا واضح بنص الكتاب، فالله عادل ورحيم على الإطلاق، وهو نموذج الحياة الصحيحة. لم يعط الكتاب تعريفا للكتاب أو تعريفا لله إلا ما يبغي حياة الفضيلة. ننتهي إذن إلى النتيجة الآتية: إن المعرفة العقلية تعطينا طبيعة الله في ذاته، ولكن لا يمكن أخذ هذه الطبيعة كقاعدة للسلوك في الحياة؛ لذلك لم تكن هذه المعرفة العقلية شرطا من شروط الإيمان، بل يستطيع الناس أن يخطئوا في هذه المعرفة دون أن ينقص ذلك من إيمانهم شيئا، ولا حرج أن يتكيف تصورنا لله حسب أحكام الأنبياء السابقة ومعتقداتهم، ولا حرج أيضا في اللجوء إلى التشبيه، فهو وسيلة إدراك الجمهور بالخيال؛ إذ لا يستطيع التنزيه إلا الخاصة، عن طريق المعرفة العقلية، فقد نسب الكتاب إلى الله اليد والعين والأذن، ووصفه كقاض يقطن في السماء، ويستوي على عرش ملكي والمسيح على يمينه، كل ذلك طبقا لعقلية العامة، فالكتاب لا يهدف إلى إعطاء العلم بل يدعو للطاعة، ولا يجوز الالتجاء إلى التفسير المجازي كما يفعل اللاهوتيون، بل يجب أن يؤمن الجمهور إيمانا حرفيا بالصور الذهنية، وإلا لفسر كل ما يتعارض مع الكتاب تفسيرا مجازيا، وكأن الوحي لم يرسل للجمهور العريض، بل للخاصة وحدهم. خلاصة القول، إن الإيمان مرهون بالعمل لا بالنظر،
90
وإنه يكون صادقا بقدر ما يحث صاحبه على الطاعة ويمنعه من العصيان، وأنه يكون كاذبا بقدر ما يدفع صاحبه إلى العصيان، وإن العمل الصادق مهما كان قائما على نظريات غير صحيحة في طبيعة الله، أفضل من العمل الكاذب مهما كان قائما على نظريات صحيحة فيه.
كل إنسان إذن حر في أن يؤمن بما يشاء، وأن يكيف إيمانه حسب معتقداته وآرائه كما يريد، وعليه ألا يمنع الآخرين من أن يكونوا كذلك، فهناك فرق بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة، الإيمان يؤدي إلى الطاعة، والعقل إلى الحقيقة النظرية. لم يحاول موسى إقناع العبرانيين بالطرق العقلية، بل ربطهم بعهد وبقسم، فارتبطوا بدين الشكر والعرفان بالجميل، دعاهم موسى لطاعة الشريعة حتى ينالوا هذا الجزاء، وإلا وقعوا تحت طائلة العقاب، ولما كانت هذه الوسائل التي لا تساعد في الحصول على المعرفة لا تحث أيضا على الطاعة بطريقة سليمة، دعا الإنجيل إلى الإيمان، واعتبر الطاعة جوهره فإذا تلخصت الشريعة كلها في حب الجار يصبح الإنسان مطيعا وسعيدا إذا أحب جاره كحبه لنفسه، ويصبح عاصيا شقيا إذا ما خالف ذلك، فلم يكتب الكتاب للعلماء بل لجميع الناس، ولم يأمرنا الكتاب إلا بمعرفة أقل ما يلزم للطاعة، وهو حب الجار. هذه الوصية هي القاعدة الوحيدة للإيمان الشامل التي يجب أن تحدد عقائد الإيمان الأخرى، وحتى لا نقع في المغالاة، ونعتقد بأي شيء مهما كان، ما دام مؤديا للطاعة، هناك حد أدنى لتعريف الإيمان بأنه الحصول على بعض الأفكار عن الله التي تؤدي إلى الطاعة، وأن غيابها يؤدي إلى العصيان، ويكون المطيع حقا من يعتنق هذه الأفكار، وينتج عن هذا التعريف نتيجتان: (أ)
يؤدي الإيمان إلى الخلاص؛ لأنه يحث على الطاعة، لا لأنه إيمان في ذاته، فالإيمان بدون عمل مائت. (ب)
يكون المطيع هو صاحب الإيمان الصادق، وهو الإيمان الذي يعطيه الخلاص.
فإذا حسنت الأفعال فلا يهم بعد ذلك بعدها عن العقائد، وإذا قبحت الأفعال فلا يهم حينئذ قربها من العقائد، ولن يعرف العدل والإحسان إلا بمشاركتنا فيهما، ويكون أعداء المسيح حقا هم الذين يضطهدون من يمارسون العدل والإحسان، ويخالفونهم في مضمون الإيمان، فالإيمان يتطلب عملا صادقا أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة، ولا يهم مطلقا أن تكون العقائد باطلة لو كانت تؤدي إلى العدل والإحسان، يكفي ألا يعرف من يؤمن بها أنها باطلة، ولا يرجع خطأ الناس في الكتاب لجهلهم به، بل لعصيانهم له، ويرجع تصورهم الصحيح له لطاعتهم إياه.
91
ويمكن استنتاج بعض العقائد من مبدأ الإيمان الشامل، وهو حب الجار، وهي ليست عقائد نظرية بقدر ما هي مبادئ تحث على الطاعة، مبادئ يحياها القلب في حبه للجار، وبذلك يكون الله في الإنسان، والإنسان في الله، فإذا اختلف الناس في تصورهم لعقائد الإيمان، فإنهم يتفقون على هذا المبدأ الشامل الذي تعتنقه الإنسانية جمعاء، بعيدا عن الصراع على العقائد والجدل والمهاترات داخل الكنائس. ويحتوي هذا المبدأ الشامل على الحد الأدنى من الإيمان، وهو يشمل سبع نقاط، تكون دينا عاما شاملا يصدر عن العقل، ويتفق مع الطبيعة ويحث على الخير، وهذه النقاط هي: (1)
يوجد إله خير ورحيم على الإطلاق، نموذج الحياة الحقة، يجب معرفته والإيمان به من أجل طاعته، والتصديق به كحكم عدل. (2)
يوجد إله واحد جدير بالتبجيل والعظمة والمحبة. (3)
حاضر في كل زمان ومكان ويرعى كل شيء، لا تخفى عليه خافية وهو الموجود الكامل. (4)
يسيطر على كل شيء ويسير كل شيء، لا عن قهر، بل بمشيئته المطلقة وبفضله، يطيعه كل فرد وهو لا يطيع أحدا. (5)
عبادته في طاعته التي تتم بممارسة العدل والإحسان أي حب الجار. (6)
يتم الخلاص للمطيعين وحدهم الذين يمارسون الطاعة في حياتهم، ويضيع من يتبعون الشهوات، ويسيرون وراء الأهواء. (7)
يغفر للتائبين ذنوبهم، فكل بني آدم خطاءون، وخير الخطائين التوابون.
ولا يهم بعد ذلك أن يكون الله روحا، أو نارا، أو نورا، أو فكرا، كما لا شأن لنا بالعلم الإلهي الصادر عن ماهيته، أو بالقدرة الإلهية، أو بأثره على الحرية، والضرورة في طبيعته، وإلا لتعرض إيماننا للخطر. فليتصور كل إنسان هذه الأمور حسب عقليته الخاصة بشرط أن يكون إيمانه صادقا، فمقياس الإيمان هو صدقه لا حقيقته، ومن يعطي أفضل الحجج لا يكون بالضرورة أفضل المؤمنين، ولا يدرك أهمية ذلك إلا من يفكر في المصلحة العامة . لا يهمنا إذن أن يكون الصوت الذي سمعه موسى على جبل سينا حقيقيا أم زائفا، فليس لدينا يقين رياضي على ذلك، يكفي أن يثير هذا الصوت فينا إعجابا بالله إذ لم يقصد الله بهذا الصوت الكشف عن ماهيته وصفاته.
92
ثالث عشر: العقل واللاهوت
وقبل أن ينتقل سبينوزا إلى الجزء السياسي في الرسالة، يتناول آخر مشكلة في الجزء اللاهوتي، هو الصلة بين العقل واللاهوت، وهي المشكلة التقليدية في فلسفات الأديان والتفكير الديني بوجه عام، مشكلة الصلة بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والإيمان، ولكن سبينوزا لا يتحدث عن الدين والإيمان، ما دامت مهمة الدين والإيمان هي الحث على الطاعة من أجل حب الجار، وممارسة العدل والإحسان.
يرى سبينوزا أنه لا توجد أي صلة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، أو كما يقول هو، بين العقل والفلسفة من ناحية وبين الإيمان واللاهوت من ناحية أخرى؛ إذ يقوم كل علم، سواء الفلسفة أو اللاهوت، على مبادئ مختلفة اختلافا جذريا عن المبادئ التي يقوم عليها العلم الآخر، فغاية الفلسفة الحقيقة، وغاية الإيمان الطاعة. تقوم الفلسفة على مبادئ وأفكار صحيحة، وتستمد من الطبيعة وحدها، وتعرف بالنور الفطري، ويقوم الإيمان على التاريخ وفقه اللغة، ويستمد من الكتاب وحده، ويعرف بالوحي. أسلوب الفلسفة هو العقل الذي يدرك الأشياء على ما هي عليه، وأسلوب الإيمان هو التخيل الذي يبغي التأثير في النفوس؛ ولذلك يترك الإيمان لكل فرد الحرية في أن يتفلسف كما يشاء، حتى في موضوع العقائد، ولا يدين إلا من يحث الآخرين على العصيان والكراهية والجدل والغضب، ولا يثني إلا على من يحث على ممارسة العدل والإحسان على قدر عقولهم.
ولكن هناك مشكلة زائفة يعرض لها الباحثون لأنهم لا يفرقون بين الفلسفة واللاهوت، ويصوغونها على النحو الآتي: هل الكتاب تابع للعقل أم العقل تابع للكتاب؟ وبعبارة أخرى: هل يجب توفيق الكتاب طبقا للعقل أم توفيق العقل طبقا للكتاب؟
والذين ينكرون يقين العقل مثل الشكاك، يتبنون النظرية الثانية التي تجعل العقل تابعا للكتاب، أو التي توفق العقل طبقا للكتاب، والذين يؤمنون بيقين العقل ويتطرفون فيه مثل القطعيون ، يتبنون النظرية الأولى التي تجعل الكتاب تابعا للعقل، أو التي توفق الكتاب طبقا للعقل، ويرى سبينوزا أن كلتا النظريتين خاطئة، فكلتاهما تزيف العقل والكتاب، فالكتاب لا يعلم الأفكار والفلسفة، بل يدعو إلى الإيمان الصادق، وقد تكيف حسب العقلية الشعبية وأحكامها السابقة، فإذا جعلنا الفلسفة في خدمة اللاهوت، ووفقنا العقل مع الكتاب اضطررنا إلى قبول الأحكام السابقة للعصور الماضية على أنها حقائق إلهية، وإذا وفقنا الكتاب مع العقل نسبنا إلى الأنبياء عن غير حق أشياء لم يقصدوها ولم يحلموا بها، وفسرنا أقوالهم تفسيرا خاطئا، وكلتا النظريتين خاطئة، الأولى لإغفالها العقل، والثانية لاعتمادها على العقل.
ويمثل يهوذا البكار الاتجاه الذي يريد أن يجعل العقل خادما للكتاب، وخاضعا له كلية، وقد أراد البكار تجنب خطأ الاتجاه المضاد الذي يجعل الكتاب خادما للعقل، وخاضعا له، هذا الاتجاه الذي يمثله موسى بن ميمون، ولكنه وقع في الخطأ المضاد. يرى البكار أنه لا ينبغي تأويل أي نص من الكتاب تفسيرا مجازيا، بحجة أن المعنى الحرفي يعارض العقل، في حين أنه يجوز التأويل إذا ما عارض النص الكتاب نفسه أي إذا ما عارض العقائد التي يدعو إليها الكتاب. ويضع البكار القاعدة التالية: يجب قبول كل ما يدعو إليه الكتاب من عقائد وتؤكده النصوص الصريحة على أنه حق، بناء على سلطة الكتاب وحده. ومن حيث المبدأ، لا يوجد في الكتاب تعارض بين العقائد، بل قد يوجد في نتائجها فحسب؛ وذلك لأن تعبيرات الكتاب تتضمن في بعض الأحيان عكس ما توحي به عادة. هذا النوع من النصوص فقط يمكن تفسيره تفسيرا مجازيا، ابتداء من النصوص الأخرى، مثلا تشير بعض نصوص الكتاب إلى تعدد الآلهة، في حين أن الكتاب كله يشير إلى وحدانية الله؛ لذلك يمكن تفسير النصوص الأولى تفسيرا مجازيا، كما تعزو بعض نصوص الكتاب الحسية إلى الله، في حين أن الكتاب كله ينفيها، ومن ثم يمكن تفسير النصوص تفسيرا مجازيا. فمنهج البكار له الفضل في تفسير الكتاب بالكتاب ، ولكنه يخطئ عندما يتحول إلى هدم للعقل. صحيح أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب عندما نريد فهم معنى النص، ولكننا إذا فهمنا معناه يمكننا بعد ذلك إصدار حكم العقل على هذا المعنى، حتى يتسنى لنا قبوله أو رفضه. نتساءل إذن: هل يجب خضوع العقل كلية إلى الكتاب إذا ما عارض العقل الكتاب؟ هل يكون هذا الخضوع خضوعا عاقلا أم أعمى؟ إذا كان الخضوع خضوعا أعمى، كما هو الحال عند البكار، نكون حمقى لأننا لا نعتمد على حكم العقل، أما إذا كان خضوعا عاقلا فإننا في هذه الحال نعتمد على العقل في فهمنا للكتاب، وهو ما يبغيه البكار.
93
ولكن كيف يخضع العقل، هذه الهبة الرائعة، وهذا النور الإلهي، إلى حرف مائت خاضع للزيف الإنساني؟ هل يقتضي الدفاع عن الإيمان بالضرورة إلغاء العقل؟ إن نهج البكار يجعلنا نخاف من الكتاب، لا أن نثق فيه؛ لأنه يدعونا إلى ترك العقل، وأن نقبل على أنه حق ما يثبته الكتاب، وأن نرفض على أنه باطل ما ينفيه الكتاب، والكتاب نفسه لا يثبت أو ينفي إلا ما تثبته أو تنفيه النصوص، ولكن الكتاب أسفار عديدة، كتبت في مناسبات مختلفة، وفي عصور متعاقبة، لجماهير مختلفة ولغايات متباينة؛ لذلك يجب إثبات أن النصوص قد وصلت إلينا حرفيا دون تبديل أو تحريف، كما يجب أن نبحث عن قرينة تثبت صدق التفسير المجازي، في حالة تعارض النصوص، وهناك كثير من نصوص الكتاب تعارض العقل معارضة صريحة، فكيف يكون الله غيورا؟ وكيف يكون جسما في مكان وزمان؟ إن العقل وحده هو الذي يمكنه إثبات صحة هذه الآيات أو كذبها، والتعارض في النصوص تعارض حقيقي لا تعارض ظاهري كما يقول البكار، فالله نار تعارض الله لا يشابه الأشياء الحسية، كلاهما قضيتان كليتان متناقضتان، تثبت الأولى ما تنفيه الثانية.
أما ابن ميمون فهو أول الفريسيين الذي أراد توفيق الكتاب طبقا للعقل، ولا يفيض سبينوزا في عرض منهج ابن ميمون لأنه في النهاية منهج سبينوزا نفسه، ودون أن يتبناه صراحة. لقد أفاض سبينوزا في عرض منهج البكار وتفنيده لأن سبينوزا يرفضه صراحة في حين أنه يوحي بأنه يرفض منهج ابن ميمون مع أنه يقبله ضمنا ويقصره على الفيلسوف دون العامة.
94
ينتهي سبينوزا إلى رفض المنهجين، فليس اللاهوت خادما للعقل وليس العقل خادما للاهوت، بل لكل منهما ميدانه الخاص، فميدان العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الإيمان الصادق والطاعة. ليس من شأن العقل أن يقرر حصول الناس على السعادة بالطاعة، وليس من شأن الإيمان الصادق أن يقلل من العقل، أو أن يعظم من شأنه.
ومع ذلك يستطيع العقل أن يفهم العقائد من حيث صحتها أو كذبها فهو النور الفطري الذي يحمي الذهن من الوقوع في الخطأ والأوهام والأحلام، وبهذا المعنى يكون الوحي متفقا مع العقل في موضوعه، وهو الحقيقة، وفي غايته وهي السعادة. وعلى هذا النحو، يمكن للاهوت مخاطبة البشر جميعا باعتباره علما شاملا.
ولا تخضع هذه العقيدة اللاهوتية، خلاص البشر بالطاعة، إلى النور الفطري كما لم يبرهن عليها أحد بالأدلة؛ وذلك لأن الوحي يتصف بالضرورة المطلقة، والبرهان الوحيد عليها هو اليقين الخلقي، وهو يقين الأنبياء أنفسهم القائم على الأسس الثلاثية: الخيال الخصب، إجراء المعجزات، ميلهم الطبيعي للعدل والخير. يقين النبي يقوم على الأساس الأول وهو الخيال الخصيب، ويقين سائر البشر يقوم على الأساسين الآخرين.
95
وتتفق التعاليم الخلقية بطبيعتها مع العقل؛ لأننا نسمع صوت الله وكلامه فينا، والدعوة الخلقية ليست موضوع تحريف أو تبديل، فمن يظن أن هناك تعارضا أساسيا بين الفلسفة واللاهوت، وأنه يجب إفساح أحدهما مجالا للآخر، فإنه يريد برهانا رياضيا للاهوت، وينتهي إلى إنكار يقين العقل نفسه؛ لأنه يزعزع الثقة بالعقل، ويضعف إيمانه بالكتاب.
وهناك فريق آخر يلجأ إلى شهادة الباطنية للروح القدس، ويدعي أنها كافية، وتغني عن استخدام العقل؛ لأن العقل لا يستخدم إلا في الجدل من أجل إقناع الملحدين، كما فعل بسكال في الخطرات. ويخطئ هذا الفريق لأن الروح القدس لا تعطي إلا الأفعال الخيرة، ولا تعطي أي يقين عقلي أو نظري خالص، فتلك مهمة العقل وحده.
96
رابع عشر: حق المواطن وحق السلطة
كانت الغاية من التفرقة بين الفلسفة واللاهوت إثبات حرية التفلسف . والآن، كيف تتحقق هذه الحرية في موقف معين أو تمارس في جماعة معينة؟ كيف يكون المواطنون أحرارا في الدول؟ ما حق المواطن وما حق السلطة؟
حق المواطن هو حق الفرد الطبيعي الذي يشمل كل ما تستطيعه طبيعته، فالفرد موجود طبيعي يعيش في الطبيعة؛ لذلك لا يتحدد الحق الطبيعي للفرد بالعقل بل بالرغبة والقدرة، فالقانون الطبيعي لا يمنع من أي فعل، وغايته الوحيدة هي مصلحة الفرد والإبقاء عليه، وتحتم هذه الضرورة عليه سائر أفعاله، ولا يمكن أن تخضع الطبيعة لقوانين العقل، فما يحسنه العقل ربما لا يكون حسنا في الطبيعة، وما قد يقبحه العقل ربما لا يكون قبيحا في الطبيعة.
97
ولكن مما لا شك فيه أن البشرية تود أن تعيش وفقا للعقل حتى تعيش في سلام؛ لذلك وجب أن يتعاون الأفراد فيما بينهم، وبالتالي أصبح الحق الذي يتمتع به كل فرد حقا اجتماعيا تحدده إرادة الجميع لا إرادة الأفراد. وهكذا نشأ العقد الاجتماعي طبقا لقانون طبيعي وهو الرغبة، أي رفض الخير القليل من أجل خير أعظم، وقبول شر قليل من أجل تجنب شر أعظم. وبعبارة أخرى الرغبة في أعظم الخيرين وأهون الشرين، فهذا قانون طبيعي أو حقيقة أبدية في الطبيعة الإنسانية؛ لذلك، يسمح لي الحق الطبيعي أن أخلف الوعد إذا رأيت في هذا الوعد خيرا أقل وشرا أعظم، دون أن يكون في ذلك إضرار بمصلحة الغير، فالجماعة هي التي تمثل المصلحة العامة والضرورة المطلقة التي تمنع كل صورة من صور الخداع. غاية العقد إذن هي تحويل الفرد من العيش وفقا للطبيعة (أي وفقا للشهوة) إلى العيش وفقا للعقل، فيصبح العقل موجها لسلوك الفرد، ولا يعامل الفرد الآخرين إلا كما يجب أن يعامل نفسه، ويدافع عن حق الآخرين كما يدافع عن حقه.
وتتكون الجماعة الإنسانية إذا ما فوض كل فرد حقه كاملا إلى هذه الجماعة التي يكون لها السلطة المطلقة والتي تجب لها الطاعة طوعا أو كراهية - باختيار حر أو خوفا من العقاب.
98
وهذا هو النظام الديمقراطي.
فالديمقراطية تنشأ من اجتماع الناس ويكون لهم حق مطلق على ما في قدرتهم؛ لذلك لا تطيع السلطة العليا الممثلة لهم أي قانون، بل يجب على الجميع طاعتها لأنها تمثل الجميع بعد أن فوضوا لها حقهم ضمنا أو صراحة، ويجب على الجميع طاعتها إما بالضرورة أو طبقا للعقل، كما يجب طاعة الدولة في قوانينها المتناقضة وذلك طبقا لمبدأ اختيار أهون الشرين.
99
ولا تنبغي الطاعة لفرد آخر وإلا نشأت الدكتاتورية بل تجب الطاعة للسلطة التي فوض لها الجميع حقوقهم؛ لذلك تصدر القوانين للمصلحة العامة، ومن المستحيل أن تجتمع الغالبية العظمى على ضلال. وتقوم السلطة بحماية الناس وبرعاية العقد الذي به ينتقل الناس من العيش وفقا للطبيعة إلى العيش وفقا للعقل. ولا يعني دخول الناس في العقد الاجتماعي وطاعتهم للسلطة الممثلة لهم وقوعهم في العبودية، فالعبد هو عبد الشهوة أو عبد الغير، في حين أن العقد الاجتماعي يحرر الأفراد من الشهوة، لأنهم يعيشون طبقا للعقل، ويحررهم من الغير لأنهم يعيشون في نظام ديمقراطي؛ لذلك كان النظام الديمقراطي أفضل الأنظمة لأن الفرد يعيش فيه حرا في مجتمع منظم.
وبناء على هذا يمكن وضع بعض التعريفات، فانتهاك القانون هو إضرار أحد المواطنين، عمدا أو عن غير عمد، بمواطن آخر؛ أي إنه يتم بين الأفراد لا بين الدولة والأفراد، فالدولة ممثلة لسلطة الجميع، وإذا خرجت الدولة على الدستور فإنها تخرج عن تمثيلها لحقوق الآخرين، أما العدالة فهي إعطاء كل ذي حق حقه طبقا للقانون الوضعي ويكون الظلم هو رفض إعطاء الحق أهله. وجريمة الطعن في السيادة لا يقوم بها إلا الرعايا نظرا للعقد الذي فوضوا به سلطتهم إلى الدولة، وتقع الجريمة عندما يحاول أحد الرعايا الاستيلاء على السلطة أو تفويض السلطة إلى فرد آخر في ظروف معينة.
100
والحلف هو تعهد إحدى الدولتين بعدم إلحاق الضرر بالدولة الأخرى وبمساعدتها عند الحاجة، ولكن تبقى كل دولة حرة مستقلة، ويبقى الحلف طالما بقيت المصلحة الداعية له، فإذا انتفت المصلحة انفض الحلف، فشرط بقاء الحلف هو تحقيق المصلحة وإلا نقض من طرف واحد، ولا يمنع الحلف من أن يقوم أحد الطرفين بزيادة قوته، والعدو هو من يرفض سلطة الدولة أو حلفها أو أن يكون أحد رعاياها، والعداوة السياسية واقعة قانونية لا انفعالية.
ولكن ما صلة القانون الوضعي بالقانون الإلهي؟ إن العيش وفقا للطبيعة سابق على العيش وفقا لوصايا الدين، فلم تأمر الطبيعة بطاعة الله ولم يأمر العقل بذلك أيضا، ولا يبدأ القانون الإلهي إلا بعد الوحي وبعد أمر الطاعة.
101
ولا تسمع الدولة أمر أحد ولا تطيع أحدا إلا النبي شاهد الله؛ لأن الدولة لا تطيع إلا الله وحده.
102
وهي حرة في أن تطيع القانون الإلهي أم تعصيه؛ لأن القانون الوضعي أو الطبيعي لا يعارض في ذلك.
103
ولكن ماذا يفعل الفرد إذا أمرته الدولة بما يعارض طاعته لله؟ هل يطيع الله أم يطيع الدولة؟ يجيب سبينوزا على ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن خشية أن يفسر كل فرد وصايا الدين على هواه ويأخذ ذلك ذريعة لعصيان قوانين الدولة، فعلى الدولة أن تضع تشريعا للمحافظة على الدين، خاصة أن الله يأمر بطاعة القوانين الوضعية،
104
فإذا وجد مؤمن في دولة وثنية مثلا فليس أمامه إلا حلان: الأول رفض تفويض السلطة لها والتعرض للإفناء التام، والثاني تفويض السلطة لها والإبقاء على النفس وطاعة قوانين الدولة، ولا يستثنى من ذلك إلا من وعده الله بتقديم العون له ضد الطاغية.
105
خامس عشر: نشأة دولة العبرانيين وسقوطها
ويطبق سبينوزا نظريته في العقد الاجتماعي على تاريخ العبرانيين،
106
فبعد خروج العبرانيين من مصر لم يخضعوا لدولة أجنبية، بل أقاموا شريعة خاصة واحتلوا ما شاءوا من الأرض، وللخروج من هذه الحالة الطبيعية فوضوا حقهم الطبيعي إلى الله نفسه ووعدوه بتنفيذ أوامره التي قررها في الوحي، وكان هذا الوعد بمثابة عقد اجتماعي ينشأ بين أفراد الجماعة الواحدة من أجل اختيار سلطة تمثل الجميع، وقد قام العبرانيون بهذا العقد بمحض اختيارهم، وبذلك أصبح الله زعيمهم السياسي، وأخذت دولتهم اسم مملكة الله. كان الله ملك العبرانيين، وكان أعداء العبرانيين أعداء الله، واختلط التنظيم الديني بالتنظيم الوضعي، وكانت مبادئ الإيمان هي مجموعة من القوانين، وكان الدين واجبا وطنيا، قامت دولة العبرانيين إذن على الحكم الإلهي (التيوقراطي)، وكان جميع العبرانيين سواء أمام الله والقانون، وكان لهم جميعا الحق نفسه في مخاطبة الله وتفسير القوانين والمشاركة في وظائف الدولة.
وفي العهد الثاني، فوض الجميع لموسى حقهم في مخاطبة الله وتفسير القوانين. وبذلك حكم موسى العبرانيين بدلا من الله، حتى لقد اتهمه البعض باغتصاب السلطة، ولم يكن للشعب، قبل موسى، الحق في اختيار خليفته، بل كان على موسى، بمقتضى تفويض السلطة له تعيين الخليفة لتنظيم الدولة ومخاطبة الله ونسخ القوانين وإرسال المبعوثين وتعيين القضاة واختيار الخليفة. تحول النظام إلى ملكية طبقا للتعاليم الإلهية، مما زاد من سلطة الرئيس، وكان مصير الشعب معلقا به، وعندما ترك موسى الحكم خلف وراءه نظاما تيوقراطيا لا ملكيا أو أرستقراطيا. وأول ما قام به موسى هو بناء مسكن لله، وقد قام الشعب بتكاليف البناء، وعين اللاويين خداما له وعلى رأسهم هارون الذي أصبح فيما بعد خليفة لموسى ومفسرا للقوانين ومخاطبا لله، دون أن تكون له سلطة تنفيذ القوانين، كما أبعد موسى اللاويين من الحياة السياسية الذين لم يكن لهم الحق، كباقي الأسباط، في ملكية الأرض للتعايش منها، بعد أن كفل لهم باقي الأسباط ما يتعيشون منه، للتفرغ لخدمة المعبد. ثانيا، أسس موسى جيشا من الأسباط الاثني عشر لغزو بلاد كنعان، ثم قسم الأراضي التي استولوا عليها اثني عشر قسما، لكل سبط قسم، وعين لكل سبط رئيسا لتوزيع الأنصبة يعينه في ذلك كعب الأحبار ويشوع. وبعد أن عين يشوع رئيسا للجيش كان له الحق وحده في مخاطبة الله عندما تعرض له مسائل جديدة، ولكنه لم يكن وحده في المظلة كموسى، بل كان عليه أن يتوسط لذلك بكعب الأحبار الذي كان له الحق وحده في مخاطبة الله، ثم بعد ذلك يبلغها يشوع للشعب ويفرضها عليه ويتخذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذها، ويعين قواد الجيوش، ويبعث الرسل ويقوم بشئون الحرب. ولم يكن هناك تفكير فيمن يخلفه دون اختيار من الله كما تقتضي ذلك مصلحة الشعب، أما المشكلات الجزئية في الحرب فكان يقوم بحلها رؤساء الأسباط. أما الخدمة العسكرية فقد كانت واجبة على الجميع من العشرين حتى الستين، وكان على الجنود قسم الولاء لله لا للقائد؛ ولذلك سمي الجيش «جيش الله»، والله «إله الجيوش». وفي المعارك الحاسمة كان تابوت العهد ينصب وسط الجيش حتى يدافع عنه الجميع.
وقد عين موسى موظفين لا رؤساء دولة لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله، ولم يكن لأي أحد سواه الحق في القيام بمهام الدولة من سن القوانين ونسخها وإعلان الحرب وعقد معاهدات السلم والتعيين في الوظائف المدنية والدينية. أما كعب الأحبار فكان له الحق فقط في تفسير القوانين وتبليغ إجابات الله، ولكنه لم يكن حرا في اختيار الوقت لذلك، بل كان عليه انتظار تكليف الشعب أو المجلس الأعلى له بذلك. وعلى العكس، كان لقائد الجيوش أو المجالس العليا الحق في مخاطبة الله بوساطة كعب الأحبار؛ لذلك لم تكن إجابات الله على لسان كعب الأحبار قرارات كما كان الحال عند موسى بل مجرد وصايا. لم يعتمد كعب الأحبار على أي جيش ولم تكن له أية سلطة مادية، بل إن كل من كان يتمتع بحق الملكية لم يكن له الحق في صياغة القوانين.
وبعد موت يشوع لم يعين كعب الأحبار قائدا للجيش، ولم يطلب رؤساء الأسباط من الله أن يعين لهم قائدا، بل قاد كل رئيس جيشه، وأصبحت كل الجيوش ممثلة لقيادة يشوع، كما أصبحت القبائل أقرب إلى الدويلات المتحالفة منها إلى الدولة الواحدة، في حين أنه بالنسبة لله ما زال العبرانيون يمثلون دولة، فإذا لم يقم رئيس سبط ما بالتزاماته اعتبرته سائر الأسباط عدوا لها يحق لها حينئذ غزو أراضيه، ويتم اختيار خلفاء الأسباط من أقدم البطارقة سنا، فقد اختار موسى سبعين بطريقا أعضاء للمجلس الأعلى الذي قام بمهام الدولة بعد موت يشوع إلا في بعض الأحيان عندما كان يقوم بها فرد أو مجلس أو الشعب نفسه؛ لذلك لم يكن نظام العبرانيين ملكيا أو أرستقراطيا أو شعبيا بل إلهيا (تيوقراطيا). وكان هذا النظام يعتمد على شيئين: (1)
المعبد وهو عامل الوحدة بين الأسباط. (2)
قسم الطاعة الواجب على المواطنين لله.
وقد كانت مهمة الدولة التيوقراطية التخفيف من حدة الانفعالات للمواطنين وللرؤساء على السواء، فقد عهد إلى اللاويين مهمة تفسير القوانين دون رؤساء الأسباط، خشية أن يستغل هؤلاء هذه المهمة في ارتكاب الجرائم معتمدين على سلطتهم في تفسير القوانين لإخفاء جريمتهم، كما حرم اللاويون من كل وظيفة سياسية ومن كل حق في الملكية. وكان من عادة الشعب الاجتماع مرة كل سبع سنوات لسماع نصوص التشريع من الحبر وقراءة التوراة حتى تتم مراجعة الرؤساء وتطبيقهم للشريعة. كان الشعب يحترم رؤساءه فإذا انحرفوا غضب عليهم. ثانيا، كان الجيش مكونا من مواطنين دون المرتزقة؛ لذلك لم يستطع الطغاة الاعتماد على الجيش ضد الشعب، فالجيش هو الشعب، كذلك لم يتعرض العبرانيون إلى خطر الطغيان من الأسباط فقد كان الدين هو الرابطة بينهم، فإذا خرج أحدهما على شريعة الله أصبح عدوا له. ثالثا، كان هناك خوف دائم من ظهور نبي جديد يعيد إقامة التوازن باعتباره ممثلا لله وتنتصر العامة له، فإذا اتضح كذب النبي كان على رئيس القبيلة محاكمته وإعدامه. ولم يكن احترام رئيس السبط راجعا إلى نبل أصله أو إلى حقه الموروث بل إلى سنه وخلقه، ولم يكن عند العبرانيين فرق بين الجيش والشعب، فقد كانوا مواطنين في وقت السلم ومحاربين في وقت الحرب، وكان رئيس الدولة هو قائد الجيش؛ لذلك لم يرغب أحد في الحرب لذاتها بل إقرارا للسلام. هذه هي الأسباب التي جعلت طموح رؤساء الأسباط لا يخرج على الحد المعقول.
وتقوم الدولة أيضا بمهمة السيطرة على انفعالات المواطنين؛ وذلك لقيامها على حب المواطنين لبلدهم والدفاع عن استقلاله. وبعد أن عقد العبرانيون الحلف مع الله كان استقلالهم شرفا لله وأصبحت سائر الشعوب عدوة له، بل إن الإقامة خارج وطنهم كانت عارا؛ لأنهم لم يكن لهم الحق في إقامة شعائر دينهم، وقد أصبح هذا الشعور الوطني طبيعة ثانية لديهم، وقد تميزت شعائرهم عن سائر الشعوب الأخرى بل وكانت على النقيض منها. فباجتماع هذه العوامل كلها - تحرر المواطنين من نير الأجنبي، حبهم المطلق للوطن، كراهية الأجنبي ومعارضته كواجب مقدس، الشعائر الخاصة - استطاع العبرانيون الثبات أمام كل المخاطر والمحن.
107
وكانت المصلحة هي الدافع الوحيد في سلوك العبرانيين وفي حرصهم على الدولة لأنهم لم يحصلوا على حق الملكية المطلق إلا في هذه الدولة الإلهية، فقد كان لكل مواطن الحق في امتلاك قطعة أرض كما يمتلك الرئيس، فإذا باعها لفقره أعيدت إليه في الأعياد. كان الفقر محتملا وذلك لتطبيق مبدأ حب الجار والإحسان إليه؛ لذلك لا يستطيع العبرانيون أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، وكان كل المواطنين سواسية ولذلك لم تحدث حروب أهلية، وقد ساعد حب الجار على الإبقاء على صدق الإيمان خاصة أن الإيمان هو الطاعة لقوانين الدولة حتى في أحوال المعيشة من زراعة وصناعة وتجارة؛ لذلك كان المثل الأعلى للسلوك هو السلوك الإجباري لا السلوك الاختياري.
ولكن العبرانيين لم يحافظوا دائما على تطبيق الشريعة، ومن ثم وقعوا تحت نير الأجنبي، وانهارت دولتهم تماما، ولا يمكن إرجاع ذلك إلى أن هذا الشعب كان عاصيا بطبعه، فقد اختلفت الشعوب فيما بينها في لغاتها وعاداتها وتقاليدها، ولكن يمكن أن يقال أنه إذا كان العبرانيون حقا أكثر عصيانا من الشعوب الأخرى فذلك يرجع إلى نقص في شريعتهم التي وضعت بدافع من الانتقام لا بوازع خلقي؛ أي أنها وضعت عقابا لهم، فلو كان الله قد أراد لهم دولة مستقلة مستقرة لأعطاهم شريعة أخرى قائمة على أسس أخرى. لقد شاء العبرانيون الاحتفاظ بالخدمة المقدسة للأطفال حديثي الولادة دون تمييز بين اللاويين وغيرهم، ولكنهم جميعا عبدوا العجل باستثناء اللاويين؛ لذلك استبعد الأطفال وتم اختيار اللاويين بدلا عنهم، ويدل تفضيل اللاويين على غيرهم على عدم طهارة باقي الشعب.
ولقد أذل اللاويون باقي الشعب لفضلهم عليه، واستغلوا هذه الظروف، وتحول الإخلاص الديني إلى نفاق، وبعد أن لحظ الشعب ذلك، وثبت على أحدهم أقل جرم ثار عليهم وهاجمهم، فنشأت الاضطرابات بعد أن تعبت الأسباط من إعالة هؤلاء القوم وكرهتهم لا سيما أنه لا توجد بينها وبينهم أية صلات قرابة، واشتدت الاضطرابات في سنوات القحط، وتنصل الشعب من واجباته نحوهم وكف عن إقامة الشعائر بعد أن شك فيها ورأى فيها مذلته. وقد حاول رؤساء الأسباط التقرب إلى الشعب وإبعاده عن الأحبار فقدموا له شعائر جديدة، وأعطى كل سبط لنفسه الحق في تفسير القوانين وخدمة الدين، ولكن الشعب غضب على اللاويين حتى أنه اعتقد أن موسى لم ينصبهم تنفيذا لأوامر الله بل طبقا لمزاجه الخاص. ألم يختر سبطه لخدمة الدين وجعل أخاه حبرا دائما؟ وقام فريق من الشعب بالدعوة إلى المساواة في الحقوق والواجبات، ولكن موسى قام بمعجزة لإثبات حسن نيته وأهلكهم جميعا، ولكن ثار الشعب بعد أن اعتقد أن ما فعله موسى لم يكن أمرا من الله بل من عنده، وزيادة على انتشار الطاعون عمت الفتنة، وعصى الشعب وسمح لنفسه بكل شيء حتى انتهى إلى الانهيار التام. وبعد أن ذاق نير الاستعمار الأجنبي ترك التنظيم الإلهي، وأراد تنصيب ملك منه يحل بلاطه محل المعبد ويصبح مركز الدولة ويحل تشريع الدولة محل التنظيم الديني للأحبار للمحافظة على تحالف الأسباط، ولكن تنصيب الملوك حمل في ثناياه بذور فتن عديدة أدت إلى انهيار الدولة تماما، فلم يسمح الملوك بوجود دولة، وسلطة مناوئة لسلطتهم، وعندما أراد بعض الملوك الصغار أخذ جزء من السلطة من أجل تنظيم شئون الدولة أراد الملوك الكبار أخذ كل سلطة في أيديهم، فعارض ذلك الأحبار الذين كان لهم حق تفسير القوانين، وكان على الملوك طاعة القوانين دون نسخها أو وضع قوانين جديدة، ولكن شاء الملوك استبعاد قوتين من طريقهم: قوة اللاويين؛ فقد كان قانونهم يمنع الملوك من التدخل في الشئون الدينية، وقوة النبي؛ فقد كان النبي يريد وضع المملكة تحت رحمته، ولكي يحقق الملوك مشيئتهم سمحوا ببناء معابد أخرى لآلهة أخرى لإضعاف سلطة اللاويين، ودفعوا بعض الأفراد للتنبؤ لمعارضة الأنبياء الحقيقيين، ولكن لم ينجح الملوك في تحقيق غرضهم؛ وذلك لأن الأنبياء لم يدعوا إلا وقت تنصيب الملوك الجدد الذين لم تثبت سلطتهم بعد، فكان من الصعب على الأنبياء الحكم على الملوك أيهم حبيب الله وأيهم عدوه. لم يكن للأنبياء أثر كبير، ولم يستطيعوا القضاء على طغيان الملوك لأن أسباب الطغيان ظلت باقية، فإذا قضوا على طاغية ظهر طاغية آخر، وتوالت الحروب والفتن، وحل العنف محل القانون الإلهي حتى سقطت دولة العبرانيين، وخضع العبرانيون للفرس وأطاعوا تشريعاتهم. وبعد تحررهم استولى الأحبار على السلطة من رؤساء الأسباط وطمح رجال الدين في أن يصبحوا أحبارا وملوكا وتدور الدائرة من جديد.
108
وينتهي سبينوزا من هذا العرض التاريخي إلى أن القانون الإلهي كان صادرا عن الحلف، وبدون هذا القانون لا يوجد إلا قانون الطبيعة، كما ينتهي إلى أن العبرانيين ليس لهم أي حق مقدس على الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا الحلف الذي كان على العبرانيين وحدهم الالتزام به.
109
سادس عشر: الدين والدولة
هل يصلح نظام الحكم الإلهي (التيوقراطي) في الظروف الحاضرة؟ لو أراد الناس تفويض حقوقهم لله لكان عليهم عقد حلف معه، ثم قبول الله له! ولكن الله أخبرنا على لسان الحواريين بأن حلفه لم يعد حسيا لشعب معين بل روحيا في قلوب الناس للإنسانية جمعاء، كما أن نظام الحكم الإلهي لا يصلح إلا لشعب مغلق على نفسه، مقطوع الصلة بينه وبين سائر الشعوب؛ لذلك، فإن هذا النظام لا يصلح في ظروف الإنسانية الحاضرة. لم تكن غاية سبينوزا إذن من دراسة تاريخ العبرانيين مجرد البحث التاريخي عن أسباب سقوط دولتهم، بل كانت غايته الانتهاء إلى هذه النتيجة، وهي أن النظام الإلهي لا يصلح في الظروف الحاضرة نظرا لخلطه بين الدين والدولة أو بين السلطات الدينية والسلطات السياسية.
110
فلا يعني حكم الله استبعاد كل حكم إنساني يتمتع بسلطة سياسية مطلقة، فبعد أن فوض العبرانيون حقهم لله وضعوا ثقتهم في موسى من أجل تنظيم شئون حياتهم، ولم يكن لسواه هذا الحق، أما رؤساء الأسباط والقضاة فقد كان لهم الحق في الفصل في المنازعات أمام المحاكم. ومن تاريخ العبرانيين يمكن ملاحظة الآتي: (1)
لم تظهر الفرق الدينية إلا في وقت متأخر عندما استولى الأحبار على السلطة في الدولة، فبدأ الدين في الانهيار، وسادته الخرافة، وضاع التفسير الحقيقي للقوانين بل وفق الأحبار بين هذه التفسيرات وبين الأفعال المحرمة أو المكروهة، وبدأ الناس في تملق الأحبار وعم الفساد في الدين. (2)
دفع الأنبياء الناس إلى التطرف بدلا من تقويمهم في حين استطاع الملوك استمالتهم دون أدنى مقاومة. لم يتسامح الأنبياء معهم حتى مع أكثر الملوك إيمانا إذا كان سلوكهم مناقضا للدين؛ أي أن الأنبياء أضروا بالدين أكثر مما نفعوه. (3)
في أثناء حكم الشعب لم تنشأ إلا حروب داخلية فقط، وانتهت بإقامة سلام دائم، ولكن ما إن أتت الملكية حتى نشأت الحروب المستمرة وببشاعة ليس لها مثيل، ونشبت الحروب حبا في العظمة لا من أجل الحرية والسلام. وباستثناء سليمان، دعا الملوك الناس للحروب، وكان الدم تحت العرش. في أثناء حكم الشعب كانت الشرائع قائمة، وكان الأنبياء يحذرون الشعب من مخالفتها، وما إن تم انتخاب الملوك الأول حتى تدخل الأنبياء لإنقاذ الشعب من الموت. لم يظهر قبل عصر الملوك، الأنبياء الكذبة على حين شاعوا بعد تنصيب الخضوع لله، واستمروا في العصيان حتى هدم المدينة.
ومن العرض السابق للخلط بين الدين والدولة يمكن استخلاص النتائج الآتية: (1)
ينتج الضرر للدين وللدولة إذا ما أعطي رجال الدين سلطة سياسية في الدولة، ولا ينشأ الاستقرار إلا بفصل السلطتين، والحد من سلطة رجال الدين حتى يتفرغوا لأمور الدين وللعقائد السلفية الشائعة.
111 (2)
ينشأ الضرر إذا اعتمد القانون الإلهي على العقائد النظرية، وإذا شرعنا قوانين خاصة لهذه الآراء التي تقبل المناقشة والجدل، يتحول النظام السياسي إلى قهر وعنف إذا اعتبر الآراء الشخصية، وهي حق الفرد - جرائم لا تغتفر. وإذا كان نظاما تتسلط فيه العامة فإنها تحكم على المفكرين كما حكمت من قبل على المسيح، وتكون الآراء والمناقشات وسيلة للاضطهاد والإرهاب.
112 (3)
مراعاة لمصلحة الدين والدولة لا ينبغي إعطاء أصحاب السلطة حق التمييز بين الأفعال والحكم عليها، فإذا كان هذا الحق لم يعط حتى الأنبياء دون أن يلحق الضرر بالدين والدولة على السواء فالأولى ألا يعطى من هم أقل قدرة منهم.
113 (4)
إذا لم يكن الشعب متعودا على نظام الحكم الملكي، وكان له دستور من قبل، فإنه لا يقبل بسهولة تنصيب ملك عليه؛ لأنه لن يتحمل سلطة الملك القاهرة، كما أن الملك لن يتنازل عن جزء من سلطته المطلقة للشعب، ويستلزم القضاء على الملك حينئذ أن تستبدل سلطته بسلطة أخرى، ولكن يصبح الملك الثاني طاغية كالأول خاصة إذا كان هو قاتله أو يدعي الانتقام من قاتليه لمصلحته الخاصة. وإننا نرى الشعب يتحول إلى طاغية إذا كان النظام الذي تعود عليه هو نظام الطغاة، وتاريخ الشعوب يؤيد ذلك. على كل دولة إذن المحافظة على النظام الذي عاشت في ظله دون تغييره وإلا أصبحت مهددة بالانهيار.
114
وبينما يدعو سبينوزا للفصل بين الدين والدولة في نظام الحكم الإلهي حتى يعم السلام في كليهما فإنه يعود ويوحد بينهما في نظام الحكم الديمقراطي؛ فإن الله يوزع بالسلطان ما لا يوزع بالقرآن، فمن حق السلطة أيضا تشريع القوانين في الأمور الدينية وإلا انقسمت السلطة السياسية وتم الاستيلاء عليها، ومن أجل ذلك يحاول سبينوزا إثبات أمور ثلاثة: (1)
لا يصير للدين قوة القانون إلا بسلطة الحاكم. (2)
لا يحكم الله منفصلا عن السلطات السياسية. (3)
يجب اتفاق الشعائر الدينية مع سلامة الدولة وأمنها.
115
ويبرهن سبينوزا على الأمرين الأول والثاني معا، لأنه يجب البرهنة أولا على أنه كيف لا يحصل العدل والإحسان على قوة القانون إلا بتشريع الدولة للانتهاء إلى أن الدين لا يحصل على قوة القانون إلا بمشيئة أصحاب السلطة، وأن الله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطات السياسية، فالإنسان في الموقف الطبيعي لا يعيش إلا طبقا لقانون الشهوة، فليس هناك خطأ أو صواب، ينشأ الخطأ والصواب عندما ينتقل الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة العقل؛ أي عندما يأخذ العدل قوة القانون الذي يصدر عن مشيئة من لهم الحق في الحكم، أي أن الله لا يحكم إلا من خلال أصحاب السلطة السياسية، ولا يهم بعد ذلك إدراكه بالنور الفطري أو بالنور النبوي. فعندما فوض العبرانيون حقهم لله ظل هذا التفويض نظريا لأنهم احتفظوا لأنفسهم بحقهم السياسي الذي فوضوه بعد ذلك لموسى وجعلوا منه ملكا. وابتداء من ذلك الوقت حكم الله العبرانيين من خلال موسى، ولم يأخذ الدين قوة القانون إلا بعد التشريعات السياسية، فلم يعاقب موسى مخالفي السبت قبل الميثاق وعاقبهم بعده بعد أن تحول الميثاق إلى قانون سياسي، وكذلك لم يعد للدين قوة القانون بعد انهيار الدولة وبعد سبي بابل وضياع استقلالهم السياسي ومشاركتهم في إدارة دولة بابل باعتبارهم عبيدا لا أسيادا. لا يأخذ الدين إذن قوة القانون إلا بالتشريع السياسي، فإذا قضي على التشريع السياسي لا يصبح الدين سلوكا إجباريا للمواطنين، بل يصبح تعاليم عقلية شاملة، والدين الشامل لم يكن موجودا في ذلك الوقت، ولا يأخذ الدين، سواء كان مدركا بالنور الفطري أو بالنور النبوي قوة القانون إلا بسلطة من لهم الحق في الحكم، فالله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطات السياسية؛ وذلك لأن الله ليس أميرا أو مشرعا، ولأن حقائقه أبدية تتميز بضرورة أبدية أيضا ولا تتحول إلى أوامر إلا من خلال السلطات السياسية، وبذلك يكون للسلطات الحق في تفسير الشرائع.
أما الأمر الثالث هو اتفاق الشعائر مع سلامة الدولة وأمنها، فهذا يعني أيضا تحديد الدولة للشعائر وتفسيرها لها دون الشعائر الداخلية أي التقوى والإخلاص، فحب الوطن حب مقدس، وهو من أنبل العواطف، ولكن وجود الدولة هو الحافظ للقيم، وبالتالي، فلا يكون السلوك سلوكا شرعيا إذا ما نال من سلامة الدولة، ويكون شرعيا إذا ما حافظ عليها مهما كان هذا السلوك مضادا لحب الجار؛ فمصلحة الجميع سابقة على مصلحة الفرد. وللسلطة الحق في تحديد المصلحة العامة وأمن الدولة واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك. على السلطة إذن تحديد أفعال الإحسان للجار أي الأفعال التي تجب بها طاعة الله، فملكوت الله هو تطبيق شريعة الله أي ممارسة العدل والإحسان، ولا فرق بين النور الفطري والوحي في معرفة ذلك إذا كانت هذه الشريعة هي القانون الأسمى، ولا يكون لأصحاب السلطة فقط الحق في تفسير القوانين، بل لا يطيع الإنسان الله إلا إذا كان سلوكه متفقا مع المصلحة العامة ومطيعا لأوامر السلطات؛ لذلك لا يجوز للفرد الإضرار بفرد آخر أو بالجماعة، ولا يحسن الإنسان إلى الجار إلا إذا كان الإحسان متفقا مع المصلحة العامة، والسلطة هي التي تحدد هذه المصلحة لأنها المسئولة عن تنظيم شئون الدولة. فإذا حكمت السلطات على فرد من الداخل أو من الخارج بأنه عدو فلا ينبغي على الأفراد التعامل معه، فحب الجار يتبعه كراهية العدو، وتاريخ العبرانيين يؤكد دائما اتفاق الدين مع مصلحة الدولة، حتى أتى المسيح ورأى تشردهم وضياع دولتهم أمرهم بالإحسان لكل الناس،
116
أما الحواريون فإنهم لم يبشروا بالدين باعتبارهم رعايا، بل بناء على القدرة التي أعطاها المسيح إياهم.
117
على الأفراد طاعة الطاغية إلا من وهبه الله هبة النبوة ووعده بمساعدة من لدنه ضد هذا الطاغية.
118
ولكن ما الحجج التي يقدمها دعاة التفرقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية؟ أهم هذه الحجج وجود كعب الأحبار عند العبرانيين لتنظيم شئون الدين. ويرد سبينوزا على ذلك بأن الأحبار أخذوا هذا الحق من موسى، صاحب السلطة السياسية، وكان يمكنه سلب هذا الحق منهم، وبعد موت موسى، احتفظ الأحبار بهذه السلطة باعتبارهم استمرارا لسلطة موسى، أي استمرارا للسلطة السياسية في حين أن موسى لم يعين أحدا بعده للقيام بالسلطة السياسية، بل قسمها بحيث يبدو أصحابها كمساعدين له. صحيح أن الأحبار كان لهم الحق في تنظيم شئون الدين في الدولة الثانية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه رؤساء الأسباط أي إنهم كانوا يتمتعون بالسلطة السياسية، وكان للملوك الحق في تنظيم شئون الدين وشئون الدولة على السواء مع استثناء وحيد وهو إقامة الصلاة بأنفسهم في المعبد؛ لأنهم ليسوا من سلالة هارون، وبالتالي ليس لهم شرف مخاطبة الله. كان الأنبياء يدفعون الناس إلى التطرف لأن السلطة السياسية لم تكن في أيديهم في حين استطاع الملوك التأثير عليهم بالتوعد بالعقاب . وتنصل ملوك العبرانيين من الدين لأنه لم يكن لهم الحق في التدخل فيه، وتبعهم الشعب في هذا التنصل.
والحجة الثانية أنه في المسيحية قام رجال الدين بمهام الكهنوت. ويرد سبينوزا على ذلك أيضا بأن رجال الدولة كان لهم أيضا الحق في القيام بالشعائر الدينية، بل كان لهم الحق وحدهم في ذلك. كان التوحيد بين السلطتين حافظا لسلامة الدين وأمن الدولة، فالإنسان بطبيعته يثق بمن يقوم على شئون الدين وبالتالي بسيادته على نفوس الناس.
119
يؤدي الفصل بين السلطتين إذن إلى الفتن والشقاق كما حدث بين الأحبار والملوك عند العبرانيين، ومن يريد سلب الحاكم سلطته الدينية فإنه يود الاستيلاء على السلطة؛ إذ لا يبقى للحاكم سلطة سياسية لو سلبت منه سلطته الدينية، والتاريخ شاهد بمساوئ الكهنوت وأضراره. يكفي مثل بابا روما عندما اقتصر دوره على شئون الدين حاول إخضاع الأباطرة لسلطانه حتى انتزع منهم السلطة، وكل من حاول من الأباطرة التقليل من سلطة البابا زاده سلطانا. ولكن استطاع رجال الدين أنفسهم بأقلامهم ما لم يستطعه الأباطرة بسيوفهم.
ولكن ما العمل إذا خرج أصحاب السلطة على الدين؟ وما العمل أيضا إذا خرج رجال الدين على الدين؟ إذا خرج أصحاب السلطة على الدين لا يهم بعد ذلك إلى أي حد تمتد سلطتهم؛ إذ يؤدي خروجهم إلى الكوارث، سواء في أمور الدين أو في أمور الدولة، وتعظم الكارثة إذا أرادت الرعية تنصيب نفسها حارسة على القانون الإلهي وترفض سلطة الدولة واختصاصها في أمور الدين. ويبرهن تاريخ العبرانيين على أن عزل الملوك يؤدي بهم إلى رفض الإيمان؛ لذلك حرصا على مصلحة الدين والدولة معا يجب أن يعهد لأصحاب السلطة تنظيم شئون الدين وتفسيره والمحافظة عليه.
120
ولكن هذا المبدأ الذي أجمع عليه العبرانيون اختلف فيه المسيحيون؛ وذلك لأن المسيحية في نشأتها لم يدع لها الملوك بل دعا لها الرعايا المناوئون للسلطة السياسية القائمة، وتعودوا الاجتماع في كنائس خاصة لتنظيم شئون الدين وأخذ القرارات وإصدار المراسيم دون أخذ رأي السلطة القائمة. وبعد أن أخذ الدين في الانتشار في الدولة استمر رجال الدين في نشر الدعوة بطرقهم الأولى؛ لذلك كان من السهل الاعتراف بهم رؤساء للكنيسة أي ممثلين لله. وقد اتخذت بعض الإجراءات لمنع الملوك من التدخل في شئون الدين أهمها تحريم الزواج على رجال الدين، وضرورة وجود الفيلسوف اللاهوتي لتفسير العقيدة وحقائق الإيمان التي تضعها الفلسفة موضع الشك، فهو القادر على النفاذ إلى هذه التأملات التي لا نفع منها.
121
أما عند العبرانيين فقد نشأت الدولة والكنيسة معا، وكان موسى هو صاحب السلطتين، وكان لرؤساء الأسباط أيضا الحق نفسه مع أنهم كانوا أقل هيبة من موسى، وكان العبرانيون يستشيرون الأحبار أو الموظفين المدنيين على السواء، وكان الملوك يقومون بتنظيم شئون الدين، وإن لم يكن بالدرجة نفسها التي كان يقوم بها موسى، فقد شرع داود في بناء المعبد، واختار المنشدين والقضاة والحراس والموسيقيين والخدام ورؤساء الطوائف الدينية؛ أي إن شئون الدين كانت من اختصاصات الملك. ولكن لم يكن للملوك الحق، كما كان لموسى، في اختيار كعب الأحبار ومخاطبة الله مباشرة ومحاكمة المتنبئين. وفي مقابل ذلك، كان للأنبياء الحق في اختيار الملك الجديد والعفو عن قاتلي الملك السابق، ولكن لم يكن لهم الحق في تقديم الملوك للمحاكمة أو اتخاذ أي إجراء ضدهم إذا ما خالفوا القوانين باستثناء النبي الذي وعده الله بالعون؛ لذلك، فإن لأصحاب السلطة الحالية الحق في تنظيم شئون الدين، بالرغم من أنهم لا يعيشون عيشة الرهبنة، بشرط ألا يزيدوا شيئا على تعاليم الدين أو يخلطوها بالمعارف العلمية، خاصة أن عصر الأنبياء قد انتهى.
سابع عشر: مواطن حر في دولة حرة
122
لو كان من السهل توجيه الأذهان كما توجه الألسنة لما واجهت الحكومات أية أخطار، ولسارت الرعية كما يهوى الحكام، ولما فكر أحد أو أصدر حكما، ولقامت السلطة على القهر والعنف وانتهكت حرمة القوانين، وسلبت حقوق المواطنين عندما تحاول فرض الآراء عليهم وقبولها على أنها نصيحة أو رفضها على أنها باطلة. والحقيقة أن كل فرد حر في أن يفكر وفي أن يعتقد ما يشاء، ولا يتنازل بمحض اختياره عن هذا الحق. قد يحدث لبعض الأفراد تبني أفكار غيرهم، ولكنهم سيشعرون يوما بأنهم يفضلون أفكارهم على أفكار الغير، وصحيح أيضا أن موسى استطاع استمالة الشعب لأفكاره دون مخادعة، ولكن ذلك قد تم له بصفة إلهية فضلا عن أن موسى نفسه لم يسلم من التفسيرات المعارضة له، فإذا كانت عبودية الأذهان مقبولة في النظام الملكي فكيف فيمكن قبولها في نظام ديمقراطي أي في نظام تكون السلطة فيه للشعب؟ ومهما كان للسلطة من حق على الشعب ومن تفسير للقوانين فإنها لا تستطيع أن تمنعه حقه في إصدار حكمه أو في أن يشعر بما يريد. صحيح أن السلطة تعتبر من لا يعتنق وجهة نظرها عدوا لها، ولكننا لا نبحث هنا الحد الأقصى لسلطة الحاكم، بل أفضل أنواع السلوك والأصلح منها له. صحيح أيضا أنه يستطيع الحكم بالإعدام لأتفه الأسباب، ولكن يكون حكمه معارضا للعقل. إن أسلوب القهر خطر على الدولة نفسها؛ لذلك يكون حق السلطة بمقدار قدرتها. فكل من يتنازل عن حقه في الحرية يظل سيد نفسه، وتقع الكارثة عندما تجبر السلطة أعضاء المجلس القومي على التفكير كما تشاء، ولكن الشعب لا يستطيع الصمت طويلا. تقوم السلطة على القهر والعنف عندما تسلب المواطنين حرية التفكير وتفرض عليهم آراءها، وتشعر بالنيل منها إذا ما سلمت للمواطنين بحرية القول والعمل.
إن الغرض من إقامة نظام سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لنير فرد واحد، بل التحرر من الخوف بحيث يعيش كل فرد في سلام، أي المحافظة على الحق الطبيعي في الحياة وفي السلوك، ليس الغرض من أي نظام سياسي تحويل البشر إلى حيوانات أو آلات، بل الحصول على سلامة الذهن والبدن، أي إن غرض التنظيم في المجتمع هو الحرية.
وتنشأ السلطة في المجتمع، إما عن الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد. ولما كان لكل فرد حكمه الخاص فإنه فوض للسلطة العليا حقه دون أن يتنازل عن حريته في التفكير وإصدار الأحكام بشرط الاعتماد على العقل لا على الحيلة والخداع، ودون أن يكون دافعه على ذلك الحقد والكراهية وإلا كان متمردا ؛ على هذا النحو، يستطيع أن يعبر عما يفكر فيه دون أن يمس سلامة الدولة وأمنها الداخلي، وعليه أن يقبل إجراءات السلطة حتى ولو كانت معارضة لآرائه الشخصية، يدفعه في ذلك إيمانه بالقيم المقدسة، فالسلطة هي القائمة على العدالة، وتصل إلى حد الاعتدال عندما تسلم بحرية الآخرين والقرارات التي تأخذها تصدر عن الجمعية العامة بالإجماع على الرغم من معارضة بعض الأعضاء.
ولكن ما الآراء التي تهدد كيان الدولة؟ إنها الآراء التي تهدد بفسخ العقد الذي فوض به المواطنون حقهم للسلطة العليا، مثل الآراء الفوضوية قولا وعملا. أما الآراء التي لا يترتب عليها نتيجة فعلية تهدد سلامة الدولة فلا تعتبر جرما إلا في دولة يترأسها متعصب أحمق يريد إرهاب الناس. وهناك بعض الآراء التي تصدر عن سوء نية طبقا لحرية الفكر، ولكن مقياس الإخلاص للسلطات هو الأعمال، وعلى رأسها الإحسان للجار. أفضل النظم السياسية هي التي تسمح للفرد بحرية التفكير، وقد اعترف له الإيمان من قبل بهذه الحرية. قد تسبب هذه الحرية بعض المتاعب للسلطات، ولكن هذه المتاعب أقل بكثير مما لو سلب المواطنون هذه الحرية. وإن وضع الإنسانية كلها تحت سيطرة القوانين يأس من العيوب لا إصلاح لها. ومن الأفضل السماح بالنشاط الحر إذا كان من الصعب منعه، وهناك الانفعالات التي لا يمكن القضاء عليها.
إن الحرية هي العامل الأساسي لتقدم العلوم والفنون، فلو حدث أن فرضت السلطة على المواطنين أفكارها، فإنها لن تستطيع أن تجعل أفكارهم مطابقة لأفكارها، وبذلك ينتهي المواطنون إلى النفاق، ويقولون ما لا يعملون، ويضيع حسن النية، ويسود الخداع والمحاباة، ويعم السقوط. كلما سلبت منهم الحرية زاد السقوط، وكلما التجئوا إلى باطنهم ليعثروا فيه على حريتهم، فاض بهم الكيل وناصبوا السلطة العداء علنا، وأثاروا القلاقل والفتن. فهذه هي الطبيعة الإنسانية، ويكون القانون هو السبب في إثارة دعاة الخير لا في كبح جماح الظالمين، ويكون تطبيق القانون أعظم خطر يهدد الدولة التي يرفضها الأحرار ويتملقها الانتهازيون، ويصعب على السلطة حينئذ التراجع عما هي فيه، وكم نشأت من الفرق والطوائف لأن السلطة أرادت وضع حد لحرية الفكر. إن القوانين تهدف إلى تهدئة المشاعر لا إلى إثارتها. أليس الأجدر إذن أن تراعى عواطف الجماهير من أن توضع لها قوانين عاجزة؟ في مثل هذه الدولة يصبح المواطنون أعداء الدولة لأنهم لا يعرفون الجبن، ويسقط الشهداء، ويلحق العار بالسلطات، فلا يرهب المواطنون الموت، ولا يطلبون العفو، ويقبلون الشهادة لغاية شريفة، ويكونون شهداء الحرية، يتبعهم بعض المواطنين في حين يصفق البعض الآخر للجلادين.
أما إذا أردنا أن نعيد للمواطنين حسن النية وأن تمارس السلطات حقها في أفضل الظروف الممكنة يجب عليها التسليم بحرية المواطنين في التفكير وفي الحكم، فتقل المتاعب، وذلك أقرب للطبيعة الإنسانية، والديمقراطية هي أقرب النظم إليها، ففيها يعمل كل فرد ويفكر دون أن يصب عمله وفكره في قالب واحد، وفيها تحظى فكرة الغالبية العظمى بموافقة الجميع مع الاحتفاظ بحق إلغائها في المستقبل لو دعت الظروف إلى ذلك، ولو وجدت هناك فكرة أصلح منها. لا تمثل إذن حرية المواطنين أي خطر على السلطة وهيبتها، فإذا سلبت هذه الحرية سقط الشهداء وظهرت الدعوة للشهادة ويصفق أصحاب السلطة وأنصارها، والمصفقون لها الذين يقومون باغتصاب السلطة بعد ذلك؛ لذلك، إذا أردنا المحافظة على سلامة الدولة يجب أن يقتصر الدين على ممارسة العدل والإحسان، كما يجب أن يقتصر عمل السلطة على توجيه أعمال المواطنين في شئون الدين والدنيا دون أن تسلبهم حريتهم في التفكير والتعبير. ويلخص سبينوزا ذلك كله في مبادئ ستة تكون الدستور الشامل وهي: (1)
يستحيل سلب الناس حرية التفكير والتعبير. (2)
لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة أو حقها. (3)
لا يمثل التمتع بالحرية الفردية أي خطر على سلامة الدولة. (4)
لا تهدد الحرية الإيمان بالأديان. (5)
تعجز القوانين الصادرة عن تنظيم الأمور النظرية. (6)
ضرورة الحرية الفردية للمحافظة على السلام وعلى الإيمان وعلى حق السلطة العليا.
123
وهنا ينتهي سبينوزا من رسالته «وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى أو على السلام في الدول، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتها.»
رسالة في اللاهوت والسياسة1
وفيها تتم البرهنة على أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى
2
أو على سلامة الدولة
3
بل إن في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد.
وبهذا نعلم أننا نثبت فيه وهو فينا بأنه آتانا من روحه.
4 (يوحنا، الرسالة الأولى، 4: 13)
مقدمة المؤلف
لو استطاع الناس تنظيم شئون حياتهم وفقا لخطة مرسومة، أو كان الحظ مؤاتيا لهم على الدوام، لما وقعوا فريسة للخرافة، ولكننا كثيرا ما نراهم وقد وقعوا في مأزق يبلغ من الحرج حدا لا يستطيعون منه خلاصا. ولما كانوا يتقلبون بلا هوادة بين الخوف والرجاء لحرصهم الشديد على النعم الزائلة التي يجلبها القدر، فإنهم يميلون دائما أشد الميل إلى التصديق الساذج، فإذا ساورهم الشك في شيء حركهم أقل دافع إلى هذا الجانب أو ذاك، ولا سيما عندما يكون الدافع لهم الخوف أو الرجاء. أما في لحظات الثقة بالنفس فيركبهم الزهو والغرور، وهذا أمر لا يجهله أحد - فيما أظن - وإن كان معظم الناس لا يطبقونه على أنفسهم، ولا يوجد شخص واحد عاش بين الناس إلا لحظ أن معظمهم، حتى أقلهم خبرة، يفيضون في أيام الرخاء حكمة، حتى إن مجرد توجيه النصح لهم يعد إهانة، أما في وقت الشدة فيتغير كل شيء إذ لا يعرفون ممن يطلبون النصح وهم يلتمسونه من كل من يصادفهم، ويعملون بأشد النصائح بطلانا وتناقضا وزيفا، ومن ناحية أخرى، تكفي أقل الدوافع شأنا لتثير فيهم الخوف أو الرجاء. ففي حالة الخوف مثلا، إذا أثارت فيهم حادثة ما ذكرى سارة أو مؤلمة فإنهم يرون فيها علامة لنتيجة سارة أو مؤلمة؛ ولهذا السبب فإنهم يتحدثون عن الفأل الحسن أو السيئ مع أن التجربة قد كذبته مئات المرات، وإذا أثار منظر غير مألوف دهشتهم فإنهم يظنون أنهم شهدوا إحدى الخوارق
1
التي تكشف عن غضب الآلهة أو عن الإله الأعظم، ويظنون أنهم ابتعدوا عن التقوى إذا لم يتجنبوا وقوعها بالقرابين والنذور؛ لأنهم يؤمنون بالخرافة ولا يعرفون حقيقة الدين، وهكذا يختلقون عددا من القصص الخرافية يفسرون بها الطبيعة ويرون الخوارق شائعة فيها، وكأن الطبيعة تهذي كما يهذون. في مثل هذه الظروف يكون أشد الناس اقتناعا بمثل هذه الخرافات هم أكثر رغبة في الحصول على النعم الزائلة، ولما كانوا في وقت الخطر لا يجدون من أنفسهم عونا، فإنهم يطلبون العون الإلهي بصلواتهم ودموعهم كما تفعل النساء ويعلنون أن العقل أعمى، (لأنه عاجز عن إرشادهم إلى وسيلة يقينية للحصول على النعم الزائلة التي يتوقون إليها) ويرون أن الحكمة الإنسانية غرور، وهم في مقابل ذلك يعدون هذيان الخيال والأحلام وكل بلاهة صبيانية إجابات إلهية، بل ويظنون أن الله يبتعد عن الحكماء، وأن الله لا يودع أوامره في أرواح البشر، بل في أحشاء الحيوانات المستأنسة أو أن البلهاء والمجانين والطيور هم الذين يبلغوننا إياها بالغريزة أو بروح إلهية،
2
وهكذا نرى إلى أي حد من البله يدفع الخوف البشر! فالخوف إذن هو السبب في وجود الخرافة وفي الإبقاء عليها وتقويتها، فإذا ما طلب مني أحد أمثلة محددة تؤيد ما قلته من قبل فسوف أذكر له مثل الإسكندر، فلم يبدأ الإسكندر في استشارة العرافين والاستسلام للخرافة إلا بعد أن أصبح يخاف على مصيره وهو على أبواب سوس (انظر: كيونتوس كوريتوس، الكتاب الخامس، 4)،
3
وبعد أن انتصر على داريوس لم يلتجئ إلى تكهنات العرافين حتى أتى اليوم الذي انتابه فيه جزع شديد، إذ تركه البكتريون وناوشه السكيثون وعجز عن الحركة متأثرا بجراحه «فعاد فريسة للخرافة» (وهذه هي عبارات كوينتوس كوريتوس نفسها، الكتاب السابع، 7)، «هذا الوهم الذي ينتاب الروح الإنسانية، وطلب من أرستاندر الذي كان موضع تصديقه، أن يقدم القرابين كي يتنبأ بمجرى الحوادث في المستقبل.» وهناك أمثلة كثيرة توضح هذا الشيء نفسه، وهو استسلام الناس للخرافات ما دام الخوف ينتابهم، ويتوجهون بعبادتهم التي لا طائل وراءها إلى أشباح وإلى متاهات خيالية لنفس حزينة خائفة. وأخيرا، فإن سلطان العرافين لم يمتد إلى الجمهور ولم يخشهم الملوك إلا في أسوأ الظروف التي تمر بها الدولة، ولكني لن أطيل في هذه الاعتبارات التي يعرفها الناس جميعا.
ولما كان الخوف سبب الخرافة كما قررنا من قبل، وليس سببها كما يدعي البعض فكرة غامضة من الألوهية موجودة في أذهان البشر، فإننا نلحظ أن كل الناس يميلون إليها بطبيعتهم، كما نلحظ أنها لا بد أن تكون متغيرة ومتقلبة إلى أقصى حد، شأنها في ذلك شأن معظم أوهام النفس ودوافع الجنون الشديد. ونلحظ أخيرا أن الخرافة لا تعتمد إلا على التمني والحقد والغضب والخداع؛ لأنها لا تقوم على العقل بل تقوم على الانفعال وحده وعلى أقوى الانفعالات كلها؛ وعلى ذلك فكلما استسلم الناس بسهولة إلى جميع أنواع الخرافات صعب عليهم التمسك الدائم بواحدة منها. ولما كان عامة الناس أشقياء دائما فإنهم لا يصلون أبدا إلى حالة رضاء دائمة، ولا يجدون تخفيفا لشقائهم إلا بأوهام جديدة يسعدون بها لأنها لم تخدعهم بعد، وقد كان هذا التقلب سببا في اضطرابات عديدة وحروب بشعة. يتضح إذن مما سبق وكما لحظ كوينتوس كوريتوس بدقة أيضا (الكتاب الرابع، الفصل العاشر) أن «الخرافة هي أكثر الوسائل فاعلية لحكم العامة.» ولذلك كان من السهل باسم الدين دفع العامة تارة إلى عبادة الملوك كأنهم آلهة ودفعهم تارة أخرى إلى كراهيتهم ومعاملتهم وكأنهم طامة كبرى على الجنس البشري. وتجنبا لهذا الشر اتجهت العناية، بحرص شديد، إلى تجميل الدين - حقا كان أو باطلا - بالشعائر والمراسم التي تزيد من أهميته وتضمن له احتراما دائما بين المؤمنين. (ولم تنجح هذه الإجراءات في أي مكان بقدر ما نجحت عند المسلمين، حيث تعد المناقشة اليسيرة كفرا وحيث تطغى الأحكام السابقة على الحكم الصحيح، وحيث لا يمكن للعقل السليم أن يدلي برأي أو أن يبدي مجرد شك بسيط).
4
إن السر الكبير في النظام الملكي ومصلحته الحيوية هو خداع الناس وإضفاء اسم الدين على الخوف الذي تتم به السيطرة عليهم، بحيث يناضلون من أجل عبوديتهم، وكأن فيها خلاصهم، ويعتقدون أنهم ينالون أسمى مراتب الشرف - لا أنهم يلحقون بأنفسهم العار - عندما يريقون دماءهم ويضحون بحياتهم إرضاء لغرور فرد واحد. وعلى العكس من ذلك فلا يمكننا في جمهورية حرة أن نتصور أو أن نأخذ على عاتقنا شيئا أشر من ذلك؛ لأن الحرية العامة لا تسمح بأن يقوم الحكم الفردي على الأحكام السابقة أو أن يخضع لأي قهر، أما الفتن التي تثار باسم الدين فلا تحدث إلا عند سن قوانين متعلقة بموضوعات النظر والتأمل، فتدان بعض الآراء على أنها جرائم ويقع أصحابها تحت طائلة العقاب، ويلقى أنصارها ودعاتها حتفهم لا من أجل مصلحة الدولة بل لكراهية أعدائهم لهم وقسوتهم عليهم. ولو كان القانون العام يقضي بأن «الأفعال وحدها هي التي تخضع للقانون، أما الأقوال فلا تخضع مطلقا للعقاب.» لما أمكن لمثل هذه الفتن أن تتمسح بالقانون، ولما تحولت الخلافات في الرأي أبدا إلى فتن، ولما كان قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي أن نعيش في جمهورية يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء، ويعد الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاها، فقد رأيت أنني لن أكون قد قمت بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بينت أن هذه الحرية لا تمثل خطرا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل إن القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معا.
5
هذا هو الموضوع الرئيس الذي أردت البرهنة عليه في هذه الرسالة. ولكي أصل إلى هذا الهدف كان علي أن أبين أولا أهم مظاهر التحيز في الدين، أي أن أبين بقايا عبودية الروح القديمة، كما كان علي أيضا أن أفحص مظاهر التحيز المتعلقة بحق السلطات العليا في الدولة،
6
إذ يحاول كثيرون ممن لا حياء لهم أن يسلبوا هذه السلطات أهم حقوقها وأن يبعدوا عنها باسم الدين قلوب العامة
7
التي لم تتخلص بعد من خرافات الوثنيين، مما يعود بنا مرة أخرى إلى الوقوع في العبودية الشاملة، وقبل أن أبين تفاصيل خطتي أبدأ الآن في شرح الأسباب التي دفعتني إلى الكتابة.
لقد دهشت مرارا من رؤية أناس يفتخرون بإيمانهم بالدين المسيحي أي يؤمنون بالحب والسعادة والسلام والعفة والإخلاص لجميع الناس ، ويتنازعون مع ذلك بخبث شديد ويظهرون أشد أنواع الحقد، بحيث يظهر إيمانهم في عدائهم لا في ممارستهم للفضيلة. ومنذ زمن طويل وصلت الأمور إلى حد أنه أصبح من المستحيل تقريبا التعرف على نوع عقيدة الشخص، وهل هو مسيحي أو يهودي أو مسلم أو وثني، إلا من خلال مظهره الخارجي ومن ملابسه أو من تردده للعبادة على هذا المكان أو ذاك، أو من قبوله لهذه المعتقدات أو تلك، أو من قسمه بكلام هذا المعلم الروحي أو ذاك، وفيما عدا ذلك تتشابه حياتهم تماما. ولقد بحثت عن سبب هذا الشر ووجدته دون عناء في النظر إلى مهام تنظيم الكنيسة على أنها شرف وإلى وظائف القائمين بالعبادة على أنها مصدر للدخل، فأصبح الدين عند العامي إسباغا لمظاهر التكريم على رجال الدين. ومنذ أن شاع هذا الفساد داخل الكنيسة فقد استحوذت رغبة جارفة في دخول الكهنوت على قلوب أكثر الناس شرا، وانقلب الحماس لنشر الدين إلى شهوة وطموح مزر، وتحولت الكنائس إلى مسارح لا يسمع فيها الفرد علماء الدين بل خطباء الكنيسة الفصحاء الذين لا رغبة لديهم في تعليم الناس بل يستهدفون إثارة الإعجاب بهم، وينالون علنا من المنشقين عليهم، ويفرضون تعاليم جديدة لم يتعودها أحد لإثارة دهشة العوام. وقد أدى هذا الموقف بالضرورة إلى صراع مر وإلى حسد وحقد لم تستطع السنوات الطويلة التخفيف من حدتهما، فلا عجب إن لم يبق من الدين الأصلي إلا العبادة الخارجية، وهي عند العامة أقرب إلى التملق منها إلى عبادة الله، إذ لم يعد الإيمان إلا تصديقا أعمى بأوهام متعصبة وأية أوهام متعصبة؟! إنها أوهام أولئك الذين يحطون العقلاء إلى مستوى البهائم لأنها تمنع ممارسة الحكم، وتعوق التمييز بين الخطأ والصواب، وتبدو كأنها وضعت خاصة لإطفاء نور العقل. يا للعجب! لقد أصبحت التقوى وأصبح الدين أسرارا ممتنعة، وأصبح أصحاب النور الإلهي لا يعرفون إلا بشدة احتقارهم للعقل وبحطهم من شأن الذهن ونفورهم منه وقولهم إنه فاسد بالطبع. والحق أنهم لو كان لديهم قبس طفيف فحسب من هذا النور لما تفاخروا ببلاهتهم، ولتعلموا عبادة الله بطريقة أحكم، ولكسبوا الآخرين بالحب، لا بالحقد كما يفعلون الآن، ولما ناصبوا العداء من يخالفونهم في الرأي بل لأشفقوا عليهم، هذا لو كانوا حريصين على خلاص الآخرين، لا على حظهم في هذه الحياة الدنيا. وفضلا عن ذلك، فلو كان لديهم قبس من النور الإلهي لظهر هذا النور في تعاليمهم، وأنا أعترف بأن إعجابهم بأسرار الكتاب لا حد له، ولكني أرى أنهم لم يعرضوا أية نظرية سوى تأملات أفلاطون وأرسطو، ووفقوا بينها وبين الكتاب المقدس كي لا يبدوا منحازين إلى الوثنية، فلم يكفهم أن يضلوا مع اليونان بل أرادوا أن يضل الأنبياء معهم، وهذا يدل دلالة واضحة على أنهم لم يؤمنوا بالمصدر الإلهي للكتاب ولا حتى في المنام. وكلما زاد إعجابهم بالأسرار المقدسة برهنوا على أن الخضوع الأعمى للكتاب أفضل لديهم من الإيمان.
8
ويتضح ذلك أيضا من أن معظمهم يفترض ابتداء صحة الكتاب ومصدره الإلهي، مع أن هذا الفرض يجب أن يكون نتيجة فحص دقيق لا يترك المجال لأي التباس، فهم يفترضون سلفا، كقاعدة للتفسير، ما تكشفه لنا الدراسة المباشرة على نحو أفضل دون الالتجاء إلى أي وهم إنساني.
هذه هي الآراء التي كانت تشغل ذهني، فالنور الفطري لم يوضع موضع الاحتقار فحسب، بل إنه كثيرا ما أدين باعتباره مصدرا للكفر، وأصبحت البدع الإنسانية تعاليم إلهية، وظن الناس أن التصديق عن غفلة هو الإيمان، وأثار الجدل داخل الكنيسة وفي الدولة انفعالات شديدة نتجت عنها أحقاد قاسية ومنازعات وفتن بين الناس، بالإضافة إلى شرور أخرى كثيرة لا يتسع المقام هنا لذكرها؛ ولذلك عقدت العزم على أن أعيد من جديد فحص الكتاب المقدس بلا ادعاء وبحرية ذهنية كاملة، وألا أثبت شيئا من تعاليمه أو أقبله ما لم أتمكن من استخلاصه بوضوح تام منه؛ وعلى أساس هذه القاعدة الحذرة وضعت لنفسي منهجا لتفسير الكتب المقدسة.
9
وبعد أن وضعت هذا المنهج تساءلت أولا: ما النبوة وبأية طريقة كشف الله عن نفسه للأنبياء، وما السبب في اختيار الله لهم ؟ هل اختارهم الله لتأملاتهم السامية فيه وفي الطبيعة أم لتقواهم؟ وبعد أن أجيب عن هذه الأسئلة استطعت أن أؤكد بسهولة أن أقوال الأنبياء لا يكون لها وزنها إلا على مسلك الناس في الحياة والفضائل الخلقية،
10
وفيما عدا ذلك لا تهمنا معتقداتهم الخاصة. وبعد إثبات هذه القضية الأولى بحثت عن سبب تسمية العبرانيين شعب الله المختار ووجدته في غاية السهولة: لقد اختار الله لهم بقعة معينة يستطيعون أن يعيشوا فيها في راحة وأمان، وفهمت بناء على ذلك أن الشرائع التي أوصى الله بها إلى موسى لم تكن إلا قانون دولة العبرانيين، وبالتالي لا يمكن فرضها على أي شعب سواهم، بل إن العبرانيين أنفسهم لم يخضعوا لها إلا في أثناء قيام دولتهم. ولكي أعرف إن كان الكتاب المقدس يسمح بتأييد الرأي القائل بأن العقل الإنساني فاسد بالطبع فقد أردت بعد ذلك أن أبحث الدين الشامل،
11
أي القانون الإلهي الذي أوحي به إلى الجنس البشري كله بوساطة الأنبياء والحواريين، وهل يختلف هذا الدين الشامل عن الدين الذي يتعلمه الناس بالنور الفطري، وكذلك تساءلت عما إذا كانت المعجزات قد حدثت مناقضة لنظام الطبيعة وهل تثبت وجود الله وعنايته
12
بيقين ووضوح يزيد عما تثبتها به معرفتنا الواضحة والمتميزة للأشياء من خلال عللها الأولى. ولم أجد فيما يعلنه الكتاب صراحة شيئا يخالف العقل أو يناقضه، ووجدت أن التعاليم التي أتى بها الأنبياء سهلة للغاية يسهل على الجميع إدراكها، وكل ما في الأمر أن هذه التعاليم قد عرضت بأسلوب شاعري واستندت إلى أقدر الحجج على حض عامة الناس على طاعة الله. وبناء على ذلك، فقد اقتنعت اقتناعا جازما بأن الكتاب يترك للعقل حريته الكاملة، وبأنه لا يشترك مع الفلسفة في شيء، بل إن لكل منهما ميدانه الخاص.
ولكي أبرهن على هذا الرأي بدقة وأوضحه إيضاحا تاما، أعرض الآن المنهج الذي يجب اتباعه في تفسير الكتاب، وأبين بوجه خاص أنه يجب استخلاص كل التعاليم الخاصة بالجوانب الروحية من الكتاب نفسه دون الالتجاء إلى ما نعرفه بالنور الفطري، ثم أنتقل إلى تحليل الأحكام المسبقة الباطلة عند العامة (الذين ما زالوا أسرى الخرافة والذين يفضلون على الخلود نفسه بقايا الزمن الغابر) التي تجعله يعبد أسفار الكتاب بدلا من أن يقدس كلام الله. بعد ذلك أبين أن الكلام الذي أوحى به الله ليس عددا معينا من الأسفار بل فكرة يسيرة من الأفكار الإلهية أوحي بها للأنبياء، وأعني بها وجوب طاعة الله بروح خالصة، وذلك بممارسة العدل والإحسان، وسأبين أن الكتاب يعلم هذه العقيدة على قدر أفهام ومعتقدات أولئك الذين اعتاد الأنبياء والحواريون تبشيرهم بكلام الله، وهو تحوط كان ضروريا من أجل ضمان إيمان الناس جميعا دون مقاومة أو تحفظ. وبعد أن أقمت على هذا النحو أسس الإيمان، أبين أن المعرفة الموحى بها لا تتناول إلا جانب الطاعة، وبذلك تتميز تميزا تاما عن المعرفة الطبيعية من حيث موضوعها ومن حيث مبادئها ووسائلها. ولما كانت هاتان المعرفتان لا تشتركان في شيء، فلكل منهما أن تعمل في ميدانها دون أدنى تعارض ودون أن تخضع إحداهما للأخرى. ولما كان الناس مختلفين في تكوينهم الذهني فيؤمن أحدهم بمعتقدات لا يؤمن بها الآخر، ويحترم أحدهم ما يثير ضحك الآخر، فقد انتهيت بالضرورة إلى أنه ينبغي أن تترك لكل فرد حرية الحكم وحقه في تفسير الإيمان كما يفهمه، وأن تكون الأعمال وحدها مقياس إيمان كل فرد باتفاقها أو اختلافها مع التقوى. وهكذا، يستطيع الجميع إطاعة الله بحرية ورضى ولا يحرصون جميعا إلا على العدل والإحسان، وبعد أن بينت أن القانون الإلهي يمنح هذه الحرية لجميع الناس أنتقل إلى الشق الثاني من الموضوع، وهو أنه يمكن، بل يجب، إعطاء الحرية لجميع الناس دون أن تتعرض سلامة الدولة ويلحق بها ضرر بالغ. وللبرهنة على ذلك أبدأ بالحق الطبيعي
13
للفرد. هذا الحق ليس له من حد سوى رغبة الفرد وقدرته؛ فالحق الطبيعي لا يحتم على أي شخص أن يعيش على هوى الآخر، بل إن كل فرد هو الضامن لحريته الخاصة، كما أبين أنه لا يمكن لأحد أن يتخلى عن هذا الحق إلا من يفوض لفرد آخر قدرته على الدفاع عن نفسه، بحيث يكون صاحب الحق الطبيعي المطلق هو بالضرورة من فوض إليه الجميع قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم وحقهم في أن يحيوا كما يشاءون، وبذلك أبرهن على أن لممثلي السلطة العليا في الدولة الحق في القيام بكل ما تسمح به طاقتهم، وهم المسئولون وحدهم عن الحق وعن الحرية، وعلى الآخرين تنفيذ أوامرهم. ولكنه لما كان كل فرد لا يستطيع أن يتنازل عن قدرته في الدفاع عن نفسه إلى الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، فإني أستدل من ذلك على أنه لا يمكن لأي فرد أن يفقد حقه الطبيعي بأكمله، وعلى أن الرعايا يحتفظون بحقوق معينة هي أشبه ما تكون بامتيازات طبيعية لا يمكن أن تسلب منهم إلا بتعريض الدولة لخطر شديد؛ وعلى ذلك فإما أن يسلم لهم بهذه الحقوق ضمنا، أو باتفاق صريح مع القائمين بالحكم. وبعد الانتهاء من هذه المسائل أنتقل إلى جمهورية العبرانيين فأتحدث عنهم بالتفصيل مبينا لم أخذ الدين فيها قوة القانون، ومن هم الذين تم على يديهم ذلك، وأذكر أيضا تفصيلات أخرى تستحق أن تعرف؛ وسأبرهن في النهاية على أن ممثلي السلطة الحاكمة ليسوا هم الأمناء على القانون المدني
14
ومفسريه فحسب بل هم الأمناء أيضا على القانون المقدس ومفسروه، ولهم وحدهم الحق في التمييز بين العدل والظلم، وبين التقوى والفسوق، والنتيجة التي أنتهي إليها هي أنه، لكي تحتفظ الدولة بهذا الحق على أحسن وجه وتضمن سلامتها، يجب أن يكون كل فرد حرا في أن يفكر فيما يريد وأن يعبر عن تفكيره.
قارئي الفيلسوف! هذا هو الكتاب الذي أضعه بين يديك، وإن أهمية موضوعه وفوائده العملية؛ سواء نظر إليه في مجموعه أم في كل فصل من فصوله، لتجعلني على يقين تام من أنه لن يجد لديك قبولا سيئا. وقد كنت أود أن أضيف أشياء أخرى، ولكني لا أريد أن تطول مقدمتي وتصبح كتابا، هذا فضلا عن أنني أعتقد أن الفلاسفة يعرفون بالتفصيل أهم ما في هذا الموضوع. أما غير الفلاسفة فإني أنصحهم بألا يقرءوا رسالتي هذه لأني لا أرى سببا يجعلني آمل أن يحظى الكتاب بقبولهم. والواقع أني أعلم مدى تشبع نفوسهم بالأحكام المسبقة التي يعتنقها كثير من الناس باسم التقوى، كما أعلم أنه يستحيل تخليص النفوس العامة من الخرافة ومن الخوف، فالعناد شيمتهم، إذ لا يحكمهم العقل بل يسيرهم الانفعال في إصدار المدح أو اللوم؛ لذلك، فإني لا أدعو العامة أو من يسيرون على هوى انفعالاتهم إلى قراءة هذا الكتاب. وإنه لأفضل لي أن يتجاهلوه تماما، من أن يؤولوه تأويلا خاطئا كعادتهم دائما؛ ذلك لأنهم لن يستفيدوا منه، بل سيجدون فيه وسيلة لإيقاع الشر وللإساءة إلى بعض الفلاسفة الأحرار الذين لا يعتقدون بوجوب وضع العقل في خدمة اللاهوت، فلهؤلاء الأخيرين وحدهم أعتقد أن كتابي سيكون مفيدا.
ونظرا إلى أنه ربما لا يكون لبعض قرائي الوقت أو الرغبة في قراءة الكتاب كله، فإني أعلن في هذه المقدمة - كما سأعلن أيضا في نهاية الرسالة - أني أضع عن طيب خاطر كل ما كتبت أمام السلطات العليا
15
في وطني لكي تفحصه وتصدر حكمها عليه، فإذا رأت أني قلت شيئا مناقضا لقوانين وطني أو للمصلحة العامة فإني أسحب ما قلته، وأنا أعلم تماما أني بشر وأني معرض للخطأ، ولكني على الأقل حاولت بكل جهدي ألا أقع في الخطأ، وألا أكتب شيئا لا يتفق اتفاقا تاما مع قوانين وطني، ومع التقوى والأخلاق الحميدة.
الفصل الأول
النبوة
النبوة أو الوحي هي المعرفة اليقينية التي يوحي الله بها إلى البشر عن شيء ما، والنبي هو مفسر ما يوحي الله به لأمثاله من الناس الذين لا يقدرون على الحصول على معرفة يقينية به، ولا يملكون إلا إدراكه بالإيمان وحده، ويسمي العبرانيون النبي «نبيا»
1 ⋆
أي خطيبا أو مفسرا، ويستعمل في الكتاب بمعنى مفسر الله كما هو واضح في الإصحاح 7 الآية 1 من سفر الخروج. يقول الله لموسى: «انظر قد جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك.» وكأنه يقول: لما كان هارون بتفسيره كلام موسى لفرعون يقوم بدور النبي ، تكون أنت (يا موسى) كإله فرعون أي من يقوم بدور الله .
وسنتناول موضوع الأنبياء في الفصل القادم، ولنبدأ هنا بفحص النبوة: ينتج من التعريف الذي قدمناه من قبل أن النبوة تتطابق تماما مع المعرفة الفطرية؛ لأن ما تعرفه بالنور الفطري يعتمد على معرفة الله وحدها وعلى أوامره الأزلية.
2
ولما كانت هذه المعرفة مشتركة بين الناس لأنها تعتمد على مبادئ يعتنقها الجميع، فإنها لا تمثل أية أهمية للعامي الذي يولع بالنوادر والعجائب، ويحتقر كل هبة فطرية ويعتقد أنه يستبعدها حين يتحدث عن المعرفة النبوية، ومع ذلك فإن للمعرفة الفطرية الحق نفسه الذي يكون لأية معرفة أخرى في أن تسمى معرفة إلهية؛ لأنها أثر من آثار الطبيعة الإلهية، بقدر ما نشارك فيها، وأثر أيضا من آثار الأوامر الإلهية. هذه المعرفة الطبيعية لا تختلف عن تلك التي يتفق الجميع على تسميتها بالمعرفة الإلهية إلا في نقطة واحدة هي أن هذه المعرفة الإلهية تتعدى حدود المعرفة الفطرية، ولا يمكن تفسيرها بقوانين الطبيعة الإنسانية من حيث هي كذلك، ولكن المعرفة الفطرية لا تقل مطلقا عن المعرفة النبوية من حيث يقينها الذي تتميز به،
3
ومن حيث مصدرها الذي تصدر عنه (وهو الله) إلا إذا شئنا أن نظن أو بالأحرى أن نحلم (ونتخيل) أن للأنبياء بدنا إنسانيا، وليست لهم روح إنسانية،
4
بحيث تختلف إحساساتهم ومشاعرهم في طبيعتها عن إحساساتنا ومشاعرنا.
ومع أن المعرفة الفطرية معرفة إلهية بمعنى الكلمة، فإننا لا يمكن أن نسمي من يقومون بنشرها أنبياء، إذ يستطيع كل فرد أن يدرك تعاليم المعرفة الفطرية ويفهمها باليقين نفسه، دون الاعتماد على الإيمان وحده.
5 ⋆
لذلك، لما كان ذهننا قادرا على تكوين بعض الأفكار التي توضح طبيعة الأشياء والتي توجهنا في الحياة العملية، لا لشيء إلا لأنه ينطوي موضوعيا على طبيعة الله ويشارك فيها، فمن حقنا أن نسلم بأن السبب الأول لكل وحي يرجع إلى طبيعة الذهن الإنساني منظورا إليه على أنه قادر على المعرفة الفطرية. وكما قلنا من قبل، فإن كل ما نعرفه بوضوح وتميز تمليه علينا فكرة الله وطبيعته لا بالأقوال، ولكن بوسيلة أرفع من ذلك بكثير ، متفقة تماما مع طبيعة ذهننا، ومن ذاق اليقين العقلي الكامل
6
يعرف تماما ماذا أقصد. ولكن لما كان موضوعي الأساسي هو الحديث عن الكتاب المقدس وحده، فلن أفيض في شرح النور الفطري بل سأنتقل إلى الحديث بمزيد من الإسهاب والوسائل الأخرى التي يتبعها الله في الكشف للناس عما يتجاوز حدود المعرفة الفطرية، وربما لا يتجاوزها (إذ ليس هناك ما يمنع من أن يتبع الله طرقا مختلفة لتبليغ الناس بما يعرفونه من قبل بالنور الفطري).
ومهما يكن من شيء، فإننا يجب أن نستخلص هذه الأسباب والوسائل من الكتاب المقدس وحده، فكيف يمكننا الحديث عما يتعدى حدود ذهننا دون الرجوع إلى ما نقله الأنبياء لنا شفاها أو كتابة؟ ولما كان ظهور الأنبياء في أيامنا هذه قد انقطع - على ما أعلم - فلنكتف بفحص الكتب المقدسة التي تركها الأنبياء السابقون دون أن نتقول شيئا يتعلق بهذا الموضوع أو ننسب إلى الأنبياء شيئا لم يقولوه هم أنفسهم بوضوح تام. ومع ذلك، يجب أن ننوه هنا بأن اليهود لم يذكروا مطلقا العلل المتوسطة، أي العلل الجزئية بل أهملوها تماما مفوضين كل شيء إلى الله بدافع من ورعهم الديني أو كما نقول عادة بدافع من تدينهم الشديد،
7
فمثلا إذا حققوا ربحا من بعض الأعمال يقولون: إن الله قد أعطاهم المال، وإذا رغبوا في شيء ما يقولون: إن الله هيأ قلوبهم على نحو ما، وإذا خطر ببالهم شيء يقولون: إن الله قد تحدث إليهم بهذا؛ لذلك، يجب ألا نعتقد عندما نقرأ في الكتاب عبارة قال الله إن هناك نبوة أو معرفة تعلو على الطبيعة إلا عندما يؤكد الكتاب ذلك بصريح العبارة، أو عندما تؤكد ظروف الرواية أن نبوة أو وحيا قد حدث بالفعل.
وعندما نفحص الكتب المقدسة نجد أن الله قد أوحى للأنبياء بالكلام أو بالمظاهر الحسية أو بالطريقتين معا، وفي بعض الأحيان يكون الكلام والمظهر الحسي حادثا بالفعل، لم يتخيله النبي لحظة سماعه أو رؤيته، وأحيانا أخرى يكون مجرد خيالات، بحيث تكون مخيلة النبي مهيأة، حتى وهو في اليقظة، على نحو يجعله يتخيل أنه يسمع صوتا أو يرى شيئا بوضوح.
مثال ذلك أن الله قد أوحى لموسى الشرائع التي سنها للعبرانيين بصوت حقيقي، ويخبرنا سفر الخروج بذلك (25: 22): «فأجتمع بك هناك، وأخاطبك من فوق الغشاء من بين الكروبيين.»
8
فهذا يدل على أن الله استخدم صوتا حقيقيا، بدليل أن موسى كلما أراد أن يتحدث الله إليه وجده مجيبا لرغبته. ولكن، باستثناء هذا الصوت الذي أبلغ الشريعة، لم يسمع أي نبي كان - كما سأبين فيما بعد - أي صوت حقيقي آخر.
وربما كنت أجد نفسي ميالا إلى اعتبار صوت الله الذي ينادي به صموئيل في الكتاب حقيقيا لأننا نقرأ في صموئيل
9 (الأول، 3: الآية الأخيرة): «وعاد الرب يتراءى في شيلو لأن الرب تجلى لصموئيل في شيلو بكلمة الرب.» والواقع أن النص يبدو كما لو كان يشير إلى أن حضور الله هو ظهوره بكلمة أو بسماع صموئيل لله وهو يتكلم. ومع ذلك، لما كان من الضروري ضرورة مطلقة أن نفرق بين نبوة موسى ونبوة غيره من الأنبياء، فإننا مضطرون إلى أن نؤكد أن الصوت الذي سمعه صموئيل كان من صنع الخيال، فضلا عن أن الصوت كانت له نبرة صوت عالي
10
الذي كان صموئيل يسمعه عادة، ومن ثم كان يسهل عليه تخيله. ولما ناداه الله ثلاث مرات ظن أنه سمع عالي. على أية حال كان الصوت الذي سمعه أبيملك
11
من صنع الخيال لأننا نقرأ (التكوين، 20: 6): «فقال الله له في الحلم ... إلخ.» فهو إذن لم يكن يقظا بل نائما (أي في حالة يميل فيها الخيال بطبيعته إلى خلق أشياء لا وجود لها) عندما استطاع أن يتخيل إرادة الله.
بل إن بعض اليهود يرون أن الله لم ينطق بألفاظ الوصايا العشر حرفيا، ويعتقدون أن الإسرائيليين سمعوا مجرد ضوضاء عالية لا تتميز فيها الكلمات، وخلال هذه الضوضاء أدركوا بالفكر الخالص الوصايا العشر. ولقد كنت أنا شخصيا أميل إلى هذا الرأي بعد أن لحظت أن نص الوصايا العشر يختلف في سفر الخروج عنه في سفر التثنية، فبدا لي بناء على ذلك (نظرا إلى أن الله لم يتكلم إلا مرة واحدة) أن الوصايا العشر لا تنقل إلينا كلمات الله بعينها، بل تعبر عن معناها فحسب، ومع ذلك إذا لم نشأ تحريف الكتاب يجب أن نسلم، على أية حال، بأن الإسرائيليين قد سمعوا صوتا حقيقيا، فنحن نقرأ صراحة (التثنية، 5: 4): «وجها لوجه تكلم إليكم الرب.» أي كما تنتقل الأفكار من شخص لآخر بتوسط بدنهما،
12
فلكي نكون أكثر اتفاقا مع الكتاب نقول: إن الله قد خلق صوتا حقيقيا ليوحي من خلاله بالوصايا العشر، أما سبب اختلاف الكلمات وطريقة العرض من سفر لآخر فذلك مذكور في الفصل الثامن. ومع ذلك، فإن الحل الذي أقترحه لا يحل جميع جوانب المشكلة، لأنه من غير المعقول أن صوتا مخلوقا يعتمد على الله كأي مخلوق آخر يمكنه أن يعبر باسمه ويبين ماهية الله ووجوده بالوقائع أو بالكلام ويقول بضمير المتكلم: أنا ياهو ربكم. والحقيقة أنه لو نطق إنسان بفهمه وقال لقد فهمت؛ فلن يظن أحد أن الفهم قد فهم، بل إن الذي فهم هو ذهن الإنسان الذي يتكلم. ولما كان الفهم جزءا من طبيعة الإنسان، وكان الإنسان الذي تتوجه إليه هذه الكلمات يدرك طبيعة الذهن فإنه يفهم قياسا على نفسه فكر من يستمع إليه. ولكن، لما كان العبرانيون لا يعلمون من الله، حتى ذلك الحين إلا اسمه، ويريدون الحديث إليه حتى يتأكدوا من وجوده، فإني لا أعلم كيف يتم تحقيق مطلبهم بصوت مخلوق يقول: أنا الله (إذ لا تختلف علاقة هذا الصوت بالله عن علاقة المخلوقات الأخرى به، وهو «أي الصوت» لا يكون جزءا من طبيعته). وإني أتساءل حقا: لنفرض أن الله قد حرك شفتي موسى - ولماذا أقول موسى؟ لنفرض أنه حرك شفتي حيوان ما على نحو يجعلها تعبر عن الكلمات: «أنا الله» وتنطق بها، فهل يكونون قد عرفوا الله بهذه الطريقة؟ وفضلا عن ذلك، يبدو أن الكتاب ينص صراحة على أن الله قد تحدث بنفسه (بعد أن نزل من السماء لهذا الغرض على جبل سيناء، وأن اليهود لم يقتصروا على سماعه، بل رآه كبارهم أيضا، انظر الخروج: 24).
13
هذا بالإضافة إلى أن الشريعة التي أوحي بها إلى موسى، هذه الشريعة التي لا تقع تحت الحس، والتي وضعت كتشريع وطني دون إضافة أو حذف، لم تنص على الاعتقاد بأن الله بلا جسم أو هيئة أو صورة تتخيلها، بل توحي فقط بالاعتقاد في وجود إله جدير بالثقة وتجب عبادته وحده. وإذا كانت تنهانا عن أن نتخيل أية صورة له أو نتصوره على أية هيئة، فما ذاك إلا لكيلا نحيد عن عبادته. والواقع أن اليهود لم يروا صورة الله؛ لذلك لم يستطيعوا تمثله في أية صورة، إذ لو كانوا قد فعلوا ذلك لاختاروا بالضرورة مخلوقا مألوفا لديهم بدل الله. وعلى ذلك، فلو كانوا قد عبدوا الله من خلال هذه الصورة لما عبدوه، بل لعبدوا المخلوق الذي تمثله الصورة ولقدموا له الشعائر وفروض التكريم، ولكن الكتاب يشير صراحة إلى صورة مرئية لله، فلقد رآه موسى عندما سمع الله يخاطبه، ولكنه لم يستطع إلا أن يراه من ظهره، ولا شك في أن هذا الأمر ينطوي على سر سنتحدث عنه طويلا فيما بعد. أما الآن، فسوف أواصل تحليل فقرات الكتاب التي تشير إلى الطرق التي كشف بها الله عن أوامره.
يشير سفر أخبار الأيام الأول (الإصحاح 21) إلى حدوث الوحي عن طريق الصور الحسية وحدها حيث يكشف الله عن غضبه على داود فيريه ملاكا قابضا سيفا بيده،
14
وقد حدث ذلك أيضا لبلعام،
15
صحيح أن ابن ميمون
16
وآخرين يرون أن هذه القصة ليست إلا مجرد حلم (وكذلك كل القصص التي تروي ظهور ملك، مثل قصة مانويه
17
وقصة إبراهيم عندما رأى في منامه أنه يذبح ابنه
18 ... إلخ). وينكرون أن يكون أي إنسان قد استطاع رؤية ملك بعينين مفتوحتين، ولكن هذا الرأي مجرد ثرثرة، لقد كان همهم تأويل الكتاب ليستخلصوا منه ترهات أرسطو وتخيلاتهم الخاصة، وهي في رأيي أكثر المحاولات مدعاة للسخرية. وفي مقابل ذلك، فإن الله أوحى ليوسف نصره المؤزر مستقبلا، لا عن طريق صور حقيقية، بل بصور من مخيلة النبي نفسه،
19
وأوحي ليوشع بالكلام وبالصور أنه سيحارب مع الإسرائيليين، وأراه ملاكا شاهرا سيفا على رأس الجيش، ونطق الملاك ببعض الكلمات ليؤكد ليوشع هذا الخبر.
20
وقد علم أشعيا (كما سنعرض لذلك في الفصل السادس) من خلال بعض الصور الحسية أن عناية الله قد تخلت عن الشعب، فخيل إليه أنه رأى الله في قدسيته مستويا على عرش عال للغاية، ورأى الإسرائيليين ملطخين بوحل خطاياهم وغارقين في روث البهائم؛ أي أنهم بعيدون عن الله بعدا شديدا.
21
حينئذ فهم الحالة المشينة التي كان الشعب مترديا فيها، وأوحيت إليه المصائب المستقبلة بكلام ظن أن الله قد نطق به، ويمكنني أن أضيف أمثلة أخرى كثيرة مشابهة من الكتب المقدسة، ولكنها معروفة للجميع.
وهناك نص من سفر العدد (12: 6-9) يؤكد صراحة ما قلته. يقول النص: «إن يكن فيكم نبي للرب فبالرؤيا أتعرف له (أي بمظاهر حسية ورموز يمكن حلها في حين كانت رؤية موسى دون رموز) في حلم أخاطبه (أي إنه لن يسمع الكلام بصوت حقيقي) وأما عبدي موسى فليس هكذا ... فما إلى فم أخاطبه وعيانا لا بألغاز وشبه الرب يعاين.»
22
أي أنه يتحدث إلي معتبرا إياي رفيقا دون أية رهبة، كما يتضح ذلك من سفر الخروج (33: 11).
23
نحن على يقين إذن أن أي نبي، باستثناء موسى، لم يسمع صوتا حقيقيا، وهذا ما يؤكده أيضا سفر التثنية (34: 10) بمزيد من الوضوح حيث يقول: «ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل كموسى الذي عرف الرب وجها لوجه.» والمقصود من ذلك أنه سمع صوت الله فقط؛ لأن موسى ذاته لم ير وجه الله مطلقا (الخروج، 33).
24
ولا أجد في الكتاب المقدس أن الله يتصل بالبشر بطرق أخرى سوى هذين الطريقين. فلا ينبغي إذن أن نختلق أمثال هذه الطرق (كما أثبتنا الآن) أو أن نتصور طرقا أخرى. صحيح أننا نعلم حقا أن في قدرة الله أن يتصل بالبشر مباشرة دون اللجوء إلى وسائل مادية من أي نوع، فهو يوحي بماهيته إلى روحنا. ومع ذلك، فلكي يدرك الإنسان بالروح وحده أشياء ليست متضمنة في الأسس الأولى لمعرفتنا ولا يمكن استنباطها منها، يجب أن تكون روحه بالضرورة أعلى من الروح الإنساني وتفوقه في الكمال. ولا أعتقد أن شخصا ما استطاع أن يصل دون الآخرين إلى هذا الكمال، إلا بالمسيح
25
الذي أوحى الله إليه أوامره، التي تؤدي إلى خلاص البشر، وأوحى بها مباشرة دون توسط بالكلام أو بالرؤية، بحيث كشف الله عن نفسه للحواريين من خلال روح المسيح، كما كشف الله عن نفسه من قبل بصوت خارجي. يمكننا إذن تسمية صوت المسيح صوت الله كالصوت الذي سمعه موسى من قبل، وبهذا المعنى نستطيع أن نقول أيضا بأن حكمة الله، هي حكمة تفوق الحكمة الإنسانية، قد تجسدت في المسيح، وأن المسيح أصبح طريقا للخلاص.
ويجب علي هنا أن أنبه القارئ إلى أنني لن أتحدث مطلقا عن نظرة بعض الكنائس إلى المسيح، لا لأني أنكر ما تثبته، بل لأني لا أفهمها، وأعترف بذلك عن صدق، فلقد وضعت كل تصوراتي السابقة طبقا للكتاب نفسه، ولم أقرأ في أي جزء منه أن الله قد ظهر للمسيح أو خاطبه، بل قرأت أن الله كشف عن نفسه للحواريين بواسطة المسيح وأن المسيح هو طريق الخلاص، وأن الشريعة القديمة قد بلغت عن طريق ملاك دون أن يبلغها الله نفسه مباشرة ... إلخ. فإذا كان موسى قد خاطب الله وجها لوجه كما يخاطب الإنسان إنسانا مثله (أي عن طريق جسديهما) فقد اتصل المسيح بالله مباشرة اتصال الروح بالروح.
والنتيجة التي نصل إليها من ذلك هي أنه، باستثناء المسيح، لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال؛ أي إلى كلام أو إلى صور، وينتج عن ذلك أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا بل خيالا خصبا، كما سأبين ذلك بمزيد من الوضوح في الفصل القادم. والآن، لنبحث ماذا يعني الكتاب المقدس بروح الله التي تهبط على الأنبياء. ولكي أقوم بهذا البحث سأبحث أولا عن معنى الكلمة العبرية «رواه» التي تترجم عادة بلفظ روح.
26
تدل كلمة «رواه» في معناها الأصلي، على الريح كما هو معروف، ولكنها تستعمل أيضا، في كثير من الأحيان، بمعان أخرى مشتقة من المعنى الأول، فتعني مثلا: (1)
نسمة، كما نجد في المزمور 135 (الآية 17): «وليس في أفواههم نسمة.» (2)
نفخ أو تنفس كما نجد في صموئيل (الأول، 30: 12): «وعادت إليه روحه.» أي إنه بدأ في التنفس، وتدل الكلمة أيضا على: (3)
الشجاعة أو القوة، كما نجد في يشوع (2: 11): «ولم يبق في أحد روح.» وكذلك في حزقيال (2: 2): «ودخل في الروح (أي قوة) وأقامني على قدمي.» (4)
ومن هذا المعنى أتى معنى آخر وهو الصفة أو القدرة كما نجد في أيوب (32: 8): «لكن في البشر روحا.» وبعبارة أخرى لا ينبغي أن نبحث عن المعرفة عند الشيوخ فقط لأنها تعتمد على صفة كل فرد وقدرته الخاصة، وكذلك في سفر العدد (26: 18): «فإنه رجل فيه روح.» وكذلك تعني الكلمة: (5)
رأي كما نجد في سفر العدد (14: 24): «فبما أنه كان له روح آخر.» أي رأي آخر أو فكرة أخرى، وكذلك في الأمثال (1: 23): «فإني أفيض عليكم من روحي.» أي فكري. وفي هذه الحالة تستعمل الكلمة أيضا لتفيد معنى الإرادة أي المشيئة أو الرغبة أو الدافع، كما نجد في حزقيال (1: 12): «إلى حيث يوجه الروح السير كانت تسير.» وكذلك في أشعيا (30: 1): «ويبتون عهدا ليس من روحي.»
27
وكذلك (29: 10): «فإن الله قد سكب عليكم روح (أي رغبة) سبات.» وفي القضاة (8: 3): «حينئذ رقت روحهم.» أي هياجهم. وكذلك في الأمثال (16: 32): «والذي يسود على روحه (أي على انفعاله) أفضل ممن يأخذ المدن.» كذلك (25: 28): «الإنسان لا يضبط روحه.» وفي أشعيا (33: 11): «وروحكم نار تأكلكم.» وتستخدم الكلمة نفسها «رواه» بمعنى النفس للتعبير عن جميع انفعالات النفس، بل مواهب الإنسان. فمثلا «الروح العالية» تفيد الغرور، «والروح الهابطة» تفيد التواضع، «والروح الشريرة» تفيد الكراهية والسوداوية، «والروح الطيبة» تفيد الطيبة، وهناك أيضا «روح الغيرة» أو شهوة (رغبة) الجماع. وفي اللغة العبرية التي يشيع فيها استعمال المصدر كصفة تعني روح الحكمة أو روح الفطنة أو روح الشجاعة الحكيم أو الفطن أو القوي «أو الحكمة أو الفطنة أو القوة»
28
وتعني روح اللطف ... إلخ. وتعني الكلمة أيضا: (6)
الفكر نفسه أو روح الإنسان (أو نفسه) كما نجد في الجامعة (3: 19): «ولكليهما روح واحد (أو نفس واحدة).» أو (12: 7): «وتعود الروح إلى الله.» (7)
وأخيرا تعني الروح جهات العالم (بسبب الرياح التي تهب منها) أو جوانب شيء ما يطل على هذه الجهات من العالم، كما نجد في (حزقيال، 37: 9؛ 42: 16-19).
29
ونلاحظ أيضا أن كل شيء يتعلق بالله يسمى إلهيا لأنه: (1)
يتعلق بطبيعته ويعتبر كأنه جزء من الله كما نقول: قدرة الله، عينا الله. (2)
يكون في قدرة الله أو يخضع لفعل الله، وبهذا المعنى تسمى السموات في الكتب المقدسة سموات الله؛ لأنها مطية الله ومقره، وسميت آشور سوط الله ونبوخذ نصر
30
خادم الله ... إلخ. (3)
يوهب لله مثلا: معبد الله، قربان الله، خبز الله. (4)
ينقله الأنبياء دون أن يتكشف للنور الفطري، فمثلا يطلق على شريعة موسى شريعة الله. (5)
يعبر عن أعلى الدرجات مثال «جبال الله» أي الجبال الشاهقة، سبات الله أي سبات عميق للغاية، وبهذا المعنى يفسر عاموس (4: 11) عندما يتحدث الله عن نفسه ويقول: «فقلبتكم كما قلب الله سدوم وعمورة.»
31
أي تذكروا هذا التدمير الذي لا ينسى، ولا يمكن قبول أي تفسير آخر ما دام الله يتحدث بنفسه، وكذلك سمي العلم الفطري لدى سليمان علم الله؛ أي علما إلهيا أعلى من العلم الشائع، وكذلك نقرأ في المزامير «أرزات الله» بمعنى الأرزات الضخمة للغاية، ونقرأ في صموئيل (الأول، 11: 7) للتعبير عن الرعب الشديد: «فوقع رعب الرب على الشعب.» وبهذا المعنى تعود اليهود أن ينسبوا إلى الله ما كان يتعدى فهمهم ويجهلون أسبابه الطبيعية في ذلك العصر، فالعاصفة «غضب الله»، والرعد والصاعقة سهام الله. ويعتقد أن الله يحبس الرياح في كهوف يسمونها غرفة كنز الله، ويختلفون في هذا الصدد عن الوثنيين؛ لأنهم يجعلون الله وليس أيول
32
مسير الرياح، وللسبب نفسه سميت المعجزات أفعال الله أي أفعالا تثير الدهشة، ذلك أن كل الأشياء الطبيعية أفعال الله، وهي لا تحدث أو تؤثر إلا بقدرة الله وحدها. وهذا ما أراد كاتب المزامير أن يعبر عنه عندما سمى معجزات مصر قدرات الله؛ لأن هذه المعجزات فتحت للعبرانيين، وهم على شفا خطر داهم، طريقا للخلاص لم يكونوا يأملون فيه، فأثارت إعجابهم الشديد. فإذا قيل عن أعمال الطبيعة الخارقة للعادة إنها أعمال الله وإذا قيل عن الأشجار الطويلة التي تزيد في طولها عن المعتاد أنها أشجار الله، فليس هناك ما يدعو للدهشة عندما يسمى الرجال الطوال الأقوياء في سفر التكوين أبناء الله، حتى ولو كانوا قطاع طرق وفسقة كفارا. وقد كان من عادة القدماء بوجه عام أن ينسبوا إلى الله كل ما يتفوق فيه إنسان على الآخرين، لا فرق في ذلك بين يهود ووثنيين. فقد قال فرعون، مثلا، بعد سماع تفسير رؤياه: كان فكر الآلهة في يوسف. وقال نبوخذ نصر لدانيال إن الآلهة المقدسة قد وهبته فكرها، بل إن هذه الطريقة في التعبير شائعة حتى عند اللاتينيين، فعندهم أن الشيء المصنوع بمهارة فائقة صاغته يد إلهية. فإذا أردنا ترجمة هذا التعبير إلى العبرية فيجب أن نقول: صاغته يد الله كما يعرف علماء اللغة العبرية.
وهكذا يسهل علينا تفسير كل نصوص الكتاب التي يرد فيها ذكر روح الله، فعبارة روح الله أو يهوه لا تعني، في بعض النصوص إلا ريحا قوية جافة عاتية كما نجد في أشعيا (40: 8): «لأن روح الرب هب فيه.» أي ريح مدمرة، وكذلك في سفر التكوين (1: 2): «وريح الله (أي ريح قوية للغاية) يرف على وجه المياه.» وكذلك تعني كلمة «روح» شجاعة فائقة، فالكتاب المقدس يصف شجاعة جدعون،
33
وشجاعة شمشمون
34 «بروح الله» أي شجاعة تفوق كل امتحان. كذلك توصف كل صفة أو قوة تفوق المعتاد بأنها «روح الله أو صفة الله». فمثلا في سفر الخروج (31: 3): «وملأته (بصلائيل)
35
من روح الله.» أي بعقل ومهارة فوق المعتاد، كما يبين ذلك الكتاب نفسه. وكذلك في أشعيا (11: 2): «ويستقر عليه روح الرب.» وهذا يعني كما سيشرحه النبي ذاته - بعد ذلك بقليل - بلغة التصوير المألوفة في الكتاب، فضيلة الحكمة والفطنة والشجاعة ... إلخ. كما وصف حزن شاءول
36
بأنه «روح الله الخبيثة» أي حزن شديد. والواقع أن عبيد شاءول الذين سموا حزنه حزن الله قد نصحوه باستدعاء موسيقى بجواره ليروح عن نفسه بالغناء على الناي، وهذا يدل على أنهم كانوا يعنون بحزن الله حزنا طبيعيا. ويطلق تعبير روح الله أيضا على نفس الإنسان كما نجد في أيوب (3: 27): «روح الله في أنفي.» إشارة إلى نص في سفري التكوين يقول: إن الله قد نفخ بنفس الحياة في أنف الإنسان. وكذلك يقول حزقيال متنبئا للأموات (37: 14): «واجعل روحي فيكم فتحيون.» أي سأعطيكم حياة جديدة. وفي المعنى نفسه يقول أيوب (34: 14): «إنه لو أراد (أي لو أراد الله) لاستضم إليه روحه ونسمته (أي النفس التي أعطانا).» كذلك فإن نص سفر التكوين (6: 3): «لا تحل روحي مع الإنسان (أو تميز) أبدا لأنه جسد.» يجب تفسيره على النحو الآتي: من الآن سيسلك الإنسان وفقا لمقتضيات الجسد لا تبعا للذهن الذي وهبته إياه ليميز بين الخير والشر. ونقرأ أيضا في المزمور (51: 12-13): «قلبا طاهرا اخلق في يا الله وروحا مستقيما جدد في داخلي (أي رغبة معتدلة) ولا تطرحني من أمام وجهك ولا تنزع مني روحك القدوس.» إذ كان العبرانيون يعتقدون أن جميع الخطايا تأتي حقيقة من البدن، على حين أن النفس تأمر بالخير فحسب؛ لذلك، يطلب كاتب المزمور من الله أن يخلصه من شهوة الجسد، ويكتفي بالدعاء حتى يحفظ الله القدوس له نفسه التي وهبها إياه. ولما كانت عادة الكتاب إعطاء الله صورة الإنسان، وذلك لضعف مستوى التفكير عند العامة، كما اعتاد أن ينسب له نفسا وحساسية وانفعالات، بل وينسب إليه بدنا ونفسا، فإن عبارة روح الله (في الكتب المقدسة) تدل دائما على النفس، أي على القلب والانفعال أو القوة أو النفس من فم الله. وهكذا يتساءل أشعيا (40: 13): «ومن أرشد روح الرب؟» (أي نفسه) ومعناها: من سوى الله يدفع نفس الله لأن ترغب شيئا؟ وكذلك الحال في (63: 10): «لكنهم تمردوا وحزنوا روحه القدوس.» وقد ترتب على ذلك استعمال عبارة روح الله للدلالة على شريعة موسى؛ لأن هذه الشريعة تعبر عن فكر الله. فمثلا، نقرأ في أشعيا (الإصحاح نفسه: 11): «أين الذي جعل في داخله روحه القدوس.» أي شريعة موسى، كما يفهم بوضوح من السياق، كذلك نقرأ في نحميا (9: 20): «وآتيتهم روحك الصالح (أي نفسك) ليعلمهم.» فهنا يذكرهم نحميا بعصر الشريعة، ويشير إلى نص من سفر التثنية (4: 6) يقول فيه موسى: «لأنها (أي الشريعة) حكمتكم وفهمكم ... إلخ.» كذلك نجد في المزمور (143: 10): «إن روحك صالح فهو يهديني في أرض الاستقامة.» أي إن فكرك الذي أوحيت به إلينا سيقودنا إلى الطريق المستقيم. وفضلا عن ذلك تعني روح الله، كما قلنا من قبل، النفس، وهو ما ينسبه الكتاب لله. ومع أن هذا لا يليق به، كما ينسب إليه أيضا النفس والحساسية والبدن (انظر: المزمور، 33: 6)،
37
ويعني اللفظ أيضا قدرة الله أو صفته كما هو الحال في أيوب (33: 4): «روح الله هو الذي صنعني.» أي قدرته وصفته، أو إن شئنا قلنا أوامره، لأن كاتب المزمور يقول أيضا بأسلوبه الشعري: «بكلمة الرب رفعت السموات وبروح (أي بنفس من فمه) فيه كل جنودها (أي مشيئته التي تنطق بها في نفس واحد).» وبالمثل نجد في المزمور (139: 7): «أين أذهب من روحك، وأين أفر من وجهك.» وهذا يعني حسب الإيضاحات التي نجدها بعد ذلك عند كاتب المزمور نفسه، أين يمكنني الهرب بعيدا عن قدرتك وحضورك. وأخيرا يستعمل روح الله في الكتاب المقدس للتعبير عن مشاعر الله، أي اللطف والرحمة، فمثلا في ميخا (2: 7) هل قصر روح الرب؟ (أي رحمته) أهذه أعماله؟ (المشئومة) وكذلك في زكريا (4: 6): «لا بالجيش ولا بالقوة ولكن بروحي (أي برحمتي) وحدها.» وأعتقد أن الآية 12 من الإصحاح 7 عند نفس النبي تفيد بالمعنى نفسه: «وجعلوا قلوبهم كالسامور لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الله بروحه (أي رحمته) على ألسنة الأنبياء الأولين.» وكذلك يقول حجاي (2: 5)
38
تظل روحي (أي نعمتي) بينكم، لا تخافوا. أما في نص أشعيا (48: 16): «والآن أرسلني هو وروحه.» فإن لفظ الروح يفيد هنا إما معنى لطف الله ورحمته، وإما فكر الله الذي أوحى به في الشريعة لأن النبي يقول: إني من الأول (أي أول مرة أتيت فيها إليكم لأخبركم بغضب الله وحكمه ضدكم) لم أتكلم في خفية، أنا من قبل أن يحدث الأمر كنت هناك (وقد أثبت ذلك أيضا في الإصحاح 7): «ولكن الآن رسول السعادة أرسلتني رحمة الله إليكم لأتغنى باستقراركم.» ويمكننا أيضا كما قلت من قبل فهم الروح على أنه الفكر الذي أوحى به الله في الشريعة، بمعنى أن الرسول أتى ليحذر العبرانيين طبقا لأوامر الشريعة التي أعلنها سفر الأحبار (19: 17)
39
ويكون بذلك قد حذرهم في الظروف نفسها وبالطريقة نفسها التي حذرهم بها موسى. وفي النهاية تنبأ لهم أيضا بالاستقرار كما فعل موسى، ولكني شخصيا أفضل التفسير الأول.
والآن، فلنرجع إلى موضوعنا الأول بعد أن اتضح من هذه الأمثلة معاني هذه العبارات: «كان روح الله في النبي، أنزل الله روحه في البشر، البشر مليء بروح الله أو بالروح القدس ... إلخ.» فهذه العبارات لا تعني سوى أنه كانت للأنبياء فضيلة خاصة فوق المعتاد،
40 ⋆
وأنهم كانوا يثابرون على التقوى دواما، وكانوا بالإضافة إلى ذلك قادرين على إدراك فكر الله أو حكمه. وقد بينا أن (كلمة) روح في العبرية قد تعني الذهن أو حكم الذهن؛ ولهذا السبب استحقت الشريعة نفسها، بمقدار تعبيرها عن الفكر الإلهي، أن تسمى روح الله وفكره. وبالمثل يمكن تسمية خيال الأنبياء، بقدر ما كان يكشف عن الأوامر الإلهية، فكر الله وروحه، ويمكننا القول بأن الأنبياء كان لديهم فكر الله. صحيح أن فكر الله وأحكامه الأبدية مسطورة في أذهاننا، بحيث يدرك كل منا فكر الله (مستعملين لغة الكتاب) ومع ذلك فإن المعرفة الفطرية، نظرا إلى كونها معطاة لكل البشر، لم يكن لها، كما قلنا من قبل، قيمة كبيرة وخاصة عند العبرانيين الذين كانوا يدعون أنهم فوق سائر البشر، وبالتالي اعتادوا احتقار العلم المشترك بين الناس. وأخيرا كان يقال: إن الأنبياء لديهم روح الله لأن العامة تجهل علل المعرفة النبوية وتدهش لها؛ ولهذا السبب اعتادت إرجاعها إلى الله، كما ترجع له كل شيء معجز، وسمتها معرفة الله.
نستطيع أن نؤكد الآن دون تردد أن الأنبياء لم يتلقوا وحيا إلهيا إلا بالاستعانة بالخيال، أي بوساطة كلمات أو صور تكون حقيقية مرة وخيالية مرة أخرى. ونظرا لأننا لم نجد في الكتاب أية وسيلة أخرى غير هذه المعرفة النبوية، فليس من حقنا - كما بينا من قبل - أن نختلق وسائل أخرى. أما فيما يتعلق بقوانين الطبيعة التي صدر هذا الوحي طبقا لها فإني أعترف بأني لا أعلمها، إنني أستطيع أن أقول، كما يقول الآخرون، بأن الوحي قد حدث بقدرة الله، ولكني أعتقد بأن مثل هذا القول لا يعني شيئا؛ لأنه يعني إيضاح صيغة شيء فردي بلفظ متعال.
41
إن كل شيء يصدر بالفعل عن الله، بل إنه لما كانت قدرة الطبيعة هي ذاتها قدرة الله
42
فمن المؤكد أننا بقدر ما نجهل العلل الطبيعية، لن نكون قد فهمنا قدرة الله، فلا يعقل إذن أن نلتجئ إلى قدرة الله عندما نجهل العلة الطبيعية لشيء ما، أي عندما نجهل قدرة الله نفسها، أما علة المعرفة النبوية فلسنا في حاجة إلى معرفتها، فطبقا للملاحظة التي أبديناها من قبل يقتصر بحثنا هنا فقط على تعاليم الكتاب لنستخلص منها نتائجنا، كما نفعل مع المعطيات الطبيعية، دون أن نبحث في علل هذه التعاليم.
43
ولما كان الأنبياء قد أدركوا الوحي الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شك أن كثيرا من تعاليمهم قد تعدت حدود الذهن؛ لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نكون أفكارا تزيد عن تلك التي نكونها بالمبادئ والمفاهيم الذهنية التي تقوم عليها معرفتنا الطبيعية.
وبناء على ذلك، يتبين لنا السبب الذي جعل الأنبياء يدركون تعاليمهم ويعرضونها دائما بلغة الأمثال أو الألغاز، وجعلهم يعبرون عن الحقائق الروحية بطريقة جسمية، فهذه الأساليب هي التي تتفق تماما مع طبيعة الخيال. لن نندهش عندما يستعمل الكتاب أو الأنبياء للتعبير عن الروح، أي عن فكر الله، لغة معيبة غامضة كتلك التي نجدها في سفر العدد (17: 11)،
44
وفي سفر الملوك (الأول، 22: 21)،
45
فلقد رأى ميخا الله مستويا على العرش، ورآه دانيال عجوزا متلفحا بالبياض، ورآه حزقيال نارا، ورأى تلامذة المسيح الروح القدس هابطة في صورة حمامة، ورآها الحواريون في صورة ألسنة من النيران، وأخيرا فقد رأى بولس نورا ساطعا في لحظة تحوله إلى العقيدة. هذه الرؤى تتفق جميعا مع تصورات العامة لله وللأرواح. وأخيرا، فلما كان الخيال مبهما ومتقلبا، لم تبق النبوة دائما ماثلة أمام الأنبياء، ولم تتكرر باستمرار، بل كانت نادرة للغاية، أي إنها لم تعط إلا لعدد قليل من الناس، بل لا تحدث عند هذا العدد القليل إلا نادرا. ولما كان الأمر كذلك فإننا نتساءل: على أي أساس أقام الأنبياء يقينهم في تلك الموضوعات التي يدركونها بالخيال دون ضمان من مبادئ الفكر المؤكدة؟ مهما يكن من شيء فإن كل ما نقترحه في هذا الموضوع يجب أن يكون بدوره صاردا عن الكتاب لأننا - كما قلنا من قبل - لا نعلم عن النبوة علما صحيحا، أي إننا لا نستطيع تفسيرها بالعلل الأولى، وسأبين في الفصل القادم في حديثي عن الأنبياء ماذا يقول الكتاب عن اليقين الذي يعتمدون عليه.
الفصل الثاني
الأنبياء
انتهينا من الفصل السابق - كما أشرنا من قبل - إلى تمتع الأنبياء بقدرة أعظم على الخيال الحي، لا بفكر أكمل،
1
وفي روايات الكتاب المقدس البراهين الكافية على ذلك، فمن المسلم به مثلا أن سليمان لم تكن لديه هبة النبوة، مع أنه فاق سائر البشر في حكمته، وكذلك لم يكن الرجال ذوو العقل الراجح، من أمثال هيمان ودرداع وكلكول
2
أنبياء، في حين أن رجالا جهالا غرباء عن العلم، وكذلك بعض النساء الساذجات مثل هاجر
3
خادمة إبراهيم، كانت لديهم هبة النبوة، وهذا ما يتفق مع التجربة والعقل، فكلما زاد الخيال قل الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذهن الخاص، وعلى العكس من ذلك نجد أن من يتفوقون في الذهن ويحرصون على تنميته تكون قدرتهم على التخيل أكثر اعتدالا وأقل انطلاقا، وكأنها حبيسة حتى لا تختلط بالذهن؛ وعلى ذلك، فإن في البحث عن الحكمة ومعرفة الأشياء الطبيعية والروحية في أسفار الأنبياء ابتعادا عن جادة الصواب؛ لذلك استقر عزمي على تقديم عرض مسهب لهذا الموضوع تبعا لمقتضيات العصر وما تطلبه الفلسفة ويحتمه موضوعي، دون أن ألقي بالا إلى صيحات الخرافة التي تمقت أولا وقبل كل شيء من يمجدون العلم الصحيح والحياة الحقة. لقد وصلت الأمور للأسف إلى حد أن أولئك الذين يعترفون صراحة بأنهم خلو من أي فكرة عن الله، وبأنهم لا يعرفونه إلا عن طريق المخلوقات (التي يجهلون عللها) لا تحمر وجوههم خجلا عندما يتهمون الفلاسفة بالإلحاد.
ولكي أسير في بحثي بترتيب منظم سأبين أولا اختلاف الأنبياء فيما بينهم لا في الخيال والمزاج الجسمي الخاص بكل منهم فحسب، بل أيضا في الآراء التي تشبعوا بها، بعد ذلك سأشرح بإسهاب ما يترتب على ذلك من أن النبوة لا تعطي الأنبياء علما أكثر. ولكن ينبغي قبل ذلك أن أتحدث عن اليقين الخاص بالأنبياء لأنه يتعلق بموضوع هذا الفصل كما يساعد على بيان ما نريد البرهنة عليه.
إن مجرد الخيال لا يتضمن بطبيعته اليقين، على نحو ما تتضمنه كل فكرة واضحة ومتميزة، بل إن من الضروري، للحصول على اليقين، أن نضيف إلى الخيال شيئا ما هو الاستدلال. ويترتب على ذلك أن النبوة لا تتضمن بذاتها اليقين، ما دامت تعتمد، كما بينا، على الخيال وحده، وإذن فالأنبياء لم يكونوا على يقين من الوحي الذي وهبهم الله إياه عن طريق الوحي نفسه، بل اعتمادا على آية (أي علامة) ما. ويتضح ذلك عند إبراهيم (التكوين، 15: 8)
4
عندما طلب آية بعد سماعه وعد الله، فقد كان مؤمنا بالله ولم يطلب آية تثبت اعتقاده، بل ليعلم أن الله أعطاه هذا الوعد، كما يتضح ذلك بصورة أوضح فيما يقوله جدعون
5
لله: «اجعل لي آية (حتى أعلم) على أنك أنت الذي كلمني.» (القضاة، 6: 17)، ويقول الله لموسى أيضا: «ليكن هذا لك آية على أني أرسلتك.» وقد طلب حزقيا
6
من أشعيا
7
آية تتنبأ بعودة صحته له، وهو يعلم منذ مدة طويلة أن أشعيا نبي. فهذا يدل على أن الأنبياء كان لهم دائما آيات تجعل لهم يقينا بالأشياء التي يتخيلونها بهبة النبوة؛ لذلك نبه موسى اليهود (انظر: التثنية، 18 الآية الأخيرة)
8
بأن عليهم أن يطلبوا آية من النبي، أي مصير شيء سيحدث في المستقبل . فالنبوة إذن، من هذا الوجه أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تحتاج إلى آية ما، بل تتضمن بطبيعتها اليقين. والواقع أن هذا اليقين النبوي لم يكن يقينا رياضيا، بل كان يقينا خلقيا فحسب،
9
وهذا ما يؤيده الكتاب نفسه في التثنية (الإصحاح 13)
10
عندما يضع موسى هذا المبدأ وهو أنه إذا أراد نبي ما أن يدعو إلى آلهة جديدة، فيجب الحكم عليه بالقتل حتى ولو أيد عقيدته بالآيات والمعجزات، ذلك أن الله، كما يضيف موسى، هو نفسه الذي يقوم بالآيات وبالمعجزات ليمتحن الشعب. وقد حذر المسيح تلامذته على النحو نفسه كما ذكر متى (24: 24)،
11
ويقول حزقيال بعبارة أوضح (14: 9) إن الله يخدع البشر في بعض الأحيان بوحي كاذب فيقول: «وإذا أغوى النبي (نبي كاذب) وتكلم بكلام فأكون أنا الرب قد أغويت ذلك النبي.» ويعطينا ميخا الشهادة نفسها (انظر: الملوك الأول، 21: 22)
12
بصدد أنبياء أخآب.
13
وبالرغم مما قد يثيره ذلك من شك قوي في النبوة وفي الوحي، فإنهما ينطويان على درجة كبيرة من اليقين، كما قلنا من قبل، لأن الله لا يخدع الأتقياء والأصفياء مطلقا طبقا للمثل القديم (انظر: صموئيل الأول، 24: 14)،
14
وكما نرى في قصة أبيجائيل
15
وخطابه من استعمال الله للأتقياء وسائل لتحقيق تقواه واستعماله للفجرة وسائل يصب عليها جام غضبه. وقد ثبت هذا أيضا بوضوح تام بما حدث لميخا كما ذكرنا الآن. فعندما شاء الله بالفعل أن يخدع أخآب بأنبياء لم يستخدم لذلك إلا أنبياء كذبة وأوحى للرجل التقي بحقيقة الأمر، دون أن يمنعه من التنبؤ بالحقيقة. ومع ذلك فإن يقين النبي، كما قلت، يقين خلقي فحسب، لأنه لا يمكن لأي فرد أن يبرر نفسه أمام الله وأن يدعي أنه وسيلة لتحقيق تقواه، فهذا ما يؤيده الكتاب، بل هو أمر واضح بذاته. فقد أغوى غضب الله داود، الذي شهد له الكتاب بالتقوى مئات المرات، على أن يحصي الشعب.
16
إن اليقين النبوي كله يقوم على هذه الأسس الثلاثة: (1)
تخيل الأنبياء للأشياء الموحى بها كأنها ماثلة أمامهم كما يحدث لنا عادة في حالة اليقظة عندما نتأثر بالأشياء . (2)
الآية. (3)
ميل قلوبهم إلى العدل والخير، وهذا أهم شيء. ومع أن الكتاب لا يذكر الآية دائما، فيجب أن نعتقد أن كل نبي كانت له آية. فالواقع أن الكتاب (كما لحظ الكثيرون من قبل) لا يذكر في الرواية عادة جميع الظروف والملابسات، بل يفترض أن الأمور معروفة من قبل. وكذلك يمكننا أن نسلم بأن الأنبياء الذين لم يتنبأوا بشيء جديد،
17
بل اقتصروا على التنبؤ بما هو معروف من قبل في شريعة موسى، لم يكونوا يحتاجون إلى آية، لأن نبوءاتهم كانت مؤيدة بالشريعة. فمثلا كانت نبوة إرميا بخصوص هدم القدس متفقة مع نبوات الأنبياء السابقين ووعيد الشريعة، فلم تكن في حاجة إلى آية. أما حنينيا
18
الذي تنبأ وحده، على عكس جميع الأنبياء، بإعادة بناء المدينة، فكان في حاجة ملحة إلى آية وإلا شك في نبوته حتى تثبت الحوادث صدق النبوة (إرميا، 29: 9).
19
ولكنه، نظرا إلى أن يقين الأنبياء، الذي يتولد عن آيات معينة، لم يكن يقينا رياضيا، (أي إنه يترتب بالضرورة على إدراك الشيء المحس أو المرئي) بل كان يقينا خلقيا فحسب، (ونظرا إلى أن الآيات، من جهة أخرى، لم يكن مقصودا منها سوى إقناع الأنبياء)،
20
فقد كانت هذه الآيات تتفاوت تبعا لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا يمكن للآية التي تعطي اليقين لهذا النبي أن تقنع آخر مشبعا بآراء مختلفة؛ لذلك، اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء، وكذلك اختلف الوحي - كما قلنا من قبل - عند كل نبي طبقا لمزاجه وخياله، ووفقا للآراء التي اعتنقها من قبل. وتحدث فروق المزاج على النحو الآتي: إذا كان النبي ذا مزاج مرح توحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نجد أن من لهم مثل هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أمورا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا مزاج حزين توحى إليه الشرور، كالحرب والعذاب. وإذا كان النبي رحيما ألوفا غضوبا قاسيا ... إلخ، كان قادرا على تلقي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فروق الخيال تكون على النحو الآتي: إذا كان النبي مرهفا فإنه يدرك فكر الله ويعبر عنه بأسلوب مرهف أيضا، وإذا كان مهوشا أدركه مهوشا. ومثل هذا يصدق على الوحي الذي يتمثل بالصورة المجازية: فإذا كان النبي من أهل الريف كانت صورة الوحي متضمنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جنديا تكون صورة قواد وجيش، وأخيرا، إذا كان رجل بلاط، تمثل له عرش ملك وما شابه ذلك. وأخيرا، فهناك أيضا فروق ترجع إلى اختلاف آراء الأنبياء، فقد أوحي بولادة المسيح للمجوس الذين يعتقدون بخرافات التنجيم (انظر: متى، الإصحاح 2)،
21
حين رأوا نجما يتألق في الشرق، كما أوحي لعرافات نبوخذ نصر في أمعاء الضحايا (انظر: حزقيال، 21: 26)
22
بهدم بيت المقدس الذي عرفه الملك نفسه أيضا بالتكهنات وباتجاه الأسهم التي قذفها عاليا في الهواء. وقد تكشف الله للأنبياء الذين يعتقدون بأن أفعال الناس تتم باختيار حر وبقدرة ذاتية، كما لو كان غير عابئ، ويجهل أفعال البشر المستقبلة. وسنبرهن على كل هذه النقاط واحدة واحدة من خلال الكتاب المقدس.
فالبرهان على النقطة الأولى يتضح في مثل أليشاع (انظر: الملوك الثاني، 3: 15)
23
وعندما طلب آلة موسيقية ليتنبأ ليورام،
24
ولم يستطع أن يدرك فكر الله قبل أن يطرب بموسيقى هذه الآلة، حينئذ فقط تنبأ ليورام ولرفاقه بتنبوءات سعيدة لم يتنبأ بها من قبل؛ لأنه كان غاضبا على الملك، ذلك أن المرء عندما يكون غاضبا على أحد فإنه يستطيع أن يتخيل عنه شرورا، لا خيرات. وعلى ذلك، فعندما يدعي البعض أن الله لا يكشف عن نفسه لمن ينتابه الغضب والحزن، فإنهم يحلمون؛ لأن الله أوحى لموسى وهو غاضب على فرعون المذبحة الرهيبة للأطفال حديثي الولادة (انظر: الخروج، 11: 8)،
25
وذلك دون استخدام أية أداة. كذلك كشف الله عن نفسه لقابيل
26
وهو غاضب، وأوحى إلى حزقيال، وهو في حالة نفاد الصبر من الغضب، لشقاء اليهود وعصيانهم (انظر: حزقيال، 3: 14)،
27
وحين كان إرميا غارقا في أحزانه، وأصبح فريسة للسأم الشديد من الحياة، تنبأ بالمصائب التي ستحل على اليهود، حتى إن يوشيا
28
لم يرغب في سؤاله بل توجه إلى امرأة من هذا الزمان رآها أكثر استعدادا، بفضل طبيعتها الأنثوية، على كشف رحمة الله له (انظر أخبار الأيام الثاني، الإصحاح 34)،
29
ولم يتنبأ ميخا لأخآب بأي خير مطلقا مع أن كثيرا من الأنبياء الصادقين قد تنبأوا به (كما سنرى في سفر الملوك، الإصحاح 20)،
30
بل تنبأ له طيلة حياته بالشرور (انظر الملوك الأول، 22: 8، وبصورة أوضح في أخبار الأيام، 18: 7).
31
كان الأنبياء إذن قادرين، كل حسب تكوينه الجسمي، على قبول هذا الوحي أو ذاك. كذلك اختلف أسلوب كل نبي عن الآخر حسب قدرته البلاغية، فلم تكتب نبوات حزقيال وعاموس بأسلوب رشيق كنبوات أشعيا ونحوم، بل كتبت بأسلوب أكثر خشونة. وإذا أراد أحد علماء اللغة العبرية دراسة أوجه الاختلاف هذه بشيء من التفصيل فعليه أن يقارن بين بعض الإصحاحات في أسفار الأنبياء المتعلقة بالموضوع نفسه، وسيجد اختلافا كبيرا في الأسلوب. ليقارن مثلا الإصحاح الأول من أشعيا رجل البلاط (11-20) مع الإصحاح الخامس من عاموس الريفي (21-24)،
32
وليقارن بعد ذلك الترتيب الذي اتبعه إرميا والطرق التي نهجها لكتابة نبوته ضد أدوم (الإصحاح 49) مع ترتيب وطرق عوبديا،
33
وليقارن أشعيا (40: 19-20، 44: 8 وما بعدها) مع هوشع (8: 6، 13: 2)
34
وهكذا الحال مع الباقين. وسيبين الفحص الدقيق بسهولة أن الله في خطابه لم يكن له أسلوب يتميز به، بل كان الأسلوب يتوقف على بلاغته وإيجازه وقوته وخشونته وإطنابه وغموضه على ثقافة الأنبياء وقدراتهم.
وتختلف تمثلات الأنبياء وتهيؤاتهم الغامضة فيما بينها مع أن لها الدلالة نفسها، فقد تمثل أشعيا عظمة الله وهو يهجر المعبد على غير ما تمثله حزقيال. على أن الأحبار يريدون التوحيد بين هذين التمثلين، مع فرق يسير هو أن حزقيال قد دهش لجلافته دهشة فائقة؛ ولذلك روى كل ملابسات رؤيته. على أنه إذا لم يكن لدى الأحبار رواية مؤكدة في هذا الموضوع، وهذا ما لا أعتقده، فإن أقوالهم هذه لا بد أن تكون اختلافا منهم؛ لأن أشعيا رأى مجموعة من السرافين بأجنحة ستة في حين رأى حزقيال وحوشا بأجنحة أربعة.
35
ورأى أشعيا الله متلحفا جالسا على عرش ملكي، ورآه حزقيال نارا، ولا شك أن كليهما قد تمثله كما اعتاد أن يتخيله. وكذلك تختلف التمثلات فيما بينها، لا في طبيعتها فحسب، بل أيضا في وضوحها ، فقد كانت تمثلات زكريا غامضة إلى حد أنه لم يستطع هو ذاته أن يفهمها دون شرح، كما يحكي في روايته. أما تمثلات دانيال فإن النبي نفسه لم يستطع فهمها حتى بعد شرحها، ولم يحدث ذلك لصعوبة الشيء الموحى به (إذ إن ذلك الوحي لم يكن إلا أمرا من الأمور الإنسانية التي لا تتجاوز حدود القدرة البشرية إلا من حيث إخبارها بالمستقبل)، بل لأن خيال دانيال لم يكن يتمتع بالقوة النبوية نفسها في يقظته وفي نومه. ويتضح ذلك من فزعه منذ بداية الوحي حتى أوشك أن يفقد الأمل في قدراته، فتمثل الأشياء في غموض شديد لضعف خياله ونقص قواه، ولم يستطع أن يكون عنها فكرة واضحة حتى بعد شرحها له. ويجب أن نذكر هنا أن الكلمات التي سمعها دانيال كانت من صنع الخيال فقط (كما بينا من قبل)، فلا عجب إذن وهو في لحظة اضطرابه هذه أن يتخيل هذه الكلمات بغموض واضطراب بلغا من الشدة حدا لم يستطع معه أن يكون عنها فكرة واضحة. أما من يقولون: إن الله لم يشأ أن يقدم إلى دانيال وحيا واضحا بهذا الأمر، فإنهم فيما يبدو لم يقرءوا كلمات الملاك الذي يقول صراحة (انظر 10: 14): «ثم أتيت لأبين لك ما يحدث لشعبك في الأيام الأخيرة». وهكذا ظلت هذه الأشياء غامضة لأن أحدا في ذلك الوقت لم تكن له من قوة الخيال ما يسمح بأن تتكشف له هذه الأشياء بوضوح. وأخيرا، فإن الأنبياء الذين أوحي إليهم أن الله قد رفع إيليا، أرادوا إقناع أليشاع بأن إيليا قد نقل إلى مكان آخر يمكنهم العثور عليه فيه، وهذا يدل بوضوح على أنهم لم يفهموا جيدا وحي الله. ولا نحتاج هنا إلى الإسهاب في ذلك، والحق أنه، لو كان هناك شيء واضح في الكتاب، لكان ذلك دليلا على أن الله قد أعطى من نعمة النبوة هذا النبي أكثر مما أعطاه ذاك، ولكني سأثبت على العكس من ذلك تماما، وبمزيد من العناية والإسهاب، أن النبوات أو التمثلات كانت تختلف باختلاف آراء الأنبياء، وكذلك سأثبت أن آراء الأنبياء فيما بينهم كانت تختلف، بل وتتعارض، وكذلك الحال في أحكامهم المسبقة (ويحدث ذلك في الأمور النظرية فحسب، أما بالنسبة إلى الأمانة وحسن الأخلاق فلا بد من الحكم على الأمر بطريقة أخرى). وإنني لأصر على ما أقول لاعتقادي بالأهمية البالغة لهذا الموضوع. وسأنتهي من ذلك، إلى أن النبوة لم تجعل الأنبياء أكثر علما، بل تركتهم على آرائهم التي كونوها سلفا، ومن ثم نكون في حل من تصديقهم فيما يتعلق بالأمور النظرية الخالصة.
لقد تسرع الجميع بصورة تدعو إلى الدهشة في الاقتناع بأن الأنبياء قد عرفوا كل ما يستطيع الذهن الإنساني أن يحيط به، ومع أن بعض نصوص الكتاب تخبرنا بوضوح تام بأن بعض الأنبياء قد جهلوا بعض الأشياء، فإن الناس يفضلون أن يصرحوا بأنهم لا يفهمون هذه النصوص، على أن يسلموا بأن الأنبياء قد جهلوا شيئا ما، أو هم يتعسفون في تأويل نص الكتاب لكي يخرجوا منه بما لم يقله النص صراحة. ولا شك أن استباحة مثل هذه الحرية تعني القضاء على الكتاب المقدس قضاء مبرما. فلن ينجح أحد في البرهنة على شيء بالكتاب إذا ما سمح لنفسه بوضع النصوص الواضحة في عداد الأشياء الغامضة التي تستعصي على الفهم أو بتفسيرها حسب هواه. فمثلا، ليس في الكتاب ما هو أوضح من هذه الواقعة: اعتقد يشوع، وربما اعتقد معه أيضا كاتب قصته بدوران الشمس حول الأرض، وبثبات الأرض، وبتوقف الشمس بعض الوقت. ومع ذلك فنظرا إلى أن كثيرا من الناس لا يريدون التسليم بوقوع أي تغير في السموات والأرض، فإنهم يفسرون النص بحيث يبدو وكأنه لم يشر مطلقا إلى مثل هذا المعنى. وهناك آخرون، وهم الذين تعودوا على التفلسف بطريقة أصح، يعلمون أن الأرض تتحرك، وأن الشمس ثابتة، وهؤلاء يبذلون جهودا يائسة من أجل استخلاص هذه الحقيقة من الكتاب بالرغم من وضوح معانيه. والحق إني لمعجب بهم!
36
وأتساءل: هل نحن ملزمون بأن نعتقد بأن يشوع الجندي كان ضليعا في علم الفك؟ هل نحن ملزمون بأن نعتقد باستحالة كشف التنبؤات له أو ببقاء ضوء الشمس في الأفق أكثر من المعتاد دون أن يعلم يشوع علة هذه الظاهرة؟ في رأيي أن كلا التفسيرين ساذج، والأفضل أن أقول صراحة إن يشوع قد جهل علة بقاء الضوء، وإنه اعتقد مع جمهور الحاضرين بدوران الشمس حول الأرض، وبأنها توقفت في هذا اليوم بعض الوقت، ولم يلحظ أن كمية الثلج الضخمة التي كانت عندئذ معلقة بالهواء (انظر: يشوع، 10: 11)،
37
أو أية علة أخرى مشابهة، لا نود أن نبحث عنها، قد تكون هي السبب في حدوث انعكاس غير عادي للضوء. وكذلك كشف لأشعيا تراجع الظل على مستوى فهمه بتراجع الشمس لأنه كان يعتقد أيضا بأن الشمس تتحرك، وبأن الأرض ثابتة، ولم يخطر على باله حتى في المنام فكرة الطيف.
38
ونستطيع أن نسلم بذلك دون أدنى تخوف، إذا كان من الممكن أن تظهر هذه الآية بالفعل، وأن يتنبأ بها أشعيا للملك، على الرغم من جهل النبي بعلتها. ويجب أيضا أن نقول الشيء نفسه بشأن تشييد هيكل سيلمان، هذا إذا كان الله قد أوحى له به. وبعبارة أخرى، لقد أوحيت كل المقاييس إلى سليمان بوسائل على مستوى فهمه وطبقا لآرائه؛ ذلك لأنه، نظرا إلى أننا غير ملزمين بالاعتقاد بأن سليمان كان رياضيا، فمن حقنا أن نؤكد أنه كان يجهل نسبة محيط الدائرة إلى قطرها، وكان يظن مع جمهرة العمال أنها نسبة 3 إلى 1، فإذا قيل إننا لم نفهم نص سفر الملوك (7: 23)
39
فإني لا أعلم، في الحق، ماذا يمكننا أن نفهم من الكتاب؛ ذلك لأن ما ورد في هذا الموضع كان مجرد وصف للبناء، وعلى نحو تاريخي محض. أما إذا اعتقد أحد أنه يستطيع افتراض قصد آخر للكتاب لم يصرح به لسبب نجهله، فإن هذا أمر لا يترتب عليه أقل من أن نقلب الكتاب بأسره رأسا على عقب؛ إذ يحق لكل فرد أن يفعل هذا الشيء نفسه مع نصوص الكتاب كلها، ويتخذ الكتاب المقدس عندئذ ستارا يبيح للمرء أن يؤكد، ويضع موضع التنفيذ كل ما يستطيع خبث الإنسان أن يبتدعه من بطلان وشر،
40
ومن ناحية أخرى، فإن ما نسلم به الآن لا يتضمن أي كفر؛ ذلك لأن سليمان وأشعيا ويشوع ليسوا أنبياء فحسب، بل بشر أيضا، يصدق عليهم ما يصدق على البشر. فقد أوحي إلى نوح، بطريقة على مستوى فهمه، بأن الله سيهلك الجنس البشري. الواقع أن نوحا كان يعتقد أن العالم كله، باستثناء فلسطين، لم يكن مسكونا، ولم يجهل الأنبياء مثل هذه الأشياء فحسب، بل جهلوا أيضا أشياء أخرى كثيرة أكثر أهمية، ولا ينقص جهلهم هذا من تقواهم شيئا لأنهم لم يقولوا شيئا خاصا يتعلق بصفات الله، بل كانت آراؤهم عنه هي بعينها الآراء المتداولة، وكان الوحي الذي هبط عليهم متناسبا مع آرائهم كما سأبين بعد قليل بنصوص كثيرة من الكتاب. وهكذا نرى بوضوح أن ما ناله الأنبياء من ثناء وتقدير عظيمين لا يرجع إلى مزايا روحية عالية بل إلى تقواهم ورسوخ إيمانهم.
41
وقد كان آدم - وهو أول من كشف له الله عن نفسه - يجهل أن الله حاضر في كل مكان وأنه بكل شيء عليم، فقد أخفى نفسه بالفعل عن الله، وحاول في حضوره الاعتذار عن خطيئته وكأنه أمام إنسان مثله. وإذن فقد كان كشف الله له عن نفسه بطريقة على مستوى فهمه، أعني كموجود لا يوجد في كل مكان في الوقت نفسه، ويجهل خطيئة آدم والمكان الذي يوجد فيه. لقد سمع آدم بالفعل أو ظن أنه سمع الله سائرا في الحديقة، وظن أن الله ناداه وسأله عن مكانه، وأن الله، بعد أن لحظ اضطرابه، سأله إن كان قد أكل الفاكهة من الشجرة المحرمة، فآدم لم يعلم من صفات الله إلا أنه خالق كل شيء،
42
كذلك كشف الله عن نفسه على مستوى فهم قابيل كموجود يجهل أمور البشر، ولم يكن قابيل في حاجة إلى معرفة أسمى بالله كيما يتوب عن خطيئته. وقد كشف الله عن نفسه للابان
43
على أنه إله إبراهيم، لاعتقاد لابان بأن لكل أمة إلها خاصا (انظر: التكوين، 31: 29)
44
وقد كان إبراهيم بدوره يجهل أن الله موجود في كل مكان وأنه عليم بكل شيء، فعندما سمع الحكم الذي صدر ضد سكان سدوم
45
توسل إلى الله ألا ينفذ حكمه حتى يتأكد من أن جميعهم يستحقون هذا العذاب، وهكذا قال: (انظر: التكوين، 18: 24) (ربما) إن وجد خمسون بارا في المدينة. ولم يكشف الله له عن نفسه بطريقة أخرى، إذ إنه تحدث من خلال خيال إبراهيم على النحو الآتي: «أنزل وأرى هل فعلوا طبق صراخها البالغ إلي وإلا فاعلم.» (التكوين، 18: 21). أما الشهادة الإلهية لإبراهيم (انظر: التكوين، 18: 19)،
46
فلا تدل إلا على طاعته وتربيته أهل بيته على العدل والخير، ولا تدل على أن لديه عن الله أفكارا سامية. كذلك لم يدرك موسى بما فيه الكفاية أن الله عالم بكل شيء وأن مشيئته وحدها هي الموجهة لأفعال البشر كلها، فعندما قال له الله (انظر: الخروج، 35: 18):
47
إن الإسرائيليين سيطيعونه شك في الأمر وأجاب قائلا (انظر الخروج، 4: 1): «إنهم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي.» وهكذا كشف الله له عن نفسه كأنه لا يكترث بشيء ويمهل أفعال البشر المستقبلة. والواقع أن الله أعطاه آيتين قائلا (الخروج، 4: 8): «فيكون إذا لم يصدقوك ولم يسمعوا لصوت الآية الأولى، أنهم يصدقون صوت الآية الأخيرة، وإن لم يصدقوا هاتين الآيتين ولم يسمعوا لقولك فخذ من ماء النهر ... إلخ.» ومن المؤكد أننا إذا أردنا أن نفسر عبارات موسى دون فكرة مسبقة لا يتضح لنا تماما أنه يتصور الله موجودا على الدوام في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ولذلك يسميه يهوه، وهي كلمة تدل في العبرية على أصول الزمان الثلاثة هذه.
48
ولم يذكر موسى شيئا عن طبيعة الله سوى أنه رحيم لطيف ... إلخ، وغيور جدا، كما يتضح في نصوص عديدة من الأسفار الخمسة. ثانيا لقد اعتقد وأعلن أن هذا الموجود مختلف عن سائر الموجودات إلى حد أنه لا يمكن التعبير عنه بأية صورة أو شيء حسي بعيد عن الأبصار؛ لضعف الإنسان لا لتناقض تنطوي عليه مثل هذه الرؤيا. أما فيما يتعلق بالقدرة فإنه تصور الله فردا واحدا، ويسلم موسى بوجود موجودات تحل محل الله (ويحدث ذلك بلا شك بأمر من الله وبتفويض منه) أي بموجودات أعطاها الله السلطة والحق والقدرة لإرشاد الأمم ولحمايتها والمحافظة عليها. ولكنه نادى بأن هذا الموجود الذي وجب على اليهود عبادته هو الإله المهيمن الأعلى. وبعبارة أخرى، (أي بتعبير عبري) فهو إله الآلهة؛ لذلك يقول في نشيد الخروج (15: 11): «من مثلك في الآلهة يا رب.» ويقول يترو
49 (18: 11): «الآن علمت أن الرب عظيم فوق جميع الآلهة.» أي أنني يجب أن أسلم مع موسى بأن يهوه أكبر الآلهة جميعا، وله قدرة لا نظير لها، ومع ذلك، فهل اعتقد موسى أن الله خلق هذه الموجودات التي تقوم مكانه؟
50
يحق لنا أن نشك في ذلك لأنه - على ما نعلم - لم يقل شيئا يتعلق بخلقها ونشأتها. ثالثا، نادى موسى بأن هذا الموجود قد أخرج هذا العالم المرئي من العماء وأقام فيه النظام (انظر: التكوين، 1: 2)
51
ووضع في الطبيعة بذور الأشياء وبذلك يكون له على الأشياء جميعا حق مطلق وسيطرة كاملة. وباستعماله لهذا الحق ولهذه القدرة اصطفى الأمة العبرانية (انظر: التثنية، 10: 14-15، 32: 8-9)
52
وترك الأمم الأخرى وسائر أقطار الأرض في رعاية الآلهة الأخرى التي حل محلها، ومن هنا سمي بإله إسرائيل وإله أورشليم (انظر: أخبار الأيام الثاني 32: 19)
53
بينما سميت سائر الآلهة آلهة الأمم الأخرى؛ ولهذا السبب ذاته اعتقد اليهود أن هذا الإقليم الذي اختاره الله يحتاج إلى عبادة خاصة مختلفة عن عبادة الأقطار الأخرى، بل إنه لا يمكنه تحمل عبادة الآلهة الأخرى، الخاصة ببقية الأقاليم. وكان الاعتقاد السائد هو أن الأسود ستمزق الشعوب التي قادها ملك آشور في أراضي العبرانيين؛ لأنها تجهل عبادة آلهة هذه الأرض (انظر: الملوك الثاني، 17: 25-26، وما بعدهما)؛
54
ولذلك، طلب يعقوب من أبنائه عندما أراد الرجوع إلى وطنه، كما يرى أبو عزرا،
55
أن يستعدوا لعبادة جديدة وأن يتركوا الآلهة الأجنبية أي آلهة الأرض التي كانوا عليها آنذاك (انظر: التكوين، 35: 2-3)،
56
وكذلك عندما أراد داود أن يبين لشاءول،
57
أن هذا الملك أجبره على أن يعيش خارج وطنه هربا من اضطهاده له قال: إنه استبعد من ميراث الله، وإنه أرسل لخدمة آلهة أخرى (انظر صموئيل الأول، 2: 19).
58
وأخيرا، اعتقد موسى أن هذا الموجود، أي الله، يقطن السموات (انظر التثنية، 33: 27)،
59
وكانت هذه الفكرة منتشرة على أوسع نطاق بين غير اليهود.
60
فإذا ما تأملنا الوحي الذي هبط على موسى نجد أنه قد تكيف حسب آرائه. وما كان يعتقد حقيقة أن طبيعة الله تخضع لهذه الشروط التي تحدثنا عنها، أعني الرحمة واللطف ... إلخ. فقد كشف الله له عن نفسه طبقا لهذا الاعتقاد، وبهذه الصفات (انظر: الخروج، 34: 6-7)،
61
ويروي النص كيف ظهر الله لموسى، وكذلك الوصايا العشر (20: 4-5)،
62
ويروى أيضا في الإصحاح 33، الآية 18،
63
إن موسى طلب من الله أن يريه نفسه، ولكن لما كان موسى - كما قلنا - لم يكون في مخيلته أية صورة لله، ولما كان الله - كما أثبتنا من قبل - لم يكشف عن نفسه للأنبياء إلا حسب استعداد خيالهم؛ لذلك لم يظهر الله لموسى في أية صورة. وأقول: إن الأمر كان على هذا النحو لأن خيال موسى كان يمنع من حدوثه على أي نحو آخر.
64
ولكن هناك أنبياء آخرين شهدوا بأنهم قد رأوا الله حقيقة، مثل أشعيا وحزقيال ودانيال ... إلخ؛ لذلك رد الله على موسى قائلا: «لن تستطيع أن ترى وجهي.» ولما كان موسى يعتقد بإمكان رؤية الله، أي إنه لم ير أي تناقض بين طبيعة الله وإمكان رؤيته، وإلا لما طلب رؤيته، فقد أضاف الله قائلا: «لأنه لا يمكن لأحد أن يراني ويظل حيا.» وبذلك أعطى الله سببا متفقا مع رأي موسى، فلم يقل: إن هناك تناقضا - كما هو موجود بالفعل - بين الطبيعة الإلهية وإمكان الرؤية، بل قال: لا يمكن للإنسان أن يرى الله بسبب ضعف الإنسان. كذلك قال الله لموسى لكي يوحي إليه بأن الإسرائيليين بعبادتهم العجل أصبحوا مثل باقي الأمم (33: 2-3)،
65
إنه سيرسل ملاكا، أي موجودا يرعى الإسرائيليين بدلا من الموجود الأعظم؛ لأن الله لا يريد أن يكون بينهم بعد الموت؛ وعلى هذا النحو لم يعد هناك ما يدعو موسى إلى الاعتقاد بأن الله أحب اليهود أكثر مما أحب الأمم الأخرى التي تركها الله أيضا في رعاية موجودات أخرى، أي في رعاية ملائكة. وهذا ما تؤكده الآية 16 من الإصحاح.
66
وأخيرا، فلما كان موسى يعتقد أن الله يقطن السموات، فإن الله قد تكشف له هابطا من السماء على الجبل، وفي مقابل ذلك صعد موسى إلى أعلى الجبل ليتحدث مع الله، وهو ما لم يكن في حاجة إلى أن يفعله لو استطاع أن يتصور الله موجودا بالسهولة في كل مكان.
ومع أن الله كشف عن نفسه لموسى فإن الإسرائيليين لم يعلموا عنه شيئا يذكر. وقد ظهر ذلك بوضوح عندما عظموا العجل وعبدوه بعد بضعة أيام، معتقدين أن العجل هو هذه الآلهة التي أخرجتهم من مصر. إن من الواجب قطعا ألا نعتقد أن أناسا غارقين في خرافات المصريين، أعني أناسا أجلافا أنهكهم شقاء العبودية، قد عرفوا الله معرفة صحيحة، أو أن موسى قد علمهم شيئا أكثر من قواعد السلوك في الحياة، ولم يعلمهم ذلك كفيلسوف، بحيث يستطيعون أن يحيوا سعداء بفضل تمتعهم بالحرية الكاملة، بل علمهم ذلك كمشروع بحيث تدفعهم طاعة أوامر الشريعة إلى مثل هذه الحياة. وهكذا، فإن قاعدة السلوك التي تؤدي إلى الحياة السعيدة، أي إلى الحياة الحقة، وإلى حب الله وعبادته؛ كانت بالنسبة إليهم عبودية لا حرية حقيقية، أي نعمة وفضلا إلهيا. لقد أمرهم موسى بحب الله وبتطبيق شريعته ليتعرفوا على النعم التي وهبهم الله إياها من قبل (أي الحرية من بعد عبوديتهم في مصر ... إلخ)، كما هددهم بأشد العقاب إذا عصوا هذه الأوامر ووعدهم بأحسن الجزاء إذا هم أطاعوها. وهكذا علم موسى العبرانيين كما يعلم الآباء الأطفال الذين لا عقل لهم على الإطلاق؛ ولذلك، فإن من المؤكد أنهم جهلوا تماما سمو الفضيلة والسعادة الحقة.
67
وقد ظن يونس
68
أنه قد تنصل من حضور الله، وهذا يدل - فيما يبدو - على أنه اعتقد أيضا أن الله قد نقل رعاية المناطق الأخرى خارج يهودا إلى قوى أخرى تحل محله. ولا نرى في العهد القديم من تحدث عن الله بطريقة عقلية إلا سليمان الذي استطاع بالنور الفطري أن يتفوق على عصره كله؛ ولذلك رأى نفسه أسمى من الشريعة (لأن الشريعة وضعت للذين لا يتمتعون بالعقل وبتعاليم النور الفطري) ولم يعبأ بكل القوانين الخاصة بالملك، والتي تتكون من ثلاث مجموعات رئيسة، إلا في حالات قليلة (انظر: التثنية، 17: 16-17)
69
بل خرقها علنا، وإن كان مخطئا في ذلك، ولم يكن سلوكه سلوك فيلسوف جدير بهذا الاسم لسعيه وراء اللذات، وقد نادى بأن كل الخيرات التي تجلبها الثروة هي أمور زائلة عند الفانين (انظر: الجامعة) وأن الذهن أعظم ما لدى البشر، وأن ضياع العقل أشد عذاب يمكن أن يصيبهم (انظر: الأمثال، 16: 22).
70
ولكن لنعد الآن إلى الأنبياء لنتحدث طبقا للخطة التي وضعناها عن اختلافهم في الآراء. لقد بدت أفكار حزقيال للأحبار الذين نقلوا لنا كتب الأنبياء (أو ما بقي منها) مناقضة لأفكار موسى (انظر الرواية في رسالة السبت، الإصحاح 21، ورقة 33، ص2)
71
إلى حد أنهم كانوا على استعداد لأن يقرروا استبعاد سفر حزقيال من بين الكتب المقننة، وكادوا يستبعدونه تماما لولا أنه أتى شخص يدعى حنينيا
72
في شرحه وأتم ذلك بعد عناء وجهد كبير (كما تروي رسالة السبت) ولكن كيف فسره؟ هذا ما لا يعرفه أحد على وجه التحديد، فهل كتب شرحا ثم ضاع، أم أنه غير كلمات حزقيال وصحح خطبه كما تراءى له (ولم تكن تنقصه الشجاعة لذلك)؟ مهما يكن من شيء فإن الإصحاح 18 لا يبدو متفقا مع الآية 7 من الإصحاح 24 من سفر الخروج، ولا مع الآية 18 من الإصحاح 32 من إرميا ... إلخ.
73
لقد اعتقد صموئيل أن الله لا يتراجع أبدا عما يقرره بعد أن يقرره بالفعل (انظر صموئيل الأول، 15: 29)؛
74
لذلك قال لشاءول بعد أن تاب من خطيئته، وأراد أن يعبد الله ويطلب منه النعمة، إن الله لا يغير حكما أصدره ضده. أما إرميا فقد أوحي إليه عكس ذلك تماما (انظر 18: 8-10)
75
فقد يتراجع الله عن حكمه، سواء أكان هذا الحكم حسنا أم سيئا بالنسبة لأمة ما، إذا ما تغير الناس بعد الحكم إلى أحسن أو إلى أسوأ. وكان يوئيل
76
يعتقد أن الله يتوب عن الشر فقط (2: 13).
77
وأخيرا، يظهر بوضوح تام من الإصحاح 4 من سفر التكوين، الآية 7
78
أن باستطاعة الإنسان ألا يستسلم لغواية الخطيئة، وأن يسلك سلوكا حسنا. وقد قيل ذلك لقابيل الذي استسلم لها مع ذلك، وهذا ما نقرؤه في الكتاب نفسه وفي تاريخ يوسف،
79
وتظهر هذه الفكرة نفسها بأعظم قدر من الوضوح في الإصحاح المذكور آنفا في إرميا، إذ يقول: إن الله يرجع عن حكمه الذي أصدره ضد البشر أو في صالحهم إذا ما أراد البشر تغيير سلوكهم وطريقتهم في الحياة. وعلى العكس، دعا بولس صراحة إلى الاعتقاد بأن البشر لا قدرة لهم على مقاومة غواية الجسد إلا برسالة فريدة بفضل من الله. انظر رسالته إلى أهل رومية، الإصحاح 9 ابتداء من الآية 10 وما بعدها، ولاحظ أنه في الإصحاح 3، الآية 5، وفي الإصحاح 6، الآية 19،
80
حيث ينسب إلى الله صفة العدل، يستغفر لأنه تحدث كما يتحدث البشر نظرا لضعف الجسد.
هذا يكفي لإثبات ما أردنا البرهنة عليه وهو أن الوحي الذي أرسله الله كان يتغير وفقا لفهم الأنبياء وآرائهم،
81
وأن الأنبياء كان يمكن أن يجهلوا، بل وجهلوا بالفعل، تلك الموضوعات النظرية الخالصة التي لا تتعلق بالإحسان وبالحياة العملية. وأخيرا إن آراء الأنبياء كانت متعارضة فيما بينها؛ لذلك، فلا جدوى على الإطلاق من أن نلتمس لديهم معرفة بالأشياء الطبيعية والروحية. والنتيجة التي ننتهي إليها إذن، هي أننا لسنا ملزمين بالإيمان بالأنبياء إلا فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، أما فيما عدا ذلك فيستطيع كل فرد أن يؤمن بما يشاء بحرية تامة. مثال ذلك أن وحي قابيل لا يعلمنا سوى أن الله قد حذره وطلب منه أن يعيش حياة أفضل، وهذا وحده هو هدف الوحي وجوهره، وليس تعليم حرية الإرادة أو أية نظرية فلسفية. ومع أن حرية الإرادة متضمنة بوضوح تام في هذا التبكيت وفي طريقة التصريح به، فإنه يجوز لنا أن نصدر حكما مخالفا لأن هذه الكلمات وهذه الطريقة في التعبير قد تكيفت حسب فهم قابيل وحده.
82
وكذلك لا يعلمنا وحي ميخا إلا أن الله أوحى إليه بالنهاية الحقيقية لمعركة أخآب ضد آرام، ومن ثم، كان هذا وحده هو ما يجب أن نؤمن به. ولا تهمنا مطلقا أية زيادة على ذلك فيما يتعلق بروح الله الحقيقية أو الباطلة أو جيش السماء الذي يعسكر على جانبي الله، وكذلك باقي ملابسات الوحي؛ وعلى ذلك، فليحكم كل إنسان على هذه الأمور بما يتفق مع عقله. وفيما يتعلق بالحجج التي يبرهن بها الله لأيوب على أن كل شيء واقع تحت قدرته - لو كان هذا الوحي قد بلغ إلى أيوب حقيقة وكان كاتبه قد أراد أن يروي قصة دون أن يعبر عن أفكاره بالصور
83 (كما يعتقد البعض) - ينبغي أن نقول ما يأتي: إن هذه الحجج قد وضعت على مستوى فهم أيوب لإقناعه هو وليست حججا عامة لإقناع جميع الناس. ونقول الشيء نفسه عن الأسباب التي لجأ إليها المسيح لإقناع الفريسيين بعصيانهم وبجهلهم، ولدعوة تلاميذه للحياة الحقة، فقد كيف أسبابه طبقا لآراء كل فرد ومبادئه. فعندما يقول مثلا للفريسيين (انظر: متى، 22: 26): «فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم على نفسه، فكيف تثبت مملكته؟» لم يكن يريد إلا إقناعهم بمبادئهم الخاصة، ولم يكن هدفه هو أن يعرفهم أن هناك شياطين ومملكة للشياطين. كذلك عندما يقول لتلامذته (متى، 18: 10): «واحذروا أن تحتقروا أحد هؤلاء الصغار فإني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات ... إلخ.» كان كل ما أراد أن يقوله هو أنه لا ينبغي أن يكونوا مغرورين أو أن يحتقروا أحدا، ولم يكن هدفه هو أن يعلمهم شيئا مما يتضمنه أسلوبه الذي اتبعه ليحسن إقناع تلامذته. وهذا بعينه هو ما ينبغي أن يقال بشأن أساليب الحواريين والآيات التي استعملوها، وهو موضوع لا نجد فائدة هنا من إطالة الحديث فيه؛ ذلك لأنني سأحيد عن الإيجاز الذي أحاول أن ألتزم به إذا كان علي أن أحصي جميع نصوص الكتاب التي كتبت لإنسان واحد؛ أي التي تكيفت حسب فهم شخص معين وبالتالي لا يمكنني تقديمها على أنها تعاليم إلهية
84
دون أن يكون في ذلك خسارة كبيرة للفلسفة. يكفي إذن عرضي لبعض النقاط القليلة ذات الأهمية العامة، ويمكن للقارئ الفاحص أن يختبر بقية النصوص بنفسه. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن هذه الملاحظات التي ذكرناها من قبل في موضوع الأنبياء والنبوة هي وحدها التي تؤدي مباشرة إلى الغاية التي أرمي إليها، وهي التمييز بين الفلسفة واللاهوت، فإني، نظرا إلى انسياقي إلى الحديث عن هذا الموضوع بوجه عام، أرى من المفيد أن أبحث أيضا فيما إذا كانت هبة النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم أو أنها عامة لكل الأمم، ثم أبحث بعد ذلك فيما يجب أن نعتقده بشأن رسالة العبرانيين، وهذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل الثالث
رسالة العبرانيين وهل كانت هبة النبوة وقفا
عليهم؟
إن سعادة الفرد ونعيمه الحقيقي لا يكونان إلا في تمتعه بالخير، لا في فخره بأنه وحده الذي يتمتع به مع استبعاد الآخرين. ومن يظن أنه حصل على سعادة أكبر لأنه وحده في حالة طيبة على حين أن الآخرين ليسوا كذلك، أو لأنه يتمتع بسعادة أكبر أو لكونه أسعد حظا من الآخرين، مثل هذا الشخص يجهل السعادة والنعيم الحقيقي. فالفرح الذي يشعر به المرء نتيجة لاعتقاده أنه أسمى من الآخرين، إن لم يكن شعورا طفوليا، فإنه لا ينشأ إلا من الحسد أو من القلب الحاقد. مثال ذلك أن الهناء الحقيقي وسعادة الإنسان لا يكونان إلا في الحكمة وحدها ومعرفة ما هو حق، وليس على الإطلاق في أن يكون أحكم من الآخرين أو في أن يكون الآخرون محرومين من الحكمة؛ لأن ذلك لن يزيد أبدا من حكمته الخالصة أي من هنائه الحقيقي، فمن يفرح لذلك يفرح لشقاء الآخرين ويكون حسودا شريرا لا يعلم الحكمة الحقيقية أو طمأنينة الحياة الحقة. وعلى ذلك، فعندما يقول الكتاب، لحث العبرانيين على طاعة الشريعة: إن الله قد اصطفاهم من بين سائر الأمم (التثنية، 10: 15)،
1
وأنه قريب منهم، بعيد عن الآخرين (التثنية، 4: 4، 7)،
2
وأنه وضع شرائع عادلة لهم وحدهم (السفر نفسه، 4: 8)،
3
وأنه أعطاهم وحدهم شرف معرفته - (والسفر نفسه، 4: 32)،
4
فإنه إنما يتحدث على مستوى فهم العبرانيين الذين لم يكونوا يعرفون السعادة الحقيقية، كما ذكرنا في الفصل السابق، وكما يشهد موسى نفسه (التثنية، 9: 6-7)،
5
وما كانوا ليحصلوا على سعادة أقل لو أن الله دعا الناس جميعا للخلاص، وما كان الله أقل رعاية لهم لو أنه أعطى الآخرين عونا مماثلا، وما كانت الشرائع أقل عدالة، أو كان العبرانيون أقل حكمة، لو أن الشرائع وضعت للجميع، وما كانت المعجزات أقل إظهارا لقدرة الله لو أنها أظهرت لأمم أخرى. وأخيرا، ما كان التزام العبرانيين بعبادة الله يبدو أقل لو أن الله أعطى كل هذه الهبات جميع الناس على السواء. أما فيما يتعلق بما قاله الله لسليمان (انظر: الملوك الأول، 3: 12)،
6
من أنه لن يظهر إنسان بعده يساويه حكمة، فإن هذا القول لا يتعدى أن يكون مجرد طريقة في الكلام تدل على حكمته العالية. ومهما يكن من شيء، فإنه لا ينبغي الاعتقاد بأن الله وعد سليمان - لكي يزيد من سعادته - بألا يعطي إنسانا غيره من الحكمة بقدر ما أعطاه؛ لأن ذلك لن يزيد من ذهن سليمان شيئا، وما كان هذا الملك الفطن ليقلل من ثنائه على الله لنعمه الكثيرة عليه، حتى لو أن الله أنبأه بأنه سيعطي الجميع حكمة مماثلة.
وبالرغم من قولنا بأن موسى قد تحدث بلغة على مستوى فهم العبرانيين في النصوص التي ذكرناها آنفا من الأسفار الخمسة، فإننا لا ننكر أن الله قد وضع لهم وحدهم الشرائع الموجودة في هذه الأسفار الخمسة، وأنه خاطبهم وحدهم، وأنهم وحدهم رأوا من الأشياء التي تبعث على الدهشة ما لم تره أية أمة أخرى، بل إن ما نذهب إليه هو أن موسى أراد بهذه اللغة، واستخدام هذه الأساليب أن يعلم العبرانيين عبادة الله وأن يربطهم به بطريقة تناسب روحهم الساذجة. كذلك، فإننا سنذهب إلى أن نبرهن على أن العبرانيين لم يتميزوا عن سائر الأمم بالعلم أو التقوى، بل تميزوا بشيء آخر، أو أن العبرانيين، (إذا شئنا أن نتحدث بلغة على مستوى فهمهم كما يتحدث الكتاب)، بالرغم من التحذيرات المستمرة التي وجهت إليهم، لم يكونوا أصفياء الله في الحياة الحقة أو في الأنظار السامية ، بل في شيء آخر مختلف كل الاختلاف، وسأحاول أن أبينه متبعا ترتيبا منظما.
7
ولكني قبل أن أشرع في ذلك أريد أن أشرح في كلمات قليلة المعنى الذي سوف أستخدمه فيما يلي للتعبيرات الآتية: حكم الله، عون الله الخارجي والداخلي، اختيار الله، وأخيرا الحظ. فأنا أعني بالحكم الإلهي
8
نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو بعبارة أخرى تسلسل الأشياء الطبيعية. وقد بينا من قبل، وأثبتنا في موضع آخر،
9
أن قوانين الطبيعة الشاملة التي يحدث كل شيء ويتحدد طبقا لها، ليست سوى أوامر الله الأزلية التي تنطوي على حقيقة وضرورة أزلية.
10
وإذن فلو قلنا إن كل شيء يحدث طبقا لقوانين الطبيعة أو ينتظم بحكم الله أو بأمره فإننا نقول الشيء نفسه. ثانيا، لما كانت قوة جميع الأشياء الطبيعية هي في ذاتها قدرة الله نفسها التي يحدث بها كل شيء ويتحدد، فيترتب على ذلك أن كل ما يستعين به الإنسان - وهو نفسه جزء من الطبيعة - في عمله للمحافظة على وجوده، وكل ما تقدمه الطبيعة له - دون أن تتطلب منه جهدا - قد قدمته له في الحقيقة القدرة الإلهية وحدها من حيث هي فاعلة من خلال طبيعة الإنسان نفسها، أو من خلال أشياء خارجة عن طبيعة الإنسان ذاتها.
11
وإذن يمكننا أن نسمي كل ما تستطيع الطبيعة الإنسانية أن تنتجه بقدرتها الخاصة للمحافظة على وجودها عون الله الداخلي،
12
ونسمي كل ما تنتجه قوة الأشياء الخارجية مما فيه منفعة هذه الطبيعة الإنسانية، بالعون الخارجي. ومن هذا يبدو لنا بوضوح ماذا نقصد باختيار الله. فلما كان من المحال ألا يسلك أحد سلوكا إلا طبقا لنظام الطبيعة المحدد من قبل، أي طبقا لحكم الله وأمره الأزلي، فإنه يترتب على ذلك أن أحدا لا يختار أسلوب حياته أو يفعل شيئا إلا برسالة خاصة من الله الذي اختار هذا الفرد وفضله على الآخرين ليقوم بهذا العمل أو ليحيا وفقا لهذا الأسلوب. وأخيرا، أقصد بالحظ حكم الله من حيث سيطرته على أمور البشر عن طريق العلل الخارجية التي لا يمكن توقعها. وبعد أن وضعت هذه التعريفات فلنعد إلى موضوعنا، ولنبحث في السبب الذي سميت من أجله الأمة العبرانية أمة مختارة ومفضلة على سائر الأمم. ولكي أبرهن على ذلك سأسير بالترتيب الآتي:
إن كل ما يمكن أن يكون موضوعا لرغبة صادقة منا يرتد إلى واحد من الموضوعات الرئيسة الثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، والسيطرة على انفعالاتنا أي الحصول على الفضيلة، وأخيرا، العيش في سلام مع جسم سليم. وتوجد الوسائل التي تستخدم مباشرة في الحصول على الموضوعين الأولين - والتي يمكن اعتبارها عللا قريبة وفاعلة لهما - في الطبيعة الإنسانية نفسها؛ لذلك، كان علينا أن نسلم دون أدنى تحفظ بأن هاتين الهبتين لا تخصان أمة دون أمة، بل كانتا على الدوام شائعتين لدى الجنس البشري كله، ومن يرى خلاف ذلك يفترض أن الطبيعة قد خلقت سلفا أنواعا عديدة من الجنس البشري. أما الوسائل التي يتبعها الإنسان ليعيش في أمان وليحافظ على جسده، فإنها توجد أساسا في الأشياء الخارجية؛ لذلك نسميها هبات الحظ لأنها تعتمد إلى حد كبير على مسار العلل الخارجية، وهو المسار الذي لا نعلمه، بحيث يكون الأبله سعيدا أو شقيا في هذا الصدد كالحكيم. ومع ذلك، فلكي يعيش الإنسان في أمان، ولكي يتجنب هجمات البشر والوحوش على السواء، فإن حكم الحياة البشرية واليقظة يفيدانه فائدة جمة. وقد أثبت العقل والتجربة أن أيقن الوسائل لذلك هو تكوين مجتمع يقوم على القوانين السليمة، وشغل منطقة معينة من العالم، واتحاد قوى الجميع في الكيان الاجتماعي نفسه. على أنه لا بد، من أجل تكوين مجتمع والمحافظة عليه، من اكتساب تركيب خاص، ومن يقظة غير عادية. وعلى ذلك، فإن المجتمع الذي يرسي دعائمه ويحكمه أناس على قدر كبير من الدراية واليقظة يكون أكثر أمانا واستقرارا وأقل خضوعا للحظ، أما المجتمع الذي يتكون من أناس أجلاف فإنه يكون أكثر اعتمادا على الحظ وأقل استقرارا. فإذا كان قد بقي مدة طويلة مع وجود ما فيه، فإن هذا يرجع إلى حكم مجتمع آخر له، لا إلى حكمه الخاص. وإذا خرج سالما من المخاطر الكبيرة وازدهرت أحواله فإنه لا يستطيع إلا أن يقدر حكم الله وأن يعظمه (بقدر ما يفعل الله بوساطة علل خارجة مجهولة لا بوساطة الطبيعة والفكر البشريين) لأنه نال كل شيء على غير انتظار دون تدبير سابق، وهو ما يمكن اعتباره أمرا معجزا.
13
في هذا وحده إذن تتميز الأمم فيما بينها، أعني من حيث النظام الاجتماعي والقوانين التي تحكمها وتنظم حياتها. وقد اختار الله الأمة العبرية وفضلها على سائر الأمم، لا بالنسبة إلى حكمتها أو طمأنينة نفسها، بل بالنسبة إلى النظام الاجتماعي وإلى الحظ الذي جلب لها إمبراطورية (دولة) وحفظها لها سنين طويلة.
14
ويدل الكتاب على ذلك بدرجة كبيرة من الوضوح، فلو أننا تصفحناه، حتى بطريقة عارضة، لرأينا بوضوح أنه إذا كان العبرانيون قد تميزوا بشيء ما عن الأمم الأخرى، فإنهم قد تميزوا بازدهار أحوالهم فيما يتعلق بالأمن في الحياة، وبما حصلوا عليه من سعادة في التغلب على المخاطر الكبرى.
15
وقد تم لهم كل هذا بعون الله الخارجي فحسب، وفيما عدا ذلك كانوا على قدم المساواة مع باقي الأمم، فالله يرعى الجميع على السواء. أما فيما يتعلق بالحكمة، فمن الثابت (وقد بينا ذلك في الفصل السابق) أنه كانت لديهم معتقدات فجة إلى حد بعيد عن الله والطبيعة؛ لذلك لم يخترهم الله ولم يفضلهم على الآخرين لهذا السبب، ولا من أجل الفضيلة والحياة الحقة، فقد كانوا من هذه الناحية على قدم المساواة مع باقي الأمم، ولم يقع الاختيار إلا على قليل منها؛ وعلى ذلك، فقد تم اختيارهم وأعطوا رسالة من أجل الازدهار الدنيوي لدولتهم، ومن أجل مزاياهم المادية. كذلك، فإننا نعتقد أن الله لم يعد البطارقة
16 ⋆
أو خلفاءهم بأي شيء ما عدا ذلك، بل إن الشريعة لم تعد العبرانيين بشيء مقابل طاعتهم إلا باستمرار دولتهم الذي يسعدون به وبنعم الدنيا، وفي مقابل ذلك فإنها أنذرتهم بسقوط الدولة وبأفدح المصائب لو أنهم عصوا الميثاق ونقضوه. ولا عجب في ذلك، فغاية كل مجتمع وكل دولة (كما يتضح مما قلناه، وكما سنسهب في بيانه فيما بعد) هي العيش في أمن والحصول على مزايا معينة، إلا أن الدولة لا يمكن أن تبقى إلا بالقوانين التي يلتزم بها كل فرد. ولو أراد جميع أعضاء المجتمع الواحد إلغاء القوانين فإنهم بذلك إنما يقضون على المجتمع وعلى الدولة معا. وعلى ذلك، فإن أية وعود لم تعط لمجتمع العبرانيين، مقابل المراعاة الدائمة للقوانين، وسوى الأمن
17 ⋆
في الحياة والنعم المادية. وعلى العكس من ذلك، فلم يتنبأ لهم بعذاب أكيد مقابل عصيانهم سوى انهيار الدولة وما ينتج عن ذلك عادة من الشرور، وكذلك بعض المصائب التي تحل بهم خاصة، وذلك نتيجة لانهيار دولتهم. ولسنا في حاجة هنا إلى الإفاضة في هذا الموضوع، وإنما أود فقط أن أضيف أن قوانين العهد القديم قد أوحيت لليهود ووضعت لهم وحدهم؛ إذ إنه لما كان الله قد اختارهم لا لشيء إلا ليكونوا مجتمعا لهم، وليقيموا دولة خاصة بهم، فقد كان من الضروري أن تكون لهم قوانين خاصة. ولكن، هل وضع الله أيضا لسائر الأمم قوانين خاصة، وهل أوحى بتعاليمه إلى المشرعين على طريقة النبوة أي من خلال الصفات التي تعود الأنبياء إعطاءها إياه بخيالهم؟ هذه المسألة لم تتضح بما فيه الكفاية بعد، ولكننا على الأقل نرى في الكتاب أن أمما أخرى قد كونت لها إمبراطورية وقوانين خاصة بحكم الله الخارجي، وسأذكر نصين فقط لإثبات ذلك؛ يروى في سفر التكوين (14: 18-20)
18
أن ملكيصادق
19
كان ملكا على أورشليم وحبر (كاهن) الله تعالى، وأنه بارك إبراهيم طبقا لقانون الحبر (انظر: العدد، 6: 23)،
20
وأن إبراهيم خليل الله أعطى حبر الله عشر غنيمته. ويبين ذلك بوضوح كاف أن الله قبل أن يؤسس الأمة الإسرائيلية نصب ملوكا وأحبارا على أورشليم، ووضع لهم شعائر وقوانين. ولا أستطيع أن أجزم - كما قلت من قبل - إن كان الله قد فعل ذلك بطريق النبوة، ولكني على الأقل مقتنع تماما بأن إبراهيم في أثناء إقامته هناك قد عاش متدينا طبقا لهذه القوانين. والحقيقة أن الله لم يعط إبراهيم أية شعائر خاصة به، ومع ذلك جاء في الكتاب (التكوين ، 26: 5)
21
أن إبراهيم قد عبد الله وعمل بوصاياه ونظمه وقوانينه. ولا شك أن المقصود هو أن هذه الشعائر كانت النظم والوصايا والقوانين التي وضعها الملك ملكيصادق. ويعاتب ملاخي (1: 10-11) اليهود قائلا: «من فيكم يغلق الأبواب (أبواب المعبد) أو يوقد نار مذبحي مجانا لأني لا مسرة لي بكم ولا أرضى تقدمة من أيديكم؛ لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم في الأمم. قال رب الجنود.» ولما كان من غير الممكن فهم هذه الكلمات إلا في الزمن الحاضر، وهو الزمن الوحيد المعقول، وإلا حرفنا الكلم عن مواضعه، فإنها تدل بوضوح تام على أن اليهود لم يكونوا في هذا الوقت أحباء الله أكثر من باقي الأمم، بل إن الله كان يكشف عن نفسه بالمعجزات لباقي الشعوب أكثر مما يفعل لليهود الذين استعادوا جزءا من إمبراطوريتهم في ذلك الوقت دون معجزات. كما تدل هذه الكلمات على أن لباقي الأمم طقوسا وشعائر يتقربون بها إلى الله، على أني سأترك هذا الموضوع جانبا؛ إذ يكفي لإثبات ما أريده أن أكون قد بينت أن اختيار اليهود كان يتعلق فقط بالنعم الدنيوية الجسدية وبالحرية، أي بوجود الدولة، وطرق إقامتها ووسائل بقائها، ومن ثم أيضا بالقوانين بقدر ما كانت ضرورية لإقامة هذه الدولة الخاصة، وأخيرا بالطريقة التي أوحيت بها هذه القوانين، وفيما عدا ذلك مما يكون القيمة الحقيقية للإنسان، لم يتميز اليهود على غيرهم بشيء، وإذن فعندما يذكر في الكتاب (انظر: التثنية، 4: 7)
22
أنه لا توجد آلهة قريبة من أمة قرب إله اليهود منهم، فيجب أن نفهم هذا القرب بالنسبة إلى الدولة فقط، وفي الزمن الذي وقعت فيه حوادث معجزة كثيرة. أما بالنسبة إلى الذهن والفضيلة، أي بالنسبة إلى السعادة والغبطة، فإن الله يرعى الجميع بقدر متساو، كما قلنا من قبل وبرهنا عليه بالعقل نفسه. وهذا ما يؤكده الكتاب ذاته بالفعل، يقول كاتب المزمور (المزمور 144: 18): «الرب قريب من جميع دعاته الذين يدعونه بالحق.» وفي المزمور نفسه (الآية 9): «الرب صالح للجميع ومراحمه على كل صنائعه.» ويذكر في المزمور «33 (32): 15» أن الله أعطى الجميع الذهن نفسه. وهذا هو نص الآية: «هو جايل قلوبهم جميعا.» (بالطريقة نفسها) فقد كان العبرانيون يعتقدون حقيقة أن القلب موطن النفس والذهن، وأظن أن هذا معروف للجميع. ويخبرنا الإصحاح 28، الآية 28 من سفر أيوب
23
أن الله قد فرض للجميع هذا القانون الذي يقضي بتعظيم الله وبالكف عن الأفعال القبيحة، أي يقضي بالتوجه له بالفعل الصالح. ومن هنا أصبح أيوب وهو غير اليهودي، أحب الجميع لله لأنه فاقهم جميعا في الورع والتدين، ويتبين أخيرا من سفر يونس (4: 2) أن الله يرعى «الجميع ويرحمهم ويسامحهم، وأن رحمته تسعهم جميعا»، وأنه يغفر الخطايا للجميع، دون أن يقصر ذلك على اليهود وحدهم، فيقول يونس: «ولذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش» (من كلمات موسى في الخروج، 34: 6)
24 «فإني علمت أنك إله رءوف رحيم»؛ ومن ثم فإنك ستعفو عن أهل نينوى. ننتهي إذن (ما دام الله يرعى الجميع على السواء ولم يختر العبرانيين إلا من حيث وجودهم في مجتمع زمني وفي دولة) إلى أن اليهودي بمفرده، خارج عن المجتمع والدولة، لا يتميز عن الآخرين بأية هبة من الله، ومن ثم فلا فرق بينه وبين غير اليهودي.
25
ولما كان الله لطيفا رحيما حقا بالجميع، وكانت مهمة النبي أقرب إلى تعليم الفضيلة الحقة وتهذيب البشر منها إلى تعليم القوانين الخاصة بالوطن، فلا شك أن جميع الأمم كان لها أنبياء، وأن هبة النبوة لم تكن قاصرة على العبرانيين. وهذا ما يشهد به التاريخ الديني والتاريخ الدنيوي على السواء. وإذا لم تكن الروايات المقدسة في العهد القديم تدل على إرسال الأنبياء إلى سائر الأمم كما أرسلوا إلى العبرانيين، أو على أن الله لم يرسل إليها صراحة أي نبي غير يهودي، فهذا لا يهم في شيء؛ لأن العبرانيين لم يهتموا إلا برواية شئونهم الخاصة، لا برواية شئون غيرهم من الأمم. يكفي إذن أن نجد في العهد القديم أن أشخاصا غير مختونين وغير يهود مثل نوح،
26
وأخنوخ،
27
وأبيملك،
28
وبلعام
29 ... إلخ قد تنبأوا، وأن الله من جهة أخرى قد أرسل أنبياء عبرانيين لأمم كثيرة لا لأمتهم وحدها. فقد تنبأ حزقيال لجميع الأمم المعروفة في عصره، ولم يكن عوبديا
30
نبيا - على ما نعلم - إلا للأدوميين، وأرسل يونس
31
إلى أهل نينوى، ولم يقتصر أشعيا على ندب مصائب اليهود أو الفرح لعودتهم واستقرارهم، بل تحدث أيضا إلى الأمم الأخرى قائلا (16: 9): «لذلك أبكي بكاء يعزير.» وتنبأ في الإصحاح 19 أولا بمصائب المصريين ثم بخلاصهم (19: 19، 21، 25)،
32
أعني أنه تنبأ بأن الله سيرسل للمصريين مخلصا يخلصهم، وأنهم سيعرفونه ويعظمونه آخر الأمر بالضحايا والقرابين، وهو يسمي في النهاية هذه الأمة «شعب مصر الذي باركه الله». كل هذه أمور تستحق عن جدارة التنويه بها. وأخيرا، لم يسم إرميا نبي الأمة العبرية وحدها، بل نبي الأمم كلها بلا تمييز (انظر: إرميا، 1: 5)،
33
فهو في تنبؤاته يندب مصائب الأمم كلها كما يتنبأ بخلاصها فيقول (48: 31) بخصوص المؤابيين «لذلك أولول على مؤاب كالمزمار.» وأخيرا، يتنبأ بخلاصهم وبخلاص المصريين والأمونيين والأدوميين. وإذن فليس ثمة شك في أن الأمم الأخرى كان لها أنبياؤها وأنهم تنبئوا كما تنبئوا لليهود.
34
ومع أن الكتاب لا يذكر إلا بلعام
35
وحده الذي أوحي إليه مستقبل اليهود والأمم الأخرى، فلا ينبغي أن نعتقد أن بلعام قد تنبأ في هذه المناسبة وحدها؛ إذ يتبين بوضوح تام من التاريخ نفسه أنه تميز منذ وقت طويل بالنبوات وبالهبات الإلهية الأخرى. فعندما استدعاه بالاق،
36
قال له (العدد، 22: 6): «لأني أعلم أن من تباركه يكون مباركا وأن من تلعنه يكون ملعونا.» وإذن فقد كانت لديه الموهبة نفسها التي وهبها الله لإبراهيم (انظر التكوين، 12: 3).
37
ومن ناحية أخرى، يجيب بلعام الرسل، كما يجيب إنسان اعتاد القيام بنبوءات، فيقول لهم: إن عليهم أن ينتظروه حتى تكشف لهم إرادة الله. وعندما كان يعلن النبوة أي عندما كان يفسر فكر الله الحق كان يقول عن نفسه عادة: «كلمة من يسمع كلمات الله ويعلم علمه تعالى (أو الفكر أو العلم السابق) ومن يرى رؤية القادر تعالى ومن يقع على الأرض وعيناه مفتوحتان.» وأخيرا، بعد أن بارك العبرانيين بأمر الله ، بدأ يعلن النبوة (كما كانت عادته) وتنبأ بمستقبل سائر الأمم. ويكفي ذلك لإثبات أنه كان نبيا دائما أو أنه أعلن نبوته مرات عديدة، وأنه كانت لديه بوجه خاص (وهذا ما يجب ذكره أيضا) ما كان يعطي الأنبياء اليقين الذي ترتكز عليه حقيقة النبوة: أعني قلبا لا يميل إلا إلى العدل والخير. فهو لم يكن يبارك أو يلعن من يشاء، كما ظن بالاق، بل من أراد الله أن يباركهم أو أن يلعنهم؛ ولهذا أجاب ردا على بالاق: «لو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبا لم أستطع أن أتجاوز أمر الرب إلهي فأعمل حسنة أو سيئة. رأيي أنا، ما يقوله الرب إياه أقول.» (24: 13). أما فيما يتعلق بغضب الله عليه في أثناء رحلته فقد حدث لموسى هذا الشيء نفسه عندما ذهب إلى مصر بأمر الله (انظر: الخروج، 4: 24).
38
أما النقود التي كان يأخذها ثمنا لنبوءته فقد كان صموئيل يفعل ذلك (انظر: صموئيل الأول، 9: 7-8)،
39
وإذا كان قد أخطأ في مسألة أخرى (انظر في هذا الصدد الرسالة الثانية لبطرس، 2: 1، 16، ورسالة يهوذا، الإصحاح - الثاني)
40 «فإنه ليس من صديق على الأرض يصنع الخير بغير خطأ»: (انظر الجامعة، 7: 20)، وقد كان لخطبه ولا شك أثر قوي أمام الله، ولكن للعنته أثر قوي أيضا؛ إذ إننا كثيرا ما نجد في الكتاب المقدس أن الله يبرهن على رحمته الواسعة للعبرانيين عن طريق الاستماع إلى بلعام، وتغيير لعنته إلى بركة (انظر: التثنية، 23: 26، يشوع، 24: 10، نحميا، 13: 2)
41
وعلى ذلك، فلا شك أنه كان أثيرا لدى الله لأن أقوال الكفار ولعناتهم لا تمس الله مطلقا. ولكن لما كان هذا الرجل نبيا حقا وسماه يشوع مع ذلك عرافا أي قارئا للمستقبل (13: 22)،
42
فلا شك أن هذا الاسم كان يدل على معنى حسن، وأن من سماهم الوثنيون بالمتنبئين والعرافين كانوا أنبياء صادقين، على حين أن من يتهمهم الكتاب ويدينهم مرات كثيرة كانوا متنبئين كذبة يخدعون الوثنيين كما خدع الأنبياء الكذبة اليهود، وهذا واضح أيضا في فقرات أخرى من الكتاب. ومن ذلك يمكننا أن نستنتج أن هبة النبوة لم تكن وقفا على اليهود وحدهم، بل مشتركة بين جميع الأمم، إلا أن الفريسيين
43
ينتهون إلى عكس ما انتهينا إليه، ويؤكدون أن هذه الهبة الإلهية كانت وقفا على أمتهم، وأن الأمم الأخرى قد تنبأت بالمستقبل بقوة شيطانية ما (أليست الخرافة قادرة على اختلاق أي شيء؟) والنص الرئيس الذي يقدمونه لتأكيد تفسيرهم لسلطة العهد القديم مأخوذ من سفر الخروج (33: 16)، حيث يقول موسى: «فإنه بماذا يعرف أني نلت حظوة في عينيك أنا وشعبك، أليس بمسيرك معنا فنختار أنا وشعبك من كل أمة على وجه الأرض.» ومن هنا أرادوا أن يستنتجوا أن موسى قد طلب من الله أن يكون حاضرا أمام اليهود، وأن يكشف عن نفسه لهم بنبوءات وألا يعطي هذا الفضل بعد ذلك أي شعب آخر. وإنه لمضحك حقا أن يكون موسى قد حسد الأمم الأخرى على حضور الله أمامهم أو أن يتجرأ على أن يطلب من الله شيئا من هذا القبيل. والواقع أنه عندما بدأ موسى في التعرف على روح أمته وعلى نزوعها إلى العصيان أدرك بوضوح أنه لا يمكنه أن يقوم بمهمته خير قيام دون الاعتماد على أكبر المعجزات، وطلب العون الخارجي من الله وإلا هلك اليهود، فطلب عونا خاصا من الله حتى يثبت على نحو قاطع أن الله يريد الإبقاء عليهم قال (34: 9): «إني حظيت في عينيك يا رب، إذا يسير الرب فيما بيننا لأنهم شعب قساة الرقاب.» وإذن فالسبب الذي من أجله طلب العون من الله هو أن الشعب كان عاصيا، ومما يثبت بمزيد من الوضوح أن موسى لم يطلب إلا هذا العون الخارجي وحده، إجابة الله ذاتها، فقد رد عليه بقوله (الإصحاح نفسه: 10): «ها أنا ذا بات عهدا أمام جميع شعبك أصنع معجزات لم ير مثلها في جميع العالم بين جميع الأمم.» وعلى ذلك، فإن موسى لم يكن يستهدف إلا اختيار العبرانيين على النحو الذي بينته، لم يطلب من الله شيئا آخر، ومع ذلك، فإني أجد في رسالة بولس إلى أهل رومية نصا آخر يسترعي انتباهي أكثر من ذلك، أعني هذا النص من الإصحاح 3، الآيات: 1، 2 الذي يعرض فيه بولس - فيما يبدو - رأيا يخالف نظريتنا، فيقول: «فما فضل اليهود إذن أو ما نفع الختان؟ إنه جزيل على كل وجه أولا لأنهم اؤتمنوا على أقوال الله.» على أننا إذا فحصنا جيدا هذا الرأي الذي يريد بولس عرضه هنا قبل كل شيء، لا نجد فيه ما يعارض نظريتنا، بل إنه يدعو إلى عين ما ندعو إليه. فهو يقول (الإصحاح نفسه: 29): إن الله هو إله اليهود وغير اليهود معا. وفي الإصحاح 2، الآيات 25، 26، يقول: «إن الختان ينفع لو عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعديا للناموس فقد صار ختانك قلفا، فإذا كان الأقلف يحفظ حقوق الناموس أفلا يعد قلفه ختانا؟» ويقول ثانيا (3: 9؛ 4: 15)
44
إن الجميع يهودا أو غير يهود معرضون للخطيئة وأنه لا خطيئة دون أمر إلهي وشريعة إلهية. ومن ذلك يتبين بأقصى قدر من الوضوح أن الشريعة قد أوحيت للجميع على السواء كما بينا من قبل عند الحديث عن أيوب (28: 28)،
45
كما تبين أن الجميع عاشوا تحت لوائها، وواضح أني أتحدث عن شريعة الفضيلة الحقة، لا عن الشريعة التي تقام بالنسبة إلى كل دولة، والتي ترتبط بتكوينها وتتلاءم مع الروح الخاص لأمة بعينها. وينتهي بولس أخيرا إلى أن الله هو إله جميع الأمم، أي إنه يرعى الجميع، وما دام الجميع يخضعون للمقدار نفسه للشريعة وللخطيئة، فقد أرسل الله مسيحه لكل الأمم ليخلصها بالمثل من عبودية الشريعة،
46
بحيث لا يفعل الناس الخير طبقا لوصايا الشريعة بل بأمر حازم من النفس، أي أن بولس يدعو إلى النظرية نفسها التي ندعو إليها. وعلى ذلك، فعندما يقول: «لقد اؤتمن اليهود وحدهم على كلمات الله.» يجب أن نفهم من ذلك
47
أن اليهود وحدهم هم الذين أودعت لديهم الشريعة مكتوبة، على حين حصلت سائر الأمم على الوحي والأمانة في الروح فقط، أو ينبغي أن نقول: (ما دام بولس يأخذ على عاتقه الرد على اعتراض لا يمكن أن يكون قد صدر إلا عن اليهود) إن بولس قد وضع نفسه، في رده، على مستوى فهم اليهود ، وتحدث طبقا لمعتقداتهم الموروثة الشائعة لديهم. والواقع أن بولس، لكي ينشر تلك التعاليم التي أدرك هو ذاته جزءا منها،
48
وعرف جزءا آخر عن طريق السمع. كان يونانيا مع اليونانيين، يهوديا مع اليهود.
لم يبق لنا إلا أن نرد على هؤلاء الذين يحاولون إقناع أنفسهم لأسباب شتى بأن اختيار اليهود لم يكن وقتيا يتعلق بالدولة وحدها بل كان أزليا. هؤلاء يقولون: إننا نرى اليهود الذين تشردوا، بعد انهيار إمبراطوريتهم، في كل مكان، وانفصلوا عن باقي الأمم، قد احتفظوا مع ذلك بكيانهم طوال هذه السنين، وهذا ما لم يحدث لشعب آخر. وفضلا عن ذلك، يخبرنا الكتاب - على ما يبدو - في مواضع كثيرة بأن الله قد اختار اليهود إلى الأبد، ومن ثم فإنهم سيظلون أصفياء الله بالرغم من انهيار إمبراطوريتهم. وهذه هي النصوص الرئيسة التي يبدو أنها تؤيد هذا الرأي: (1) إرميا (31: 36)،
49
حيث يؤكد النبي أن بذرة إسرائيل ستظل أمة الله إلى الأبد ويشبه اليهود بالنظام الثابت للسموات وللطبيعة. (2) حزقيال (20: 32)،
50
حيث يعني النص، على ما يبدو، أنه بالرغم مما قد يبذلونه من جهد لترك عبادة الله، فإن الله سيجمعهم من جديد من جميع الأقطار التي تشردوا فيها ويقودهم في صحراء الشعوب كما قاد أسلافهم في صحراء مصر. وبعد أن يفصلهم أخيرا عن العصاة والمرتدين، سيرفعهم على جبل قدسيته حيث تخدمه أسرة إسرائيل كلها. وبالإضافة إلى هذه النصوص، تعود الفريسيون بوجه خاص ذكر نصوص أخرى، ولكني أعتقد أني سأكون قد رددت بطريقة مرضية على كل النصوص عندما أرد على هذين النصين، وهذا ما سأفعله دون عناء كبير عندما أبرهن، بالكتاب نفسه، على أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم في الظروف نفسها التي اختار فيها الكنعانيين
51
من قبل. فكما بينا آنفا، كان الكنعانيون بدورهم أحبارا يخدمون الله بوازع ديني، ولكن الله تخلى عنهم بسبب حبهم للشهوات، ولرخاوتهم، ولعبادتهم الباطلة. والواقع أن موسى قد حذر الإسرائيليين في سفر الأحبار (18: 27-28)
52
من تدنيس أنفسهم بنكاح المحرمات، كما فعل الكنعانيون حتى لا تلفظهم الأرض كما لفظت الأمم التي سكنت هذه الأقطار، وهو يوعدهم بألفاظ صريحة في سفر التثنية (8: 19-20) بدمار شامل، فيقول لهم: «فأنا شاهد عليكم اليوم بأنكم تهلكون هلاكا كالأمم التي أبادها الرب من أمامكم.» وعلى هذا النحو ذاته، نجد في الشريعة نصوصا أخرى تدل صراحة على أن الله لم يختر أمة العبرانيين إلى الأبد وبصورة مطلقة. وعلى ذلك، فإذا كان الأنبياء قد تنبئوا بميثاق جديد أزلي، ميثاق معرفة الله وحبه وفضله، فإنه من السهل أن نقتنع بأن هذا وعد للأتقياء وحدهم. والواقع أنه ورد صراحة في الإصحاح نفسه الذي ذكرناه الآن من سفر حزقيال أن الله سيفصل عنهم العصاة والمرتدين. ويذكر صفنيا (3: 12-13)
53
أن الله سيهلك الأغنياء ويبقي على الفقراء. إذن فلما كان هذا الاختيار يتعلق بالفضيلة الحقة، فيجب ألا نظن أنه قد وعد الأتقياء من اليهود وحدهم، مع استبعاد الآخرين، بل يجب أن نعتقد اعتقادا جازما بأن الأنبياء الحقيقيين من غير اليهود - وقد أثبتنا أن جميع الأمم كان لها أنبياؤها - قد وعدوا المؤمنين من أممهم بهذا الاختيار ذاته، وقدموا إليهم هذا العزاء نفسه. وعلى ذلك، فإن هذا الميثاق الأزلي لمعرفة الله وحبه هو ميثاق شامل، كما يتضح تماما في صفنيا (3: 10-11).
54
وهكذا، يجب ألا نفرق مطلقا في هذه الناحية بين اليهود وغيرهم، وليس ثمة اختيار يختص به اليهود سوى هذا الذي عرضناه الآن. وإذا كان الأنبياء يمزجون هذا الاختيار القائم على الفضيلة الحقة وحدها بكلمات تشير إلى القرابين والشعائر الأخرى عن إعادة بناء «المعبد» و«المدينة»، فما ذلك إلا لأنهم أرادوا - كيف تقضي عادة النبوة وطبيعتها - أن يفسروا الأمور الروحية بنماذج حسية من شأنها أن تبين في الوقت نفسه لليهود الذين أتاهم هؤلاء الأنبياء أن إعادة بناء الدولة والمعبد كان يجب توقعه في عهد قورش.
55
وإذن فليس لليهود الآن ما يعزونه لأنفسهم مما هو خليق بأن يضعهم فوق سائر الأمم.
56
أما عن حياتهم الطويلة كأمة ضاعت دولتها، فليس فيها ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن اليهود قد عاشوا بمعزل عن جميع الأمم حتى جلبوا على أنفسهم كراهية الجميع، ولم يكن ذلك عن طريق مراعاة الطقوس الخارجية التي تعارض طقوس الأمم الأخرى فحسب، بل أيضا عن طريق علامة الختان التي ظلوا متمسكين بها دينيا. وقد أثبتت التجربة أن كراهية الأمم عامل قوي إلى أبعد حد في الإبقاء على اليهود،
57
فعندما أجبر أحد ملوك الإسبان اليهود على الإيمان بدين الدولة أو الخروج من إسبانيا اعتنق كثير منهم الديانة الكاثوليكية الرومانية. ولما كانوا قد شاركوا نتيجة لذلك في جميع امتيازات الإسبان، وأصبحوا يعدون جديرين بالتكريم نفسه الذي يناله هؤلاء، فقد اختلطوا بالإسبان إلى حد لم يبق منهم معه بعد وقت قصير شيء حتى الذكرى. وقد حدث عكس ذلك تماما مع أولئك الذين أجبرهم ملك البرتغال على تغيير دينهم، فقد عاشوا منعزلين بعد استبعادهم من جميع المناصب العليا. وأنا أعزو إلى طقس الختان بدوره من القيمة والأهمية في هذا الصدد ما يجعلني أعتقد أنه وحده يستطيع أن يضمن لهذه الأمة اليهودية وجودا أزليا. فإذا لم تضعف مبادئ دينهم ذاتها قلوبهم، فإني أعتقد بلا أدنى تحفظ، عالما بتقلبات الأمور الإنسانية، بأن اليهود سيعيدون بناء إمبراطوريتهم في وقت ما، وأن الله سيختارهم من جديد.
58
وإننا لنجد مثلا رائعا عند الصينيين للأهمية التي يمكن أن تكون لهم صفة مميزة كالختان؛ إذ يحتفظ الصينيون بدورهم بخصلة من الشعر على شكل ذيل فوق الرأس ليتميزوا بها عن سائر الناس، وبذلك أبقوا على أنفسهم عبر آلاف من السنين، تجاوزوا في القدم الأمم بكثير. صحيح أنهم لم يبقوا على إمبراطوريتهم دون فترات انقطاع، ولكنهم كانوا دائما يعيدون بناءها عندما تنهار، وسيقيمونها من جديد حتما عندما يضعف التتار بسبب الحياة الناعمة المترفة. وأخيرا، فلو شاء أحد أن يتمسك بأن اليهود قد تم اختيارهم من الله إلى الأبد لهذا السبب أو ذاك، فإني لن أعارض في ذلك، بشرط أن يكون مفهوما أن اختيارهم الزمني أو الأبدي، بقدر ما هو وقف عليهم، يتعلق فقط بالدولة وبالمزايا المادية (إذ لا يوجد أي فرق غير ذلك بين أمة وأخرى). أما بالنسبة إلى الذهن وإلى الفضيلة الحقة فلم تخلق أمة متميزة عن الأخرى في هذا الصدد ؛ وعلى ذلك فلم يختر الله أمة بعينها، مفضلا إياها في هذه الناحية على الأمم الأخرى.
الفصل الرابع
القانون الإلهي
يطلق لفظ القانون مأخوذا بمعناه المطلق، على كل حالة يخضع فيها الأفراد منظورا إليهم كل على حدة؛ سواء أكان الأمر متعلقا بمجموع الموجودات أو ببعض الموجودات المنتمية إلى النوع نفسه - لقاعدة سلوك واحدة محددة. ويتوقف القانون إما على ضرورة طبيعية وإما على قرار إنساني، فالقانون يكون معتمدا على ضرورة طبيعية عندما يصدر بالضرورة من طبيعة الشيء ذاتها أو من تعريفه، ويكون معتمدا على القرار الإنساني - ويسمى عندئذ بالأحرى قاعدة تشريعية - عندما يفرضه البشر على أنفسهم وعلى الآخرين ليجعلوا الحياة أكثر أمنا وأكثر يسرا، أو لأسباب أخرى. فالقول مثلا بأن جميع الأجسام عندما تصطدم بأجسام أخرى أصغر منها تفقد من حركتها بمقدار ما تعطي، هو قانون شامل لجميع الأجسام، يصدر بضرورة طبيعية، وبالمثل فإن القول بأن الإنسان عندما يتذكر شيئا يتذكر معه على الفور شيئا مشابها، أو شيئا أدركه في الوقت نفسه الذي أدرك فيه الشيء الأول، هو بدوره قانون ينتج ضرورة من الطبيعة الإنسانية. وعلى العكس من ذلك، فإن الناس عندما يتركون أو يرغمون على ترك شيء من الحق
1
الذي وهبتهم الطبيعة إياه، ويجبرون على اتباع قاعدة معينة في الحياة، فإن ذلك يتوقف على قرار إنساني، ومع أني أعترف بلا أدني تحفظ بأن جميع الأشياء محددة بقوانين شاملة في الطبيعة، بحيث توجد وتفعل بطريقة محددة للغاية،
2
فإني أعتقد أن مثل هذه القوانين تعتمد على قرار يتخذه البشر: (1)
لأن الإنسان بقدر ما هو جزء من الطبيعة يكون جزءا من قدرتها؛ لذلك، فإن ما يصدر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية (أي من الطبيعة نفسها من حيث تصورنا لها ابتداء من الطبيعة الإنسانية)، وإن كان ضروريا، فإنه يصدر أيضا عن قدرة الإنسان؛ لذلك فمن الممكن جدا القول بأن وضع هذه القوانين يتوقف على قرار يتخذه البشر، لأنه يعتمد أولا على قدرة الذهن الإنساني، ولأنه يمكننا، بوضوح تام، تصور هذا الذهن، بقدر ما يكون قادرا على الصواب والخطأ في مدركاته، دون هذه القوانين، على حين أن من المستحيل تصوره دون قانون ضروري بالمعنى الذي حددناه. (2)
كذلك قلت: إن هذه القوانين تعتمد على قرار إنساني لأن علينا أن نعرف الأشياء وأن نفسرها بعللها القريبة، ولأن الأفكار الشديدة العمومية عن القدر وعن تسلسل العلل لا تفيدنا على الإطلاق عندما يكون الأمر متعلقا بتكوين وتنظيم أفكارنا الخاصة بالأشياء الجزئية. ولنضف إلى ذلك، أننا نجهل تماما ارتباط الأشياء وتسلسلها، أي إننا نجهل كيفية ارتباط الأشياء وتسلسلها في الواقع. ومن هنا كان من الأفضل، بل من الضروري اعتبارها ممكنة بالنسبة إلى أغراض الحياة العملية،
3
هذا فيما يتعلق بالقانون إذا نظرنا إليه بمعناه المطلق.
على أن لفظ القانون لا يطلق على الأشياء الطبيعية إلا مجازا، ونحن عادة لا نقصد بالقانون إلا أمرا من الأوامر، يستطيع الناس تنفيذه أو إهماله، على أن يكون مفهوما أنه يحصر قدرة الإنسان في حدود معينة، تستطيع هذه القدرة مع ذلك أن تتعداها، ولكنه لا يأمر بشيء يفوق قواها. علينا إذن - فيما يبدو - أن نعرف القانون تعريفا أخص بأنه قاعدة للحياة يفرضها الإنسان على نفسه أو على الآخرين من أجل غاية. على أنه لما كانت غاية القوانين الحقيقية لا تتضح إلا لعدد قليل، ولما كان معظم الناس تقريبا لا يقدرون على إدراكها مع أن حياتهم تسير بدورها وفقا للعقل، فقد وضع المشرعون بحكمة غاية مختلفة تماما عن الغاية التي تنشأ ضرورة عن طبيعة القوانين، فهم يبشرون المدافعين عن القانون بما يفضله العامة على كل ما عداه، وينذرون من يمزقونه بما يرهبه العامة أكثر من غيره. وعلى هذا النحو، حاولوا السيطرة على العامة بقدر الإمكان، كما يسيطر الإنسان على الحصان باللجام. ومن هنا ينشأ ذلك التصور الشائع للقانون على أنه قاعدة للحياة فرضها بعض الناس على البعض الآخر، حتى إننا لنقول في لغتنا الشائعة عمن يطيعون القوانين إنهم يعيشون تحت سلطان القانون ويبدون عبيدا له. وإنه لمن الصحيح حقا أن من يعطي كل ذي حق حقه خوفا من المشنقة يفعل ذلك بأمر الآخرين، ويضطر إليه خوفا مما قد يلحق به من ضرر، فلا يمكن أن نعتبره عادلا، أما من يعطي كل ذي حق حقه لأنه يعلم السبب الحقيقي لوضع القوانين وضرورتها فإنه يفعل باتفاق تام مع نفسه وبمحض مشيئته لا بمشيئة الآخرين؛ ولذلك كان من حقه أن نسميه عادلا. وأعتقد أن هذا ما أراد بولس أن يدعو له عندما قال: إن من يعيشون تحت سلطة القانون لا يمكن تبريرهم بالقانون:
4
لأن العدالة، كما تعرف عادة، هي إرادة ثابتة ودائمة لإعطاء كل ذي حق حقه. ويقول سليمان في المعنى نفسه (الأمثال، 21: 15):
5
وقت الحساب يفرح العادل ويرتعد الظالمون. وإذن فلما كان القانون قاعد للحياة يفرضها الناس على أنفسهم أو على الآخرين لتحقيق غاية ما، فيجدر بنا الآن أن نقسم القانون إلى قانون إنساني وقانون إلهي، وأعني بالقانون الإنساني قاعدة للحياة مهمتها الوحيدة هي المحافظة على سلامة الحياة والدولة، أما القانون الإلهي فأعني به قاعدة لا تهدف إلا للخير الأقصى، أي إلى المعرفة الحقة وإلى حب الله. ويرجع السبب في تسميتي هذا القانون إلهيا إلى طبيعة الخير الأقصى، الذي سأعرض له ها هنا في كلمات موجزة وبقدر ما أستطيع من وضوح.
لما كان الذهن أفضل ما في وجودنا، فلا شك أننا إذا أردنا حقيقة البحث عما هو نافع، فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نحاول الارتقاء بذهننا بقدر الإمكان؛ لأن خيرنا الأقصى يتحقق في هذا الارتقاء. وفضلا عن ذلك، فإن معرفتنا كلها، وكذلك اليقين - الذي يقضي بالفعل على كل شك - يتوقف على معرفة الله وحدها؛ لأن الشيء لا يمكن أن يوجد أو يتصور بدون الله
6
ولأن في إمكاننا أن نشك في كل شيء طالما ليست لدينا عن الله فكرة واضحة ومتميزة،
7
وينتج عن ذلك، أن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها ... إلخ. فضلا عن ذلك، فلما كان يستحيل وجود شيء أو تصوره بدون الله، فمن المؤكد أن كل موجودات الطبيعة تحتوي على فكرة الله وتعبر عنها حسب درجتها في الماهية والكمال. ومن ذلك يتضح أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة
8
كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أعظم وأكمل. وبعبارة أخرى «لأن معرفة المعلول عن طريق العلة ليست إلا معرفة لخاصية معينة للعلة.» فكلما عرفنا أشياء أكثر في الطبيعة كانت معرفتنا لماهية الله وهو (علة الأشياء جميعها) أكمل. وهكذا لا تعتمد كل معرفتنا - أي خيرنا الأقصى - على معرفة الله فسحب، بل تنحصر فيها كلية. وهذا ينشأ أيضا من أن كمال الإنسان يكون بنسبة طبيعة وكمال الشيء الذي يحبه فوق كل شيء آخر، والعكس صحيح أيضا؛ وعلى ذلك، فإن من يفضل المعرفة العقلية لله أي للموجود المطلق الكمال على كل شيء، ومن تزيد نشوته بها يكون بالضرورة هو الأكمل، ويشارك في السعادة القصوى، ففي هذا إذن، أعني في معرفة الله وحبه، يكون خيرنا الأقصى وسعادتنا. ويترتب على ذلك أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية من جميع الأفعال الإنسانية، أعني الله نفسه من حيث وجوده فينا كفكرة، يمكن أن تسمى أوامر الله، لأن الله نفسه هو، على نحو ما، مصدرها بقدر ما يوجد في أنفسنا. ومن هنا، فإن لنا كل الحق في أن نسمي قاعدة الحياة التي تستهدف هذه الغاية قانونا إلهيا. والآن، فما هذه الوسائل، وما قاعدة الحياة التي تفرضها هذه الغاية؟ وكيف يمكننا أن نوجه نحو هذه الغاية المبادئ التي تقوم عليها أفضل نظم الحكم، وأن تنظم علاقات الناس فيما بينهم طبقا لها؟ إن علم الأخلاق الشامل هو الذي يجيب عن هذه الأسئلة، أما هنا فلن أستمر في الحديث إلا عن القانون الإلهي على وجه العموم.
لما كان حب الله هو سعادة الإنسان القصوى ونعيمه والغاية الأخيرة لجميع الأفعال الإنسانية وهدفها،
9
فإن ذلك الذي يجعل همه حب الله لا خوفا من عذابه، ولا طمعا في شيء آخر كاللذات او الشهوة بل لمجرد كونه يعرف الله، أي لأنه يعلم أن الخير الأقصى في معرفة الله وحبه . ذلك وحده هو الذي يتبع القانون الإلهي.
10
وإذن، فالقانون الإلهي يتلخص كله في قضية واحدة: هي حب الله باعتباره خيرا أقصى، وذلك، كما قلنا، لا خوفا من عذاب أو عقاب أو طمعا في شيء آخر نرغب في الاستمتاع به. وإذن فالدرس الذي تعلمنا إياه فكرة الله هو أن الله خيرنا الأقصى، وبعبارة أخرى فإن معرفة الله وحبه هي الغاية القصوى التي ينبغي أن تتجه إليها جميع أفعالنا. على أن الإنسان الغارق في لذات الجسد لا يستطيع أن يعلم هذه الحقيقة، بل وتبدو له عبثا لأنه ليس لديه معرفة كافية بالله، ولأنه لا يجد في هذا الخير الأقصى شيئا يستطيع أن يلمسه أو يأكله أو يؤثر في جسده الذي يبحث عن أعظم قدر من لذاته، ما دام هذا الخير الأقصى ينحصر في التأمل والتفكير الخالص. أما من يعترفون بأن أنفس ما لديهم هو الذهن وصفاء الروح فإنهم يرون هذه الحقيقة راسخة أشد الرسوخ. وهكذا، بينا ما هو القانون الإلهي وما هي القوانين التي تعد إنسانية: فهي تلك التي ترمي إلى غاية أخرى، ما لم يكن الوحي قد حددها، لأن الالتجاء إلى الوحي هو أيضا طريقة لإرجاع الأشياء إلى الله (وقد أشرنا إلى ذلك من قبل)، وبهذا المعنى، يمكننا أن نسمي شريعة موسى قانونا إلهيا
11
لأننا نعتقد أنها قد أقيمت على أساس من النور النبوي، مع أن هذه الشريعة لم تكن شاملة، وكانت مهيأة بحيث تلائم التكوين الخاص لشعب بعينه، وتهدف إلى المحافظة عليه. فإذا نظرنا الآن إلى طبيعة القانون الإلهي فإننا نلحظ: (1)
إنه شامل، أي إنه يعم الناس جميعا، لأننا قد استنبطناه من الطبيعة الإنسانية منظورا إليها في طابعها الكلي الشامل. (2)
وإنه لا يتطلب أن نصدق بروايات تاريخية، أيا كان مضمونها، ذلك لأنه لما كان هذا القانون الإلهي الطبيعي يعرف عن طريق تأمل الطبيعة البشرية وحدها، فمن المؤكد أننا نستطيع أن نراه في آدم أو في أي إنسان آخر، في إنسان يعيش بين الناس أو في إنسان يعيش منعزلا، ولا يستطيع تصديقنا بالروايات التاريخية - حتى ولو كانت تنطوي على يقين - أن يعطينا معرفة الله، وبالتالي لا يستطيع أن يعطينا حب الله؛ إذ ينشأ حب الله من معرفته، ومعرفة الله يجب أن تنشأ من أفكار مشتركة، يقينية معروفة بذاتها. فمن المحال إذن، أن يكون تصديقنا بالروايات التاريخية شرطا لا نستطيع بدونه أن نصل إلى الخير الأقصى. ومع ذلك، فإذا كان الإيمان بالروايات التاريخية لا يستطيع أن يعطينا معرفة الله وحبه، فإننا لا ننكر أن قراءتها مفيدة للغاية
12
في الحياة الاجتماعية، فكلما دققنا في ملاحظة أخلاق الناس وظروفهم، التي لا يمكن معرفتها على نحو أفضل إلا بملاحظة أفعالهم، وكلما عرفناها على نحو أفضل، ازددنا اكتسابا للحكمة التي تتيح لنا أن نعيش بينهم، وعرفنا على نحو أفضل كيف نكيف أفعالنا وحياتنا حسب طبيعتهم بمقدار ما يقتضيه العقل. (3)
إن هذا القانون الإلهي الطبيعي لا يقتضي إقامة الشعائر والطقوس، أي تلك الأفعال التي لا تعني شيئا في ذاتها، ولا تعتبر خيرة إلا من حيث دخولها في نظام، أو التي ترمز
13
لخير ضروري للخلاص، أو إن شئنا قلنا: إن هذا القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلب أفعالا يتعدى تبريرها حدود الفهم الإنساني. والواقع أن النور الفطري لا يتطلب شيئا لا يبلغه هذا النور نفسه، وكل ما يحتاج إليه هو ما يمكنه أن يعرفنا إياه بوضوح تام بوصفه خيرا، أي بوصفه وسيلة نحصل بها على سعادتنا. على أن الأشياء التي لا تصبح خيرة إلا بالأوامر والنظم، أو لا تصبح خيرة إلا لأنها ترمز لخيرها، هذه الأشياء لا تستطيع أن تضيف كمالا إلى أذهاننا؛ فهي ليست إلا مجرد ظلال، ولا يمكننا أن نعدها بين الأفعال التي تتولد عن الذهن والتي هي بمثابة ثمار نفس صافية، وهذا أمر لا حاجة لنا إلى الإطالة في بيانه. (4)
وأخيرا، فإن أعظم جزاء يعطيه القانون الإلهي هو معرفة هذا القانون نفسه، أي معرفة الله وحبه باعتبارنا موجودات حرة حقا، تتمتع بنفس صافية وثابتة، على حين أن العقاب إنما يكون في حرماننا من هذه الخيرات ووقوعنا في عبودية الجسد، أي تكون أنفسنا متغيرة متقلبة.
وبعد هذه الملحوظات نستطيع أن نبحث المسائل الآتية: (1)
هل نستطيع بالنور الفطري تصور الله كمشرع أو كأمير يسن القوانين للبشر؟ (2)
ماذا يقول الكتاب المقدس بشأن هذا النور وهذا القانون الطبيعي؟ (3)
ما هي الغاية التي استهدفت فيما مضى من فرض الشعائر الدينية؟ (4)
وأخيرا، ما الفائدة من معرفة الروايات المقدسة والتصديق بها؟ وسأعالج الموضوعين الأولين في هذا الفصل والموضوعين التاليين في الفصل القادم.
إن ما يجب علينا التسليم به فيما يتعلق بالموضوع الأول يمكن استنباطه بسهولة من طبيعة الإرادة الإلهية، التي لا تتميز عن الذهن الإلهي بالنسبة إلى عقلنا نحن، أي أن إرادة الله وذهنه هما في الحقيقة شيء واحد،
14
لا يتميزان إلا بالنسبة إلى الأفكار التي نكونها عن الذهن الإلهي. فمثلا إذا كنا نضع في اعتبارنا فقط أن طبيعة المثلث متضمنة منذ الأزل في طبيعة الله بوصفها حقيقة أبدية، فحينئذ نقول: إن الله لديه فكرة عن المثلث أو أنه يتصور بذهنه طبيعة المثلث، فإذا وضعنا في اعتبارنا بعد ذلك أن طبيعة المثلث متضمنة في طبيعة الله بضرورة هذه الطبيعة فحسب، لا بضرورة ماهية المثلث وطبيعته، بل إن ضرورة ماهية المثلث وخصائصه، بقدر ما تتصور بوصفها حقائق أبدية، تتوقف على ضرورة الطبيعة الإلهية والذهن الإلهي فحسب، لا على طبيعة المثلث. حينئذ نطلق على ما سميناه من قبل ذهن الله اسم إرادة الله أو أمره؛ وعلى ذلك، فلا فرق على الإطلاق، بالنسبة إلى الله، بين قولنا: إن الله أراد وأمر منذ الأزل بأن يكون مجموع زوايا المثلث قائمتين، وقولنا بأن الله تصور هذه الحقيقة بذهنه. ويترتب على ذلك أن ما يثبته الله أو ينفيه يحتوي دائما على ضرورة؛ أي على حقيقة أزلية. فإذا كان الله قد قال لآدم مثلا: لا أريد أن تأكل من شجرة علم الخير والشر، فإن من التناقض أن يكون آدم قد استطاع أن يأكل منها، وبالتالي يستحيل أن يكون آدم قد أكل منها؛ إذ يجب أن يكون هذا الأمر الإلهي متضمنا حقيقة وضرورة أزلية. ومع ذلك فما دام الكتاب يذكر أن الله حرمها على آدم وأن آدم قد أكل منها مع ذلك، فيجب أن نقول ضرورة بأن الله قد كشف لآدم عن الشر الذي سينتج بالضرورة عن أكله، ولكنه لم يكشف له عن حتمية نتيجة هذا الشر؛ ولهذا لم يدرك آدم هذا الوحي كحقيقة أبدية ضرورية بل كقانون أي كقاعدة تنص على أن نفعا أو ضررا ما سينتج عن فعل ما إرضاء لرغبة حاكم وتنفيذا لأمره المطلق، لا بضرورة متضمنة في طبيعة الفعل نفسه. وهكذا، أصبح هذا الوحي قانونا لآدم فقط،
15
ونتيجة لنقص في معرفته، واتخذ الله بالنسبة إليه صفة المشرع والحاكم؛ ولهذا السبب نفسه، ونتيجة لنقص في معرفة العبرانيين، أصبحت الوصايا العشر قانونا لهم وحدهم نظرا إلى أنهم لم يعرفوا وجود الله كحقيقة أزلية، فقد كان لزاما عليهم أن يدركوا، كقانون،
16
ما أوحي إليهم في الوصايا العشر، وأعني به أن الله موجود تجب له العبادة وحده. ولو كان الله قد تحدث إليهم مباشرة دون وسائط حسية أيا كانت، لما أدركوا ذلك كقانون بل كحقيقة أزلية، وما نقوله الآن عن آدم والإسرائيليين ينطبق أيضا على جميع الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله، فهم لم يدركوا أوامر الله إدراكا كافيا كما ندرك الحقائق الأبدية. فمثلا يجب أن نذكر عن موسى أيضا أنه أدرك بالوحي أو استنتج من مبادئ أوحيت إليه أفضل طريقة يستطيع بها شعب إسرائيل أن يتوحد في بقعة من بقاع الأرض وأن يكون مجتمعا جديدا، أي أن ينشئ دولة. وعلى هذا النحو نفسه أدرك أفضل طريقة يمكن بها إجبار هذا الشعب على الطاعة، ولكنه لم يدرك أن هذه الطريقة هي أفضل الطرق كما لم يوح إليه بذلك، ولم يعلم أن الغاية التي يرمي الإسرائيليون إلى تحقيقها سوف تتحقق حتما بطاعة كل الشعب المجتمع في مثل هذه المنطقة. وإذن فهو لم يدرك هذه الأمور كلها كحقائق أزلية، بل كأوامر ونظم مفروضة، وشرعها كقوانين أرادها الله. ومن هنا جاء تصورهم لله بوصفه قائدا ومشرعا وملكا،
17
مع أن هذه الصفات كلها تنتمي إلى الطبيعة الإنسانية وحدها، ويجب استبعادها تماما عن طبيعة الله. على أنني أعود فأؤكد أن هذا لا ينبغي أن يقال إلا عن الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله، لا عن المسيح، فمع أن المسيح - فيما يبدو - قد شرع أيضا قوانين باسم الله، إلا أنه على العكس من ذلك أدرك الأشياء بوصفها حقيقة، وعرفها معرفة كافية؛ ذلك لأن المسيح لم يكن نبيا،
18
بل كان ناطقا بلسان الله؛ فقد أوحى الله بوساطة روح المسيح (كما بينا ذلك في الفصل الأول) بعض الحقائق للجنس البشري، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة، أي بوساطة صوت مخلوق وبوساطة رؤى ... إلخ. ولذلك، فإن القول بأن الله قد كيف وحيه وفقا لآراء المسيح لا يقل مخالفة للعقل عن افتراض أن الله قد كيف وحيه من قبل حسب آراء الملائكة؛ أي حسب صوت مخلوق ورؤى حتى يبلغ الرسل الحقائق المراد كشفها، وهو افتراض في غاية التناقض، لا سيما أن المسيح لم يرسل لتعليم اليهود فقط بل أرسل للجنس البشري قاطبة، بحيث لا يكفي أن تتكيف روحه حسب معتقدات اليهود وحدهم بل يجب أن تتكيف حسب المعتقدات المشتركة بين الجنس البشري كله، وحسب التعاليم الشاملة أي المتعلقة بالتصورات العامة والأفكار الصحيحة. فمن المؤكد أن الله كشف عن نفسه للمسيح أو لروح المسيح مباشرة دون توسط كلمات أو صور، كما هو الحال في وحي الأنبياء، ومن ذلك نستنتج ضرورة أن المسيح قد أدرك بالفعل حقائق الوحي، أي إنه عرفها عقلا، لأن الشيء يقال عنه إنه يعرف عقلا عندما يدرك بالفكر الخالص دون كلمات أو صور؛ وعلى ذلك فقد أدرك المسيح حقائق الوحي حقيقة وعرفها معرفة كافية. وعلى ذلك، فإذا كان قد فرضها وكأنها قوانين، فإنه ما فعل ذلك إلا لجهل الشعب وعناده، وهو في ذلك قد قام بما يقوم به الله، فتكيف طبقا لروح الشعب. ومع أن المسيح كان أكثر وضوحا إلى حد ما من الأنبياء السابقين، إلا أنه بشر بحقائق الوحي بالطريقة الغامضة نفسها، وفي كثير من الأحيان كان يستعمل الأمثلة، ولا سيما في حديثه مع من لم يعطوا به معرفة ملكوت السموات (انظر: متى، 13: 10 ... إلخ).
19
وليس هناك أدنى شك في أنه قد بشر من أعطوا معرفة أسرار السموات بهذه الحقائق نفسها باعتبارها حقائق أزلية، لا مجموعة من القوانين، وبذلك حررهم من عبودية القانون، وإن كان مع ذلك قد ثبته وجعله راسخا في أعماق القلوب إلى الأبد. وهذا ما أشار إليه بولس - فيما يبدو - في بعض النصوص من رسالته إلى أهل رومية (7: 6؛ 3: 28)،
20
ومع ذلك، فإنه هو أيضا لم يشأ أن يتحدث بصراحة
21
بل كان يتحدث كما يتحدث الناس عادة، كما يقول في الإصحاح 3، الآية 5، وفي الإصحاح 6، الآية 19 من الرسالة نفسها،
22
وهذا ما نلحظه بوضوح عندما نجده يسمي الله بالعادل. ولا شك أيضا أنه نظرا إلى ضعف الجسد وصف الله وصفا خياليا بالرحمة والفضل والغضب ... إلخ، وكيف كلماته حسب فهم العامة، أي أهل الجسد (كما يقول في الرسالة الأولى إلى أهالي كورنثة، 3: 1-2)،
23
والواقع أنه في الإصحاح 9، الآية 18 من رسالته إلى أهالي رومية
24
أعطى منزلة الحقيقة المطلقة لدعوته القائلة بأن غضب الله ورحمته لا يتوقفان على أفعال البشر، بل على اختيار الله وحده، أي على إرادته، نظرا إلى أنه لا يمكن لأحد أن يبرر نفسه بالأعمال التي يقوم بها تنفيذا للشريعة، بل بالإيمان وحده (انظر رسالته إلى أهالي رومية، 3: 28)
25
الذي يعني به ولا شك صفاء النفس التام. وأخيرا، لأن أحدا لن يكون سعيدا إن لم تكن روح المسيح فيه (انظر: رسالته إلى أهالي رومية، 8: 9)،
26
بحيث يرى بوساطتها قوانين الله كحقائق أزلية. ننتهي من ذلك إلى أننا لا يمكن أن نصف الله بأنه مشرع أو حاكم، ولا يمكن تسميته عادلا أو رحيما ... إلخ، إلا على طريقة فهم العامي ولنقص في معرفتنا. والواقع أن الله يفعل كل شيء ويسيره بالضرورة الناتجة عن طبيعته وكماله وحدها، وتكون أوامره ومشيئته حقائق أزلية تنطوي دائما على ضرورة، وهذا هو ما أردت شرحه وبيانه أولا.
فلننتقل الآن إلى النقطة الثانية، ولنتصفح الكتاب المقدس لنرى ماذا يقول عن النور الفطري وعن القانون الإلهي. إن أول نص نصادفه هو قصة الإنسان الأول حيث يروى أن الله أمر بألا يأكل الثمرة من شجرة معرفة الخير والشر. ويبدو أن هذا النص يعني أن الله أمر آدم بأن يفعل الخير وأن يسعى إليه من حيث هو خير، لا لأنه ضد الشر، أي أن يبحث عن الخير حبا في الخير، لا خوفا من الشر. وقد بينا من قبل أن من يفعل الخير عن معرفة حقيقية للخير وحب له فإنه يفعله بحرية وبعزيمة راسخة. وعلى العكس من ذلك، فإن من يفعل الخير خوفا من الشر يفعله مجبرا على فعله بالشر الذي يخشاه ويصبح عبدا له ويعيش تحت إمرة الآخرين؛ وعلى ذلك، فإن هذه الوصية الفريدة التي أعطاها الله آدم تشتمل على كل القانون الإلهي الطبيعي، وتتفق تماما مع تعاليم النور الفطري، ولن يكون من الصعب تفسير هذه القصة كلها أو هذا المثل الخاص بالإنسان الأول اعتمادا على هذا المبدأ. ومع ذلك، فإني أفضل استبعاد هذا التفسير، لأني من جهة لست على يقين تام من أن تفسيري يتفق مع فكر الراوي، ولأن معظم الناس، من جهة أخرى، لا يسلمون بأن هذه القصة هي مجرد مثل،
27
بل يسلمون بلا تحفظ بأنها مجرد رواية؛ لذلك أفضل أن أذكر هنا نصوصا أخرى من الكتاب تأخذها أولا من هذا المؤلف الذي يتحدث بفضل النور الفطري، والذي استطاع عن طريق هذا النور أن يتفوق على جميع حكماء عصره والذي تبعث حكمه في الشعب من الإجلال الديني بقدر ما تبعثه فيه حكم الأنبياء. وأنا أعني بذلك سليمان الذي لا تكشف أسفاره المقدسة عن هبة النبوة والورع، بل عن الفطنة والحكمة، ففي سفر الأمثال يسمي سليمان الذهن الإنساني نافورة الحياة الحقة،
28 ⋆
ويجعل الشقاء في ضياع العقل، ويقول (16: 22): «العقل ينبوع الحياة لصحابه وتأديب السفهاء السفه.» ولا ننسى أن كلمة حياة، على إطلاقها، تعني في العبرية الحياة الحقة، كما يتضح في التثنية (30: 19)
29
وعلى ذلك، فإن سليمان يجعل ثمرة الذهن في الحياة الحقة وحدها، كما يجعل العذاب في الحرمان منه، وهذا يتفق كل الاتفاق مع ما ذكرناه من قبل في النقطة الرابعة بشأن القانون الإلهي الطبيعي. كذلك يدعو هذا الحكيم صراحة إلى أن منبع الحياة هذا - أي الذهن وحده - هو الذي يضع قوانين للحكماء كما ذكرنا من قبل، لأنه يقول (13: 14): «شريعة الحكيم ينبوع الحياة.»
30 ⋆
أي إنها الذهن، كما يتضح من النص المذكور من قبل. كذلك يدعو صراحة في الإصحاح 3: 13، إلى أن الذهن يهب الإنسان السعادة والهناء والاطمئنان الحقيقي للنفس، فيقول: «طوبى للإنسان الذي وجد الحكمة وللرجل الذي نال الفطنة.» وسبب ذلك (كما نرى بعد ذلك في الآيات 16-17) أن: «طول الأيام في يمينها، وفي يسارها الغنى والمجد طرقها (تلك التي يخبرنا بها العلم) طرقها طرق نعمة، وجميع مسالكها سلام.» وإذن فالحكماء وحدهم - حسب قول سليمان - يعيشون في سلام وبنفس مطمئنة ولا يعيشون كالفاسقين ذوي النفوس المتقلبة فريسة للانفعالات المتضاربة، ومن ثم (كما يقول أشعيا، 57: 20)
31
لا يكون لهم سلام ولا اطمئنان. وأخيرا يجب أن نذكر، خاصة في أمثال سليمان هذه، ما يوجد في الإصحاح الثاني، وهو ما يتفق تماما مع وجهة نظرنا. تبدأ الآية الثالثة هكذا: «إن ناديت الفطنة وأطلقت إلى الفهم صوتك ... فحينئذ تفطن لمخافة الرب، وتدرك معرفة الله (أو الحب لأن كلمة ياداه
32 ⋆
تفيد المعنيين)، وأن الرب يؤتي الحكمة ومن فيه العلم والفطنة.» وبهذه الكلمات يبين بوضوح تام أولا أن الحكمة أو الذهن هو وحده الذي يعلمنا خشية الله بطريقة حكيمة، أي أن نتوجه إليه بعبادة دينية بالمعنى الصحيح، ويعلمنا ثانيا أن الله هو منبع الحكمة والعلم وأن الله هو واهبهما. وهذا بعينه هو ما أثبتناه من قبل من أن ذهننا وعلمنا يعتمدان عل فكرة الله أو معرفتنا به، ويصدران عنهما، ويكتملان بهما. ويستمر سليمان في شرحه في الآية 9 فينادي صراحة بأن هذا العلم يحتوي على الأخلاق الحقة والسياسة الحقة، اللتين تصدران عنه: «حينئذ تفطن للعدل والحق والاستقامة وكل منهج صالح.» وهو لا يكتفي بهذا، بل يواصل كلامه قائلا: «إذا دخلت الحكمة في قلبك، ولذت نفسك العلم، يحافظ عليك التدبير، وترعاك الفطنة.» كل هذا يتفق اتفاقا تاما مع العلم الطبيعي الذي يعلم الأخلاق والفضيلة الحقة عندما نكتسب معرفة الأشياء ونتذوق فضيلة العلم؛ وعلى ذلك فإن سعادة من ينمي ذهنه الطبيعي، وكذلك هدوء نفسه، لا يتوقفان - فيما يقول سليمان
33 - على قوة الحظ (أي على عون الله الخارجي) بل يتوقفان أساسا على قدرته الداخلية (أي على عون الله الداخلي) لأنه يستطيع أن يحفظ حياته على أفضل نحو إذا كان يقظا نشطا وعلى قدر كبير من الدراية. وأخيرا يجب ألا ننسى هذا النص الذي كتبه القديس بولس في الإصحاح الأول، الآية 20 من الرسالة إلى أهالي رومية حيث يقول حسب نسخة تريمليوس السريانية:
34 «لأن غير منظوراته قد أبصرت منذ خلق العالم إذ أدركت بالميرءات، وكذلك قدرته الأزلية وألوهيته حتى أنهم لا معذرة لهم.» وعلى هذا النحو يبين بقدر لا بأس به من الوضوح قدرة الله وألوهيته الأزلية اللتين تسمحان لنا بأن نعرف ونستنبط أي الأشياء ينبغي أن نبحث عنها وأيها ينبغي أن نتركها. وينتهي من ذلك إلى أن الجميع لا عذر لهم وأنه لا يمكنهم الاعتذار بالجهل. وما كان الأمر ليصبح على هذا النحو لو كان يتحدث عن النور الذي يفوق الطبيعة، وعن الآلام التي عاناها المسيح بجسده وعن البعث ... إلخ. ومن هنا، فقد أضاف بعد ذلك في الآية24: «فلذلك أسلمهم الله في شهوات قلوبهم إلى النجاسة ... إلخ.» حتى نهاية الإصحاح، وهكذا يتحدث عن رذائل الجهل ووصفها بعذاب الجهل، وهذا ما يتفق تماما مع مثل سليمان (16: 22) المذكور من قبل «وتأديب السفهاء السفه.» فلا عجب إذن، إذا قال بولس: من يفعل الشر لا عذر له؛ ذلك لأن كلا يحصد ما زرع، والشر يولد الشر ضرورة إن لم يتم تقويمه، والخير يولد الخير إن صاحبه ثبات النفس. وهكذا يقر الكتاب إقرارا تاما بالنور الفطري والقانون الإلهي الطبيعي، وبذلك أكون قد انتهيت من معالجة المسائل التي اعتزمت بحثها في هذا الفصل.
الفصل الخامس
السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص
السبب في وضع الشعائر، والإيمان بالقصص، لأي سبب، ولأي نوع من الناس كان ضروريا. ***
بينا في الفصل السابق أن القانون الإلهي الذي يعطي الناس السعادة الحقة ويعلمهم الحياة الحقيقية مشترك بين الناس جميعا، بل إننا استنبطناه من الطبيعة الإنسانية، بحيث يجب علينا أن نعتبره فطريا في النفس الإنسانية، وكأنه مسطور فيها. وعلى العكس من ذلك وضعت الطقوس الدينية، أو على الأقل طقوس العهد القديم للعبرانيين وحدهم، وتكيفت حسب دولتهم بحيث لم يكن من الممكن إقامة معظم هذه الشعائر إلا بوساطة الجماعة بأسرها، لا الأفراد كل على حدة. فلا شك إذن أنه لم تكن لها صلة بالقانون الإلهي، وإنها لا تسهم بشيء في السعادة والفضيلة، بل تتعلق باختيار العبرانيين فحسب أي (طبقا لما بيناه في الفصل الثالث) بالنعيم الدنيوي للأجساد وبسلامة الدولة
1
وحدهما؛ إذ لا تكون لها أية فائدة إلا خلال وجود الدولة. وإذن، فإذا كانت هذه الشعائر قد أرجعت في العهد القديم، إلى قانون الله، فما ذلك إلا لأنها وضعت بفضل الوحي أو صدرت عن مبادئ موحى بها. ومع ذلك، فلما كان الاستدلال مهما بلغت قوته لا قيمة له عند اللاهوتيين العاديين، فإنه يحسن أن نبرهن، عن طريق سلطة الكتاب، على ما قلناه الآن.
2
وبعد ذلك سنبين، زيادة منا في الإيضاح، السبب الذي كانت الشعائر من أجله عاملا على المحافظة على دولة اليهود والإبقاء عليها، وكيف تم ذلك. إن أوضح دعوة في سفر أشعيا هي دعوته للتوحيد بين القانون الإلهي بالمعنى المطلق لهذه الكلمة والقانون الشامل الذي يكون قاعدة صحيحة للحياة، لا بين القانون الإلهي والشعائر. ففي الإصحاح الأول، الآية 10
3
يدعو النبي أمته إلى أن تسمع منه القانون الإلهي ويبدأ باستبعاد كل أنواع القرابين وكل الأعياد من هذا القانون، ثم يدعو للقانون نفسه (انظر: 1: 16-17)،
4
ويلخصه في هذه الوصايا القليلة: تطهير النفس، ممارسة الفضائل بصفة مستمرة؛ أي القيام بالأفعال الحسنة، الإحسان إلى الفقراء. ونجد في المزمور 40، الآيات 7، 9 شهادة لا تقل وضوحا عن ذلك، إذ يخاطب كاتب المزمور الله قائلا: «ذبيحة وتقدمة لم تشأ لكنك ثقبت أذني
5 ⋆
ولم تطلب المحرقات ولا ذبائح الخطيئة، لأعمل بمشيئتك يا الله، إني في هذا راغب، وشريعتك في صميم أحشائي.» فهو إذن لا يقصد إلا هذا القانون المسطور في الأحشاء وفي النفس، ويستبعد منه الطقوس؛ إذ لا تصح الطقوس إلا في إطار نظام معين، لا بطبيعتها الخاصة، ومن ثم فهي ليست مسطورة في النفس. وتشهد نصوص كثيرة أخرى في الكتاب على ذلك، ولكن يكفينا منها النصان السابقان. وفضلا عن ذلك، فإن الكتاب ذاته يقرر أن الطقوس لا تؤدي إلى السعادة مطلقا، بل تتعلق فقط بالمنفعة الدنيوية للدولة، إذ لا يبشر الكتاب من يقيم هذه الطقوس إلا بمزايا مادية ولذات حسية، ويقصر السعادة الروحية على من يحافظ على القانون الإلهي الشامل. فالأسفار الخمسة التي تشيع نسبتها إلى موسى لا تبشر - كما ذكرنا من قبل - إلا بهذا النعيم الدنيوي، أعني التكريم أو الشهرة والانتصارات والثروات واللذات وسلامة البدن. وعلى الرغم من أن الأسفار الخمسة تحتوي، بالإضافة إلى هذه الشعائر المفروضة، على كثير من الوصايا الخلقية، فإن هذه الأخيرة لا توجد فيها بوصفها تعاليم خلقية مشتركة بين الناس، بل بوصفها أوامر تكيف بوجه خاص طبقا لفهم أمة العبرانيين وحدها وطبقا لمزاجها الخاص، وتتعلق بمنفعة دولتهم فحسب. فمثلا لا يعلم موسى اليهود تحريم القتل وتحريم السرقة كما يعلمها الفقيه أو النبي، بل يأمرهم بذلك كما يأمر المشرع والحاكم، ولا يثبت تعاليمه بالدليل بل يقرن أوامره بالتهديد بعقاب قد يمكن، بل يجب، أن يتباين، كما أثبتت التجربة تبعا للمزاج الخاص بكل أمة. وهكذا فإنه لم يقصد من تحريم الزنا إلى المصلحة العامة ومنفعة الدولة، ولو كان قد قصد إعطاءنا تعاليم خلقية لتحقيق اطمئنان النفس والسعادة الحقة للأفراد لما أدان الفعل الخارجي فحسب، بل لأدان أيضا موافقة النفس عليه كما فعل المسيح الذي لم يقدم إلا تعاليم شاملة (انظر: متى، 5: 28).
6
ولهذا السبب يبشر المسيح بجزاء روحي، لا بمكافأة مادية، كما فعل موسى؛ وذلك لأن المسيح، كما قلت ، لم يبعث للمحافظة على الدولة ولتشريع القوانين، بل لتعليم القانون الشامل وحده. من ذلك ندرك بسهولة أن المسيح لم ينسخ شريعة موسى مطلقا، لأنه لم يشأ وضع قوانين جديدة للمجتمع، وكان همه الوحيد إعطاء تعاليم خلقية وتمييزها عن قوانين الدولة،
7
وهذا يرجع بوجه خاص إلى جهل الفريسيين الذين كانوا يظنون أن تطبيق القواعد القانونية للدولة، أي شريعة موسى، كاف ليعيشوا سعداء، مع أن هذه الشريعة - كما قلنا من قبل - لم تكن تهدف إلا مصلحة الدولة، ولم تكن غايتها تنوير العبرانيين، بل إرغامهم. ولكن لنعد إلى موضوعنا الأول، ولنذكر نصوصا أخرى من الكتاب لا تبشر من يقيم الشعائر إلا بمزايا مادية وتقصر السعادة على من يحافظ على القانون الإلهي الشامل وحده. لقد كان أشعيا أوضح الأنبياء في الدعوة لذلك، فبعد أن أدان النفاق في الإصحاح 58، وبعد أن أوصى بالحرية وبالإحسان إلى النفس وإلى الجار، أعطى هذه الوعود: «حينئذ يتبلج كالصبح نورك، وتزهر عافيتك سريعا، ويسير برك أمامك ومجد الرب يجمع شملك.»
8 ⋆
بعد ذلك يوصي بالاحتفال بالسبت ويعد من يحرصون المحافظة عليه: «فحينئذ يتنعم بالرب،
9 ⋆
وأنا أوطنك مشارف الأرض
10 ⋆
وأطعمك ميراث يعقوب أبيك لأن فم الرب قد تكلم.» نرى إذن أن النبي يبشر من يريد أن يكون حرا محسنا بنفس قريرة في جسم سليم، وبالمجد الإلهي بعد الموت، ولا يبشر جزاء على إقامة الشعائر إلا بسلامة الدولة وبالنعيم والرخاء الدنيوي. ولا يوجد في المزامير 14، 15
11
أي ذكر للشعائر، بل للتعاليم الخلقية فقط. وهذا يرجع ولا شك إلى أن الموضوع هنا يتعلق بالسعادة الروحية وحدها، وهي الموضوع الوحيد الذي يعالجه المؤلف، وإن كان يتحدث عنه بالمثل. ويجب بلا شك أن نفهم في هذا النص الجبال وخيام الله والإقامة في هذه الأماكن على أنها السعادة واطمئنان النفس، لا على أنها جبل أورشليم أو مظلة موسى،
12
فلم يكن في هذه الأمكنة أي إنسان، وكانت قبيلة لاوي هي التي ترعاها. هذا بالإضافة إلى أن جميع حكم سليمان التي ذكرناها في الفصل السابق تبشر بالسعادة الحقة من ينمون الذهن والحكمة، لأنهم وحدهم يعرفون خشية الله ويبجلون العلم. ومما يثبت أيضا أن العبرانيين لم يعودوا ملزمين، بعد انهيار دولتهم، بإقامة الشعائر، ما أشار إليه إرميا الذي رأى تخريب المدينة وتنبأ به، وقال: «بل بهذا فليفتخر بأنه معهم، ويعرفني أن الرب المجري الرحمة والحكم والعدل في الأرض لأني بهذه ارتضيت بقول الرب» (انظر: 9: 23)، وكأنه يقول إنه بعد تخريب المدينة لم يعد الله يطالب اليهود بشيء معين، بل أصبح لا يطلب منهم إلا مراعاة القانون الطبيعي الذي يخضع له جميع البشر.
13
ويؤكد العهد الجديد هذه الحقيقة تأكيدا تاما، إذ لا نجد فيه - كما قلنا من قبل - إلا تعاليم خلقية، ولا يعد بملكوت السموات إلا من يحافظ على هذه التعاليم، أما الشعائر فقد تركها الحواريون بعد أن بدءوا في التبشير بالإنجيل بين الأمم الخاضعة لقوانين دولة أخرى. وإذا كان الفريسيون قد احتفظوا بقدر كبير من الشعائر الإسرائيلية بعد ضياع الدولة، فإن ذلك ينبغي أن يفسر على أنه مظهر لعدائهم للمسيحيين أكثر من كونه تعبيرا عن رغبتهم في إرضاء الله. فبعد الهدم الأول للمدينة، عندما أخذ الأسرى إلى بابل ولم يكونوا - على ما أعلم - قد تفرقوا شيعا بعد، تركوا الطقوس في الحال، بل ورفضوا شريعة موسى، ونسوا تماما قانون وطنهم، وكأنه شيء لا قيمة له، وبدءوا في الاندماج بالأمم الأخرى، كما يذكر عزرا ونحميا بالتفصيل. وإذن فليس من شك في أن اليهود لم يعودوا ملزمين بعد انهيار الدولة بالمحافظة على شريعة موسى أكثر مما كانوا قبل إقامة مجتمعهم ودولتهم. وطوال الفترة التي عاشوها بين الأمم الأخرى، قبل خروجهم من مصر، لم تكن لديهم قوانين خاصة، ولم يكن عليهم إلا المحافظة على القانون الطبيعي، وكذلك على القواعد المطبقة في الدولة التي يعيشون فيها، بقدر ما كانت غير متعارضة مع القانون الإلهي الطبيعي. أما عن الضحايا (القرابين) التي كان البطارقة يقدمونها إلى الله، فيمكن تفسيرها برغبتهم في أن يثيروا في نفوسهم - التي تعودت منذ الطفولة على هذه الضحايا - مزيدا من الخشوع؛ فقد تعود كل الناس منذ عانوس
14
على تقديم الضحايا ليثيروا على أنفسهم أكبر قدر من الخشوع، ولم يضح البطارقة لله مطلقا تنفيذا لأمر إلهي على أساس معرفة استخلصوها من الأسس الشاملة التي يقوم عليها القانون الإلهي، بل اتباعا لعادة عصرهم فحسب. وإذا كانوا قد أمروا بهذه الضحايا، فإن هذا الأمر لم يكن سوى أمر صادر عن قانون الدولة التي يعيشون فيها، وهو القانون الذي كان عليهم بدورهم الخضوع له، كما بينا في الفصل الثالث في حديثنا عن مليكصادق.
15
أعتقد الآن أني قد بينت على هذا النحو وجهة نظري بسلطة الكتاب. يبقى أن أبين كيف أفادت الشعائر في المحافظة على بقاء دولة العبرانيين، وما السبب في ذلك، وهي مسألة سأعتمد في إيضاحها على مبادئ كلية، موجزا الكلام فيها بقدر المستطاع.
16
إن المجتمع لا يكون نافعا أو ضروريا للغاية لأنه يحمي الأفراد من الأعداء فحسب، بل أيضا لأنه يسمح بجمع أكبر قدر ممكن من وسائل الراحة؛ ذلك لأنه لو لم يكن الناس يريدون أن يتعاونوا مع بعضهم بعضا فلن تتوافر لديهم المهارة الفنية أو الوقت اللازم لتدبير شئون حياتهم وللمحافظة عليها بقدر الإمكان. فلن يتوافر لأحد الوقت أو القوة اللازمة لو كان عليه أن يفلح ويبذر ويحصد ويطحن ويطهو وينسج ويحيك، وأن يقوم بأعمال أخرى كثيرة نافعة لتدبير شئون حياته، ناهيك بالفنون والعلوم التي هي ضرورية إلى أقصى حد لكمال الطبيعة الإنسانية وللحصول على السعادة. والواقع أننا نرى هؤلاء الذين يعيشون حياة همجية، بلا مدنية، يحيون حياة بائسة تقرب من مستوى حياة الحيوانات، ومع ذلك لا يستطيعون الحصول على هذا القليل الذي لديهم، والذي يتسم بأنه هزيل فج، إلا إذا تعاونوا مع بعضهم البعض على أي نحو. ولو كان الناس بطبيعتهم على استعداد لئلا يرغبوا إلا فيما يمليه العقل السليم، لما احتاج المجتمع قطعا إلى أية قوانين، ولكان تنوير الناس ببعض التعاليم الخلقية كافيا لكي يفعلوا بأنفسهم، وبروح متحررة، ما هو نافع لهم بحق، إلا أن الطبيعة الإنسانية لها استعداد مختلف كل الاختلاف. صحيح أن جميع الناس يحرصون على منفعتهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك حسبما يمليه العقل السليم، بل تدفعهم دائما شهوة اللذة وانفعالات النفس (التي لا تأخذ المستقبل في حسابها ولا تعمل حسابا إلا للذاتها) عندما يرغبون في شيء ويحكمون عليه بأنه نافع، ومن ثم لا يستطيع أي مجتمع أن يبقى دون سلطة آمرة ودون قوة، وبالتالي دون قوانين تلطف من شهوة اللذة وتسيطر على الانفعالات التي لا ضابط لها. إلا أن الطبيعة الإنسانية لا تتحمل أن تظل في حالة قهر مطلق، وكما يقول سنيكا، الكاتب المسرحي:
17 «ما استطاع أحد أن يمارس العنف في الحكم مدة طويلة، أما الاعتدال في الحكم فيدوم.» فطالما كان الناس يسلكون بدافع من الخوف وحده، فإنهم يفعلون أشد الأشياء تعارضا مع إرادتهم ولا يتأملون الفعل من حيث فائدته وضرورته، بل إنهم لا يهتمون إلا بإنقاذ أنفسهم وبعدم تعرضهم للألم، ويستحيل عليهم ألا يتلذذوا بما يصيب سيدهم وصاحب السلطة عليهم من شر وخسارة، حتى لو كان في ذلك ضرر بالغ عليهم، كما يستحيل ألا يتمنوا له الشر وألا يرتكبوه عندما يستطيعون. والواقع أن أشد ما يؤلم الناس خضوعهم لأمثالهم وسيطرة هؤلاء عليهم. وأخيرا، فليس هناك أقسى من سلب الناس حريتهم بعد حصولهم عليها، ومن ثم يجب أولا على كل مجتمع - إن أمكنه ذلك - أن يقيم سلطة تنبثق من الجماعة على نحو من شأنه أن يكون الجميع ملزمين بأن يطيعوا أنفسهم لا أمثالهم، أما إذا وضعت مقاليد السلطة في أيدي أفراد قلائل أو في يد فرد واحد، فيجب أن يكون لدى هذا الفرد شيء أسمى من الطبيعة الإنسانية، أو على الأقل يجب أن يحاول بقدر طاقته أن يقنع العامة بذلك. ثانيا، يجب أن توضع القوانين في كل دولة بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل في تحقيق خير معين، يرغب فيه بوجه خاص، أكثر من خوف يحيط بهم، وبذلك يقوم كل فرد بواجبه بحماس بالغ. وأخيرا لما كانت الطاعة هي تنفيذ الأوامر بالخضوع لسلطة الرئيس الآمر وحدها، فإنا نرى أن هذه الطاعة لا مكان لها في مجتمع تكون السلطة فيه منتمية إلى جميع أفراده ، وتوضع فيه القوانين برضاء الجميع، ففي مثل هذا المجتمع، سواء أزاد عدد القوانين أم نقص، يظل الشعب حرا لأنه يفعل برضائه الخاص،
18
لا بخضوعه لسلطة الآخرين. ولكن الأمر يختلف كل الاختلاف عندما تكون لفرد واحد سلطة مطلقة، فعندئذ ينفذ الجميع أوامر السلطة بدافع الخضوع لسلطة فرد واحد؛ وعلى ذلك، فما لم يكن الناس قد دربوا منذ البداية على أن تكون مصائرهم معلقة بكلمة القائد الذي يأمر، فسوف يصعب عليه إذا دعت الحاجة أن يضع قوانين جديدة، وأن يسلب الشعب حرية حصل عليها من قبل.
بعد هذه الاعتبارات العامة، لنعد إلى التنظيم السياسي للعبرانيين، فعند خروجهم من مصر لم يكونوا ملتزمين بقانون أية دولة؛ لذلك كان في إمكانهم وضع قوانين جديدة كما يريدون، أي وضع تشريع جديد وتأسيس دولتهم في المكان الذي يختارونه، واحتلال ما يشاءون من الأراضي. على أنهم لم يكونوا على استعداد لوضع قواعد التشريع بحكمة، ولممارسة السلطة بطريق جماعي؛ فقد كان طابع الجهل يغلب على الجميع، وكان استعبادهم قد شوه نفوسهم؛ لذلك كان من الضروري أن تظل السلطة في يد فرد واحد قادر على أن يسير الجميع وعلى إجبارهم بالقوة على سن القوانين وتفسيرها بعد ذلك. ولقد استطاع موسى بسهولة أن يستمر في المحافظة على هذه السلطة بما كان يتميز به على الآخرين من فضيلة إلهية، وقد أقنع الشعب بذلك وأثبته لهم بشواهد عديدة (انظر: الخروج، 14: الآية الأخيرة؛ 19: 9).
19
وإذن فقد وضع قواعد التشريع وفرضها بالسلطة الإلهية التي كانت مميزة له، ولكنه حرص حرصا عظيما على أن يقوم الشعب بواجبه لا عن رهبة بل عن طيب خاطر. وقد اضطر إلى ذلك لسببين: أولا العصيان الطبيعي للشعب (الذي لم يكن يتحمل أن يخضع لسيطرة القوة وحدها)، ثانيا خطر الحرب وما يتطلبه النصر من خروج الجند للحرب عن اقتناع لا بالتهديد والعقاب، حتى يحاول كل فرد أن يتميز بشجاعته وبعظمة نفسه، لا أن يهرب من العذاب فحسب؛ لهذا السبب، أدخل موسى الدين في الدولة بسلطته الإلهية وبناء على أمر إلهي حتى يقوم الشعب بواجبه بإخلاص لا عن رهبة. ومن ناحية أخرى، فقد ربط العبرانيين بالمنافع وأعطاهم وعودا كثيرة باسم الله، ولم يضع قوانين صارمة أكثر مما يجب، وهذا ما يسلم الجميع به إذا شرع في دراسة هذا التاريخ، وإذا نظر إلى الأدلة المطلوبة لإدانة متهم ما.
وأخيرا، رفض أن يقوم أفراد الشعب - الذين اعتادوا العبودية - بأي فعل بمحض إرادتهم، حتى يظل هذا الشعب، الذي لم يكن يستطيع أن يحكم نفسه، مقيدا بكلمة الرئيس الآمر؛ إذ لم يكن الشعب يستطيع أن يفعل شيئا دون أن يلتزم بالقانون؛ وهو أن ينفذ الأوامر الصادرة عن الرئيس وحده. فلم يكن مسموحا له أن يفعل شيئا بمحض رغبته، وكان عليه أن يراعي طقسا دينيا معينا للفلاحة والبذر والحصد، ولم يكن باستطاعته أن يتناول طعامه ويلبس ويعنى بشعر رأسه ولحيته ويلهو أو يفعل أي شيء إلا بالامتثال لشعائر دينية إجبارية ولأوامر تفرضها القوانين.
20
ولم يكن هذا كله كافيا، بل كان عليهم أن يضعوا على عتبات المنازل وفي الأيدي وبين العينين علامة ما تذكرهم بالطاعة.
21
هذه إذن كانت غاية الشعائر الدينية: ألا يفعل الناس شيئا بمحض إرادتهم بل تنفيذا لأوامر الآخرين دائما، وأن يعترفوا بأنهم في جميع أفعالهم وفي جميع أفكارهم ليسوا أحرارا مطلقا، بل خاضعين كلية لقاعدة من وضع الآخرين.
22
ويتضح من هذا كله وضوح الشمس أن الطقوس الدينية لا توصل إلى السعادة الروحية، وأن طقوس العهد القديم، بل وشريعة موسى كلها، تتعلق بدولة العبرانيين وحدها، وبالتالي تهدف إلى تحقيق بعض وسائل الراحة المادية.
23
أما فيما يتعلق بطقوس الدين المسيحي، مثل العماد وتناول قربان الرب والأعياد والصلوات العلنية، وكل ما يشترك فيه جميع المسيحيين، سواء أكان المسيح هو الذي وضعها أم الحواريون (فهذا أمر لم يثبت في رأيي على نحو قاطع بعد)؛ فهي بمثابة آيات خارجية للكنيسة الشاملة، وليست أمورا توصل إلى السعادة الروحية أو لها في ذاتها أي طابع مقدس؛ ولهذا السبب، فإن هذه الطقوس، وإن لم تكن قد وضعت لمصلحة سياسية فإنها قد وضعت لصالح المجتمع كله، وبالتالي فإن من يعيش وحده لا يرتبط بهذه الطقوس مطلقا، بل إن من يعيش في دولة يحرم فيها الدين المسيحي عليه أن يمتنع عن إقامة هذه الطقوس، ويستطيع مع ذلك أن يعيش متمتعا بسعادة الروح.
24
ونجد مثالا لهذا الموقف في اليابان، حيث تحرم الديانة المسيحية وذلك لأن الهولنديين الذين يسكنون هذه البلاد ملزمون بأمر من شركة الهند الشرقية بالامتناع عن كل عبادة علنية.
25
ولا أظن أني أستطيع الآن إثبات ذلك بسلطة أخرى، ومع أنه ليس من الصعب استنباطه بمبادئ من العهد الجديد، وقد يمكن إثباتها بشواهد واضحة، فإني أفضل ترك هذه المسألة جانبا؛ لأني أود أن أسارع إلى معالجة مشكلة أخرى. وسأستمر إذن وأنتقل إلى النقطة الأخرى التي اعتزمت معالجتها في هذا الفصل وهي: لأي نوع من الناس يكون التصديق بالروايات التاريخية الواردة في الكتب المقدسة ضروريا، ولأي سبب؟ ولكي نقوم بهذا البحث بالاستعانة بالنور الطبيعي يجب علينا أن نسير على النحو الآتي:
إذا طلبنا من الناس أن يعتنقوا أو أن يرفضوا عقيدة تتعلق بشيء غير معروف بذاته يتحتم علينا أن نبدأ من نقاط معينة متفق عليها، وأن نعتمد في الإقناع على التجربة أو على العقل، أي أن نعتمد على الوقائع التي يتحقق الناس بحواسهم من وجودها في الطبيعة، أو على بديهيات العقل المعروفة بذاتها. ولكن، ما لم يكن في استطاعة التجربة أن تعطينا معرفة واضحة ومتميزة، فإنها مع استطاعتها إقناع المرء، لن تؤثر في الذهن، ولن تبدد الغيوم التي تخيم عليه، كما يفعل الاستنباط بالترتيب السليم للحقيقة التي نريد إثباتها، بالاعتماد على بديهيات العقل وحدها، أي تلك التي تقوم على سلطة الذهن وحده، لا سيما حين يكون الأمر متعلقا بموضوع روحي لا يقع مطلقا تحت الحواس. ومع ذلك ففي أغلب الأحيان يكون من الضروري، لإثبات حقيقة باعتماد على أفكار العقل وحده، الحصول على سلسلة طويلة من المدركات الحسية، هذا فضلا عن الحرص الشديد والبصيرة النافذة والقدرة الفائقة على السيطرة على النفس، وكلها صفات لا توجد في الناس إلا نادرا. ومن ثم تراهم يفضلون التعلم بالتجربة على استنباط مدركاتهم الحسية مع عدد قليل من البديهيات ثم ربط بعضها ببعض. وإذن، فلو أردنا أن نعلم أمة بأكملها - إن لم نقل الجنس البشري كله - عقيدة ما، وأن نجعل جميع الناس يفهمونها بكل تفصيلاتها، فإننا نجد لزاما علينا أن نثبتها بالالتجاء إلى التجربة، وأن نجعل أسبابها وتعريفات الأشياء المراد تعليمها ملائمة بدقة لمستوى فهم العامة التي تكون الجزء الأعظم من الجنس البشري، فنتخلى عن التسلسل المنطقي للأسباب وعن إعطاء التعريفات اللازمة لأحكام الربط بينها على أفضل نحو ممكن. ولو لم نفعل ذلك لكنا نكتب للراسخين في العلم وحدهم، أي إنه لن يستطيع فهمنا إلا عدد ضئيل نسبيا من الناس، وإذن فلما كان الكتاب قد أوحى أولا لكي تفيد منه أمة كاملة، ثم الجنس البشري كله، فقد كان من المحتم أن يتلاءم محتواه مع أفهام العامة، وأن يكون الإثبات فيه بالتجربة وحدها. ولكي نجعل هذه النقطة أكثر وضوحا، نقول: إن تعاليم الكتاب النظرية تتضمن أساسا أن هناك إلها، أي موجودا صنع كل شيء، يسيره ويحفظه بحكمة عليا، وهو يرعى البشر أعظم رعاية، أعني أنه يرعى منهم من يحيون حياة التقوى والأمانة ويعاقب من سواهم بمختلف ألوان العذاب ويفصلهم عن الأخيار. ويثبت الكتاب هذه التعاليم بالتجربة وحدها، أي عن طريق القصص التي يرويها. وهو لا يعطي مطلقا تعريفات لهذه الأمور، بل يكيف أفكاره وعلله كلها على مستوى فهم العامة. ومع أن التجربة لا تستطيع أن تعطي أية معرفة واضحة بهذه الأمور، أو أن تنبئنا بما يكونه الله وكيف يحفظ جميع الأشياء ويدبرها ويرعى الناس، فإنها تستطيع مع ذلك أن تعلم الناس وأن تنيرهم بقدر يكفي لكي تطبع نفوسهم على الطاعة والخشوع.
26
وأعتقد أني قد بينت بذلك، بما فيه الكفاية، نوع الناس الذين يكون الإيمان بقصص الكتب المقدسة ضروريا لهم وما أسباب ذلك؛ إذ يتضح تماما مما بينته الآن أن معرفة هذه القصص والإيمان بحقيقتها ضروري إلى أقصى حد للعامة الذين لا تقوى أذهانهم على إدراك الأشياء بوضوح وتميز. ومن ناحية أخرى، فإن من ينكرها، نظرا إلى كونه لا يعتقد بوجود إله أو بعناية إلهية، يمكن أن يعد كافرا، أما من يجهلها ومع ذلك يؤمن، عن طريق النور الفطري، بوجود إله، وبكل ما يترتب عليه، ويطبق من جهة أخرى قاعدة السلوك الصحيحة في الحياة، فإنه يحصل على السعادة الروحية الكاملة، بل يحصل منها بالفعل على أكثر مما يحصل عليه العامي؛ إذ ليست لديه أفكار صحيحة فحسب، بل لديه أيضا معرفة واضحة ومتميزة. وأخيرا، يترتب على ما بينته من قبل أن من يجهل قصص الكتاب هذه ولا يعلم شيئا بالنور الفطري، هو شخص إن لم يكن كافرا، أي عاصيا، فهو على الأقل كائن سلبت إنسانيته وأصبح أشبه بالبهائم لا يملك أية هبة من الله. ومع ذلك فلنذكر أننا بحديثنا هنا عن الضرورة القصوى التي تحتم على العامة معرفة قصص الكتاب لا نقصد أن تكون المعرفة الكاملة بجميع هذه القصص ضرورية؛ إذ تكفي فقط معرفة أكثرها أهمية، وهي القصص التي تعرض بنفسها بوضوح كاف، ودون الاستعانة بالأخريات، العقيدة التي أشرنا إليها من قبل، ويكون لها من القوة ما تستطيع أن تؤثر به على النفوس الإنسانية. والواقع أنه لو كانت جميع قصص الكتاب ضرورية لإثبات هذه العقيدة - وكنا لا نستطيع أن ننتهي إلى نتيجة تؤيده إلا بعد تأمل هذه القصص كلها - لكان البرهان على هذه العقيدة والتصديق النهائي بها يتجاوز فهم الجمهور وقواه ويعلو على فهم الإنسانية جمعاء. فمن الذي يستطيع أن يعي في وقت واحد مثل هذا العدد الكبير من الروايات والملابسات وتفصيلات العقيدة التي يجب استخلاصها من هذه القصص المتعددة المتنوعة؟ إنني، على الأقل، لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن أولئك الذين تركوا لنا الكتاب بوضعه الحالي كانوا يتمتعون بقدرات ذهنية تمكنهم من القيام بمثل هذه الطريقة في العرض، كما أنني أقل اقتناعا بالزعم القائل إنه لا يمكن فهم عقيدة الكتاب إلا بعد معرفة المنازعات التي وقعت بين آل إسحاق
27
ونصائح أحيتوفل إلى أبشالوم،
28
والحرب الأهلية بين يهوذا وإسرائيل
29
وغير ذلك من الأخبار، كما لا أستطيع أن أقنع نفسي بأن أوائل اليهود المعاصرين لموسى لم يكونوا قادرين على أن يستخلصوا من القصص المعروفة لديهم برهانا على عقيدة الكتاب بالسهولة نفسها التي كان معاصرو عزرا
30
قادرين بها على ذلك. وعلى أية حال، فسنقف فيما بعد عند هذه النقطة وقفة طويلة. ليس على العامة إذن، إلا أن يعرفوا القصص التي يمكن أن تحرك النفوس إلى أقصى حد وتحث على الطاعة والخشوع. ومع ذلك، فإن العامة لا يستطيعون الحكم على هذه الأمور من تلقاء أنفسهم، خاصة أنهم يعجبون بالروايات والنهايات العجيبة غير المتوقعة للأحداث، أكثر من إعجابهم بالعقيدة نفسها التي تعلمها هذه القصص؛ لذلك كان العامة في حاجة، بالإضافة إلى هذه القصص، إلى قسس أو إلى كهنة الكنيسة يعطونهم تعاليم تتناسب مع ضعف تكوينهم الذهني. ومع ذلك فلنكف عن الابتعاد عن موضوعنا ولنلتزم بالنتيجة التي أردنا إثباتها، وهي أن التصديق بالروايات - أيا كانت هذه الروايات في آخر الأمر - لا صلة له بالقانون الإلهي، ولا يعطي بنفسه السعادة الروحية للناس، ولا فائدة فيه إلا بقدر ما يساعد على إقامة عقيدة. وأخيرا، فإن بعض الروايات تفضل البعض الآخر من هذه الناحية، فروايات الكتاب تكون أعظم قيمة من التاريخ الدنيوي، ويكون بعضها أعظم قيمة من البعض الآخر، بمقدار ما تفيد في نشر أفكار نافعة. وإذن، فإذا قرأنا روايات الكتاب المقدس ثم صدقناها دون أن نهتم بالعقيدة التي أخذ الكتاب على عاتقه أن يبشر بها بوساطة هذه الروايات، ودون أن نقوم حياتنا - فكأننا نقرأ القرآن
31
أو الشعر الدرامي، أو على أقل تقدير كأننا نقرأ أخبارا عادية بالروح نفسها التي اعتاد العامة أن يقرءوا بها. وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نتجاهل هذه الروايات تماما، كما ذكرنا من قبل؛ فإذا كانت لدينا مع ذلك أفكار نافعة، وكنا نطبق في حياتنا قاعدة سليمة للسلوك،
32
فإننا بالفعل نحصل على السعادة الروحية المطلقة ، وتحل فينا حقا روح المسيح. ولكن اليهود لهم نظرة مخالفة كل الاختلاف؛ إذ يرون أن الأفكار الصحيحة وتطبيق قاعدة سليمة للسلوك في الحياة لا تؤدي على الإطلاق إلى السعادة الروحية ما دمنا نستعين في إدراكها بالنور الفطري وحده، دون أن ننظر إليها على أنها تعاليم أوحيت إلى موسى عن طريق النبوة، وقد أيد ابن ميمون ذلك بجرأة في هذه الفقرة (الفصل 8 من كتاب الملوك،
33
القانون 11): «من يقبل الوصايا السبع
34 ⋆
ويعمل بها بجميع جوارحه يكون من بين الأتقياء في الأمم ويرث الحياة الأخرى، شريطة أن يكون قد قبل هذه الوصايا وعمل بها لأن الله وضعها في الشريعة وأوحى لنا عن طريق موسى أنه أعطى هذه الوصايا من قبل أبناء نوح، ولكنه لو عمل بها كما يمليها العقل فليس له بيننا حق المواطن، ولا يكون من بين الأتقياء أو من بين علماء الأمم.» هذا ما قاله ابن ميمون، ويضيف موسى بن شيم طوب
35
في كتابه «كيبود ألوهيم» أو «مجد الله» قائلا: إن علم أرسطو (الذي كان يعتقد أنه كتب أرفع أنواع الأخلاق وكان يعلي مكانته فوق كل ما عداه) بكل وصايا الأخلاق الحقة، التي عرضها هو نفسه في كتاب «الأخلاق»، والتي عمل بها بكل جوارحه؛ لم ينفعه في الوصول إلى الخلاص لأنه لم يتلق هذه العقيدة بوصفها وحيا عن طريق النبوة بل تكونت لديه بإملاء العقل. ولكن هذه الأقوال في الحقيقة أخطاء كاذبة لا أساس لها في العقل أو سلطة الكتاب، وهو ما أعتقد أن كل من قرأ هذا الفصل بإمعان يوافقني عليه. وإذن فمجرد اختيار هذا الرأي كاف لتنفيذه، كذلك فإنني لا أعتزم أن أفند ما يقوله أولئك الذين يسلمون بأن النور الفطري لا يستطيع أن يدلنا على الصواب فيما يتعلق بالخلاص؛ فالواقع أن من يعتقدون هذا الرأي لا يستطيعون أن يؤيدوه بالعقل؛ لأنهم لا يعترفون بأن لديهم أي عقل سليم، وإذا كانوا يتفاخرون بأن لديهم هبة أسمى من العقل، فإنها في الحقيقة محض خيال، أو شيء أدنى من العقل، كما يدل أسلوبهم العادي في الحياة. على أننا لسنا بحاجة إلى الحديث عنهم بمزيد من الصراحة، وكل ما أود أن أضيفه هو أن المرء لا يعرف إلا من أفعاله. وإذن فمن يحمل بوفرة ثمارا كالإحسان والفرح والسلام وعدالة النفس والطيبة وحسن النية والحلم والبراءة وضبط النفس، كلها أمور لا تتعارض مع الشريعة، كما يقول بولس (رسالة إلى أهالي غلاطية، 5: 22)؛
36
فسواء أكان قد تعلم هذه الأمور من العقل وحده أم من الكتاب وحده، فإن الله الذي علمه إياها بالفعل، وهو بذلك يملك السعادة الروحية، وبذلك أكون قد انتهيت من فحص النقاط التي اعتزمت معالجتها فيما يتعلق بالقانون الإلهي.
الفصل السادس
المعجزات
مثلما يسمى العلم الذي يتعدى حدود فهم الإنسان إلهيا، اعتاد الناس تسمية العمل الذي يجهل العامة سببه عملا إلهيا، أي عمل الله، فالعامة يظنون أن قدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صورة ممكنة إذا حدث في الطبيعة - على ما يبدو - شيء خارق للعادة، مناقض لما اعتاد العامة أن يتصوروه، وخاصة إذا كان هذا الحادث بالنسبة لهم فرصة كسب أو مغنم، وهم يعتقدون أن أوضح برهان على وجود الله هو الخروج الظاهر على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرهم من يفسر الأشياء والمعجزات بالعلل الطبيعية - أو من يبذل جهده من أجل معرفتها بوضوح - يبدو كأنه قد ألغى الله، أو على الأقل قد أسقط العناية الإلهية. وبعبارة أخرى، يظن العامة أن الله لا يفعل في الطبيعة ما دامت تسير على نظامها المعتاد، وبالعكس تبطل فاعلية الطبيعة وعللها الطبيعية عندما يفعل الله؛ وعلى ذلك فهم يتخيلون قدرتين متميزتين كلا من الأخرى من حيث العدد: قدرة الله وقدرة الأشياء الطبيعية. وإن كانت هذه الأخيرة مع ذلك تخضع على نحو ما لتحكم الله أو مخلوقة بوساطته (كما يفضل أكثر الناس الاعتقاد الآن). أما المقصود بهذه القدرة أو تلك، والمقصود بالله فلا يعرفون شيئا سوى أنهم يتخيلون قدرة الله كقدرة الملك المعظم، وقدرة الطبيعة كقوة غاشمة. يسمي العامة إذن حوادث الطبيعة الخارقة للعادة معجزات أو أعمال الله، وهم يفضلون أن يجهلوا العلل الطبيعية للأشياء، ولا يودون إلا الحديث عما يجهلونه تمام الجهل، وبالتالي عما يعجبون به أشد الإعجاب، وذلك إما بدافع الخشوع وإما رغبة في الاحتجاج على من يعكفون على علوم الطبيعة؛ وهذا يرجع إلى أنه ليس هناك في نظرهم ما يدعو إلى عبادة الله وإرجاع كل شيء إلى قدرته وإرادته، إلا بقدر إلغائنا للعلل الطبيعية وتصورنا لأشياء تعلو على نظام الطبيعة. ولا تبدو لهم قدرة الله أحق ما تكون بالإعجاب إلا إذا تصوروا قدرة الطبيعة وكأنها مقهورة على يد الله. ويبدو أن أصل هذا الرأي يرجع إلى اليهود القدماء، فقد قص هؤلاء اليهود معجزاتهم، وحاولوا أن يبينوا بذلك أيضا أن الطبيعة كلها مسيرة لمصلحتهم وحدهم بأمر من الإله الذي يعبدونه، وذلك حتى يقنعوا المعاصرين لهم، من غير اليهود، الذين كانوا يعبدون آلهة منظورة كالشمس والنور والأرض والماء والهواء ... إلخ، وحتى يبينوا لهم ضعف هذه الآلهة وتقلبها، أي تغيرها وخضوعها لإله غير منظور. وقد سر الناس بذلك إلى حد أنهم ما زالوا حتى اليوم يصطنعون معجزات بخيالهم حتى يعتقد الآخرون أن الله قد فضلهم على الآخرين، وأنهم هم العلة الغائية التي لأجلها خلق الله الأشياء جميعا وما زال يسيرها. فما أكثر ادعاءات الجهل الإنساني، وما أبعده عن كل فكرة صحيحة عن الله والطبيعة، عندما يخلط بين أوامر الله وأوامر البشر، ويتخيل الطبيعة محدودة إلى درجة أنه يتوهم أن الإنسان هو الجزء الرئيس فيها! حسبنا عن أفكار العامة وأحكامهم المشتقة عن الطبيعة والمعجزات. ومع ذلك، فلكي أسير في هذه المسألة بالترتيب، سأبين النقاط الآتية: (1)
لا يحدث شيء يناقض الطبيعة، فالطبيعة تحتفظ بنظام أزلي لا يتغير وسأبين في الوقت نفسه ماذا ينبغي أن يعني لفظ «معجزة». (2)
لا نستطيع أن نعرف بالمعجزات ماهية الله أو وجوده، ومن ثم لا نستطيع أن نعرف العناية الإلهية، على حين أننا نستطيع أن نعرفها كلها بطريقة أفضل بكثير عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. (3)
سأبين أيضا اعتمادا على بعض الأمثلة المستمدة من الكتاب أن الكتاب نفسه لا يعني بأمر الله وبمشيئته، ومن ثم بالعناية الإلهية، إلا نظام الطبيعة ذاته، بوصفه نتيجة ضرورية للقوانين الأزلية. (4)
سأتناول أخيرا الطريقة التي ينبغي بها تفسير معجزات الكتاب وما يجب ملاحظته أساسا على الروايات الخاصة بالمعجزات.
هذه هي الموضوعات الأساسية التي تدخل في هذا الفصل، وهي موضوعات أعتقد أنها في غاية الأهمية بالنسبة لهدف هذا الكتاب كله.
فيما يتعلق بالموضوع الأول نستطيع بسهولة أن نتبين حقيقته عن طريق المبدأ الذي أثبتناه في الفصل الرابع عن القانون الإلهي، وهو أن كل ما يشاؤه الله أو يحدده يتضمن ضرورة وحقيقة أزليتين. والواقع أننا قد استنتجنا من عدم تميز ذهن الله عن إرادته، أنه لا فرق بين قولنا إن الله يريد شيئا ما، وقولنا إنه يتصور شيئا ما؛ فإن الضرورة نفسها التي تجعل الله وفقا لطبيعته وكماله يتصور شيئا على ما هو عليه، تجعله أيضا يريده على ما هو عليه. وإذن فلما كان أي شيء لا يكون حقيقيا، بالضرورة، إلا بأمر الله، يترتب على ذلك بوضوح تام أن القوانين العامة للطبيعة ليست إلا مجرد أوامر إلهية تصدر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها. وإذن، فلو حدث شيء في الطبيعة يناقض قوانينها العامة، كان هذا الشيء مناقضا أيضا لأمر الله وعقله وطبيعته،
1
وإلا فإن المرء لو سلم بأن الله يفعل ما يناقض قوانين الطبيعة، لاضطر إلى أن يسلم بأنه يفعل ما يناقض طبيعته الخاصة، وهذا ممتنع كل الامتناع، ويمكننا أن نبرهن أيضا على ذلك بسهولة، بقولنا: إن قدرة الطبيعة هي نفسها قدرة الله وصفته المميزة، وأن قدرة الله هي ذاتها ماهيته، ولكني أفضل ألا أتعرض لهذا الموضوع الآن؛ إذ لا يحدث شيء في الطبيعة
2 ⋆
مناقض لقوانينها العامة، أو حتى لا يتفق مع هذه القوانين أو لا يصدر عنها بوصفه نتيجة لها. إن كل ما يحدث يحدث حقيقة بإرادة الله وبأمره الأزلي، أي إنه لا يحدث شيء، كما بينا من قبل، إلا وفقا لقوانين وقواعد تتضمن ضرورة أزلية. فالطبيعة إذن تسير دائما وفقا لقوانين قواعد تنطوي على ضرورة وحقيقة أزليتين، وإن لم نكن نعرفها كلها، وبالتالي فهي تتبع نظاما ثابتا لا يتغير. وليس هناك سبب معقول يدعو لأن ننسب إلى الطبيعة قوة وقدرة محدودة، أو أن نعتقد بأن قوانينها لا تنطبق إلا على أشياء معينة فقط، لا على كل الأشياء، ذلك أنه لما كانت قوة الطبيعة وقدرتها هي قوة الله وقدرته، وكانت قوانين الطبيعة وقواعدها هي أوامر الله ذاتها، فمن الواجب أن نعتقد بلا تردد بأن قدرة الطبيعة لا نهائية، وأن قوانينها من الاتساع بحيث تسري على كل ما يتصوره العقل الإلهي، أما لو تصورنا غير ذلك، لكان في ذلك اعتراف منا بأن الله قد خلق طبيعة عاجزة وسن قوانين وقواعد عقيمة إلى حد يضطر معه دائما إلى مساعدتها لكي تظل باقية، وتظل الأشياء تسير حسب رغبته. وإني لأرى أن اعتقادا كهذا مناقض للعقل تماما. ويترتب على هذه المبادئ القائلة بأن لا شيء يحدث في الطبيعة إلا واتبع قوانينها، وأن هذه القوانين تسري على كل ما يتصوره العقل الإلهي، وأن للطبيعة نظاما ثابتا لا يتغير؛
3
يترتب على هذه المبادئ بوضوح تام أن لفظ المعجزة لا يمكن أن يفهم إلا في صلته بآراء الناس، ويعني مجرد عمل لا نستطيع أن نبين علته قياسا على شيء آخر معروف، أو هو على الأقل عمل لا يمكن لراوي المعجزة أن يفسره. وأستطيع أن أقول حقيقة: إن المعجزة حادثة لا نستطيع أن نبين علتها اعتمادا على مبادئ الأشياء الطبيعية كما ندركها بالنور الفطري. ومع ذلك لما كانت المعجزات قد أجريت على مستوى فهم العامة الذين يجهلون مبادئ الأشياء الطبيعية جهلا تاما، فمن المؤكد أن القدماء قد أدخلوا في باب المعجزات كل ما لم يستطيعوا تفسيره بالوسيلة التي اعتاد العامة الالتجاء إليها لتفسير الأشياء الطبيعية، أي بالالتجاء إلى الذاكرة لتذكر حالة مشابهة يتصورنها عادة دون دهشة؛ إذ يظن العامة أنهم يعرفون جيدا ما يرونه دون أن تعتريهم الدهشة. وإذن فلم يكن لدى القدماء وعند البشر جميعا، على وجه التقريب، حتى العصر الحاضر، أية قاعدة أخرى يمكن تطبيقها على المعجزات؛ ومن ثم لا نشك في أن الكتب المقدسة قد روت كثيرا من الوقائع التي يقال عنها معجزات، ويمكن دون عناء تعيين علتها بالمبادئ المعروفة للأشياء الطبيعية، وهذا ما أشرنا إليه من قبل في الفصل الثاني عندما تحدثنا عن توقف حركة الشمس في زمن يشوع ونكوصها في زمن أحآز.
4
ولكننا سنطيل الحديث في هذا الموضوع بعد قليل؛ نظرا إلى أننا قد وعدنا بالحديث في هذا الفصل عن تفسير المعجزات.
والآن حان الوقت لكي ننتقل إلى القضية الثانية، وهي أنه لا يمكن معرفة ماهية الله أو وجوده أو عنايته
5
عن طريق المعجزات، بل إننا، على العكس من ذلك، نستطيع أن ندرك ذلك كله بطريقة أوضح عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. وللبرهنة على ذلك سأتبع الطريقة الآتية: لما كان وجود الله غير معروف بذاته،
6 ⋆
فمن الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرسوخ والثبات حدا لا يمكن معه وجود أو تصور قوة قادرة على تغييرها. وعلى أقل تقدير يجب، منذ اللحظة التي نستنتج فيها وجود الله من هذه الأفكار، أن تظهر لنا على هذا النحو من الثبات والرسوخ، لو أردنا ألا يتطرق أي شك إلى استنتاجنا. أما لو استطعنا أن نتصور أن قوة ما، أيا كانت، قد غيرت هذه الأفكار، فإننا نشك عندئذ في صحتها، وبالتالي نشك في استنتاجنا؛ أي في وجود الله، ولن نكون على يقين من أي شيء. من ناحية أخرى، فإننا نعلم أن الشيء لا يتفق مع الطبيعة أو يناقضها إلا بقدر ما نعلم أنه يتفق مع هذه الأفكار الأساسية أو يناقضها، وبالتالي فلو استطعنا أن نتصور شيئا يحدث في الطبيعة (أيا كان هذا الشيء) بقوة تناقض الطبيعة، فإن هذا الشيء يكون مناقضا لهذه الأفكار الأولية، ويجب رفضه باعتباره ممتنعا وإلا وجب علينا الشك في هذه الأفكار الأولى (كما بينا الآن)، ومن ثم في الله وفي كل ما أدركناه بأية وسيلة كانت. وإذن فالمعجزات - إذا عرفناها بأنها أعمال مناقضة لنظام الطبيعة - يستحيل أن تكون وسيلة لإثبات وجود الله، بل إنها على العكس من ذلك تجعلنا نشك في وجوده، على حين أننا نستطيع أن نكون على يقين منه دون معجزات، أي عندما نعلم أن كل شيء في الطبيعة يتبع نظاما ثابتا لا يتغير. ومع ذلك، لنفترض أن المعجزة هي ما لا يمكن تفسيره بالعلل الطبيعية، ولكن هذا التعريف يمكن أن يفيد معنيين: أن يكون لهذا الشيء علل طبيعية، وإن كان يستحيل على الذهن الإنساني البحث عنها، أو ألا تكون له علة سوى الله، أعني إرادة الله. ولكن لما كان كل ما يحدث بالعلل الطبيعية يحدث أيضا بإرادة الله وقدرته وحدها، تحتم علينا أن نخلص من ذلك إلى القول بأن المعجزة، سواء أكانت لها علل طبيعية أم لم تكن، عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني، على أنه لا يمكننا معرفة أي شيء عن طريق مثل هذا العمل، وبوجه عام عن طريق أي شيء يتجاوز حدود فهمنا. والحق أن كل ما نعرفه بوضوح وتميز يجب أن نعرفه إما بذاته وإما بشيء آخر يعرف بذاته بوضوح وتميز؛ لذلك لا نستطيع، عن طريق المعجزة، أي عن طريق عمل يتجاوز حدود فهمنا، معرفة ماهية الله أو وجوده أو أي شيء آخر يتعلق بالله وبالطبيعة. وعلى العكس من ذلك، فعندما نعلم أن الله قد حدد كل شيء ونظمه، وأن العمليات التي تتم في الطبيعة هي نتائج لماهية الله، «وأن قوانين الطبيعة أوامر أزلية وإرادات إلهية» فعندئذ حتما يجب أن نستنتج أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية وازداد تصورنا وضوحا لكيفية اعتمادها على العلة الأولى، وكيفية حدوثها طبقا لقوانين الطبيعة الأزلية، ازددنا معرفة بالله وبإرادته؛ وعلى ذلك، فبالنسبة إلى ذهننا تكون الأعمال التي نعرفها بوضوح وتميز أجدر كثيرا من الأعمال التي نجهلها كل الجهل، بأن تسمى أعمالا إلهية، وبأن ترد إلى إرادة الله، على الرغم من أن هذه الأخيرة تثير الخيال وتخلب ألباب الناس، ما دامت أعمال الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتميز هي وحدها التي تعطينا عن الله معرفة أكمل وتكشف لنا عن إرادته وأوامره بوضوح تام؛ وعلى ذلك، فإن أولئك الذين يلجئون إلى إرادة الله إذا ما جهلوا شيئا
7 - وهي طريقة مزرية للاعتراف بجهلهم - يكشفون عن تفاهة عقولهم وهم راضون. وفضلا عن ذلك، فحتى لو كنا نستطيع أن نستنتج من المعجزات شيئا فإننا لا نستطيع على الإطلاق أن نستنتج منها وجود الله لأن المعجزة عمل محدود، لا يدل إلا على قوة محدودة، فمن المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نستنتج من مثل هذا المعلول وجود علة لا حدود لقوتها، بل على أكثر تقدير، لأنه ينتج عن اجتماع كثير من العلل عمل أقل قوة بالفعل من قوة هذه العلل مجتمعة، ولكنه يفوق بكثير قوة كل علة منها على حدة. على أنه لما كانت قوانين الطبيعة (كما بينا من قبل) تسري على عدد لا نهاية له من الموضوعات، ولما كنا نتصورها على نحو من الأزلية، كانت الطبيعة تسير طبقا لهذه القوانين في نظام ثابت لا يتغير، فإن هذه القوانين نفسها تكشف، في حدودها الخاصة، عن لا نهائية الله وعن أزليته وثباته. ننتهي من ذلك إذن إلى أننا لا نستطيع بالمعجزات أن نعرف الله ووجوده وعنايته، وأننا نستطيع استنباطها على نحو أفضل بكثير من نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير. وإني لأتحدث في استنتاجي هذا عن المعجزة، حيث إن المقصود بها مجرد عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني أو نعتقد أنه يتجاوزه، أما عندما نفترض أنها تخرق نظام الطبيعة أو تقضي عليه أو تناقض قوانينها، فإنها بهذا المعنى لن تقتصر (كما بينا من قبل) على أن تكون عاجزة عن إعطاء أية معرفة عن الله، بل على العكس ستمحو المعرفة الفطرية التي لدينا، وتجعلنا نشك في الله وفي كل شيء. وأنا لا أعترف هنا بأي فرق بين عمل مناقض للطبيعة وعمل خارق للطبيعة (أي كما يدعي البعض: عمل لا يناقض الطبيعة ومع ذلك لا يمكن أن ينتج عنها أو يؤدى بوساطتها). وذلك لأن المعجزة لما كانت تحدث خارج الطبيعة، بل فيها حتى مع كونها توصف بأنها فوق الطبيعة فحسب، فإنها تخرق أيضا بالضرورة نظام الطبيعة الذي نتصوره، فيما عدا ذلك، ثابتا لا يتغير بفضل أوامر الله. وعلى ذلك، فإذا حدث شيء في الطبيعة لا يتبع قوانينها الخاصة، فإن ذلك يناقض النظام الضروري الذي وضعه الله في الطبيعة إلى الأبد من خلال قوانين الطبيعة الشاملة، فهو إذن يناقض الطبيعة وقوانينها، وبالتالي فإن التصديق بالمعجزة يجعلنا نشك في كل شيء ويؤدي بنا إلى الإلحاد. أظن أني بذلك قد أثبت ما اعتزمت عرضه في النقطة الثانية بحجج متينة. ومن ذلك نستطيع أن نستنتج مرة أخرى أن أية معجزة تناقض الطبيعة أو تتجاوز الطبيعة هي امتناع محض، وبالتالي لا نستطيع تفسير المعجزة في الكتب المقدسة إلا بوصفها عملا للطبيعة يتجاوز الفهم الإنساني أو نعتقد أنه كذلك، كما قلنا من قبل.
وقبل أن أنتقل إلى النقطة الثالثة يبدو لي أنه من المفيد أن أؤيد بنصوص الكتاب هذا الرأي الذي أدافع عنه، وهو أننا لا نستطيع معرفة الله بالمعجزة. ومع أن الكتاب لا يذكر هذا الرأي صراحة في أي من نصوصه، فإن من الممكن استنتاجه من وصية موسى (التثنية، 13: 2-5)، عندما يحكم بالإعدام على متنبئ بالرغم مما يجريه من معجزات، فيقول: «ولو تمت الآية أو المعجزة التي كلمك عنها ... إلخ، فلا تسمع كلام هذا المتنبئ ... إلخ، فإن الرب إلهكم ممتحنكم ... إلخ، وذلك المتنبئ ... يقتل.» ومن ذلك يظهر بوضوح أن مدعي النبوة يستطيعون بدورهم إجراء معجزات وأن الناس - إن لم تعصمهم معرفة الله الصحيحة وحب الله - يمكنهم عن طريق المعجزات أن يعبدوا آلهة باطلة بالسهولة نفسها التي يعبدون بها الإله الحق. ويضيف موسى قائلا (13: 3): «فإن الرب إلهكم ممتحنكم ليعلم هل أنتم تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ونفوسكم.» ومن ناحية أخرى لم يستطع الإسرائيليون، بالرغم من كل معجزاتهم، أن يكونوا عن الله فكرة صحيحة، كما تشهد بذلك التجربة، فعندما اعتقدوا أن موسى قد رحل طلبوا من هارون آلهة مرئية، وكانت فكرة الله التي كونوها عن طريق كل هذه المعجزات الكثيرة تتمثل (ويا للعار) في عجل! وقد شك أسآف
8
في عناية الله بالرغم من المعجزات العديدة التي سمع بها وكان يحيد عن الطريق المستقيم، لولا أنه عرف أخيرا السعادة الروحية الحقة (انظر المزمور 73).
9
بل إن سليمان ذاته قد شك، في وقت كان فيه اليهود في رخاء عظيم، في أن يكون كل شيء وليد الصدفة (انظر الجامعة، 3: 19-21، 9: 2-3 ... إلخ).
10
وأخيرا، فبالنسبة إلى جميع الأنبياء تقريبا، كانت معرفة الطريقة التي يمكن بها التوفيق بين نظام الطبيعة والحوادث الإنسانية وبين فكرتهم عن الله، تمثل مشكلة عويصة حقا. أما الفلاسفة الذين يحاولون معرفة الأشياء، لا بالمعجزات بل بأفكار واضحة، فقد كانوا دائما يجدون هذه المسألة واضحة للغاية، وأنا أعني بذلك أولئك الفلاسفة الذين يجعلون النعيم الحقيقي في الفضيلة وحدها وفي اطمئنان النفس، والذين لا يحاولون إخضاع الطبيعة لأنفسهم بل يسعون، على عكس ذلك، إلى طاعتها، خاصة وأنهم على يقين من أن الله لا يرعى الجنس البشري وحده بل يرعى الطبيعة كلها. وهكذا ثبت من الكتاب نفسه أن المعجزات لا تعطي معرفة صحيحة عن الله، ولا تدل بوضوح كاف على العناية الإلهية. والحقيقة أننا كثيرا ما نجد في الكتاب أن الله قد أجرى بعض الخوارق حتى يكشف عن نفسه للبشر كما هو الحال في سفر الخروج (10: 2)،
11
حيث نجد أنه خدع المصريين وأعطى آيات عن نفسه حتى يعلم الإسرائيليون أنه الله، ولكن ذلك لا يعني أن المعجزات تعطي حقيقة مثل هذه المعلومات، بل يعني أنه كان من السهل على اليهود - وفقا لما كانت عليه آراؤهم في ذلك الحين - أن يقتنعوا بوساطة المعجزات. ولقد بينا بوضوح في الفصل الثاني أن الحجج التي تعتمد على النبوة، أو التي تعتمد على الوحي - وكلاهما واحد - لا تبدأ من أفكار شاملة مشتركة، بل تبدأ من مجرد اتفاق بين معتقدات قد تكون ممتنعة أو من أفكار من أرسل الوحي إليهم، وبعبارة أخرى من تريد الروح القدس إقناعهم. وقد أعطينا أمثلة كثيرة على ذلك بل وأيدناه بشهادة بولس الذي كان يونانيا مع اليونان ويهوديا مع اليهود. ولكن إذا كانت هذه المعجزات قد استطاعت أن تقنع المصريين واليهود نظرا لاتفاقهم في المعتقدات فإنها لا تستطيع مع ذلك أن تعطي عن الله فكرة صحيحة ومعرفة حقيقية، وكل ما يمكنها أن تفعله هو أن تجعل الناس يسلمون بوجود إله أعظم قدرة من أي شيء آخر معروف، يرعى العبرانيين الذين لاقوا عندئذ في أعمالهم نجاحا يفوق ما كانوا يأملون، أكثر مما يرعى بقية الناس. ولم يكن في استطاعة المعجزات أن تعرف الناس بأن الله يرعى الجميع على قدم المساواة، فهذا ما يستطيعه الفيلسوف وحده. ومن هنا، فإن اليهود - وكذلك كل من ترجع فكرتهم عن العناية الإلهية إلى التفاوت في الأرزاق واللامساوة التي تلاحظ في الأوضاع الإنسانية - قد اقتنعوا بأن الله أكثر حبا لليهود من الآخرين، مع أنهم لا يفوقون الآخرين في الكمال الإنساني، كما أوضحنا من قبل في الفصل الثالث.
والآن أنتقل إلى النقطة الثالثة، وأبين معتمدا على الكتاب أن أوامر الله ووصاياه ليست في الواقع إلا نظام الطبيعة، وبعبارة أخرى فعندما يقول الكتاب: إن هذا الشيء أو ذاك حدث بالفعل طبقا لقوانين الطبيعة ونظامها، لا بأن الطبيعة قد توقفت عن الفعل بعض الوقت أو أنها خرجت على نظامها، كما يعتقد العامة، إلا أن الكتاب لا يخبرنا مباشرة بما يخرج عن صلب العقيدة، لأن هدفه (كما بينا في حديثنا عن القانون الإلهي) ليس تعريفنا بالأشياء من خلال عللها الطبيعية أو إعطاءنا علما نظريا. ونتيجة لذلك، يجب أن نصل إلى ما نريد البرهنة عليه عن طريق الاستنتاج، معتمدين في ذلك على روايات معينة في الكتاب، كانت بالصدفة أطول من غيرها وأكثر تفصيلا. وإذن فسأذكر بعضا منها. يورد سفر صموئيل الأول (9: 15-16)
12
رواية الوحي الذي أعطى الله صموئيل والذي أرسل له فيه شاءول، ومع ذلك لم يرسل الله شاءول لصموئيل كما اعتاد الناس إرسال واحد منهم للآخر؛ إذ لم تكن رسالة الله هذه إلا نظام الطبيعة؛ فقد كان شاءول يبحث عن بعض البغال التي فقدها (هذه هي رواية الإصحاح المذكور) وفكر بالفعل في الرجوع إلى البيت بدونها عندما نصحه خادمه بأن يذهب إلى النبي ليخبره بمكانها. ولا تشير الرواية مطلقا إلى أن الله قد أمر شاءول بالذهاب إلى صموئيل لأي سبب آخر سوى هذا السبب المتفق مع نظام الطبيعة. ويذكر في المزمور 105، الآية 24،
13
أن الله غير مشاعر المصريين وجعلهم يكرهون الإسرائيليين، على أن التغيير كان طبيعيا إلى أبعد حد كما يدل على ذلك الإصحاح الأول من سفر الخروج، الذي يتحدث عن السبب الخطير الذي من أجله استعبد المصريون الإسرائيليين،
14
وفي الإصحاح التاسع، الآية 13 من سفر التكوين
15
يخبر الله نوحا بأنه سيظهر قوس قزح في السحاب، على أن فعل الله هذا ليس إلا تعبيرا عن سقوط أشعة الشمس وانعكاسها الذي يحدث للأشعة نفسها عندما تسقط على قطرات الماء. وقد أطلق المزمور 147، الآية 18
16
الفعل الطبيعي لريح ساخنة تسيل الصقيع والثلج اسم كلمة الله، وفي الآية 15
17
سميت الريح الباردة كلام الله وكلمته. وسميت النار والريح في المزمور 104، الآية 4
18
باسم رسل الله وخدمه. وبالمثل نجد في الكتاب نصوصا أخرى كثيرة من هذا النوع تدل بوضوح تام على أن أمر الله ووصيته وكلامه وكلمته ما هي إلا فعل الطبيعة ذاتها ونظامها. لا شك إذن في أن كل ما يرويه الكتاب قد حدث بالفعل، ومع ذلك، فقد نسبت هذه الحوادث إلى الله، لأن الكتاب - كما بينا من قبل - لا يرمي إلى التعريف بالأشياء عن طريق عللها الطبيعية، بل إن كل ما يرمي إليه هو أن يحكي أشياء يمكنها أن تحتل في الخيال مكانة خاصة، وبأسلوب كفيل بإثارة أكبر قدر من الإعجاب، وبالتالي يبث الخشوع في نفوس العامة. وعلى ذلك فإذا وجدنا أن الكتب المقدسة قد روت بعض الحوادث التي نجهل عللها وكأنها قد وقعت خارج نظام الطبيعة، بل وعلى نحو مناقض له، فلا ينبغي أن نتوقف عندها بل نعتقد أن كل ما حدث بالفعل قد حدث بطريقة طبيعية. ومما يؤيد رأينا هذا أيضا وجود ملابسات عديدة في المعجزات تكشف عن ضرورة العلل الطبيعية، حتى ولو كانت هذه الملابسات حذفت أحيانا، وخاصة عندما يستعمل الراوي أسلوبا شعريا، فقد ذر موسى الرماد في الهواء ليعدي المصريين (انظر: الخروج، 9: 10)،
19
كذلك غزا الجراد مصر بأمر طبيعي من الله، أعني بريح شرقية هبت طيلة يوم كامل وليلة، ثم طرد الجراد بريح غريبة عاتية (انظر: الخروج، 10: 14، 19).
20
وقد انشق البحر بأمر الله حتى يمر اليهود منه (الخروج، 14: 21)
21
وهبت الأوروس
22
بشدة ليلة كاملة. كذلك كان لا بد، لكي يعيد أليشاع
23
الحياة إلى الطفل الذي ظن الجميع أنه قد مات، أن يستلقي بجواره بعض الوقت حتى يبعث فيه الدفء وفتح الطفل عينيه (انظر: الملوك الثاني، 4: 34-35)،
24
وكذلك يروي إنجيل يوحنا (الإصحاح 9)
25
بعض الملابسات التي استخدمها المسيح لشفاء الأعمى، كما نجد في الكتاب نصوصا أخرى كثيرة تكفي لبيان أن المعجزات تتطلب شيئا آخر إلى جانب الأمر المطلق - كما يسمونه - الله. فيجب إذن أن نعتقد أنه بالرغم من ملابسات الحوادث وعللها الطبيعية لا تروى دائما أو لا تروى كلها، فإنها كانت دائما موجودة، ويتضح هذا في سفر الخروج (14: 27)،
26
حيث روي فقط أن البحر قد أطاح موسى بحركة يسيرة منه دون أي ذكر للريح، مع أن نشيد الإنشاد (15: 10)
27
يذكر أن هذا قد حدث بالفعل لأن الله قد نفخ ريحه (أي ريحا صرصرا عاتية)؛ ذلك لأن حذف هذا الظرف التفصيلي يجعل المعجزة تبدو أعظم، ولكن قد يصر أحد قائلا: إننا يمكن أن نجد في الكتب المقدسة حوادث عديدة يبدو أنه لا يمكن على أي نحو تفسيرها بعلل طبيعية كالقول مثلا إن خطايا البشر وصلواتهم يمكن أن تكون علة المطر والخصب للأرض، أو إن الإيمان يمكن أن يشفي العمى، وما شابه ذلك من الحوادث التي روتها الكتب المقدسة. وأعتقد أنني أجبت عن هذا الاعتراض من قبل، وبينت أن الكتاب لا يعرفنا الأشياء بعللها القريبة بل يرويها بترتيب وأسلوب من شأنهما أن يثيرا في الناس، وفي العامة بوجه خاص، أعظم قدر ممكن من الخشوع؛ لذلك يتحدث الكتاب عن الله وعن الأشياء بأسلوب غير دقيق، لأنه - فيما أقول - لا يريد إقناع العقل، بل يريد إثارة الخيال وشحذ قدرته على التصوير. فلو روى الكاتب سقوط دولة ما على طريقة المؤرخين السياسيين، لما حرك ساكنا عند العامة، على حين أن الأثر يعظم عندما يصف ما حدث بأسلوب شاعري، وينسبه إلى الله كما تعود أن يفعل، وإذن فعندما يروي الكتاب أن الأرض جدباء بسبب خطايا البشر، أو أن العميان أبصروا بالإيمان، فلا ينبغي أن تؤثر فينا هذه الروايات أكثر مما تؤثر فينا رواية أن الله قد غضب وحزن وندم على ما فعله أو على ما وعد به بسبب خطايا البشر، أو أن الله تذكر وعده عندما رأى آية، وكثيرا من الروايات الأخرى التي هي في الحقيقة إبداع شعري أو تعبير عن آراء الراوي وأحكامه المسبقة. نستنتج إذن على نحو قاطع أن كل ما يرويه الكتاب على أنه حدث بالفعل، قد حدث بالضرورة طبقا لقوانين الطبيعة، شأنه شأن كل ما يحدث، وإذا وجدنا حادثة ما نستطيع أن نوقن بأنها تناقض قوانين الطبيعة أو بأنها لم تصدر عنها فيجب أن نعتقد أنها إضافة إلى الكتب المقدسة أقحمها العابثون بالمقدسات؛ ذلك لأن كل ما يناقض الطبيعة يناقض العقل، وكل ما يناقض العقل ممتنع ومن ثم وجب رفضه.
لم يبق إذن إلا أن نبدي بعض الملاحظات على تفسير المعجزات، أو بالأحرى أن نجمع ما اعتزمنا إثباته في النقطة الرابعة في هذا الموضوع، وأن نوضحه بمثل أو بمثلين بعد أن تحدثنا من قبل عن أهم ما فيه، وسأفعل ذلك خشية أن تثير معجزة أسيء تفسيرها الشك في أن يكون بعض ما في الكتاب مناقضا للنور الفطري، فنادرا ما يروي الناس شيئا كما حدث بسهولة، دون إقحام رأيهم الخاص فيه، ولتضف إلى ذلك أنهم إذا أرادوا شيئا جديدا أو سمعوا به، فإن أذهانهم - ما لم يحترسوا كل الاحتراس من آرائهم وأحكامهم المسبقة - تنشغل بهذه الآراء المسبقة إلى حد أنهم يدركون شيئا مخالفا كل الاختلاف لما رأوه أو لما تعلموه من الآخرين، ولا سيما إذا كان الأمر متعلقا بشيء يتجاوز فهم الراوي أو السامع، وبوجه أخص إذا كانت لهذا أو ذاك مصلحة في أن يحدث الشيء على نحو معين؛ ونتيجة لذلك يروي الناس في أخبارهم وفي قصصهم آراءهم الخاصة أكثر مما يروون الحوادث التي وقعت بالفعل، فتروى الحادثة الواحدة، على يد شخصين مختلفي الآراء، بطريقتين مختلفتين كل الاختلاف، حتى ليبدو أنهما يتحدثان عن واقعتين مختلفتين. وأخيرا فمن السهل للوصول للغاية، في كثير من الأحيان، إرجاع الروايات إلى مصادرها في أفكار الراوي أو المؤرخ. وأستطيع هنا أن أعطي أمثلة كثيرة من الرواة والفلاسفة الذين كتبوا التاريخ الطبيعي، تأكيدا لما أقول، ولكني أرى أننا لسنا في حاجة إلى ذلك، وسأكتفي بمثل واحد من الكتاب، ويستطيع القارئ أن يحكم بنفسه على الباقين. كان العبرانيون في زمن يشوع (وقد أبدينا هذه الملاحظة قبل ذلك) يعتقدون أن الشمس تتحرك حركة تسمى يومية، في حين تظل الأرض ثابتة، ثم كيفوا طبقا لهذه الفكرة المسبقة المعجزة لله التي حدثت في أثناء معركتهم ضد الملوك الخمسة، فلم يرووا فقط أن النهار قد طال أكثر من المعتاد، بل رووا أيضا أن الشمس والقمر قد توقفا، أي إن حركتهما قد انقطعت، وكانت القصة، معروضة على هذا النحو نافعة للغاية في ذلك الوقت لإقناع غير اليهود عبدة الشمس وللبرهنة لهم بالتجربة ذاتها على أن الشمس خاضعة لقوة إلهية أخرى تستطيع بفعل يسير أن تغير مسارها الطبيعي، وهكذا فإنهم، بدافع العقيدة ومن الرأي المسبق في آن واحد، قد تصوروا الأمر ورووه على نحو مخالف كل الاختلاف لما كان من الممكن أن يقع بالفعل. وعلى ذلك، فإذا أردنا تفسير معجزات الكتاب، وإذا شئنا أن نعرف من رواياته كيف حدثت الأمور بالفعل، فمن الضروري أن نعرف آراء الرواة الأول، وأول من دونوا الرواية، ثم نميز بين هذه الأفكار وبين التصور الحسي الذي كان يمكن أن يتكون لدى الواقعة موضوع الرواية، وإلا فإننا سنخلط بين المعجزة نفسها كما حدثت بالفعل وبين أفكار رواتها وأحكامهم. كذلك يجب علينا أن نعرف أفكار الراوي، لا لكي نتجنب هذا الخلط فحسب، بل لكي لا نخلط أيضا بين الأشياء التي حدثت بالفعل وبين الأشياء الخيالية التي لم تكن إلا رؤى نبوية، فقد نقلت أشياء كثيرة في الكتاب على أنها وقعت بالفعل، وظنها الناس كذلك، ولكنها لم تكن إلا رؤى وأمورا خيالية، مثل نزول الله (وهو الموجود الأعظم) من السماء (انظر: الخروج، 19: 18؛ التثنية، 5: 23-26)،
28
وتصاعد الدخان من جبل سيناء؛ لأن الله قد نزل محاطا بالنار، وصعود إلياس إلى السماء في عربة من نار وعلى خيول من نار، وكلها بلا شك لا تعدو أن تكون رؤى تتناسب مع آراء أولئك الذين قصوا علينا رؤاهم كما تصوروها، أعني كأنها وقائع. والحقيقة أن كل من لديهم معرفة تفوق بقليل معارف العامة يعلمون أن الله ليس له يمين أو يسار، وأنه لا يتحرك ولا يسكن، ولا يوجد في مكان، بل هو لا متناه على نحو مطلق، يحتوي في ذاته على جميع الكمالات. أقول: إن العلم بذلك يتوافر لدى من يحكمون على الأشياء بإدراكات الذهن الخالص لا تبعا للانطباع الذي تعطيه الحواس الخارجية للخيال، كما يفعل العامة عندما يصطنعون إلها مجسما، يتمتع بسلطة ملكية ويرتكز عرشه على قبة السماء فوق النجوم، التي لا يعتقد الجاهل أنها على بعد شاسع من الأرض ويرتبط بهذه الأفكار وما شابهها (كما قلنا من قبل) عدد كبير من الوقائع التي يرويها الكتاب والتي لا ينبغي على الفيلسوف التسليم بها وكأنها حدثت بالفعل. وأخيرا فلكي تعرف الحوادث المعجزة كما وقعت بالفعل علينا أن نتعرف على الأساليب الخطابية والصور البلاغية التي يستعملها العبرانيون، فإن لم ننتبه إليها فسنرى في الكتاب كثيرا من المعجزات المختلفة التي لم يفكر من قاموا بتدوينها في روايتها أبدا، ومن ثم نجهل تماما الوقائع والمعجزات كما حدثت بالفعل، بل نجهل أيضا فكر مؤلفي الكتب المقدسة. فمثلا يتحدث زكريا (14: 7) عن حرب مستقبلة فيقول: «ويكون يوم وهو معلوم عند الرب ليس نهارا ولا ليلا، بل يكون وقت المساء نورا.» فيبدو أنه بهذه الكلمات تنبأ بمعجزة كبيرة، ومع ذلك فهي لا تعني أكثر من أن نهاية الحرب التي يعرفها الله وحده ستظل مجهولة طوال النهار، وفي المساء سيتم النصر، فقد تعود الأنبياء بمثل هذه العبارات أن يتنبئوا بانتصارات الأمة وهزائمها؛ وعلى هذا النحو نرى أشعيا وهو يصف في الإصحاح 13 هدم بابل: «إن كواكب السماء ونجومها لا تبعث نورها، والشمس تظلم في خروجها، والقمر لا يضيء بنوره.» ولا أظن أن هناك من يعتقد بأن ذلك قد حدث بالفعل عندما هدمت إمبراطورية بابل، وكذلك ما يضيفه بعد ذلك: «فإني سأزعزع السماء وأزلزل الأرض عن مقرها.» وكذلك يقول أشعيا (48، الآية قبل الأخيرة) ليخبر اليهود بأنهم سيرجعون من بابل سالمين إلى أورشليم، وبأنهم لن يقاسوا من الظمأ في الطريق «فلم يعطشوا حين سيرهم في القفار بل فجر لهم المياه من الصخر، شق الصخر ففاضت المياه.» فكل ما يقصده بكلماته هذه هو أن اليهود سيجدون في الصحراء كما حدث بالفعل، ينابيع تروي ظمأهم. وعندما عادوا إلى بيت المقدس بعد موافقة قورش
29
لم تحدث مثل هذه المعجزات بالفعل. وفي الكتب المقدسة أمثلة عديدة من هذا النوع. وما هي في الحقيقة إلا أساليب في التعبير شائعة بين العبرانيين، ولسنا في حاجة إلى سردها كلها، يكفي أن أذكر فقط أن هذه الطرق في التعبير، التي اعتادها العبرانيون، ليست مجرد محسنات بديعية، بل هي أساسا علامات تدل على الخشوع؛ لذلك نجد في هذه الكتب استعمال بارك الله بمعنى لعن (انظر: الملوك الأول، 21: 10، أيوب، 2: 9)
30
وللسبب نفسه أرجعوا كل شيء إلى الله، وبالتالي يبدو أن الكتاب لا يروي إلا معجزات مع أنه لا يتحدث إلا عن أشياء طبيعية بمعنى الكلمة. وقد قدمنا من قبل الأمثلة على ذلك، وإذن فعندما يقول الكتاب: إن الله قد طبع قلب فرعون على القسوة، يجب أن نعتقد أن ذلك لا يعني إلا أن فرعون قد عصى. وعندما يقال: إن الله قد فتح نوافذ السماء، فذلك يعني أن المطر قد سقط بغزارة وهكذا.
31
فإذا راعينا هذه الخاصية بدقة، وتنبهنا إلى أن كثيرا من الروايات مختصرة للغاية، ولا تعطي إلا تفصيلات قليلة، وقد تكون مبتورة، فإننا لا نكاد نجد في الكتاب شيئا يمكن البرهنة على أنه مناقض للنور الفطري . ويصبح كثير من النصوص التي بدت غامضة مفهومة بعد شيء من التفكير، وبذلك يسهل تفسيرها.
أظنني الآن قد بينت بقدر كاف من الوضوح ما قصدت إليه، ومع ذلك فقبل أن أنتهي من هذا الفصل أود أن أبدي ملاحظة أخرى، لقد اتبعت فيما يتعلق بالمعجزات منهجا مخالفا كل الاختلاف للمنهج الذي اتبعته في حديثي عن النبوة؛ إذ لم أثبت شيئا من النبوة إلا ما استنبطته من المبادئ الموحى بها في الكتب المقدسة، على حين أني اعتمدت أساسا في هذا الفصل على المبادئ التي يمليها النور الطبيعي. وقد فعلت ذلك عمدا لأن النبوة، في ذاتها، تتعدى حدود الفهم الإنساني، وهي موضوع اللاهوت الخالص؛ لذلك لم أكن أستطيع أن أثبت أو أعلم شيئا بشأنها إلا من معطيات الوحي الأساسية، وبالتالي اضطررت إلى أن أفحص النبوة أولا كمؤرخ،
32
وأن أستخلص من دراستي بعض النظريات التي تمكنني - بالقدر المستطاع - من معرفة طبيعتها وخصائصها. وعلى العكس من ذلك، فلما كان موضوع بحثنا في المعجزات وهو: هل نستطيع التسليم بحدوث شيء ما في الطبيعة يناقض قوانينها أو يستحيل استنباطه منها - بحثا فلسفيا محضا - فإني لم أكن في حاجة إلى شيء كهذا، بل لقد وجدت أن من الأصوب بحث هذه المسألة بالأسس المعروفة بالنور الفطري،
33
وبأفضل ما نعرفه منها بقدر الإمكان، أقول: ظننت أنه من الأصوب؛ لأني كنت أستطيع بحثها بسهولة بعقائد ومعطيات مستمدة من الكتاب وحده، وسأعرضها هنا بإيجاز حتى يراها الجميع. يؤكد الكتاب في بعض النصوص عن الطبيعة بوجه عام، أنها تسير طبقا لنظام ثابت لا يتغير، كما نرى مثلا في المزمور 148: 6،
34
وفي إرميا (31: 35-36).
35
ويذهب الفيلسوف بدوره في «الجامعة» (1: 10)
36
بوضوح تام إلى أنه لا جديد يحدث في الطبيعة، ويشرح في الآيات 11، 12،
37
هذه العبارة بأن يضيف أن شيئا يبدو جديدا يحدث بالفعل في بعض الأحيان، ولكن هذه الجدية ليست حقيقية، فقد حدثت الحالة نفسها في قرون ماضية لا نتذكرها الآن؛ إذ لم تعد لدينا ، كما يقول، أية ذكريات من العصور الماضية، ولن يحتفظ الخلف بأية ذكرى ممن يعيشون في زماننا هذا. ويقول بعد ذلك (3: 11)،
38
إن الله قد نظم كل شيء بإتقان في الزمن القديم. ويقول في الآية 14
39
إنه يعلم أن كل ما يفعل الله يظل إلى الأبد، دون أن يضاف إليه أو ينقص منه شيء. كل ذلك يدل بوضوح تام على أن الطبيعة تسير وفقا لنظام ثابت لا يتغير، وعلى أن الله ظل كما هو في جميع العصور التي نعرفها والتي لا نعرفها، وأن قوانين الطبيعة كاملة وخصبة إلى حد لا يمكن معه إضافة شيء إليها أو إنقاص شيء منها. وأخيرا فالمعجزات لا تبدو شيئا جديدا إلا لجهل الناس بأن الكتاب يعلمنا ذلك صراحة، ولكنه لا يقول في أي من نصوصه إن شيئا ما يحدث في الطبيعة مناقضا قوانينها أو يستحيل استنباطه منها، فلا ينبغي إذن أن تدخل في الكتاب هذه الخرافة. ولنضف إلى ذلك، أن المعجزات تتطلب كما بينا من قبل عللا وملابسات وليست نتيجة لتلك القوى الملكية التي ينسبها العامة زورا وبهتانا إلى الله، بل هي نتيجة لقدرة الله وأمره، أي (كما بينا بوساطة الكتاب نفسه) عن قوانين الطبيعة ونظامها. ولنقل أخيرا: إن أساطين الكذب يستطيعون هم أنفسهم إجراء معجزات، ودليلنا على ذلك الإصحاح 13
40
من التثنية، والإصحاح 24 من متى.
41
يتبين من ذلك بأعظم قدر من الوضوح أن المعجزات كانت ظواهر طبيعية، بالتالي يجب تفسيرها بحيث لا تبدو جديدة (مستعيرين عبارة سليمان) أو مناقضة للطبيعة، بل يجب أن نفسرها مبينين، بقدر ما نستطيع، اتفاقها التام مع سائر الأشياء الطبيعية. وقد قدمت بعض القواعد التي استخلصتها من الكتاب حتى يستطيع كل فرد أن ينظر إلى المعجزة على هذا النحو دونما حرج. ومع ذلك، فعندما أقول: إن هذه هي تعاليم الكتاب فإني لا أقصد أن الكتاب يعطي هذه التعاليم بحسبانها ضرورية للخلاص، بل إن كل ما أقصده هو أن الأنبياء كانت لديهم الطريقة نفسها التي لدينا في النظر إلى الأمور، وإذن فلكل فرد الحرية في أن يحكم طبقا لما يراه أفضل وسيلة تؤدي إلى أن يمتلئ قلبه بالعقيدة وبعبادة الله، وهذا ما كان يعتقده يوسف؛ لأنه يقول في آخر الكتاب الثاني من «أخبار الأقدمين»: «لا يجب على أحد لهذا السبب أن يرفض الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بواقعة معجزة، وبأن أناسا من القدماء، لم يعرفوا الرذيلة، قد انشق لهم عبر البحر طريق للنجاة، سواء أكان ذلك بإرادة الله أم كان تلقائيا، على حين رأى جنود الإسكندر، ملك مقدونيا، بحر بمافيليا يتراجع أمامهم، وأصبح لهم طريقا بعد أن ضلوا كل طريق وذلك عندما أراد الله أن يقضي على قوة الفرس. هذا ما يتفق عليه تماما جميع رواة أخبار الإسكندر، فلكل فرد الحرية في أن يعتقد ما يشاء.»
42
تلك هي أقوال يوسف وهذا هو حكمه على الإيمان بالمعجزات.
الفصل السابع
تفسير الكتاب
يعترف جميع الناس بأن الكتاب المقدس كلام الله، وأنه يعلم الناس السعادة الروحية الحقة أو طريق الخلاص، غير أن سلوك الناس يكشف عما يغاير ذلك تماما؛ لأن العامة لا يحرصون أبدا على أن يعيشوا وفقا لتعاليم الكتاب المقدس، وترى جميع الناس تقريبا وقد استبدلوا بكلام الله بدعهم الخاصة، ويبذلون قصارى جهودهم باسم الدين من أجل إرغام الآخرين على أن يفكروا مثلهم. أقول: إننا نرى معظم اللاهوتيين وقد انشغلوا بالبحث عن وسيلة لاستخلاص بدعهم الخاصة وأحكامهم التعسفية من الكتب المقدسة بتأويلها قسرا، وبتبرير هذه البدع والأحكام بالسلطة الإلهية، وهم لا يكونون أقل حرصا وأكثر جرأة في أي موضع آخر، بقدر ما يكونون في تفسير الكتاب، أي تفسير فكر الروح القدس. والأمر الوحيد الذي يخشونه بعملهم هذا ليس الخوف من أن ينسبوا إلى الروح القدس عقيدة باطلة أو أن يحيدوا عن طريق الخلاص، بل أن يقنعهم الآخرون بخطئهم وأن يروا أعداءهم وقد قضوا على سلطتهم، وأن يكونوا موضع احتقار الآخرين. والحق أنه لو كان الناس صادقين في شهادتهم بصحة الكتاب لكان لهم أسلوب في الحياة مختلف كل الاختلاف، ولما اضطربت نفوسهم بكل هذه المنازعات، ولما تصارعوا بمثل هذه الكراهية، ولما تملكتهم هذه الرغبة العمياء الهوجاء في تفسير الكتاب وكشف البدع في الدين، بل لما جرءوا على أن يؤمنوا برأي لم يدع إليه الكتاب بوضوح تام على أنه عقيدة في الكتاب. وأخيرا لامتنع مدنسو المقدسات، الذين لم يتورعوا عن تحريف الكتاب في مواطن كثيرة، عن ارتكاب مثل هذا الجرم ولما وضعوا عليه أيديهم الدنسة. إن الطموح الإجرامي وحده هو الذي جعل من الدين دفاعا عن بدع إنسانية أكثر منه إطاعة لتعاليم الروح القدس، بل إنه هو الذي جعله يستخدم في نشر أقسى أنواع الشقاق والكراهية بين الناس، لا في نشر الإحسان، وذلك تحت قناع الحماس لدين الله والإيمان المشبوب. وأضيفت إلى هذه الشرور الخرافة التي تدعو إلى احتقار الطبيعة والعقل، وإلى الإعجاب بما يناقضهما وتعظيمه، ومن هنا لم يكن مما يدعو للدهشة أن يعمل الناس، من أجل زيادة تعظيم الكتاب واحترامه، على تفسيره بحيث يبدو متناقضا إلى أكبر حد ممكن مع هذه الطبيعة نفسها ومع هذا العقل ذاته، ومن ثم أصبح الناس يحلمون بأن هناك أسرارا عميقة للغاية تخبئها الكتب المقدسة، وأخذوا يستنفذون قواهم في التكهن بها، متجاهلين المفيد في سبيل الممتنع، ويعزون إلى الروح القدس كل ما يبتدعونه في هذيانهم هذا، ويحاولون الدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة وحماس، وهذا هو حال الناس دائما: فهم يدافعون بالذهن والعقل وحده عن كل ما يدركونه بالذهن الخالص، ويدافعون بانفعالاتهم عن المعتقدات اللاعقلية التي تفرضها عليهم انفعالات النفس. ولكي نخرج أنفسنا من هذه المتاهات ونحرر فكرنا من أحكام اللاهوتيين المسبقة، وحتى لا نؤمن في غفلة منا ببدع من وضع البشر، وكأنها تعاليم إلهية، يجب أن نتحدث عن المنهج الصحيح الذي يجب اتباعه لتفسير الكتاب، وأن يكون تصورنا له واضحا، فطالما كنا نجهله لن نستطيع أن نعلم شيئا يقينيا عن تعاليم الكتاب أو الروح القدس. ولكي لا أطيل الحديث ألخص هذا المنهج فأقول: إنه لا يختلف في شيء عن المنهج الذي نتبعه في تفسير الطبيعة، بل يتفق معه في جميع جوانبه ، فكما أن منهج تفسير الطبيعة يقوم أساسا وقبل كل شيء على ملاحظة الطبيعة ، وجمع المعطيات اليقينية، ثم الانتهاء منها إلى تعريفات الأشياء الطبيعية، فكذلك يتحتم علينا في تفسير الكتاب أن نحصل على معرفة تاريخية مضبوطة، وبعد الحصول عليها أي على معطيات ومبادئ يقينية، يمكننا أن ننتهي من ذلك إلى استنتاج مشروع لفكر مؤلفي الكتاب. وعلى هذا النحو (أعني إذا لم نسلم بمبادئ وبمعطيات لتفسير الكتاب ولتوضيح محتواه إلا ما يمكن استخلاصه من الكتاب نفسه ومن تاريخه النقدي) يستطيع كل فرد أن يتقدم (في بحثه) دون التعرض للوقوع في الخطأ كما يستطيع أن يكون فكرة عما يتجاوز حدود فهمنا، يكون لها اليقين نفسه الذي لدينا عما نعرفه بالنور الطبيعي.
1
ولكي نبرهن على أن هذه الطريقة ليست يقينية فحسب، بل هي الطريقة الوحيدة الممكنة، وهي تتفق مع منهج تفسير الطبيعة، يجب أن نذكر أن الكتاب يتناول في كثير من الأحيان موضوعات لا يمكن استنباطها من المبادئ التي نعرفها بالنور الطبيعي، وهي قصص وموضوعات للوحي تؤلف الجزء الأكبر من الكتاب، فالقصص تحتوي أساسا على معجزات (أي كما بينا في الفصل السابق) روايات تقص وقائع غير مألوفة في الطبيعة، وتلائم أفهام الرواة الذين قاموا بتدوينها وأحكامهم. أما موضوعات الوحي فقد تكيفت حسب آراء الأنبياء، بحيث تتجاوز حقيقة حدود الفهم الإنساني كما بينا في الفصل الثاني؛ لذلك، يجب أن نستمد معرفتنا بهذه الأشياء جميعها، أي بمحتوى الكتاب كله تقريبا، من الكتاب نفسه، مثلما نستمد معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. أما فيما يتعلق بالتعاليم الخلقية
2
الموجودة في الكتب المقدسة، فعلى الرغم من أنه من الممكن البرهنة عليها بالأفكار الشائعة، فإننا لا نستطيع أن نبرهن بهذه الأفكار على أن الكتاب يعطي التعاليم؛ لأن ذلك أمر لا يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه. وحتى لو أردنا أن تظهر لنا قدسية الكتاب دون الاعتماد على أي حكم سابق، فيجب أن نبرهن بالكتاب نفسه على أنه يعلم الحقيقة الخلقية، إذ إن هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها البرهنة على قدسيته؛ ذلك لأننا قد بينا أن التصديق بالأنبياء يقوم أساسا على كونهم ميالين إلى العدل والخير، فيجب إذن أن يثبت لنا ذلك حتى يمكننا تصديقهم. ولقد برهنا من قبل على أن المعجزات لا تستطيع أن تبرهن على قدسية الله، ولن أذكر هنا أن باستطاعة النبي الكذاب أيضا إجراء المعجزات، فيجب إذن أن نستنتج قدسية الكتاب من دعوته إلى الفضيلة الحقة فحسب، وهذا ما لا يمكن البرهنة عليه إلا بالكتاب نفسه، فإن لم يتم ذلك كان تصديقنا وشهادتنا بقدسيته مرتكزا على حكم مسبق بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وإذن فجب أن تكون معرفتنا بالكتاب مستمدة كلها من الكتاب وحده. وأخيرا، فإن الكتاب، شأنه شأن الطبيعة، لا يعطينا تعريفات للأشياء التي يتحدث عنها؛ وعلى ذلك فكما يجب أن نستنتج تعريفات الأشياء الطبيعية من أفعال الطبيعة المختلفة، كذلك يجب استخلاص التعريفات التي لا يعطيها الكتاب من مختلف الروايات التي نجدها فيه بشأن كل موضوع، وإذن فالقاعدة العامة التي نضعها لتفسير الكتاب هي ألا ننسب إليه أية تعاليم سوى تلك التي يثبت الفحص التاريخي بوضوح تام أنه قال بها. وسنتحدث الآن عن هذا الفحص التاريخي وعما ينبغي أن يكون عليه، وما ينبغي أن يعرفنا به أساسا. (1)
يجب أن يفهم طبيعة وخصائص اللغة التي دونت بها أسفار الكتاب المقدس والتي اعتاد مؤلفوها التحدث بها، وبذلك يمكننا فحص كل المعاني التي يمكن أن يفيدها النص حسب الاستعمال الشائع. ولما كان جميع من قاموا بالتدوين، سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد، عبرانيين، فلا شك أن معرفة اللغة العبرية ضرورية قبل كل شيء، لا لكي نفهم أسفار العهد القديم المكتوبة بهذه اللغة فحسب، بل لكي نفهم أيضا أسفار العهد الجديد؛ فهذه الأسفار الأخيرة، مع أنها قد انتشرت بلغات أخرى، إلا أنها مملوءة، بالتعبيرات العبرية. (2)
يجب تجميع آيات كل سفر وتصنيفها تحت موضوعات أساسية عددها محدود، حتى نستطيع العثور بسهولة على جميع الآيات المتعلقة بالموضوع نفسه، وبعد ذلك، نجمع كل الآيات المتشابهة والمجملة، أو التي تعارض بعضها البعض. وأعني بالآية المبينة أو المجملة سهولة أو صعوبة فهم المعنى من السياق لا سهولة أو صعوبة فهم المعنى بالعقل؛ إذ إن ما يعنينا هنا هو معاني النصوص لا حقيقتها، بل إنه يجب أولا وقبل كل شيء في بحثنا عن معنى الكتاب الحرص على ألا ينشغل ذهننا باستدلالات قائمة على مبادئ المعرفة الفطرية (فضلا عن الأحكام المسبقة). ولكيلا نخلط بين معنى الكلام مع حقيقة الأشياء، يجب أن نحرص على العثور على المعنى معتمدين في ذلك فحسب على استعمال اللغة أو على استدلالات مبنية على الكتاب وحده. وسأوضح هذه الفروق بمثال كيما تزداد معرفتنا بها بسهولة. إن العبارات التي قالها موسى مثل «الله نار أو الله غيور»، من أوضح العبارات ما دمنا نقتصر على النظر إلى معاني الكلمات وحدها؛ لذلك أضعها بين الآيات الواضحة، مع أنها في غاية الغموض من حيث العقل والحقيقة. وعلى الرغم من كون المعنى الحرفي مناقضا للنور الفطري، فإنه إذا لم يكن يتعارض على نحو قاطع مع المبادئ والمعطيات الأساسية التي نستمدها من التاريخ النقدي للكتاب، فمن الواجب الاحتفاظ به (أي بالمعنى الحرفي). وعلى العكس من ذلك، إذا كانت هذه الكلمات تتناقض في تفسيرها الحرفي مع المبادئ التي نستمدها من الكتاب، برغم اتفاقها التام مع العقل، فيجب قبول تفسير آخر لها (أعني تفسيرا مجازيا)، فلكي نعرف إن كان موسى قد اعتقد حقا بأن الله نار أم لا، يجب أن نستنتج ذلك من الكلام الآخر الذي قاله موسى، لا من اتفاق هذا الرأي مع العقل أو مناقضته له. ومن هنا، فلما كان موسى قد ذكر بوضوح تام في نصوص أخرى متعددة أن الله لا يشابه الأشياء المرئية في السموات أو في الأرض أو في الماء، فيجب أن نستنتج من ذلك أنه يجب فهم هذا القول بعينه أو كل الأقول المشابهة فهما مجازيا. على أنه لما كان علينا ألا نبتعد عن المعنى الحرفي إلا في أضيق الحدود، فيجب أن نبحث أولا إن كان هذا القول الواحد : «الله نار.» يقبل معنى آخر غير المعنى الحرفي، أي إن كان لفظ نار يعني شيئا آخر غير النار الطبيعية، فإذا لم يكن الاستعمال اللغوي يسمح بإعطاء اللفظ معنى آخر، فلن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نفسر العبارة تفسيرا آخر، مع أن المعنى الحرفي مناقض للعقل. وبالعكس يجب أن نأخذ في اعتبارنا معنى هذه العبارة في تفسيرنا للعبارات الأخرى، حتى لو كانت هذه الأخيرة متفقة مع العقل، فإن لم يكن الاستعمال اللغوي بدوره يسمح بذلك كان من المستحيل التوفيق بين جميع العبارات، وبالتالي يجب التوقف عن الحكم عليها جميعا، ولكن لما كان اللفظ نار يفيد أيضا معنى الغضب أو الغيرة (انظر: أيوب، 31: 12)،
3
فمن السهل التوفيق بين عبارات موسى، وبذلك ننتهي إلى هذه النتيجة المشروعة، وهي أن هذه القضايا («الله نار، الله غيور») ليست في الحقيقة إلا قضية واحدة، فلنواصل البحث. يقول موسى صراحة: إن الله غيور، ولا يقول في أي موضع إن الله خال من الانفعالات أو من أهواء النفس، ومن ذلك نستنتج أن موسى اعتقد بوجود الغيرة في الله، أو على الأقل أراد أن ينادي بذلك مع أن هذا في رأينا يتنافى مع العقل، وقد بينا من قبل أنه لا يفرض علينا أن نوائم قسرا بين فكر الكتاب ومقتضيات عقلنا وأفكارنا المسبقة؛ إذ يجب علينا أن نستمد كل معرفة لأسفار الكتاب المقدس من هذه الأسفار وحدها. (3)
يجب أن يربط هذا الفحص التاريخي كتب الأنبياء بجميع الملابسات الخاصة التي حفظتها لنا الذاكرة، أعني سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه والغاية التي كان يرمي إليها ومن هو وفي أية مناسبة كتب كتابه وفي أي وقت ولمن وبأية لغة كتبه. كما يجب أن يقدم هذا الفحص الظروف الخاصة بكل كتاب على حدة: كيف جمع أولا، وما الأيدي التي تناولته، وكم نسخة مختلفة معروفة عن النص، ومن الذين قرروا إدراجه في الكتاب المقدس، وأخيرا كيف جمعت جميع الكتب المقننة
4
في مجموعة واحدة؟ أقول: إن الفحص التاريخي يجب أن يتضمن كل هذا؛ إذ إنه لكي نعلم أي القضايا قد نودي بها في صيغة قوانين وأيها أصبحت تعاليم خلقية ، فمن الواجب أن نعرف سير المؤلفين وأخلاقهم والهدف الذي كانوا يرمون إليه. هذا بالإضافة إلى أننا نستطيع أن نفسر بسهولة أكثر أقوال إنسان ما إذا زادت معرفتنا بعبقريته الخاصة وطبيعة تكوينه الذهني، وحتى لا نخلط بين التعاليم الأزلية وتعاليم أخرى لا تصلح إلا لزمان معين ولمجموعة معينة من الناس، فيجب أن نعرف في أية مناسبات وفي أي زمان ولأي أمة وفي أي عصر كتبت هذه التعاليم كلها. وأخيرا يجب أيضا أن نعرف الملابسات الأخرى المذكورة آنفا لكي نعلم إلى أي مدى يمكننا الاعتماد على سلطة كل كتاب، ولكي نعلم أيضا إن كانت هناك يد آثمة قامت بتحريف النص، أو - في حالة كونه غير محرف - إن كانت قد تسربت إليه بعض الأخطاء، أو أن رجالا أكفاء جديرين بالثقة قد قاموا بتصحيح هذه الأخطاء. يجب أن نعلم كل هذا حتى لا نسير كالعميان فيسهل وقوعنا في الخطأ، وحتى لا نسلم إلا بما كان يقينيا لا يتطرق إليه الشك.
وبعد أن ننتهي من هذا الفحص للكتاب، ونأخذ قرارا حاسما بألا نسلم بشيء لا يخضع لهذا الفحص أو لا يستخلص منه بوضوح تام، على أنه عقيدة مؤكدة للأنبياء، عندئذ يحين وقت العكوف على دراسة فكر الأنبياء والروح القدس، ولكن لكي نقوم بهذه المهمة متبعين في ذلك المنهج والنظام اللازمين، يجب أن نسير على النحو الذي نسير عليه عندما نرتقي من ملاحظة الطبيعة إلى تفسيرها. فكما نهتم في دراسة الأشياء الطبيعية أولا بكشف أكثر الأشياء شمولا، وهي الأشياء التي تشارك فيها الطبيعة كلها كالحركة والسكون، وكذلك كشف قوانينها وقواعدها التي تتبعها الطبيعة دائما، والتي تفعل من خلالها بلا انقطاع، ثم نرتفع تدريجيا إلى الأشياء الأخرى الأقل شمولا؛ فكذلك يجب أن نبدأ أولا، في تاريخ الكتاب المقدس، بالبحث عن أكثر الأشياء شمولا وعن الأساس أو الأصل الذي يرتكز عليه الكتاب المقدس، وعما أوصى به جميع الأنبياء على أنه عقيدة أزلية، لها أعظم المنفعة للناس جميعا، كوجوب أن الله واحد قادر قدرة مطلقة وتجب عبادته وحده، يرى الجميع، ويحب على الأخص من يعبدونه، ويحبون جارهم كما يحبون أنفسهم ... إلخ. هذه التعاليم وما شابهها موجودة في كل موضع في الكتاب بقدر من الوضوح والصراحة لم يستطع معه أي شخص أن يشك في معناها أما فيما يتعلق بطبيعة الله وكيفية رؤيته ورعايته لجميع الأشياء فإن الكتاب لا يقول شيئا عن ذلك صراحة، ولا يعطي عقيدة أزلية تتعلق بهذا الأمر وما شابهه من الأمور، بل على العكس لا يتفق الأنبياء أنفسهم على هذه المسائل، كما بينا من قبل، فلا مجال إذن لوضع هذا الأمر بوصفه عقيدة صادرة عن الروح القدس، مع أنه يمكن بحثه على أحسن وجه بالنور الفطري. فإذا عرفنا هذه العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب معرفة صحيحة، انتقلنا إلى تعاليم أقل شمولا، تتعلق بالأمور العادية في الحياة، وتصدر عن هذه العقيدة العامة كما تنساب الجداول من منابعها، وأعني بهذه الأمور، كل الأفعال الخاصة الخارجية، الفاضلة بحق، والتي لا يمكن تحقيقها إلا إذا أتيحت الفرصة لذلك، فكل ما نجده في الكتاب من غموض أو اشتباه بشأن هذه الأفعال، يجب إيضاحه وتحديده من خلال العقيدة الشاملة التي يدعو إليها الكتاب. فإذا ظهرت متناقضات، فيجب أن نعرف في أية مناسبة وفي أي وقت ولأي شخص كتبت هذه النصوص المتعارضة.
5
فعندما يقول المسيح مثلا: «طوبى للحزان (الذين يبكون) فإنهم يعزون.» لا نعلم من هذا النص وحده أي حزن (بكاء) يقصد، ولكنه يخبرنا بعد ذلك أننا لا ينبغي أن نهتم إلا بملكوت الله وحده وبعدالته التي يقدمها لنا النص بوصفها خيرا أقصى (انظر: متى، 6: 33).
6
وإذن فالنص يعني بالذين يبكون، من يبكون على ملكوت الله والعدالة التي جهلها الناس؛ لأن هذا وحده هو ما يبكيه، من يحبون ملكوت الله، أي من يحبون العدل ويحتقرون كل ما سوى ذلك من حظوظ الدنيا، وكذلك عندما يقول: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ... إلخ.» فلو كان المسيح قد أمر بذلك كما يأمر المشرع الذي يريد تعريف القضاة بإرادته، لكان بهذه الوصية قد قضى على شريعة موسى، ولكن هذا تفسير يحذرنا منه المسيح ذاته صراحة (انظر: متى، 5: 17).
7
فيجب إذن أن نبحث عمن قال هذا ولمن قاله وفي أي وقت قاله؟ إن قائل هذه العبارة هو المسيح، الذي لم يضع قوانين كما يفعل المشرع، بل أعطى تعاليم كما يفعل المعلم لأنه لم يكن يريد أن يصلح الأفعال الخارجية، بل استعدادات النفس الداخلية (كما بينا من قبل). لقد قال هذه العبارة لأناس مضطهدين، كانوا يعيشون في دولة فاسدة لا تعرف العدالة مطلقا، وتبدو مهددة بالانهيار الوشيك، وهذا الذي يخبرنا به المسيح في هذا النص، عندما كانت المدينة مهددة بالانهيار، قد أخبرنا به إرميا أيضا عند أول تخريب للمدينة، أي في وقت مشابه (انظر: المراثي، 3، الحرفان: الطاء والياء)،
8
وإذن فما دام الأنبياء لم يعطونا هذه التعاليم إلا في وقت الاضطهاد، ولم يضعوها أبدا في صيغة قانون، بل إن موسى (الذي لم يكتب في زمان اضطهاد، بل حاول إقامة مجتمع سياسي سليم، وهذه ملاحظة هامة) قد أمر بأن تكون العين بالعين، على الرغم من أنه أدان الانتقام من الجار وكراهيته، فإنه يتبين من ذلك بوضوح تام، طبقا لمبادئ الكتاب ذاتها، أن هذه التعاليم التي أعطاها المسيح وإرميا، أعني قبول الظلم وعدم مقاومة الفسق لا تسري إلا حين يجهل الناس العدالة، وفي وقت الاضطهاد، لا في مجتمع سليم،
9
وعلى العكس من ذلك، ففي المجتمع السليم الذي يحافظ على العدالة يجب على كل فرد - إن أراد أن يكون عادلا - أن يطلب من القاضي معاقبة من ظلمه (انظر: الأحبار، 5: 1)
10
لا بدافع الانتقام (الأحبار، 19: 17-18)،
11
بل رغبة في الدفاع عن العدالة وعن قانون الوطن، وحتى لا يجني الأشرار ثمارا من شرهم، ويتفق هذا كله اتفاقا تاما مع العقل الطبيعي بدوره. وأستطيع أن أذكر أمثلة عديدة من هذا النوع، ولكني أرى أن ما أعطيته كاف لعرض فكرتي ولبيان فائدتها، وهو ما أهدف إليه الآن. على أننا كنا حتى الآن نبين كيف يمكن دراسة نصوص الكتاب التي تتعلق بتدبير شئون الحياة، والتي تسهل دراستها لهذا السبب ، لأنه لا يوجد في الواقع أي خلاف في هذا الموضوع بين من دونوا الكتب المقدسة. أما ما تبقى من محتوى الكتاب، الذي يدخل في ميدان التأمل النظري وحده، فإن الوصول إليه أمر صعب، والطريق إليه أضيق؛ إذ إنه لما كان الأنبياء لم يتفقوا فيما بينهم على الموضوعات النظرية، وكانت رواياتهم مهيأة بحيث تتلاءم، إلى أقصى حد، مع الأحكام المسبقة لكل عصر، فإنه لا يحق لنا على الإطلاق أن نستنتج قول نبي من نصوص أوضح قال بها نبي آخر، إلا إذا ثبت بوضوح تام أن نظرة كلا النبيين إلى الأمور كانت واحدة.
وسأعرض الآن باختصار كيف يمكن في مثل هذه الحالات معرفة أفكار الأنبياء من التاريخ النقدي للكتاب.
12
وعلينا أن نبدأ في هذه الحالة بدورها بأكثر المبادئ شمولا وأن نتساءل أولا ما النبي؟ وما الوحي؟ وما مضمونه الأساسي؟ وما المعجزة؟ وهكذا بادئين بأكثر الأشياء شمولا، ثم نهبط منها إلى الأفكار الخاصة بكل نبي، ونصل بعد ذلك إلى معنى كل وحي أتى به نبي، وكل رواية وكل معجزة. ولقد بينا من قبل في المواضع المناسبة، وبأمثلة عديدة، الاحتياطات التي يجب علينا اتخاذها كي لا نخلط بين فكر الأنبياء والرواة من ناحية وبين فكر الروح القدس والحقيقة الأصلية من ناحية أخرى، فلا داعي إذن للإسهاب في ذلك الآن، إلا أننا يجب أن نلحظ فيما يتعلق بمعنى الوحي أن منهجا يعلمنا فقط كيف نبحث فيما رآه الأنبياء وسمعوه بالفعل، لا فيما أرادوا أن يعبروا عنه أو يمثلوه بالصور الحسية، فذلك ما نستطيع تخمينه، لا استنباطه عن يقين من معطيات الكتاب الأساسية.
13
هكذا عرضنا منهجا لتفسير الكتاب، وأثبتنا في الوقت نفسه أنه الطريق الوحيد، وأنه طريق يقيني لمعرفة معناه الحقيقي. وإني لأعترف بأن من تلقوا بأنفسهم عن الأنبياء حديثا أو شرحا حقيقيا - كذلك الذي ادعى الفريسيون أنهم تلقوه، أو من يكون لديهم «بابا» معصوم في تفسير الكتاب، كما يفخر الكاثوليك الروم - هؤلاء جميعا لديهم يقين أعظم، ولكن بما أننا لا نستطيع أن نستوثق من هذا الحديث أو من هذه السلطة البابوية، فلا يمكن أن نقيم عليهما شيئا. وقد أنكر الرعيل الأول من المسيحيين
14
هذه السلطة، كما رفضت أقدم الفرق اليهودية هذه السنة. وإذا نظرنا إلى عدد السنين التي نقل فيها الفريسيون من أحبارهم (فضلا عمن عداهم) وهو العدد الذي يرجع هذه السنة إلى موسى وجدنا خطأ في الحساب، كما سأبرهن في موضع آخر. ومن ثم يجب الشك في مثل هذه السنة إلى أقصى حد. غير أن هناك سنة لليهود يلزمنا منهجنا بافتراض أنها خالية من أي تزييف، تلك هي معاني الكلمات في اللغة العبرية؛ لأننا تلقينا هذه المعاني منهم، فعلى حين تبدو لنا السنة الأولى مشكوكا فيها، فإن معاني الكلمات لا يتطرق إليها أي شك؛ ذلك لأن أحدا لم يستطع أن يجني فائدة من تغيير معنى كلمة، على حين توجد في كثير من الأحيان مصلحة في تغيير معنى النص. والتغيير الأول ولا شك صعب للغاية، فمن يريد تغيير معنى كلمة في لغة ما عليه في الوقت نفسه أن يشرح جميع الكتاب الذين كتبوا بهذه اللغة والذين استعملوا هذه الكلمة بالمعنى المتوارث، وذلك طبقا لتفكير كل منهم ولتكوينه الذهني، أو عليه تزييفهم بحرص شديد. هذا فضلا عن أن اللغة تظل محفوظة لدى العامة ولدى العلماء، على حين أن العلماء فقط هم الذين يحفظون معنى النصوص والكتب. ومن ذلك نستطيع أن نتصور بسهولة أن العلماء كانوا يستطيعون أن يغيروا أو أن يحرفوا معنى النص في كتاب نادر بين أيديهم، لا أن يغيروا معنى الكلمات. وفضلا عن ذلك فإذا أراد شخص أن يغير معنى كلمة اعتاد على استعمالها فإنه لا يستطيع بسهولة مراعاة المعنى الجديد في أحاديثه وكتاباته التالية. لهذه الأسباب كلها فإننا مقتنعون تماما بأنه لم يخطر على بال إنسان تحريف اللغة، على حين أنه كان من الممكن في كثير من الأحيان تغيير فكر الكاتب بتحريف النص أو بإساءة تفسيره.
وإذن فما دام منهجنا (القائم على هذه القاعدة التي تنص على أن معرفة الكتاب تستمد من الكتاب نفسه) هو المنهج الوحيد والصحيح، فعلينا ألا نعلق أملا على إمكان الاهتداء بأية وسيلة أخرى إلى ما لا يستطيع أن يعطينا إياه حتى نحصل على معرفة شاملة بالكتاب. والآن فما الصعوبات التي تعترض هذا المنهج، أو ما الذي ينقصه حتى يستطيع أن يعطينا معرفة شاملة ويقينية؟ هذا ما سنجيب عنه الآن. أولا، هناك صعوبة كبيرة تنشأ من أن هذا المنهج يتطلب معرفة تامة باللغة العبرية، فأين لنا بهذه المعرفة؟ لم يترك علماء اللغة العبرية القدماء للخلف أي شيء بشأن الأسس والمبادئ التي تقوم عليها هذه اللغة، أو على أقل تقدير لا يوجد لدينا أي شيء تركوه لنا: فلا يوجد قاموس أو كتاب في النحو أو في الخطابة. لقد فقدت الأمة العبرية كل ما يشرف الأمة ويزينها (ولا عجب في ذلك بعد كل ما عانت من المحن والاضطهاد) إلا فتات من لغتها وأدبها. لقد ضاعت تقريبا جميع أسماء الفاكهة والطيور والأسماء وأسماء أخرى كثيرة على مر الزمان، كما أن معاني كثيرة من الأسماء والأفعال التي نصادفها في التوراة، إما مفقودة أو على الأقل مختلف عليها. فنحن إذن نفتقر إلى هذه المعاني، كما نفتقر، بدرجة أشد، إلى معرفة التراكيب الخاصة في هذه اللغة، فقد محا الزمان، الذي يلتهم كل شيء، كل العبارات والأساليب الخاصة التي استعملها العبرانيون تقريبا من ذاكرة الناس، فلن نستطيع إذن أن نبحث لكل نص، كما نود، عن جميع المعاني المقبولة وفقا للاستعمال الجاري في هذه اللغة، وسنجد نصوصا كثيرة تتضمن كلمات معروفة تماما ولكن معناها غامض للغاية، لا يمكن إدراكه على الإطلاق، وفضلا عن أننا لا نستطيع أن نحصل على معرفة تامة بالعبرية، فهناك تكوين هذه اللغة نفسه وطبيعتها؛ إذ يوجد فيها من المتشابهات الكثيرة ما يستحيل معه العثور على منهج
15 ⋆
يسمح لنا بأن نحدد عن يقين معاني جميع نصوص الكتاب. وبالإضافة إلى أسباب وجود المتشابهات التي تشترك فيها جميع اللغات، هناك أسباب خاصة باللغة العبرية ينشأ عنها كثير جدا من المتشابهات، وأعتقد من الأجدى ذكرها هنا.
أولا ، في كثير من الأحيان ينشأ اشتباه النص وغموضه في التوراة عن استبدال الحروف التي ينطق بها العضو نفسه بعضها بالبعض الآخر، إذ يقسم العبرانيون جميع حروف الأبجدية إلى خمس مجموعات طبقا لأعضاء الفم الخمسة التي تستخدم في نطقها: الشفتين واللسان والأسنان والحلق والحنجرة. فمثلا تسمى الألف والجيم والعين والهاء حروفا حلقية، ويستعمل أحدها بدلا عن الآخر دون أي فارق بينهما، فيما نعلم على الأقل، وعلى هذا النحو تستعمل «ال» التي تعني «إلى» بدلا من «عل» التي تعني على والعكس صحيح. وبذلك يحدث في كثير من الأحيان أن تصبح جميع أجزاء النص متشابهة أو تكون أصواتا بلا معنى.
والسبب الثاني للتشابه هو تعدد المعاني لحروف العطف والظروف، فمثلا تستعمل الواو على السواء للربط والتمييز فتعني «و»: لكن، لأن، مع ذلك، حينئذ. وكذلك تفيد كلمة «كي» سبعة أو ثمانية معان: لأن، مع أن، إذا، عندما، مثلما، أن، احتراق ... إلخ. وكذلك الحال في جميع الأدوات تقريبا.
وهناك سبب ثالث، ينتج عنه كثير من المتشابهات، هو أن الأفعال ليس لها من الصيغة الإخبارية مضارع أو ماض مستمر أو ماض أتم أو مستقبل ماض سابق، وأزمنة أخرى تستعمل بكثرة في اللغات الأخرى، ولا توجد أية أزمنة في الصيغتين الإخبارية والمصدرية سوى الزمن الحاضر، أما في الصيغة الإنشائية فلا توجد أية أزمنة. والحقيقة أن هناك قواعد مستنبطة من مبادئ هذه اللغة تسمح بتعويض هذه الأزمنة والصيغ الناقصة بسهولة، وعلى مستوى رفيع من البلاغة، مع ذلك فإن أقدم الكتاب أهملوها إهمالا تاما، واستعملوا الزمن المستقبل للدلالة على الحاضر وعلى الماضي بلا تمييز، كما استعملوا الماضي للدلالة على المستقبل، والصيغة الإخبارية للدلالة على الصيغة الإنشائية وعلى صيغة الأمر، فنتج عن ذلك كثير من المتشابهات.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب الثلاثة للاشتباه، نذكر أيضا سببين آخرين أكثر خطورة بكثير، الأول هو أن العبرانيين ليست لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة، والثاني أنهم لم يتعودوا أن يقسموا كلامهم المكتوب أو أن يبرزوا المعنى بصورة أقوى، أي تأكيده بعلامات. ولا شك أنه كان يمكن التغلب على هذين النقصين بإضافة النقط والحركات،
16
ولكننا لا نستطيع الوثوق بهاتين الوسيلتين؛ لأن الذين وضعوها واستعملوها علماء لغويون في عصر متأخر، لا تساوي سلطتهم شيئا. أما القدماء فقد كتبوا دون نقاط (أي دون حروف علة ودون حركات) كما تدل على ذلك شهادات كثيرة، فقد أضيفت النقاط في عصر متأخر عندما اعتقد الناس بوجوب تفسير التوراة، فالنقاط التي لدينا الآن، وكذلك الحركات، إنما هي تفسيرات حديثة لا يحق لنا التصديق بها ولا تفوق في سلطتها الشروح الأخرى. ومن يجهلون هذه الخاصية لا يعرفون لماذا يجب أن نغفر لمؤلف «الرسالة إلى العبرانيين» تفسيره في الإصحاح 11، الآية 21 نصا من سفر الخروج (47: 31) تفسيرا مخالفا للنص المنقوط، وكأنه كان مفروضا على الحواري أن يعرف معنى الكتاب ممن نقطوه! وأنا من جانبي أرى أن الذين أخطئوا هم هؤلاء المتأخرون. وحتى يستطيع كل فرد أن يتحقق من صدق ذلك وأن يرى في الوقت ذاته أن هذا الاختلاف يرجع فقط إلى غياب الحروف المتحركة، أذكر هنا التفسيرين معا، فنحن نقرأ النص المنقوط هكذا: «وسجدت إسرائيل على.» أو (وعندما نغير الحرف عين إلى ألف وهو من المجموعة نفسها) «إلى رأس السرير.»
17
وفي مقابل ذلك يقرأ مؤلف الرسالة: «وسجدت إسرائيل رأس العصا.» بعد أن استبدل بكلمة «ميتا» كلمة «ماتي» التي لا تختلف عن الكلمة الأولى إلا في حروف العلة. ولما كانت الرواية تتحدث في هذا الموضع عن شيخوخة يعقوب لا عن مرضه كما هو الحال في الإصحاح التالي، فالأرجح أن المؤرخ أراد أن يقول: انحنى يعقوب على «رأس عصاه» (إذ يحتاج المسنون حقيقة بعد أن يتقدم بهم العمر إلى عصا يتكئون عليها) لا على السرير، فضلا عن أن هذه القراءة لا تتطلب ضرورة استبدال الحروف. هذا المثل لم أرد به أن أثبت اتفاق نص الرسالة إلى العبرانيين مع نص سفر التكوين فقط، بل أردت أيضا، وعلى وجه الخصوص، أن أبين مقدار ضعف الثقة التي يمكن أن نوليها للنقاط والحركات الحديثة، فمن يرد تفسير الكتاب دون أحكام مسبقة عليه إذن أن يشك في النص الذي أكمل على هذا النحو وأن يعيد فحصه من جديد.
ولنعد إلى موضوعنا، قائلين: إنه لما كان هذا هو تركيب اللغة العبرية وطبيعتها يمكننا أن نفهم بسهولة كيف أن المرء يصادف من هذه النصوص المتشابهة عددا يبلغ من الكثرة حدا لا يوجد معه نهج واحد يسمح بتحديد المعنى الحقيقي لها جميعا، ولا يمكننا أن نأمل الوصول إلى ذلك التحديد في جميع الحالات عن طريق مقابلة النصوص بعضها على البعض الآخر (وقد بينا أن هذا هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعنى الحقيقي لنص واحد يفيد معاني كثيرة طبقا للاستعمال اللغوي)، فمن ناحية لا تستطيع مقابلة النصوص أن تلقي الضوء على نص إلا مصادفة؛ نظرا إلى أن أي نبي لم يكتب صراحة ليوضح كلمات نبي آخر أو كلماته هو، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نستنبط فكر نبي أو حواري من فكر نبي أو حواري آخر إلا فيما يتعلق بتدبير أمور الحياة، كما أوضحنا من قبل بجلاء، لا في حديثهم عن الأمور النظرية، أي ما يتعلق بالمعجزات أو القصص. وأستطيع أن أبرهن أيضا ببعض الأمثلة على وجود كثير من النصوص في الكتاب المقدس لا يمكن شرحها، ولكني أفضل ألا أتوقف عند هذا الموضوع الآن وأنتقل إلى الملاحظات الأخرى التي أود أن أبديها على صعوبة المنهج الصحيح لتفسير الكتاب والعيوب التي لا يستطيع هذا المنهج أن يعالجها.
هناك صعوبة أخرى في هذا المنهج تأتي من أنه يتطلب المعرفة التاريخية للظروف الخاصة لكل أسفار الكتاب، وهي معرفة لا تتوافر لدينا في معظم الأحيان. والواقع أننا نجهل تماما مؤلفي كثير من هذه الأسفار، أو نجهل الأشخاص الذين كتبوها (إذا كنا نفضل هذا التعبير) أو نشك فيهم كما سأبين بالتفصيل فيما بعد. ومن ناحية أخرى، لا ندري في أية مناسبة وفي أي زمان كتبت هذه الأسفار التي نجهل مؤلفيها الحقيقيين، ولا نعلم في أيدي من وقعت وممن جاءت المخطوطات الأصلية التي وجد لها عدد من النسخ المتباينة. ولا نعلم أخيرا إن كانت هناك نسخ
18
كثيرة أخرى في مخطوطات من مصدر آخر، وقد بينت بإيجاز في موضع آخر أهمية هذه الظروف جميعها، ولكني قصدت ألا أتحدث عن بعض المسائل التي سأضيفها هنا. إننا عندما نقرأ كتابا يتضمن أمورا لا يمكن تصديقها ولا يمكن إدراكها، أو عندما نقرأ كتابا بألفاظ غاية في الغموض، فمن العبث أن نبحث عن معناه دون أن نعرف مؤلفه وزمن الكتابة ومناسبتها، ولا نستطيع مطلقا أن نعرف ما قصده المؤلف أو ما كان يمكن أن يقصده دون أن نعرف هذه الظروف كلها. وعلى العكس إذا عرفنا كل هذا بدقة، فإننا ننظم أفكارنا بحيث نتحرر من جميع الأحكام المسبقة، أي لا نعطي المؤلف أو من ألف الكتاب من أجله أكثر مما يستحق أو أقل، ولا نتصور أهدافا سوى تلك التي كان من الممكن أن يضعها المؤلف نصب عينيه. وأعتقد أن هذا واضح للجميع، ففي كثير من الأحيان نقرأ روايات متشابهة للغاية في كتب مختلفة، ومع ذلك يختلف حكمنا عليها تبعا لاختلاف آرائنا عن مؤلفيها. وإني لأذكر أني قرأت في كتاب ما أن رجلا يدعى رولان الغاضب
19
كان من عادته أن يمتطي تنينا ذا جناحين يطير في الهواء ويحلق في جميع المناطق كما يشاء، يفترس بمفرده عددا كبيرا من الناس والعمالقة. وحكايات خرافية أخرى من هذا النوع لا يستطيع الذهن تصورها على أي نحو، وقد قرأت في كتاب لأوفيد قصة مشابهة تماما عن برسيه،
20
وحكاية ثالثة في سفر القضاة وفي سفر الملوك عن شمشمون (الذي استطاع وحده دون سلاح قتل ألف رجل)
21
وعن إيليا الذي كان يطير في الهواء وانتهى به الأمر إلى الوصول إلى السماء بخيول، وعربة من نار.
22
أقول: إن هذه الحكايات متشابهة للغاية ومع ذلك تختلف أحكامنا على كل منها اختلافا كبيرا؛ فالمؤلف الأول لم يقصد أن يكتب إلا تفاهات خيالية، والمؤلف الثاني قصد غاية سياسية،
23
والثالث قصد أشياء مقدسة.
24
والسبب الوحيد الذي جعلنا نقتنع بذلك هو الرأي الذي كوناه عن المؤلفين. وهكذا أثبتنا أن معرفة المؤلفين الذين كتبوا أشياء غامضة أو غير معقولة ضرورية بوجه خاص لتفسير كتاباتهم. ولهذه الأسباب نفسها لا نستطيع اختيار الصيغة الصحيحة من بين الصيغ المختلفة لنص يتضمن حكايات غامضة إلا بقدر معرفتنا بمصدر المخطوطات الأصلية التي تتضمن هذه الصيغ، وإن لم تكن هناك صيغ أخرى في مخطوطات أخرى لمؤلفين يتمتعون بسلطة أعظم.
وهناك صعوبة أخيرة نجدها في تفسير أسفار الكتاب وفقا لهذا المنهج، وهي أننا لا نملك هذه الأسفار في لغتها الأصلية، أي في لغة كاتبها، فالرأي السائد هو أن إنجيل متى وكذلك الرسالة إلى العبرانيين قد كتبتا بالعبرية، ثم فقد النص العبري. وهناك تساؤل عن اللغة التي كتب بها سفر أيوب، فابن عزرا
25
يؤكد في شروحه أنه قد ترجم إلى العبرية من لغة أخرى، وأن هذا هو سبب غموضه. ولن أتحدث عن الكتب المنحولة، التي تعد سلطتها أقل بكثير، وهكذا عرضت جميع الصعوبات التي تنشأ عن هذا المنهج في تفسير الكتاب، بالفحص النقدي لمعطيات التاريخ المتعلقة به، وأنا أعد هذه الصعوبات من الخطورة بحيث لا أتردد في القول بأننا لا نعرف معاني نصوص كثيرة من الكتاب، أو أننا نجملها دون أي يقين، ولكني أود أن أكرر ما قلته، من أن ما يمكن أن تؤدي إليه هذه الصعوبات هو أن تمنعنا من فهم فكر الأنبياء فيما يتعلق بالأشياء غير القابلة للإدراك، والتي لا نستطيع إلا تخيلها. أما الأشياء التي نستطيع إدراكها بالذهن، والتي نستطيع بسهولة أن نكون عنها تصورا
26 ⋆
فأمرها مختلف؛ إذ إن الأشياء التي يسهل إدراكها بطبيعتها، لا يمكن أن يبلغ التعبير عنها من الغموض حدا لا يعود من السهل معه فهمها، وذلك طبقا للمثل القائل: «كلمة واحدة تكفي لمن يفهم.» فمن السهل شرح إقليدس لجميع الناس وبكل اللغات لأنه لم يكتب إلا أشياء يسيرة للغاية ومعقولة تماما، ولا يحتاج الإنسان مطلقا إلى معرفة تامة باللغة التي كتب بها حتى يدرك تفكيره ويتأكد من فهمه للمعنى الحقيقي، بل تكفي لذلك معرفة عادية جدا لا تتعدى معرفة الأطفال، كذلك لا يكون من المفيد معرفة حياة المؤلف والغاية التي كان يرمي إليها وعاداته، واللغة التي كتب بها، ومن كتب لهم، ومتى كتب، وظروف الكتاب، ومصيره، والصيغ المختلفة للنص، ومن هم الذين قرروا جمعه. وما يقال عن إقليدس يقال أيضا عن جميع من كتبوا في موضوعات قابلة لأن تدرك بطبيعتها. ننتهي من ذلك إذن إلى أننا نستطيع بسهولة تامة، بما يمكننا التوصل إليه من معرفة تاريخية بالكتاب، أن ندرك فكر الكتاب فيما يتعلق بالتعاليم الخلقية، وأننا في هذه الحالة نستطيع أن نعرف معناها عن يقين؛ إذ يتم التعبير عن التعاليم المتعلقة بالتقوى الحقة بأكثر الكلمات تداولا، لأنها شائعة للغاية بين الناس، ولأنها يسيرة جدا ويسهل فهمها. وفضلا عن ذلك، فلما كان الخلاص الحقيقي والسعادة الروحية يكمنان في طمأنينة النفس، وكنا لا نجد الطمأنينة الحقيقية إلا فيما نعلمه بوضوح تام، فمن الواضح أننا نستطيع أن ندرك عن يقين فكر الكتاب فيما يتعلق بالأمور الجوهرية للخلاص والضرورية للسعادة الروحية. وإذن فليس هناك ما يدعو إلى القلق على باقي الأمور، لأننا لما كنا في أغلب الأحيان نعجز عن إدراكها بالعقل والذهن، فيجب اعتبارها أمورا أدخل في باب الغرائب منها في باب الأشياء النافعة.
أعتقد أنني قد بينت على هذا النحو المنهج الصحيح لتفسير الكتاب، وشرحت بما فيه الكفاية طريقتي في معالجة هذا الموضوع، ولا شك عندي أن كل شخص يرى الآن أن هذا المنهج لا يتطلب نورا سوى النور الفطري؛ ذلك أن طبيعة هذا النور وصفته المميزة تنحصر في استنباطه الأشياء الغامضة واستخلاصه إياها بوصفها نتيجة مشروعة من الأشياء المعروفة أو الأشياء المعطاة على أنها معروفة، ولا يتطلب منهجنا أكثر من هذا. ولا شك أننا نسلم بأن هذا المنهج لا يكفي لتوضيح كل ما تتضمنه التوراة، ولكن ذلك لا يرجع إلى نقص في المنهج، بل يرجع إلى أن الطريق الذي يدعو إليه، هو الطريق القويم والصحيح الذي لم يتبعه الناس، ولم يسلكوه من قبل ، بحيث أصبح على مر الزمان وعرا يكاد يستحيل السير فيه. وأعتقد أني وضحت ذلك تماما بما ذكرته من صعوبات موجودة فيه.
لم يبق الآن إلا أن نفحص الآراء المخالفة لرأينا. هناك أولا رأي من يظنون أن النور الطبيعي لا يقدر على تفسير الكتاب، وأنه لا بد لذلك من وجود نور يفوق الطبيعة. أما ما هو هذا النور الذي يضاف إلى النور الطبيعي، فهذا ما ينبغي عليهم هم أنفسهم أن يوضحوه. وأنا من جانبي لا أستطيع إلا أن أفترض أنهم أرادوا برأيهم هذا أن يعترفوا، مستخدمين تعبيرات أكثر إيهاما، بعدم تأكدهم من المعنى الحقيقي لنصوص كثيرة من الكتاب؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى تفسيراتهم فلن نجد فيها على الإطلاق شيئا يفوق الطبيعة، بل سنجد مجرد تخمينات. ولو قارنا تفسيراتهم هذه بتفسيرات من يعترفون صراحة بأن ليس لديه إلا النور الطبيعي، لوجدناها متشابهة تماما؛ فكلا التفسيرين من ابتداع البشر، وكلاهما يرجع إلى جهد طويل في التفكير. أما ما يقولونه عن عدم كفاية النور الطبيعي، فمن المؤكد أنه باطل؛ فمن ناحية لا تأتي الصعوبة في تفسير الكتاب - كما بينا من قبل - من ضعف النور الفطري بل من تراخي (إن لم نقل خبث) من أهملوا الحصول على معرفة تاريخية ونقدية بالكتاب في الوقت الذي كانوا يستطيعون فيه ذلك، ومن ناحية أخرى، فإن هذا النور الذي يفوق الطبيعة (والكل يسلم بذلك إلا المخطئون) هبة يعطيها الله المؤمنين وحدهم، إلا أن الأنبياء والحواريين قد اعتادوا ألا يعظوا المؤمنين وحدهم بل وعظوا الكفار والفاسقين أيضا، فلا بد إذن أن هؤلاء الأخيرين كانوا أيضا قادرين على فهم فكر الأنبياء والحواريين، وإلا لظهر الأنبياء والحواريون كما لو كانوا يعظون الصبية والأطفال الصغار، لا الرجال العقلاء، ولكان من العبث وضع قوانين موسى، ما دام فهمها مستحيلا على المؤمنين وحدهم، الذين لا يحتاجون إلى أي قانون. وإذن، ففي اعتقادي أن النور الطبيعي ينقص هؤلاء الذين يبحثون عن النور الذي يفوق الطبيعة من أجل فهم أفكار الأنبياء والحواريين، وهم أبعد ما يكونون - فيما أعتقد - عن الحصول على هبة إلهية تفوق الطبيعة.
وكان لابن ميمون
27
رأي آخر مخالف كل الاختلاف. كان يعتقد أن لكل نص من الكتاب معاني كثيرة بل ومعاني متعارضة، وأننا لا نستطيع أن نعرف المعنى الحقيقي لأي نص إلا بقدر ما نعرف أنه - كما نفسره نحن - لا يحتوي على شيء يعارض العقل ويناقضه.
28
فإذا فسر النص تفسيرا حرفيا وكان مناقضا للعقل وجب تفسير النص تفسيرا آخر مهما كان واضحا. وهذا ما يعبر عنه بوضوح تام في الفصل 25، الجزء الثاني من كتابه موريح نبوخيم بقوله:
اعلم أننا لا نرفض التسليم بقدم العالم بسبب النصوص التي نجدها في الكتاب عن خلق العالم؛ لأن النصوص التي تشير إلى خلق العالم ليست أكثر من تلك التي تشير إلى أن الله جسم. وليس هناك ما يمنعنا من تأويل النصوص التي تفيد الخلق، وما كنا نتورع عن تأويلها كما فعلنا من قبل مع بعض النصوص عندما رفضنا أن يكون لله جسم، بل ربما كان التفسير (في الحالة الأولى) أسهل وأقل عناء، وكان تسليمنا بقدم العالم أيسر من رفضنا جسمية الله الذي نعبده في شرحنا للكتاب، ومع ذلك لم أشأ أن أقوم بهذا التفسير ورفضت هذه العقيدة (قدم العالم) لسببين: (1)
يمكن البرهنة بوضوح على أن الله ليس جسما، وبالتالي يتحتم تفسير كل النصوص التي يناقض معناها الحرفي هذا البرهان؛ إذ يوجد حتما لمثل هذه الحالة تفسير آخر (غير التفسير الحرفي) وعلى العكس لا يوجد أي برهان على قدم العالم، وبالتالي لا يتحتم التعسف في تأويل الكتاب حتى يكون متفقا مع مجرد رأي ظاهري، أعني رأيا يكون لدينا من الأسباب ما يجعلنا على الأقل نفضل عليه رأيا مضادا. (2)
الاعتقاد بأن الله ليس جسما لا يعارض المعتقدات التي تقوم عليها الشريعة ... إلخ، في حين أن الاعتقاد بقدم العالم، كما هو الحال عند أرسطو، يقضي على أساس الشريعة.
تلك هي أقوال ابن ميمون التي يظهر فيها بوضوح ما قلناه؛ فلو قام لديه البرهان عقلا على قدم العالم لما تردد في تأويل الكتاب تعسفا وتفسيره بحيث تبدو هذه العقيدة وكأنها صادرة منه. إنه ليكون عندئذ على يقين قاطع من أن الكتاب أراد أن يبشر بقدم العالم، مهما عارض الكتاب في ذلك. وإذن فهو لا يمكن أن يستيقن من المعنى الحقيقي للكتاب، مهما كان واضحا، ما دام يشك في حقيقة ما يقوله الكتاب، وما دامت هذه الحقيقة لم تثبت في نظره بالبرهان. وطالما لم يقم البرهان على هذه الحقيقة، فلن نعلم إن كان الكتاب متفقا مع العقل أم مناقضا له، وبالتالي لن نعلم إن كان المعنى الحرفي صحيحا أم باطلا. فإذا كانت هذه الطريقة في التفسير صحيحة، فإني أسلم كلية بأننا في حاجة في تفسيرنا للكتاب إلى نور آخر غير النور الطبيعي، لأنه يستحيل استنباط كل ما يحتويه الكتاب تقريبا من مبادئ معروفة بالنور الفطري (كما بينا ذلك من قبل)، فالنور الطبيعي عاجز إذن عن البرهنة على أي شيء يتعلق بحقيقة الجزء الأكبر من هذا المحتوى، وبالتالي يعجز عن البرهنة على المعنى الصحيح للكتاب وعلى ما فيه من أفكار، وسنحتاج عندئذ في ذلك إلى نور آخر. وفضلا عن ذلك، فلو كانت طريقة ابن ميمون صحيحة، لكان على العامة، الذين هم في أغلب الأحيان جاهلون بالبراهين أو عاجزون عن الاضطلاع بها، ألا يسلموا بشيء يتعلق بالكتاب إلا معتمدين على سلطة المتفلسفين أو على شهادتهم، ولكن عليهم بالتالي أن يفترضوا أن الفلاسفة معصومون من الخطأ في تفسيرهم الكتاب، وهذا يعني افتراض وجود سلطة كنسية أخرى، كهنوت جديد، ونوع من البابوية، وهو أمر يثير سخرية العامة أكثر مما يبعث في نفوسهم الاحترام. صحيح أن منهجنا في التفسير يتطلب معرفة بالعبرية، التي لا تستطيع العامة أن تتعلمها، ولكن لا يحق توجيه هذا الاعتراض إلينا؛ لأن عامة اليهود وغير اليهود وهم الذين وجه إليهم الأنبياء والحواريون مواعظهم وكتبوا لهم كانوا يفهمون لغة الأنبياء والحواريين، وكانوا يدركون بها فكر الأنبياء، على حين أنهم كانوا يجهلون البراهين على حقيقة التعاليم التي دعوا إليها، وهي البراهين التي يرى ابن ميمون أنه كان عليهم معرفتها حتى يفهموا فكر الأنبياء. وإذن فمنهجنا لا يشترط أن يعتمد العامة ضرورة على شهادة المفسرين، لأنني أتحدث عن عامة كانوا يعرفون لغة الأنبياء والحواريين، على حين أن ابن ميمون لا يعترف بوجود أي عامي يعرف علل الأشياء ويستطيع أن يدرك بها فكر الأنبياء. أما فيما يتعلق بالعامة في عصرنا هذا فقد بينا من قبل أنه يمكنهم بسهولة إدراك جميع الحقائق الضرورية للخلاص بأية لغة، وإن كانوا يجهلون البراهين التي تقوم عليها، ما دامت هذه الحقائق شائعة يسهل التعبير عنها باللغة المتداولة، وعلى هذا الإدراك،
29
لا على شهادة المفسرين، يعتمد العامة. أما فيما سوى ذلك، فإن حظ العامة لا يختلف عن حظ العلماء في شيء. وعلى أية حال، فلنرجع إلى وجهة نظر ابن ميمون ولنتمعن في فحصها. إنه يفترض أولا أن الأنبياء متفقون فيما بينهم على جميع الموضوعات، وأنهم كانوا جميعا فلاسفة كبارا ولاهوتيين عظاما، ويعطيهم قدرة الاستنتاج لأنهم عرفوا الحقيقة. وقد بينا خطأ ذلك في الفصل الثاني، ويفترض ابن ميمون ثانيا أنه لا يمكن البرهنة على معنى الكتاب بالكتاب نفسه، لأن حقيقة الأشياء التي يدعو إليها لا يمكن البرهنة عليها بالكتاب ذاته (لأن الكتاب لا يبرهن على شيء ولا يعرفنا بالموضوعات التي يتحدث عنها عن طريق الحدود والعلل الأولى) وإذن ففي رأي ابن ميمون أن المعنى الحقيقي للكتاب هو بدوره شيء لا يمكن البرهنة عليه أو استخلاصه منه. ويتضح خطأ هذا الاستنتاج من هذا الفصل؛ لأننا بينا بالاستدلال وبالأمثلة أنه لا يمكن التحقق من معنى الكتاب إلا بالكتاب وحده، ولا يمكن استخلاصه إلا منه وحده، حتى ولو تحدث الكتاب عن أشياء معروفة بالنور الطبيعي. وأخيرا، يفترض ابن ميمون أنه يحق لنا تفسير الكتاب وتأويله بطريقة متعسفة طبقا لآرائنا المسبقة، ورفض المعنى الحرفي عمدا واستبدال معاني أخرى به، حتى ولو كان هذا المعنى الحرفي هو أوضح المعاني أو أقربها إلى الذهن. ومثل هذه الرخصة تبدو أمام الجميع متطرفة متهورة فضلا عن معارضتها التامة لما برهنا عليه في هذا الفصل وفي الفصول السابقة. ولكن لنسلم له بهذه الحرية العظمى، فماذا هو فاعل بها؟ إنه لن يفعل شيئا. فنحن لا نستطيع أن نعرف بالعقل ما لا يمكن البرهنة عليه، وهو النور الأعظم من الكتاب، كما لا نستطيع شرحه وتفسيره طبقا لقاعدة ابن ميمون. وعلى العكس من ذلك، نستطيع في معظم الأحيان شرحه بمنهجنا وتوضيحه ونحن مطمئنون، كما بينا بالاستدلال وبالمثل. أما فيما يتعلق بما يمكن إدراكه بطبيعته دون عناء، فإن من اليسير الوصول إلى معناه بالاستعانة بالسياق وحده، كما بينا من قبل. فمنهج ابن ميمون إذن لا فائدة منه على الإطلاق، فضلا عن أنه يقضي تماما على الثقة في فهم المعنى الحقيقي للكتاب، وهو ما يستطيع العامة الوصول إليه بمنهج آخر في التفسير، فنحن إذن نرفض طريقة ابن ميمون بوصفها طريقة فاسدة ممتنعة لا فائدة فيها.
والآن فيما يتعلق بالسنن المتداولة بين الفريسيين، فقد ذكرنا من قبل أنها غير متفقة مع نفسها. أما سلطة حبر الرومان فتحتاج إلى شهادة أكثر قوة، ولهذا السبب وحده أرفضها.
30
والحق أنه لو استطاع أحد أن يبرهن لنا بالكتاب نفسه على أن سلطة حبر الرومان
31
قائمة على أساس يبلغ من اليقين ما بلغته سلطة أحبار اليهود في الماضي، لما تزعزع اعتقادي مع ذلك، بسبب خسة بعض البابوات الكفرة الفاسقين. كذلك كان هناك، من بين أحبار العبرانيين، كفرة فاسقون وصلوا إلى منصب الحبروية بوسائل إجرامية، وكان لهم مع ذلك، طبقا لوصايا الكتاب، سلطة مطلقة في تفسير الشريعة (انظر: التثنية، 17: 11-12، 33: 10، ملاخي، 2: 8).
32
ولكن لما لم تكن هناك أية شهادة من هذا النوع، فإن الشك يظل قائما في سلطة الحبر الروماني. وحتى لا ينخدع الناس بمثل حبر العبرانيين، ولا يعتقدون أن الديانة الكاثوليكية، تحتاج أيضا إلى حبر، يجب أن نذكر أن شرائح موسى التي كانت تكون القانون العام للأمة، كانت في حاجة ضرورية إلى سلطة عامة للمحافظة عليها؛ إذ لو كان لكل فرد حرية تفسير الشرائع كما يشاء، لما بقيت الدولة، ولتفككت، ولأصبح القانون العام قانونا فرديا خاصا . أما في حالة الدين فالأمر مختلف كل الاختلاف، لأن قوام الدين ليس الأفعال الخارجية بل يسر النفس وصدقها وحسن طويتها، ومن ثم فهو لا يخضع لأي قانون أو لأية سلطة عامة. ولا يمكن إجبار إنسان، أيا كان، بالقوة أو بالقوانين على الحصول على السعادة الروحية، بل إن ما يلزم لذلك هو النصائح التقية الأخوية، وكذلك التربية الصحيحة، وقبل ذلك كله الحكم الحر السليم. وإذن فلما كان لكل فرد حق مطلق في حرية التفكير، حتى في المسائل الدينية، ولما كان من المستحيل تصور انتزاع هذا الحق من أي إنسان، فإن لكل فرد إذن الحق المطلق والسلطة المطلقة في الحكم على الدين، وبالتالي في شرحه وتفسيره لنفسه. والواقع أن السبب الوحيد الذي من أجله أصبح للقضاة السلطة العليا في تفسير القوانين المتعلقة بالنظام العام، هو أن الأمر هنا متعلق بالنظام العام؛ ولهذا السبب نفسه يكون لكل فرد السلطة المطلقة في شرح الدين والحكم عليه، لأن ذلك يدخل في نطاق القانون (الحق) الخاص. وعلى ذلك، فإن كان حبر العبرانيين قد اكتسب سلطة تفسير قوانين الدولة،
33
فلا ينبغي على الإطلاق أن نستنتج من ذلك أن الحبر (البابا) الروماني لديه سلطة تفسير الدين، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ ينتج بسهولة من سلطة حبر العبرانيين هذه أن لكل فرد مطلق الحرية في أمور الدين. وكذلك يمكننا أن نستخلص مما سبق أن منهجنا في تفسير الكتاب هو الأفضل؛ ذلك لأنه لما كانت السلطة العليا في تفسير الكتاب ترجع إلى كل فرد، فلا ينبغي أن تكون هناك أية قاعدة أخرى للتفسير سوى النور الطبيعي المشترك بين جميع الناس، فلا يوجد نور يفوق الطبيعة ولا توجد سلطة خارجية، فمن الواجب إذن ألا يكون هذا المنهج من الصعوبة بحيث لا يمكن أن يتبعه إلا الفلاسفة ذوو البصيرة النافذة، بل يجب أن يكون في متناول الذهن العادي المشترك بين جميع الناس، ومتناسبا مع قدرتهم وقد بينا أن منهجنا كذلك، وقد تبين لنا بالفعل أن الصعوبات التي نجدها فيه ترجع إلى إهمال الناس لا إلى طبيعة هذا المنهج.
الفصل الثامن
البرهنة على أن الأسفار الخمسة ... ليست صحيحة
وفيه تتم البرهنة على أن الأسفار الخمسة وأسفار يشوع والقضاة وراعوث وصموئيل والملوك ليست صحيحة، ثم نبحث إن كان لهذه الأسفار مؤلفون كثيرون أم واحد. ***
تناولنا في الفصل السابق الأسس والمبادئ التي تقوم عليها معرفة الكتب المقدسة، وبينا أنها ليست إلا المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب المقدس، ولكن القدماء أهملوا هذه المعرفة بالرغم من ضرورتها. وبالرغم من أنهم دونوها ونقلوها فقد فقدت بعد أن أصابتها عوادي الزمان، وبالتالي ضاع منا كلية جزء كبير من هذه الأسس والمبادئ. ولقد كان بالإمكان تحمل ذلك لو ظل الخلف، فيما بعد، ملتزما حد الاعتدال، ونقل بأمانة إلى المتأخرين القليل الذي وجده دون أن يدخل عليه بدعوى اختلقها هو، فقد كانت خيانته سببا في أن أصبحت المعلومات التاريخية عن الكتاب ناقصة بل وكاذبة، أي إن الأسس التي تقوم عليها معرفة الكتاب ليست غير كافية فقط من حيث الكم، بحيث لا نستطيع أن نقيم عليها شيئا كاملا، بل إنها أيضا معيبة من حيث الكيف. لذلك، فقد استقر عزمي على أن أصححها وأن أخلص اللاهوت من الأحكام المسبقة الشائعة فيه، ولكني أخشى أن تكون محاولتي قد أتت بعد فوات الأوان؛ فقد وصلت الأمور إلى حد لم يعد الناس معه يطيقون أن يصحح أحد آراءهم المتعلقة بالدين، وأصبحوا يدافعون بعناد عن الأحكام المسبقة المتميزة التي يتمسكون بها باسم الدين، ولم يعد للعقل أي مكان إلا عند عدد قليل (نسبيا)، على حين أن الأحكام المسبقة قد انتشرت انتشارا واسعا، ومع ذلك سأحاول وسأستمر في محاولتي إلى النهاية؛ إذ ليس هناك ما يدعو إلى اليأس الكامل.
ولكي أسير في بحثي بطريقة منظمة سأبدأ بالأحكام المسبقة المتعلقة بمن قاموا بتدوين الكتب المقدسة، وسأبدأ أولا بمن قاموا بتدوين الأسفار الخمسة. لقد ظن الجميع تقريبا أنه موسى، بل إن الفريسيين أيدوا هذا الرأي بإصرار شديد، حتى أنهم عدوا من يظن خلاف ذلك من المارقين. ولهذا السبب، فإن ابن عزرا - وهو رجل كان فكره حرا إلى حد ما، ولم يكن علمه يستهان به، وهو أول من تنبه إلى هذا الخطأ فيما أعلم - لم يجرؤ على الإفصاح عن رأيه صراحة، واكتفى بالإشارة إليه بألفاظ مبهمة. أما أنا فلن أخشى توضيحها وإظهار الحق ناصعا. هذه هي أقوال ابن عزرا في شرحه على «التثنية»: «فيما وراء نهر الأردن ... إلخ. لو كنت تعرف سر الاثنتي عشرة ... كتب موسى شريعته أيضا ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل الله ... ها هو ذا سريره، سرير من حديد، حينئذ تعرف الحقيقة.» بهذه الكلمات القليلة يبين، ويثبت في الوقت ذاته، أن موسى ليس هو مؤلف الأسفار الخمسة بل إن مؤلفها شخص آخر عاش بعده بزمن طويل، وأن موسى كتب سفرا مختلفا. وللبرهنة على ذلك يذكر: (1)
أن موسى لم يكتب مقدمة التثنية؛ لأنه لم يعبر نهر الأردن. (2)
نقش سفر موسى كله بوضوح تام على حافة مذبح واحد (انظر التثنية، 27؛ يشوع، 8: 32)
1
يتكون من اثنتي عشرة حجرة حسب عدد الأحبار، وينتج عن ذلك أن سفر موسى كان في حجمه أقل بكثير من الأسفار الخمسة، وهذا ما قصد إليه المؤلف بقوله «سر الاثنتي عشرة» ما لم يكن قصد اللعنات الاثنتي عشرة في الإصحاح المذكور من قبل في التثنية، والتي ربما ظن أنها لم توضع في سفر الشريعة؛ فبعد أن دون موسى الشريعة أمر اللاويين أن يتلوا هذه اللعنات كي يجبر الشعب بحلف اليمين على تطبيق الشريعة. وربما كان يقصد الإصحاح الأخير في التثنية، الخاص بموت موسى، والذي يتكون من اثنتي عشرة آية. ولا فائدة هنا من التمعن في فحص هذه الافتراضات وكذلك الافتراضات التي كونها الآخرون. (3)
كذلك يذكر أنه قد ورد في التثنية (31: 9): «وقد كتب موسى هذه التوراة.» ويستحيل أن يكون موسى قد قال ذلك، بل لا بد أن يكون قائلها كاتبا آخر يروي أقوال موسى وأعماله. (4)
يذكر هذا النص من التكوين (12: 1) وفيه يقص الراوي رحلة إبراهيم في بلاد الكنعانيين ويضيف «والكنعانيون (والكنعاني) حينئذ في الأرض.» وهذا يدل بوضوح على أن الأمر لم يعد كذلك عندما كان يكتب. فلا بد أن هذه الكلمات قد كتبت بعد موت موسى، وبعد أن طرد الكنعانيون ولم يعودوا يشغلون هذه المناطق. ويشير ابن عزرا إلى هذا المعنى بوضوح في شرحه لهذا النص نفسه فيقول: «وكان الكنعاني حينئذ في هذه الأرض، قد يعني هذا أن كنعان، حفيد نوح، استولى على هذه الأرض التي كان يحتلها من قبل شخص آخر، فإن لم يكن الأمر كذلك، فهناك سر على من يعرفه ألا يبوح به.» أي أنه إذا كان كنعان قد استولى على هذه البقعة من الأرض، ويكون الراوي قد أراد أن يبين أن الوضع لم يكن كذلك من قبل عندما كانت أمة أخرى تقطنها. أما لو كان كنعان أول من فلح هذه البقاع (كما يتضح من الإصحاح 10 من التكوين)
2
لكان قصد الراوي أن الوضع لم يعد كذلك وقتما كان يكتب، وإذن فالراوي لم يكن موسى لأن الكنعانيين في زمان موسى كانوا لا يزالون يملكون هذه الأرض، وهذا هو السر الذي يوحي ابن عزرا بكتمانه. (5)
يذكر أنه جاء في التكوين (22: 14)
3
أن جبل موريا
4 ⋆
سمي جبل الله، ولم يحمل هذا الاسم إلا بعد الشروع في بناء المعبد، وهذا الاختيار متأخر عن موسى في الزمان. والواقع أن موسى لا يشير إلى أي مكان اختاره الله، بل إنه تنبأ بأن الله سيختار بعد ذلك مكانا سيطلق عليه اسم الله. (6)
وأخيرا، يذكر أن التثنية (الإصحاح 3) تدخل بعض الكلمات في الرواية الخاصة بعوج ملك باشان: «ولقد بقي عوج ملك باشان وحده من بين العمالقة
5 ⋆
الآخرين وها هو سريره، سرير من حديد، هذا السرير الذي طوله تسعة أذرع الموجود في الرباط عند أطفال آمون ... إلخ.»
هذه الإضافة تدل بوضوح تام على أن من كتب هذه الأسفار عاش بعد موسى بمدة طويلة، فطريقته في الحديث عن الأشياء طريقة مؤلف يروي قصصا قديمة جدا، ويذكر بعض الآثار التي ما زالت باقية من هذا الزمن البعيد، ليجعل كلامه موثوقا به. وفضلا عن ذلك، فلا شك أنه لم يعثر على هذا السرير الحديدي إلا في عصر داود الذي استولى على الرباط كما يروي صموئيل (الثاني، 12: 30)
6
وليست هذه هي الإضافة الوحيدة، إذ يضيف الراوي
7
بعد ذلك بقليل إلى كلمات موسى هذا الشرح: «وقد مد يائير بن منسي حكمه على عرجوب حتى حدود الحسوريين والمهاتيين وأطلق اسمه على هذه المناطق كما أطلق عليها اسم باشان. وهناك قرى حتى الآن باسم يائير.» أقول إن المؤرخ أضاف هذه الكلمات ليشرح بها كلمات موسى التي أوردها قبل ذلك بقليل. «وقد أعطيت ما بقي من جلعاد وكل مملكة باشان التي كان يملكها عوج إلى نصف قبيلة منسي، وسيمتد حكم عرجوب على باشان كلها التي تسمى بأرض العمالقة.» ولا شك أن العبرانيين المعاصرين لهذا الكاتب كانوا يعرفون بلاد يائير التي تنتمي إلى قبيلة يهوذا، ولكنهم لم يعلموا أنها تحت حكم عرجوب وأنها أرض العمالقة؛ لذلك اضطر إلى أن يشرح ما هي هذه البلاد التي كان يطلق عليها قديما هذا الاسم، وأن يخبرنا في الوقت نفسه لم سماها سكانها في هذا الوقت باسم يائير، مع أنهم ينتمون إلى قبيلة يهوذا لا إلى قبيلة منسي (انظر: الأخبار الأول، 2: 21-22)،
8
وهكذا شرحنا فكر ابن عزرا وكذلك نصوص الأسفار الخمسة التي ذكرها، لكي يثبت فكره هذا. ولكن يبدو أنه قد فاته أن يذكر أهم الأمور، إذ يمكن إبداء ملاحظات أخرى متعددة أكثر خطورة على هذه الأسفار. فمثلا: (1)
لا يتحدث الكتاب عن موسى بضمير الغائب فحسب وإنما يعطي عنه شهادات عديدة مثل: «تحدث الله مع موسى، كان الله مع موسى وجها لوجه، وكان موسى رجلا حليما جدا أكثر من جميع الناس (العدد، 125: 3). فسخط موسى على وكلاء الجيش (العدد، 31: 14). موسى رجل الله (التثنية، 13: 1) لقد مات موسى خادم الله، ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل كموسى.» وعلى العكس يتحدث موسى ويقص أفعاله بضمير المتكلم في التثنية
9
التي كتبت فيها الشريعة التي شرحها موسى للشعب والتي كتبها بنفسه، فيقول: «كلمني الرب (التثنية، 2: 1، 17 ... إلخ) ورجوت الرب ... إلخ.» إلا في آخر السفر حيث يستمر المؤرخ بعد أن نقل أقوال موسى ويحكي في روايته كيف أعطى موسى الشعب هذه الشريعة (التي شرحها) كتابة ثم أعطاهم تحذيرا أخيرا، وبعد ذلك انتهت حياته. كل ذلك، أعني طريقة الكلام والشواهد ومجموع نصوص القصة كلها يدعو إلى الاعتقاد بأن موسى لم يكتب هذه الأسفار بل كتبها شخص آخر. (2)
يجب أن نذكر أيضا أن هذه الرواية لا تقص فقط موت موسى ودفنه وحزن الأيام الثلاثين للعبرانيين، بل تروي أيضا أنه فاق جميع الأنبياء، إذا قورن بالأنبياء الذين عاشوا بعده «ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجها لوجه» (التثنية، 34: 1). هذه شهادة لم يكن من الممكن أن يدلي بها موسى نفسه أو شخص آخر أتى من بعده مباشرة، بل شخص عاش بعده بقرون عديدة، لا سيما أن المؤرخ قد استعمل صيغة الفعل الماضي: «ولم يقم من بعد نبي في إسرائيل.» ويقول عن القبر: «ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا» (التثنية، 34: 6). (3)
يجب أن نذكر أيضا أن بعض الأماكن لم تطلق عليها الأسماء التي عرفت بها في زمن موسى، بل أطلقت عليها أسماء عرفت بعده بوقت طويل؛ إذ يقال إن إبراهيم تابع أعداءه حتى دان (انظر: التكوين، 14: 14)،
10
وهو اسم لم تأخذه المدينة التي تحمله إلا بعد موت يشوع بمدة طويلة (انظر: 18: 29).
11 (4)
تمتد الروايات في بعض الأحيان إلى ما بعد موت موسى، فيروى في الخروج (16: 35)
12
أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين يوما حتى وصلوا إلى أرض مسكونة على حدود بلاد كنعان، أي حتى اللحظة التي يتحدث عنها سفر يشوع (5: 12).
13
وكذلك يخبرنا سفر التكوين (6: 31): «وهؤلاء الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبل أن يملك ملك في بني إسرائيل.» ولا شك أن المؤرخ يتحدث عن الملوك الذين كانوا يحكمون الأدوميين قبل أن يخضعهم داود لحكمه
14 ⋆
ويضع حاميات ضده في أديميا (انظر: صموئيل الثاني، 8: 14).
15
من هذه الملاحظات كلها يبدو واضحا وضوح النهار أن موسى لم يكتب الأسفار الخمسة، بل كتبها شخص عاش بعد موسى بقرون عديدة، ولكن لتبحث، إن شئت، بمزيد من الدقة في الأسفار التي كتبها موسى نفسه، والمذكورة في الأسفار الخمسة، فمن الثابت، أولا ، في «الخروج» (17: 14)
16
أن موسى كتب بأمر الله عن الحرب ضد عمالق، ولا يقول لنا هذا الإصحاح نفسه أي سفر كتب، بل ترد في «العدد» (21: 14)
17
إشارة إلى سفر يسمى «حروب الرب» يحتوي ولا شك على قصة الحرب ضد عمالق، وعلى كل أعمال إقامة المعسكرات (التي يشهد مؤلف الأسفار الخمسة في «العدد» (23: 2)
18
بأن موسى قد عرضها كتابة). كما جاء في «الخروج» (21: 14) أن هناك سفرا آخر يعرف باسم «سفر العهد»،
19
قرأه موسى أمام الإسرائيليين عندما عقدوا عهدا مع الله. ولا يحتوي هذا السفر أو هذه الرسالة إلا على أشياء قليلة، أي إنه لا يحتوي إلا على شرائع الله ووصاياه الموجودة في «الخروج» في الإصحاح 20 الآية 22، حتى الإصحاح 24. ولا يمكن أن ينكر ذلك من يقرأ هذا الإصحاح المذكور بشيء من الفهم السليم، ودون تحيز. ففيه يروى أنه بمجرد أنه عرف موسى رأي الشعب في العهد المبرم مع الله، كتب على التو كلمات الله ووصاياه، ثم قرأ أمام المجتمع العام للشعب شروط العهد في الصباح بعد إقامة بعض الطقوس. وبعد هذه القراءة دخل الشعب في هذا العهد بمحض رضاه بعد أن عرف الناس كلهم، بلا شك هذه الشروط. ونظرا إلى ضيق الوقت الذي استغرقته كتابة العهد المبرم - وكذلك نظرا إلى طبيعة هذا العهد - كان حتما ألا يحتوي هذا السفر أكثر مما قلته الآن. وأخيرا فمن الثابت أن موسى قد شرح جميع الشرائع التي سنها في السنة الأربعين بعد الخروج من مصر (انظر: التثنية، 1: 5)،
20
وأخذ من الشعب وعدا جديدا بأن يظلوا خاضعين لهذه الشرائع (انظر: التثنية، 29: 14)،
21
ثم كتب سفرا يحتوي على هذه الشرائع التي تشرح هذا العهد الجديد (انظر: التثنية، 31: 9).
22
وقد سمي هذا السفر «سفر توراة الله» وقد أضاف إليه يشوع بعد ذلك بمدة طويلة رواية العهد الذي قطعه الشعب على نفسه من جديد في أيامه، وهو ثالث عهد يقيمونه مع الله (انظر: يشوع، 24: 25-26).
23
ولما لم يكن لدينا أي سفر يحتوي في الوقت نفسه على عهد موسى وعهد يشوع، فيجب أن نعترف ضرورة بأن هذا السفر قد فقد، وإلا فلنهذ مع يوناتان الشارح الكلداني،
24
الذي يتعسف في تأويل كلمات الكتاب حسب هواه؛ فلقد فضل هذا المترجم بعد أن أقلقته هذه الصعوبة، أن يحرف الكتاب على أن يعترف بجهله، فهو يترجم إلى الكلدانية هذه الكلمات من سفر يشوع (انظر: 24: 26): «وكتب يشوع هذا الكلام في سفر توراة الله بقوله: وكتب يشوع هذا الكلام وحفظه مع سفر توراة الله.» فماذا نفعل مع أولئك الذين لا يروون إلا ما يوافق هواهم؟ وإني لأتساءل: أليس هذا إنكارا للكتاب نفسه، وابتداعا لكتاب جديد من وضعه هو؟ نستنتج إذن أن سفر توراة الله هذا الذي كتبه موسى لم يكن من الأسفار الخمسة، بل كان سفرا مختلفا كلية، أدخله مؤلف الأسفار الخمسة في سفره في المكان الذي ارتآه. ويظهر ذلك بوضوح تام مما سبق ومما سيأتي. أريد أن أقول إنه عندما يروي لنا في النص السابق ذكره من التثنية، أن موسى كتب سفر التوراة، يضيف المؤرخ أن موسى أعطاه الأحبار ثم طلب إليهم قراءته أمام الشعب في أوقات معلومة، وهذا يدل على أن السفر كان أقل حجما بكثير من الأسفار الخمسة؛ إذ كان من الممكن قراءته كله في مجمع عام بحيث يفهمه الجميع، ولا ننسى أنه، من بين جميع الأسفار التي كتبها موسى، لم يأمر إلا بالمحافظة دينيا على سفر واحد وبالحرص على الإبقاء عليه، وهو سفر العهد الثاني والنشيد (الذي كتبه بعد ذلك كي يعلمه لجميع أفراد الشعب). فبالنسبة إلى العهد الأول، كان الحاضرون وحدهم هم الملتزمون به، أما العهد الثاني فكان ملزما للخلف أيضا (انظر: التثنية، 29: 14-15)؛
25
لذلك أمر بالمحافظة دينيا على سفر العهد الثاني للأجيال المقبلة، وكذلك بالمحافظة على النشيد الذي يخص القرون التالية كما أشرنا من قبل. ولما لم يكن من الثابت أن موسى قد كتب أسفارا أخرى سوى هذه الأسفار، ولم يوص بنفسه بالمحافظة دينيا للأجيال القادمة إلا على سفر التوراة الصغير والنشيد، وأخيرا، لما كانت توجد نصوص كثيرة من الأسفار الخمسة لا يمكن أن يكون موسى كاتبها، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤكد، عن حق، أن موسى هو مؤلف الأسفار الخمسة، بل على العكس، يكذب العقل هذه النسبة. وقد يسألني سائل: هل كتب موسى، زيادة على هذين النصين، الشرائع التي أعطيت له في الوحي الأول؟ ألم يكتب موسى طوال أربعين سنة شرائع أخرى سوى هذا العدد القليل الذي ذكرت أنه متضمن في سفر العهد الأول؟ وأجيب قائلا: حتى لو سلمت بأنه مما يبدو متفقا مع العقل أن يكون موسى قد كتب الشرائع في الوقت نفسه وفي المكان نفسه الذي أوحيت إليه فيه، فإني مع ذلك أنكر إمكان تأكيد ذلك لهذا السبب؛ فقد بينا من قبل أننا لا ينبغي أن نسلم في مثل هذه الحالات إلا بما يثبته ذلك الكتاب نفسه، أو ما يستنبط كنتيجة مشروعة من الأسس التي يقوم عليها؛ إذ إن الاتفاق الظاهر مع العقل ليس دليلا.
26
وأضيف إلى ذلك، أن العقل لا يضطرنا إلى التسليم بهذا؛ فمن الجائز فقط أن مجلس موسى كان يسلم الشعب كتابة الشرائع التي كان يسنها موسى، والتي جمعها المؤرخ في وقت متأخر وأدخلها في مكانها من سيرة موسى. هذا فيما يتعلق بأسفار موسى الخمسة وعلينا الآن أن نفحص الأسفار الأخرى.
سنبرهن لأسباب مماثلة على أن سفر يشوع ليس من وضع يشوع نفسه، بل إن شخصا آخر هو الذي شهد ليشوع بأن شهرته قد طبقت آفاق الأرض (انظر: 6: 27)،
27
وبأنه لم يغفل شيئا مما أوصى به موسى (انظر الآية الأخيرة من الإصحاح 8، والإصحاح 9: 15)
28
وبأنه عندما تقدم به السن دعا الجميع إلى المجمع ثم قضى نحبه. وفضلا عن ذلك، فإن الرواية تمتد إلى الوقائع التي حدثت بعد موته؛ إذ أنه يذكر على وجه التحديد أنه بعد موته كان الإسرائيليون يعظمون الله ما عاش المسنون الذين عرفوا يشوع ويذكر الإصحاح 16، الآية 10 أنهم أي (أفرائيم ومنسي): «لم يطردوا الكنعانيين المقيمين بجازر.» (ويضيف) «فأقام الكنعانيون بين أفرائيم إلى هذا اليوم وكانوا عبيدا يؤدون الجزية.» وتوجد هذه الرواية نفسها في سفر القضاة (الإصحاح الأول)،
29
وتدل هذه الطريقة في الحديث باستعمال إلى «يومنا هذا» على أن من يكتب ذلك يتحدث عن شيء قديم للغاية. ويشبه هذا النص تماما الآية الأخيرة من الإصحاح 15 الخاصة بابن يهوذا وقصة كالب
30
في الآيات 14 وما بعدها من الإصحاح نفسه.
31
وهناك أيضا حادثة أخرى في الإصحاح 22، الآية 10 ... إلخ.
32
يروى فيها أن سبطين ونصفا أقاموا مذبحا وراء الأردن، وهي حادثة يبدو أنها وقعت بعد موت يشوع، خاصة أن يشوع لم يذكر بتاتا في القصة كلها؛ إذ كان الشعب وحده هو الذي يتشاور في أمور الحرب ويرسل المندوبين وينتظر ردودهم ثم يصدر موافقته آخر الأمر. وأخيرا، يظهر بوضوح من الإصحاح 10، الآية 14 أن هذا السفر قد كتب بعد يشوع بقرون عديدة، إذ يعطينا الإصحاح هذه الشهادة: «ولم يكن مثل ذلك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب لصوت إنسان.» فإذا كان يشوع قد كتب أي سفر، فمن المؤكد أنه هو ذلك السفر المذكور في هذه الرواية نفسها في الإصحاح 10، الآية 13.
33
أما سفر القضاة فلا أظن أن شخصا سليم العقل يعتقد أن القضاة أنفسهم قد كتبوه؛ لأن نهاية القصة كلها في الإصحاح 21 تبين بوضوح أن مؤرخا واحدا هو الذي كتبه كله.
34
ومن جهة أخرى، فلما كان مؤلفه يكرر دائما أنه لم يكن هناك في عصره أي ملك لإسرائيل، فلا شك أنه لم يكتب بعد أن استولى الملوك على السلطة. أما أسفار صموئيل فليس هناك ما يدعو إلى التوقف عندها طويلا لأن القصة تستمر بعد وفاته بوقت طويل. ومع ذلك أريد أن أبين أن هذا السفر لا بد أنه قد كتب بعد صموئيل بقرون عديدة؛ ذلك لأن المؤرخ في السفر الأول، الإصحاح 9، الآية 9 يعطي هذا التحذير في جملة اعتراضية: «وكان فيما سبق إذا أراد الرجل من إسرائيل أن يذهب ليسأل الله يقول له: هلم نذهب إلى الرائي لأن الذي يقال له اليوم نبي كان يقال له من قبل راء.» وأخيرا، فإن أسفار الملوك قد تم اقتباسها - كما هو ثابت في هذه الأسفار ذاتها - من كتب حكومة سليمان (انظر: الملوك الأول، 11: 41)
35
ومن أخبار ملوك يهوذا (انظر: 14: 19، 29)
36
ومن أخبار ملوك إسرائيل، وبذلك ننتهي إلى أن كل الأسفار التي عرضنا لها حتى الآن قد كتبها مؤلفون آخرون غير الذين تحمل هذه الأسفار أسماءهم، وأن الروايات التي تتضمنها تقص علينا حوادث قديمة.
وإذا نظرنا الآن إلى تسلسل هذه الأسفار كلها وإلى محتواها، رأينا بسهولة أن الذي كتبها مؤرخ
37
واحد أراد أن يروي تاريخ اليهود القديم منذ نشأتهم الأولى حتى هدم المدينة لأول مرة. والواقع أن طريقة تسلسل هذه الأسفار تكفي وحدها لإثبات أنها تضم رواية لمؤرخ واحد، فبمجرد انتهائه من قصة حياة موسى انتقل مباشرة إلى قصة يشوع: «وحدث بعد موت موسى، خادم الله، أن قال الله ليشوع ... إلخ.» وبعد أن انتهى من قصة موت يشوع انتقل بالطريقة نفسها إلى تاريخ القضاة وربطها بالطريقة نفسها بما سبق «وبعد أن مات يشوع طلب بنو إسرائيل من الله ... إلخ.» ثم ألحق سفر راعوت بوصفه تذييلا لسفر القضاة بهذه الطريقة: «وفي هذه الأيام التي يحكم فيها القضاة حدثت مجاعة كبيرة على هذه الأرض.» ثم ربط بالطريقة نفسها سفر صموئيل الأول بسفر راعوت، وعندما انتهى من هذا السفر الأول انتقل إلى الثاني أيضا بالطريقة نفسها. وإذن فمجموع النصوص، والترتيب الذي تتعاقب به الروايات يدل على أن كاتبها مؤرخ واحد له غرض محدد؛ فهو يبدأ بقصة النشأة الأولى للأمة العبرية، ثم يخبرنا بعد ذلك بالترتيب: ما المناسبة، وفي أي الأوقات أقام موسى الشرائع وقام بتنبؤاته العديدة للعبرانيين، بعد ذلك يخبرنا كيف استولوا على الأرض الموعودة كما تنبأ لهم موسى (انظر: التثنية، الإصحاح 7)،
38
ثم كيف تركوا الشرائع بعد أن استولوا على الأرض (التثنية، 31: 16)
39
وما نتج عن ذلك من مصائب (الإصحاح نفسه، الآية 17)
40
وكيف أرادوا بعد ذلك انتخاب ملوك (التثنية، 17: 14)
41
كانوا بدورهم يزدهرون أو يتدهورون بمقدار طاعتهم للشرائع أو تركهم لها (التثنية، 28: 36 والآية الأخيرة)
42
حتى انهيار الدولة الذي وقع كما تنبأ موسى به. أما ما عدا ذلك مما لا يمكن استخدامه لتأييد الشريعة، فإن الراوي إما يتجاهله تماما، وإما يحيل القارئ إلى مؤرخين آخرين؛ فهذه الأسفار إذن تستلهم كلها فكرا واحدا وترمي إلى غاية واحدة هي تعليم الشريعة التي أملاها موسى، والبرهنة بالحوادث على صدقها.
فإذا أخذنا في اعتبارنا هذه الخصائص الثلاث: وحدة الغرض في جميع الأسفار، وطريقة ربطها فيما بينها، وتأليفها بعد الحوادث المروية بقرون عديدة، نستنتج من ذلك كما قلنا من قبل أن مؤرخا واحدا هو الذي كتبها. أما من هو هذا المؤرخ، فإني لا أستطيع أن أحدده بوضوح، ومع ذلك فإني أرتاب في أن يكون عزرا. ويقوم افتراضي هذا على أسباب وجيهة إلى حد بعيد؛ ذلك لأنه لما كان المؤرخ يمتد بروايته (ونحن نعلم من قبل أنها رواية وحيدة) حتى تحرير يواكين، ويضيف - أي الراوي - أنه كان جالسا طيلة حياته على مائدة الملك (أي على مائدة يواكين أو مائدة نبوخذ نصر؛ لأن المعنى غامض تماما) فلا يمكن أن يكون الراوي سابقا على عزرا. ولكن الكتاب لا يذكر أحدا ازدهر في ذلك الوقت، سوى شهادة الكتاب الوحيدة لعزرا (انظر: عزرا، 7: 10)
43
الذي عكف بحماس بالغ على دراسة شريعة الله وعرضها، وكان كاتبا ملما كل الإلمام بشريعة موسى. وإذن فنحن لا نجد شخصا آخر سوى عزرا يمكن الاشتباه في أن يكون مؤلف هذه الأسفار. ومن ناحية أخرى، يشهد سفر عزرا بأن عزرا لم يعكف بحماسة على دراسة شريعة الله فقط، بل عكف أيضا على عرضها.
44
ويذكر نحميا (8: 8) أنهم (أي هؤلاء الرجال) «قرءوا في سفر توراة الله جهرا مبلغين حتى فهموا القراءة.» على أن سفر التثنية لا يحتوي على شريعة موسى فحسب، أو على أكبر جزء منه على أقل تقدير، بل يتضمن أيضا شروحا كثيرة أضيفت إليه؛ لذلك، أفترض أن سفر التثنية هذا هو سفر توراة الله الذي كتبه عزرا والذي يحتوي على عرض الشريعة وشرحها الذي قرأه هؤلاء الذين يتحدث عنهم نحميا. وقد بينا بمثلين في شرحنا لفكر ابن عزرا أن هناك شروحا كثيرا قد أدخلت في ثنايا سفر التثنية. ويمكن ذكر أمثلة أخرى، كما هي الحال في الإصحاح 2، الآية 12: «وأما سعير فأقام بها الحواريون قبل بني عيسو فطردوهم وأبادوهم من بين أيديهم وأقاموا مكانهم كما صنع إسرائيل في أرض ميراثهم التي أعطاها الرب لهم.» فهذا شرح للآيتين 3، 4
45
اللتين تذكران أن بني عيسو لم يكونوا أول من نزل جبل سعير الذي أصبح ملكا لهم، بل إنهم استولوا عليه من سكانه الأولين، وهم الحواريون، بعد أن أجبروهم على الفرار وقضوا عليهم كما فعل الإسرائيليون مع الكنعانيين بعد موت موسى. وكذلك أضيفت الآيات 6، 7، 8، 9، من الإصحاح 10
46
وأدخلت في نص شريعة موسى. فالحق أن كل فرد لا بد أن يدرك أن الآية 8 التي تبدأ على هذا النحو: «في ذلك الوقت فرز الرب سبط لاوي.» ترتبط ضرورة بالآية 5،
47
لا بموت هارون، وأن السبب الوحيد الذي لأجله تحدث عزرا هنا عن هذا الموت هو قول موسى في قصة العجل الذهبي الذي عبده الشعب (انظر: 9: 20)
48
إنه تضرع إلى الله من أجل هارون. ويشرح عزرا بعد ذلك أي الله اصطفى سبط لاوي نفسه - في الوقت الذي كان موسى يتحدث عنه في هذا النص - حتى يبين سبب هذا الاختيار، والسبب الذي من أجله لم يكن للاويين أي نصيب في الميراث. بعد ذلك يرجع إلى الموضوع الرئيس في السفر، حين يذكر أقوال موسى. ولنضف إلى ذلك، مقدمة السفر وكل النصوص التي تتحدث عن موسى بضمير الغائب. هذا بالإضافة إلى عدد كبير من الإضافات والتغييرات في النص لا نستطيع التعرف عليها، وهي إضافات أدخلت دون شك حتى يسهل على الناس في عصره إدراك الأمور. والحق أنه لو كان لدينا سفر موسى لوجدنا، فيما أعتقد، اختلافات كبيرة، سواء في التعبير عن الوصايا أم في ترتيبها والبراهين عليها. والواقع أنني عندما أقارن الوصايا العشر وحدها في التثنية بالوصايا العشر في الخروج
49 (وفيه تروى قصتها صراحة) أجد اختلافات من جميع النواحي. فالوصية الرابعة قد صيغت بطريقة مخالفة، وليس هذا فحسب،
50
بل لقد كانت في عباراتها أطول كثيرا. ويختلف السبب هنا كلية عن السبب الوارد في «الخروج»؛ لذلك أعتقد، كما قلت من قبل بأن عزرا هو الذي أجرى كل هذه التغيرات هنا وهناك لأنه شرح شريعة الله لمعاصريه، وبالتالي يكون هذا سفر توراة الله كما شرحه عزرا وعرضه. وفي رأيي أن هذا هو أول سفر من بين الأسفار التي قلت إنه كتبها، ويقوم افتراضي هذا على أساس أن هذا السفر يحتوي على قوانين الأمة التي يحتاج إليها الشعب خاصة، وكذلك لأن هذا السفر لا يرتبط بسابقه، كما هي الحال في الأسفار الأخرى جميعا، بل يبدأ فجأة: «هذه هي أقوال موسى ... إلخ.»
وبعد أن أكمل هذا السفر وعلم الشرائع للشعب، أعتقد أنه شرع في رواية تاريخ الأمة العبرية كله منذ خلق العالم حتى التدمير الأعظم للمدينة، ثم أدخل في هذا التاريخ سفر التثنية في موضعه. وربما كان سبب تسميته الأسفار الخمسة الأولى باسم موسى هو أنها تدور أساسا حول حياته، فأخذت اسم الشخصية الرئيسة؛ ولهذا السبب نفسه، سمي (السفر) السادس باسم يشوع، والسابع باسم القضاة، والثامن باسم راعوث، والتاسع وربما العاشر أيضا باسم صموئيل، والحادي عشر والثاني عشر باسم الملوك. وسأرجئ إلى الفصل التالي المسألة الأخرى وهي: هل كان عزرا هو آخر من دون هذا السفر، وهو الذي أكمله كما أراد؟
الفصل التاسع
أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من
صاغها؟
أبحاث أخرى حول الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخر من صاغها؟ وهل التعليقات الهامشية الموجودة في المخطوطات العبرية قراءات مختلفة؟ ***
يتبين بوضوح من النصوص نفسها التي اقتبسناها تأييدا لوجهة نظرنا في الفصل السابق، أن البحث الذي قمنا به في هذا الفصل عن مؤلفها الحقيقي يعيننا إلى أبعد حد في فهم هذه الأسفار؛ إذ إن هذه النصوص تبدو للجميع، بدون هذا البحث، غامضة للغاية. ومع ذلك توجد في هذه الأسفار موضوعات أخرى تستحق الملاحظة، ويؤدي شيوع الخرافة إلى الحيلولة دون تنبه العامة إليها. والمسألة الأساسية هي أن عزرا (الذي أعده المؤلف الحقيقي، طالما لم يبرهن لي أحد على مؤلف آخر ببرهان أكثر يقينا) لم يكن آخر من صاغ الروايات المتضمنة في هذه الأسفار، وأنه لم يفعل أكثر من أنه جمع روايات موجودة عند كتاب متعددين، وفي بعض الأحيان كان يقتصر على نسخها، ونقلها على هذا النحو إلى الخلف دون فحصها أو ترتيبها. ولا أستطيع أن أخمن الأسباب التي منعته من إتمام عمله هذا بحيث يوليه كل عنايته (إلا إذا كان موتا مبكرا). ولكن، على الرغم من فقدان مؤلفات المؤرخين القدماء، فإن العدد القليل جدا من الشذرات المتبقية لدينا يثبت هذه الحقيقة بوضوح تام، فقصة حزقيا ابتداء من الآية 17، الإصحاح 18 من سفر الملوك الثاني، نسخة من رواية أشعيا كما نقلت في أخبار ملوك يهوذا. ففي كتاب أشعيا المتضمن في أخبار ملوك يهوذا (انظر: أخبار الأيام الثاني، الإصحاح 32، الآية قبل الأخيرة)،
1
نقرأ هذه القصة بأكملها بالألفاظ نفسها المستخدمة في سفر الملوك، فيما عدا بعض الاستثناءات النادرة للغاية،
2 ⋆
وهذه الاستثناءات لا يمكن أن نستنتج منها سوى وجود قراءات مختلفة لرواية أشعيا تجمع بعضها مع البعض، إلا إذا كنا نفضل أن نحلم بوجود أسرار في هذا الموضوع. ومن ناحية أخرى، نجد أن الإصحاح الأخير من سفر الملوك هذا متضمن في الإصحاح الأخير من إرميا، الآيات 39، 40،
3
وكذلك نجد الإصحاح 7 من سفر صموئيل الثاني مكررا في سفر الأخبار الأول (الإصحاح 17)،
4
ومع ذلك، فإن الألفاظ تختلف في فقرات متعددة بطريقة تدعو للدهشة
5 ⋆
إلى حد يتعين معه الاعتراف بأن هذين الإصحاحين مأخوذان من صيغتين مختلفتين لقصة ناثان.
6
وأخيرا نجد أن شجرة نسب ملوك أدوميا كما وردت في «التكوين» الإصحاح 36
7 ⋆
ابتداء من الآية 31 موجودة في الألفاظ نفسها في سفر الأخبار الأول (الإصحاح الأول)
8
وإن كان من المؤكد أن مؤلف هذا السفر الأخير أخذ روايته من مؤرخين آخرين، لا من الأسفار الاثني عشر التي نسبناها إلى عزرا. فلا شك إذن أننا لو كنا لا نزال نملك كتابات المؤرخين لتحققنا من ذلك الأمر بسهولة، ولكن لما كانت هذه الكتابات مفقودة فلا يبقى أمامنا إلا أن نفحص الروايات نفسها من حيث ترتيبها وتسلسلها وطريقة تكرارها مع بعض التغييرات، ثم اختلافها في حساب السنين، وهذا ما يسمح لنا بالحكم على بقية الأمور.
فلنفحص إذن هذه الروايات، أو على الأقل الرئيسة منها، ولنبدأ بهذه القصة التي تدور حول يهوذا وثامار،
9
والتي يبدؤها الراوي في التكوين (الإصحاح 38)، وهكذا: «وكان في ذلك الوقت أن يهوذا انفرد عن إخوته.» وواضح أن الوقت المذكور هنا يتعلق بوقت آخر تحدث عنه قبل ذلك، وليس هو على وجه التحديد الوقت الذي تحدث عنه سفر التكوين قبل ذلك مباشرة، فالواقع أنه منذ نزول يوسف مصر لأول مرة، حتى ذهاب البطريق يعقوب مع جميع أفراد عائلته إلى هذا البلد نفسه، لا نستطيع أن نعد أكثر من اثنتين وعشرين سنة؛ فقد كان عمر يوسف سبعة عشر عاما عندما باعه إخوته، وكان عمره ثلاثين عاما عندما أخرجه فرعون من السجن، فإذا أضفنا إلى هذه السنين الثلاث عشرة سبع سنين من الرخاء وسنتين من المجاعة يكون المجموع اثنتين وعشرين سنة. ومع ذلك لا يمكن أن يتصور أحد حدوث كل هذه الأشياء في مثل هذا الوقت القصير؛ أعني أن يصبح يهوذا أبا لثلاثة أطفال على التوالي من المرأة الوحيدة التي تزوجها، وأن يتزوج أكبر هؤلاء الثلاثة ثامار عند بلوغه سن الزواج، وأن تتزوج ثامار من جديد بعد موت الابن الثاني، وبعد موته هو الآخر، أي بعد هاتين الزيجتين وهاتين الميتتين، يعاشر يهوذا زوجة أبنائه ثامار دون أن يعرف من تكون، ثم يولد له طفلان توءمان يصبح أحدهما أبا في هذا الوقت القصير ذاته. ولما كان من المستحيل وقوع هذه الحوادث كلها في الوقت القصير الذي يشير إليه «التكوين» وجب إرجاعها إلى وقت آخر سبق أن تحدث عنه سفر آخر. ومن ثم فلا بد أن عزرا نقل هذه القصة بسهولة وأدخلها في النص دون فحص. ولا يقتصر الحال على هذا الإصحاح فقط، بل إن هذا ينطبق على كل قصة يوسف ويعقوب، التي ينبغي الاعتراف بأنها استخلصت ونقلت من عدد من المؤرخين بدليل وجود اختلافات بين أجزائها المتعددة؛ ففي الإصحاح 47 يروى في «التكوين» أن يعقوب عندما أتى به يوسف ليحيي فرعون لأول مرة كان عمره يومئذ مائة وثلاثين عاما.
10
فإذا طرحنا اثنين وعشرين عاما قضاها حزنا على فقدانه يوسف، وسبعة عشر عاما عمر يوسف وقت بيعه، وسبعة أعوام خدم فيها يعقوب راحيل،
11
نجد أنه كان متقدما جدا في السن، أي كان عمره أربعة وثمانين عاما، عندما تزوج ليئة.
12
وفي مقابل ذلك، كان عمر دينة
13
تقريبا سبعة أعوام
14 ⋆
عندما اغتصبها شكيم وكان عمر شمعون
15
اثني عشر عاما وعمر لاوي
16
أحد عشر عاما تقريبا عندما خربوا هذه المدينة التي يتحدث عنها «التكوين» عن آخرها، وقتلوا كل سكانها بالسيف. ولسنا في حاجة هنا إلى أن نبحث كل محتويات الأسفار الخمسة، والخلط في الأزمنة والتكرار المستمر للقصص نفسها مع بعض التغييرات الخطيرة أحيانا، لكي نسلم بسهولة بأننا أمام مجموعة من النصوص المكدسة بحيث يمكن بعد ذلك فحصها وترتيبها بطريقة أيسر. ولا ينطبق هذا فقط على الأسفار الخمسة، بل ينطبق أيضا على سائر الروايات المتضمنة في الأسفار السبعة الأخرى حتى هدم المدينة، وهي الروايات التي جمعت بالطريقة نفسها. ومن منا لا يرى أننا في الإصحاح 2 من سفر القضاة ابتداء من الآية 6 نجد أنفسنا إزاء مؤرخ جديد
17 (وهو الذي كتب أيضا تاريخ يشوع القديم) نقلت كلماته بحذافيرها فحسب؟ والواقع أنه بعد أن روى المؤرخ الأول في الإصحاح الأخير من «يشوع» موت يشوع ودفنه، وعد في سفر القضاة الأول أن يروي الحوادث التي وقعت بعد هذا الموت.
18
فلو أراد أن يواصل الخط الرئيس في قصته، فكيف كان يمكنه أن يربط ما قاله قبل ذلك مباشرة، بالرواية التي بدأها عن يشوع نفسه؟
19 ⋆
وكذلك اقتبست الإصحاحات 17، 18 ... إلخ في سفر صموئيل من راو آخر غير الذي أخذت عنه روايته في الإصحاحات السابقة، وهذا الراوي الآخر يقدم لتردد داود لأول مرة على بلاط شاءول تفسيرا مختلفا كل الاختلاف عن تفسير الإصحاح 16، فهو لا يعتقد أن شاءول قد استدعى داود اتباعا لنصيحة وزرائه (كما ذكر في الإصحاح 17) بل يعتقد أن أبا داود أرسله صدفة إلى المعسكر عند إخوته، ثم عرفه شاءول بانتصاره على الفلسطيني جلياث ، وبعد ذلك بقي في بلاط هذا الملك. وأعتقد أن هذا الشيء نفسه قد حدث في الإصحاح 26 من هذا السفر نفسه؛ إذ يروي المؤرخ - فيما يبدو - القصة نفسها الموجودة في الإصحاح 24، مستمدا إياها من رواية أخرى،
20
ومع هذا فلنترك هذا الموضوع، لننتقل إلى حساب السنين، يذكر الإصحاح 6 من سفر الملوك الأول
21
أن سليمان بنى المعبد بعد الخروج من مصر بأربعمائة وثمانين عاما، مع أننا طبقا للروايات نفسها نجد عددا من السنين أكبر بكثير.
والواقع أن: (1)
موسى حكم الشعب في الصحراء 40 عاما. (2)
يروي يوسف وبعض المؤرخين أن حكم يشوع الذي عاش مائة وعشرة أعوام لم يزد عن 26 عاما. (3)
أخضع كوشان رشعتائيم
22
الشعب 8 أعوام. (4)
كان عتنئيل بن قاناز
23
قاضيا
24 ⋆
40 عاما. (5)
حكم عجلون
25
ملك مؤاب الشعب 18 عاما. (6)
كان أهود وشمجر
26
قضاة 30 عاما. (7)
أخضع يابين
27
ملك كنعان الشعب من جديد 20 عاما. (8)
عاش الشعب بعد ذلك في سلام 40 عاما. (9)
خضع بذلك للمدينيين
28
7 أعوام. (10)
ثم عاش حرا تحت إمرة جدعون
29
40 عاما. (11)
وتحت حكم أبيملك
30
3 أعوام. (12)
وكان تولع بن فوأة
31
قاضيا 23 عاما. (13)
ياعير
32
22 عاما. (14)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين وبني عمون
33
18 عاما. (15)
كان يفتاح
34
قاضيا 6 أعوام. (16)
أبيصان
35
من بيت لحم 7 أعوام. (17)
أيلون الزابولوني
36
10 أعوام. (18)
عبدون الفرعتوني
37
8 أعوام. (19)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين 40 عاما. (20)
كان شمشون
38
قاضيا
39 ⋆
20 عاما. (21)
عالي
40
40 عاما. (22)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين قبل أن يحرره صموئيل 20 عاما. (23)
حكم داود 40 عاما. (24)
وسليمان قبل بناء المعبد 4 أعوام. (25)
فيكون مجموع الأعوام التي انقضت 580 عاما.
كما يجب إضافة السنوات التي ازدهرت فيها الدولة العبرية بعد موت يشوع حتى هزمها كوشان رشعتائيم، وأعتقد أنها سنوات كثيرة. والواقع أنني لا يمكنني الاعتقاد بأنه بعد موت يشوع مباشرة مات كل من رأى هذه الخوارق في لحظة واحدة أو بأن خلفاءهم تركوا الشرائع فجأة ومرة واحدة، وسقطوا من أعلى قمم الفضيلة إلى أشد درجات العجز وأشنع أنواع الإهمال، كما لا يمكنني الاعتقاد بأن كوشان رشعتائيم لم يكن عليه إلا أن يظهر لكي يخضعهم. إن كل مرحلة من مراحل هذا الانحلال تتطلب جيلا بشريا تقريبا ، بحيث يلخص الكتاب المقدس ولا شك في الإصحاح 2، الآيات 7، 9
41
من سفر القضاة تاريخ أعوام عديدة لا يروي لنا عنها شيئا. كما يجب إضافة الأعوام التي كان صموئيل فيها قاضيا والتي لم يعط الكتاب عددها، وكذلك يجب إضافة الأعوام التي حكم فيها شاءول والتي لم أذكرها في الحساب السابق لأننا لا نستطيع أن نعرف من قصته عدد السنين التي حكم فيها معرفة كافية؛ إذ يقال لنا في الإصحاح 13، الآية 1 من سفر صموئيل الأول أنه حكم عامين، ولكن هذا النص منقوص، ونستطيع أن نستنتج من القصة نفسها عددا أكبر من السنين. ولا شك أن من له معرفة أولية بالعبرية يستطيع أن يستوثق من أن هذا النص منقوص، فهو يبدأ هكذا: «وكان شاءول ابن سنة في ملكه، وملك سنتين على إسرائيل.» وإني لأتساءل الآن: من هنا لا يرى أن هذا النص قد حذف عمر شاءول عندما استولى على السلطة الملكية؟ إن قصة شاءول نفسها لتدفعنا إلى التسليم بعدد أكبر من السنين. وأعتقد أنه ليس هناك من يشك في ذلك، ففي الإصحاح 27، الآية 7 من السفر نفسه
42
نجد أن داود مكث سنة وأربعة أشهر عند الفلسطينيين هربا من شاءول. وطبقا لهذا الحساب كان من الضروري أن تقع باقي الحوادث في مدة ثمانية أشهر، وهذا ما لا يصدقه أحد فيما أعتقد. ويصحح يوسف (المؤرخ) هذا النص في آخر الكتاب الثالث من التاريخ القديم، فيجعله: «وحكم شاءول أيام صموئيل ثمانية عشر عاما وبعد موته سنتين أخريين.» وعلى أية حال، فإن كل هذه القصة الواردة في الإصحاح 13 لا تتفق بتاتا مع ما يسبقها؛ إذ يروى لنا عند نهاية الإصحاح 7 أن العبرانيين هزموا الفلسطينيين هزيمة بلغت من الشدة حدا لم يعودوا منه يجرءون على عبور حدود إسرائيل طوال حياة صموئيل. وفي الإصحاح 13 غزا الفلسطينيون العبرانيين (أيام صموئيل) وجلبوا لهم من البؤس الشديد والفقر المدقع ما جعلهم يظلون دون أسلحة ودون أية وسيلة تصنعها.
43
وإنها لمحاولة مضنية حقا أن يوفق الإنسان بين جميع هذه القصص الموجودة في سفر صموئيل الأول بحيث تبدو وكأن مؤرخا واحدا هو الذي كتبها ورتبها. ولكني أعود الآن إلى موضوعي الأول، فأقول: إنه يجب إذن أن نضيف إلى الحساب المذكور من قبل سنوات حكم شاءول. وأخيرا، فإني لم أضف سنوات وقوع العبرانيين في الفوضى، لأن الكتاب نفسه لم يحددها بوضوح، أعني أنني لا أعلم كم من الوقت استغرقت الحوادث التي وقعت منذ الإصحاح 17 حتى آخر سفر القضاة.
44
من هذا كله نستنتج بوضوح تام أننا لا نستطيع أن نقيم حسابا زمنيا مضبوطا للسنوات معتمدين في ذلك على الروايات نفسها، وأن دراستها لا تؤدي بنا إلى التسليم بصحة واحدة منها، بل إلى وضع افتراضات مختلفة، فيجب إذن أن نسلم بأن هذه الروايات مجموعة من القصص مستمدة من مؤلفين عديدين، ثم جمعت قبل ترتيبها وفحصها، كذلك يبدو أن هناك تعارضا لا يقل عن ذلك، فيما يتعلق بحساب السنين، بين أسفار أخبار ملوك يهوذا وأسفار أخبار ملوك إسرائيل؛ ففي أخبار ملوك إسرائيل يذكر أن يورام بن أحآب بدأ حكمه في السنة الثانية من حكم يورام بن يوشافاط (انظر الملوك الثاني، 1: 17)
45
على حين يذكر في أخبار ملوك يهوذا أن يورام بن يوشافاط بدأ حكمه في السنة الخامسة من حكم يورام بن أحآب (انظر: 8، 16 من السفر نفسه)،
46
وإذا أردنا مقارنة روايات سفر أخبار الأيام مع روايات سفر الملوك وجدنا كثيرا من حالات التعارض المماثلة، التي لا تحتاج هنا إلى ذكرها، أو ذكر شروح المؤلفين الذين حاولوا التوفيق بين هذه الروايات، كالأحبار الذين يهذون كلية، أو من قرأت من الشراح الذين يحلمون ويختلقون شروحا وينتهون إلى إفساد اللغة نفسها، فعندما يذكر مثلا في سفر أخبار الأيام الثاني: «كان عمر أحزيا اثنتين وأربعين سنة عندما حكم.» يتصور بعض الشراح أن هذه السنين تبدأ من حكم «عمري» لا من ميلاد أحزيا،
47
ولو استطاع أحد أن يثبت أن هذا هو قصد مؤلف سفر أخبار الأيام لما ترددت في القول إنه لا يعرف كيف يتحدث، وبالطريقة نفسها يختلقون شروحا كثيرة تضطرني إلى القول - لو كانت هذه الشروح صحيحة - بأن قدماء العبرانيين قد جهلوا تماما لغتهم، ولم تكن لديهم أية فكرة عن ترتيب الرواية، كما تضطرني إلى أن أعترف بأنه لم يكن هناك أي منهج أو قاعدة لتفسير الكتاب، بل كان بإمكانهم اختلاق أي شيء حسب هواهم.
فإذا ظن أحد مع ذلك أني أتحدث هنا بطريقة عامة جدا، دون أساس كاف، فإني أرجو أن يكلف نفسه العناء ويدلنا على ترتيب يقيني لهذه الروايات، يستطيع المؤرخون اتباعه في كتابتهم للأخبار دون الوقوع في خطأ جسيم. وعلى المرء في أثناء محاولته تفسير الروايات والتوفيق بينها، أن يراعي العبارات والأساليب وطرق الوصل في الكلام، ويشرحها بحيث نستطيع، طبقا لهذا الشرح، أن نقلدها في كتابتنا.
48 ⋆
ولسوف أنحني مقدما في خشوع لمن يستطيع القيام بهذه المهمة، وإني لعلى استعداد لأن أشبهه بأبولو نفسه.
49
على أن أعترف بأني لم أستطع أن أجد من يقوم بهذه المحاولة بالرغم من طول بحثي عنه، كما أضيف أيضا أني لا أكتب هنا شيئا إلا بعد تأمل طويل. ومع أني مشبع منذ طفولتي
50
بالآراء الشائعة عن الكتاب المقدس، فقد كان من المستحيل علي ألا أنتهي إلى ما انتهيت إليه.
51
وعلى أية حال، فليس هناك ما يدعونا إلى أن نعطل القارئ هنا مدة طويلة وأن نعرض عليه، في صورة تحد، أن يقوم بمحاولة ميئوس منها. وكل ما في الأمر أنه كان علي أن أبين ما ستكون عليه هذه المحاولة حتى أعبر عن فكري تعبيرا أكثر وضوحا. والآن أنتقل إلى الملاحظات الأخرى التي أبديها عن مصير هذه الأسفار.
وبعد أن بينا مصدر هذه الأسفار، يجب أن نذكر أن الخلف لم يحفظ هذه الأسفار بعناية بحيث لا تتسرب إليها أية أخطاء، فقد لحظ قدماء النساخ كثيرا من القراءات
52
المشكوك فيها، بالإضافة إلى بعض النصوص المبتورة، دون أن يكونوا مع ذلك قد تنبهوا إليها كلها. أما مسألة ما إذا كان لهذه الأخطاء من الأهمية ما يستحق وقفة طويلة من القارئ ، فأنا أعتقد في الواقع أنها قليلة الأهمية، على الأقل بالنسبة إلى من يقرءون الكتب المقدسة بعقلية متحررة. وأستطيع أن أؤكد عن يقين أني لم أجد أي خطأ أو أي اختلاف في القراءات، وخاصة في النصوص الخاصة بالتعاليم الخلقية، بحيث يجعلها غامضة أو مشكوكا فيها. ومع ذلك لا يسلم معظم المفسرين بوقوع أي تحريف في النص، حتى في الأجزاء الأخرى، ويقررون أن الله، بعناية فريدة، قد حفظ التوراة كلها من أي ضياع. أما اختلاف القراءات فهو في نظرهم علامة على أسرار في غاية العمق، ويتناقشون بشأن النجوم الثماني والعشرين الموجودة وسط إحدى الفقرات بل تبدو لهم أشكال الحروف ذاتها وكأنها تحتوي على أسرار كبيرة. ولست أدري إن كان ذلك ناجما عن اختلاف العقل وعن نوع من تقوى العجائز المخرفين، أم أنهم قالوا ذلك بدافع الغرور والخبث حتى نعتقد أنهم وحدهم الأمناء على أسرار الله؟ ولكني أعلم فقط أني لم أجد مطلقا أي شيء عليه سيماء السر في كتبهم، ولم أجد فيها إلا أعمالا صبيانية. ولقد قرأت أيضا بعض القباليين وعرفت ترهاتهم،
53
ولم تنقطع أبدا دهشتي من خبلهم. وإني لأعتقد أنه ما من أحد سيشك في وقوع بعض الأخطاء في الأسفار - كما قلنا من قبل - إذا كان لديه أقل قدر من الحكم السليم، وقرأ النص الخاص بشاءول (الذي ذكرناه من قبل من سفر صموئيل الأول، 13: 1)
54
وكذلك الآية 2، الإصحاح 6 من صموئيل الثاني: «ونهض داود وانطلق بجميع الشعب الذين معه من بعليم يهوذا ليصعدوا من هناك تابوت الله.» إذ لا يمكن أن يغيب عن ذهن أحد أن المكان الذي ذهب إليه ليحضر التابوت، وهو كارياتياريم،
55 ⋆
لم يذكر. كما لا نستطيع أن ننكر أن الآية 37 من الإصحاح 13 في سفر صموئيل الثاني قد غيرت وبترت، يقول النص: «وأما أبشالوم فهرب والتجأ إلى تلماي بن عمهود ملك جشور وناح داود على ابنه كل الأيام، وهرب أبشالوم وذهب إلى جشور ولبث هناك ثلاث سنين.» وأنا أعلم أني ذكرت من قبل نصوصا أخرى مشابهة لا تحضرني الآن.
أما فيما يتعلق بالتعليقات الهامشية التي نجدها هنا وهناك في الكتب العبرية، فلا يمكن أن يتردد المرء في الاعتقاد بأنها قراءات مشكوك فيها، إذا عرفت أن معظمها يرجع إلى التشابه الكبير بين الحروف العبرية خاصة بين «الكاف والباء»، وبين «الياء والواو»، وبين «الدال والراء» ... إلخ. فمثلا نجد «وقتما تسمع» وفي الهامش بعد تغيير حروف «عندما تسمع» وفي الإصحاح الثاني في سفر القضاة الآية 22، يقول النص: «وعندما أتى آباؤهم وإخوتهم لدينا بكثرة.» (أي دائما) ... في حين نجد في الهامش بعد تغيير حرف «ليعارضوا» بدل «بكثرة» وكذلك يرجع عدد كبير من القراءات المشكوك فيها إلى استعمال الحروف التي نسميها حروف الوقف، والتي لا تنطق في أغلب الأحيان، ويخلط المرء بينها إذا تجاورت. فمثلا في سفر الأحبار نجد (25: 30)
56 ⋆
نصا يقول: «فقد ثبت البيت الذي في المدينة التي لا سور لها.» وفي الهامش «ذات السور ... إلخ.»
ومع أن هذه الملاحظات واضحة بنفسها، فإني أرى أن من الأفضل الرد على حجج بعض الفريسيين الذين يميلون إلى البرهنة على أن هذه التعليقات الهامشية قد أضافها إما مؤلفو الكتب المقدسة أنفسهم، أو أنها كتبت بتوجيه منهم، ليعبروا عن أسرار غامضة. وأول هذه الحجج، وهي حجة لا أهتم بها كثيرا، مستقاة من العادة المتبعة في قراءة التوراة. يقولون: لو كانت هذه التعليقات قد وضعت في الهامش بسبب اختلاف القراءات التي لم يستطع الخلف أن يختار بينها فلم جرت العادة على الاحتفاظ دائما بالمعنى الهامشي؟ ولم ذكر في الهامش هذا المعنى الذي أريد الاحتفاظ به؟ لقد كان الواجب، على العكس من ذلك، كتابة النص نفسه كما يراد له أن يقرأ، بدلا من أن يذكر في الهامش المعنى والقراءة المحققان أكثر من غيرهما. والحجة الثانية التي تبدو على شيء من الجدية، مستقاة من طبيعة الأشياء نفسها. يقولون: هناك أخطاء في النسخ تقع في المخطوطات صدفة لا عمدا. ولما كانت الأخطاء عفوية وجب أن تختلف فيما بينها. على أننا نجد في الأسفار الخمسة أن الكلمة العبرية التي تعني عذراء قد كتبت دائما دون حرف الهاء إلا في نص واحد، مما يخالف قواعد اللغة، على حين كتبت في الهامش كتابة صحيحة طبقا للقاعدة العامة، فهل يمكن أن يكون هنا الخطأ قد صدر عن الناسخ؟ أي قدر هذا الذي أجبر قلم الكاتب على التسرع بالطريقة نفسها في كل مرة يقابل فيها هذه الكلمة؟ لقد كان من الممكن بعد ذلك بسهولة إضافة الحرف الناقص دون حرج وتصحيح هذا الخطأ مراعاة للقواعد. وبما أن هذه القراءات لم تحدث صدفة، وبما أنه لم يتم تصحيح هذه الأخطاء الظاهرة، فلا بد من الاعتراف بأن هذه الكلمات كتبها المؤلفون الأول عمدا كما هي موجودة في المخطوطات، ليدلوا بها على شيء، على أننا نستطيع أن نرد بسهولة على ذلك. تعتمد الحجة الأولى على العادة المتبعة بين الفريسيين، ولن أتوقف عندها، فأنا لا أدري إلى أي مدى ذهبت الخرافة، وربما نشأت هذه العادة من أنهم كانوا يعتقدون أن الصياغتين صحيحتان أو مقبولتان، وبالتالي أرادوا أن تكون الأولى مكتوبة والثانية مقروءة حتى لا تضيع هذه ولا تلك. والواقع أنهم كانوا يخشون البت في أمر خطير كهذا، ويخافون من أخذ النص الباطل على أنه الصحيح، ومن هنا فإنهم لم يشاءوا تفضيل أحد النصين على الآخر، وهو ما كان يتعين عليهم القيام به لو أنهم اشترطوا أن تكون الكتابة والقراءة بالطريقة نفسها، لا سيما أن النسخ المستعملة في الشعائر كانت خالية من التعليقات الهامشية، أو ربما أتت هذه العادة من أنهم أرادوا أن تقرأ بعض الكلمات المكتوبة، مع كونها صحيحة من حيث النسخ، عن طريق كتابتها، بطريقة مختلفة أي طبقا للصياغة المكتوبة في الهامش. وهكذا نشأت العادة الشائعة التي تقضي بقراءة التوراة طبقا للتعليقات الهامشية. أما الدوافع التي جعلت النساخ يكتبون في الهامش بعض الكلمات التي يقصد منها صراحة أن تقرأ فإني أبينها كما يلي: ليست كل التعليقات الهامشية قراءات مشكوكا فيها، بل إن منها أيضا ما يصحح أساليب الكلام التي لم تعد تستعمل، أعني الكلمات التي عفا عليها الزمان، وتلك التي لم تعد الأخلاق الحسنة تسمح باستعمالها، فقد اعتاد المؤلفون القدماء - الذين لم يكونوا يعرفون الرذيلة مطلقا - تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون اللف والدوران المستعمل في القصور، وبعد ذلك ساد الترف وعمت الرذيلة بدأ الناس ينظرون إلى الأشياء التي عبر عنها القدماء دون بذاءة، على أنها بذيئة، ولم تكن هناك حاجة من أجل ذلك إلى تغيير الكتاب نفسه، ومع ذلك فقد جرت العادة في القراءة العامة، مراعاة لضعف نفوس العامة، على تسمية النكاح والاستمناء بألفاظ غير ملائمة، وهي الألفاظ نفسها الموجودة في الهامش. وأخيرا، فمهما كان السبب الذي من أجله جرت العادة على قراءة الكتب وتفسيرها حسب التعليقات الهامشية، فإنه على الأقل ليس كون التفسير الصحيح هو بالضرورة ذلك الذي يسير وفقا لهذه التعليقات. وبالإضافة إلى أن الأحبار أنفسهم في التلمود يبتعدون في كثير من الأحيان عن النص الماسوريتي،
57
وكان لديهم نصوص أخرى يرونها أفضل، كما سأبين بعد قليل، فإنه يوجد في الهامش بعض التغييرات تبدو أقل اتفاقا مع الاستعمال اللغوي الجاري من النص نفسه، فمثلا يقول نص في سفر صموئيل الثاني (14: 22): «إذا فعل الملك ما قال عبده.» وهو تركيب لغوي سليم تماما ومتفق مع تركيب الآية 15 من الإصحاح نفسه، هذا على حين نجد في الهامش: «عبدك» وهو ما لا يتفق مع الفعل الذي وضع في صيغة ضمير الغائب. وبالمثل يقول نص في الآية الأخيرة من الإصحاح 16 من السفر نفسه: «حسب (أي يستشار) كلام الرب.» وفي الهامش كلمة أحد كفاعل للفعل، وهي إضافة لا مبرر لها؛ إذ إن العرف الشائع في اللغة جرى على استعمال الأفعال اللاشخصية في ضمير الغائب المفرد المبني للمعلوم، كما يعلم علماء اللغة جيدا. وهكذا توجد تعليقات كثيرة لا يمكن على أي نحو تفضيلها على صيغة النص. أما حجة الفريسيين الثانية فيسهل الرد عليها بعد الذي عرضناه، فقد قلنا: إن النساخ قد نبهوا إلى الكلمات التي لم تعد تستعمل بالإضافة إلى القراءات المشكوك فيها، ولا شك أن كثيرا من الكلمات في اللغة العبرية، كما في اللغات الأخرى، لم تعد مستعملة وأصبحت قديمة، وقد وجدت كلمات كهذه في التوراة نبه إليها كلها النساخ المتأخرون حتى تكون القراءة العامة وفقا لعادة عصرهم. فإذا كانت كلمة «نعر» قد دونت في كل مكان، فذلك لأنها كانت من قبل مشتركة بين الجنسين (المذكر والمؤنث) وكان لها معنى الكلمة اللاتينية نفسها، وكذلك كانت عاصمة العبرانيين تسمى قديما «أورشليم لا أورشلايم»، كذلك فإنه فيما يتعلق بالضمير هو، هي، فقد جرت العادة على استبدال حرف الياء بحرف الواو (وهو تغيير شائع في العبرية) للدلالة على المؤنث، على حين لم يعتد الناس في العهود الأقدم، تمييز المؤنث من المذكر في هذا الضمير إلا بحروف العلة. وأخيرا، فقد كانت الصيغ الشاذة للأفعال تتغير بدورها من عصر إلى عصر، وكان القدماء، توخيا منهم للتأنق المميز لعصرهم، يستعملون الحروف الزائدة: هاء، ألف، ميم، نون، تاء، ياء، واو. وأستطيع أن أعطي أمثلة كثيرة كهذه، ولكني لا أود أن أضيع وقت القارئ بموضوعات ثقيلة. فإذا سألني سائل: من أين لي علم ذلك؟ أجبته قائلا بأني كثيرا ما لحظت ذلك عند أقدم المؤلفين، أي في التوراة في حين لم يشأ المحدثون اتباع هذه العادة، وهذا هو السبب الوحيد الذي توجد من أجله في اللغات الأخرى، حتى اللغات الميتة، كلمات لم تعد مستعملة.
ولكن قد يصر أحد على أن يقول: ما دمت أسلم بأن معظم التعليقات الهامشية قراءات مشكوك فيها، فلم لا يوجد أكثر من قراءتين للنص الواحد؟ لم لا توجد أحيانا ثلاث قراءات أو أكثر؟ كذلك قد يعترض علي بأن النص في بعض الأحيان يخالف بوضوح قواعد اللغة في حين تكون القراءة الموجودة في الهامش صحيحة، بحيث لا يمكن أبدا الاعتقاد بأن الناسخين قد توقفوا وترددوا بين القراءتين، وهذا اعتراض يسهل الرد عليه، فردا على الحجة الأولى أقول: إن بعض القراءات قد حذفت واستبقي البعض الآخر، دون أن تخبرنا مخطوطاتنا بكل ذلك، ففي التلمود نجد صيغا أهملها الماسوريون، وقد بلغ الفرق بين النصين في فقرات كثيرة حدا من الوضوح جعل المصحح لتوراة بومبرج،
58
الذي كان مغرقا في الخرافات، يضطر إلى أن يعترف في مقدمته بأنه لا يعرف كيف يوفق بينها، فيقول: «إن الإجابة الوحيدة التي يمكن إعطاؤها هنا هي التي أجبنا بها من قبل وهي أن من عادة التلمود مناقضة الماسوريين.» وإذن فلا أساس للتسليم بعدم وجود أكثر من صياغتين للفقرة الواحدة، ومع ذلك، فإني أسلم مقتنعا - وهذا هو رأيي الخاص - بأنه لم يوجد أبدا أكثر من صياغتين للنص الواحد؛ وذلك لسببين: (1)
لا يسمح مصدر تغييرات النص، كما أوضحنا من قبل، بوجود أكثر من صياغتين، لأنهما ينشآن في الغالب من تشابه بعض الحروف، وإذن فقد كان الشك ينصب دائما على مسألة معرفة أي الحرفين المستعملين دائما يجب أن يكتب: هل هو الباء أم الكاف، الياء أم الواو، الدال أم الراء ... إلخ. وكثيرا ما كان يحدث أن يعطي كل من الحرفين معنى مقبولا. وفضلا عن ذلك، فإن طول المقطع، أي كونه ممتدا أو قصيرا، يعتمد على هذه الحروف التي سميناها حروف الوقف. وأخيرا فليست كل التعليقات قراءات مشكوكا فيها، بل إن الدافع على كثير منها، كما قلنا هو اللياقة وشرح لفظ قديم لم يعد مستعملا. (2)
والسبب الثاني لاعتقادي هذا هو أن النساخ لم يكن لديهم إلا عدد قليل من الأصول، وربما لم يكن لديهم أكثر من أصلين أو ثلاثة. ولا تذكر رسالة الكتبة (الفصل السادس)
59
إلا شرحين، ويتوهم أنهما يرجعان إلى عصر عزرا؛ لأن الاعتقاد قد ساد بأن عزرا هو كاتب هذه التعليقات. ومهما يكن من شيء فلو كانت هناك ثلاثة أصول لأمكننا أن نتصور بسهولة اتفاق اثنين منها دائما على الفقرة نفسها، ويكون غريبا حقا أن توجد للفقرة نفسها ثلاث صياغات مختلفة في ثلاثة أصول، فأي قدر إذن ذلك الذي سبب هذا النقص في الأصول بعد عزرا؟ إن المرء لن يعود يدهش لذلك لو قرأ فقط الإصحاح الأول من سفر المكابيين الأول أو الفصل الخامس من الكتاب الثاني عشر من «تاريخ اليهود القديم» ليوسف، بل إنه ليبدو معجزا حقا أن يكون قد أمكن الاحتفاظ بهذا العدد القليل من النسخ بعد كل هذا الاضطهاد الطويل، وهو ما لا يمكن أن يشك فيه - على ما أعتقد - كل من قرأ هذا التاريخ بقدر ولو ضئيل من الانتباه. هذه هي إذن الأسباب التي تجعلنا لا نجد أكثر من قراءتين في أي مكان، وبالتالي، فلا يمكننا من هذا العدد القليل - أي القراءتين - أن نستنتج أن الفقرات التي تشرحها هذه التعليقات في التوراة قد كتبت خطأ عن قصد لتدل على سر ما. أما الحجة الثانية القائلة بأن النص يخطئ في بعض الأحيان إلى حد نستطيع معه التردد في الاعتقاد بأنه مخالف للاستعمال الجاري في كل العصور، وبالتالي فقد كانت المسألة، بسهولة، هي مسألة تصحيح للنص، لا وضع تعليق في الهامش، هذه الحجة لا أهتم بها كثيرا، فأنا لا أصر على معرفة أي نوع من الاحترام الديني أجبر النساخ على عدم تصحيح النص. وربما قاموا بدافع من النزاهة، حتى ينقلوا التوراة للخلف كما هي بهذا العدد القليل من الأصول، وأرادوا أن يصوروا التعارض بين الأصول على أنه تنوع في الصيغة، وليس قراءات مشكوكا فيها. والواقع أنني لم أسمها قراءات مشكوكا فيها إلا لأني في أغلب الأحيان لا أعلم حقيقة أيهما أفضل. وبالإضافة إلى هذه القراءات المشكوك فيها نبه النساخ (بتركهم مسافة خالية في وسط الفقرة) إلى فقرات كثيرة منقوصة يحصيها الماسوريون بثمان وعشرين فقرة منقوصة. ولا أدري إن كان هذا العدد في رأيهم يدل بدوره على سر، على أن الفريسيين، على الأقل، يراعون، بتقديس ديني، مقدار هذه المسافة الخالية. ويوجد مثال في «التكوين» (إذ إنني أود أن أعطي مثالا واحدا) (4: 8) يقول فيه النص: «وقال قايين لهابيل أخيه ... فلما كان في الصحراء قايين ... إلخ.» وهنا لا نستطيع أن نعلم ماذا قال قايين لأخيه؛ فها هنا جزء مفقود، وقد ذكر النساخ ثمانية وعشرين جزءا قد فقدوا من هذا النوع (بالإضافة إلى ما ذكرناه من قبل)، ومع ذلك، لا يبدو كثير من هذه الفقرات المذكورة منقوصة لو لم تكن هذه المسافة الخالية قد تركت، ولكن حسبنا ما قلناه في هذا الموضوع.
الفصل العاشر
فحص باقي أسفار العهد القديم بالطريقة نفسها
أنتقل الآن إلى أسفار العهد القديم الأخرى، ففيما يتعلق بسفري الأخبار لن أقول شيئا يقينيا ذا قيمة سوى أنهما قد كتبا بعد عزرا بمدة طويلة، وربما بعد أن أعاد يهوداس المكابي
1 ⋆
بناء المعبد؛ إذ يخبرنا الراوي في الإصحاح 9 من السفر الأول عن الأسر التي كانت تسكن أورشليم في الأصل (أي في زمان عزرا) وبعد ذلك يذكر في الآية 17 أسماء «حراس الباب»
2
الذين ذكر منهم اثنان في نحميا أيضا (11: 19)،
3
وهذا يدل على أن هذه الأسفار قد كتبت بعد إعادة بناء المعبد بمدة طويلة. وأنا لا أعلم شيئا يقينيا عن مؤلفيها الحقيقيين وعن السلطة التي يجب الاعتراف بها لها، وعن فائدتها، والعقيدة التي تعرضها، بل إني لأعجب كيف أدخلت هذه الأسفار في عداد الكتب المقدسة على حين أخرج سفر الحكمة
4
من الكتب المقننة، وكذلك سفر طوبى وبعض الأسفار الأخرى التي يقال إنها منتحلة. ولا أقصد هنا أن أقلل من سلطتها، فما دام الجميع يسلمون بها فإني أتركها كما هي بوضعها الحالي.
وقد جمعت المزامير بدورها وقسمت إلى خمسة أسفار بعد إعادة بناء المعبد، ويشهد فيلون اليهودي
5
بأن المزمور 88 قد كتب وما زال الملك يواكين في السجن في بابل، وكتب المزمور 89 بعد إطلاق سراحه. وما كان فيلون ليقول ذلك أبدا - فيما أعتقد - لو لم تكن هذه الفكرة متواترة في عصره أو ما لم يكن قد تلاها من الثقات. وأعتقد أن أمثال سليمان قد جمعت في العصر نفسه أو على الأقل في زمان الملك يوشيا؛
6
وذلك لأنه جاء في الإصحاح 24، الآية الأخيرة، ما يلي: «هذه هي أمثال سليمان التي نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا» (الأمثال، 25: 1). ولا يفوتني هنا أن أشير إلى تبجح الأحبار الذين أرادوا إخراج السفر، ومعه سفر الجامعة، من مجموع الكتب المقننة والاحتفاظ سرا بأسفار أخرى ليست لدينا. ولقد كانوا خليقين بأن يفعلوا ذلك لو لم يجدوا بعض الفقرات التي يوصى فيها بشريعة موسى. والحق أنه لمن المؤسف أن الأشياء المقدسة والأفضل من بينها، كانت متوقفة على اختيار أناس كهؤلاء . صحيح أنني أحمد لهم تفضلهم بنقل هذه الأسفار إلينا، ولكن لا أجد مع ذلك مفرا من التساؤل عما إذا كانوا نقلوها بكل الأمانة والنزاهة اللازمين، وإن كنت لا أود مع ذلك أن أفحص هذه المسألة فحصا دقيقا.
أنتقل إذن إلى أسفار الأنبياء، وعندما أفحصها أجد أن النبوات التي جمعت فيها قد أخذت من كتب أخرى ورتبت ترتيبا معينا لم يكن دائما هو الترتيب الذي سار عليه الأنبياء في أقوالهم أو في كتاباتهم. كذلك، فإن هذه الأسفار لا تتضمن جميع النبوات، بل بعض النبوات التي أمكن العثور عليها هنا وهناك، وإذن فليست هذه الأسفار إلا مجرد شذرات من الأنباء، فقد بدأ أشعيا نبوته في حكم عزيا، كما يشهد الناسخ في الآية الأولى،
7
ولكنه لم يقتصر، في ذلك العهد، على التنبؤ، بل كتب أيضا جميع أفعال هذا الملك (انظر: الأخبار الثاني، 26: 22)،
8
ولكنا لا نملك كتابه هذا، بل إن ما لدينا منه قد نقل عن أخبار ملوك يهوذا وإسرائيل، كما بينا من قبل، كما ينبغي أن نضيف أن نبوة هذا النبي - على ما يقول الأحبار - استمرت في حكم منسي
9
الذي قتله في النهاية. ومع أن هذه القصة تبدو خرافية، إلا أنها تدل على أنهم لم يعتقدوا أنهم حصلوا على نبوات أشعيا كاملة، وبالمثل، فإن نبوات إرميا التي صيغت على شكل رواية هي مجموعة من الفقرات المأخوذة من كتب الأخبار المختلفة، هذا بالإضافة إلى أنها تكون خليطا دون ترتيب ودون مراعاة للتواريخ، كما توجد بها روايات للقصة الواحدة. وهكذا نجد الإصحاح 21 يشير إلى سبب القبض على إرميا
10
أول مرة، بعد أن تنبأ لصدقيا
11 - الذي أتى لاستشارته - بخراب المدينة، ثم تقطع الرواية، وفي الإصحاح 22 نجد الخطاب الذي ألقاه إرميا أمام يواكين الذي حكم قبل صدقيا، ونجده يتنبأ بأسر الملك،
12
وبعد ذلك يتحدث الإصحاح 25 عن الوحي الذي حدث قبل ذلك، أعني في السنة الرابعة من حكم يواكين.
13
وتحتوي الإصحاحات التالية على الوحي الذي حدث للنبي في السنة الأولى لحكم الملك، وتستمر في تكديس النبوات دون أية مراعاة لترتيبها الزمني، حتى تستأنف أخيرا في الإصحاح 38، الرواية التي بدأت في الإصحاح 21 (وكأن الإصحاحات الخمسة عشر الواقعة بين الإصحاحين مجرد استطراد).
14
فالواقع أن السياق الذي يبدأ به الإصحاح 38 يرتبط بالآيات 8، 9، 10 من الإصحاح 21،
15
ثم تحشر في هذا الموضع رواية عن القبض على إرميا، في المرة الأخيرة، مختلفة تماما عن رواية الإصحاح 37، وكذلك يروي سبب حجزه الطويل في غياهب السجن بطريقة مختلفة كل الاختلاف.
16
يتضح لنا إذن أن كل هذا الجزء من سفر إرميا مجموعة من النصوص مأخوذة من مؤرخين، وأنه لا يوجد سبب آخر يفسر هذا الخلط. أما النبوات الأخرى المتضمنة في باقي الإصحاحات التي يتحدث فيها إرميا بضمير المتكلم، فيبدو أنها منقولة من كتاب لباروخ أملاه إرميا نفسه، إذ لا يحتوي هذا الكتاب (كما هو واضح في الإصحاح، 36: 2)،
17
إلا على الوحي الذي حدث لهذا النبي منذ زمان يوشيا حتى السنة الرابعة من حكم يواكين، وفي هذا الوقت ذاته يبدأ سفر إرميا بدوره. كما يبدو أن النصوص الموجودة ابتداء من الإصحاح 45 الآية 2، حتى الإصحاح 51 الآية 59، مأخوذة من سفر باروخ.
18
أما سفر حزقيال فتشير الآيات الأولى بوضوح عام إلى أنه شذرة. فمن منا لا يدرك أن السياق الذي يبدأ به الكتاب يشير إلى أشياء ذكرت من قبل ويربطها بما سيتلو؟
19
ولا يقتصر الأمر على السياق وحده، بل يوحي النص كله بأن هناك جزءا ناقصا. فالإشارة إلى عمر النبي الذي بلغ ثلاثين عاما عندما بدأ السفر، تدل على أن الأمر لا يتعلق ببداية في النبوة، بل باستمرار لها.
20
وبالفعل يلاحظ الكاتب ذلك في هذا الاستطراد الوارد في الآية 3 (1: 3) «كانت كلمة الرب إلى حزقيال بن بوزي الكاهن في أرض الكلدانيين ... إلخ.» وكأنه يريد أن يقول: إن أقوال حزقيال المنقولة حتى ذلك الحين كانت تتعلق بوحي آخر، حدث له قبل أن يبلغ الثلاثين. وفضلا عن ذلك يروي يوسف في الكتاب العاشر من تاريخ اليهود القديم في الفصل السابع أنه طبقا لنبوة حزقيال ما كان لصدقيا أن يرى بابل، على أننا نقرأ مثل ذلك في السفر الذي في أيدينا، بل على العكس نجد في الإصحاح 17 أن صدقيا اقتيد أسيرا إلى بابل.
21 ⋆
أما سفر هوشع فإننا لا نستطيع أن نقول عن ثقة إنه كان أطول مما هو عليه الآن في السفر الذي يحمل اسمه، ولكني أعجب حقا من أننا لا نعرف شيئا أكثر من هذا عن رجل استمرت نبوته أكثر من أربع وثمانين سنة، كما يشهد الكاتب نفسه، ولكنا على الأقل نعلم، بوجه عام، أن من قاموا بتدوين أسفار الأنبياء لم يجمعوا نبوات جميع الأنبياء، كما لم يجمعوا كل نبوات من نعرف من الأنبياء. فنحن مثلا لا نعلم شيئا عن الأنبياء الذين استمرت نبواتهم تحت حكم منسي، والذين وردت إشارات عامة إليهم في سفر أخبار الأيام الثاني (33: 10، 18-19)،
22
كما أننا لا نعلم شيئا عن نبوات الأنبياء الاثني عشر المذكورين في الكتاب،
23
فلا يذكر عن يونس إلا نبواته عن النيناويين، مع أنه كان أيضا نبيا للإسرائيليين، كما نرى في «الملوك» (السفر الثاني، 14: 25).
24
أما عن سفر أيوب، وعن أيوب نفسه، فقد دارت مناقشات طويلة بين الشراح في هذا الصدد، فالبعض يظن أن موسى هو مؤلف هذا السفر، ويعتبرون القصة كلها مثلا للموعظة فقط، وهذا ما يقوله بعض الأحبار في التلمود، كما يذهب ابن ميمون في كتابه «موريح نبوخيم» إلى مثل هذا الرأي. والبعض الآخر يعتقد أنه قصة حقيقية، ومن هؤلاء الآخرين من يظن أن أيوب عاش في زمان يعقوب وتزوج ابنته دينة. وفي مقابل ذلك فإن ابن عزرا، الذي تحدثت عنه من قبل، يؤكد في شرح له على هذا السفر أنه ترجم إلى العبرية من لغة أخرى. وكم كنت أتمنى لو أنه برهن على ذلك بأدلة أوضح؛ إذ كان يمكننا أن نستنتج من ذلك أن غير اليهود كانت لهم بدورهم كتب مقدسة؛ لذلك أترك هذا الموضوع معلقا. ومع ذلك فإني أعتقد أن أيوب كان من غير اليهود، وكان يتميز بقدر عظيم من الصبر، بدأ حياته مزدهرا ثم عرف أشق المحن ثم أصبح سعيدا غاية السعادة في النهاية. ويذكره حزقيال في الإصحاح 14، الآية 14 مع آخرين،
25
وإني لأعتقد أيضا أن هذه التقلبات التي مر بها أيوب، وهذا الصبر الذي امتحن به قد أتاحت أكثر من فرصة للحديث عن عناية الله، أو على أقل تقدير أتاحت لمؤلف هذا الكتاب فرصة لتأليف حوار لا يبدو موضوعه وأسلوبه صادرين عن شقي أنهكه المرض وغطاه التراب، بل عن رجل متفرغ لا عمل له إلا التأمل في مكان مخصص لربات الشعر.
26
وربما كنت أميل إلى الاعتقاد مع ابن عزرا بأن هذا الكتاب مترجم عن لغة أخرى؛ لأنه يذكرنا بشعر غير اليهود، إذ يقال فيه إن أبا الآلهة دعا مجلسه للاجتماع مرتين، ولكن موموس،
27
الذي يسمى هنا الشيطان، نقل كلام الله بتصرف كبير ... إلخ. ولكن هذه مجرد افتراضات غير مؤكدة.
ولننتقل الآن إلى سفر دانيال، هذا السفر يحتوي بلا شك على النص نفسه الذي كتبه دانيال ابتداء من الإصحاح 8. أما الإصحاحات السبعة الأولى
28
فلا أعلم مصدرها. ولما كانت باستثناء الإصحاح الأول مكتوبة باللغة الكلدانية،
29
فيمكننا أن نفترض أنها أخذت من كتب الأخبار الكلدانية، ولو أمكن إثبات ذلك بوضوح، لكان شاهدا قويا على صحة الفكرة القائلة بأن الكتاب مقدس من حيث إننا نعرف عن طريقه معاني الأشياء التي يدل عليها، لا من حيث إننا نعرف الكلمات أي اللغة والعبارات التي استعملها في التعبير عن هذه الأشياء، وبأن كتب العقائد أو التاريخ التي تحتوي على تعاليم طيبة تكون أيضا مقدسة، أيا كانت اللغة التي كتبت بها، والأمة التي خاطبتها. وعلى أية حال، نستطيع على الأقل أن نذكر أن هذه الإصحاحات قد دونت بالكلدانية، وأن ذلك لم يقلل من قدسيتها بالنسبة إلى الأسفار الأخرى في التوراة.
ويرتبط سفر عزرا بسفر دانيال هذا على نحو يسهل معه إدراك أن كاتبهما واحد استمر في كتابة تاريخ اليهود منذ وقوعهم في الأسر الأول، ولا أتردد في ربط سفر إستير بسفر عزرا هذا؛ لأن السياق الذي يبدأ به لا يشير إلى سفر آخر ولا ينبغي أن نعتقد أن سفر إسيتر هذا هو الكتاب نفسه الذي دونه مردخاي،
30
ففي الإصحاح 9، الآيات 20-22
31
يذكر المؤلف أن مردخاي كتب رسائل ويعرفنا بمحتواها، كما يقص علينا في الآية 31 من الإصحاح نفسه
32
أن الملكة إستير نظمت الاحتفال بعيد القرعة (فوريم) وقد دون مرسومها في السفر، أي (إذا شئنا أن نعطي الكلمة معناها في العبرية) في كتاب يعرفه الجميع في الوقت الذي كان يكتب فيه الراوي، على أن ابن عزرا يسلم، كما يضطر آخرون كثيرون إلى التسليم معه، أن هذا الكتاب قد فقد في الوقت الذي فقدت فيه الكتب الأخرى. وأخيرا، فإن القصة تحيل إلى أخبار ملوك الفرس للحصول على معلومات أخرى عن مردخاي. وإذن فلا ينبغي الشك في أن مؤلف هذا السفر هو الراوي نفسه الذي كتب قصة دانيال وقصة عزرا، وكذلك سفر نحميا
33
لأنه يسمى أيضا بالسفر الثاني لعزرا. وإذن فنحن نؤكد أن هذه الأسفار الأربعة: دانيا وعزرا وإستير ونحميا، قد كتبها مؤرخ واحد.
34 ⋆
أما من يكون هذا المؤرخ، فإني لا أستطيع حتى مجرد التخمين به. أما إذا شئنا معرفة المصدر الذي استمد منه هذا المؤرخ، أيا كان، معلوماته عن هذه القصص وربما نقل عنه معظم أجزائها، فيجب أن نذكر أن القضاة أو الأمراء الأوائل عند اليهود بعد بناء المعبد - شأنهم شأن ملوكهم في الإمبراطورية القديمة - كان لديهم كتبة أو مؤرخون يكتبون تواريخ السنين وأخبار الأيام حسب الترتيب الزمني. وقد ذكرت هذه التواريخ والأخبار في مواضع عديدة من أسفار الملوك، كما ذكرت أخبار وتواريخ الأمراء وكهنة المعبد الثاني أولا في سفر نحميا (12: 23).
35
ثم في سفر المكابيين الأول (16: 24).
36
ولا شك أن هذا هو الكتاب (انظر إستير، 9: 32)
37
الذي تحدثنا عنه منذ قليل، والذي يحتوي على مرسوم إستير وما كتبه مردخاي، وهو الكتاب الذي قلنا عنه مع ابن عزرا إنه مفقود. وإذن فمن هذا الكتاب يبدو أن كل مضمون الأسفار الأربعة التي ذكرناها من قبل في العهد القديم، قد أخذ أو نقل؛ إذ إن مؤلفها لم يذكر أي سفر غيره، كما لا نعلم لأي كتاب آخر غيره سلطة يعترف بها الجميع. كذلك لم يكتب هذه الأسفار عزرا أو نحميا، مما يتضح من القائمة التي يعطيها نحميا (12: 10، 11)
38
خلفاء الكاهن الأعظم يشوع حتى يدوع الكاهن الأعظم السادس الذي سار أمام الإسكندر الأكبر بعد سقوط إمبراطورية الفرس (انظر يوسف: تاريخ اليهود القديم، الكتاب الحادي عشر، الفصل الثامن) وهو الذي سماه فيلون اليهودي في كتابه على العصور،
39
بالكاهن الأعظم السادس والأخير في ظل حكم الفرس. وقد أشار نحميا إلى ذلك في هذا الإصحاح نفسه، الآية 22، إذ يقول: «وكان اللاويون في أيام الياسيب ويوباداع ويوناثان (ويوحانان) ويدوع مكتوبين رؤساء آباء وكذلك الكهنة في ملك
40 ⋆
داريوس الفارسي.» وتعني كلمة «مكتوبين» هنا أنهم كانوا مكتوبين في الأخبار، وأعتقد أنه لا يمكن أن يخطر على بال أحد أن عزرا
41 ⋆
أو نحميا عاش طيلة حكم الملوك الفرس الأربعة عشر، فقد كان قورش هو أول من سمح لليهود بإعادة بناء المعبد، وقد مضت منذ هذه اللحظة حتى داريوس آخر ملوك الفرس الأربعة عشر أكثر من مائتين وثلاثين سنة. لذلك أعتقد بلا تردد أن هذه الأسفار قد دونت بعد أن أعاد يهوداس المكابي
42
الشعائر إلى المعبد من جديد بمدة طويلة، وأنها دونت لأنه انتشرت في ذلك الحين كتب مزيفة لدانيال وعزرا وإستير كتبها قوم مغرضون، ينتمون ولا شك إلى شيعة الصدوقيين.
43
والواقع أن الفريسيين لم يقبلوا مطلقا هذه الأسفار، على ما أعلم. ومع أن بعضا من الأساطير المتضمنة فيما يسمى بالكتاب الرابع لعزرا موجودة في التلمود فلا ينبغي مع ذلك نسبتها إلى الفريسيين؛ إذ لا يوجد شارح منهم - إلا إذا كان في غاية الغباء - لم ير أن هذه الأساطير إضافة من مازح ثقيل. بل إنني أعتقد أن الدافع على هذا العمل الهزلي هو إضعاف الثقة في التراث المنقول أمام الملأ، وربما دونت هذه الأسفار ونشرت في ذلك العصر لتبين للشعب تحقق نبوات داينال لتقوية عاطفته الدينية وحتى لا ييأس من المستقبل أو من خلاصه من المصائب المتلاحقة عليه في ذلك الزمان. وسواء أكانت هذه الأسفار قد دونت في وقت مبكر أم في وقت متأخر، فقد تسربت إليها أخطاء كثيرة بسبب سرعة الناسخين الفائقة على ما أعتقد. والواقع أننا نجد في هذه الأسفار وفي غيرها، بل في هذه الأسفار أكثر من غيرها، بعضا من هذه التعليقات الهامشية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، وكذلك بعض الفقرات لا يمكن تفسيرها إلا بخطأ في النسخ. وقبل أن أبين ذلك، أود أن أنوه أننا إذا أردنا التسليم مع الفريسيين بأن التعليقات الهامشية لهذه النصوص ترجع إلى المؤلفين الأوائل للأسفار، فيجب أن نقول ضرورة - إن كان المؤلفون أكثر من واحد - إنهم أوردوها لأن نص أسفار الأخبار التي استمدوا منها معلوماتهم والتي نقلوها لم يكن مكتوبا بعناية، وأنهم لم يجرءوا على تصحيح نص قديم تركه الأجداد بالرغم من وضوح بعض الأخطاء. ولا أريد أن أرجع إلى موضوع ناقشناه من قبل، ومن ثم فسأنتقل الآن إلى بعض الأخطاء التي لم ترد ملاحظات عنها في الهامش: (1)
لا أدري عدد الأخطاء التي يتعين علي أن أقول إنها تسربت إلى الإصحاح الثاني من عزرا، ففي الآية 64
44
يذكر المجموع الكلي لجميع ما تم حصره في مجموعات في الإصحاح وهو 42360، ولكننا إذا قمنا بحساب المجاميع الجزئية وجدنا 29818 فقط. فهناك إذن خطأ في المجموع الكلي أو في المجاميع الجزئية. ومع ذلك يبدو أن المجموع الكلي صحيح لأن الكل قد حفظه كشيء جدير بالتذكر، على حين أن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المجاميع الجزئية، فلو كان الخطأ قد وقع في المجموع الكلي لأدركه الجميع في الحال ولقاموا بتصحيحه، وهذا ما يؤكده أيضا الإصحاح 7 من نحميا، الذي يكرر إصحاح عزرا هذا، (المسمى برسالة الأنساب)، كما تشير إلى ذلك صراحة الآية 5
45
والتي تتفق تماما مع الإشارة التي يعطيها سفر عزرا بشأن المجموع الكلي، على حين أن هناك اختلافات كثيرة فيما يتعلق بالمجاميع الجزئية، بعضها أقل مما ورد في عزرا والبعض الآخر أكثر، كما أن المجموع الكلي لهذه المجاميع الجزئية 31089. فلا يمكن إذن أن يكون هناك شك في وجود أخطاء كثيرة في المجاميع الجزئية وحدها، سواء ما ورد منها في عزرا أو في نحميا، ويبذل الشراح الذين يحاولون التوفيق بين هذه التناقضات الظاهرة قصارى جهدهم لاختلاق تفسير ما، ولا يرون أنهم بتقديسهم لحروف الكتاب وكلماته يضعون مؤلفي الأسفار موضع السخرية، كما لحظنا من قبل؛ إذ يجعلون منهم أناسا لم يكونوا يعرفون كيف يتحدثون أو ينظمون موضوعات حديثهم، بل إن كل ما يفعلونه هو أنهم يجعلون نص الكتاب الواضح غامضا تماما؛ ذلك لأنه إذا استباح المرء لنفسه أن يفسر جميع نصوص الكتب المقدسة على طريقتهم فلن يبقى لدينا نص واحد لا يمكن الشك في معناه الحقيقي. وليس هناك ما يدعو إلى التوقف كثيرا عند هذا الموضوع؛ لأني مقتنع تماما بأنه لو أراد مؤرخ ما محاكاة الطريقة التي ينسبونها بإيمانهم إلى مؤلفي التوراة، لانهالوا عليه هم أنفسهم بالسخرية والازدراء. وإذا كان هؤلاء الشراح يظنون أن المرء يجدف على الله عندما يقول: «إن الكتاب محرف في بعض نصوصه.» فإني أتساءل: أي اسم أطلقه على أولئك الذين يقحمون في الكتب المقدسة ما يشاءون من البدع؟ أولئك الذين يحطون من قدر المؤرخين المقدسين حتى يبدوا وكأنهم يهذون ويخلطون في كل شيء؟ أولئك الذين يرفضون من الكتاب أوضحه وأكثره بداهة؟ فأي شيء في الكتاب أوضح مما قصد إليه عزرا ورفاقه في رسالة الأنساب المكررة في الإصحاح 2 من الكتاب الذي يحمل اسمه، عندما قسموا في مجموعات العدد الكلي للإسرائيليين الذين ذهبوا إلى أورشليم؟ لا سيما أنهم لا يعطوننا فقط عدد من استطاعوا أن يعرفوا أنسابهم، بل ولا يعطوننا أيضا عدد من لم يستطيعوا معرفتها، أي شيء أوضح مما تذكره الآية 5 في الإصحاح 7
46
من نحميا من أن هذا الإصحاح منقول حرفيا من هذه الرسالة؟ إن من يقومون بتفسير هذه النصوص على خلاف ذلك إنما ينكرون المعنى الحقيقي للكتاب، وبالتالي ينكرون الكتاب نفسه، وذلك إذ يعتقدون أنهم يثبتون تقواهم بالتوفيق بأي ثمن بين نص في الكتاب والنصوص الأخرى، ويا لها من تقوى تدعو إلى السخرية تلك التي توفق بين نص واضح ونص غامض،
47
وتخلط بين الصادق والكاذب وتبطل الصحيح بالفاسد. ومع ذلك لا أريد أن أصفهم بأنهم مجدفون على الله، لأنهم حسنو النية، وكل إنسان معرض للخطأ. ومع ذلك فلأعد الآن إلى موضوعي الأول، فبالإضافة إلى الأخطاء التي يجب أن نعترف بها في المجاميع الكلية لرسالة الأنساب، سواء أكانت تلك هي المجاميع المذكورة في «عزرا» أم في «نحميا»، فإنا نلحظ أخطاء كثيرة في أسماء العائلات نفسها، وكذلك في الأنساب وفي الروايات، وأخشى أن أقول في النبوات نفسها. فالواقع أن نبوة إرميا ليكونيا في الإصحاح 22 لا تبدو متفقة على الإطلاق مع قصة يكونيا
48 (انظر نهاية سفر الملوك الثامن وإرميا وأخبار الأيام الأول، 3: 17-19)،
49
ولا سيما كلمات الآية الأخيرة من هذا الإصحاح. ولست أدري أيضا كيف استطاع أن يقول عن صدقيا الذي اقتلعت عيناه عندما رأى أطفاله يقتلون: «بل تموت بسلام ... إلخ.» (انظر إرميا، 34: 5).
50
وإذا كان يجب علينا في تفسير النبوات أن نرجع إلى الواقعة نفسها، كان من الواجب تغيير الأسماء وإحلال اسم صدقيا واسم يكونيا كل محل الآخر، ولكن تلك حرية تصرف زائدة، والأفضل ترك هذا الموضوع جانبا لأن من المستحيل فهمه، لا سيما أنه إذا كان ثمة خطأ ها هنا، فيجب نسبته إلى الراوي لا إلى عيب في المخطوطات. أما الأخطاء الأخرى التي تحدث عنها فلا أعتقد أنه يجب علي ذكرها هنا، لأني لا أستطيع أن أفعل ذلك دون أن أسبب للقارئ مللا شديدا، فضلا عن أن الكثيرين قد سبق لهم ملاحظة هذه الأخطاء، فقد اضطر الحبر سليمان، بسبب ما لحظه من تناقضات صارخة في الأنساب المروية، إلى الوصول إلى النتيجة الآتية: (انظر شرحه على السفر الأول، الإصحاح 8 من أخبار الأيام): «إذا كان عزرا (الذي يظنه مؤلف أخبار الأيام) قد أطلق على بني بنيامين أسماء أخرى، وأعطى ذريته نسبا مخالفا لما هو موجود في «التكوين»، وإذا كان يعطي عن معظم مدن اللاويين معلومات غير التي يعطيها يشوع؛ فذلك لأنه عرف أصولا مختلفة.» ثم يقول بعد ذلك بقليل : «إذا كانت ذرية أبيجبعون
51
وآخرين غيره قد ذكرت مرتين بطريقتين مختلفتين فذلك لأن عزرا استعمل لكل ذرية وثائق مختلفة، وتابع في ترديده لها الاتجاه الذي توحي به أغلبية الوثائق. أما إذا كان عدد الأنساب المتعارضة هو العدد نفسه في الحالتين فإنه يكون منقولا عن النسختين.» وإذن، فالحبر سليمان يسلم تسليما تاما بأن هذه الكتب قد نقلت من أصول لم تكن على قدر كبير من الصحة أو اليقين. وعندما يحاول الشراح، في أغلب الأحيان، التوفيق بين النصوص المختلفة المتعارضة، لا يفعلون حقيقة أكثر من إظهارهم أسباب الخطأ. وأخيرا، ففي تقديري أن ليس هناك فرد واحد ذو حكم سليم يعترف بأن المؤرخين المقدسين أرادوا أن يكتبوا بهذه الطريقة عمدا بحيث يكون النص في المواضع المختلفة متناقضا مع نفسه، فإن قال قائل: إن طريقتي هذه في معالجة الكتاب تقلبه رأسا على عقب،
52
إذ يستطيع كل فرد، باستعمال هذا المنهج، أن يشك فيه ويعتبره باطلا من أوله إلى آخره، ولكني على العكس من ذلك، بينت أنني، بهذا المنهج، قد نجحت في حماية النصوص الواضحة والصحيحة من أن تحرف وتشوه بوساطة النصوص الباطلة التي يراد جعلها متفقة معها، وليس فساد بعض النصوص سببا في الشك في صحة النصوص كلها؛ إذ لا يسلم كتاب من الخطأ، فهل شك أحد في صحة كتاب بأكمله لوقوع بعض الخطأ فيه؟ لم يحدث ذلك مطلقا وخاصة إذا كان النص واضحا وفكر المؤلف مفهوما.
وبهذا أكون قد انتهيت من الملاحظات التي كنت أود إبداءها على أسفار العهد القديم، ومنها يظهر بوضوح أنه لم تكن هناك مجموعة مقننة من الكتب المقدسة
53 ⋆
قبل عصر المكابيين. أما الكتب المقننة الموجودة الآن فقد اختارها فريسيو المعبد الثاني من بين كثير غيرها وذلك بقرار منهم فحسب، وهؤلاء هم أيضا واضعو صيغ الصلاة؛ وعلى ذلك، فإن من يريد إثبات سلطة الكتاب عليه أن يثبت سلطة كل سفر. ولا يكفي إثبات المصدر الإلهي لأحد الأسفار كي نستنتج المصدر الإلهي للأسفار كلها، وإلا لكنا نسلم بأن الفريسيين لم يكن من الممكن أن يرتكبوا أي خطأ في اختيارهم للأسفار. وهذا ما لا يستطيع أحد إثباته مطلقا. أما السبب الذي يجعلني أسلم بأن الفريسيين وحدهم هم الذين اختاروا أسفار العهد القديم ووضعوها في المجموعة المقننة، فهو أولا نبوءة سفر دانيال (الإصحاح الأخير، الآية 2)
54
ببعث الموتى، وهو البعث الذي رفضه الصدوقيون، وثانيا ما أشار إليه الفريسيون أنفسهم بالتحديد في التلمود، فنحن نقرأ في رسالة السبت (الفصل 2، الورقة 30، ص2): «قال الحبر يهوذا المسمى ربي، أراد الأذكياء إخفاء سفر الجامعة لأن أقوالهم مناقضة لأقوال الشريعة (أي سفر شريعة موسى)، ولكن لماذا لم يخفوه؟ لأنه يبدأ طبقا للشريعة وينتهي طبقا للشريعة.» ويقول بعد ذلك بقليل: «وأرادوا أيضا إخفاء سفر الأمثال ... إلخ.» وأخيرا نقرأ في الرسالة نفسها (الفصل الأول، الورقة 13، ص2): «كان هذا الرجل المدعو نيخونيا
55
بن حزقيا مشهورا بحرصه وعنايته، إذ لولاه لاختفى سفر حزقيال لأن أقواله تناقض أقوال الشريعة.» ومن ذلك نرى بوضوح تام أن رجالا متفقهين في الشريعة قد اجتمعوا ليقرروا أي الأسفار يجب وضعها بين الكتب المقدسة، وأيها يجب استبعادها. وإذن فمن يريد التأكد من سلطة جميع هذه الأسفار، عليه أن يضع نفسه في هذا المجلس وأن يبدأ المداولات مطالبا بمعرفة أحقية كل منها بأن تكون له هذه السلطة.
والآن، حان الوقت لفحص أسفار العهد الجديد على النحو نفسه، غير أني أعلم أن رجالا على قدر كبير من العلم، وخاصة في علم اللغات قد قاموا بهذا العمل من قبل. أما أنا فليست لدي معرفة كاملة باللغة اليونانية كي أخاطر بمثل هذا العمل. وأخيرا، فليست لدينا النصوص الأصلية للأسفار المعروفة بالعبرية؛ لذلك أفضل ألا أخوض في هذا المجال،
56
إلا أنني أعتقد أنه من واجبي أن أذكر الآن أهم النقاط التي تتعلق بمشروعي هذا.
الفصل الحادي عشر
مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم
بوصفهم حواريين وأنبياء
مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين وأنبياء أم بوصفهم معلمين، ثم في دور الحواريين. ***
لا يستطيع أحد أن يقرأ العهد الجديد دون أن يقتنع بأن الحواريين كانوا أنبياء،
1
ولكن الأنبياء لم يكونوا يتحدثون دائما عن وحي، بل على العكس من ذلك كان هذا نادرا للغاية، كما بينا في آخر الفصل الأول، وبالتالي نستطيع أن نتساءل إن كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم أنبياء بناء على وحي وتفويض خاص، مثل موسى وإرميا وغيرهم، أو بوصفهم أفرادا عاديين ومعلمين، خاصة أن بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (14: 6)
2
يميز بين نوعين من التبشير؛ تبشير يعتمد على وحي، وتبشير يعتمد على معرفة. فيمكنا إذن أن نتساءل إن كان الحواريون في «الرسائل» يتحدثون بوصفهم أنبياء أو يعلمون بوصفهم فقهاء. والآن فإذا فحصنا أسلوب «الرسائل» وجدنا أنه يختلف تماما عن أسلوب النبوة، فالأنبياء كانوا يؤكدون دائما أنهم يتحدثون بتفويض من الله: «هذا هو كلام الرب، يقول رب الجيوش، بأمر الرب ... إلخ.» وليس ذلك في الأحاديث التي يلقونها علنا فقط، بل أيضا في الرسائل التي تتضمن وحيا، كما هو واضح في رسالة إيليا إلى يورام
3 ⋆ (انظر: سفر الأخبار الثاني، 21: 12) التي تبدأ أيضا بهذه الكلمات: «هذا هو كلام الرب.» أما في رسائل الحواريين فلا نجد شيئا كهذا، بل على العكس يتحدث بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (7: 40)
4
وفقا لتفكيره الخاص. بل إننا نجد في فقرات كثيرة طرقا في الكلام تنم عن نفس مزعزعة مضطربة مثل: (رسالة إلى أهل رومية، 3: 28) «لأننا نحسب»
5 ⋆
وكذلك (8: 18): «وإني أحسب» وفقرات كثيرة أخرى مشابهة، وكذلك نجد طرقا للكلام بعيدة كل البعد عن السلطة النبوية، مثل: «وأنا إنما أقول الحق ذلك على سبيل الإباحة
6
لا على سبيل الأمر» (انظر الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، 7: 6). «فليس فيها عندي وصية من الرب لكني أفيدكم فيها مشهورة بما أن الرب رحمني أن أكون أمينا» (انظر الرسالة نفسها، 7: 25). وفقرات كثيرة أخرى مشابهة. ويلاحظ أنه عندما يقول في الإصحاح السالف الذكر إن لديه تفويضا أو أوامر من الله، أو على العكس ليس لديه ذلك، فإنه لا يعني أمرا أو تفويضا أوحى به الله إليه، بل يعني فقط التعاليم التي أعطاها المسيح لتلاميذه على الجبل. ومن ناحية أخرى، فإذا فحصنا الطريقة التي نقل بها الحواريون عقيدة الإنجيل، نجد أنها تختلف اختلافا كبيرا عن طريقة الأنبياء، فالحواريون يستعملون الاستدلال في كل الأحيان، حتى ليبدو أنهم لا يتنبأون بل يجادلون. وعلى العكس، لا تحتوي النبوات إلا على عقائد وأوامر، لأن الله نفسه هو الذي يتحدث؛ أعني الله الذي لا يستدل، بل يأمر بما له من سلطة مطلقة تقضي بها طبيعته، وهذا يرجع أيضا إلى أن سلطة النبي لا تتلاءم مع الاستدلال، فمن يريد إثبات العقائد التي يعتنقها بالاستدلال، يخضعها بذلك لحكم كل فرد، ويبدو أن هذا هو ما يفعله بولس، وذلك على وجه التحديد أنه يستدل، فهو في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (10: 15) يقول: «أقول كما يقول الحكماء فاحكموا أنتم فيما أقول.» وأخيرا، فقد كان الرسل - كما بينا في الفصل الأول - يبلغوننا في الأمور الموحى بها، لا بالأمور التي لا يمكن إدراكها بالنور الطبيعي، أي بالاستدلال. ومع أننا نستطيع أن نجد في الأسفار الخمسة - على ما يبدو - بعض الأمور التي يستدل عليها، إلا أننا لو دققنا النظر لوجدنا أنه من المستحيل أن نعد هذه الاستدلالات حججا قاطعة. فعندما يقول موسى مثلا للإسرائيليين (التثنية، 31: 27): «... فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي.» لا ينبغي أن نفهم هذه العبارة وكأن موسى أراد أن يقنع الإسرائيليين عن طريق الاستدلال بأنهم بعد موته سيبتعدون بالضرورة عن عبادة الله الحقيقية؛ فالواقع أن الحجة تصبح في هذه الحالة باطلة، وهو ما يمكن البرهنة عليه بالكتاب نفسه، فقد ظل الإسرائيليون متبعين الطريق المستقيم في حياة يشوع و«القدماء» وبعد ذلك في ظل حكم صموئيل وداود وسليمان ... إلخ. فعبارة موسى إذن تأكيد خلقي ألقاها كخطيب وتنبأ فيها بتدهور الشعب في المستقبل بأسلوب فيه من الحيوية ما يعادل حيوية الصورة التي تمثلت لذهنه في هذا الموضوع. والسبب الذي يمنعني من التسليم بأن موسى قد تحدث باسمه حتى يجعل نبوءته أكثر قبولا لدى الشعب، لا بوصفه نبيا تلقى وحيا، وهو ما يذكر في الآية 21 من الإصحاح نفسه
7
من أن الله أوحى إلى موسى بألفاظ أخرى بهذه الهزيمة المستقبلة. ولا شك أنه لم يكن في حاجة إلى التأكد من حقيقة نبوءته ومن الأمر الإلهي باستدلالات ظنية، بل كان عليه حتما أن يتمثله حيا بالخيال، كما بينا في الفصل الأول. وكان خير ما يمكنه فعله لهذا الغرض هو أن يتخيل في المستقبل عصيان الشعب الذي طالما عانى في الحاضر. وبهذه الطريقة يجب أن نفهم جميع حجج موسى في الأسفار الخمسة؛ فهي ليست براهين التجأ فيها إلى العقل، بل طرق في الحديث عبر بها عن أوامر الله على نحو أكثر فاعلية، وتخيلها بها على نحو أكثر حيوية. ومع ذلك، لا أريد أن أنكر كلية قدرة الأنبياء على المحاجة، ابتداء من الوحي، ولكني أؤكد فقط أنهم كلما أحكموا حججهم اقتربت معرفتهم بأمور الوحي من المعرفة الطبيعية، خاصة ونحن نسلم بأن الأنبياء كانت لديهم معرفة فوق الطبيعة فيما يتعلق بالعقائد الخالصة والأوامر والأحكام التي يبشرون بها؛ لذلك لم يقم موسى، وهو أعظم الأنبياء، بأي استدلال حقيقي.
وعلى العكس من ذلك، أعتقد أن بولس لم يكتب الاستنتاجات الطويلة والحجج الموجودة في «الرسالة إلى أهل رومية» بفضل وحي يعلو على الطبيعة. وهكذا، فإن طرق حديث الحواريين وأسلوبهم في المناقشة - كما هو واضح في الرسائل - يدل بوضوح تام على أن هذه الكتابات لم تصدر عن وحي وبتفويض إلهي، بل هي مجرد أحكام شخصية وطبيعية لمؤلفيها، ولا تتضمن إلا نصائح أخوية مقترنة بتعبيرات مجاملة مهذبة (وهذا مناقض تماما للطريقة التي يعبر بها النبي عن سلطته) كما هي الحال في ذلك الاعتذار الذي يقدمه بولس (رسالة إلى أهل رومية، 15: 15): «لقد اجترأت قليلا فيما قلت لكم أيها الأخوة.» ونستطيع أن ننتهي إلى الاستنتاج نفسه إذا عرفنا أننا لا نجد في أي موضع ما يدل على أن الحواريين قد تلقوا أمرا بالكتابة، بل تلقوا فقط أمرا بالتبشير في كل مكان يذهبون إليه، وبتأييد أقوالهم بالآيات؛ إذ كان حضورهم ضروريا، وكذلك ما يقومون به من آيات لهداية الناس إلى الدين ولتثبيتهم عليه، كما يصرح بذلك بولس نفسه في «الرسالة إلى أهل رومية» (1: 11): «لأني أتشوق أن أراكم لأفيدكم شيئا من المواهب الروحية لتأييدكم.» ومع ذلك، قد يعترض معترض بأن بإمكاننا أن نستنتج بالطريقة نفسها أن تبشير الحواريين نفسه ليست له صفة النبوة، فعندما كانوا يرحلون للتبشير هنا وهناك، لم يقوموا بذلك بتفويض خاص، كما كانت الحال عند الأنبياء، فنحن نقرأ في العهد القديم أن يونس ذهب إلى نينوى للتبشير، ونقرأ في الوقت نفسه أنه بعث إليهم صراحة، وأوحي إليه بما كان عليه أن يبشر به. كذلك يروى لنا بالتفصيل عن موسى أنه رحل إلى مصر بوصفه رسولا لله، كما يروى لنا ما كان يتعين عليه أن يقوله للإسرائيليين والملك فرعون، وما هي الآيات التي يمكنه بها إقناعهم. كذلك تلقى أشعيا وإرميا وحزقيال أمرا صريحا بالتبشير للإسرائيليين. وأخيرا، لم يبشر الأنبياء بشيء إلا بما تلقوه من الله كما يشهد بذلك الكتاب، وذلك بخلاف الحواريين الذين كانوا يذهبون هنا وهناك للتبشير، دون أن نرى في العهد القديم أنهم قد تلقوا شيئا مشابها أو على الأقل لا نرى ذلك إلا نادرا للغاية. بل إننا نجد على العكس؛ إذ تشير بعض النصوص صراحة إلى أنهم اختاروا بأنفسهم وبمحض إرادتهم الأماكن التي بشروا فيها كما هو واضح في المناقشة التي وصلت إلى النزاع بين بولس وبرنابا (انظر: أعمال الرسل، 15: 37، 38 ... إلخ).
8
ونرى أيضا أنهم قد حاولوا الذهاب إلى مكان وأخفقوا في ذلك، كما يشهد بذلك بولس نفسه (رسالة إلى أهل رومية، 1: 13): «... كثيرا ما قصدت أن آتيكم فمنعت إلى الآن.» وفي الإصحاح 15 الآية 22: «وكذلك منعت مرارا كثيرة من القدوم إليكم.» وفي الإصحاح الأخير من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، الآية 12: «أما بولس الأخ فأخبركم أني سألته كثيرا أن يأتيكم مع الإخوة فلم يرد أن يأتي الآن البتة لكنه سيأتي إذا تيسر له الوقت ... إلخ.» من هذه اللغة، ومن المناقشة التي دارت بين الحواريين، ومن عدم وجود نصوص تشهد بأنهم كانوا يرحلون للتبشير بتفويض من الله، كما كان يفعل الأنبياء؛ من هذا كله نستنتج أن الحواريين قد قاموا بالتبشير بوصفهم معلمين لا بوصفهم أنبياء. ومع ذلك، فإن حل المشكلة ميسور لو فحصنا الرسالة المختلفة التي اضطلع بها كل من الحواريين وأنبياء العهد القديم، فهؤلاء الأخيرون لم يدعوا للتبشير وللتنبؤ كل الأمم، بل بعض الأمم بعينها؛ لذلك كان لا بد لكل نبي من تفويض صريح خاص به. وعلى العكس دعا الحواريون للتبشير للجميع على السواء، ولهداية الناس جميعا إلى الدين (الجديد). وحيثما تولوا كانوا ينفذون تفويض المسيح، ولم يكونوا في حاجة إلى أن توحى لهم موضوعات التبشير قبل أن يرحلوا وهم تلامذة المسيح الذين قال لهم المعلم: «فإذا أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بماذا تتكلمون فإنكم ستعطون في تلك الساعة ما تتكلمون به» (انظر: متى، 10: 19-20). نستطيع أن نستنتج أن الحواريين عرفوا بوحي خاص ما بشروا به جهرا وأيدوه في الوقت نفسه بالآيات (انظر ما بيناه في الفصل الثاني). أما ما اكتفوا بالدعوة إليه، دون تأييده بآيات، ودون كتابة أو جهر به، فقد كتبوه أو قالوه لأنهم كانوا يعرفونه
9 (معرفة طبيعية)، انظر في هذا الموضوع الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (14: 6).
10
ولا داعي هنا إلى التوقف عند الملاحظة القائلة: إن كل الرسائل تبدأ بذكر الحواري من حيث هو حواري، فقد أعطي الحواريون المقدرة على التنبؤ، وكذلك السلطة المطلوبة بالتبشير، كما سأبين ذلك الآن. وبهذا المعنى نقول: إنهم كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريين؛ ولهذا السبب ذاته ذكر كل منهم في أول رسالته صفته كحواري. ومن الجائز أنهم أرادوا أن يجتذبوا ذهن القارئ ويسترعوا انتباهه بطريقة أيسر، فأرادوا أن يشهدوا على أنهم هؤلاء الذين يعرفهم جميع المؤمنين بتبشيرهم، وهم الذين أثبتوا بشواهد واضحة أنهم يبشرون بالدين الصحيح وبطريق الخلاص. والواقع أن كل ما قالوه في رسائلهم عن الرسالة التي يضطلع بها الحواريون، أو عن الروح القدس الإلهية التي كانت فيهم، يرتبط - فيما أعلم - بتبشيرهم، باستثناء الفقرات التي استخدم فيها التعبير: «روح الله» أو «الروح القدس» بمعنى الفكر الصائب المستقيم المستوحى من الله ... إلخ (وقد شرحنا ذلك في الفصل الأول). يقول بولس مثلا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (7: 40): «غير أنها تكون أكثر غبطة إن بقيت على ما هي عليه بحسب مشورتي وأظن أني أنا أيضا في روح الله.» فهو يقصد في هذا النص بروح الله فكره الخاص، كما يفيد السياق، فهو يريد أن يقول: إني أحكم على الأرملة التي لا تريد أن تتزوج من جديد بأنها سعيدة طبقا لرأيي الخاص، أنا الذي قررت أن أعيش عزبا وأعتقد أني سعيد بذلك. وهناك نصوص أخرى كثيرة تفيد المعنى نفسه لا داعي لذكرها. ولكن لما كان علينا أن نسلم بأن رسائل الحواريين قد كتبت بوحي من النور الطبيعي وحده، فعلينا الآن أن نرى كيف استطاع الحواريون بالمعرفة الطبيعية وحدها أن يبشروا بما لا يدخل في نطاقها. على أننا إذا أخذنا في اعتبارنا النظرية التي عرضناها في الفصل السابق من هذه الرسالة (عن تفسير الكتاب) اختفت كل الصعوبات، فمع أن مضمون التوراة يتعدى دائما حدود فهمنا إلا أننا نستطيع أن نعمل على توضيحه ونحن مطمئنون، بشرط ألا نسلم بمبادئ سوى تلك التي نستخلصها من الكتاب نفسه، وبالطريقة نفسها كان الحواريون يستطيعون أن يستخلصوا نتائج عديدة مما رأوه وسمعوه وعرفوه بالوحي، وأن يبلغوه للناس إذا شاءوا.
11
وفضلا عن ذلك، فمع أن الدين كما بشر به الحواريون - أي مجرد رواية سيرة المسيح - لا ينتمي إلى مجال العقل، فإن كلا منهم قادر بالنور الفطري على إدراك جوهر الدين الذي يتألف أساسا، كما تتألف عقيدة المسيح كلها،
12 ⋆
من تعاليم خلقية. وأخيرا، لم يكن الحواريون في حاجة إلى نور يعلو على الطبيعة ليكيفوا الدين - بعد أن أثبتوا صدقه من قبل بالآيات - حسب فهم الناس حتى يسهل على كل نفس قبوله، كما لم يكونوا في حاجة إليه لتبكيت الناس. وقد كان هذا وذاك هما غاية الرسائل؛ أعني أنها كانت ترمي إلى دعوة الناس وتحذيرهم بالطريقة التي يراها كل حواري أصلح ليثبتهم على الدين. ويجب أن نتذكر هنا ما قلناه من قبل، من أن الحواريين لم تكن لديهم فحسب القدرة على التبشير بسيرة المسيح بوصفهم أنبياء أي بتأييدها بالآيات، بل كانت لديهم أيضا السلطة المطلوبة للدعوة والتحذير بالطريقة التي يراها كل حواري أصلح له.
13
ويشير بولس إلى هذين الهدفين في الرسالة الثانية إلى طيموتاوس (1: 11) «الذي لأجله نصبت أنا كارزا ورسولا ومعلما للأمم، نصبت أنا كارزا ورسولا، الحق أقول لا أكذب معلما للأمم في الإيمان الحق.» ولاحظ جيدا: «الحق أقول». إنه بهذه الكلمات يطالب بكلا الصفتين؛ صفة الحواري، وصفة المعلم. وهو يتحدث عن السلطة التي تسمح له بتبكيت الجميع في الرسالة إلى فيلمون قائلا (الآية 8): «ولذلك وإن كان لي بالمسيح يسوع أن آمرك بالواجب بجرأة كثيرة ...» وفي هذه الفقرة يجب أن نلحظ أنه لو كان بولس قد تلقى من الله بوصفه نبيا، لما أمكنه تغيير أوامر الله إلى توسلات. فيجب إذن أن نسلم ضرورة بأنه يتحدث عن الحرية التي كانت لديه في التبكيت بوصفه معلما لا بوصفه نبيا.
على أنه لا يتضح على نحو قاطع مما سبق أن الحواريين أمكنهم أن يختاروا في تعليمهم ما رأوا أنه أفضل الطرق، بل يتضح فقط أن رسالتهم كانت تعطيهم صفة المعلمين في الوقت نفسه الذي كانت تعطيهم فيه صفة الأنبياء. ونستطيع هنا بالفعل أن نلتجئ إلى العقل الذي يقرر حتما أنه من له سلطة التعليم تكون له أيضا سلطة اختيار الطريق الذي يفضله، ولكن من الأفضل إثبات ذلك بالكتاب وحده؛ إذ تقول النصوص صراحة: إن كل حواري قد اختار لنفسه طريقا شخصيا. يقول لنا بولس في الرسالة إلى أهل رومية (15: 2) «واعتنيت ألا أبشر بالإنجيل في موضع دعي فيه اسم المسيح لئلا أبني على أساس غيري.» فمن المؤكد أنه لو كان جميع الحواريين قد اتبع الطريق نفسه في الدعوة، وأقاموا جميعا دين المسيح على الأساس نفسه، لما استطاع بولس على أي نحو أن يصف الأساس الذي يرتكز عليه حواري آخر بأنه «أساس غيره»، لأن جميع الحواريين يكون لهم عندئذ الأساس نفسه.
14
ولكن لما كان بولس قد وصفه بأنه «أساس غيره»، فيجب أن نستنتج بالضرورة أن كل حواري كان يقيم الدين على أساس مختلف، وأن الحواريين، عندما كانوا يؤدون رسالتهم بوصفهم معلمين، كان في موقف المعلمين الآخرين نفسه الذين يتبع كل منهم منهجا خاصا به، والذين يفضلون تعليم من ظلوا في جهل تام، ولم يبدءوا في تلقي اللغات والعلوم من أي شخص آخر، حتى الرياضة التي لا يشك في صحتها أحد. ومن ناحية أخرى، فإذا قرأنا الرسائل بإمعان وجدنا أن الحواريين، بالرغم من اتفاقهم على الدين نفسه، كانوا يختلفون اختلافا ملحوظا على الأسس التي يقوم عليها.
15
فلكي يثبت بولس الناس في الدين ويبين لهم أن الخلاص لا يتم إلا بالفضل الإلهي، علمهم أنه لا يحق لأحد أن يتفاخر بأفعاله، بل بإيمانه فقط، وإن الأعمال لا تنقذ أحدا (انظر الرسالة إلى أهل رومية، 3: 27-28)،
16
وأستخلص من ذلك عقيدة القدرية كلها. أما يعقوب فإنه على العكس من ذلك يدعو في رسالته إلى أن خلاص الإنسان يتم بأعماله لا بإيمانه فقط
17 (انظر: رسالة يعقوب، 2: 24)،
18
ويجعل عقيدة الدين كلها تنحصر في هذه المبادئ القليلة وحدها، تاركا كل مناقشات بولس جانبا. وأخيرا، لا شك في أن هذا الاختلاف في الأسس التي يقيم عليها الحواريون الذي كان سببا لكثير من المنازعات والانقسامات التي ما زالت تعاني منها الكنيسة منذ زمن الحواريين؛ لا شك أنها ستظل تعاني منها إلى الأبد، حتى يأتي اليوم الذي ينفصل فيه الدين أخيرا عن التأملات الفلسفية ويقتصر على عدد صغير جدا من العقائد الشديدة اليسر التي دعا إليها المسيح نفسه. أما الحواريون فلم يستطيعوا ذلك لأن الناس كانوا يجهلون الإنجيل؛ وعلى ذلك فلكي لا يصدم الناس بشدة بهذه العقيدة الجديدة، كيفها الحواريون بقدر استطاعتهم مع روح عصرهم (انظر الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، 9: 19، 20 ... إلخ)،
19
وأقاموها على أكثر الأسس شيوعا وأوسعها قبولا في ذلك العصر؛ لذلك لم يتفلسف أي حواري بقدر ما تفلسف بولس الذي دعا للتبشير بين الأمم. أما الآخرون الذين كانوا يبشرون اليهود، المعروفين باحتقارهم للفلسفة، فقد تكيفوا حسب روح اليهود (انظر في هذا الموضوع في الرسالة إلى أهل غلاطية ، 2: 2 ... إلخ)
20
وعلموا الدين مجردا، خلوا من أية تأملات فلسفية. ولكم يسعد عصرنا لو أمكننا أن نرى الدين وقد حرر فيه بدوره من كل خرافة.
الفصل الثاني عشر
الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب
مقدسا
في الميثاق الحقيقي للشريعة الإلهية وفي سبب تسمية الكتاب مقدسا ووصفه بأنه كلام الله وفي أن الكتاب، بقدر ما يتضمن كلام الله، قد وصل إلينا دون تحريف. ***
إن من يعتقدون أن التوراة على ما هي عليه الآن رسالة من الله بعث بها من السماء إلى البشر، لن يفوتهم أن يصرخوا قائلين بأني ارتكبت الخطيئة في حق الروح القدس؛ إذ لقد قلت فعلا: إن كلام الله مزيف ومنقوص ومحرف، وإننا لا نملك منه إلا شذرات، وإن الميثاق الذي يشهد بعقد الله عهدا مع اليهود قد فقد. ومع ذلك، فإني لا أشك في أنهم لو وافقوا على فحص المسألة، لكفوا عن الاحتجاج. والحقيقة أن نصوص الأنبياء والحواريين نفسها هي التي تشهد أكثر مما يشهد العقل نفسه، بأن كلام الله الأبدي، وعهده والدين الحق، مسطور على نحو إلهي في قلب الإنسان أي في الفكر الإنساني، وهذا هو الميثاق الحقيقي
1
الذي طبعه الله بخاتمه
2
أي بفكرته وكأنه طبعه بصورة لألوهيته. ففي المبدأ اعطي الدين لليهود في صورة قانون مكتوب لأنهم كانوا وقتئذ أشبه بالأطفال.
3
ولكن موسى (التثنية، 30، 6)
4
وإرميا (31: 33)
5
تنبأ فيما بعد بأن زمانا سيأتي يسطر الله فيه الشريعة في قلوبهم. وإذن فاليهود وحدهم، ولا سيما الصدوقيين منهم،
6
هم الذين كان عليهم أن يكافحوا من أجل قانون مكتوب على ألواح، أما من كانوا يملكونه مدونا في قلوبهم فلم يكن عليهم أن يفعلوا شيئا من هذا، فمن يأخذ ذلك في اعتباره لن يجد في الفصول السابقة شيئا مناقضا أو مكذبا لكلام الله أي للدين الحق وللإيمان، بل على العكس سيرى أننا نوطد دعائمه، كما بينا أيضا في نهاية الفصل العاشر. ولو لم يكن ما أقول صحيحا لكنت قد قررت التزام الصمت في جميع هذه الموضوعات، ولسلمت راضيا، لكي أتجنب جميع المشكلات، بأن هناك أسرارا عميقة مخبأة في الكتب المقدسة. ولكن لما كانت قد نشأت خرافات لا يمكن قبولها من هذه الأسرار الكاذبة، التي هي مصدر كل الشرور الخطرة الأخرى التي تحدثت عنها في مقدمة الفصل السابع، فقد رأيت أن من واجبي ألا أتخلى عن فحص هذه المسائل، خاصة وأن الدين لا يحتاج إلى محسنات من الخرافة، بل على العكس تضيع روعته لو زيناه بمثل هذه الأوهام. ولكن قد يعترض بأنه على الرغم من أن القانون الإلهي مسطور في القلوب، فإن هذا لا يمنع من أن يظل الكتاب كلام الله، ومن ثم فلا يحق لأحد أن يقول عن الكتاب إنه منقوص ومحرف، تماما كما لا يحق لأحد أن يقول ذلك عن كلام الله. ولكني على العكس أخشى أن يؤدي التطرف في التقديس إلى تحويل الدين إلى خرافة، وأن ينصرف الناس إلى عبادة التماثيل والصور، أي الورق المسود، بدلا من كلام الله. وإني لأعلم أنني لم أقل شيئا ينال من الكتاب أو من كلام الله، لأني لم أعرض شيئا لم أبرهن على صحته ببراهين واضحة للغاية؛ ولهذا السبب أيضا أستطيع أن أؤكد واثقا أني لم أقل شيئا فيه كفر أو يشتم منه رائحة الكفر. وإني لأعترف بأن بعض الذين يعدون الدين عبثا ثقيلا عليهم، قد يستخلصون من هذه الرسالة ما يبيح لهم ارتكاب الإثم دون ما سبب سوى سعيهم وراء اللذات، وينتهون منها إلى أن الكتاب برمته معيب ومحرف، وبالتالي فلا سلطة له. وأنا لا أستطيع شيئا حيال هذه المساوئ، نظرا إلى هذه الحقيقة المعروفة وهي أنه يستحيل على الإنسان أن يقول شيئا يبلغ من الصواب حدا يستحيل معه تشويهه أو إساءة تأويله. ومن يريد السعي وراء اللذات يسهل عليه إيجاد المبررات لذلك، بل إن من كانوا، في الزمان الغابر، يملكون الأصول وتابوت العهد، بل كان بينهم الأنبياء والحواريون، لم يكونوا أفضل ولا أكثر طاعة، بل ظلوا جميعا - يهودا وغير يهود - على ما هم عليه، وظلت الفضيلة نادرة للغاية في كل عصر . ومع ذلك، فإن من واجبي، لكي أزيل أي تحرج أن أبين هنا أولا بأي معنى يقال عن الكتاب، أو عن أي شيء آخر ليس له صوت، إنه مقدس أو إلهي، وثانيا ما هو كلام الله حقيقة، وإنه لا يوجد في عدد معين من الأسفار، وأخيرا نبين أن الكتاب من حيث إنه يدعو إلى ما هو ضروري للطاعة والخلاص، لم يكن من الممكن أن يحرف، وبذلك يسهل على المرء الحكم بأننا لم نقل شيئا مناقضا لكلام الله، وأننا مبرءون من كل كفر.
يطلق اسم «مقدس» و«إلهي» على كل ما يؤدي إلى التقوى وإلى الدين،
7
ولا يظل الشيء مقدسا إلا إذا استمر الناس في استخدامه على نحو ديني، فإذا لم يعودوا أتقياء، ضاعت قدسية ما كان مقدسا من قبل، فمثلا أطلق البطريق يعقوب على مكان ما اسم «مسكن الله» لأنه عبد الله الذي أوحى إليه في هذا المكان. أما الأنبياء فقد أطلقوا على المكان نفسه اسم «مسكن الطغيان» (انظر عاموس، 5: 5، هوشع، 10: 5)
8
لأن الإسرائيليين اعتادوا، تنفيذا لمشيئة ياربعام، على التضحية فيه للأوثان. وهناك مثل آخر يوضح هذه المسألة تماما، وهو أن الكلمات لا تدل على معان مضبوطة إلا في الاستعمال، فإذا كانت في هذا الاستعمال قادرة على أن تحث من يقرءونها على التقوى، أصبحت هذه الكلمات مقدسة، وأصبح الكتاب الذي نظمت فيه هذه الكلمات مقدسا، أما إذا حدث بعد ذلك أن بطل الاستعمال إلى حد أن الكلمات لا يعود لها أي مدلول، أو أهمل الكتاب إهمالا تاما، إما لخبث البشر أو لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون به، عندئذ تضيع فائدة الكلمات والكتاب معا، ولا تعود لهما أية قداسة. وأخيرا، إذا اختلف مدلول الكلمات، أو شاع استعمالها بمدلولات مضادة، تصبح الكلمات، وكذلك الكتاب، اللذين كانا مقدسين من قبل، دنسين لا قدسية فيهما. نستنتج من ذلك أنه لا يوجد شيء على الإطلاق مقدس أو دنس لا قدسية فيه خارج الفكر، بل إنه لا يكون كذلك إلا بالنسبة إلى الفكر، وهذا ما يمكن البرهنة عليه بوضوح تام بنصوص عديدة من الكتاب. وسأعطي لذلك مثلا أو مثلين، يقول إرميا (7: 4)
9
إن يهود زمانه قد أطلقوا بطلانا على معبد سليمان اسم معبد الله، ثم يعلل ذلك في الإصحاح نفسه بقوله: إن اسم الله لا يمكن أن يرتبط بهذا المعبد إلا إذا كان الناس الذين يؤمونه يمجدون الله ويدافعون عن العدالة، فإذا أمه القتلة واللصوص وعبدة الأوثان وسائر المجرمين، يصبح حينئذ مأوى للأشرار. وكثيرا ما لحظت مدهشا أن الكتاب لا يذكر شيئا عن مصير تابوت العهد، والأمر المؤكد أنه هدم أو حرق مع المعبد، مع أنه كان أعظم المقدسات وأكثرها تبجيلا لدى العبرانيين؛ ولهذا السبب نفسه لا يكون الكتاب مقدسا، ولا تكون نصوصه إلهية، إلا بقدر ما يحث الناس على تقوى الله، فإن تخلوا كلية عن هذه التقوى، كما تخلى عنها اليهود من قبل، أصبح حبرا على ورق أو ضاعت قدسيته كلية، وأصبح معرضا للتحريف، بحيث إنه لو حرف أو فقد، لكان من الخطأ أن يقال إن كلام الله قد حرف أو فقد، وبالمثل كان من الخطأ أن يقال في زمان إرميا: لقد التهمت النيران
10
المعبد، الذي كان وقتئذ معبد الله. وهذا ما يقوله إرميا عن الشريعة نفسها عندما كان يسب كفار زمانه (8: 8): «كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ إن قلم الكتبة الكاذب قد حولها إلى الكذب.» وهذا يعني أنه مع أن الكتاب بين أيديكم فإنكم تكذبون إذا قلتم إنكم تملكون شريعة الله بعد أن جعلتموها كاذبة كل الكذب. وكذلك عندما حطم موسى الألواح الأولى للتوراة، لم يقذف كلام الله مطلقا ولم يحطمه بيديه غضبا (ومن ذا الذي يتصور ذلك وهو موسى وهذا كلام الله؟)
11
بل إن ما قذفه لم يكن إلا أحجارا، أعني أحجارا مقدسة من قبل، لأن العهد الذي قطعه اليهود على أنفسهم كان مكتوبا عليها، ولكن بعد أن عبد اليهود العجل، ومن ثم نقضوا هذا العهد، أصبحت هذه الأحجار خلوا من كل قدسية. وللسبب نفسه ضاعت الألواح الثانية مع التابوت؛ لذلك، فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كانت مخطوطات موسى الأصلية قد ضاعت، وإذا كانت الأسفار التي بين أيدينا قد لقيت المصير الذي ذكرناه بعد أن ضاع تماما الأثر الأصلي بحق للميثاق الإلهي وهو أقدس الآثار جميعا. فليكف خصومنا إذن عن اتهامنا بالكفر، نحن الذين لم نقل شيئا مناقضا لكلام الله ولم ندنسه مطلقا، وليصبوا غضبهم - لو كان الغضب عن حق ممكنا - على القدماء الذين دنسوا بخبثهم هيكل الله والشريعة وكل ما هو مقدس، وعرضوها كلها للفساد. وأضيف أنه لو كانت في كل واحد منا كما يقول الحواري (الرسالة الثانية إلى أهل كورنثة، 3: 3)
12
رسالة الله مكتوبة بروح الله لا بالمداد، وعلى لوح من اللحم وهو القلب، لا على ألواح من الحجر، لكف الناس عن عبادة الحرف ولذهب قلقهم البالغ عليه.
أعتقد أني شرحت على هذا النحو بما فيه الكفاية بأي معنى ينبغي أن ننظر إلى الكتاب على أنه مقدس وإلهي، وعلينا الآن أن نرى ما المعنى الدقيق المقصود بلفظ «دبر يهوه» (كلام الله).
13
تعني دبر: كلام، خطاب، أمر، شيء. ولكنا قد بينا في الفصل الأول الأسباب التي يقال من أجلها عن الشيء في العبرية إنه ينتمي إلى الله أو يتعلق بالله، وبذلك نعرف بسهولة ماذا يقصد الكتاب عندما يستعمل تعبيرات مثل كلمة الله وخطابه ووصيته وأمره. فلا فائدة إذن من تكراره هنا أو من تكرار ما عرضنا له في النقطة الثالثة من الفصل السادس ونحن نعالج موضوع المعجزات،
14
بل تكفي إشارة واحدة لإيضاح ما نريد قوله هنا على نحو أفضل. عندما يوصف شيء لا يكون هو الله نفسه، بأنه كلام الله، فإن المقصود بذلك على وجه الدقة هذا القانون الإلهي الذي عرضنا له في الفصل الرابع، أي هذا الدين الشامل، أو الكاثوليكي، الذي يشارك فيه الجنس البشري كله، ويمكن الرجوع في هذا الموضوع إلى أشعيا (1: 10 ... إلخ)،
15
حيث تعلم الطريقة الصحيحة للحياة، التي لا تتكون من طقوس، بل من إحسان وصدق ، وحيث يسميها النبي كلام الله وشريعته دون تمييز، وكذلك تستخدم الكلمة مجازيا لكي تدل على نظام الطبيعة نفسه، وعلى القدر (لأنهما يعتمدان على الأمر الأزلي للطبيعة الإلهية ويصدران عنه) ولكي تدل بوجه خاص على ذلك الجزء من نظام الطبيعة، الذي تنبأ به الأنبياء؛ وذلك لأنهم لم يكونوا يدركون الأشياء المستقبلة بعللها الطبيعية، بل بوصفها قرارات وأوامر إلهية. وتستعمل الكلمة أيضا للدلالة على كل أمر نبوي، بقدر ما يكون قد أدركه بقدرته التي يتفرد بها، أو بهبة النبوة، لا بالنور الطبيعي الذي يشارك فيه الجميع، خاصة وقد اعتاد الأنبياء بالفعل تصور الله كمشرع، كما بينا ذلك في الفصل الرابع. لهذه الأسباب الثلاثة إذن سمي الكتاب كلام الله؛ أولا: لأنه يعلم الدين الصحيح الذي وضعه الله أزليا. ثانيا: لأنه يتنبأ في صورة رواية بالمستقبل بقدر ما قضى به الأمر الإلهي؟ ثالثا: لأن مؤلفيه الحقيقيين كانوا في معظم الأحيان يدعون إلى ما حصلوا عليه بنور خاص بهم، لا بالنور الفطري، وجعلوا الله نفسه هو الذي يتحدث. وعلى الرغم من أن جزءا من محتوى الكتاب مجرد تاريخ يمكن إدراكه بالنور الفطري، فإن الاسم مستمد مما يؤلف المضمون الأساسي للكتاب، بذلك ندرك بسهولة بأي معنى يجب أن نتصور الله كمؤلف للتوراة؟ هذا المعنى هو أن التوراة تعلمنا الدين الصحيح، لا أن الله أراد أن يعطي البشر عددا معينا من الكتب. ونستطيع أيضا أن نفهم سبب تقسيم الكتاب إلى أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد؛ ذلك لأن الأنبياء قبل ظهور المسيح كانوا يبشرون بالدين على أنه قانون الأمة الإسرائيلية فحسب، ويستمدون قوتهم من العهد الذي أبرم زمن موسى، على حين بشر الحواريون بعد ظهور المسيح بالدين نفسه لجميع الناس بوصفه قانونا كاثوليكيا، واستمدوا قوتهم من آلام المسيح. وهذا لا يعني اختلاف أسفار العهد الجديد في العقيدة عن أسفار العهد القديم أو أنها كتبت كميثاق لعهد ما، أو أن الدين الكاثوليكي، وهو دين طبيعي إلى أقصى حد،
16
كان جديدا، إلا بالنسبة إلى الناس الذين لم يعرفوه من قبل. ومن هنا قال يوحنا كاتب الإنجيل (1: 10): «كان في العالم ... والعالم لم يعرفه.» ولو كان لدينا عدد أقل من أسفار العهد القديم او الجديد، لما أدى ذلك إلى حرماننا من شيء من كلام الله (الذي ينبغي أن يكون معناه، كما قلنا، الدين الصحيح)، مثلما لا يمكن أن يؤدي ضياع كتب أخرى كثيرة في غاية الأهمية إلى حرماننا من أي شيء فيه مثل سفر الشريعة الذي كان محفوظا في المعبد على نحو ديني كميثاق للعهد، وكذلك كتب الحروب والأخبار وعدد كبير آخر أخذت منه الأسفار التي لدينا في العهد القديم ثم جمع ذلك كله فيما بعد. هذا فضلا عن وجود أسباب أخرى تؤيد ذلك، هي: (1)
لم تدون أسفار العهدين والقديم والجديد بتفويض خاص في عصر واحد، يسري على كل الأزمان، بل جاء تدوينها مصادفة، وقصد بها أناس معينون، ودونت بحيث تلائم مقتضيات العصر والتكوين الشخصي لهؤلاء الناس، وهذا ما تدل عليه رسالات الأنبياء (الذين أرسلوا نذيرا لكفار عصرهم) وكذلك رسائل الحواريين. (2)
تختلف معرفة الكتاب وفكر الأنبياء عن فهم فكر الله أي الحقيقة.
17
وقد برهنا على ذلك في الفصل الثاني الخاص بالأنبياء، وينطبق هذا البرهان أيضا على الروايات وعلى المعجزات، كما بينا في الفصل السادس، وعلى العكس من ذلك لا تنطبق هذه التفرقة على الفقرات التي تتحدث عن الدين الصحيح والفضيلة الحقة. (3)
تم اختيار أسفار العهد القديم من بين أسفار كثيرة أخرى، ثم جمعها وأقرها مجلس الفريسيين، وكذلك قبلت أسفار العهد الجديد ضمن المجموعة المقننة بقرار بعض المجامع الكنسية التي رفضت في الوقت نفسه أسفارا أخرى كثيرة بوصفها منعدمة القيمة، مع أن كثيرا من الناس كانوا يقدسونها. على أن أعضاء هذه المجامع الكنسية (سواء مجامع الفريسيين أم مجامع المسيحيين) لم يكونوا أنبياء، بل كانوا من ذوي الخبرة والفقهاء فحسب. ومع ذلك يجب أن نعترف بأنهم أخذوا كلام الله قاعدة لاختيارهم؛ وعلى ذلك فلا بد أنهم عرفوا كلام الله قبل موافقتهم على جميع الأسفار. (4)
لم يكتب الحواريون (كما قلنا في الفصل السابق) بوصفهم أنبياء بل بوصفهم فقهاء، واختاروا أسهل الطرق لتعليم التلاميذ الذين يودون تكوينهم؛ وبالتالي فإن رسائلهم تتضمن (كما قلنا في نهاية الفصل نفسه) أشياء كثيرة يمكن الاستغناء عنها، دون أن يلحق ذلك أي ضرر بالدين. (5)
وأخيرا، فهناك أربعة أناجيل في العهد الجديد. ومن منا يستطيع أن يعتقد أن الله أراد أن يقص سيرة المسيح وأن يبلغه للبشر أربع مرات؟ لا شك أنه يوجد في كل إنجيل أشياء معينة لا توجد في غيرها، وأن كل إنجيل يساعد على فهم الآخر. ومع ذلك، لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن من الضروري معرفة كل ما يرويه كتاب الأناجيل الأربعة، وأن الله قد اختارهم كتابا حتى يعرف الناس سيرة المسيح على نحو أفضل، فلقد بشر كل واحد منهم بإنجيله في مكان خاص، وكتب كل منهم ما بشر به، لا لشيء إلا لكي يروي سيرة المسيح بطريقة أوضح، لا لكي يشرح الأناجيل الأخرى. فإذا كانت مقارنة الأناجيل تؤدي أحيانا إلى فهم المرء لها على نحو أفضل وأيسر، فإن ذلك يحدث مصادفة، وبالنسبة إلى عدد محدود من النصوص، يمكننا أن نتجاهلها دون أن تصبح السيرة، نتيجة لذلك، أقل وضوحا، أو يصبح الناس أقل قدرة على السعادة الروحية.
وهكذا بينا أن الكتاب قد سمي عن حق كلام الله، وذلك من وجهة نظر الدين وحدها، أي من وجهة نظر القانون الإلهي الشامل، ولم يبق لنا إلا أن نبين أنه لا يمكن أن يكون مختلفا أو محرفا أو منقوصا، بقدر ما يكون هذا الاسم منطبقا عليه. وأود أن ألفت النظر هنا إلى أني أسمي النص مختلفا ومحرفا ومنقوصا عندما يكون قد ساء التأليف والكتابة إلى حد لا يمكن معه التعرف على معناه، سواء بالرجوع إلى الاستعمال اللغوي أو باستخلاصه من الكتاب وحده. ولست أعني بذلك أن الكتاب، بقدر ما يحتوي على الشريعة الإلهية، كان له دائما النقط نفسه والحروف نفسها والكلمات نفسها (وأترك للماسوريين
18
ولمن يعبدون الحرف بطريقة خرافية أمر البرهنة على ذلك)، بل أعني فقط أن المعنى الذي من أجله وحده يسمى النص إلهيا، وصل إلينا دون تشويه، وإن كانت الكلمات التي استخدمت أولا للتعبير عنه قد تغيرت مرات كثيرة، وهذا لا ينقص مطلقا من ألوهية الكتاب لأنه يظل إلهيا وهو مكتوب بكلمات أخرى وبلغة أخرى. فلا يمكن إذن أن يشك أحد في أن الشريعة بهذا المعنى، وقد وصلت إلينا دون تحريف؛ لأننا ندرك بالكتاب نفسه، ودون أية صعوبة أو أي اشتباه، أن الشريعة تتلخص في هذه الوصية: حب الله فوق كل شيء، وحب المرء لجاره كما يحب نفسه. ونحن واثقون من أن هذه الوصية لا يمكن أن تكون نتيجة للتحريف، ولم يكتبها قلم متسرع، أو متهم بالأخطاء، ولو كان الكتاب قد أعطى تعاليم مختلفة، لاختلفت تعاليمه أيضا في جميع الموضوعات الأخرى؛ لأن هذه الوصية أساس الدين كله، بحيث إن محوها يؤدي إلى هدم البناء كله في الحال، وبالتالي، فإن كتابا لا يدعو إلى ذلك لن يصبح كتابا مقدسا، بل يكون كتابا مختلفا كل الاختلاف. فنحن إذن على يقين تام من أن تعاليم الكتاب كانت كذلك دائما، وأنه لا يمكن، في هذا الصدد، لأي خطأ عرضي أن يغير معنى هذه التعاليم وإلا اكتشف فورا، كما لا يمكن لأحد تزييف هذه التعاليم إلا وظهر إثمه باديا للعيان. ولكن لما كان علينا أن نسلم بأن هذا الأساس ظل دون إفساد، فيجب أن نعترف أيضا بجميع النتائج التي تترتب عليه دون مناقشة، والتي تتسم بالطابع الأساسي نفسه؛ وهي أن الله موجود، وأن عنايته شاملة، وأنه قادر على كل شيء، وأن أمره يقضي بأن يكون التقي سعيدا والعاصي شقيا، وأن خلاصنا يتم بفضله وحده. ويعلم الكتاب ذلك كله بوضوح في جميع مواضعه، وكان لا بد أن يعلمه دائما، وإلا لكان كل شيء آخر فيه عبثا لا أساس له. أما باقي الحقائق الخلقية فإنها خالية أيضا من أي فساد، لأنها تنتج بوضوح من هذا الأساس الشامل. مثال ذلك، الحرص على العدالة، ومساعدة المحتاج، والامتناع عن القتل، وعدم التطلع إلى ما يملكه الغير ... إلخ . أقول: إن شر الناس لم يمكنه أن يزيف من هذه الحقائق شيئا، ولم يمح الزمان أقل قدر منها. وإذا كان قد حدث لها أي انهيار جزئي، فإن أساسها الشامل كان كفيلا بإعادة بنائها كاملا في الحياة، وخاصة تعاليم الإحسان التي يوصي بها العهدان في كل مواضعهما باعتبارها أهم الفضائل. ولنضف إلى ذلك، أنه على الرغم من أن الإنسان قد ارتكب من الجرائم الشنعاء كل ما يمكن تصوره، فلن يحاول أحد مع ذلك - كيما يجد عذرا لجريمة - أن يهدم القوانين، أو أن يقدم قاعدة فاسقة بوصفها إحدى التعاليم الأزلية النافعة للخلاص. والحق أن الطبيعة البشرية تتبدى دائما بحيث إنه إذا اقترف أحد جرما (سواء أكان ملكا أم من الرعية) فإنه يحاول أن يحيطه بظروف كفيلة تجعل الناس يظنونه بريئا من كل جرم في حق العدالة وفي حق الشرف، ففي استطاعتنا إذن أن نستنتج عن حق أن القانون الإلهي الشامل الذي علمه الكتاب قد وصل إلينا كاملا دون أي تحريف. وبالإضافة إلى ذلك، هناك بعض الموضوعات الأخرى التي لا يمكن الشك فيها لأن لدينا عنها تراثا جديرا بالثقة، مثل جوهر روايات الكتاب، لأنها تروي وقائع معروفة ومشهورة لدى الجميع. فقد اعتاد العامة من اليهود تذكر وقائع التاريخ الوطني عن طريق إنشاد المزامير، وكذلك عرف الناس في كافة أنحاء الإمبراطورية الرومانية جوهر أفعال المسيح وآلامه، فلا يمكننا أن نظن أن الخلف قد نقل إلينا جوهر هذا التاريخ على غير ما تلقاه إلا إذا افترضنا تواطؤ السواد الأعظم من الجنس البشري.
وهذا أمر بعيد عن التصديق. وإذن فلم يكن من الممكن أن تقع التغييرات والأخطاء إلا فيما بقي من الأمور؛ أعني في واحدة أو أخرى من ملابسات الرواية أو النبوة التي تفيد في حث الشعب على التقوى، أو في هذه المعجزة أو تلك التي تقدم لبعث الارتباك في عقول الفلاسفة، أو في الموضوعات التأملية التي أدخلتها الفرق المتنازعة في الدين، حتى يتسنى لكل فرقة إيجاد ضمان من السلطة الإلهية لبدعها. ولكن لا يهم كثيرا للحصول على الخلاص أن تكون هذه الأمور قد زيفت أم لا. وسأبين ذلك صراحة في الفصل التالي، وإن كنت أعتقد أنني قد أقمت البرهان عليه من قبل، وخاصة في الفصل الثاني.
الفصل الثالث عشر
الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة
وفيه نبين أن الكتاب لا يحتوي إلا على تعاليم يسيرة للغاية ولا يحث إلا على الطاعة، وتقتصر عقيدته في الطبيعة الإلهية على ما يمكن اتخاذه قاعدة عملية في حياة الناس اليومية. ***
بينا في الفصل الثاني من هذه الرسالة أن الأنبياء كانت لهم مقدرة فريدة على الخيال وحده، لا على المعرفة، وأن الله لم يوح لهم بأمور فلسفية عميقة، بل بأفكار يسيرة للغاية،
1
وضعت بحيث تلائم الأحكام المسبقة لكي نبي،
2
كما بينا في الفصل الخامس أن الكتاب لم يقدم إلا تعاليم يسهل إدراكها لأي فرد؛ لذلك لم يستعمل المنهج الاستنباطي الذي يبدأ من بديهيات وتعريفات تتسلسل منها القضايا، ولكنه اقتصر على إعطاء حقائق يقصد منها أن يؤمن بها الناس، ثم أيدها بالتجربة وحدها، أي بالمعجزات
3
وبالروايات التاريخية، واستعمل في هذه الروايات أكثر الأساليب والتعبيرات قدرة على التأثير في العامة. ويمكن الرجوع في هذا الصدد إلى ما برهنا عليه من قبل في النقطة الثالثة من الفصل السادس.
4
وأخيرا، بينا في الفصل السابع أن الصعوبة كلها في فهم دروس الكتاب ترجع إلى اللغة وحدها، لا إلى عمق الموضوع، لا سيما أن الأنبياء لم يبشروا لاهوتيين متعمقين، بل بشروا كل اليهود على الإطلاق، كما اعتاد الحواريون عرض عقيدة الإنجيل في الكنائس، حيث يجتمع عامة المؤمنين. هذه الظروف المختلفة أسهمت في جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة للغاية تدركها أكثر الأذهان خمولا، لا مجموعة من التأملات الخالصة والنظريات الفلسفية؛ لذلك أجد نفسي عاجزا عن التعبير عن دهشتي من التكوين الذهني لأولئك الذين تحدثت عنهم من قبل، والذين يرون في الكتاب أسرارا بلغت من العمق حدا لا يمكن شرحها بأية لغة، والذين أقحموا في الدين من التأملات الفلسفية ما جعل الكنيسة تتحول إلى أكاديمية، والدين يصبح علما، بل جدلا. لا عجب إذن ألا يعترف أناس يتفاخرون بأن لديهم نورا أعلى من النور الفطري، بأنهم أقل علما من الفلاسفة الذين لم يتعدوا حدود النور الفطري. ومن المؤكد أنني سأتعجب كثيرا لو وجدت لدى هؤلاء الناس شيئا جديدا في ميدان التأمل الخالص، أعني شيئا لا يكون مألوفا، بل تافها بالنسبة إلى فلسفة غير اليهود (الذين يتهمهم هؤلاء مع ذلك، بأن بصيرتهم كانت عمياء!) فإذا نظرنا إلى هذه الأسرار التي يخبئها الكتاب، والتي يدعون أنهم وحدهم القادرون على الكشف عنها، فلن نجد فيها إلا بعضا مما ابتدعه أرسطو وأفلاطون أو من يشابههما، يستطيع أي شخص من سذج العقول أن يؤلفها في حلمه بعناء أقل مما يبذله أعظم العلماء عندما يستخلصها من الكتاب. وليس معنى هذا أننا نرفض على الإطلاق التسليم بوجود بعض الحقائق النظرية الخالصة في الكتاب، لأننا ذكرنا بعض هذه الحقائق في الفصل السابق، وأعلنا أنها أساسية في الكتاب ولكن أقول: إن هناك قدرا ضئيلا من هذا النوع، وإن هذا القدر الضئيل يسير للغاية. وسأحاول الآن أن أبين ما هي هذه الحقائق، والمنهج الذي يمكن به تحديدها، وسوف يسهل علينا ذلك لو عرفنا أن هدف الكتاب لم يكن تلقيننا العلوم؛ إذ إننا حينئذ نستطيع أن نستنتج من هذا أنه يطلب من الناس الطاعة وحدها، ويدين العصيان لا الجهل، ولكننا نعلم أن طاعة الله تنحصر كلها في حب الجار (إذ يؤكد بولس في الرسالة إلى أهل رومية (13: 8)
5
أن من يحب جاره، أعني من يحبه طاعة لله، تتحقق لديه الشريعة)، وبالتالي لا يوصي الكتاب بأية معرفة إلا المعرفة اللازمة لجميع الناس حتى يطيعوا الله وفقا لوصيته، وهي المعرفة التي يصبحون بدونها عاصين أو على الأقل يفتقرون إلى كل قاعدة للطاعة. أما التأملات النظرية التي لا ترمي مباشرة إلى تحقيق هذا الغرض - سواء أكانت متعلقة بمعرفة الله أم بمعرفة الأشياء الطبيعية - فإنها لا تنتمي إلى صميم الكتاب، ويجب فصلها عن الدين الموحى به.
ومع أن باستطاعة كل فرد كما قلنا من قبل أن يدرك بسهولة ما قلته، فإنه لما كان هذا الأمر يقرر مصير نظرتنا إلى الدين بأسره، فإني سأقدم برهانا أدق وشرحا أوضح لما أقول؛ ولهذا الغرض يجب أن نبين: أولا أن المعرفة العقلية، أي المعرفة الصحيحة لله،
6
ليست كالطاعة هبة لكل المؤمنين. ثانيا أن المعرفة الوحيدة التي طلبها الله من جميع الناس بلا استثناء، على لسان الأنبياء، والتي لا يمكن إعفاء أحد منها، هي معرفة العدالة الإلهية والإحسان الإلهي. ومن السهل استخلاص هاتين الحقيقتين من الكتاب ذاته: (1)
هناك نص واضح كل الوضوح في سفر الخروج (1: 3) يقول الله فيه لموسى كي يبرز له عظمة الفضل الذي أكرمه به: «أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إلها قادرا على كل شيء، وأما اسمي يهوه فلم أعلنه لهم.» ولكي نشرح هذا النص يجب أن نلحظ أن «الشداي» تعني بالعبرية «الله الكافي»
7
لأنه يعطي كل فرد ما يكفيه، ومع أن لفظ «سداي» يستعمل في كثير من الأحيان بمفرده للدلالة على الله، فإنه يجب ولا شك أن نفهم ضمنا كلمة «ال» أي الله، على الدوام، كذلك يجب أن نلحظ أننا لا نجد مطلقا في الكتاب اسما آخر غير «يهوه» للتعبير عن ماهية الله المطلقة، التي لا تربطها صلة بالمخلوقات؛ ولذلك يقول العبرانيون: إن هذا الاسم، وحده هو الذي ينتمي إلى الله بالمعنى الصحيح، أما الأسماء الأخرى فلا تشير إلا إلى صفاته. والواقع أن التسميات الأخرى لله، التي يستخدم فيها الاسم أو الصفة، تعبر إما عن صفات ملائمة له في علاقته بالمخلوقات، أو عن تجليه من خلالها؛ فمثلا «ال - و» مع الحرف الزائد «ه» «ألوه»، تعني فقط قادر - كما هو معروف. وعلى ذلك فهذا الاسم لا يلائم لله، بمعنى أنه وحده هو «القادر» كما نقول إن بولس وحده هو الحواري. وباستثناء هذه الحالة، تضاف صفات إلى هذه الكلمة «ال» للتعبير عن صفات هذه القدرة مثل: العظيم، الجبار، العادل، الرحيم ... إلخ. أو إذا أردنا فهم هذه الصفات المختلفة مرة واحدة استعملنا الكلمة في صيغة الجمع لتفيد المفرد، ويكثر استعمال هذه الطريقة دائما في الكتاب، ومن ثم فعندما يقول الله لموسى في الفقرة المذكورة: إنه لم يكشف عن نفسه قبل ذلك لآبائه باسم يهوه، يعني أن العبرانيين القدماء لم يعرفوا أية صفة لله تدل على ماهيته المطلقة، ولم يعرفوا إلا آثاره ووعوده، أي إنهم عرفوا مظاهر القدرة الإلهية من خلال الأشياء الحسية. ولنلحظ أن الله يتحدث إلى موسى هكذا، لا ليتهم قدماء العبرانيين بالكفر، بل على العكس ليثني على تصديقهم وإيمانهم، فمع أنهم لم يعرفوا الله معرفة حقة مثل معرفة موسى له، فإنهم صدقوا وعود الله القاطعة التي لا تخلف، على حين أن موسى شك في الوعود بالرغم من أفكاره الأكثر عمقا، التي كونها عن الله، واعترض على الله بأنه وضع اليهود في أسوأ المواقف بدلا من أن يمنحهم الخلاص الموعود. وإذن فلما كان الأجداد قد جهلوا اسم الله الحقيقي وأخبر الله موسى بهذا الجهل ليثني على سماحة نفوسهم وصدق إيمانهم، وليذكر موسى بالفضل الفريد الذي وهبه إياه، فإننا نستطيع أن نصل من هذا إلى نتيجة أولى واضحة كل الوضوح، وهي أنه لا يمكن لأي أمر أن يجبر الناس على معرفة صفات الله،
8
وأن هذه المعرفة هبة خاصة لعدد قليل من المؤمنين، ولا حاجة بنا من أجل البرهنة على ذلك إلى الاستشهاد بنصوص من الكتاب، ألا يبدو واضحا حقيقة أن معرفة جميع المؤمنين بالله لم تكن متساوية؟ ألا يبدو واضحا أن مجرد الحصول على أمر لا يكفي لاكتساب الحكمة (أو الحياة أو الوجود)؟ إن الرجال والنساء والأطفال
9
لديهم القدرة نفسها على إطاعة الأمر، ولكن ليس على ممارسة الحكمة. وإذا اعترض أحد قائلا بأننا لا نحتاج إلى معرفة صفات الله بل نحتاج إلى الإيمان به في يسر ودون برهان، كان ردي هو أن الاعتراض ينطوي على مغالطة
10
لأن الأشياء غير المنظورة التي هي موضوعات للفكر وحده، لا يمكن إدراكها إلا بالبرهان. وإذن فمن بلا برهان لديه، لا يستطيع أن يدركها على الإطلاق، ويصبح كل ما يقوله مما عرفه سماعا عن مثل هذه الأشياء، غير مرتبط بفكره أو معبرا عنه، شأنه في ذلك شأن أصوات ببغاء أو جهاز آلي لا يدل على أي معنى أو أي فكر. على أنني أرى من واجبي، قبل أن أستمر في ملاحظاتي، أن أبين السبب الذي من أجله يصرح سفر التكوين في كثير من الأحيان بأن البطارقة بشروا باسم يهوه، وهو ما يبدو مناقضا تماما لما ذكرناه من قبل، على أننا لو عدنا بأذهاننا إلى النتائج التي توصلنا إليها في الفصل الثامن، لاتضح لنا بسهولة أن هذا التناقض ظاهري محض، فقد رأينا أن مؤلف الأسفار الخمسة لا يشير إلى الحوادث والأماكن بالأسماء المتداولة في العصر الذي حدثت فيه القصة، بل بالأسماء التي كانت شائعة في العصر الذي عاش هو نفسه فيه. وإذن فإله البطارقة قد سمي في سفر التكوين باسم يهوه، لا لأن الأجداد أطلقوا عليه هذا الاسم، بل لأن هذا الاسم أصبح فيما بعد يبعث على الاحترام الشديد عند اليهود، وهذا التفسير الذي أقدمه هو التفسير الوحيد المقبول لأن نص «الخروج» يصرح بأن البطارقة لم يعرفوا الله باسم يهوه، وكذلك نجد في الخروج (3: 13)
11
أن موسى أراد أن يعرف اسم الله، فلو كان اسم يهوه معروفا من قبل لما جهله موسى على الأقل، وإذن فيجب التسليم بما أردنا إثباته من أن البطارقة المؤمنين لم يعرفوا اسم الله هذا، وأن معرفة الله هبة من الله، لا أمر منه.
وسنحاول الآن البرهنة على النقطة الثانية، وهي أن الله لم يطلب على لسان الأنبياء أن يعرف الناس عنه إلا عدله وإحسانه، أي الصفات التي تعطي الناس قاعدة عملية للحياة؛ فهذا ما يدعو إليه إرميا بأصرح العبارات. فلننظر مثلا إلى ما يقوله عن الملك يوشيا (22: 15-16): «أما أكل أبوك وشرب وأجرى الحق والعدل، وحينئذ كان له خير. لقد أجرى الحكم للبائس والمسكين وحينئذ كان خيرا. أليست هذه هي معرفته (لاحظ ذلك جيدا) يقول الرب.» وهناك نص آخر لا يقل عن ذلك وضوحا (9: 24): «فليفتخر المفتخر بأنه يفهم ويعرفني أنا الرب المجري الرحمة والحكمة والعدل في الأرض لأني بهذه ارتضيت.» ونجد الدعوة نفسها في الإصحاح 34 من الخروج (الآيات 6، 7)،
12
حيث لا يكشف الله عن صفاته لموسى، الذي يود معرفته ورؤيته، إلا ما يظهر فيها عدله وإحسانه. وكذلك يجب أن نذكر، قبل أي نص آخر، نصا ليوحنا سنعود إلى الحديث عنه بعد قليل؛ إذ لا يذكر يوحنا عن الله إلا إحسانه لأن الله لا تدركه أبصار الخلق جميعا. وينتهي يوحنا من ذلك إلى أن من يعمل الإحسان هو وحده الذي يدرك الله حقيقة، وهو الذي يعرفه. وهكذا يرى إرميا وموسى ويوحنا أن معرفة الله التي يلتزم بها كل فرد تنحصر في عدد قليل جدا من الصفات،
13
هي، كما عرضنا، أن الله عادل عدلا مطلقا ورحيم رحمة مطلقة، أي أنه النموذج الفريد للحياة الحقة. هذا فضلا عن أن الكتاب لا يعطي أي تعريف صحيح لله، ولا يطلب من المؤمنين أن يدركوا من صفات الله إلا ما ذكرناه الآن، ولا يوحي صراحة بأية صفات أخرى. وننتهي من ذلك كله إلى أن المعرفة العقلية لله، التي تصل إلى الطبيعة الإلهية في ذاتها، وهي الطبيعة التي لا يعرف الناس كيف يتخذونها قاعدة عملية في الحياة اليومية، أو يجعلونها أنموذجا تستمد منه قاعدة صحيحة للحياة؛ أقول: إن هذه المعرفة العقلية لا تنتمي في شيء إلى الإيمان وإلى الدين الموحى به، وبالتالي يستطيع الناس أن يخطئوا فيها كما يشاءون دون أن يرتكبوا جرما. وإذن فليس هناك ما يدعو للدهشة إذا كان الله قد تلاءم مع خيال الأنبياء وتصوراتهم المسبقة أو إذا تصور المؤمنون الله تصورات مختلفة كل الاختلاف، كما بينا بأمثلة كثيرة في الفصل الثاني، وليس هناك أيضا ما يدعو للدهشة إذا وجدنا الكتب المقدسة تتحدث عن الله بألفاظ لا تليق به، فتنسب إليه يدين وقدمين وعينين وأذنين، كما تنسب إليه حركات في المكان
14
وانفعالات للنفس كالغيرة والرحمة ... إلخ. وكذلك تصفه كقاض يستوي في السموات على عرش ملكي والمسيح على يمينه. والواقع أن الكتاب يتحدث على مستوى فهم العامة الذين يهدف الكتاب إلى أن يجعلهم مطيعين، لا متفقهين، على أن عامة اللاهوتيين عندما أدركوا بالنور الطبيعي أن صفة معينة من هذه الصفات التي تعطى لله لا تتفق مع الطبيعة الإلهية طالبوا بالالتجاء إلى التفسير المجازي، وبأن من الواجب، على العكس من ذلك، أن يقبل حرفيا كل ما يتجاوز حدود فهمهم. ولكن لو كان من الواجب تفسير جميع نصوص الكتاب من هذا النوع تفسيرا مجازيا، لوجب أن نسلم بأن النص لم يكتب للعامة والجهلة، بل كان موجها إلى أكثر الناس خبرة ومعرفة، وإلى الفلاسفة بوجه خاص. والواقع أنه لو كان التسليم بروح تقية صافية بالمعتقدات التي ذكرناها، بدافع من التقوى وصفاء النفس، كفرا، لحرص الأنبياء أشد الحرص على تجنب مثل هذه العبارات، وذلك على الأقل لضعف ذهن العامة، وليعبروا عن الصفات الإلهية، على النحو الذي ينبغي على كل فرد إدراكها عليه بوضوح وصراحة، ولكن الأنبياء لم يفعلوا ذلك. وإذن فلا ينبغي الاعتقاد بأن الآراء في ذاتها - بغض النظر عن الأعمال - تنطوي على أي قدر من الإيمان أو الكفر، فنحن نقول عن الاعتقاد الإنساني أنه ينطوي على إيمان أو كفر بقدر ما يحث المؤمنين به على الطاعة، أو يبيح لهم الخطيئة والعصيان؛ وعلى ذلك فإن من يصح اعتقاده ويعصي، يكذب إيمانه، وعلى العكس فإن من يخطئ في اعتقاده ويطيع، يصدق إيمانه؛ ذلك لأن معرفة الله الحقيقية، كما بينا، ليست أمرا بل هبة إلهية، والله لم يطلب من الناس إلا معرفة عدله وإحسانه، وهي معرفة لا تطلب من أجل العلم، بل من أجل الطاعة وحدها.
الفصل الرابع عشر
ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟
ما هو الإيمان؟ وأي الناس هم المؤمنون؟ تحديد أركان الإيمان، وأخيرا الفصل بين الإيمان والفلسفة.
1 ***
لا بد لنا، لكي نكتسب معرفة حقيقية بالإيمان، من أن نكون على علم بأن الكتاب مهيأ بحيث يتلاءم مع فهم الأنبياء، بل ومع فهم عامة اليهود في تباينهم وتقلبهم، وتلك حقيقة لا يمكن أن يجهلها أحد حتى بعد فحص سريع للموضوع؛ ذلك لأننا قبلنا مضمون الكتاب كله بلا تمييز على أنه عقيدة شاملة مطلقة عن الله، ولو لم نحرص على أن نميز فيه ما وضع على قدر أفهام العامة، لتعرضنا لا محالة للخلط بين أفكار العامة والعقيدة الإلهية، والنظر إلى بدع الإنسان وما يزينه له هواه من أحكام، على أنها تعاليم إلهية، ولأسأنا استعمال سلطة الكتاب، فهل يصعب علينا أن ندرك أن هذا الخلط هو المسئول عما يدعو إليه مؤسسو الفرق من آراء عديدة، مختلفة فيما بينها كل الاختلاف، يتخذونها أركانا للإيمان، ويؤيدونها بنصوص كثيرة من الكتاب، حتى شاع بين الهولنديين منذ القدم مثل يقول: «ما من مجدف إلا ويستند إلى نص.»
2
والواقع أن الكتب المقدسة ليس لها مؤلف واحد، ولم تكتب للعامة الذين عاشوا في عصر بعينه، بل هي من عمل عدد كبير من الناس ذوي أمزجة مختلفة عاشوا في عصور مختلفة. وإذا أردنا أن نحصي العصور التي تفصل بينها وجدناها ألفي عام وربما أكثر، أما مؤسسو الفرق هؤلاء فلا نريد اتهامهم بالكفر لمجرد كونهم قد أولوا كلام الكتاب حسب معتقداتهم؛ ذلك لأنه، مثلما أن الكتاب قد وضع من قبل على قدر أفهام العامة، فإن لكل شخص الآن الحق في أن يكيفه حسب معتقداته الخاصة، إذا كان يرى في ذلك وسيلة لطاعة الله، في الأمور المتعلقة بالعدل والإحسان، بنفس راضية تمام الرضا، ولكننا نتهمهم بذلك لأنهم لا يعترفون للآخرين بالحرية نفسها، ويحتقرون من يخالفونهم في الرأي، فيعدونهم أعداء الله، حتى لو كانوا يعيشون على أشرف نحو يمكن تصوره، ويمارسون الفضيلة الحقة، كما أنهم على العكس من ذلك، يحبون من ينقادون لهم كالأنعام، وكأنهم أصفياء الله، حتى ولو كانوا بعيدين كل البعد عن الخلق القويم، وهذا هو أشد المواقف جرما وأكثرها ضررا على الدولة. وإذن، فلكي نبين حدود حرية كل فرد في أن يفكر كما يشاء في أمور الإيمان، ونحدد من هم الناس الذين يتعين علينا أن نعدهم مؤمنين بالرغم من اختلاف وجهات نظرهم، علينا أن نحدد الخصائص الأساسية للإيمان. وهذا هو موضوع هذا الفصل، بالإضافة إلى البحث في التمييز بين الإيمان والفلسفة وهو الغرض الرئيس من الكتاب كله. واتباعا للترتيب السليم في البحث، نعود بأذهاننا إلى الغاية الرئيسة التي يرمي إليها الكتاب المقدس، وبذلك نحصل على قاعدة صحيحة لتعريف الإيمان. لقد قلنا في الفصل السابق: إن غرض الكتاب الوحيد هو تعليم الطاعة، وهو أمر لا يمكن أن يعارضني فيه أحد، فمن ذا الذي لا يرى حقيقة أن العهدين، القديم والجديد، لا يعطيان إلا درسا في الطاعة، وأن الغاية التي يرميان إليها هي جعل الناس يطيعون عن رضى؟ ولكي لا أكرر حجج الفصل السابق أقول: إن موسى لم يحاول حقيقة إقناع الإسرائيليين بالفعل، بل جمع بينهم بعهد وبحلف وبأعمال طيبة قدمها إليهم، ثم حث الشعب على طاعة القوانين، منذرا العاصين بالعقاب، ومبشرا المطيعين بحسن الثواب، وكلها وسائل لا جدوى منها حين يكون الأمر متعلقا بتحصيل المعارف، ولكنها فعالة في تحقيق الطاعة وحدها. ولا يدعو الإنجيل إلا إلى الإيمان اليسير: وهو الإيمان بالله وبتبجيله أي طاعته. ولا حاجة بنا، من أجل توضيح هذه النقطة توضيحا تاما، إلى تجميع نصوص الكتاب التي تحث على الطاعة والتي توجد بأعداد ضخمة في العهدين. ومن ناحية أخرى، يخبرنا الكتاب أيضا بوضوح تام بما يجب على الإنسان القيام به لطاعة الله. فهو يعلمنا أن الشريعة كلها تتلخص في هذه الوصية وحدها: أحب جارك.
3
إذن فلا يستطيع أحد إنكار أن من يحب جاره كحبه لنفسه لأن الله أوصى بذلك، يكون بحق مطيعا وسعيدا
4
حسب الشريعة، على حين أن من يكره جاره أو يتخلى عنه يكون عاصيا مارقا. وأخيرا يسلم جميع الناس بأن الكتاب لم يدون ولم يروج له من أجل العلماء وحدهم، بل من أجل البشر جميعا دون تمييز بينهم في السن أو في الجنس. ويترتب على ذلك بوضوح تام أن الكتاب لا يلزمنا بالاعتقاد إلا بما هو ضروري لتنفيذ هذه الوصية، فهذه الوصية إذن هي القاعدة الوحيدة للإيمان الكاثوليكي كله، وعن طريقها وحدها ينبغي أن تحدد جميع عقائد الإيمان.
5
أعني القواعد التي يجب على كل فرد الالتزام بها.
فلنتساءل الآن: لما كان هذا الأمر واضحا تماما، وكان يمكن استنباط كل ما يتعلق بالإيمان من هذا المبدأ وحده، معتمدين على العقل وحده، فكيف وقعت هذه الخلافات العديدة داخل الكنيسة؟ هل هناك أسباب أخرى غير التي ذكرناها في الفصل السابع؟ إن هذه الخلافات تدفعني إلى أن أبين الطريقة والمنهج اللذين ينبغي اتباعهما لتحديد عقائد الإيمان ابتداء من هذا المبدأ الذي وجدناه؛ ذلك لأنني لو لم أقم بهذا البيان، وتخليت عن وضع بعض الوقائع المحكمة في هذا الموضوع، لظن الجميع عن حق أني لم أنجز حتى الآن إلا الشيء القليل؛ إذ يظل كل فرد حرا في أن يقحم على الإيمان ما يشاء بحجة أن ما يقحمه وسيلة ضرورية للطاعة، وهو أمر تظهر خطورته بوجه خاص عند البحث في مسألة صفات الله.
وإذن فلكي أسير في هذا الموضوع بترتيب سليم، سأبدأ بتعريف الإيمان ابتداء من المبدأ الذي سلمنا به، فأقول: إن الإيمان هو أن ننسب إلى الله بالفكر خصائص يؤدي الجهل بها إلى ضياع الطاعة، على حين أن وجود الطاعة يستتبع وجود هذه الخصائص بالضرورة. وهذا تعريف واضح للغاية، وهو يترتب على البراهين السابقة بقدر من الوضوح لا يحتاج معه إلى أي شرح. وسأحاول الآن باختصار أن أحصي نتائجه: (1)
يجلب الإيمان الخلاص لا بنفسه بل لأنه يتضمن الخضوع، أو كما يقول يعقوب (2: 17):
6
الإيمان دون الأعمال مائت (انظر في هذا الموضوع كل الإصحاح الذي كتبه هذا الحواري). (2)
ونتيجة لذلك، يكون الإنسان المطيع حقا هو صاحب الإيمان الحق،
7
أعني ذلك الإيمان الذي يكون الخلاص ثمرة له. ألم نقل أنه إذا وجدت الطاعة وجد الإيمان؟ وهذا ما يقوله الحواري نفسه صراحة (2: 18): «فأرني إيمانك بغير الأعمال أما أنا فأريك إيماني بالأعمال.» وكذلك يقول (الرسالة الأولى، 4: 7-8): «فكل من يحب (جاره) فهو مولود من الله وعارف به، ومن لا يحب فإنه لا يعرف الله لأن الله محبة.» ومن هذا نستنتج مرة أخرى أنه لا يمكن الحكم على أحد بأنه مؤمن أو غير «مؤمن إلا بأعماله، فإذا كانت أفعاله حسنة، مع اختلافه في عقائده » عن بقية المؤمنين، فهو مؤمن، وإذا كانت أفعاله سيئة واتفقت عقائده لفظيا مع الآخرين، فهو غير مؤمن؛ ذلك لأنه إذا وجدت الطاعة وجد الإيمان بالضرورة، والإيمان دون الأعمال مائت.
8
وهذا ما يقوله يوحنا صراحة في الآية 13 من الإصحاح نفسه: «وبهذا نعلم أننا نثبت فيه وهو فينا بأنه آتانا من روحه.»
9
أي المحبة؛ لأنه قال قبل ذلك إن الله محبة. وهو يستنتج من ذلك (أي من المبادئ التي سلم بها من قبل) أن روح الله تسكن في الإنسان حقيقة عندما يحب، بل إنه استنتج اعتمادا على أن أحدا لم ير الله، لأن أحدا لا يشعر بالله أو يدركه إلا بحب الجار، وبالتالي فإن أحدا لا يستطيع أن يعرف أية صفة لله سوى هذه المحبة بقدر مشاركتنا فيها. وعلى الرغم من أن حججي ليست قاطعة، فإنها تفسر بوضوح ما قصد إليه يوحنا. ويتضح ذلك على نحو أصرح في الآيات 3، 4 من الإصحاح 2 من الرسالة نفسها، التي تبين صراحة ما نود بيانه: «وبهذا نعلم أنا قد عرفناه بأن نحفظ وصاياه. فمن قال إني عرفته ولم يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه.» ومن ذلك ننتهي من جديد إلى النتيجة القائلة: إن من يضطهد الشرفاء محبي العدل لأنهم يختلفون معه في الرأي ولا يعتنقون العقائد نفسها أو حقائق الإيمان نفسها، إنما هو عدو المسيح الحقيقي؛ ذلك لأننا نعلم أن حب العدل والإحسان يكفي ليكون الإنسان مؤمنا، ومن يضطهد المؤمنين يكون عدوا للمسيح. ويترتب على ذلك، أخيرا، أن الإيمان يتطلب عقائد تحث على التقوى وقادرة على توجيه معتنقيها إلى الطاعة، أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة. ولا يهم بعد ذلك ألا يكون العدد الأكبر من هذه العقائد محتويا على ذرة واحدة من الحقيقة،
10
ويكفي ألا يعرف من يعتنقونها أنها باطلة، وإلا لتمردوا عليها بالضرورة؛ إذ كيف يمكن لفرد، يسعى إلى حب العدل وطاعة الله، أن يعبد شيئا، على أنه إلهي، وهو يعلم أنه غريب على الطبيعة الإلهية؟ على أن الناس قد يخطئون لسذاجة عقولهم، والكتاب كما نعلم ، لا يدين الجهل، بل العصيان وحده، بل إن هذا ينتج بالضرورة عن تعريف الإيمان وحده؛ لأن الإيمان كله يرتكز على الأساس الشامل الذي برهنا عليه من قبل، وعلى الغاية الوحيدة التي يرمي إليها الكتاب - ما لم يكن هدفنا هو الخلط بين الإيمان وما يروق لنا من الأحكام. وإذن، فالإيمان لا يتطلب عقائد صحيحة، بل عقائد تؤدي ضرورة إلى الطاعة، أي تثبت القلوب على حب الجار؛ إذ إن كل إنسان لا يكون في الله، ولا يكون الله في كل إنسان (كما يقول يوحنا)، إلا بمقدار هذا الحب. وإذن فلما كان علينا، كيما نحكم على تقوى كل إيمان أو فسوقه، ألا نأخذ في اعتبارنا سوى طاعة من يعتنق هذا الإيمان أو عصيانه، بغض النظر عن صحة الإيمان ذاته أو بطلانه، وكذلك لما كان من المسلم به أن التكوين الذهني للبشر متعدد للغاية، إذ لا يستريح كل الناس للأفكار نفسها، بل على العكس، تحكمهم أفكار مختلفة، بحيث إن الأفكار التي تحث أحدهم على التقوى، قد تثير في نفس الآخر السخرية والاحتقار، فإننا نستنتج من ذلك كله أن الإيمان الكاثوليكي أو الشامل، لا يحتوي على أية عقائد يمكن أن تثير خلافا بين الشرفاء. وأما العقائد التي تقبل الجدل فتحث على الطاعة عندما تعتنقها نفس طيبة، وعلى الفسوق عندما تعتنقها نفس أخرى (ما دام العامل الحاسم هو الأعمال وحدها). والواقع أن الإيمان الشامل لا يحتوي إلا على عقائد تحث على طاعة الله على نحو مطلق، ويؤدي الجهل بها إلى أن تستحيل الطاعة تماما. أما الجوانب الأخرى للعقيدة فإن لكل فرد - ما دام هو خير من يعرف نفسه - أن يتصورها كما يشاء بحيث يتسنى له أن يسلك على خير نحو طبقا للحب والعدل. وأظن أن هذه القاعدة تمنع أي نزاع داخل الكنيسة.
والآن، لم يعد هناك ما أخشاه من صياغة عقائد الإيمان الشامل أي المعتقدات الأساسية التي استهدفها الكتاب الشامل.
11
هذه العقائد يجب أن تتجه (كما يترتب بوضوح تام على ما جاء في هذا الفصل وفي الفصل السابق) إلى مبدأ واحد؛ هو أن هناك موجودا أسمى يحب العدل والإحسان يلزم الجميع طاعته حتى يتم لهم الخلاص، ويتعين عليهم عبادته بممارسة العدل والإحسان نحو الجار. وابتداء من هذا المبدأ نستطيع بسهولة أن نحدد باقي المبادئ، وهي: (1)
يوجد إله، أي موجود أسمى، خير ورحيم على نحو مطلق، أي إنه بعبارة أخرى نموذج للحياة الحقة، فمن لا يعرفه أو يؤمن بوجوده لا يستطيع طاعته أو الاعتراف به حكما. (2)
الله واحد لا شريك له، وهو أمر لا يمكن أن يشك أحد في أنه ضروري ضرورة مطلقة، لكي يكون الله موضوعا أسمى للخشوع والإجلال والمحبة؛ إذ لا ينشأ هذا الخشوع وهذا الإجلال وهذه المحبة إلا من رفعة هذا الموجود وسموه على غيره من الموجودات. (3)
الله حاضر في كل مكان ويرى كل شيء، فلو اعتقدنا أن شيئا يخفى عليه، أو لم نعلم أنه يرى كل شيء، لتطرق إلينا الشك في كمال عدله الذي يخضع له كل شيء. (4)
لله الحق والقدرة المطلقة على كل شيء، وهو لا يجبر على أفعاله بل يفعل ما يشاء بمشيئة مطلقة وبفضل ينفرد به. وعلى حين أن طاعته واجبة على الجميع فإنه لا يطيع أحدا. (5)
عبادة الله وطاعته لا تكون إلا في العدل والإحسان، أي في حب الجار. (6)
لا يتم الخلاص إلا لمن يطبقون هذه القاعدة في الحياة، أي لمن يطيعون الله، على حين يهلك من يعيشون تحت سيطرة اللذات، ولو لم يعتقد الناس بذلك اعتقادا جازما لما كان هناك ما يدعوهم إلى إيثار طاعة الله على السعي وراء اللذات. (7)
وأخيرا، يغفر الله للتائبين خطاياهم، وكل بني آدم خطاءون. فهذا أمر لو لم يسلم به ليئس الجميع من خلاصهم، ولما وجدوا سببا للإيمان بالرحمة الإلهية. أما من يعتقد اعتقادا جازما بأن الله برحمته وبفضله الذي وسع كل شيء يغفر ذنوب البشر حقا، ومن ثم من يشتاق حب الله، فإنه يعرف المسيح حقا بالروح ، ويكون المسيح فيه.
إن أحدا لا يستطيع أن يجادل في أن معرفة هذه الأمور ضرورية أولا وقبل كل شيء حتى يتسنى للناس جميعا، وبلا استثناء، أن يطيعوا الله طبقا لوصية الشريعة التي شرحناها من قبل. ففي رفض أحد هذه المعتقدات رفض لطاعة الله، أما معرفة ما هو الله، أي أنموذج الحياة الحقة، فإن كونه نارا أو روحا أو نورا أو فكرا ... إلخ، لا يمس الإيمان في شيء، وكذلك لا يهم الإيمان تحديد المعنى الذي يكون به نموذجا للحياة الحقة، وهل يرجع ذلك إلى أنه عادل رحيم أو قادر على كل شيء، أم إلى أننا به نعلم ونرى ما هو حق وعدل؛
12
لأن الأشياء جميعا لا تكون ولا تفعل إلا به، فمهما كانت الآراء التي كونها كل منا حول هذا الموضوع، فإنها كلها تتساوى في قيمتها. ومن ناحية أخرى لا يهم الإيمان في شيء أن يكون الله في كل مكان بفضل ماهيته أو بفضل قدرته، وأن يكون تدبيره الشامل للأمور طبقا لحريته أو طبقا لضرورة طبيعته، وأن يضع القوانين كما يضعها الحاكم، أو أن يعلمها بوصفها حقائق أزلية، وأن يطيع الإنسان الله بإرادته الحرة أو بالضرورة الصادرة عن المشيئة الإلهية، وأخيرا أن يكون ثواب الأخيار وعقاب الأشرار، أمرا ينتمي إلى الطبيعة أم إلى خوارق الطبيعة. أقول: إنه مهما اختلفت الطرق التي يوضح بها كل فرد هذه المسائل وما شابهها فإنها لا تؤثر في الإيمان مطلقا، بشرط واحد هو ألا يكون هدفه من النتائج التي يصل إليها هو أن يسمح لنفسه بمزيد من الحرية في ارتكاب الإثم، أو أن يصبح أقل طاعة لله. بل إنني لأذهب إلى أبعد من ذلك، فأقول: إن كل فرد - كما بينت من قبل - ملزم بأن يهيئ عقائده في الإيمان على قدر فهمه الخاص، وأن يفسرها بحيث يسهل عليه اعتناقها دون أي تردد
13
وبقلب صادق، كيما تأتي طاعة الله بدورها عن رغبة صادقة؛ ذلك لأنه، مثلما أن الإيمان قد أوحي به قديما، وكتب على قدر فهم الأنبياء والعامة في عصرهم، وطبقا لمعتقداتهم، فكذلك يتعين على كل فرد أن يهيئ الإيمان وفقا لآرائه، حتى يمكنه اعتناقه دون أدنى مقاومة من فكره، ودون أي تردد، فالإيمان - كما نود أن نردد مرة أخرى - لا يتطلب من الحقيقة بقدر ما يتطلب من التقوى، وهو لا يكون باعثا على التقوى، ولا يؤدي إلى الخلاص إلا بقدر حثه على الطاعة. وعلى ذلك، فأفضل المؤمنين ليس بالضرورة من يعرض أفضل الحجج، بل هو الذي يقدم أفضل أعمال العدل والإحسان. وإني لأترك لكل منكم حرية الحكم في مدى نفع هذه العقيدة وضرورتها للدولة إذا أردنا أن يعيش الناس في سلام ووئام، وفي مقدار ما تتيح من تجنب أسباب القلاقل والجرائم، وما أكثرها وما أخطرها.
وقبل أن أستمر في البحث نلحظ أنه من السهل علينا - اعتمادا على ما أثبتناه الآن - تفنيد الاعتراضات التي أثيرت (في الفصل الأول) بشأن الحديث الذي وجهه الله للإسرائيليين من فوق جبل سيناء. فلا شك في أن الصوت الذي سمعوه لم يكن يستطيع أن يعطيهم أي يقين فلسفي، أي رياضي، بوجود الله، ولكنه كان مع ذلك كافيا لأن يثير فيهم إجلال الله كما كانوا يعرفونه من قبل، وأن يحثهم على طاعته، وقد كان ذلك هو الغرض من هذا التجلي، فالله لم يكن يرمي إلى تعليم الإسرائيليين صفات ماهيته المطلقة (التي لم يكشف منها عن شيء في تلك اللحظة) بل أراد أن يكسر من حدة عصيانهم وأن يجبرهم على طاعته؛ لذلك تجلى لهم بضربات البوق والرعد والبرق لا بحجج عقلية (انظر: الخروج، 20: 20).
14
وأخيرا، بقي أن نبين الآن أنه لا توجد أية صلة أو قرابة بين الإيمان واللاهوت من ناحية وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وهذا أمر لا يمكن أن يجهله من يعلم غاية كل من هذين المبحثين وأساسه؛ إذ إنهما متعارضان أشد التعارض، فغاية الفلسفة هي الحق وحده، وغاية الإيمان كما بينا من قبل، هي الطاعة والتقوى وحدهما. ومن ناحية أخرى، فإن الأسس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المشتركة، وهذه يجب أن تستخلص من الطبيعة وحدها. أما الإيمان فأسسه هي التاريخ وفقه اللغة، وهي أسس ينبغي أن تستمد من الكتاب والوحي وحدهما، كما بينا في الفصل السابع. فالإيمان إذن يكفل لكل فرد الحرية المطلقة في أن يتفلسف، حتى ليستطيع أن يفكر كما يشاء في أي موضوع دون أن يكون بذلك قد ارتكب جرما، وهو لا يدين إلا من يدعون الناس إلى العصيان والكراهية والمنازعات والغضب، بوصفهم الخارجين على الدين ودعاة الفتن. أما المؤمنون بحق فهم عنده أولئك الذين يدعون الناس من حولهم إلى العدل والإحسان بقدر ما تسمح لهم عقولهم وقدراتهم. وأخيرا، فبما أني قد وصلت هنا إلى الموضوع الأساسي لهذه الرسالة،
15
فإني أود أن أدعو القارئ على الفور، قبل أن أستمر في بحثي إلى أن يقرأ هذين الفصلين بعناية خاصة، وأن يعطيهما ما يستحقانه من دراسة وافية. وأرجو ألا يعتقد بأني قد كتبت ما كتبت رغبة مني في تقديم بدع جديدة، بل لكي أرد على بعض الأحكام الخاطئة التي أرجو أن تصحح في يوم من الأيام.
الفصل الخامس عشر
اللاهوت ليس خادما للعقل
وفيه نبين أن اللاهوت ليس خادما للعقل وأن العقل ليس خادما للاهوت، السبب الذي يدفعنا إلى التسليم بسلطة الكتاب المقدس.
1 ***
تدور مناقشة بين من يفرقون بين الفلسفة واللاهوت حول مسألة ما إذا كان الكتاب ينبغي أن يكون خادما للعقل، أم العقل خادم للكتاب؛ أي هل يجب إخضاع معنى الكتاب للعقل أم إخضاع العقل للكتاب؟ إن الموقف الأخير هو موقف الشكاك الذين ينكرون يقين العقل، أما الموقف الأول فهو موقف القطعيين. وقد اتضح من عرضنا السابق أن كلا النظريتين مخطئة أشد الخطأ، فتبعا لوجهة النظر التي نأخذ بها، وهل هي الأولى أو الثانية، يصبح العقل أو الكتاب فاسدا بالضرورة. والواقع أننا قد بينا بالعقل أن الكتاب لا يعلم الفلسفة بل يدعو إلى التقوى وحدها، كما بينا أن مضمونه كله مهيأ على قدر فهم العامة وأحكامهم المسبقة. وإذن فمن يريد إخضاع الكتاب للفلسفة فإنه ينسب بخياله إلى الأنبياء أفكارا لم تخطر ببالهم حتى في الحلم، ويسيء تأويل فكرهم، وعلى العكس من ذلك، فإن من يجعل العقل والفلسفة خادمين للاهوت، يضطر إلى قبول الأحكام المسبقة للعامة في العصور الماضية على أنها أمور إلهية، بحيث تطغى هذه الأحكام المسبقة على ذهنه وتعميه كلية؛ وعلى ذلك، فإن كليهما يهذي: الأول بدون العقل، والثاني بالعقل. ولقد كان أول من ادعى، من بين الفريسيين، وجوب إخضاع الكتاب للعقل هو ابن ميمون،
2 (وقد لخصنا موقفه في الفصل السابع ودحضناه بحجج عديدة). ومع ما يكن الفريسيون لهذا المؤلف من احترام بالغ، فإن جمهورهم خالفه في هذا الموضوع، واتبع رأي يهوذا الفخار
3
الذي أراد أن يتجنب خطأ ابن ميمون فوقع في الخطأ المضاد،
4
وهو ضرورة نزول العقل على حكم الكتاب وخضوعه له كلية.
5 ⋆
فقد رأى أنه لا ينبغي تفسير أي فقرة من الكتاب تفسيرا مجازيا (كما يفعل البعض) بدعوى أن المعنى الحرفي مناقض للعقل، بل إن هذا التفسير لا يجوز إلا حين يتناقض هذا المعنى مع الكتاب ذاته، أي مع العقائد التي يدعو إليها بوضوح. وهكذا صاغ هذه القاعدة الشاملة: «كل ما يدعو له الكتاب بطريقة قطعية،
6 ⋆
وينص عليه بألفاظ صريحة، يجب قبوله على أنه حق مطلق، اعتمادا على سلطة الكتاب وحدها.» ولن نجد في الكتاب عقيدة تتعارض مع عقيدة أخرى تعارضا مباشرا، بل نجد التعارض فقط بين النتائج المترتبة عليها، بمعنى أن طرق الكتاب في التعبير تبدو وكأنها تفيد عكس ما يدعو إليه صراحة؛ ولهذا السبب وحده يجب تفسير هذه الفقرات تفسيرا مجازيا. فمثلا يدعو الكتاب صراحة إلى أن الله واحد لا شريك له (انظر: التثنية، 6: 4)،
7
ولا يوجد أي نص يؤكد تأكيدا مباشرا تعدد الآلهة، ولكننا نجد من ناحية أخرى نصوصا كثيرة يتحدث فيها الله عن نفسه ويتحدث فيها الأنبياء عن الله في صيغة الجمع، وما هذا إلا أسلوب في الحديث يفيد ضمنا تعدد الآلهة، دون أن يشير النص إلى ذلك صراحة؛ ولهذا السبب - أي لأن الكتاب يدعو دعوة صريحة لوحدانية الله، لا لأن هذا التعدد مناقض للعقل - يجب تفسير هذه الفقرات تفسيرا مجازيا. كذلك يدعو الكتاب صراحة (في رأي الفخار) في سفر التثنية (4: 15)
8
إلى أن الله لا جسم له، ومن ثم فنحن ملزمون، بناء على شهادة النص القاطعة، لا على شهادة العقل، بالاعتقاد بأن الله لا جسم له، ومن ثم فإننا ملزمون أيضا، بناء على سلطة هذا النص وحده، بأن نفسر تفسيرا مجازيا كل الفقرات التي تنسب إلى الله يدين وقدمين ... إلخ، وهي الفقرات التي يبدو أن أسلوبها في التعبير ينطوي على نسبة الجسمية إلى الله. هذا إذن هو رأي هذا الكاتب، وإني على رغبته في تفسير الكتاب بالكتاب، ولكني أعجب كيف يحاول رجل وهب نعمة العقل أن يهدم العقل؟! صحيح أنه يجب تفسير الكتاب بالكتاب ما دمنا نجد صعوبة في الاهتداء إلى معنى النصوص وفكر الأنبياء، ولكن ما إن نجد المعنى الصحيح حتى يجب أن نستخدم قدرتنا على الحكم وأن نعمل عقلنا حتى يمكننا الموافقة
9
على هذا الفكر. وإني لأتساءل: إذا كان على العقل أن يخضع للكتاب بالرغم من معارضته له، فهل ينبغي أن يقوم هذا الخضوع على العقل، أم يكون خضوعا أعمى؟ لو كان خضوعا أعمى فإننا نسلك كالبلهاء، بلا حكمة: ولو كان خضوعا قائما على العقل فإننا نأخذ جانب الكتاب بناء على أمر العقل وحده، ومن ثم فلو عارض العقل لما سلمنا به. وإني لأتساءل مرة أخرى: كيف يقبل المرء بفكره معتقدا يعارضه العقل؟ وماذا يعني رفض أي شيء بالفكر سوى أن العقل يعارضه؟ لذلك فإني لا أستطيع أن أكتم دهشتي البالغة عندما أجد أحدا يريد إخضاع العقل، هذه الهبة العليا، وهذا النور الإلهي، لحرف مائت استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحدا يعتقد أنه لا يرتكب جرما حين يحط من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحق على كلام الله، ويتهمه بالفساد والعمى والسقوط، على حين أنه يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله صنما معبودا، ومن ثم يعتقد أن أشنع الجرائم هو وصف هذا الحرف بالصفات السابقة.
وهكذا، يظن المرء نفسه تقيا حين يبدي ارتيابه في العقل والحكم السليم، ويرى أن الفسوق إنما يكمن في إبداء أقل قدر من الشك فيمن نقلوا لنا الكتب المقدسة، ولكن ما أبعد ذلك عن التقوى! إنه هو الخبل المحض! وإني لأتساءل: ما هذا القلق الذي استولى عليهم؟ ماذا يخافون؟ هل يلزم للدفاع عن الدين وللإيمان أن يبذل الناس جهدهم من أجل الجهل بكل شيء، وأن يلغوا عقولهم نهائيا؟ الحق أن من يعتقد هذا الرأي خاف من الكتاب أكثر مما يثق فيه، فلنرفض إذن على نحو قاطع هذه الفكرة القائلة بأن الدين والتقوى يريدان أن يجعلا من العقل خادما، أو أن العقل يريد إخضاع الدين له، ولنرفض أيضا الفكرة القائلة بأن العقل والإيمان لا يستطيعان العيش في سلام ووئام، كل في ميدانه الخاص. وتلك على أية حال مسألة سنبحثها دون إبطاء، ولكن علينا قبل ذلك أن نفحص أولا قاعدة هذا الحبر، فهو كما قلنا يريد إجبارنا على أن نقبل كل ما يثبته الكتاب على أنه حق وأن نرفض كل ما ينفيه الكتاب على أنه باطل. (بالإضافة إلى أن الكتاب - فيما يقول - لا يثبت أو ينفي شيئا يناقض ما أعلنه في نصوص أخرى)
10
ولا يجهل أحد إذن أن هاتين قضيتان خرافيتان، وأنا لن آخذ عليه هنا أنه لم يدرك أن الكتاب ربما يكون من كتب مختلفة، دونها مؤلفون مختلفون، في عصور مختلفة، لقراء مختلفين، ولن أذكر أيضا أنه وضع مبادئه بوحي من آرائه الشخصية، لأنها لا تعتمد على العقل ولا على الكتاب، وكان يجب عليه على الأقل أن يبرهن على إمكان التفسير المجازي المقبول لكل الفقرات التي لا يوجد بينها إلا تناقض ضمني فحسب، وذلك دون تعسف مع اللغة، ومع عمل حساب للسياق دائما. ومن ناحية أخرى كان عليه أن يبرهن على أن الكتاب وصل إلينا دون تحريف. فلنفحص هذه الموضوعات على التوالي، وأبدأ أولا بسؤاله: ما العمل إذا عارض العقل؟ هل نحن مضطرون مع ذلك لقبول ما يثبته الكتاب على أنه حق ورفض ما ينفيه على أنه باطل؟ قد يجيب بأنه لا يوجد في الكتاب ما يناقض العقل.
11
ومع ذلك، فإني أصر على رأيي: فالكتاب يؤكد صراحة أن الله غيور (انظر: الوصايا العشر في الخروج، 34: 14، التثنية، 4: 24، وفقرات أخرى كثيرة)
12
وهذا مناقض للعقل، فيجب إذن أن نفترض، بالرغم من اعتراض العقل، بأن ذلك صحيح. وحتى لو وجدنا نصوصا أخرى في الكتاب تفيد أن الله ليس غيورا، فيجب تفسير هذه النصوص الأخيرة تفسيرا مجازيا حتى لا يكون لدينا معان متعارضة. وكذلك ينص الكتاب صراحة على نزول الله على جبل سيناء (انظر: الخروج، 19: 20 ... إلخ)
13
وينسب إليه في مواقع عديدة حركات في المكان، على حين أنه لا يوجد نص واحد يفيد صراحة أنه لا يتحرك. فعلينا إذن أن نؤمن بأن الله يتحرك بالفعل. صحيح أن سليمان قال: إن الله لا يوجد في مكان (انظر: الملوك الأول، 8: 27)،
14
ولكنه لم يعلن صراحة أن الله لا يتحرك وكان ذلك مجرد استنتاج مما قال. فعلينا إذن أن نفسر الفقرة بحيث لا تنفي حركة الله في المكان، كذلك يجب النظر إلى السموات على أنها مسكن لله وعرشه، لأن الكتاب ينص على ذلك صراحة، وهكذا الحال في نصوص كثيرة تتفق مع معتقدات الأنبياء والعامة، ولا يستطيع كشف بطلانها إلا العقل والفلسفة وحدهما لا الكتاب. ومع ذلك فمن الواجب افتراض صحة هذه النصوص كلها، كما يدعي هذا الكتاب، لأننا لا ينبغي أن نحكم العقل في مثل هذه الأمور، ومن ناحية أخرى لا أوافق على التناقض الموجود بين أي نصين من الكتاب تناقضا غير مباشر أو غير صريح؛ إذ يؤكد موسى تأكيدا مباشرا أن الله نار (انظر: التثنية، 4: 24)
15
ويرفض رفضا باتا أن يكون مشابها للموضوعات الحسية (انظر: التثنية، 4: 24)
16
فهل يدعي الفخار أن موسى ينكر ضمنا لا صراحة أن الله نار؟ حينئذ يجب تفسير النص الذي ينكر المظهر الحسي لله بحيث لا يبدو مناقضا للنص الآخر. فلنسلم جدلا بأن الله نار ... ولكني أفضل أن أترك هذا المثل وأذكر مثلا آخر حتى لا نشطح مع هذا المؤلف: ينفي صموئيل
17
نفيا قاطعا أن الله يندم على قرار اتخذه (انظر: صموئيل الأول، 15: 29)،
18
ويؤكد إرميا عكس ذلك، أي أن الله يندم على ما قرره من خير أو شر (انظر: إرميا، 18: 8-10)
19
فما العمل؟ ألا يتعارض هذان التصريحان تعارضا مباشرا. وأي التصريحين يراد تفسيره تفسيرا مجازيا؟ إن القضيتين كليتان متناقضتان، تثبت إحداهما صراحة ما تنفيه الأخرى صراحة. وتطبيقا للقاعدة التي وضعها، عليه أن يسلم بأن كلا منهما صحيحة وبأنه يجب رفعها بوصفها قضية كاذبة. كذلك لا يهم كثيرا أن يكون التناقض بين نص ونص آخر تناقضا غير مباشر، إذا كانت النتيجة التي استخلصناها منه واضحة، وإذا لم يكن السياق أو طبيعة النص يسمح بتفسير مجازي، على أننا نجد في الكتاب نصوصا كثيرة من هذا النوع، كما رأينا في الفصل الثاني (وقد بينا فيه أن الأنبياء دعوا إلى معتقدات مختلفة ومتعارضة)، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرارها كلها، فقد قلنا ما يكفي للبرهنة على امتناع النتائج المترتبة على قاعدة الفخار وعلى بطلانها، ولإثبات تسرع هذا الكاتب.
وهكذا برهنا على بطلان هذه الطريقة الثانية في تفسير الكتاب، كما برهنا من قبل على بطلان طريقة ابن ميمون، وبذلك نكون قد أثبتنا أن اللاهوت ليس خادما للعقل، وأن العقل ليس خادما للاهوت، بل إن لكل منهما مملكته الخاصة؛ للعقل مملكة الحقيقة والحكمة، كما قلنا من قبل، وللاهوت مملكة التقوى والخضوع، وقد بينا أن قدرة العقل لا تذهب إلى حد يستطيع معه أن يقرر إذا كان الناس يستطيعون الحصول على السعادة بالطاعة وحدها دون معرفة بالأشياء، وفي مقابل ذلك، لا يدعي اللاهوت إلا هذا، ولا يوحي إلا بالطاعة، ولا يريد أو يستطيع أن يفعل شيئا مضادا للعقل، فهو يحدد عقائد الإيمان (كما بينا في الفصل السابق) على قدر ما تتطلبه الطاعة ويترك للعقل، الذي هو نور الفكر، والذي بدونه لا يرى إلا أحلاما وخيالات، مهمة تحديد المعنى الدقيق الذي ينبغي أن تفهم به هذه العقائد بغية الوصول إلى حقيقتها. وأنا أعني باللاهوت هنا، على وجه التحديد، الوحي من حيث إنه يشير إلى الغاية التي قلنا إن الكتاب يرمي إليها (أي بواعث الخضوع وطرقه، أي عقائد الإيمان الصحيح والتقوى الصادقة) أي ما يمكن تسميته حقيقة بكلام الله، الذي لا ينحصر في عدد معين من الكتب (انظر في هذا الموضوع الفصل الثاني عشر). وبهذا المعنى الدقيق يتفق اللاهوت إذا تأملنا وصاياه وتعاليمه في الحياة، اتفاقا تاما مع العقل، كما أن غايته وهدفه لا يتعارضان مع العقل، وبالتالي فهو شامل يخاطب جميع الناس. أما بالنسبة إلى الكتاب على وجه العموم فقد بينا من قبل في الفصل السابع أن تحديد معناه يجب أن يقوم على النقد التاريخي وحده لا على تاريخ الطبيعة الشامل، الذي هو المعطى الأساسي للفلسفة وحدها. وعندئذ، فإذا افترضنا أننا بعد أن بحثنا عن المعنى الصحيح للكتاب، وجدنا فيه ما يناقض العقل، فلا ينبغي التوقف عنده لأننا نعلم عن يقين أن كل ما يمكن وجوده، بهذا الوصف، في الكتاب - شأنه شأن الأفكار التي يمكن أن يجهلها الناس دون أن ينال ذلك من الإحسان - لا صلة له باللاهوت أو بكلام الله، وبالتالي يستطيع كل فرد في مثل هذه الأمور أن يفكر كما يشاء دون أي خوف. نستنتج إذن، على نحو قاطع، أنه لا ينبغي أن يخضع الكتاب للعقل ولا العقل للكتاب.
ومع ذلك، فلما كنا لا نستطيع أن نبرهن عقلا على صحة أو بطلان المبدأ الأساسي للاهوت،
20
أعني أن خلاص البشر إنما يكون بالطاعة وحدها، فقد يعترض معترض قائلا: لم نعتقد ذلك؟ إن كنا نؤمن بهذه العقيدة إيمانا أعمى فنحن بدورنا نتصرف كالبلهاء المفتقرين إلى الحكمة. أما إذا بينا أنه يمكن البرهنة على هذا الأساس عقلا، ففي هذه الحالة يصبح اللاهوت جزءا من الفلسفة ولن يمكن فصله عنها. وردي على ذلك، هو أني أوافق تماما على أنه يستحيل كشف العقيدة الأساسية للاهوت بالنور الطبيعي، أو على الأقل لم يبرهن أحد على ذلك مطلقا، وبالتالي كان الوحي ضروريا إلى أقصى درجة. ومع ذلك، فإننا نستطيع أن نبرر قبولنا لهذه العقيدة الموحى بها بحيث يكون لدينا بشأنها يقين أخلاقي على الأقل. وأقول: إنه يقين أخلاقي لأننا لا نستطيع أن ندعي بشأنها يقينا أعظم مما وصل إليه الأنبياء أنفسهم عندما تلقوا الوحي الأول بهذه العقيدة. وقد كان يقين الأنبياء أخلاقيا خالصا كما بينا في الفصل الثاني من هذه الرسالة. وإذن فمن الخطأ البين أن يريد المرء إقامة سلطة الكتاب على براهين رياضية؛ ذلك لأن سلطة الكتاب تتوقف على سلطة الأنبياء، فلا يمكن إذن البرهنة عليها بحجج أقوى من تلك التي اعتاد الأنبياء استعمالها لإقناع الناس بسلطتهم، بل إن يقيننا نفسه بهذا الموضوع لا يمكن أن يرتكز على أي أساس سوى هذا الذي أقام عليه الأنبياء أنفسهم يقينهم وسلطتهم الخاصة. وقد بينا من قبل أن يقين الأنبياء قائم على دعائم ثلاث: (1) خيال خصب واضح. (2) آية. (3) وأخيرا، بوجه خاص، نفس تنزع إلى العدل والخير. ولم يقيموا يقينهم على دعائم أخرى، وبالتالي كانت هذه هي الدعائم الوحيدة التي أمكنهم بها البرهنة على سلطتهم للناس بالحديث المباشر في أثناء حياتهم، ولنا بكتاباتهم بعد مماتهم. على أن الدعامة الأولى (التخيل الخصب لبعض الأمور) لا يسري تأثيرها إلا على الأنبياء وحدهم، وبالتالي لا بد أن يكون يقين الآخرين في موضوع الوحي مركزا بأسره على الدعامتين الأخريين فقط: الآية والعقيدة. وهذا ما دعا إليه موسى صراحة؛ ففي سفر التثنية (الإصحاح، 8)
21
يأمر الشعب بطاعة كل نبي قدم آية صحيحة باسم الله، أما إذا تنبأ النبي بشيء خطأ، حتى لو فعل ذلك باسم الله، فيجب الحكم عليه بالموت، شأنه شأن من أراد إبعاد الناس عن سبيل الدين الصحيح، حتى لو كان قد دعم سلطته بالآيات وبخوارق الأفعال(انظر: التثنية، الإصحاح 13).
22
والنتيجة التي تترتب على ذلك هي أن النبي الصادق يتميز عن النبي الكاذب بالعقيدة وبالمعجزة، ومن يجتمع فيه هذان الشرطان يعترف به موسى نبيا صادقا ويأمر الناس بأن يطيعوه دون أن يخشوا منه خداعا، أما الأنبياء الكذبة فهم الذين يتنبئون خطأ ولو باسم الله أو يدعون لآلهة باطلة، ولو قاموا بمعجزات حقيقية. وعلى ذلك فعلينا بدورنا أن نؤمن بالكتاب لهذا السبب نفسه فحسب، وأعني به أن عقيدته مؤيدة بالآيات. وبما أننا نرى أن الأنبياء قد أوصوا حقيقة بالإحسان والعدل وفضلوهما على كل شيء آخر، يحق لنا أن نؤمن بأنهم لم يريدوا خداعنا عمدا، بل كانوا يتحدثون بإخلاص عندما دعوا إلى أن السعادة الروحية للبشر إنما تكون في الطاعة والإيمان. ولما كانوا قد أيدوا دعوتهم هذه بالآيات أيضا، فإن هذا كفيل بإقناعنا بأنهم كانوا جادين في حديثهم، وأنهم لم يكونوا يهذون عندما كانوا يتنبئون، ويزداد اقتناعنا قوة عندما نرى أن كل تعاليمهم الخلقية متفقة مع العقل؛ إذ إن الاتفاق التام بين كلام الله، الذي أعطاه الأنبياء، وكلام الله الذي يوجد في أعماق سرائرنا، أمر له أهميته القصوى، وبذلك تكون المعتقدات التي نستخلصها الآن من الكتاب، مماثلة في يقينها لتلك التي استخلصها اليهود من قبل من الكلام الذي سمعوه من النبي بالفعل. والواقع أننا قد بينا في نهاية الفصل الثاني عشر أن الدروس الأخلاقية، وكذلك معظم الروايات التاريخية في الكتاب قد وصلت إلينا دون تحريف. وإذن فعلى حين أنه لا يمكن البرهنة على العقيدة الأساسية التي يقوم عليها اللاهوت كله والكتاب ببرهان رياضي، فإن قبولنا لها أمر مشروع إلى أبعد حد. وإنه ليكون من خطأ الرأي حقا ألا تقبل عقيدة تؤيدها شهادات كل هذا العدد من الأنبياء، ويستطيع أولئك الذين لا تبلغ عقولهم مستوى رفيعا أن يجدوا فيها كل هذا العزاء، وينتج عنها نفع كبير للدولة، فضلا عن أن التسليم بها تسليما مطلقا لا يستتبع أي خطر أو خسارة. أقول: إن من خطل الرأي رفضها لا لشيء إلا لاستحالة البرهنة عليها رياضيا. فهل نحن نحرص دائما، عندما نود أن ننظم حياتنا بحكمة، على ألا نحكم على شيء بأنه حقيقة ما لم تغب عنه جميع أسباب الشك؟ أليست معظم أفعالنا حافلة بالمخاطر، مفتقرة إلى اليقين؟ إني لأعترف، فضلا عن ذلك، بأن من يرون تعارض الفلسفة واللاهوت فيما بينهما، ويرون بالتالي ضرورة استبعاد أحدهما من مملكته، وضرورة إلغاء أحدهما في سبيل الآخر، يكون تفكيرهم منطقيا مع نفسه عندما يطالبون بإقامة اللاهوت على أسس متينة ويحاولون إقامة البراهين الرياضية عليه؛ إذ إن من يرضى بإلغاء العقل وباحتقار جميع العلوم والفنون وبإنكار يقين العقل، لا بد أن يكون يائسا مخبولا. ومع ذلك، فإننا لا نستطيع أن نلتمس لهم أي عذر، ما داموا يلتجئون إلى العقل لهدم العقل ويبحثون عن دافع يقيني لإنكار يقين العقل، وعندما يحاولون بالبراهين الرياضية أن يثبتوا شرعية سلطة اللاهوت وحقيقته، وأن يقضوا على سلطة العقل والنور الطبيعي، أليسوا، بهذه المحاولة ذاتها، يدفعون اللاهوت إلى الاعتراف بسيادة العقل؟ ألا يبدو أنهم يفترضون أن سلطة اللاهوت تستمد كل وضوحها من العقل ومن النور الفطري؟ أما إذا ادعوا على العكس من ذلك، أنهم لا يعتمدون إلا على الشهادة الباطنية للروح القدس، ولا يلتجئون إلى العقل إلا لإفحام الكافرين، فيجب ألا نثق بأقوالهم على الإطلاق، لأننا نستطيع أن نبرهن بسهولة على أنها صادرة عن أهوائهم وكبرهم. وقد بينا بوضوح تام في الفصل السابق أن الروح القدس لا توحي إلا بأعمال الخير التي سماها بولس لهذا السبب في الرسالة إلى أهل غلاطية ثمار الروح القدس (انظر: 5: 22)،
23
وأن هذه الروح ليست في ذاتها إلا الرضا الذي يشعر به الإنسان في قرارة نفسه عندما يؤدي أعمالا خيرة. أما حقيقة الأمور النظرية المحضة ويقينها فلا تشهد به أي روح، بل إن العقل وحده، كما بينا من قبل، هو صاحب السلطة في مملكة الحقيقة. فإذا ادعوا بأن روحا ما غير العقل هي التي تمنحهم يقين الحقيقة، فإنهم يتباهون كذبا، وتكشف أقوالهم عن حكمهم المسبق الباطل الذي تدفعهم إليه أهواؤهم، أو هم يخشون أن يفند الفلاسفة أقوالهم وأن يسخر الناس منهم، فيحتمون بالعالم المقدس ولكن دون جدوى؛ فأي معبد يمكن أن يكون ملجأ لمن يطعن في جلالة العقل؟ ولكن، حسبنا ما قلناه عنهم، إذ يكفي لإثبات رأيي أن أكون قد بينت السبب الذي يتحتم من أجله فصل الفلسفة عن اللاهوت، وأوضحت الماهية الأساسية لكل منهما، وبينت أن من المستحيل وضع أي منهما في خدمة الأخرى (إذ إن لكل منهما مملكته الخاصة، التي لا تتعارض مع الأخرى على الإطلاق)، وأخيرا كشفت كلما سنحت لي الظروف، عن المتناقضات التي تنتج عن خلط الناس على هذا النحو العجيب بين هذين المبحثين، وعدم قدرتهم على التمييز والفصل بينهما. وقبل أن أستمر في بحثي أود أن أنوه مرة أخرى
24 ⋆
بأني لا أقلل أبدا من منفعة الكتاب المقدس - أو الوحي - إذ لا يستطيع النور الفطري أن يبين لنا أن الطاعة هي وحدها طريق الخلاص،
25 ⋆
بل إن الوحي وحده هو الذي يخبرنا بأن ذلك يتم بفضل إلهي خاص يند عن فهم العقل، ومن ذلك يتضح أن الكتاب يقدم عزاء كبيرا للناس، إذ يستطيع الجميع طاعته، على حين تستطيع فئة ضئيلة للغاية من البشر أن تصل إلى حالة الفضيلة عن طريق العقل. وعلى ذلك فلو لم تكن لدينا شهادة الكتاب، لتملكنا الشك في خلاص السواد الأعظم من الناس.
الفصل السادس عشر
مقومات الدولة،1 حق الفرد الطبيعي والمدني،2 حق الحاكم3
كان اهتمامنا حتى الآن منصبا على الفصل بين الفلسفة واللاهوت، وبيان أن اللاهوت يترك لكل فرد حرية التفلسف. والآن حان الوقت لكي نتساءل: إلى أي حد يمكن المضي في ممارسة حرية الفكر والقول في أفضل الدول. ولكي نسير في بحثنا هذا بطريقة منهجية سنبدأ بمعالجة الأسس التي تقوم عليها الدولة، ونتساءل أولا: ما الحق الطبيعي لكل إنسان، بغض النظر عن الدين والدولة. أعني بالحق
4
الطبيعي وبالتنظيم الطبيعي مجرد القواعد التي تتميز بها طبيعة كل فرد، وهي القواعد التي ندرك بها أن كل موجود يتحدد وجوده وسلوكه حتميا على نحو معين. فمثلا يتحتم على الأسماك، بحكم طبيعتها، أن تعوم وأن يأكل الكبير منها الصغير، وبالتالي تستمتع الأسماك بالماء، طبقا لقانون طبيعي مطلق. والواقع أننا إذا نظرنا إلى الطبيعة في ذاتها، نجد أنها تتمتع بحق مطلق على كل من يدخل تحت سيطرتها أي إن حق الطبيعة يمتد بقدر امتداد قدرتها؛ لأن قدرة الطبيعة هي قدرة الله نفسه الذي له حق مطلق على كل شيء. ولكن لما كانت قدرة الطبيعة الشاملة كلها لا تعدو أن تكون مجموع قدرات الموجودات الطبيعية، فقد ترتب على ذلك أن يكون لكل موجود طبيعي حق مطلق على كل ما يقع تحت قدرته، أي إن حق كل فرد يشمل كل ما يدخل في حدود قدرته الخاصة. ولما كان القانون الأعظم للطبيعة هو أن كل شيء يحاول بقدر استطاعته أن يبقى على وضعه، وبالنظر إلى نفسه فقط، دون اعتبار لأي شيء آخر، فينبني على ذلك أن يكون لكل موجود حق مطلق في البقاء على وضعه، أي (كما قلنا من قبل) في أن يوجد ويسلك كما يتحتم عليه طبيعيا أن يفعل. وفي هذا الصدد، لا نجد فارقا بين الناس والموجودات الطبيعية الأخرى، أو بين ذوي العقول السليمة ومن هم خلو منها، أو بين أصحاء النفوس والأغبياء وضعاف العقول. والواقع أن كل من يفعل شيئا طبقا لقوانين الطبيعة إنما يمارس حقا مطلقا؛ لأنه يسلك طبقا لما تمليه عليه طبيعته ولا يمكنه أن يفعل سوى ذلك، فبقدر ما ننظر إلى الناس على أنهم يعيشون تحت حكم الطبيعة وحدها، نجد أن لهم جميعا وضعا واحدا؛ فمن لم يعرف العقل بعده، أو من لم يحصل بعد على حياة فاضلة، يعيش طبقا لحق مطلق، خاضع لقوانين الشهوة وحدها شأنه شأن من يعيش طبقا لقوانين العقل، وكما أن للحكيم حقا مطلقا في أن يعمل كل ما يأمر به العقل، أي من يحيا طبقا لقوانين العقل، فإن للجاهل، ولمن هو خلو من أية صفة خلقية، حقا مطلقا في أن يفعل كل ما تدفعه الشهوة نحوه، أي أن يعيش طبقا لقوانين الشهوة،
5
وتلك هي عقيدة بولس نفسها، التي لا تعترف بوجود الخطيئة قبل الشريعة (أي ما دام الناس يعيشون تحت سيطرة الطبيعة).
وعلى ذلك، فإن الحق الطبيعي لكل إنسان يتحدد حسب الرغبة والقدرة، لا حسب العقل السليم. وليس في طبيعة جميع الناس أن تتفق أفعالهم مع قوانين العقل، بل على العكس يولد الجميع في حالة من الجهل المطبق، وقبل أن يستطيعوا معرفة الأنموذج الصحيح للحياة وممارسة الحياة الفاضلة، يكون الجزء الأكبر من حياتهم قد انقضى، حتى ولو كانوا على مستوى عال من التربية. على أنهم يكونون خلال ذلك مضطرين إلى أن يعيشوا وإلى أن يبقوا، بقدر استطاعتهم، على حالتهم الراهنة، أي أن يخضعوا لدافع الشهوة وحده؛ لأن الطبيعة لم تعطهم سواه، وحرمتهم من القدرة الفعلية على الحياة وفقا للعقل السليم، ومن ثم فهم لا يستطيعون العيش طبقا لقوانين الذهن الصحيح، كما لا يستطيع القط أن يحيا طبقا لقوانين طبيعة الأسد؛ وعلى ذلك فإن كل ما يراه الفرد الخاضع لمملكة الطبيعة وحدها نافعا له، سواء أكان في ذلك مدفوعا بالعقل السليم، أو بقوة انفعالاته، يحق له أن يشتهيه طبقا لحق طبيعي مطلق، وأن يستولي عليه بأية وسيلة، سواء بالقوة، أم بالمخادعة، أم بالصلوات، أم بأية وسيلة أخرى أيسر من غيرها، وبالتالي يحق له إذن أن يعد من يمنعه من تحقيق غرضه عدوا له.
ونستنتج من ذلك أن الحق والتنظيم الطبيعيين اللذين ينشأ فيهما جميع الناس ويعيشون بموجبهما طوال الجزء الأكبر من حياتهم، لا يحظران إلا ما لا يرغب فيه أو ما لا يستطيعه أحد، فهما لا يمنعان النزوع ولا الكراهية ولا الغضب ولا الخداع ولا أي شيء تدفع إليه الشهوة، ولا عجب في ذلك؛ إذ إن الطبيعة لا تقتصر على قوانين العقل الإنساني الذي يعد هدفه الوحيد هو المنفعة الحقيقية والمحافظة على البشر، بل إنها تشتمل على ما لا نهاية له من القوانين الأخرى المتعلقة بالنظام الأزلي للطبيعة بأكملها، التي لا يمثل الإنسان إلا جزءا ضئيلا منها. وضرورة هذا النظام هي وحدها التي تحتم على كل الموجودات الطبيعية أن توجد وتسلك بطريقة معينة. وعلى ذلك فكلما بدا لنا في الطبيعة شيء مضحك أو متناقض أو سيئ فذلك يرجع إلى أننا لا نعرف الأشياء إلا جزئيا، وإلى جهلنا الكبير بنظام الطبيعة الكاملة واتساقها، ورغبتنا في أن ينظم كل شيء حسب ما يمليه عقلنا، مع أن ما يستنتجه العقل لا يكون قبيحا بالنسبة إلى نظام الطبيعة الكاملة وقوانينها بل بالنسبة لقوانين طبيعتنا (الإنسانية) وحدها .
على أنه يظل من الصحيح دون شك، أن من الأنفع كثيرا للناس أن يعيشوا طبقا لقوانين عقولهم ومعاييرها اليقينية، لأنها كما قلنا لا تتجه إلا إلى تحقيق ما فيه نفع حقيقي للبشر. وفضلا عن ذلك، فإن كل إنسان يود العيش في أمان من كل خوف بقدر الإمكان، ولكن ذلك مستحيل ما دام كل فرد يستطيع أن يفعل ما يشاء، وما دام العقل لا يعطي حقوقا تعلو على حقوق الكراهية والغضب. والواقع أنه لا يوجد إنسان واحد يعيش دون قلق وسط العداء والكراهية والغضب والمخادعة، ومن ثم فلا يوجد إنسان واحد لا يحاول الخلاص من ذلك بقدر استطاعته. ولنلحظ أيضا أن الناس يعيشون في شقاء عظيم إذا لم يتعاونوا ويظلون عبيدا لضرورات الحياة إن لم ينموا عقولهم - كما بينا في الفصل الخامس. ومن ثم يظهر لنا بوضوح تام أنه لكي يعيش الناس في أمان وعلى أفضل نحو ممكن، كان لزاما عليهم أن يسعوا إلى التوحد في نظام واحد، وكان من نتيجة ذلك أن الحق الذي كان لدى كل منهم، بحكم الطبيعة على الأشياء جميعا، أصبح ينتمي إلى الجماعة، ولم تعد تتحكم فيه قوته أو شهوته، بل قوة الجميع وإرادتهم، على أنه كان لا بد لمحاولتهم هذه أن تفشل لو كان الناس قد أصروا على اتباع الشهوة (إذ إن قوانين الشهوة تحتم أن يسير كل فرد في اتجاه مختلف)، وإذن فقد كان لزاما عليهم أن يتفقوا فيما بينهم،
6
عن طريق تنظيم وتعاهد حاسم، على إخضاع كل شيء لتوجيهات العقل وحده (الذي لا يستطيع أحد معارضته صراحة حتى لا يبدو فاقدا للحس السليم)، وعلى كبح جماح الشهوة بقدر ما تسبب أضرارا للآخرين، وعلى معاملة الناس بمثل ما يحبون أن يعاملوا به، وأخيرا على المحافظة على حق الآخرين كما لو كانوا يحافظون على حقهم الخاص. ولكي يكون هذا التحالف متينا ومضمونا وجب إبرامه بشروط معينة سنفحصها الآن. إنه لقانون شامل للطبيعة أن أحدا لا يترك ما يعتقد أنه خير إلا أملا في خير أعظم ، أو خوفا من ضرر أكبر، ولا يقبل شرا إلا تجنبا لشر أعظم منه أو أملا في خير أكبر، وبعبارة أخرى، يختار كل فرد ما يبدو له أعظم الخيرين وأهون الشرين، وقد تعمدت أن أقول: ما يبدو في لحظة الاختيار أعظم الخيرين أو أهون الشرين ولا أقول: إن الواقع نفسه يكون متفقا بالضرورة مع حكمه. وهذا القانون مسطور في الطبيعة البشرية بقوة تحتم علينا أن نضعه بين الحقائق الأبدية التي لا يمكن لأحد أن يغفل عنها. وينتج عن هذا القانون ضرورة أن أحدا لا يمكن أن يعد (إلا إذا كان سيء النية)
7 ⋆
بالتخلي عن الحق الذي له على كل شيء، ولا يمكن أن يفي مطلقا بوعده هذا، إلا خوفا من شر أعظم أو طمعا في خير أكبر. وزيادة في الإيضاح لنفترض أن لصا أجبرني على أن أعده بإعطائه كل ثروتي وقتما يشاء، ولما كان حقي الطبيعي محددا بقدرتي وحدها، كما بينت من قبل، فلا شك أنني إذا استطعت التنصل من اللص بإعطائه وعدا كاذبا، أيا كان، فإن حقي الطبيعي يسمح لي بأن أفعل ذلك، أي أن أبرم العقد الذي يريده دون أن يكون في نيتي أن أفي به. ولنفترض أيضا أنني وعدت شخصا ما، عن حسن نية، بألا أتناول طعاما طيلة عشرين يوما، وأن أمتنع حتى عن أيسر غذاء، ثم أدركت أنني قطعت على نفسي عهدا يتسم بالحمق، وأن وفائي له سيلحق بي أعظم الضرر فلما كان القانون الطبيعي يلزمني اختيار أهون الشرين، فإني أستطيع استخدام حقي المطلق في التحلل من هذا العقد، وعدم تنفيذ أي شيء مما وعدت به. وأقول: إن القانون الطبيعي يرخص لي بألا أفي بوعدي، سواء أكنت أرى أني أسأت صنعا بوعدي، بناء على سبب حقيقي يقيني، أو بناء على مجرد الظن، ففي كلتا الحالتين، سواء أكنت مصيبا أم مخطئا في تراجعي عما قلته، أكون قد خشيت شرا أعظم، وحاولت أن أتجنبه بكل الوسائل طبقا لما تمليه الطبيعة. ومن ذلك نستنتج أن صحة أي عقد رهن بمنفعته ، فإذا بطلت المنفعة، انحل العقد في الحال، ولم يعد ساريا، ومن ثم يكون من الغباء أن يطلب إنسان من آخر أن يلتزم بعقد إلى الأبد، دون أن يحاول في الوقت نفسه أن يبين له أن فسخ العقد يضر من يفسخه أكثر مما ينفعه. وهذه نقطة مهمة للغاية في تأسيس الدولة. ولنلحظ الآن أنه لو كان الناس جميعا ينقادون بسهولة لهداية العقل، ويدركون أن تأسيس الدولة يجلب لهم نفعا كبيرا، وأنه أمر ضروري إلى أقصى حد، لما رضي أحد منهم بالخداع أبدا، ولحافظ الجميع على العقود بدقة لا حد لها؛ وذلك رغبة منهم في الإبقاء على هذا الخير الأسمى، الذي هو المحافظة على الدولة، والأهم من ذلك كله أنهم كانوا عندئذ سيحافظون على ولائهم، وهو أقوى دعامة للدولة. ولكن من المستبعد أن يترك جميع الناس أنفسهم لهداية العقل وحده؛ إذ تسيطر على كل فرد شهوته، وكثيرا ما يسيطر عليه البخل والغرور
8
والحسد والكراهية إلى حد يستحيل معه سماع صوت العقل. ولهذا السبب فإنه، بالرغم من أن الناس يقدمون شواهد مقنعة على صفاء نيتهم عندما يعدون، عن طريق الكلمة أو الميثاق المكتوب، بالوفاء بعهودهم، فإن أحدا لا يستطيع أن يثق بحسن نية الآخر إلا إذا أضيف ضمان إيجابي إلى هذا الوعد؛ إذ يستطيع كل شخص طبقا للحق الطبيعي الالتجاء إلى الحيلة، ولا يلتزم باحترام العقد إلا طمعا في خير أعظم أو خوفا من شر أكبر، ولكن لما كان الحق الطبيعي لكل فرد محددا بقدرته، كما بينا من قبل، فبقدر ما يفوض فرد ما، طوعا أو كرها، قدرته الخاصة إلى فرد آخر، فإنه يتخلى بالضرورة عن حقه لهذا الآخر، ومن له سلطة مطلقة تتيح له إجبار الآخرين بالقوة والسيطرة عليهم بإرهابهم بالعقاب الشديد، بحيث يخشاه الجميع، يكون له حق مطلق على جميع الناس، وهو لا يحتفظ بهذا الحق إلا بقدر احتفاظه بقدرته على تنفيذ ما يشاء، وبدون هذا الشرط لا ينفذ أمره ويصبح ملغي، ولن يكون أحد ممن يتمتعون بقوة أكبر منه، ملزما بإطاعته، إذا لم يشأ ذلك.
والآن سأعرض الشرط الذي يمكن أن يتكون به مجتمع إنساني دون أدنى تعارض مع الحق الطبيعي، ويمكن به احترام كل عقد احتراما تاما. هذا الشرط هو أنه يجب على كل فرد أن يفوض إلى المجتمع كل ما له من قدرة، بحيث يكون لهذا المجتمع الحق الطبيعي المطلق على كل شيء، أي السلطة المطلقة في إعطاء الأوامر التي يتعين على كل فرد أن يطيعها إما بمحض اختياره، وإما خوفا من العقاب الشديد، ويسمى نظام المجتمع الذي يتحقق على هذا النحو بالديمقراطية.
9
فالديمقراطية هي اتحاد الناس في جماعة لها حق مطلق على كل ما في قدرتها، وتترتب على ذلك النتيجة القائلة: إن الحاكم لا يلتزم بأي قانون، ويجب على الجميع في كل شيء
10
لأنهم قد فوضوا له، بموجب عقد صريح أو ضمني، كل قدرة كانت لديهم على المحافظة على أنفسهم، أي حقهم الطبيعي كله. ولو أرادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بأي شيء من هذا الحق، لكان عليهم أن يصبحوا في الوقت نفسه، قادرين على الدفاع عن هذا الحق دفاعا مؤكدا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وما كانوا ليفعلوه دون أن تحدث الفرقة ويسقط الحكم. ولهذا السبب نفسه خضعوا لمشيئة السلطة الحاكمة، أيا كانت هذه المشيئة. وبعد أن تم هذا الخضوع المطلق (كما رأينا من قبل) سواء أكان ذلك تحت ضغط الضرورة، أم طبقا لمقتضيات العقل نفسه - إلا إذا شئنا أن نكون أعداء للسلطة القائمة، وعملنا ضد العقل الذي يدعونا إلى الإبقاء على هذا التنظيم بكل قوانا - فإننا نصبح ملزمين بأن ننفذ حرفيا كل ما يأمر به الحاكم، حتى لو كانت أوامره غاية في التناقض. وهذا ما يأمرنا به العقل لأنه يعني اختيار أهون الشرين، وبالإضافة إلى ذلك، فإن الفرد يستطيع بسهولة مواجهة خطر الخضوع لإرادة الآخر ومشيئته؛ إذ إن الحاكم لا يكتسب الحق في أن يأمر بما يشاء إلا بقدر ما يملك السلطة العليا بالفعل، فإذا فقدها فقد في الوقت ذاته الحق في الأمر، وتحول هذا الحق إلى من يستطيع، أو من يستطيعون الحصول على هذه السلطة والمحافظة عليها؛ لذلك كان من النادر أن يعطي الحكام أوامر متناقضة للغاية، لأن فطنتهم وحرصهم على الاحتفاظ بالسلطة تجعلهم يهتمون إلى أقصى حد بالسهر على المصلحة العامة، وتوجيه دفة الأمور جميعا وفقا لأحكام العقل. وكما يقول سنيكا، لم يستطع أحد أن يستمر في الحكم طويلا عن طريق العنف، وفضلا عن ذلك، فإن الخوف من القرارات المتناقضة يقل في نظام الحكم الديمقراطي بوجه خاص وذلك لسببين: أولهما أنه يكاد يكون من المستحيل أن يتفق أغلبية الناس، داخل مجتمع كبير على أمر ممتنع. وثانيهما أن الغاية التي ترمي إليها الديمقراطية والمبدأ الذي تقوم عليه هو، كما قلنا من قبل، تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء والإبقاء عليهم بقدر الإمكان في حدود العقل بحيث يعيشون في وئام وسلام. فإذا خضع هذا الأساس انهار البناء كله، فعلى عاتق الحاكم وحده تقع مهمة المحافظة على هذا المبدأ، وعلى الرعايا تنفيذ أوامره وألا يعترفوا بقانون إلا ما يسنه الحاكم. وقد يدعي مدع أننا بهذا المبدأ نحيل الرعايا إلى عبيد؛ إذ إن العبد، كما يظن الناس، هو من ينفذ أمر إنسان آخر، والحر من يفعل ما يشاء. غير أن هذا ليس صحيحا صحة مطلقة، فالواقع أن الفرد الذي تسيطر عليه شهوته إلى حد أنه لا يستطيع أن يرى أو يفعل ما تتطلبه مصلحته الحقيقية، يكون في أحط درجات العبودية، أما الحر فهو الذي يختار بمحض إرادته أن يعيش بهداية العقل وحده، أما السلوك الذي يتحقق تلبية لأمر، أي بالطاعة، فمع أنه يقضي على الحرية على نحو ما، فإنه لا يجعل من يقوم به عبدا في الحال، بل إن الذي يجعله كذلك هو الدافع الموجه للفعل؛ فإذا كانت غاية الفعل تحقيق مصلحة الآمر بالفعل، لا مصلحة الفاعل، يكون الفاعل عبدا لا يحقق مصلحته الخاصة، أما الدولة أو نظام الحكم الذي لا تؤخذ فيه مصلحة الآمر بوصفها قانونا أسمى، بل تراعي مصلحة الشعب كله - فمن الواجب ألا يعد من يطيع الحكم عبدا لا يحقق مصلحة خاصة، بل مواطنا، وعلى ذلك تكون أكثر الدول حرية تلك التي تعتمد قوانينها على العقل السليم. ففي مثل هذه الدولة يستطيع كل فرد - إذا أراد - أن يكون حرا،
11 ⋆
أن يعيش بمحض اختياره وفقا للعقل، وكذلك لا يكون الأطفال عبيدا، بالرغم من أنهم ملزمون بإطاعة أوامر آبائهم، لأن أوامر الآباء تبغي مصلحة الأطفال قبل كل شيء. فهناك إذن فرق كبير بين العبد والابن والمواطن، نصوغه كما يلي: العبد هو من يضطر إلى الخضوع للأوامر التي تحقق مصلحة سيده، والابن هو من ينفذ، بناء على أوامر والديه، أفعالا تحقق مصلحته الخاصة، وأما المواطن فهو من ينفذ، بناء على أوامر الحاكم، أفعالا تحقق المصلحة العامة، وبالتالي مصلحته الشخصية.
أظن أني بينت حتى الآن بما فيه الكفاية مبادئ الحكم الديمقراطي الذي فضلته على أنظمة الحكم الأخرى، لأنه يبدو أقربها إلى الطبيعة وأقلها بعدا عن الحرية التي تقرها الطبيعة للأفراد، ففي النظام الديمقراطي لا يفوض أي فرد حقه الطبيعي إلى فرد آخر بحيث لا يستشار بعد ذلك في شيء، بل يفوضه إلى الغالبية العظمى
12
من المجتمع، الذي يؤلف هو ذاته جزءا منه، وفيه يتساوى الأفراد كما كان الحال من قبل في الحالة الطبيعية. ومن ناحية أخرى، أردت الحديث صراحة عن نظام الحكم هذا لأنه أفضل نظام يوضح هدفي؛ وهو بيان أهمية الحرية في الدولة؛ لذلك لن أتحدث هنا عن مبادئ نظام الحكم الأخرى، فلكي نعرف ما هو الحق الذي ترتكز عليه، لا نحتاج (في الوقت الراهن على الأقل) إلى البحث في الأصل الذي كانت، ولا تزال، تستمد منه، فقد عرضنا لهذا الحق بما فيه الكفاية فيما سبق. فسواء أكانت السلطة العليا في يد شخص واحد، أو موزعة بين بعض الأفراد، أو مشتركة بين الجميع، فإن صاحبها يتمتع أيضا بحق مطلق في أن يأمر بكل ما يشاء، كذلك فإن من فوض مقدرته على الدفاع إلى شخص آخر بعينه، سواء أكان ذلك طوعا أم كرها، فقد تنازل عن حقه الطبيعي وبالتالي قرر إطاعة هذا الشخص في كل ما يأمر به، وهو يظل ملزما بهذه الطاعة ما دام الملك أو النبلاء أو الشعب يحتفظون بالسلطة العليا، التي كان تفويضه لحقه يرتكز على قبوله إياها. ولسنا في حاجة إلى الإفاضة في هذا الموضوع أكثر من ذلك.
13
وبعد أن بينت أسس الدولة وحقها (في السيادة)، يسهل الآن تعريف القانون المدني الخاص،
14
وانتهاك القانون، والعدل والظلم في حالة المجتمع المنظم، ثم ما هو الحليف والعدو، وأخيرا جريمة الطعن في السيادة. فالقانون المدني الخاص لا يمكن أن يعني في رأينا إلا حرية الفرد في المحافظة على حالته، كما حددتها وضمنتها له مراسيم السلطة العليا. فبعد أن يفوض كل فرد إلى شخص آخر حقه في أن يعيش وفقا لرغباته الخاصة، أي حريته في المحافظة على وجوده وقدرته على ذلك، وهو حق لم يكن له من حدود سوى قدرته، فإنه يصبح ملزما بأن يحيا وفقا للطريقة التي يفرضها عليه هذا الشخص، وبألا يعتمد في المحافظة على ذاته إلا على حمايته.
وينتهك القانون عندما يعمد شخص ما لأن يلحق الضرر بأحد المواطنين أو الرعايا ضاربا بالقانون المدني عرض الحائط أي رافضا أوامر الحاكم، ولا يمكن تصور انتهاك القانون إلا في مجتمع منظم، ولكن الحاكم الذي يبيح له القانون أن يفعل ما يشاء، لا يمكنه أن ينتهك حق الرعية. وعلى ذلك فإن انتهاك الحقوق لا يمكن أن يحدث داخل الدولة إلا بين الأفراد الذين يحرم عليهم القانون أن يضر أحدهم الآخر.
أما العدل فهو استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حق ما يستحقه طبقا للقانون المدني، وأما الظلم فهو أن يسلب شخص، متذرعا بالقانون، ما يستحقه شخص آخر طبقا للتفسير الصحيح للقوانين. ويسمى العدل والظلم أيضا بالإنصاف وعدم الإنصاف؛ لأن من واجب القضاة، المكلفين بوضع حد للخصومات، ألا يفرقوا بين الأشخاص بل أن ينظروا إليهم على قدم المساواة، ويحافظوا بقدر متساو على حق كل منهم ، فلا يحسدون الغني ولا يحتقرون الفقير.
أما الحلفاء فهما شعبا أمتين
15
مختلفتين يتفقان تعاقديا فيما بينهما على ألا يضر أحدهما بالآخر تجنبا لأخطار الحرب أو لأي سبب آخر متعلق بمصالحهما، وأن يعين أحدهما الآخر وقت الحاجة. ولكن تظل كل أمة منهما دولة مستقلة، ويظل التعاقد
16
ساريا طالما وجد السبب؛ أعني احتمال الخطر أو المصلحة المرجوة، إذ إن أحدا لا يعقد اتفاقا ولا يلتزم بالوفاء بتعاهد إلا طمعا في مغنم أو خوفا من ضرر، فإذا ذهب هذا الباعث انفك الحلف من تلقاء نفسه، كما تشهد التجربة ذاتها في كثير من الحالات. على أنه، في حين تتعهد الدول المستقلة، بناء على اتفاق بينها، بألا تضر إحداهما بالأخرى، فإنها تحاول بقدر الإمكان أن تحول دون زيادة قوة الدولة الأخرى، ولا تثق إحداهما بشروط العقد المبرمة إلا بقدر ما تتضح غاية الاتفاق والمصلحة منه لكلا الجانبين. وبعبارة أخرى، فإن كل دولة تخشى أن تخدعها الدولة الأخرى، وهي على حق في ذلك؛ إذ إن المرء لا بد أن يكون غبيا جاهلا بحق السلطات العليا لكي يثق بعهود دولة أخرى وبوعودها على حين تحتفظ هي لنفسها بسيادتها وبحقها المطلق في أن تفعل ما تشاء ولا تعترف بأي قانون أعلى من مصلحة نظامها السياسي الخاص ومنفعته. وحتى إذا تأملنا الأمر من وجهة نظر الدين والتقوى، فسوف يتبين لنا أن أي فرد يكون قد ارتكب جرما إذا وفى بوعوده وكان في ذلك ضرر على الدولة التي يحكم فيها؛ ذلك لأنه لا يستطيع الوفاء بهذا الوعد عندما يكشف أنه يلحق الضرر بالدولة إلا إذا تخلى عن ولائه لرعاياه، مع أن هذا الولاء واجب عليه قبل أي شيء آخر، فضلا عن أنه يكون عادة قد تعهد بالإبقاء عليه أمام الملأ.
أما العدو فهو الذي يعيش خارج أمة معينة، ولا يعترف بسلطتها بوصفه حليفا لها، أو واحدا من رعاياه، ولا تنشأ العداوة للدولة من الشعور بالكراهية بل من وضع قانون الدولة ضده، فللدولة، إزاء من لا يعترف بسلطتها التي أقامتها بأي نوع من العقد، الحق نفسه الذي لها إزاء من يلحق بها الضرر، فلها الحق إذن في أن ترغمه على إطاعتها أو التحالف معها بكل ما لديها من وسائل.
أما جريمة الطعن في السيادة فلا يقترفها إلا الرعايا أو المواطنون الذين فوضوا كل حقهم إلى الدولة بناء على عقد ضمني أو صريح، ويقال عن أحد أفراد الرعية إنه اقترف هذه الجريمة عندما يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها أو نقله إلى شخص آخر. أقول «عندما يحاول» لأنه لو وقعت الإدانة بعد ارتكاب الجريمة، لجاء تدخل الدولة في معظم الأحيان بعد فوات الأوان؛ إذ يكون حقها في السيادة قد اغتصب أو نقل إلى شخص آخر بالفعل. وأقول بصيغة مطلقة: «من يحاول لسبب ما سلب السلطة العليا حقها في السيادة.» إذ إنه سواء نتج عن ذلك إلحاق الضرر بالدولة أو على العكس ازدهارها ازدهارا عظيما، فإن الأمر لا يتغير على الإطلاق، فأيا كان سبب محاولة ارتكاب الجريمة، فهناك طعن في السيادة، ويقع المذنب تحت طائلة القانون. إن الجميع يسلمون بأن هذه الإدانة لها ما يبررها في زمن الحرب؛ فإذا ترك جندي موقعه وهاجم العدو دون أمر من قائده، فإنه مهما كانت خطته في الهجوم محكمة وحتى لو أجبر الأعداء على الفرار، فلا يشك أحد في أنه يتعرض للحكم عليه بالإعدام، لأنه أخل بقسم الطاعة وحق قائده. ولكن، في مقابل ذلك، لا يدرك الناس جميعا، هذا القدر نفسه من الوضوح، أن هذا الحق ملزم للمواطنين جميعا، على نحو مطلق، في كل الأحوال، على أن المبدأ مع ذلك واحد؛ ذلك لأنه، لما كان من الواجب أن تكون السلطة العليا وحدها هي الحافظة والحاكمة للدولة، ولما كان الرعايا أو المواطنون قد فوضوا للحاكم وحده هذا الحق بناء على عقد يلتزمون به التزاما مطلقا، فلو أخذ أحد الأفراد على عاتقه، من تلقاء نفسه، ودون علم من الجمعية العليا
17
تصريف أمر عام، فإنه، حتى لو نتج عن ذلك ازدهار فعلي للدولة، يكون قد انتهك حق السلطة العليا وطعن في السيادة وحقت إدانته.
ومنعا لأي تردد بقي لنا أن نرد على اعتراض قد يوجه ضد الرأي الذي قلناه من قبل، وهو الفرد المحروم من ملكة العقل يعيش على حالة الطبيعة، ويسير طبقا لقوانين الشهوة بناء على حق الطبيعة المطلق. ألا يعارض ذلك القانون الإلهي الموحى به معارضة صريحة؟ الحق أنه لما كان ينبغي علينا جميعا بلا استثناء (سواء أكانت لدينا القدرة على استخدام العقل أم لا) أن نحب جارنا كما نحب أنفسنا تنفيذا لأوامر الله فإننا لا نستطيع إلحاق الضرر بالآخرين، كما لا نستطيع العيش وفقا لقوانين الشهوة دون انتهاك للقانون، ولكن من السهل الرد على هذا الاعتراض إذا تأملنا قليلا حالة الطبيعة، لأنها سابقة على الدين بطبيعتها ومن حيث الزمان. إن الطبيعة لم تعلم أحدا
18 ⋆
مطلقا طاعة الله ولا يمكن معرفة ذلك بالاستدلال
19
بل بالوحي المدعوم بالآيات. ومن ثم فقبل الوحي لا يمكن أن يلتزم أحد بالقانون الإلهي، الذي هو جاهل به بالضرورة فيجب إذن ألا نخلط بين حالة الدين وحالة الطبيعة التي يجب أن نعدها حالة لا شأن لها بالدين والقانون. وبالتالي لا شأن لها بالخطيئة وانتهاك القانون، وهذا ما برهنا عليه من قبل مستشهدين ببولس. وفضلا عن ذلك فليس الجهل وحده هو السبب في اعتبار حالة الطبيعة سابقة على القانون الإلهي الموحى به ولا شأن لها بالقانون، بل إن هذا يرجع أيضا إلى الحرية الأصلية التي يولد بها جميع البشر، فلو كان البشر ملتزمين بطبيعتهم بالقانون الإلهي أو لو كان القانون الإلهي قانونا بالطبيعة لما كان هناك داع لأن يعقد الله معهم عهدا أو أن يلزمهم بميثاق وبقسم. فيجب إذن أن نسلم دون أي شك بأن القانون الإلهي يبدأ في اللحظة نفسها التي وعد فيها الناس، في عهد صريح بطاعة الله في كل شيء. وبهذا العهد يمكن القول بأنهم تخلوا عن حريتهم الطبيعية وفوضوا حقهم لله، كما يحدث في حالة المجتمع التي أوضحناها من قبل (وسأسهب في هذا الموضوع فيما بعد).
20
ومع ذلك يمكن الاعتراض علينا أيضا بأن على السلطات العليا شأنها شأن الرعايا، الالتزام بهذا القانون الإلهي، مع أننا قلنا من قبل إنها تحتفظ بحقها الطبيعي وبحقها في أن تفعل ما تشاء. وتوضيحا لهذه المشكلة، التي تتعلق بقانون الطبيعة أكثر من تعلقها بحالة الطبيعة، أقول إن كل شخص في حالة الطبيعة ملزم بالقانون الموحى به كما أنه يعيش طبقا لنظام العقل؛ لأن ذلك ضروري لمصلحته ولخلاصه، ولكنه في ذلك حر في أن يرفض ذلك محتملا ما ينتج عن رفضه من مخاطر وأضرار. وهو أيضا حر في أن يعيش كما يشاء لا كما يشاء الآخرون، وليس عليه أن يعترف بأي مخلوق حكما أو مدافعا عن حق الدين. هذا الحق، في رأيي، هو الذي تتمتع به السلطة العليا، التي تستطيع أن تأخذ رأي الأفراد، دون أن تكون ملتزمة بالاعتراف بأي فرد حكما أو بأي مخلوق من فوقها مدافعا عن أي حق، إلا إذا كان نبيا بعثه الله وبرهن بآيات لا شك فيها على بعثته. وحتى في هذه الحالة، تلتزم السلطة العليا بأن تعترف بالله نفسه حكما، لا بأي من بني البشر. فإذا رفضت السلطة العليا طاعة الله فيما أوحى به من قانون فهي حرة في ذلك، وعليها أن تتحمل ما ينتج عن ذلك من أضرار أو أخطار، أعني أنه لا يمكن أن يقف في سبيل ذلك أي قانون مدني أو قانون طبيعي؛ إذ يعتمد القانون المدني على مشيئة هذه السلطة وحدها، أما القانون الطبيعي، فإنه يعتمد على قوانين الطبيعة التي لا علاقة لها بالدين (الذي يتخذ المصلحة الإنسانية هدفه الوحيد) بل تتعلق بنظام الطبيعة الشامل، أي بمشيئة إلهية أزلية لا نعلمها، وهذا ما يبدو أن البعض شعروا به شعورا مبهما، حتى قالوا: إن الإنسان يستطيع أن يخطئ في حق إرادة الله التي أوحى بها، ولكن ليس في حق المشيئة الأزلية التي قرر بها مقدما مصير كل شيء.
وقد يسألني سائل: ما العمل إذا ما أعطت السلطة العليا أمرا مناقضا للدين والطاعة التي وعدنا بها الله تنفيذا للعهد الصريح؟ هل يجب الخضوع للأمر الإلهي أم للأمر البشري؟ ونظرا إلى أني سأعالج هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد، سأكتفي بأن أقول هنا بأن عليه أن يطيع الله قبل كل شيء عندما يكون لدينا وحي يقيني لا شك فيه. ومع ذلك، فلما كان اختلاف طبائعهم يولد بينهم ما يشبه المنافسة على الأوهام الباطلة، كما تشهد التجربة اليومية مرارا وتكرارا، فمن المؤكد أنه لو لم يكن المرء ملزما - بموجب القانون - بطاعة قانون السلطة العليا فيما يظنه من أمور الدين، لأصبح قانون الدولة متوقفا ولا شك على الأحكام الشخصية وعلى الانفعالات الفردية، إذ لا يلتزم أحد بالقوانين الجارية إذا ظن أنها مخالفة لعقيدته أو خرافته، وبهذه الحجة يسمح كل فرد لنفسه بأن يفعل ما يشاء. ولما كان قانون الدولة ينتهك كلية في هذه الحالة، فإن السلطة العليا، التي هي المكلفة، وحدها، بناء على حقها الإلهي وحقها الطبيعي، بالمحافظة على حقوق الدولة وحمايتها، يكون لها الحق المطلق في اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة في موضوع الدين، وعلى جميع الأفراد الالتزام بطاعة قرارات السلطة العليا وأوامرها في هذا الصدد، نظرا إلى الولاء الذي وعدوها به، والذي يأمر الله بالالتزام به التزاما تاما. فإذا كان ممثلو السلطة من الوثنيين فإما أن يرفض المرء عقد أي اتفاق معهم، ويتعرض عندئذ لأبشع الأضرار، دون أن يفوض لهم أي حق، وإما أن يظل على الولاء والطاعة لهم، ويحفظ عهده لهم، إن طوعا وإن كرها، إذا ما تم له عقد اتفاق معهم وتفويض الحق لهم، لأنه بذلك يكون قد تخلى عن حقه في الدفاع عن ذاته وعن عقيدته، والاستثناء الوحيد من ذلك هو الشخص الذي وعده الله عن طريق وحي يقيني بمساعدة خاصة ضد الطاغية أو من أراد الله أن يستثنيه بشخصه. فنحن مثلا نعلم ثلاثة فتية فقط، من بين يهود بابل جميعا، قد رفضوا طاعة نبوخذ نصر؛
21
لأنهم كانوا على يقين من مساعدة الله لهم، على حين أطاع الآخرون (باستثناء دانيال الذي كان معظما عند الملك نفسه) القهر الشرعي ، وربما ظنوا في قرارة نفوسهم أنهم وقعوا تحت سيطرة الملك تنفيذا لمشيئة إلهية، وأن الملك قد حصل على السلطة العليا واحتفظ بها تحقيقا لغاية إلهية. وعلى العكس من ذلك، أراد العازر إعطاء مواطنيه مثلا على المثابرة،
22
في الوقت الذي لم يكن قد تم فيه القضاء على وطنه كلية، حتى يقبلوا أن يتحملوا معه أقسى الآلام، بدلا من أن يفوضوا حقهم وسلطتهم لليونان، وحتى لا ترغمهم أقسى المحن على التعهد بالولاء للوثنيين. وتؤكد الخبرة اليومية كل ما قلته الآن، ففي أيامنا هذه لا تتردد السلطات المسيحية في عقد معاهدات مع المسلمين
23
والوثنيين، صونا لسلامة الدولة، وهي توصي رعاياها الذين يتوجهون للإقامة في هذه البلاد، بألا تتعدى حريتهم، في أمور دينهم ودنياهم، حدود ما تم الاتفاق عليه في عقود مكتوبة، أو ما تسمح لهم به السلطات العليا في هذه البلاد، ويتمثل ذلك في المعاهدة المعقودة بين الهولنديين واليابانيين، والتي تحدثنا عنها من قبل.
24
الفصل السابع عشر
نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا
وفيه نبين أن أحدا لا يستطيع تفويض كل ما يملك إلى السلطة العليا وأن هذا التفويض ليس ضروريا. دولة العبرانيين
1
وكيف كانت في حياة موسى وبعد موته.
مزايا هذه الدولة، وأسباب انهيار الدولة الإلهية بعد أن شاعت فيها الفتن دائما.
2 ***
إن الآراء التي انتهينا إليها في الفصل السابق عن الحق الشامل الذي تتمتع به السلطات العليا، وعن تفويض الفرد حقه الطبيعي لها، تصدق بالفعل إلى حد غير قليل في الحياة العملية، ويمكن تنظيم الحياة العملية بحيث تزداد منها اقترابا. ومع ذلك فإن هذه الآراء تظل نظرية صرفة في كثير من جوانبها. فمثلا لا يستطيع أي فرد أن يصل في التخلي عن قدرته - وبالتالي عن حقه - لفرد آخر، إلى الحد الذي يلغي فيه وجوده كإنسان، ولن يحدث أبدا أن تملك أية سلطة عليا من القوة ما يسمح لها بتنفيذ كل ما تريد. فمثلا لن تطاع إذا ما أمرت أحد أفراد الرعية بأن يكره من يحسن إليه، أو أن يحب من يسيء إليه، أو أن يسمع السباب دون أن يشعر بالإهانة، أو ألا يحاول التحرر من الخوف، وما شابه ذلك من الأمور التي تتبع بالضرورة قوانين الطبيعة البشرية،
3
وفي اعتقادي أن التجربة تقدم إلينا شهادة واضحة على ذلك، فلم يحدث أبدا أنه تخلى الناس عن حقهم، ونقلوا سلطتهم إلى شخص آخر، إلى الحد الذي لا يعود معه من حصلوا على هذا الحق وعلى هذه السلطة أن يخشوهم ولا يظل معه تهديد المواطنين للدولة، حتى بعد سلب حقوقهم، أشد من تهديد الأعداء لها. هب أن من الممكن سلب الناس حقهم الطبيعي إلى الحد الذي لا يعودون معه قادرين على التصرف في أية قدرة لهم إلا بعد الحصول على موافقة من لهم الحق الأعلى،
4 ⋆
فما أشد العنف الذي سيسمح الحاكم لنفسه عندئذ باستعماله ضد الرعايا! ولا أظن أن هذا القدر من التطرف قد خطر على بال أحد مطلقا. فيجب إذن أن نسلم بأن الفرد يحتفظ لنفسه بقدر كبير من حقه، وهو، بالتالي، قدر لا يعود رهنا بمشيئة الآخر، بل بمشيئته هو، ومع ذلك، فإذا أردنا أن ندرك إلى أي حد تمتد سلطة الدولة العليا وحقها، يجب أن نلحظ أن سلطتها لا تقتصر على استعمال القهر المرتكز على التخوين فحسب، بل تشمل كافة الوسائل التي تحمل الناس على طاعة أوامرها؛ فليس ما يميز الرعية هو الباعث على الطاعة، بل هو الطاعة ذاتها. ومهما كان الباعث الذي يدفع الإنسان إلى تنفيذ أوامر السلطة العليا - أعني الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب أو حب الوطن أو أية عاطفة أخرى - فإنه يكون قد اتخذ قراره بمحض إرادته، ومع ذلك يظل خاضعا لأوامر السلطة العليا. وإذن فمن الواجب، إذا رأينا شخصا يفعل شيئا بمحض إرادته، أن نستنتج من ذلك على الفور أنه يسلك بناء على حقه، لا على حق من يمثل السلطة العليا في الدولة، فلنذكر دائما أنه يسلك بمحض إرادته ومشيئته، سواء أكان مدفوعا بالحب أم كان مضطرا خوفا من العقاب . ومن ثم فإن المرء ما إن يعترف للدولة بحق ما إزاء رعاياها، حتى يمتد هذا الحق بالضرورة ليشمل جميع الوسائل التي يقبل بها الرعايا سيادة هذه الدولة؛ وعلى ذلك فكل ما يفعله أحد أفراد الرعية تنفيذا لأوامر السلطة العليا، سواء كان يفعله، بدافع من الحب أو بفعل الخوف، أو كان صادرا عن الرجاء والرهبة معا (وهو الأغلب) أو عن عاطفة - مثل الاحترام - يجتمع فيها الإعجاب والرهبة أو بأي دافع آخر - أقول إن كل ما يفعله يكون بحق السلطة في الدولة، لا بحقه الخاص. ومن الممكن بلوغ هذه النتيجة نفسها دون عناء إذا أدركنا أن الطاعة ليست فعلا خارجيا، بل هي فعل داخلي للنفس، بحيث إن أكثر الناس خضوعا لسلطة فرد آخر هو من يشرع في تنفيذ أوامر هذا الآخر بنفس راضية تمام الرضا، وبالتالي تكون أقوى السلطات هي أكثرها سيطرة على نفوس رعاياها. ليست قوة السلطة بمقدار ما تثيره من خوف، وإلا كان رعايا الطاغية هم الذين يملكون أقوى سلطة لأنه يخشاهم إلى أبعد حد. ومن ناحية أخرى فإذا كان من الصحيح أن السيطرة على النفوس أصعب من السيطرة على الألسنة، فإن النفوس، مع ذلك، تقع إلى حد ما تحت سيطرة السلطة العليا التي تستطيع بمختلف الوسائل أن تجعل الأغلبية العظمى من الناس تعتقد وتحب وتكره كما تشاء هذه السلطة. وعلى ذلك، فإذا لم تكن هذه المشاعر على الإطلاق نتيجة مباشرة لأوامرها، فإنها تظل مع ذلك صادرة عن سلطة قدرتها، وعن توجيهها، أي عن حقها، كما تشهد التجربة في كثير من الأحيان، ولذلك ففي استطاعتنا أن نتصور - دون أي تناقض ذهني - أناسا لا يعتقدون ولا يحبون ولا يكرهون ولا يحتقرون ولا تدفعهم أية عاطفة إلا بتوجيه من السلطة العليا وحقها، على أننا مهما توسعنا في تصورنا حق من يمارس السيادة في الدولة وقدرته، فإن هذه السلطة لا يمكن على الإطلاق أن تتسع حتى تعطي أصحابها سلطة مطلقة تتيح لهم أن يفعلوا كل ما يشاءون، (وأظن أني قد برهنت على ذلك بما فيه الكفاية).
5
ولقد سبق لي أن ذكرت أنني لا أعتزم أن أعرض هنا للشروط التي يمكن أن تنظم بها السلطة بحيث تظل في أمن دائم، ومع ذلك سأذكر التعاليم التي أعطيت لموسى عن طريق الوحي حتى أبين ما أريد الانتهاء إليه في هذا الموضوع، وبعد ذلك سنفحص تاريخ العبرانيين وتقلباته حتى نرى ما هي التنازلات التي ينبغي أن تقدمها السلطة العليا لرعاياها حتى تضمن للدولة أعظم قدر من الأمن والازدهار.
يعتمد قيام الدولة أولا وقبل كل شيء على ولاء الرعايا وعلى فضيلتهم ومثابرتهم على تنفيذ الأوامر، كما يشهد العقل والتجربة بوضوح تام، ولكن ليس من السهل، بالمقدار نفسه، إدراك الطريقة التي ينبغي بها حكم الرعية لتظل على ولائها وفضيلتها؛ ذلك لأن الحكام والمحكومين على السواء بشر، أي كائنات تميل إلى ترك العمل والسعي وراء اللذة. وكل من عرف طبائع العامة الشديدة التقلب، يكاد ينتابه اليأس التام منها؛ إذ لا يحكمها العقل، بل تحكمها انفعالات النفس وحدها، كما أن افتقارهم التام إلى ضبط النفس يجعلها تنقاد بسهولة لمساوئ البذخ والطمع، وكل فرد منها يعتقد أنه الوحيد الذي يعرف كل شيء ويريد أن يفصل في كل شيء وفقا لهواه، وتبدو له الأشياء منصفة أو مجحفة، مشروعة أو غير مشروعة بمقدار ما يرى فيها من كسب أو خسارة له، ويحتقر أترابه غرورا بنفسه، ولا يقبل منهم أية نصيحة، ويتمنى الشر للآخرين ويتلذذ بوقوعه حسدا لمن هم أكثر منه شرفا أو غنى. تلك، على أية حال، أمور لا نحتاج فيها إلى مزيد من الحصر، إذ لا يجهل أحد الجرائم التي يدفع الناس إلى ارتكابها سأمهم من وضعهم الراهن، والرغبة في التغيير، والغضب الذي لا ضابط له، وكراهية الفقر، كما لا يجهل أحد مدى سيادة هذه الانفعالات على نفوسهم وإشاعتها الاضطراب فيها. وإنه لعمل شاق حقا أن تعمل الدولة ما من شأنه تجنب هذه الشرور، وإقامة سلطة تكفل القضاء على الخداع، وأن تقيم في كل مجال من الأنظمة ما يجعل الجميع - مهما كانت استعدادتهم الشخصية - يضعون المصلحة العامة فوق مصالحهم الخاصة. صحيح أن الضرورة قد دفعت الناس إلى بناء جهود كبيرة في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولكن لم يحدث مطلقا أن وصلت الأمور إلى حالة أصبح فيها تهديد المواطنين لسلامة الدولة أقل خطورة من تهديد الأعداء الخارجيين، أو أصبح فيها من يمثلون السلطة العليا يخشون المواطنين أقل مما يخشون الأعداء الخارجيين. وأبلغ دليل على ذلك هو الإمبراطورية الرومانية، التي كانت دائما تنتصر على أعدائها، ولكن هزمها مواطنوها مرات عديدة ووضعوها في أسوأ المواقف، وخاصة في الحرب الأهلية بين فسباسيان وفتليوس. ويمكن الرجوع في ذلك إلى تاكيتوس الذي يصف في أول الكتاب الرابع من تاريخه مظهر المدينة المؤلم. وكذلك كان الإسكندر - على ما يقول كوينتوس كوريتوس في آخر الكتاب الثامن - يفضل أن يمدحه أعداؤه على أن يمدحه مواطنوه؛ لأنه كان يظن أن انهيار عظمته سيأتي على أيدي مواطنيه، وقد وجه إلى أصدقائه هذا الرجاء خشية من أن يلقى هذا المصير: «لو أمنتموني على مؤامرات الداخل ومكائد أعواني لواجهت مخاطر الحروب والمعارك دون تهيب. ولقد كان فيليب أكثر أمانا في ميدان المعركة منه في المسرح، فقد نجا من ضربات الأعداء، ولكنه لم يستطع أن يتجنب ضربات أعوانه. ولو أحصيتم من بين الملوك الآخرين الذين لقوا حتفهم غيلة، أولئك الذين قتلهم مواطنوهم، فستجدونهم أكثر ممن لقوا حتفهم على أيدي الأعداء» (انظر كوينتوس كوريتوس، الكتاب 9: 6). ولهذا السبب حاول الملوك الذين اغتصبوا السلطة قديما أن يؤمنوا أنفسهم بإقناع شعوبهم بأنهم من سلالة الآلهة الخالدة، وكانوا يعتقدون أنه لو عدهم رعاياهم وجميع الناس آلهة لا بشرا مثلهم فسيرضخون لإرادتهم، ويخضعون لهم بسهولة. وهكذا أقنع أوغسطس الرومان بأنه سليل أنياس، الذي كان يعتقده الناس ابنا لفينوس ويعدونه من بين الآلهة، وكان يريد «أن يعبده الناس ويقيموا له في المعابد صورة مقدسة وكهنة كبارا وصغارا» (انظر تاكيتوس، الحوليات، الكتاب الأول). وقد عظم الناس الإسكندر بوصفه ابن جوبتر، ويبدو أن ذلك لم يكن عن غرور منه، بل عن رغبة في التحوط كما يدل على ذلك رده على هجوم هرمولاوس عليه، فقال: «إنه لمضحك حقا أن يطلب مني هرمولاوس أن أكفر بجوبتر الذي اشتهرت بفضل نبوءته، أو يظن الناس أني المسيطر على إجابات الآلهة. لقد اعطاني جوبتر اسم الابن وقد قبلته (لاحظ ذلك جيدا) لمصلحة الأعمال التي أقوم بها، ولقد شاءت السماء أيضا أن يظنوني في الهند إلها! إن الشهرة هي التي تقرر مصير الحروب، وكثيرا ما حل الاعتقاد مكان الحقيقة» (انظر كوينتوس كويتوس، 8: 8). وبهذه الكلمات القليلة استمر ببراعة في إقناع الجهلة بألوهيته المدعاة، وفي الوقت نفسه كشف عن الدافع إلى هذا الادعاء. وقد فعل كليون هذا الشيء نفسه في خطابه إلى المقدونيين، الذي حاول فيه إقناعهم بالطاعة امتثالا لملكهم، فبعد أن مجد الإسكندر في حديثه، وأشاد بمزاياه، وألبس الادعاء بذلك ثوب الحقيقة، أخذ يعدد مزايا هذا الموقف قائلا: «لقد عبد الفرس ملوكهم كما لو كانوا آلهة، لا بدافع من الدين فحسب، بل بدافع من الفطنة. وأنا شخصيا سأركع على الأرض عندما يعطي الملك إشارة بدء الحفل، ومن واجب الآخرين، وخاصة الحكماء منهم، أن يفعلوا مثلي» (المصدر نفسه، 8: 5). ولكن المقدونيين كانوا على قدر وافر من الوعي، ولا يمكن أن يقبل الناس، ما لم يكونوا في إحدى درجات الهمجية، أن يخدعوا بمثل هذه الطريقة المكشوفة، وأن يتحولوا من رعايا إلى عبيد عاجزين عن تحقيق مصلحتهم الخاصة. ومع ذلك فقد نجح بعض الملوك بسهولة أكبر في إقناع الناس بأن لهم جلالا يعلو على البشر، وبأنهم ظل الله في الأرض، وبأن الله هو الذي ولاهم دون اقتراع عام أو موافقة الناس، وأن هناك عناية خاصة تحفظه، وعونا إلهيا يحميه. وعلى المنوال نفسه وجد بعض الملوك وسائل أخرى لتأمين سلطتهم، ولكني لن أتحدث عنها هنا لأنها خارجة عما أود البرهنة عليه، وسأذكر فقط كما قلت من قبل الوسائل التي كشفها الوحي الإلهي لموسى.
لقد ذكرنا من قبل، في الفصل الخامس، أن العبرانيين بعد خروجهم من مصر، لم يكونوا ملتزمين بأي تشريع لأمة أخرى، وكان من حقهم أن يضعوا قواعد جديدة، ويحتلوا ما يشاءون من الأراضي؛ ذلك لأنهم بعد تحررهم من اضطهاد المصريين الذي لا يطاق، لم يعودوا مرتبطين بأي عقد مع أية سلطة بشرية، واستعادوا حقهم الطبيعي على كل ما كان في نطاق قدرتهم، وكان في استطاعة كل فرد منهم أن يتساءل من جديد عما إذا كان يود الاحتفاظ بهذا الحق أو التخلي عنه وتفويضه إلى شخص آخر. واتباعا لنصائح موسى، الذي كان لديهم أعظم قدر من الثقة فيه، قرروا الخروج من هذه الحالة الطبيعية التي وجدوا أنفسهم فيها، وتفويض كل حقهم إلى الله وحده، لا إلى أية سلطة بشرية. وهكذا فإنهم، دون تردد، وبصوت واحد، وعدوا الله بأن ينفذوا أوامره، وبألا يعترفوا منذ ذلك الحين بأي قانون إلا ما يقرره الله نفسه بوحي نبوي، هذا الوعد، أو هذا التحويل للحق إلى الله، قد تم على النحو نفسه الذي ذكرنا من قبل أنه يحدث في حالة المجتمع العادي، عندما يقرر الناس التخلي عن حقهم الطبيعي، فقد تخلى العبرانيون عن حقهم الطبيعي وفوضوه إلى الله (انظر الخروج، 24: 7)
6
وذلك بعهد صريح وقسم، أعطوهما بكامل حريتهم دون أن يكونوا قد خضعوا لقوة قاهرة أو للخوف من وعيد. ومن ناحية أخرى فإن الله، لكي يضمن العهد ويجعله راسخا آمنا من كل خداع، لم يبرم معهم شيئا إلا بعد أن شرعوا بهذه القدرة العجيبة التي أمكن بفضلها وحدها تحقيق الخلاص لهم في الماضي وفي المستقبل (انظر الخروج، 19: 4-5).
7
وإذن فاعتقاد العبرانيين بأنهم يحتاجون دائما في بقائهم إلى عناية القدرة الإلهية، هو الذي جعلهم يفوضون الله كل قدرتهم الطبيعية على البقاء، التي ربما كانوا يعتقدون قبل هذا التفويض أنهم هم الذين يملكونها. وبالتالي فوضوا له جميع حقوقهم. ومنذ ذلك الحين أصبحت سلطة الحاكم عند العبرانيين لله وحده، وأصبحت الدولة التي قامت على هذا النحو هي وحدها التي تستحق، بفضل هذا العهد، اسم مملكة الله، كما أصبح الله يسمى بحق ملك العبرانيين، وبالتالي كان أعداء هذه الدولة أعداء الله، كما أن من أراد من المواطنين اغتصاب السلطة، أصبحوا مدانين بجريمة الطعن في سلطة الله العلية. وأخيرا، أصبح تشريع الدولة هو مجموع قوانين الله وأوامره، في هذه الدولة، إذن كان القانون المدني والدين، الذي يتلخص كما رأينا في طاعة الله، شيئا واحدا. وبعبارة أخرى لم تكن عقائد الدين تعاليم بل مجموعة من القوانين والأوامر، وكانت التقوى تعد عدالة، والفسوق جرما وإثما، فمن ترك دينه لا يعود مواطنا، ويصبح لهذا السبب وحده عدوا، ومن ضحى بحياته في سبيل الدين يكون شهيدا للوطن، فلم يكن هناك أي فرق بين القانون المدني والدين؛ ولذلك أمكن تسمية دولة العبرانيين بالحكم الإلهي (تيوقراطية)؛ إذ إن المواطنين لم يكونوا ملتزمين بالخضوع لأي تشريع سوى ما أوحى الله به، ومع ذلك يجب القول بأن هذا الوصف نظري أكثر منه واقعي، فقد احتفظ العبرانيون - كما سنبين فيما بعد - بحقهم في حكم أنفسهم، ويتضح ذلك في الوسائل التي استخدمت والقواعد التي اتبعت في إدارة الدولة، وهذا ما سأعرضه الآن.
إن العبرانيين لم يخولوا حقهم إلى شخص آخر، بل تخلى عنه الجميع كما هو الحال في النظام الديمقراطي، وصاحوا بصوت واحد: «سنفعل كل ما يطلبه الله منا.» (دون أي وسيط) وبناء على هذا العهد ظل الجميع متساويين تماما؛ فكان لهم جميعا الحق نفسه في مخاطبة الله، وفي تلقي قوانينه وتفسيرها، وكانوا يشاركون جميعا بوجه عام في إدارة شئون الدولة؛ ولهذا السبب كان الجميع، في البداية، يقصدون الله ليسمعوا أوامره، ولكنهم في أثناء هذه الحضرة الأولى فزعوا فزعا شديدا، وآثار فيهم كلام الله من القلق ما جعلهم يظنون أن نهايتهم قد حانت، فتوجهوا إلى موسى للمرة الثانية وهم يرتجفون وقالوا: «ها نحن قد استمعنا إلى الله وهو يحدثنا في النار، وليس هناك ما يدعونا لأن نرغب في الموت. فهذه النار العظيمة ستلتهمنا يقينا، وسنموت حتما لو سمعنا صوت الله مرة أخرى. وإذن فلتذهب أنت ولتستمع إلى كل ما يقوله الله لك وتبلغنا إياه (أنت لا الله) وسنطيعك في كل ما سيقوله الله لك وسنعمل على تنفيذه.» وبهذا الكلام أبطلوا العهد الأول وفوضوا إلى موسى كلية حقهم في التشاور مع الله وتفسير أوامره، ولم يعد وعدهم منصبا على طاعة كل ما يبلغهم الله به، كما كان الحال من قبل، بل على كل ما سيتلقاه موسى من الله (انظر التثنية، 5: الوصايا العشر؛ 18: 15-16).
8
ومنذ هذه اللحظة كان لموسى وحده الحق في إعلان شريعة الله وتفسيرها، وكان وحده هو القاضي الأعظم الذي لا يحكم عليه أحد، أيا كانت العظمة القصوى (لأنه وحده كان له الحق في مخاطبة الله وتبليغ الشعب ردوده وإجباره على تنفيذ أوامره). أقول: إنه كان هو وحده الذي يملك هذا الحق، لأنه لو كان أحد في زمن موسى قد أراد أن يبشر بشيء باسم الله لاتهم، حتى ولو كان نبيا حقيقيا، باغتصاب الحق الأعظم (انظر العدد، 11: 28).
9 ⋆
وفي هذا الصدد، ينبغي أن نلحظ أنه بالرغم من أن الشعب قد اختار موسى، فإنه لم يكن له الحق في انتخاب خليفة له؛ ذلك لأنه، بعد أن فوض العبرانيون لموسى حقهم في مخاطبة الله، ووعدوا دون قيد أو شرط بأن يروا فيه متحدثا باسم الرب، فقدوا بذلك جميع حقوقهم، وكان عليهم قبول من يختاره موسى خلفا له، وكأن الله هو الذي اختاره، ولو كان موسى قد اختار خليفة له لأخذ على عاتقه مهمة إدارة شئون الدولة، أي كان من حقه وحده مخاطبة الله في خبائه وبالتالي كانت لديه سلطة من القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب، وإقرار السلام، وإرسال السفراء وتعيين القضاة، واختيار خليفة له، أي بوجه عام، القيام بجميع وظائف السلطة العليا؛ لو كان قد فعل ذلك، لأصبح نظام الحكم ملكيا، مع فارق يسير هو أن الملكية العادية تقوم على تنفيذ مشيئة إلهية خافية على الملك نفسه، على حين تقوم دولة العبرانيين أو يجب أن تقوم طبقا لمشيئة إلهية أوحيت إلى الملك وحده، وهو فارق يزيد من سلطة الملك وحقه على كل شيء ولا يقلل منها شيئا، أما الشعب فإنه يكون في كلا النوعين من النظام الملكي خاضعا، جاهلا بالمشيئة الإلهية؛ إذ إنه في كلتا الدولتين يعتمد كلية على كلمة ذلك، ويعلم منه وحده ما هو مشروع وما هو غير مشروع؛ إذ إن اعتقاد الشعب بأن جميع أوامر الملك قد ألهمته إياها المشيئة الإلهية من شأنه أن يزيد من خضوعه له، لا أن يقلله. على أن موسى لم يختر خليفة له على هذا النحو، وترك لخلفائه دولة تدار شئونها بطريقة لا يمكن وصفها بأنها نظام شعبي أو أرستقراطي أو ملكي بل هي نظام تيوقراطي، فقد كان حق تفسير القوانين وتبليغ ردود الله متروكا لسلطة شخص واحد، وحق إدارة شئون الدولة حسب القوانين التي تم تفسيرها والردود التي تم تبليغها على هذا النحو متروكا لشخص آخر (انظر في هذا الموضوع سفر العدد (27: 21)).
10 ⋆
ولكي يتضح ذلك سأعرض بطريقة منهجية طريقة إدارة جميع شئون الدولة. أولا، أمر الشعب ببناء مسكن كان بمثابة بلاط لله، وهو السلطة العليا لهذه الدولة. وكان من الطبيعي ألا يتحمل فرد واحد بعينه تكاليف هذا البناء، بل يتحمله الشعب كله حتى يكون المسكن الذي يتم فيه التماس المشورة من الله ملكا للجميع. وقد اختير اللاويون لخدمة هذا البلاط الإلهي وإدارته، واختير هارون أخو موسى ليكون رئيسا لهم، ونائبا للملك الإله، ثم يخلفه في ذلك أبناؤه خلافة شرعية. وإذن، كان هارون، وهو أقرب العبرانيين إلى الله، هو المفسر الأعظم للقوانين الإلهية، وهو الذي يعطي الشعب ردود النبوة الإلهية، وهو الذي كان يتوجه أخيرا بتضرعاته إلى الله من أجل الشعب، ولو كان له، بالإضافة إلى ذلك، حق الأمر بما يريد لما أصبح ينقصه شيء ليكون ملكا مطلقا، ولكنه لم يحصل على هذا الحق، وكان سبط لاوي كله مستبعدا بوجه عام من الاشتراك في الحكم إلى حد أنه لم يكن له الحق، كباقي الأسباط في الاستحواذ على بعض الممتلكات ليستطيع على الأقل أن يرتزق منها، فقد أمر موسى أن يقوم الشعب بسد حاجاته المادية، على أن هذا الوضع الخاص قد جلب لهذا السبط احتراما عظيما من الشعب، على أساس أنه هو وحده الذي وهب نفسه لله . ثانيا، تكون جيش من الأسباط الاثني عشر الآخرين، وصدر له الأمر بغزو بلاد الكنعانيين، وقسمت الأرض التي تم الاستيلاء عليها إلى اثني عشر قسما بالتساوي، وتوزيعها بالقرعة، وقد ساعدهم في مهمتهم هذه يشوع والعازار كعب الأحبار. وبعد أن عين يشوع قائدا عاما للجيش، أصبح له وحده الحق في سؤال الله كلما ظهرت مشكلات جديدة، ولكنه لم يعتزل كموسى في خبائه أو في المظلة بل كان لا بد له من الاستعانة بوساطة كعب الأحبار الذي يسمع وحده ردود الله، ثم يصدر يشوع الأوامر المبلغة إليه من الحبر، ويدفع الناس إلى تنفيذها، ويبحث عن الوسائل اللازمة لذلك ويستخدمها، ويختار في الجيش العدد الذي يريده من الرجال، ويرسل السفراء باسمه. وكان قانون الحرب رهن مشيئته، ولم يخلفه شرعا أحد من بعده ولم يتم اختيار أحد إلا من الله مباشرة، عندما كانت مصلحة الشعب كله تتطلب ذلك. وفيما سوى ذلك نقباء الأسباط الاثنا عشر يقومون بتنظيم شئون الحرب والسلم، كما سأبين بعد قليل. وقد أمر موسى بالخدمة العسكرية للجميع من العشرين حتى الستين، وبتكوين الجيش من المواطنين فقط، ثم يقسم هذا الجيش يمين الولاء للدين، أي لله، لا للقائد العام أو كعب الأحبار؛ ولذلك سمي جيش الله، وكتائبه كتاب الله كما سمي الله عند العبرانيين إله الجيوش؛ ولهذا السبب كان تابوت العهد ينصب وسط الجند في المعارك الكبرى التي يتحدد فيها مصير الشعب كله بالنصر أو الهزيمة، حتى يبذل الشعب قصارى جهده في المعركة، وكأن الملك حاضر بينهم. ويكفي أن نتذكر وصايا موسى لخلفائه، لنفهم أنه عين موظفين في الدولة لا سادة لها؛ ذلك لأنه لم يعط أحدا حق مخاطبة الله وحده وأينما شاء، وبالتالي لم يعط أحد هذه السلطة المهيبة التي كانت لموسى نفسه؛ سلطة سن القوانين وإلغائها، وإعلان الحرب وإقامة السلام، واختيار القائمين على تنظيم شئون الدين وأمور الدولة، وباختصار القيام بجميع مهام السلطة العليا. صحيح أن كعب الأحبار كان له الحق في تفسير القوانين وفي تبليغ ردود الله، ولكنه لم يكن يقوم بذلك وقتما يشاء، كما كان الحال عند موسى، بل بناء على طلب قائد الجيش أو الجمعية العليا أو السلطات المختصة في الدولة.
11
وعلى العكس من ذلك كان القائد الأعلى للجيش والمجالس السياسية يستطيعون أن يخاطبوا الله كما يريدون، ولكنهم لم يكونوا يتلقون ردا إلا عن طريق كعب الأحبار؛ ولذلك لم تكن كلمات الله على لسان الحبر أوامر كما كانت على لسان موسى، بل كانت مجرد ردود، ولم تكن لها قوة الأمر والقرار إلا بعد أن يتلقاها يشوع والمجالس، هذا فضلا عن أن كعب الأحبار الذي كان يتلقى بنفسه من الله الردود الإلهية لم يكن يعتمد على أي جيش ولم يكن له حق إصدار الأوامر. وعلى العكس من ذلك لم يكن لمن يتمتعون بحقوق ملكية الأرض أي حق في وضع القوانين. ولنضف إلى ذلك أنه إذا كان موسى قد عين كعب الأحبار في حالة هارون وابنه العازار، فإن أحدا لم يعد له، بعد موت موسى، أي حق في أن يختار حبرا. وكان الابن يخلف أباه شرعا، كذلك عين موسى القائد الأعلى للجيش وأضفى عليه صفة القيادة بناء على حق موسى الذي فوضه له، لا بناء على حق كعب الأحبار؛ ولهذا السبب فإنه عندما توفي يشوع لم يختر كعب الأحبار أحدا ليخلفه، ولم يطلب نقباء الأسباط من الله المشورة في تعيين قائد جديد لجميع الجيوش، بل احتفظ كل منهم بحق يشوع على جيش سبطه كما احتفظ جميع النقباء بالحق نفسه على جيش العبرانيين كله. ويبدو أن العبرانيين بعد ذلك لم يكونوا في حاجة إلى قائد أعلى، إلا في الحالات التي كانوا يوحدون فيها كل قواتهم لمحاربة عدو مشترك. وقد حدث ذلك في زمان يشوع حين لم يكن لأي سبط موطن دائم، وكانت ملكية الأشياء حقا مشاعا بين الجميع، وفيما بعد، عندما تم تقسيم الأراضي التي استولى عليها الأسباط بحق الغزو وكذلك الأراضي التي كانوا يعتزمون غزوها، لم تعد هناك ملكية عامة مشتركة، ولم يعد هناك، لهذا السبب ذاته، ما يدعو إلى وجود قائد عام، لأنه ابتداء من هذا التقسيم أصبحت الأسباط المتميزة أقرب إلى الدولة الحليفة منها إلى الدولة الواحدة. صحيح أنه بالنسبة إلى الله والدين، كان يجب النظر إلى العبرانيين على أنهم أمة واحدة، أما بالنسبة لحق كل سبط على الآخر فقد كانوا أسباطا متحالفة، شأنهم في ذلك (إذا استثنينا المعبد المشترك)، شأن «دول الاتحاد الهولندي»
12
السامية. والواقع أن تقسيم أية ملكية عامة إلى أجزاء، معناه أن يمتلك كل فرد نصيبه وحده، وأن يتخلى الآخرون عما كان لهم من حق فيه؛ ولذلك عين موسى نقباء للأسباط، حتى يتفرغ كل منهم بعد التقسيم لتنظيم شئون نصيبه أي ليضطلع بمهمة استشارة الله في شئون سبطه، على لسان كعب الأحبار، وقيادة جيشه، وتأسيس المدن وتحصينها، وتعيين القضاة فيها، ومحاربة عدو دولته الخاصة، وتنظيم شئون الحرب والسلم بوجه عام. ولم يكن كل نقيب ملزما بالاعتراف بأي حكم سوى الله، أو على الأقل نبي بعثه الله بالفعل.
13 ⋆
فإذا لم يقم نقيب سبط ما بواجباته نحو الله، كان على باقي الأسباط ألا تعامله على أنه من بين الرعايا، بل إن عليها محاربته وكأنه عدو نقض عهدا أخذه على نفسه. وفي الكتاب أمثلة كثيرة على ذلك، فبعد موت يشوع خاطب أبناء إسرائيل الله، ولم يخاطبه قائد الجيش، وعندما علم أن على سبط يهوذا مهاجمة عدوه أولا، تحالف مع سبط شمعون وحده لتوحيد قواتهما ضد العدو، ولم تدخل باقي الأسباط هذا الحلف (انظر القضاة، 1: 1-3)،
14
ويروى في الإصحاح نفسه أيضا أن كل سبط حارب العدو بمفرده وقبل التسليم أو الخضوع ممن أرادوا ذلك، مع أن الأوامر الأصلية كانت تقضي بإبادة جميع الأعداء بلا رحمة، وعدم التفاوض معهم على أي شرط من الشروط. صحيح أن السبط الذي كان يقترف هذا الإثم، كان يوجه إليه اللوم، ولكنه لم يكن يدان، فلم يكن ذلك دافعا كافيا لكي تتطاحن الأسباط في حرب بينها ويتدخل كل سبط في شئون الآخر. وعلى العكس عندما أهان سبط بنيامين الأسباط الآخرين وقطع العلاقات السلمية التي تربطه بهم ، بحيث إن الأسباط الحلفاء لم تعد تجد فيه حليفا يعتمد عليه، نشبت الحرب، وبعد المعركة الثالثة انتصر الأسباط الآخرون وقتلوا، طبقا لقوانين الحرب، جميع أبناء بنيامين، المذنبين منهم والأبرياء، ثم ندموا على هذه الجريمة بعد فوات الأوان وحزنوا عليها.
هكذا أثبتنا بالأمثلة، على نحو قاطع، ما قلناه فيما يتعلق بحق كل سبط. وقد يسألني سائل: من الذي كان يعين خليفة نقيب كل سبط؟ الواقع أني لم أجد في الكتاب جوابا يقينيا في هذا الموضوع، ولكني أفترض أن أكبر المشايخ سنا كان له الحق في خلافة نقيب السبط، نظرا إلى أن كل سبط كان مقسما إلى أسر يختار شيوخها من بين المسنين في الأسرة، وقد اختار موسى من بين المشايخ سبعين معاونا له كانوا يكونون معه المجلس الأعلى، وقد أطلق الكتاب اسم الشيوخ على من تولوا إدارة شئون الدولة بعد موت يشوع، وكان لفظ الشيوخ يستعمل دائما عند العبرانيين للإشارة إلى القضاة، وهو أمر يعلمه الجميع ولا شك. وفضلا عن ذلك فلا يهمنا كثيرا، بالنسبة إلى مقصدنا، أن نعرف معرفة يقينية تعيين نقباء الأسباط، بل يكفي أن أكون قد بينت أن أحدا بعد وفاة موسى لم يقم بكل مهام السلطة العليا، فلما لم يكن تصريف الأمور العامة في دولة العبرانيين يعتمد على مشيئة إنسان واحد، أو مجلس واحد، أو حتى على الشعب نفسه، وكان بعض منها من اختصاص سبط ما والبعض الآخر من اختصاص باقي الأسباط، وكان لجميع الأسباط الحقوق نفسها، فإنه يتبين من ذلك بوضوح تام أن نظام الحكم بعد وفاة موسى لم يكن ملكا ولا أرستقراطيا ولا شعبيا، بل كان حكما للسلطة اللاهوتية (ثيوقراطيا) كما قلت من قبل (وذلك للأسباب الآتية): (1)
كان المعبد هو المقر الملكي للدولة، وبالنسبة إليه وحده، كان جميع أفراد الأسباط كلهم مواطنين في دولة واحدة كما بينا من قبل. (2)
كان على جميع المواطنين أن يقسموا يمين الولاء لله حاكمهم الأعظم (وهو وحده الذي وعدوه بالطاعة المطلقة في كل شيء). (3)
كان الله وحده هو الذي يختار عند الحاجة قائدا أعلى.
15
وقد تنبأ موسى بذلك للشعب صراحة باسم الله (التثنية، 17: 15)
16
كما يشهد بذلك أيضا اختيار جدعون وشمشمون وصموئيل، وهو أمر لا يترك مجالا للشك في أن القواد المخلصين الآخرين قد اختيروا بالطريقة نفسها، حتى ولو لم يكن ذلك قد ذكر في تاريخهم.
والآن علينا أن نبحث كيف نجح نظام الحكم الثيوقراطي في تخفيف حدة انفعالات الحكام والمحكومين على السواء، بحيث لم يصبح المحكومون عصاة ولا الحكام طغاة.
إذا ارتكب الذين يحكمون دولة ما أو الذين يرأسونها جرما ما، فإنهم يحاولون دائما إخفاءه تحت ستار من القانون، وإقناع الشعب بأن سلوكهم جدير بالثناء، وهم ينجحون في ذلك بلا عناء لأنهم هم وحدهم الذين لهم الحق في تفسير القانون، ومن ثم فإنهم يستغلون هذه الميزة في ارتكاب كل أفعالهم المغرضة، وكل ما تدفعهم الشهوة إليه. وعلى العكس تحد حريتهم المطلقة في السلوك لو كان هناك شخص آخر له حق تفسير القوانين، وخاصة إذا كان التفسير المقترح صحيحا لا يمكن أن ينازع فيه أحد. ويتبين من ذلك بوضوح تام أن أحد الدوافع القوية لعدد كبير من الجرائم التي يرتكبها الأمراء، لم يكن قائما عند العبرانيين:
أولا:
لأن حق تفسير الشريعة كان متروكا بأسره للاويين وحدهم (انظر التثنية، 21: 5)
17
الذين لم يكونوا يشاركون في أي تنظيم سياسي، ولم يكن لهم حق الملكية، وكان كل ما يتمتعون به من امتياز واحترام مستمدا من تفسيرهم الصحيح للقوانين.
ثانيا:
لأنه كان على الشعب كله، تطبيقا لأوامر الله، أن يجتمع مرة كل سبع سنوات في مكان محدد، لكي يتلقى من الحبر معلومات عن الشريعة، كما كان على كل فرد أن يقرأ باستمرار سفر الشريعة ويعيد قراءته (انظر: التثنية، 31: 9 وما بعدها؛ 6: 7)،
18
بحيث كان على الرؤساء، حرصا على مصلحتهم الخاصة، أن يعملوا على تصريف الشئون العامة طبقا للقوانين التي سنت من قبل، والتي كان الجميع يعرفونها معرفة لا بأس بها، وذلك إذا أراد هؤلاء الرؤساء أن يكونوا موضع أعظم احترام من الشعب، الذي كان يبجلهم، عندما يتوافر فيهم هذا الشرط، باعتبارهم رسل مملكة السموات وخلفاء الله. أما إذا لم يتوافر فيهم هذا الشرط (أي إذا خرقوا القوانين) فلم يكن من الممكن أن يسلموا من كراهية الرعية لهم (وهي أشد ألوان الكراهية، كما هي العادة في كل كراهية لاهوتية) وهناك عامل آخر ساعد على منع نقباء الأسباط من الاندفاع وراء أطماعهم، هو تكليف جميع المواطنين بالخدمة العسكرية (من العشرين إلى الستين بلا استثناء) وحظر استقدام النقباء للمرتزقة من الخارج، وكان لهذا الإجراء أثر كبير، إذ يحتاج الطغاة، من أجل قهر الشعب، إلى جيش يرتزق منهم، فضلا عن أن هؤلاء الطغاة لا يخشون شيئا بقدر ما يخشون جيشا يتألف من مواطنين أحرار بذلوا شجاعتهم وجهدهم وأريق دمهم في سبيل عزة الوطن وحريته؛ ولهذا السبب فإن الإسكندر عندما كان عليه محاربة داريوس للمرة الثانية، لم ينفجر غضبا على بارمينون بعد أن سمع منه نصيحته، بل غضب على بوليسبرخون، الذي أبدى رأي بارمينون نفسه؛ ذلك لأنه فيما يقول كوينتوس كوريتوس، (الكتاب الرابع: 13): «لم يجرؤ على توجيه اللوم مرة أخرى إلى بارمينون، بعد أن كان قد غضب عليه من قبل غضبا شديدا، ولم يستطع القضاء على حرية المقدونيين، التي كان يخشاها، إلا بعد أن أسر من الجنود عددا أكبر من المقدونيين، وأدخلهم في جيشه، بعد ذلك أطلق لانفعالاته العنان، بعد أن كانت حرية فضلاء المواطنين قد كبتها طويلا. فإذا كانت حرية الجيش المؤلف من مواطنين تسطيع أن تكبح جماح انفعالات رؤساء دولة أقامها البشر، وهم الذين اعتادوا أن يحتفظوا لأنفسهم بكل أمجاد النصر، فإن تأثيرها ولا شك كان أعظم بكثير على رؤساء العبرانيين الذين حارب جنودهم في سبيل المجد الإلهي، لا مجد أحد الرؤساء، ولم يكونوا يبدءون معركة قبل أن يستشيروا الله ويسمعوا إجابته.
ولنضف إلى ذلك ثانيا أن نقباء الأسباط لم يرتبطوا فيما بينهم إلا برباط الدين المشترك، فإذا بدأ أحدهم في التخلي عنه والنيل من حق الفرد الإلهي،
19
كان من حق الآخرين القضاء عليه وكأنه عدو.
ثالثا:
يجب أن نذكر أيضا الخوف من ظهور نبي جديد، فقد كان يكفي أن يأتي إنسان معروف بالشرف ويبرهن ببعض الآيات الصحيحة على نبوته ليكون له حق مطلق في إعطاء الأوامر بوصفه ممثلا لله الذي تكشف له وحده، مثل موسى لا بوصفه ممثلا لله بتوسط الحبر على طريقة الأسباط. ولا شك أن أمثال هؤلاء الأنبياء كانوا يستطيعون بسهولة اكتساب ثقة الشعب المضطهد وإقناعه بكل ما يريدون بآيات يسيرة. وعلى العكس إذا استطاع النقيب أن ينظم الشئون العامة باستقامة أمكنه أن يتدخل في الوقت المناسب وأن يجعل النبي يمثل أمام محكمته، حتى يعلم بأنه كان يعيش عيشة شريفة حقا، وإن كان قد تلقى بالفعل آيات على بعثته، وإن كان ما يقوله وما يدعي أنه من عند الله متفقا مع العقيدة الدينية الموروثة ومع التشريع الوطني العام، فإن لم تكن للآيات القيمة المطلوبة، أو كانت التعاليم بدعة، كان من حق النقيب الحكم عليه بالموت، وإلا تم الاعتراف بالنبي، على ألا يكون ذلك إلا بناء على سلطة النقيب وبشهادته.
رابعا:
لم يكن نقيب السبط يفضل مواطنيه في النبل والعظمة أو في أي حق موروث، بل كان يعهد إليه بحكم الدولة نظرا لسنه وفضيلته وحدهما.
وأخيرا:
نلحظ عند العبرانيين أن النقباء والجند لم يكن من الممكن أن يفضلوا الحرب على السلم، فقد كان الجيش - كما قلنا من قبل - مكونا من المواطنين وحدهم، وكانوا هم أنفسهم الذين يتولون أمور الحرب والسلم، فمن كان جنديا وقت الحرب كان مواطنا عاديا في الحياة المدنية، ومن كان ضابطا آمرا، كان قاضيا في دائرته، أما القائد الأعلى فكان قاضي قضاة المدينة. فلم يكن من الممكن إذن أن يرغب أحد في الحرب من أجل الحرب، بل لإقامة السلام وللدفاع عن الحرية. والأرجح أن نقيب السبط كان يتجنب بقدر ما يستطيع أي تغيير في النظام القائم، حتى لا يتوجه إلى الحبر ويهين كرامته.
هذه هي الأسباب التي منعت النقباء من الخروج على حد الاعتدال. ولنبحث الآن في الكيفية التي تم بها ضبط انفعالات الشعب، وهو بدوره أمر تبينه لنا أسس التنظيم الاجتماعي بوضوح، فحتى لو ألقينا على هذه الأسس نظرة عابرة لوجدنا أنها كان لا بد أن تبث في قلوب المواطنين حبا فريدا لوطنهم، يستحيل عليهم معه التفكير في خيانته أو التخلي عنه، بل لقد تعلق الجميع به إلى حد أنهم كانوا يفضلون الموت على أية سيطرة أجنبية عليهم. فالواقع أنهم بعد أن فوضوا حقهم إلى الله واعتقدوا أن مملكتهم مملكة الله، وأنهم وحدهم أبناء الله، وأن الشعوب الأخرى أعداء الله؛ ولهذا السبب كانوا يكنون لهذه الشعوب كراهية شديدة (وهي كراهية كانت تبدو لهم علامة على التقوى، انظر: المزمور 139: 21-22).
20
وكانوا يشعرون بفزع شديد إزاء فكرة التعهد بالولاء للأجنبي أو وعده بالطاعة، ولم يكن هناك أشنع أو أبغض، في نظرهم، من خيانة وطنهم، أي مملكة الله الذي يعبدونه، وكانت مجرد الإقامة في أرض أجنبية تبدو لهم عارا، لأنه لم يكن يسمح لهم بإقامة شعائر دينهم، التي هم أحرص الناس عليها، في أي مكان آخر؛ ولهذا السبب أيضا كانوا يرون أرض وطنهم مقدسة وكل أرض أخرى دنسة لا قدسية فيها. ومن هنا فإن داود عندما اضطر إلى هجر وطنه، ندب على حاله أمام شاءول قائلا: «إن كان من يحنقوك علي بشر فعليهم اللعنة لأنهم يسلبون مني ميراثي الإلهي وينزعونني منه ويقولون لي: اذهب واعبد آلهة أجنبية.» لذلك لم يحكم على مواطن بالنفي مطلقا، وهذا أمر يجب ملاحظته جيدا؛ لأن من يرتكب جرما كان في نظرهم يستحق العقاب، لا العار، لذلك لم يكن حب العبرانيين لوطنهم مجرد حب، بل كان تقوى تحييها العبادة اليومية وتغذيها، كما تثيرها في الوقت نفسه كراهيتهم للشعوب الأخرى، بحيث أصبحت هاتان العاطفتان طبيعة ثانية عند العبرانيين. الواقع أن شعائر الدين العبري لم تكن تختلف عن شعائر باقي الأديان فحسب بحيث يشعر المؤمنون بأنهم مختلفون كل الاختلاف عن غيرهم، بل كانت مناقضة لها أشد التناقض، وقد كان لا بد أن يتولد عن العار الذي كانوا يلحقونه بالأجنبي كل يوم، كراهية شديدة له، كانت أشد تملكا لقلوبهم من أية عاطفة أخرى، وهي كراهية تتولد عن الإيمان والتقوى، بل كانت هي نفسها تعد تقوى، وتلك بحق هي أقوى أنواع الكراهية وأشدها تأملا. ولقد كان يتمثل في هذه الحالة بدورها ذلك العامل المألوف الذي كان يزيد من حدة الكراهية على الدوام، وأعني به الكراهية المتبادلة والمتأصلة التي كانت تكنها الشعوب الأخرى بدورها للعبرانيين. كل هذه الظروف مجتمعة؛ أعني حرية المواطنين في الدولة إزاء غيرهم من المواطنين، والولاء للوطن، والحق المطلق ضد الأجنبي، وإباحة الكراهية الشديدة لكل من هو غير يهودي وجعلها واجبا مقدسا، والتميز بالعادات والشعائر. أقول: إن هذه الظروف كلها قد ساعدت على تثبيت قلوبهم، بحيث تعلم المواطنون أن يتحملوا دائما بصبر وشجاعة في سبيل وطنهم أي امتحان. وهذا أمر يوضحه لنا العقل وتشهد به التجربة. وطالما كانت مدينتهم قائمة لم يستطع العبرانيون الخضوع طويلا للأجنبي، حتى تعود الناس تسمية أورشليم بالمدينة المتمردة (انظر: عزرا، 4: 12، 15)
21
فلم يستطع الرومان بسهولة هدم الدولة العبرية الثانية (التي كانت على أكثر تقدير ظلا للدولة الأولى، بعد أن سلب الأحبار حقوق نقباء الأسباط) ويشهد تاكيتوس على ذلك في الكتاب الثاني من تاريخه بقوله: «لقد انتصر فسباسيان في حربه ضد اليهود، ولكنه لم يستطع اقتحام أورشليم، فقد كانت تلك مهمة صعبة وشاقة، ويرجع ذلك إلى الاستعداد النفسي الخاص للشعب وشدة تعصبه، أكثر مما يرجع إلى قواته الحقيقية الباقية المحاصرين لمواجهة ضرورات الموقف.» وبالإضافة إلى هذا الباعث، الذي يختلف تقديره من فرد لآخر، كان هناك باعث آخر فريد له في الدولة العبرية أعظم الأثر في تثبيت نفوس المواطنين، في المحافظة عليهم من أي ضعف أو رغبة في هجر وطنهم، وأعني به عامل المنفعة الذي يعطي الأفعال الإنسانية قوتها وحياتها. ففي هذه الدولة كان للمصلحة الخاصة أهمية فريدة؛ إذ لم يكن المواطنون في أي مكان آخر يملكون أموالهم عن حق مضمون بقدر ما كانوا يملكونها في هذه الدولة، فقد كان نصيب كل منهم من الأرض والحقول مساويا لنصيب النقيب، وكان كل منهم هو السيد الدائم لأرضه، فإذا اضطر أحد بسبب الفقر إلى أن يبيع ممتلكاته أو حقه ردت إليه الأرض في وقت العيد (اليوبيل)، وكانت هناك أنظمة أخرى من هذا النوع تمنع من سلب أحد نصيبه المعتاد من الممتلكات. وكان الفقر محتملا في هذا البلد أكثر منه في أي بلد آخر؛ إذ كان الإحسان للآخرين أي للمواطنين عملا صالحا يتقرب به الناس إلى الملك الإله. وإذن فلم يكن في استطاعة العبرانيين أن يعيشوا سعداء خارج وطنهم، إذ كانوا معرضين لجميع ألوان العوز والخزي في كل مكان. ومما كان له أكبر الأثر في ربطهم بأرض الوطن، وفي حثهم على تجنب الحرب الأهلية وكل أسباب الشقاق، أن أحدا لم يكن سيدا للآخر، بل كان الله سيدا للجميع، وكان حب المواطنين والإحسان إليهم أفضل مظاهر التقوى، وكان يقوي من هذا الحب كراهيتهم للشعوب وكراهية الشعوب لهم. وفضلا عن ذلك فقد كانت الطاعة نتيجة للنظام الصارم الذي نشئوا عليه؛ فقد كانت جميع أفعالهم خاضعة لأحكام الشريعة، ولم يكن حرث الأرض مصرحا به في كل الظروف، بل في أوقات معينة وفي سنوات معينة فقط، وبمواش من نوع معين، كذلك لم يكن البذر والحصد مسموحا بهما إلا بطريقة معينة وفي وقت معين. وبوجه عام كانت حياة العبرانيين كلها طاعة مستمرة (انظر في هذا الموضوع الفصل الخامس عن فائدة الشعائر)، ونظرا إلى اعتيادهم هذه الحياة فإنها لم تعد في نظرهم عبودية، بل بدت لهم هي والحرية شيئا واحدا، بحيث لم يعد الممنوع مرغوبا فيه من أحد، بل أصبح الفعل الذي يؤمرون به هو وحده المرغوب. وذلك كان التزامهم بأيام الراحة والمتعة الدورية في الجيش طاعة لله لا إمتاعا لأنفسهم، وكانوا يحلون ضيوفا على الله ثلاث مرات سنويا (انظر التثنية، 16)،
22
كما كان عليهم التوقف عن العمل والإخلاد إلى الراحة في اليوم السابع، وفي مناسبات أخرى لم تكن المتع البريئة وإقامة المآدب مصرحا بها فقط بل كانت مفروضة بالأمر، ولا أعتقد أن هناك تدابير أكثر فاعلية من هذه في التأثير على قلوب الناس، فليس هناك شيء أقوى تأثيرا في النفس من الفرح المنبعث من الإيمان، أي من الحب والإعجاب.
23
ومع ذلك لم يكن هناك خوف من أن ينتابهم ملل التكرار المستمر لأن الشعائر الخاصة بأيام العيد كانت نادرة ومتنوعة. يضاف إلى ذلك احترامهم الشديد للمعبد فكانوا يحافظون عليه بدافع ديني نظرا إلى الطابع الفريد الذي كانت تتسم به شعائره والطقوس الواجب اتباعها حتى يسمح بالدخول فيه. وحتى في أيامنا هذه، ما زال ينتاب اليهود فزع شديد كلما قرءوا قصة تدنيس منسي للمعبد
24
عندما تجرأ وأقام فيه صنما، ولم يكن الشعب أقل احتراما للقوانين التي كانوا يحتفظون بها بعناية وبدافع ديني في المحراب الأكثر أمنا. ولذلك قل الخوف من القلاقل الناجمة عن انتشار الأحكام المسبقة بين الشعب، ولم يجرؤ أحد على أن يصدر حكما على الأمور الإلهية، بل كان على الجميع أن يطيعوا كل ما أمر الله به، إما بناء على سلطة الرد الخاص الذي يبعث به الله، وإما بناء على سلطة الشريعة التي أوحى بها الله منذ القدم، دون إعمال للعقل.
أظنني الآن قد عرضت المبادئ الأساسية لهذه الدولة عرضا واضحا، وإن كان موجزا، ولم يبق لنا إلا أن نعرف الأسباب التي من أجلها لم يحافظ العبرانيون في كثير من الأحيان على الشريعة،
25
والتي جعلتهم يقعون مرات عديدة تحت نير الأجنبي حتى انهارت دولتهم تماما في النهاية،
26
قد يقال: إن السبب في ذلك هو عصيان هذه الأمة، وهو قول صبياني؛ فلماذا كانت هذه الأمة أكثر عصيانا من الأمم الأخرى؟ لم تكن الطبيعة حتما هي السبب في ذلك؛ لأن الطبيعة لا تخلق شعوبا، بل أفرادا
27
لا ينقسمون إلى شعوب إلا لاختلافهم في اللغة والقوانين والعادات الموروثة، فالقوانين والعادات وحدها هي التي تعطي كل أمة طابعا مميزا، ووضعا خاصا، وأحكاما مسبقة تنفرد بها.
فإذا سلمنا بأن العبرانيين كانوا أكثر عصيانا من باقي البشر، فيجب أن يرجع ذلك إلى أوجه نقص معينة في قوانينهم أو في عاداتهم الموروثة.
28
صحيح أنه لو كان الله قد أراد أن يعطيهم دولة أكثر استقرارا، لجعل لهم دستورا مختلفا وقوانين مغايرة، ولأقام حكما آخر، وهكذا نضطر إلى القول أنهم قد أغضبوا إلههم ابتداء من التشريع الأول لا ابتداء من تأسيس المدينة كما يظن إرميا (انظر 32: 31).
29
وهذا ما يؤكده حزقيال بقوله (20: 25): «فأعطيتهم رسوما غير صالحة وأحكاما لا يحيون بها ونجستهم بعطاياهم بإجازتهم في النار كل فاتح رحم لكي أدمرهم حتى يعلموا أني أنا الرب.»
30
ولكي نفهم جيدا هذه الكلمات، وسبب انهيار دولة العبرانيين، فلنتذكر أولا أن الهدف الأصلي كان قصر البعثة المقدسة على الأطفال حديثي الولادة دون تمييز خاص للاويين (انظر العدد، 8: 17)،
31
ولكن بعد أن عبد الجميع العجل، باستثناء اللاويين، استبعد الأطفال حديثو الولادة، وأصبحوا يعدون مدنسين، وتم اختيار اللاويين بدلا عنهم (التثنية، 10: 8).
32
والحق أنني كلما فكرت في هذا التغيير وجدت نفسي أقول مع تاكيتوس: عندئذ لم يعد الله يهتم بسلامة العبرانيين، بل بانتقامه الخاص، وأكاد أصعق دهشة
33
عندما أتأمل شدة هذا الغضب الذي تملك روحه السماوية (أي روح الله) بحيث جعله يضع القوانين إرضاء لرغبته في الانتقام وعقابا للعبرانيين، لا من أجل خلاص الشعب كله وسلامته وشرفه، كما جرت العادة في وضع القوانين. وهكذا أصبحت هذه القوانين تبدو أقرب إلى التعذيب والعقاب منها إلى القوانين الفعلية، التي هي وسيلة لخلاص الشعب. والحقيقة أن كل الهبات التي كان العبرانيون مضطرين إلى إعطائها اللاويين والكهنة - وهي وجود فداء الأطفال حديثي الولادة، ودفع مبلغ من المال عن كل فرد في الأسرة للاويين، وأخيرا تميز اللاويين على غيرهم بأن من حقهم وحدهم دخول الأماكن المقدسة - كل هذه دلائل متكررة على تدنيس الشعب ونبذ الله له. وفضلا عن ذلك، كان اللاويون ينتهزون كل فرصة ليشعروا العبرانيين بعارهم. ولا شك أنه كان هناك، من بين خدام المعبد من اللاويين الذين يعدون بالآلاف، بعض الكهنة المنافقين، مما جعل الشعب يراقب بدقة أفعال اللاويين، وهم بشر على أية حال، ويلقي عليهم جميعا أي ذنب يرتكبه واحد منهم. وهذا سبب استمرار القلاقل المتوالية بين الشعب، والسأم الذي شعر به وخاصة في سنوات القحط، من إعانة هؤلاء العاطلين المكروهين الذين لا تربطهم بهم أية قرابة، فلا عجب إذن إن كان الشعب، في فترات الهدوء التي لا تظهر فيها معجزات صارخة أو رجال ذوو سلطة فائقة، يستسلم لغضبه وأطماعه الشديدة، فيفقد أولا حميته الدينية، ثم يتخلى عن ممارسة عبادة دينية هي حقا إلهية، ولكنه يراها مصدرا لإذلاله، بل موضوعا لارتيابه، وسرعان ما تتجه رغبته إلى البحث عن عبادة أخرى، ولا عجب إن كان النقباء، في بحثهم الدائم عن وسيلة للتقرب إلى الشعب وإبعاده عن الحبر، لكي يحصلوا وحدهم على حقوق الحكام، يرضخون لرغبات الشعب، ويقدمون له عبادات جديدة. ولو كانت دولة العبرانيين قد قامت كما أراد مؤسسها الأول لكان لجميع الأسباط الحق نفسه، والشرف نفسه، ولعم الأمان في كل مكان، فمن الذي يرغب في التعدي على الحق المقدس لأقربائه؟ وأي شيء يرغب فيه المرء أكثر من إطعام الآباء والإخوة والأقرباء بدافع من الحمية الدينية. ومن تعلم تفسير القوانين منهم، وتلقي الردود الإلهية منهم؟ بهذه الطريقة؛ أعني لو كان لكل سبط الحق نفسه في تنظيم شئون الدين، كان من الممكن ربط الأسباط فيما بينهم برباط قوي. ولو كان قد تم اختيار اللاويين بدافع غير الغضب والانتقام لما كان هناك ما يخشى منه، ولكن العبرانيين - كما قلنا من قبل - أغضبوا ربهم، وتركهم الله - حسب تعبير حزقيال - يدنسون أنفسهم بقرابينهم التي يفدون بها كل فتح في الرحم حتى يستطيع إهلاكهم. وتؤيد الروايات التاريخية كل ما أقوله، فبمجرد أن بدأ الشعب في التمتع بالراحة في الصحراء رفض عدد كبير من الناس - لم يكونوا مع العامة - امتياز اللاويين، وانتهزوا هذه الفرصة لكن يروا فيها دليلا على أن موسى لم يضع هذه التنظيمات المختلفة بأمر من الله بل بمحض خياله، ألم يفضل سبطه ويعطي أخاه الحبروية إلى الأبد؟ وهكذا قامت جماعة منهم بثورة صاخبة ضد موسى، مطالبين بمساواتهم جميعا في القدسية الدينية، ومعترضين بأن تفضيله سبطا على الآخرين فيه خرق للشريعة، وعندما أخفق موسى في تهدئة معارضيه بالحجة العقلية التجأ إلى معجزة كان المفروض منها أي تؤدي إلى إعادة الإيمان، ولكنها أدت إلى هلاك الجميع ، ونشأت عن ذلك فتنة جديدة بين الشعب كله، عندما آمن الشعب بأنه هلك بحيلة بارعة من موسى لا بأمر الله، وبعد مذبحة كبيرة وظهور الطاعون، أدى الإعياء الذي تملكهم إلى استتباب الهدوء بينهم، ولكن جميع العبرانيين أصبحوا يفضلون الموت على الحياة، وهكذا خمدت الفتنة دون أن يعم الوفاق ويشهد الكتاب على ذلك (التثنية، 31: 21)، فبعد أن تنبأ الله لموسى بتخلي الشعب بعد موته عن عبادة الله أضاف قائلا: «لأني عالم بخواطرهم التي يجرونها اليوم من قبل أن أدخلهم الأرض كما أقسمت.» وبعد ذلك بقليل قال موسى للشعب: «لأني أعلم تمردكم وقساوة رقابكم فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد تمردتم على الرب فكيف بعد موتي؟» وكلنا نعلم أن ما تنبأ به موسى هو الذي حدث، فقد أدت التغيرات الكبيرة والإباحية المطلقة والترف والإهمال إلى انهيار عام في الدولة، حتى وقع العبرانيون مرات عديدة تحت نير الأجنبي، فنقضوا عهدهم مع الله بعد أن سقط حقه، وأرادوا لأنفسهم ملوكا من البشر بحيث لا يعود المعبد مركز السلطة، بل البلاط، وبحيث أصبح رجال الأسباط كلهم مواطنين، لا بسبب خضوعهم لقانون الله والحبروية، بل بسبب خضوعهم لملك واحد. وقد كان هذا التغيير سببا قويا لوقوع فتن جديدة أدت إلى الانهيار التام للدولة؛ ذلك لأن الملوك لا يقبلون مطلقا أن يحكموا حكما غير مأمون، ولا يسمحون بوجود دولة مستقلة داخل الدولة. صحيح أن الملوك الأوائل المختارين من بين الرعية كانوا راضين بما وصلوا إليه من مراتب الشرف، ولكن بمجرد اعتلاء الأبناء العرش خلفا للآباء بحق الوراثة، عملوا على إحداث تغييرات تدريجية حتى يتمكنوا آخر الأمر من الاستيلاء على حق السلطة في الدولة كاملا، ولكن سلب منهم قدر عظيم من هذا الحق، ما دامت سلطتهم لم تمتد إلى التشريع الذي كان الحبر هو الذي يحافظ عليه في المحراب، وهو الذي يفسره للشعب؛ وعلى هذا النحو اضطر الملوك كباقي الرعية إلى احترام القوانين، ولم يكن لهم حق نسخها أو وضع قوانين جديدة لها بالسلطة نفسها، والسبب الذي أدى إلى سلب هذا الحق منهم هو أن قانون اللاويين كان يمنع الملوك والرعية على السواء - لأنهم دنيويون - من رعاية شئون الدين. والسبب الأخير هو أن سلطتهم لم تكن مضمونة أمام إرادة أي رجل واحد يعترف به نبيا، ويستطيع بذلك القضاء عليها وعلى سيطرة الملك، وهو أمر كانت له أمثلة كثيرة، ألم يكن صموئيل يعطي بكل ثقة أوامر ملزمة لشاءول؟ ألم ينتزع منه النبي بكل سهولة حقه في الحكم وأعطاه داود مقابل خطأ واحد ارتكبه شاءول؟ لذلك كان عليهم الحذر من وجود دولة داخل الدولة، وكانوا يحكمون حكما محفوفا بالخطر. ولكي يقلل الملوك من خطورة هذين العاملين سمحوا بأن تخصص معابد أخرى لعبادة آلهة مختلفة، بحيث لا يسأل اللاويون في شيء، ثم حرضوا بعض الناس مرات عديدة على التنبؤ باسم الله بحيث يعارض هؤلاء المتنبئون الأنبياء الصادقين. ولكن بالرغم من كل هذه الجهود لم يحققوا غرضضهم، فقد استعد الأنبياء لكل شيء، وكانوا ينتظرون الوقت المناسب، وهو وقت انتقال السلطة إلى ملك جديد تكون سلطته ضعيفة، خاصة وأن ذكرى الملك السابقة ما زالت حية، فكان سهلا على الأنبياء عندئذ، اعتمادا على السلطة الإلهية، أن يدفعوا بشخص حانق على الملك ومعروف بشجاعته في الدفاع عن حق الله إلى الاستيلاء على السلطة أو على جزء منها. ولكن لم يستطع الأنبياء بهذه الطريقة الوصول إلى شيء؛ فإذا كانوا قد نجحوا في القضاء على طاغية، فإنهم أخفقوا في القضاء على الدوافع الحقيقية للطغيان، فيظهر طاغية جديد بعد دفع ثمن باهظ من دماء المواطنين، ويستمر الشقاق، وتتوالى الحروب الأهلية بلا انقطاع، وتبقى الدوافع نفسها المؤدية إلى خرق القانون الإلهي، ولا تختفي تماما إلا بعد انهيار الدولة نفسها.
نستطيع الآن أن نرى كيف أدخل الدين في مملكة العبرانيين، وكيف كان يمكن لهذا النظام أن يستمر إلى الأبد لو سمح له الغضب العادي للمشرع
34
بالبقاء كما أنشأه من قبل. ولكن لما كان ذلك مستحيلا، فقد قضى على هذا النظام. ويلاحظ، فضلا عن ذلك، أنني لم أتحدث هنا إلا عن الدولة العبرانية الأولى، أما الثانية فكانت مجرد ظل لها، إذ اضطر شعبها إلى احترام تشريع الفرس بعد خضوعه لهم، وبعد تحرره استولى الأحبار على حق نقباء الأسباط وكانت لهم السلطة المطلقة، وهكذا تولدت عند الكهنة رغبة قوية في الوصول إلى الحكم والحبروية على السواء. وهذا هو السبب في أننا فضلنا عدم التوقف كثيرا عند هذه الدولة. وسنتحدث في الفصول القادمة عما إذا كانت الدولة الأولى، بما فيها من سمات افترضنا أنها كان يمكن أن تجعلها باقية، يمكن أن تتخذ أنموذجا نحاكيه الآن، أو أن محاكاتها بقدر الإمكان دليل على التقوى.
وفي نهاية هذه المناقشة سأكتفي بإبداء ملحوظة على موضوع أثير من قبل، فالنتيجة التي ينتهي إليها هذا الفصل كله هي أن الحق الإلهي نتيجة لعهد لا يوجد بدونه أي حق إلا حق الطبيعة؛ لذلك لم يكن للعبرانيين - بأمر دينهم - أي واجب مقدس تجاه الشعوب الأخرى التي لم تشارك في هذا العهد، بل كان واجبهم هذا يسري إلى مواطنيهم وحدهم.
35
الفصل الثامن عشر
استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين
وتاريخها
مع أن النظام التيوقراطي للعبرانيين - كما عرضنا في الفصل السابق - كان يستطيع أن يبقى دواما،
1
فلم يكن من الممكن اتخاذه أنموذجا في ظروف تاريخية أخرى وإلا خرج قصدنا عن حدود العقل. فلو أراد بعض الناس تفويض حقهم لله وجب عليهم عقد ميثاق صريح مع الله كما فعل العبرانيون من قبل. فلا تكفي إذن مجرد إرادة التفويض الجماعي للحق،
2
بل لا بد من إرادة الله الذي يفوض له هذا الحق. على أن الله قد أوحى إلى الحواريين بأن حلفه لن يكتب بعد الآن بالمداد أو على ألواح من الحجر، بل بروح الله في القلوب.
3
ثانيا، لا يلائم نظام الحكم التيوقراطي إلا شعبا معزولا يريد أن يعيش دون علاقات مع الخارج مغلقا على نفسه داخل حدوده، ومنفصلا تماما عن باقي العالم، لا شعبا يدخل بالضرورة في علاقات مع الشعوب الأخرى؛ لذلك لا ينطبق هذا النظام إلا على نطاق محدود للغاية، ومع ذلك فإنه لم يكن يصلح أنموذجا في عصرنا الحاضر، فسيظل من الصحيح أنه يقدم لنا بعض السمات التي يجدر ذكرها ويحق لنا أن نتخذها مثلا يحتذى، ولكنه نظرا إلى أنني لم أقصد تناول مسألة الدولة صراحة في هذا الكتاب - وقد نبهت إلى ذلك من قبل - وسأترك معظم هذه السمات جانبا، ولن أذكر منها إلا ما يتعلق ببحثي الخاص.
ألحظ أولا أن حكم الله لا ينبغي مطلقا تعيين سلطة بشرية تتمتع بحق السيادة المطلق في المجال السياسي. فبعد أن فوض العبرانيون حقهم إلى الله، سلموا لموسى بحق مطلق في إصدار الأوامر، وكانت له وحده سلطة وضع القوانين ونسخها واختيار القائمين على شئون الدين، وسلطة القضاء والتعليم والعقاب، أي بالاختصار، القيام بكل أعباء الحكم في جميع الميادين. ومن ناحية أخرى لم يكن من بين اختصاصات القائمين على شئون الدين - مع أنهم مفسرو القانون - ما يسمح لهم بالحكم على المواطنين أو حرمان أحدهم من حقوقه الدينية، فذلك حق القضاة والنقباء الذين اختارهم الشعب وحدهم (انظر يشوع، 6: 26، القضاة، 21: 18، صموئيل، 14: 24).
4
وهناك ملحوظات أخرى كثيرة طريفة نستطيع استخلاصها من تاريخ العبرانيين ومصيرهم. (1)
لم تنشأ الفرق الدينية إلا في عصر متأخر عندما أصبح للأحبار في الدولة الثانية سلطة إصدار القرارات وتصريف شئون الدولة. ولكي يحتفظوا بهذه السلطة على الدوام اغتصبوا لأنفسهم حق النقيب، وأرادوا أخيرا تنصيب أنفسهم ملوكا. ويسهل معرفة السبب في ذلك؛ ففي الدولة الأولى كان من المستحيل إصدار أي قرار باسم الحبر؛ لأن الحبر لم يكن له حق إصدار القرارات، بل كان حقه يقتصر على إعطاء الردود الإلهية بناء على طلب النقباء أو المجالس، وبالتالي لم يكن من الممكن أن يتطلع الأحبار إلى اتخاذ قرارات جديدة، بل كان جهدهم منصبا على تنظيم القرارات الموروثة وحمايتها، وكانت المحافظة على القوانين من الفساد أفضل وسيلة يملكونها للدفاع عن حرياتهم ضد النقباء. وعلى العكس من ذلك فإنهم، بمجرد تدخلهم في شئون الدولة، وممارستهم حق الرئيس بالإضافة إلى الحبروية، طمح كل منهم في أن يشتهر اسمه في ميدان الدين وفي الميادين الأخرى، بحيث ينظم كل شيء بسلطة الحبر، ويصدر كل يوم قرارات جديدة خاصة بالشعائر والإيمان وبموضوعات أخرى، ويدعي أنها لا تقل في قدسيتها وفي إلزامها عن قوانين موسى. ومنذ ذلك الحين بدأ الدين في التدهور حتى أصبح مجرد خرافة مشئومة، على حين فسد المعنى الحقيقي للقوانين وتفسيراتها الصحيحة. وفضلا عن ذلك، ففي العصور الأولى بعد إعادة بناء الدولة، بينما كان الأحبار يحاولون شق طريق للوصول إلى السلطة، أخذوا يوافقون على جميع أفعال عامة الشعب، توددا إليها، ووافقوا على أبعد هذه الأفعال عن الدين، ووفقوا بين الكتاب وأسوأ العادات. ويشهد «ملاخي» على ذلك شهادة صريحة، فبعد أن لام كهنة زمانه الذين سماهم المفسدين باسم الله، واصل هجومه عليهم قائلا: «لأن شفتي الكاهن تحفظان العلم ومن فيه يطلبون الشريعة إذ هو ملاك رب الجنود، أما أنتم فعدلتم عن الطريق وشككتم كثيرين في الشريعة ونقضتم عهد لاوي، قال رب الجنود» (ملاخي، 2: 7-8). واستمر في توجيه الاتهامات إليهم، قائلا: إنهم يفسرون القوانين كما يشاءون وكما يهوى البشر لا كما يريد الله. ومما لا شك فيه أن الأحبار لم يكونوا على قدر من الفطنة يمكنهم من تغطية سلوكهم بالنسبة إلى من هم أكثر منهم ذكاء. ومن هنا فقد تجرأ هؤلاء الأخيرون على القول بأن القوانين المكتوبة هي وحدها الملزمة، أما القراءات التي يلحقها الفريسيون، بسبب غفلتهم، بتراث القدماء
5 (يرى يوسف في تاريخ اليهود القديم أن معظم الفريسيين كانوا ينتسبون إلى العامة)، فإنها لا تستحق التنفيذ. ومهما يكن من شيء، فلا يمكن إنكار أن التملق الشديد للأحبار، وفساد الدين والقوانين بعد أن تضخمت نصوصه بطريقة مذهلة، قد أدى إلى إثارة المنازعات المتكررة والخصومات المستمرة، ودخل الناس في هذا الجدل بتعصب شديد، مستندين في هذا الجانب وذاك إلى رجال القانون،
6
وصار من المستحيل إرجاعهم إلى حد الاعتدال، وأصبح الشقاق بين الفرق أمرا حتميا. (2)
يجب أن نلحظ أيضا أن الأنبياء - وهم مجرد رعايا عاديين - دفعوا الناس إلى التطرف أكثر مما دفعوهم إلى الصلاح نتيجة للحرية التي استباحوها لأنفسهم في التعرض للناس وفي سبهم ولومهم، على حين أن الملوك استطاعوا، باستخدام سلطتهم العادية، أن يحملوهم على التسليم لهم دون مقاومة تذكر، بل إن الأنبياء كثيرا ما كانوا يثيرون سخط الملوك، حتى الأتقياء منهم، بسبب السلطة التي كان معترفا بها لهم في الحكم على حسن الأفعال وقبحها، وفي لوم الملوك أنفسهم عندما يتعارض سلوكهم العام أو الخاص مع ما قرره الأنبياء، ويروي الكتاب أن الملك آسا
7
حكم طبقا للشريعة الإلهية ولكنه وضع النبي حناني
8
في الطاحونة (انظر الأخبار الثاني، 16)
9
لأنه تجرأ على لومه علانية لوما شديدا للاتفاق الذي عقده مع ملك الأرمن. وهناك أمثلة أخرى على أن مثل هذه الحرية أضرت بالدين أكثر مما أفادته. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الحروب الأهلية التي نشبت بسبب الحقوق المفرطة التي كان الأنبياء يطالبون بها. (3)
ومما هو جدير بالملاحظة أيضا أنه طوال فترة حكم الشعب لم تنشب إلا حرب أهلية واحدة وانتهت دون أحقاد، وأشفق المنتصرون على خصومهم المهزومين إلى حد أنهم ساعدوهم بكل الوسائل على استرداد كرامتهم وقوتهم الأولى، ولكن عندما استبدل الشعب - الذي لم يكن مهيئا للخضوع للسلطة الملكية - نظاما ملكيا بالنظام الأول، توالت الحروب الأهلية دون توقف ووقعت معارك رهيبة لم يحدث مثلها حتى ذلك الحين، فقد قتل محاربو يهوذا خمسمائة ألف إسرائيلي في معركة واحدة (وهو أمر لا يكاد يكون من الممكن تصديقه)، وفي معركة أخرى أباد محاربو إسرائيل بدورهم عددا كبيرا من سكان يهوذا (لا يذكر الكتاب العدد المضبوط) وأسروا الملك، وهدموا جزءا كبيرا من حائط أورشليم، وسلبوا المعبد كله (تعبيرا عن غضبهم الذي لم يكن له حدود). وقد رجعوا بغنيمة عظيمة من إخوتهم بعد أن ارتووا من دمائهم وأخذوا معهم رهائن، وتركوا الملك في مملكته الخربة تقريبا. وعندما وضعوا أسلحتهم، كان ذلك راجعا إلى ضعف يهوذا لا إلى ولائهم لها. وبعد ذلك ببضع سنوات بعد أن استعاد شعب يهوذا قوته ، قامت معركة جديدة خرج بعدها الإسرائيليون منتصرين، وفي هذه المرة قتلوا مائة وعشرين ألف رجل من يهوذا، وأسروا مائتي ألف امرأة وطفل، وحصلوا مرة أخرى على غنيمة كبيرة. وبعد هذه المعركة وغيرها مما يذكر في تاريخهم الطويل، أنهكت قواهم، وانتهى بهم الأمر إلى أن وقعوا فريسة لأعدائهم. ثانيا، لو أردنا أن نحسب الفترات التي استطاع فيها السكان أن ينعموا بسلام دائم لوجدنا هذا الاختلاف البين نفسه، فقبل تنصيب الملوك، كان يحدث في كثير من الأحيان أن تمضي أربعون سنة، ومرة ثمانون سنة (وهو أمر يدعو إلى الدهشة) في سلام دائم دون أن تنشب حرب أهلية أو خارجية، ولكن ما إن استولى الملوك على السلطة تغير الوضع إذ لم تعد الحرب تشن من أجل إقرار السلام والدفاع عن الحرية، بل من أجل العظمة. وباستثناء سليمان (الذي كانت فضيلته، وهي الحكمة، تظهر وقت السلم أكثر مما تظهر وقت الحرب) اشترك الجميع في حروب، وكان طريق الوصول إلى العرش بالنسبة إلى معظمهم - ممن تملكتهم شهوة الحكم - مفروشا بالدماء. وأخيرا ففي أثناء حكم الشعب لم تفسد القوانين، وكانت تطبق بحذافيرها، وكان يندر قبل عصر الملوك أن يحذر الأنبياء الشعب، وما كاد يتم انتخاب الملك الأول حتى ظهر عدد كبير من الأنبياء رأوا أن من واجبهم التدخل من أجل التحذير. فقد أنقذ عوبديا
10
من المذبحة مائة بعد أن خبأهم حتى لا يلاقوا حتفهم مع الآخرين. كذلك نجد أن الأنبياء الكذبة لم يخدعوا الشعب إلا بعد أن تركت مقاليد الدولة للملوك، والذين كان كثير من الأنبياء الكذبة يتملقونهم. وأخيرا فإن الشعب، الذي اعتاد أن يتنقل بين روح التعالي وروح التواضع، حسب الظروف، كان يستطيع أن يقوم نفسه بسهولة عندما تحل به المصائب، فيتوجه إلى الله ويعيد للقوانين حرمتها، بحيث لا يتعرض لأي خطر. أما الملوك، الذين اعتادوا الكبر والغرور، فلم يكن في استطاعتهم أن يطأطئوا رءوسهم دون إذلال لأنفسهم؛ ولذلك تمسكوا برذائلهم حتى حل الخراب الكامل بالمدينة.
ومن هذا كله يتضح لنا الآتي: (1)
من الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشئون الدين الحق في إصدار القرارات، أيا كانت ، أو التدخل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك، في تعاليمهم وفي أدائهم لشعائر العبادة، بالتراث القديم الأكثر يقينا والأوسع قبولا بين الناس. (2)
من الخطورة أن نجعل القانون الإلهي معتمدا على المذاهب التي تقوم على النظر البحت، وأن نضع القوانين على أساس من الآراء التي هي على الأقل موضوع خلاف دائم بين الناس، فلا تخلو ممارسة السلطة من أشد ألوان العنف في دولة ينظر فيها إلى الآراء التي هي حق للفرد لا يمكن انتزاعه منه، كما ينظر إلى الجرائم. في مثل هذه الدولة تحكم انفعالات الشعب الهوجاء عادة؛ فقد حكم بيلاطس على المسيح بالصلب، وهو يعلم أنه بريء مسايرة منه لغضب الفريسيين، بعد ذلك شرع الفريسيون في إثارة الخلافات الدينية واتهام الصدوقيين بالفسوق حتى يسلبوا أكثر المواطنين ثراء ما يملكون. وكذلك نرى في كل عصر المنافقين وقد تملكهم جنون مشابه - يظهرونه بمظهر التحمس الشديد للحق الإلهي - يطعنون رجالا يتسمون بكل سمات الشرف ومظاهر الفضيلة، ويمقتهم عامة الشعب لهذا السبب ذاته، فيحتقرون آراءهم كأنها آراء شنيعة، يثيرون ضدهم غضب العامة الشديد. وليس من السهل القضاء على هذه الوقاحة التي لا حد لها، لأنها تتستر وراء الدين، وخاصة في بلد يكون أصحاب السلطة العليا فيه مسئولين عن ظهور فرقة تدعو لعقيدة لا تخضع لسلطتهم؛ إذ إنهم في هذه الحالة لا يعدون مفسرين للقانون الإلهي، بل أنصارا لفرقة دينية يكون دعاتها وحدهم مفسري القانون الإلهي، وبالتالي تكف العامة عن احترام سلطة رجال القضاء بالنسبة إلى الأفعال التي يوحي بها التعصب الديني، على حين يزداد احترامهم لسلطة الفقهاء إلى حد الاعتقاد بأن على الملوك أنفسهم أن يخضعوا لتفسيرهم. وتجنبا لهذه الشرور لن توجد وسيلة أفضل من النظر إلى التقوى والعبادة التي يفرضها الدين على أنها تنحصر في الأعمال وحدها؛ أي في ممارسة العدل والإحسان وترك كل ما سوى ذلك لحكم الفرد الحر. وسنسهب في هذا الموضوع فيما بعد. (3)
من الضروري الاعتراف للسلطة العليا بالحق في تقرير ما هو شرعي وما هو غير شرعي، وذلك تحقيقا لمصلحة الدين والدولة على السواء؛ ذلك لأن هذا الحق - حق تقرير الأفعال - عندما منح من قبل لأنبياء الله، أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالدين والدولة على السواء. ومن ثم كان من الواجب، أو بالأحرى، ألا يعطى من لا يعرفون التنبؤ بالمستقبل أو إجراء المعجزات، وسنعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل التالي كله. (4)
وأخيرا فإن شعبا لم يتعود أن يعيش في ظل حكم ملكي، وكانت له من قبل قوانين قائمة، يسوء حاله لو نصب عليه ملك؛ فمن ناحية لا يستطيع الشعب أن يتحمل سلطة قوية كهذه، ومن ناحية أخرى لا تسمح السلطة الملكية مطلقا بوجود تشريع آخر (يعبر عن حقوق الشعب) وضعته سلطة أقل منها شأنا، وبالتالي لن يأخذ الملك على عاتقه حمايته، خاصة وأن النظم لم تنص على وجود ملك، بل نصت فقط على الشعب وعلى الجمعية السياسية صاحبة السلطة العليا. وهكذا فإن الملك، إذا احترم قوانين الشعب القديمة، كان بالنسبة إلى شعبه أقرب إلى العبد منه إلى السيد، ومن هنا فإن الملك سيحاول، بمجرد تنصيبه، وضع قوانين جديدة وتغيير التشريع القائم في الدولة لمصلحته الخاصة، ووضع الشعب في مواقف يكون فيها النيل من مهابة الملك أصعب بالنسبة إليه من إضفائها عليه.
وفي مقابل ذلك، لا يفوتني أن أذكر أنه من الخطورة بالمقدار نفسه اغتيال ملك حاكم، حتى لو ثبت على نحو قاطع أنه طاغية؛ ذلك لأن شعبا تعود على الانضواء تحت السلطة الملكية والالتزام بها لا بد أن يحتقر حكما أقل منها سلطة ويسخر منه، وبالتالي فإذا اغتيل أحد الملوك، وجب على الشعب تعيين ملك آخر ليحل محله، كما كان يفعل الأنبياء من قبل، وسيضطر هذا الحاكم الجديد إلى أن يكون طاغية رغما عنه، فكيف يثق بمواطنين ما زالت أيديهم مضرجة بدماء الملك المقتول، يفتخرون باغتيال شخصية كبيرة وكأنه عمل مجيد، لا مفر لهم من أن يعد عبرة للملك الجديد. فإذا أراد أن يكون ملكا حقا وألا يعترف بأن الشعب حاكمه وسيده وألا تكون سلطته معرضة للزوال فسيضطر إلى الانتقام لاغتيال الملك السابق ويقدم إليهم، لمصلحته الخاصة، مثلا آخر في مقابل المثل الذي قدموه حتى يثنى عن أي تفكير في تكرار جريمته. ولكن كيف ينتقم لموت طاغية بإعدام بعض المواطنين إن لم يسر على نهج سابقه، ويوافق على مسلكه؛ أعني إن لم يقتف أثره في كل شيء؟ وهكذا يحدث في كثير من الأحيان أن يتمكن الشعب من تغيير طاغية، ولكنه لا يستطيع أبدا أن يتخلص من الطغيان نفسه أو أن يستبدل بالملكية نظاما مغايرا. وقد أعطى الشعب الإنجليزي
11
مثلا قريب العهد لهذه المأساة؛ فبعد أن بحث عن أسباب يتذرع بها - تحت ستار من القانون - لاغتيال الملك، تصور أنه استطاع فعلا أن يغير شكل الحكومة، ولكنه بعد إراقة الدماء لم يفعل إلا أن هتف باسم ملك جديد (وكأن المسألة هي مجرد تغيير الاسم). ولم يكن في متناول يد هذا الملك الجديد، كي يبقى في الحكم، من وسيلة إلا أن يستأصل كلية سلالة الملك المخلوع، ويغتال أصدقاءه أو من يظن أنهم أصدقاؤه ويقضي بالحرب على الاضطرابات التي سببها الفراغ في وقت السلم، حتى تعيش العامة مع أفكار جديدة وتنشغل بها عن اغتيال الملك. وبعد وقت متأخر أدرك الشعب أنه لم يعمل شيئا لخلاص الوطن، بل انتهك حق ملكه الشرعي وغير النظام الموجود بنظام أسوأ منه. ومن ثم قرر - بعد أن عادت إليه حريته - أن يرجع إلى الأوضاع القديمة، ولم يهدأ إلا بعد أن عاد كل شيء إلى سيرته الأولى. وقد يدعي أحد أن الشعب الروماني يعطينا مثلا مناقضا، لأنه لم يجد أي عناء في التخلص من طاغية، ولكني أعتقد، بعكس ذلك، أن هذا المثل يؤكد نظريتي كل التأكيد؛ فقد استطاع الشعب الروماني بمزيد من السهولة التخلص من الطاغية واستبدال نظام الحكم لأن حق اختيار الملك أو خلفائه كان يرجع إلى الشعب نفسه، بالإضافة إلى أن هذا الشعب (الذي كان يتألف في معظمه من منشقين ومثيرين للفتن) لم يتعود على طاعة الملوك؛ فقد قتل من بين ملوكه الستة ثلاثة. وبالرغم من ذلك فإن كل ما فعله هو أنه اختار بدلا من طاغية واحد طغاة كثيرين، أبقوه بسبب الحروب الداخلية والخارجية في أسوأ حالات التمزق، حتى عادت السلطة أخيرا إلى التركز في يد ملك واحد، بعد أن تغير اسمه فقط، كما هو الحال في إنجلترا.
أما جماعة الولايات الهولندية فهي على ما أعلم لم تعترف بملوك يتولون حكمها، بل على أكثر تقدير اعترفت بحكام (كونتات) لم يفوض لهم حق السلطة في أي وقت. وكما أعلنت السلطات العليا للولايات الهولندية
12
في تصريح صدر في عهد الكونت ليسستر، فإنها احتفظت لنفسها بسلطة استدعاء «الكونتات» لخدمتها، واحتفظت لنفسها دائما بالسلطة الضرورية للدفاع عن كرامتها وعن حرية مواطنيها انتقاما من «الكونتات» لو أنهم انساقوا في تيار الطغيان، وللسيطرة عليهم بحيث يستحيل عليهم عمل شيء دون تصريح الدويلات وموافقتها. ونتج عن ذلك أن ظل حق السيادة العليا في يد هذه الولايات، وعندما أراد آخر كونت اغتصاب هذه السيادة لم يستطع سلبها حقها واستعادت الولايات سلطتها القديمة الضائعة.
هذه الأمثلة تؤكد نظريتي القائلة: إن على كل دولة أن تحتفظ بنظام الحكم الذي يسود فيها، وإن تغييره يؤدي إلى تعريضها للانهيار التام. هذه هي الملاحظات التي رأيت أن من واجبي إبداءها في هذا الموضوع.
الفصل التاسع عشر
السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية
وفيه نبين أن السلطة الحاكمة هي وحدها صاحبة الحق في تنظيم الشئون الدينية،
1
وأن الطاعة الحقيقية لله تحض على الاتفاق بين ممارسة العبادة الدينية وبين سلامة الدولة. ***
عندما قلت سابقا: إن لأصحاب السلطة الحق في تنظيم كل شيء وأن كل قانون رهن بإرادتهم، لم أكن أعني القانون المدني وحده، بل كنت أعني أيضا القانون المتعلق بالشئون الدينية، الذي ينبغي أن يكونوا هم أيضا المفسرين له والمدافعين عنه. وسأحاول في هذا الفصل أن أوضح ذلك وأن أبينه صراحة لأن كثيرا من الكتاب يرفضون الاعتراف للسلطة العليا الحاكمة بحقها في تنظيم الشئون الدينية ويأبون عليها تفسير القانون المقدس؛ لذلك سمحوا لأنفسهم باتهامها، وتقديمها للمحاكمة أمام هيئة كنسية بل وطردها من الكنيسة (مثل طرد أمبرواز للإمبرطور تيودوز).
2
وسنرى في هذا الفصل أنهم بموقفهم هذا يبذرون عناصر الفرقة في الدولة بل يبحثون عن وسيلة للاستيلاء على السلطة. وسأبدأ في بيان أن الدين لا تكون له قوة القانون إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم، وأنه ليس هناك حكم خاص يمارسه الله على البشر ويتميز عن ذلك الذي تمارسه السلطة السياسية، وأن ممارسة العبادات الشرعية وأفعال التقوى الظاهرة يجب أن تتفق مع سلامة الدولة ومصلحتها، وهذا يعني أن تقوم السلطة العليا وحدها بتنظيمها وتفسيرها. وأنا أتحدث هنا صراحة عن أفعال التقوى الظاهرة والعبادات الشرعية، لا عن التقوى نفسها أو عن العبادة الباطنة لله، أي عن الوسائل التي تستطيع بها الروح الإنسانية تعظيم الله من أعماقها الباطنة بإخلاص كامل؛ إذ إن هذه العبادة الباطنة لله، وهذه التقوى، تتعلق (كما قلنا عند نهاية الفصل السابع) بحق الفرد الذي لا يمكن تفويضه لأحد سواه. وفضلا عن ذلك فأعتقد أني وضحت في الفصل الرابع عشر من هذه الرسالة ماذا أقصد بحكم الله، فقد بينت فيه أن العمل بقانون الله هو العمل بالعدل والإحسان تنفيذا لأوامر الله، وينتج عن ذلك أن الحكم الإلهي يقوم عندما يأخذ العدل والإحسان قوة القانون والأمر، ولا فرق عندي مطلقا بين دعوة الله إلى العدل والإحسان وأمره بهما عن طريق النور الطبيعي أو عن طريق الوحي، إذ لا تهم الطريقة التي يكشف بها عن عبادة الله، ما دامت قد اكتسبت طابع القانون المطلق، وأصبحت هي الشريعة العليا للبشر. فإذا بينت الآن أن العدل والإحسان لا يأخذان قوة القانون والأمر إلا بحق الدولة، كان من السهل أن نستنتج (نظرا إلى أن حق حكم الدولة لا ينتمي إلا إلى السلطة العليا وحدها) أن الدين لا يكتسب قوة القانون إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم، وأن الله لا يباشر حكما خاصا على البشر إلا بوساطة أصحاب السلطة السياسية).
ولكن الفصول السابقة بينت بوضوح أن العبادة القائمة على العدل والإحسان لا تكون لها قوة القانون إلا عن طريق الحق الذي يملكه الحاكم، فقد أثبتنا في الفصل السادس عشر أن العقل في حالة الطبيعة لا يكون له حق أكثر مما للشهوة، وأن من يعيشون طبقا لقوانين الشهوة، شأنهم شأن من يعيشون طبقا لقوانين العقل، لهم الحق في كل ما يدخل في نطاق قدراتهم؛ ولهذا السبب لم نستطع أن نتصور خطيئته في حالة الطبيعة. أو أن نتمثل الله حاكما يعاقب البشر على خطاياهم، وسلمنا بأن كل شيء يحدث في هذه الحالة طبقا للقوانين المألوفة للطبيعة كلها، وأن الفرص تتساوى عندئذ بين العادل والظالم، وبين الطاهر والدنس، (كما يقول سليمان)، إذ لا يمكن الحديث في هذه الحالة عن عدل أو إحسان. ولكي تكون لتعاليم العقل (أي للتعاليم الإلهية كما قلنا في الفصل الرابع عن القانون الإلهي) قوة القانون، كان لا بد للفرد من أن يتخلى عن حقه الطبيعي وذلك بتفويضه إياه إلى الجماعة، أو إلى بعض الناس، أو إلى فرد واحد. حينئذ فقط عرفنا العدل والظلم والإنصاف والإجحاف؛ وعلى ذلك فإن العدل - وعلى وجه العموم كل تعاليم العقل الصحيحة، وبالتالي الإحسان إلى الجار أيضا - لم تصبح له قوة القانون والأمر إلا بناء على حق حكم الدولة، أي بإرادة من لهم حق الحكم (طبقا لما بيناه في هذا الفصل نفسه). وبما أن حكم الله (كما بينت من قبل) يتلخص في تطبيق أحكام العدل والإحسان، أي أحكام الدين والحق، فيجب إذن التسليم معنا بأن الله يحكم البشر بوساطة السلطات الحاكمة في الدول وحدها. وأعود فأكرر أنه لا فارق على الإطلاق بين تصورنا للدين على أنه موحى به بالنور الطبيعي أو بالنور الفطري؛ ذلك لأن برهاني يسري على جميع الحالات لأن الدين واحد سواء افترضنا أنه بلغ للناس بهذه الطريقة أو بتلك. ومن هنا كان من الضروري ، لكي يكتسب الدين الموحى به عن طريق النبوة قوة القانون عند العبرانيين، أن يتخلى كل فرد عن حقه الطبيعي، وأن يقرر الجميع، باتفاق فيما بينهم، ألا يطيعوا سوى القوانين التي أوحى بها الله عن طريق الأنبياء، تماما كما يحدث في الديمقراطية عندما يقرر الجميع باتفاق فيما بينهم - كما رأينا من قبل - أن يعيشوا طبقا لنظام العقل وحده. ومع أن العبرانيين فوضوا حقهم هذا إلى الله، فقد كان هذا التفويض نظريا أكثر منه واقعيا. فالواقع أنهم احتفظوا بحقه السياسي (كما رأينا من قبل)، إلى أن فوضوه لموسى فيما بعده، وجعلوا منه ملكا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ومنذ هذه اللحظة حكم الله العبرانيين من خلال موسى وحده، وبما أن الدين لا تكون له قوة القانون إلا من خلال حق من يتولى التشريع السياسي، فإن موسى لم يوقع أي عقاب على من انتهكوا حرمة السبت قبل العهد، أي عندما كان العبرانيون ما زالوا مستقلين (انظر الخروج، 16: 27)
3
ثم تغير الموقف كلية بعد العهد (انظر العدد، 15: 36)
4
إذ تخلى كل فرد عن حقه الطبيعي وأصبح للسبت، بفضل التشريع السياسي، قوة الأمر؛ ولهذا السبب نفسه لم يعد للدين الموحى به قوة القانون بعد انهيار دولة العبرانيين، فقد انتهى ولا شك حكم الله الخارجي وقانونه الإلهي بمجرد أن فوض العبرانيون إلى ملك بابليون، وبذلك ألغي العهد الذي وعدوا عليه بطاعة كل كلمة لله، والذي كان هو أساس الحكم الإلهي، إلغاء تاما، ولم يعد باستطاعتهم المحافظة على هذا العهد لأنهم منذ ذلك الوقت لم يعودوا شعبا مستقلا (كما كانوا من قبل في الصحراء أو في وطنهم) بل اضطروا، تحت حكم ملك بابليون إلى أن يطيعوا أوامره (كما بينا في الفصل السادس عشر)، وقد حذرهم إرميا (29: 7) صراحة بقوله: «واطلبوا سلام المدينة التي أجليتكم إليها وصلوا من أجلها إلى الرب فإنه بسلامها يكون لكم سلام.» على أنه لم يكن في استطاعتهم (وهم أسرى) المحافظة على سلام هذه المدينة بوصفهم حكاما لها، بل إنهم استطاعوا ذلك بوصفهم عبيدا، أي بطاعتهم في كل شيء تجنبا للفتن، وبالمحافظة على حقوق الدولة وقوانينها التي كانت تختلف كل الاختلاف عن تلك التي اعتادوها في وطنهم ... إلخ. وينتج عن ذلك بوضوح تام أن الدين عند العبرانيين لم تكن له قوة القانون إلا بفضل التشريع السياسي وحده. فإذا ما قضي على هذا التشريع،
5
لم يعد من الممكن اتخاذ الدين قاعدة سلوك ملزمة لدولة معينة، بل يصبح مجرد تعاليم عقلية شاملة، وأقول عقلية لأن الدين الشامل لم يكن قد أعطي للبشر بعد، وبذلك ننتهي دون تردد إلى أن الدين، سواء أكان موحى به بوساطة النور الطبيعي أو بالنور النبوي، لا تكون له قوة الأمر إلا بإرادة من لهم الحق في الحكم، وأن الله لا يحكم البشر حكما خاصا إلا من خلال أصحاب السلطة في الدولة. ويظهر ذلك بمزيد من الوضوح مما قلناه في الفصل الرابع؛ فقد بينا في هذا الفصل أن لقرارات الله في ذاتها حقيقة أزلية ضرورية، بحيث لا يمكن تصور الله كما لو كان أميرا أو مشرعا يفرض قوانينه على الناس؛ لذلك فإن التعاليم الموحى بها عن طريق النور الطبيعي أو النبوي لا تستمد مباشرة من الله قوة الأمر، بل تستمدها ضرورة ممن لهم الحق في الحكم وفي إصدار القرارات، أو بتوسطهم. وبدون هذه الوسيلة لن نستطيع تصور أن الله يحكم البشر بالفعل، أو يسير الأمور الإنسانية بالعدل والإنصاف، وهذا ما تؤيده التجربة ذاتها؛ إذ لا تبدو مظاهر العدل الإلهي إلا في البلاد التي يحكمها العادلون، أما في الحالات الأخرى فإننا نجد أن للعادل والظالم، وللطاهر والدنس، حظا واحدا (إذا شئنا أن نستخدم كلمة سليمان مرة أخرى) مما جعل كثيرا ممن يعتقدون بأن الله يحكم البشر مباشرة ويوجه الطبيعة كلها لمصلحة الإنسان، يشكون في العناية الإلهية. وعلى ذلك فما دام العقل والتجربة يشهدان بأن القانون الإلهي يقوم على مشيئة السلطات العليا الحاكمة وحدها، ينتج عن ذلك أن لهذه السلطات نفسها حق تفسيره. وسنرى الآن بأي معنى نقول ذلك؛ إذ إنه قد حان الوقت لنبين أن العبادات الظاهرة في الدين، وكل المظاهر الخارجية للتقوى، يجب أن تتفق مع سلامة الدولة لو أردنا أن نطيع الله مباشرة، وبعد الانتهاء من البرهنة على ذلك، يسهل علينا أن نعرف بأي معنى تكون السلطات العليا هي مفسرة الدين والتقوى.
لا شك أن الحب المقدس للوطن هو أسمى صورة للشعور بالتقوى يستطيع إنسان أن يظهرها، فلو زالت الدولة لكان معنى ذلك زوال كل شيء خير، وضياع الأمن في كل مكان، ولانتشر الرعب والفسوق، وعم الفزع في كل مكان، ويترتب على ذلك أولا أن حب الجار لا بد أن يكون فسوقا إذا أدى إلى الإضرار بالدولة، وأن الفعل الفاسق يكتسب، بعكس ذلك، طابع التقوى لو كان يؤدي إلى المحافظة على الدولة. فلنفترض أن أحدا قد هاجمني وأراد أن ينتزع مني ردائي، فعندئذ يقضي الإحسان بأن أعطيه إياه، بل وأعطيه معطفي أيضا، ولكن حين يحكم المرء على هذا الفعل بأنه خطر على بقاء الدولة، يصبح من التقوى أن أقدم السارق للعدالة، حتى ولو كان معرضا للحكم عليه بالموت. ألم يحظ مانليوس توركواتوس
6
بإعجاب الناس، لأنه فضل مصلحة الشعب على حبه لابنه؟ وهذا يدل على أن مصلحة الشعب هي القانون الأسمى الذي ينبغي أن تخضع له كل التشريعات الإنسانية والإلهية! ولما كان من واجب السلطة العليا وحدها أن تحدد ما تقتضيه مصلحة الشعب وسلامة الدولة وأن تتخذ الإجراءات التي تراها ضرورية لذلك، فإن هذه السلطة نفسها هي التي يقع على عاتقها تحديد الأفعال التي يعبر بها الأفراد عن الإحسان للجار أعني الأفعال التي يطيعون بها الله.
ومن ذلك يتضح لنا؛ أولا: بأي معنى تكون السلطات العليا الحاكمة هي مفسرة الدين بالنسبة إلى شعوبها. وثانيا: أنه لا يمكن لأحد أن يطيع الله حقا إلا إذا اتفق سلوكه الديني مع المصلحة العامة، وأطاع جميع قرارات السلطة العليا؛ ذلك لأنه لما كان علينا جميعا، بموجب الأمر الإلهي، معاملة الناس جميعا بلا استثناء بالإحسان دون إضرار أي شخص، لم يكن من واجب أحد مساعدة فرد آخر لو أدى ذلك إلى ضرر فرد ثالث، وبالأحرى لو أدى ذلك إلى ضرر الدولة كلها. وبالتالي لا يمكن أن يقدم أحد الإحسان إلى الجار، تنفيذا للأمر الإلهي، إلا إذا كان سلوكه في مجال الدين والتقوى متفقا مع المصلحة العامة، على أنه لا يمكن لأحد أن يعرف المصلحة العامة إلا بناء على قرارات السلطة الحاكمة التي هي وحدها المسئولة عن تصريف الشئون العامة، وإذن فلا يستطيع أحد أن يمارس الإيمان الصادق أو أن يطيع الله إلا إذا أطاع قرارات السلطة الحاكمة. وهذا ما تؤكده الحياة العملية نفسها، فإذا ما حكم على فرد ما، مواطنا كان أو أجنبيا، فردا عاديا من الشعب أو رئيسا لدولة أخرى؛ إذا حكم عليه بأنه مذنب في جريمة يعاقب عليها بالإعدام، أو أعلنت السلطة الحاكمة أنه عدو لها، فعندئذ لا يحق لأحد من رعايا هذه السلطة مساعدته. وعلى ذلك، فبرغم أن العبرانيين كانت لديهم سنة تقضي بأن يحب كل فرد جاره كحبه لنفسه (انظر الأحبار، 19: 17-18)
7
فقد كانوا ملزمين بتقديم كل من يناقض فعله أحكام الشريعة للمحاكمة (انظر: الأحبار، 5: 1؛ التثنية، 13: 8-9)
8
وبالحكم على المتهم بالموت لو ثبتت عليه جريمة عظمى. ثانيا، كان على العبرانيين قبل كل شيء أن يحافظوا على الحرية التي حصلوا عليها ويستمروا في امتلاك الأراضي التي احتلوها. ولتحقيق هذا الغرض كان لا بد لهم أن يوفقوا بين دينهم وبين الظروف الخاصة لدولتهم (كما بينا في الفصل السابع عشر)، وأن يؤكدوا انفصالهم عن الشعوب الأخرى. ومن هنا كانت القاعدة هي: أحب جارك واكره عدوك (انظر متى، 5: 43).
9
وفيما بعد، عندما دالت دولتهم ووقعوا في الأسر وسيقوا إلى بابل، أمرهم إرميا بالمحافظة على مصلحة هذه المدينة التي حجزوا فيها أسرى. وأخيرا، فعندما رآهم المسيح أخيرا مشتتين في أنحاء الأرض، دعاهم إلى الإحسان لجميع الناس بلا استثناء، كل ذلك يبين بوضوح تام أن التوفيق بين الدين وبين المصلحة العامة كان أمرا ضروريا على الدوام.
فإذا سأل سائل: بأي حق بشر تلامذة المسيح بالدين وهم مجرد أفراد عاديين؟ أجبت بأنه كان لهم الحق في ذلك بناء على السلطة التي أعطاهم إياها المسيح على الأرواح الدنسة (انظر: متى، 10: 1)،
10
وقد بينت بصراحة من قبل، في آخر الفصل السادس عشر، أنه إذا كان جميع الرعايا مضطرين إلى الالتزام بالولاء حتى للطاغية، فيجب أن يستثنى من ذلك كل إنسان وعد الله بمساعدته - بوحي يقيني - ضد الطاغية. وعلى ذلك، فليس لأحد أن يعطي نفسه سلطة تلامذة المسيح إلا إذا استطاع إثبات ذلك بالمعجزات، وهذا يتضح أيضا من قول المسيح لتلامذته (انظر متى، 10: 28):
11
إنه لا ينبغي لهم أن يخشوا من يقتلون الأجساد، فلو كانت هذه الموعظة موجهة إلى جميع المؤمنين، لما ظل لتأسيس الدولة أي معنى، ولكانت عبارة سليمان (الأمثال، 24: 31): «يا بني اتق الرب والملك.» تدل على الفسوق، وهذا غير صحيح. فيجب إذن أن نعترف بأن هذه السلطة التي أعطاها المسيح لتلامذته قد أعطيت لهم شخصيا وليس من حق أي إنسان آخر أن يسمح لنفسه بمثلها.
أما أنصار الدعوة المعارضة التي تفرق بين القانون الوضعي
12
والقانون الديني، ويجعلون الأول من حق الحاكم وحده، والثاني من حق الكنيسة الشاملة، فقد قدموا حججا لن أقف عندها لأنها أتفه من أن تستحق التفنيد. ولكن هناك نقطة واحدة لا يصح السكوت عليها، وهي الخطأ المؤسف الذي وقع فيه أولئك الذين يستشهدون من أجل تأييد رأيهم الهدام (وليعذرني القارئ لاستخدامي هذا اللفظ العنيف) بحالة كعب الأحبار عند العبرانيين، الذي كان له الحق، قديما، في تنظيم شئون الدين وينسون أن الأحبار قد حصلوا على هذا الحق من موسى (الذي رأينا أنه احتفظ لنفسه وحده بسلطة الحكم العليا) وأن موسى كان يستطيع، بمجرد إبداء مشيئته، أن يسحب منهم هذا الحق، فهو الذي اختار هارون وابنه العازر
13
وحفيده فنحاس،
14
حتى يفوض لهم سلطة رعاية شئون الحبروية. وإذا كان الأحبار قد احتفظوا بعد موت موسى بهذا الحق، فقد حدث ذلك بوصفهم نوابا عن موسى أي عن السلطة الحاكمة. والواقع أن موسى، كما رأينا من قبل، لم يعين أحدا لممارسة السلطة العليا من بعده، ووزع في غياب الملك وهو لا يزال حيا. وبعد ذلك احتفظ الأحبار في دولتهم الثانية بحق السيادة على نحو مطلق، بعد أن جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهكذا كان حق الأحبار يتوقف دائما على قرار السلطة العليا، ولم يحصل الأحبار على هذا الحق إلا بعد أن حصلوا في الوقت نفسه على السلطة السياسية، بل إن الملوك كان لهم الحق المطلق في تنظيم شئون الدين - كما سنرى بعد ذلك في آخر هذا الفصل - مع تحفظ يسير، هو عدم السماح لهم بإقامة الطقوس في المعبد بأيديهم لأنهم ليسوا من سلالة هارون؛ ولذلك كانوا يعدونهم من رجال الدنيا. ويختلف الوضع بطبيعة الحال في الدول المسيحية، فلا شك في أن تنظيم شئون الدين (التي يتطلب تنظيمها طريقة خاصة في الحياة، ولكنه لا يقتصر على أسرة خاصة، بحيث لا ينبغي أن يستبعد منها أصحاب السلطة)
15
يقع على عاتق السلطة الحاكمة وحدها، وأن أحدا ليس له الحق أو القدرة - إلا باسم السلطة أو بموافقة منها - على تنظيم هذه الأمور، أو اختيار القائمين على شعائر العبادة أو تحديد أسس عقائد الكنيسة وإقامتها، أو إصدار حكم على الأفعال والعادات التي تتسم بالتقوى، أو القبول داخل الكنيسة أو الحرمان منها، أو رعاية حاجات الفقراء.
إن رأينا هذا ليس صحيحا فحسب (كما أثبتنا الآن)، بل إن من الممكن البرهنة بسهولة على مدى أهميته للدين والدولة على السواء، فنحن نعلم إلى أي حد يحترم كل شعب حق تنظيم شئون الدين وسلطته، وكيف يثق ثقة عمياء بمن يمثلهما، بل يمكننا أن نؤكد أن من له هذه السلطة يسيطر على جميع النفوس. وعلى ذلك فإن كل محاولة لسلبها من السلطة العليا تعني تقسيم الدولة، وهذا التقسيم يؤدي دائما إلى جدل وصراع لا يمكن التخفيف من حدته، كما كان الحال من قبل بين الملوك والأحبار عند العبرانيين، وفضلا عن ذلك، فإن كل من يحاول سلب هذه السلطة من الحاكم يبحث (كما قلت من قبل) عن وسيلة للاستيلاء على السلطة في الدولة، فماذا يتبقى لرئيس الدولة إذا سلبنا منه هذا الحق ؟ إنه لن يستطيع أن يتخذ قرارا بشأن الحرب أو السلام أو أي أمر آخر، وأن يعرف منه إن كان ما يراه نافعا أقرب إلى التقوى أو إلى الفسوق، أي مشروعا أو غير مشروع. وقد ظهرت في جميع العصور أمثلة عديدة على مثل هذه التبعية أذكر منها مثلا واحدا كنموذج للباقين. عندما أعطي هذا الحق المطلق بابا روما، شرع في وضع جميع الملوك تدريجيا تحت سيطرته، حتى أصبح هو نفسه في قمة السلطة، وقد أخفقت جميع المحاولات التي قام بها الملوك، وخاصة الأباطرة الجرمان، للحد من سلطة البابا - ولو بقدر ضئيل - بل أدت إلى زيادتها، ومع ذلك فإن رجال الكنيسة استطاعوا بأقلامهم وحدها أن يقوموا بما لم يستطع أي ملك أن يقوم به باستخدام الحديد والنار.
16
وهذا يكفي لبيان قوة السلطة وهيبتها في أمور الدين، ويبين في الوقت ذاته ضرورة احتفاظ الحاكم السياسي بهذه السلطة. وإذا تذكرنا الملحوظات التي أبديناها في الفصل السابق، وجدنا أن الدين والتقوى ذاتهما ينتفعان كثيرا من هذا الوضع، فقد لحظنا أن الأنبياء أنفسهم، بالرغم مما كان لديهم من قوة إلهية، لم يستطيعوا، لكونهم أفرادا عاديين، أن يصلحوا الناس عن طريق الوعيد واللوم والتحذير، بل لقد دفعوهم إلى التطرف، على حين لم يجد الملوك أي عناء في التأثير على رعاياهم بالوعيد والعقاب كما لحظنا. ثانيا أن الملوك أنفسهم، نظرا إلى أنهم لم يكونوا يملكون هذا الحق، كانوا في أكثر الأحيان ينحرفون عن طريق الدين، ويجرون وراءهم الشعب كله تقريبا، وهذا ما حدث أيضا في الدول المسيحية للسبب نفسه، فإن قال قائل: لو أراد أصحاب السلطة السياسية الابتعاد عن الطريق القويم، فمن الذي سيدافع عن النفوس؟ هل يجب حينئذ التسليم للسلطة العليا الحاكمة بحق تفسير الدين؟ وبدلا من أن أرد على هذا الاعتراض، سأوجه بدوري سؤالا: ما العمل إذا أراد رجال الكنيسة (وهم على أية حال مجرد بشر عاديين، مسئولين عن أمورهم الخاصة وحدها) أو غيرهم ممن فوضنا لهم حق تنظيم شئون الدين، الابتعاد عن الطريق القويم الذي يفرضه الإيمان؟ هل نستمر في الوثوق بتفسيراتهم للدين؟ من المؤكد أنه إذا أراد أصحاب السلطة السير على هواهم فلا يهم بعد ذلك أن تشمل رعايتهم الدين أم لا، لأنهم سيجلبون الكوارث في أمور الدين والدنيا على السواء، وتزداد الكارثة فداحة إذا فرض أفراد من الداعين للفتنة أنفسهم مدافعين عن القانون الإلهي. وعلى ذلك فإذا رفضنا أن نعطي السلطات السياسية هذا الحق فلن يتحسن الموقف في شيء، بل على العكس سيزداد سوءا. ويدل سلوك الملوك العبرانيين، الذين لم يمنحوا هذا الحق على نحو مطلق، على أن الحكام يصبحون أقرب إلى الفسوق، وبالتالي تتعرض الدولة كلها لأضرار حتمية مؤكدة، لا مجرد أضرار عابرة محتملة الوقوع. ومجمل القول إننا، سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية الحقيقة أو سلامة الدولة أو مصلحة الدين، يجب أن نسلم بأن القانون الإلهي أي المنظم لشئون الدين يعتمد مباشرة على مشيئة السلطة العليا الحاكمة، وبأن هذه هي التي يجب أن تقوم بمهمة تفسيره وحمايته، وبذلك لا يعود من الممكن أن ينكر أحد أن الدعاة الحقيقيين لكلام الله هم من يدعون التقوى مع اعترافهم بسلطة الحاكم، ومع امتثالهم لقراراته التي يوفق بها بين التقوى والمصلحة العامة.
وأخيرا لم يبق لنا إلا أن نبين السبب في استمرار الجدل في هذا الموضوع في الدول المسيحية، على حين أن العبرانيين - على ما أعلم - لم يخرجوا أبدا على الإجماع في هذا الموضوع. وقد يبدو مريعا حقا أن أمرا في مثل هذا الوضوح والضرورة أصبح موضوعا للجدل، وأن السلطات العليا الحاكمة لم تتمتع بهذا الحق دون معارضة، ودون تهديد خطير بإحداث الفتن، وإلحاق أضرار جسيمة بالدين. ولا شك أننا إن لم نكن قد استطعنا التعرف على الدافع الحقيقي لهذا الأمر، فإني أسلم عن طيب خاطر بأن كل ما أثبته في هذا الفصل، كان نظريا محضا، أي أنه من قبيل التأملات التخمينية التي لا تصدق على شيء. ومع ذلك يكفينا أن نفكر في الطابع الأصلي للدين المسيحي حتى يظهر لنا السبب الذي نبحث عنه بوضوح تام، فلم يكن الذين دعوا إلى المسيحية في الأصل ملوكا، بل كانوا أفرادا من الرعية اعتادوا طويلا أن يتجمعوا ضد إرادة السلطات السياسية الحاكمة، في كنائس خاصة، وأن ينظموا شئون الدين ويصرفوها، ويضعوا الأنظمة، ويتخذوا القرارات دون عمل أي حساب للدولة. وبعد سنوات عديدة، عندما بدأ الدين أخيرا في الدخول في الدولة، كان على رجال الكنيسة أن يبشروا به الأباطرة أنفسهم بالطريقة نفسها التي سبق أن نظموه بها؛ لذلك لم تكن هناك صعوبة كبيرة في الاعتراف بهم رعاة للكنيسة وخلفاء لله؛ لأنهم كانوا من قبل معلمين دينيين ومفسرين له، وفيما بعد اتخذ رجال الكنيسة إجراءات ذكية حتى لا يستولي الملوك بعد ذلك على هذه السلطة، مثل تحريم زواج كبار رجال الكنيسة والمفسر الأعظم للعقيدة. وبعد ذلك ازداد عدد العقائد الدينية واختلطت بالفلسفة مما جعل من الضروري أن يكون المفسر الأعظم فيلسوفا ولاهوتيا من الطراز الأول، قادرا على القيام بكثير من التأملات العميقة، وهو ما لم يكن ممكنا إلا لمن لديهم كثير من الفراغ، وهذا الوضع يختلف كل الاختلاف عما كان عليه الحال عند العبرانيين، حيث أسست الدولة والكنيسة في الوقت نفسه، وكان موسى صاحب السلطة السياسية المطلقة، وهو نفسه الذي قدم إلى الشعب التعاليم الدينية ونظم شئون الدين واختار القائمين عليها؛ ولذلك كان للملكية هيبتها عند الشعب، وكان للملوك حق واسع جدا على شئون الدين. ومع أن أحدا بعد موسى لم يكن صاحب السيادة المطلقة في الدولة، فقد كان لكل نقيب (كما بينا من قبل) الحق في اتخاذ القرارات في شئون الدين والدنيا على السواء. ومن ناحية أخرى فعندما كان الشعب يرغب في أن يستزيد علما في أمور دينه وإيمانه لم يكن ملزما بالرجوع إلى الحبر أكثر مما كان ملزما بالرجوع إلى قاضي القضاة (انظر التثنية، 17: 9-10).
17
وأخيرا فمع أن هؤلاء الملوك لم يكن لهم الحق نفسه الذي كان لموسى، فقد كانوا هم الذين يصدرون القرارات الخاصة بتنظيم شئون الدين واختيار الكهنة. كان داود هو الذي اتخذ قرار تشييد المعبد (انظر الأخبار الأول، 28: 11-12 وما بعدها)
18
واختار ثمانين ألفا من اللاويين لإنشاد المزامير، وستة آلاف لكي يكون من بينهم القضاة ورجال الإدارة، وأربعة آلاف لحراسة الأبواب، وأربعة آلاف للعزف على الآلات الموسيقية (انظر السفر نفسه، 23: 4-5)
19
وهو الذي وزعهم في جماعات عين لكل منها رئيسا، ويقوم كل منها بخدمة المعبد بالتناوب، لفترة من الوقت (انظر الإصحاح نفسه 9)،
20
كما نظم الكهنة في جماعات مماثلة. ولكنني لما كنت لا أود الدخول في كل هذه التفصيلات فإني أحيل القارئ إلى سفر الأخبار الثاني، الإصحاح 8، الآية 13، الذي جاء فيه: «حينئذ أصعد سليمان محرقات للرب ... بحسب وصية موسى ويشهد الراوي الخزائن.» من هذه النصوص ومن الروايات الأخرى عن الملوك يتبين في الآية 15 بأنه «لم يعدل عن وصية الملك للكهنة في كل أمر وفى.» بوضوح تام أن العبادة وشئون الدين كانت من اختصاص الملك وحده، وعندما قلت من قبل: إن الملوك لم يكن لديهم الحق نفسه الذي كان لموسى في تعيين الحبر الأعظم وفي مخاطبة الله مباشرة أو في إدانة الرعايا الذين يدعون النبوة في أثناء حكمهم، فإني لم أقل ذلك إلا لأن الأنبياء بما لهم من سلطة كان لهم الحق في اختيار ملك جديد والعفو عن قاتل الملك (السابق)، ولكن هذا لا يعني أنه كان باستطاعتهم تقديم الملك للمحاكمة أو اتخاذ أي إجراء ضده لو سمح لنفسه بخرق القوانين.
21 ⋆
فلو لم يكن هناك أنبياء باستطاعتهم بفضل وحي خاص بهم العفو عن قاتل الملك لكان للملوك العبرانيين الحق المطلق في كل الأمور الدينية والدنيوية.
أما اليوم، فإن الحكام لما كانوا لا يجدون أنبياء أمامهم، ولما كانوا بحكم تشريعاتهم، غير ملزمين بالاعتراف بهم (لأنهم لا يلتزمون بقوانين العبرانيين) فإن لهم الحق المطلق في الأمور الدينية، مع أنهم لا يحيون حياة العزوبة، وسيحتفظون بها دائما بشرط ألا يسمحوا بحدوث زيادة مفرطة في عقائد الدين، أو بالخلط بينها وبين المعارف العلمية.
الفصل العشرون
حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة
الحرة
وفيه نبين أن حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة.
1 ***
لو كان من السهل السيطرة على الأذهان مثلما يمكن السيطرة على الألسنة، لما وجدت أية حكومة نفسها في خطر، ولما احتاجت أية سلطة لاستعمال العنف، ولعاش كل فرد وفقا لهوى الحكام، ولما أصدر حكما على حق أو باطل، على عدل أو ظلم إلا وفقا لمشيئتهم. ولكن الأمور لا تجري على هذا النحو كما لحظنا في أول الفصل السابع عشر، لأن ذهن الإنسان لا يمكن أن يقع تحت سيطرة أي إنسان آخر؛ إذ لا يمكن أن يخول أحد بإرادته أو رغما عنه إلى أي إنسان حقه الطبيعي أو قدرته على التفكير وعلى الحكم الحر في كل شيء. وعلى ذلك فإن سلطة تدعي أنها تسيطر على الأذهان إنما توصف بالعنف، كما تبدو السيادة الحاكمة ظالمة لرعاياها ومغتصبة لحقوقهم عندما تحاول أن تفرض على كل منهم ما يتعين عليه قبوله على أنه حق، وما يتعين عليه رفضه على أنه باطل، وأن تفرض عليه المعتقدات التي تحثه على تقوى الله؛ ذلك لأن هذه الأمور تعد حقا خاصا بكل فرد، لا يمكن لأحد - إن شاء - أن يسلبه إياه، وأنا أعترف بأن هناك أناسا كثيرين لا يخضعون حقا خضوعا مباشرا لسلطة فرد آخر، ولكن ذهنهم يحتشد بقدر من الأفكار المسبقة العجيبة يجعلهم ينساقون وراء أفكار هذا الآخر، إلى حد نستطيع معه أن نصفهم بأنهم تابعون له في فكره، ولكنه مهما كانت درجة الخضوع الذي يحصل عليه البعض بوسائل مفتعلة، فمن المحال أن نمنع الناس من الاعتقاد بأن آراءهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأن اختلاف الأذهان لا يقل عن اختلاف الأذواق؛ فموسى، الذي عرف كيف يكسب ثقة شعبه، لا بالالتجاء إلى الخداع، بل بصفته الإلهية، حتى لقد اعتقد الناس أن أفعاله وأقواله موحى بها من الله؛ أقول: إن موسى نفسه لم يسلم مع ذلك من الشبهات أو من التأويلات المعارضة له، فكيف يسلم الملوك أنفسهم من ذلك؟ وفضلا عن ذلك، فإذا كان من الممكن تصور عبودية الأذهان في النظام الملكي فإن هذا الاحتمال مستبعد تماما في نظام الحكم الديمقراطي،
2
حيث يشارك الشعب كله أو معظمه في السلطة الجماعية، وأظن أن السبب في ذلك لا يخفى على أحد.
وإذن فمهما عظم الحق الذي تتمتع به السلطة العليا الحاكمة في جميع المجالات، ومهما ساد الاعتراف بها على أنها مفسرة للقانون والتقوى فإنها لا تستطيع منع الأفراد من إصدار أحكامهم في كل شيء طبقا لآرائهم الخاصة أو الانفعال - على نحو فردي - بهذا الشيء أو ذاك. صحيح أن من حق هذه السلطة العليا اعتبار من لا يشاركونها في رأيها في كل شيء أعداء، ولكننا لا نناقش الآن حقها، بل نبحث فيما يحقق مصلحتها. إننا نسلم بأنها تستطيع شرعا الحكم بأعنف الطرق وإصدار أحكام الإعدام على المواطنين لأتفه الأسباب، ولكن الكل مجمعون على أن هذا الأسلوب في الحكم يعارض العقل السليم، بل إنه لما كانت السلطة العليا لا تستطيع أن تحكم بهذا الأسلوب، دون أن تعرض الدولة للخطر، فإننا نستطيع إنكار مقدرتها على استعمال هذه الوسائل وما شابهها، وبالتالي إنكار حقها المطلق في ذلك؛ لأننا نعلم أن حق السلطة العليا يتحدد حسب قدرتها.
وعلى ذلك، فإذا لم يكن من الممكن أن يتخلى أحد عن حريته في الرأي وفي التفكير كما يشاء، وإذا كان كل فرد شيد تفكيره بناء على حق طبيعي أسمى، فإن أية محاولة لإرغام أناس ذوي آراء مختلفة، بل ومتعارضة، على ألا يقولوا إلا ما تقرره السلطة العليا تؤدي إلى أوخم العواقب، بل إن الأذكياء منهم - ناهيك بالعامة - لا يمكنهم أن يلزموا الصمت؛ ذلك لأن من الأخطاء الشائعة بين الناس أنهم يبوحون بنواياهم للآخرين، حتى في الحالات التي يحسن فيها الكتمان. وعلى ذلك فإن السلطة السياسية تكون أشد عنفا إذا أنكرت على الفرد حقه في التفكير وفي الدعوة لما يفكر فيه، وعلى العكس تكون معتدلة إذا سلمت له بهذه الحرية. ومع ذلك فنحن لا ننكر أن سيادة الدولة يمكن أن يطعن فيها بالأقوال كما يطعن فيها بالأفعال. وبالتالي فإذا كان من المستحيل سلب الرعايا لحريتهم في التعبير كلية، فإن من الخطورة التسليم لهم بها كلية؛ لذلك سنحاول أن نبين إلى أي حد يمكن ويجب التسليم بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك تهديد لسلامة الدولة أو لحق السلطة العليا، وهذا، كما أعلنت في أول الفصل السادس عشر، هو الموضوع الرئيس لهذا الكتاب.
يتبين بوضوح تام، من الأسس التي تقوم عليها الدولة، والتي بيناها من قبل، أن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة، أو إرهاب الناس، أو جعلهم يقعون تحت نير الآخرين، بل هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان، أي يحتفظ بالقدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير. وأكرر القول بأن الغاية من تأسيس الدولة ليست تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل إن المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كيما تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا دون إشهار لأسلحة الحقد أو الغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة. وقد رأينا أيضا أن الشرط الوحيد الضروري لقيام الدولة هو أن تنبع سلطة إصدار القرار من الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فرد واحد. ولما كانت أحكام الناس، إذا ما تركوا أحرارا، تختلف فيما بينها كل الاختلاف، ولما كان كل فرد يظن أنه وحده الذي يعلم كل شيء، ونظرا إلى أن من المستحيل أن يفكر الناس كلهم ويعبروا عن أفكارهم بطريقة واحدة، فإنهم ما كانوا ليعيشوا في سلام لو لم يتخل كل فرد عن حقه في أن يسلك وفقا لما يمليه عليه قراره الشخصي. وعلى ذلك فإن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يسلك كما يشاء وليس حقه في التفكير والحكم. وعلى ذلك فإن كل من يسلك ضد مشيئة السلطة العليا يلحق بها الضرر، ولكن المرء يستطيع أن يفكر وأن يصدر حكمه، ومن ثم يستطيع الكلام أيضا، بحرية تامة ، بشرط ألا يتعدى حدود الكلام أو الدعوة، وأن يعتمد في ذلك على العقل وحده، لا على الخداع أو الغضب أو الحقد، ودون أن يكون في نيته تغيير أي شيء في الدولة بمحض إرادته. فلنفرض مثلا أن شخصا قد بين تعارض أحد القوانين مع العقل، وأعرب عن رأيه في ضرورة إلغائه، وفي الوقت نفسه عرض رأيه على السلطة العليا لتحكم عليه لا لأنها وحدها هي التي لها الحق في إلغاء القوانين، وكف في أثناء محاولته هذه عن أي مظهر من مظاهر المعارضة للقانون المذكور، فإنه يكون جديرا بلقب المواطن الصالح وبثناء الدولة عليه، أما إذا كان الهدف من تدخله هو اتهام السلطات العامة بالظلم وجعلها مثارا للغضب، أو حاول إلغاء القانون رغما عن السلطات العامة عن طريق إثارة الفتن، فإنه يكون مشاغبا عاصيا.
وهكذا تتضح لنا الآن الشروط التي يستطيع بموجبها الفرد أن يعبر عما يفكر فيه وأن يدعو له دون أن ينال من حق السلطة العليا أو من سلطتها، أي دون تهديد للسلام الداخلي: يكفيه أن يترك للسلطة العليا مهمة اتخاذ القرارات العملية، وألا يقوم بأي شيء ضد هذه القرارات، حتى ولو اضطر في كثير من الأحيان أن يسلك على نحو مخالف لرأيه الذي يجاهر بصوابه، حينئذ لا يمثل سلوكه هذا أية خطورة على العدالة أو على التقوى، بل إني لأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأقول: إن من واجبه أن يفعل ذلك إن أراد أن يكون عادلا تقيا؛ وذلك لأن العدالة، كما بينا من قبل، تتعلق بمشيئة السلطة العليا وحدها، بحيث لا يمكن لأحد أن يعدل دون أن يكون سلوكه مطابقا لقراراتها. أما التقوى فإن أسمى مظاهرها هي تلك التي تؤدي إلى سلامة الدولة وأمنها الداخلي (وقد بينا ذلك في الفصل السابق) وهو ما لا يتحقق لو عاش كل فرد وفق هواه، فمن الفسوق إذن أن يفعل المرء شيئا طبقا لرأيه الخاص ضد مشيئة السلطة العليا التي يعد هو أحد رعاياها؛ إذ إنه لو استباح الجميع لأنفسهم أن يفعلوا ذلك لأدى هذا إلى انهيار الدولة، بل إن الإنسان لا يعمل شيئا مطلقا ضد ما يقضي به عقله وما يقرره، ما دام يعمل طبقا لمشيئة السلطة العليا، إذ إن العقل ذاته هو الذي أقنعه بأنه يخول لها حقه في أن يحيا على هواه طبقا لمشيئته الخاصة. ولو أن التجربة اليومية تقدم إلينا دليلا آخر على ذلك، ففي المجالس - سواء أكانت مجالس عالية أم مجالس ثانوية الأهمية - يندر أن تصدر القرارات بإجماع الآراء، ومع ذلك يصدر كل قرار معبرا عن إرادة جميع الأعضاء، سواء منهم من صوتوا معه أو ضده.
3
ولكن، لنرجع إلى موضوعنا الأصلي، فقد رأينا بعد الرجوع إلى الأسس التي تقوم عليها الدولة، ما هي الشروط التي يستعمل بها الفرد حريته في الرأي دون أن ينال من حق السلطة العليا. ومن السهل الآن تحديد الآراء التي يؤدي التصديق بها إلى الفتن في الدولة؛ فتلك هي الآراء التي تؤدي المناداة بها إلى نقض العهد الذي تخلى به الفرد عن حقه في أن يفعل ما يشاء. ومن أمثلة ذلك، الرأي الذي ينكر استقلال السلطة العليا من حيث المبدأ، أو الرأي الذي لا يحتم على كل فرد الوفاء بوعده، أو الذي يوصي بأن يعيش كل على هواه، وما شابه ذلك من الآراء التي تتعارض مع هذا العهد تعارضا مباشرا، والتي يكون معتنقها داعية للفتنة، لا بسبب حكمه أو رأيه في ذاته، بل بسبب السلوك المترتب عليها؛ إذ إن اعتناق هذه الآراء يعني التخلي - ضمنا أو صراحة - عن الولاء للسلطة العليا، أما الآراء الأخرى التي لا تنطوي على مسلك من نوع نقض العهد، أو الانتقام، أو الغضب ... إلخ، فلا يمكن أن توصف بأنها داعية للفتنة، ما لم يكن ذلك في دولة فاسدة؛ أي في دولة أحرز فيها المتعصبون الطامعون الذين لا يطيقون كل من كان على خلق قويم، نجاحا جعلهم يشتهرون بين العامة إلى حد أصبحت معه سلطتهم تطغى على سلطة الحاكم. ومع ذلك فنحن لا ننكر وجود بعض الآراء التي لا يكون من الأمانة عرضها ونشرها مع أنها تبدو وكأنها مجرد آراء تحتمل الصواب والخطأ. وقد بينا في الفصل الخامس عشر
4
هذه الآراء، مع حرصنا على ألا نحد على أي نحو من حرية الفعل. وأخيرا فإذا أدركنا أن الأفعال، أي الإحسان للجار مثلا، هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها كل فرد أن يثبت ولاءه للدولة، كما يثبت ولاءه لله، اعترفنا بلا تردد بأن أفضل الدول هي تلك التي تسلم للفرد بالحرية نفسها التي يسلم له بها الإيمان. وإني لأعترف بأن هذه الحرية قد تسبب بعض المضايقات ولكن هل هناك تنظيم وضعي يبلغ من الحكمة حدا يجعل من المستحيل أن تنشأ عنه بعض المضايقات؟ إن من يريد تنظيم الحياة الإنسانية كلها بالقونين يزيد من حدة العيوب دون أن يقومها، ومن الأفضل السماح بما لا نستطيع منعه مهما كان الضرر الناتج عن ذلك. إننا نعلم العواقب الوخيمة المترتبة على الترف والحسد والشهوة والثمالة وما شابهها من الانفعالات، ومع ذلك نسمح بهذا كله لأننا لا نستطيع إلغاءه بسلطة القانون، مع أنها رذائل فعلية، فالأولى أن نسمح بحرية الحكم، التي هي فضيلة في الواقع، وألا نقضي عليها. ولنضف إلى ذلك أنه لا يوجد ضرر واحد ينتج عن حرية التفلسف لا تستطيع السلطات العليا أن تتجنبه (وسأبرهن على ذلك الآن). وأخيرا أليست الحرية شرطا أساسيا لتقدم العلوم والفنون؟ إن العلوم والفنون لا تتقدم تقدما ملموسا إلا على أيدي أناس تخلصوا تماما من المخاوف وأصبحت لهم حرية الحكم.
فلنفرض، مع ذلك، أنه يمكن سلب الناس حريتهم والقضاء على استقلالهم بحيث لا يمكنهم التفوه بكلمة واحدة إلا بأمر السلطة العليا، في هذه الحالة لن يحدث مطلقا أن تتفق جميع أفكارهم مع أفكار السلطة العليا، والنتيجة الحتمية لذلك هي استمرار الرعايا في التفكير على نحو يتعارض مع أقوالهم، وبذلك تضيع الثقة، التي هي شرط ضروري لإقامة الدولة، ويؤدي تشجيع الفساد الكريه والخداع إلى سيادة المخاتلة والغش في جميع العلاقات الاجتماعية. وفضلا عن ذلك فإن من يتوقع من جميع الناس تكرار الأقوال نفسها التي تلقن لهم يكون واهما بحق؛ فالواقع يثبت عكس ذلك، إذ إنه كلما حاول المرء سلب الناس حريتهم في التعبير استثار مقاومتهم. وأنا لا أقصد أولئك الشرهين المتملقين الذين لا خلق لهم، والذين تنحصر أعظم أمانيهم في تأمل بريق الذهب وفي إشباع بطونهم، بل أقصد أولئك الذين تحرروا بفضل حسن تعليمهم وطهارة حياتهم ونبل أخلاقهم. لقد طبع معظم الناس على الاستياء الشديد إذا ما عدت بعض آرائهم التي يعتقدون بصحتها جرما، وإذا ما وصف ما يحث نفوسهم على تقوى الله وحب الناس أنه جريمة. ويؤدي بهم ذلك، في نهاية المطاف، إلى رفض قوانين الدولة، والتجرؤ على فعل ما يضر بالسلطات العامة. وعندئذ يرون أن إثارة الفتنة واستعمال كل ألوان العنف في سبيل ما يعتقدونه شيء رائع لا عار فيه. ولما كانت الطبيعة الإنسانية على هذا النحو، إذن يتضح لنا أن القوانين الموضوعة ضد هذه الآراء لا تهدد المجرمين، بل تهدد أصحاب الشخصيات المستقلة وأنها لا تضع عقابا للأشرار، بل إساءة للشرفاء. ومن ثم كان الإبقاء عليها يمثل خطرا شديدا على الدولة. وعلى أية حال، فإن هذه القوانين الموضوعة لإدانة الآراء لا تنطوي على أية فائدة، لأن من يؤمنون بصحة الآراء لا يمكنهم طاعة هذه القوانين، أما من يرفضونها لبطلانها فيجدون في هذه القوانين امتيازات لهم وينتابهم الغرور بانتصارهم، بحيث لا تستطيع السلطات العامة - لو أرادت إلغائها - لتضيف إلى ما قلناه الآن تلك النتائج التي استخلصناها من الفصل الثامن عشر في النقطة الثانية من تاريخ العبرانيين. وأخيرا، فما أكثر الفرق التي نشأت داخل الكنيسة عندما أرادت السلطات العامة وضع حد لجدل رجال الدين بوساطة القوانين. والواقع أنه لو لم يسيطر على الناس الأمل في أن يجتذبوا القوانين والسلطات العامة لصفهم، ولينتصروا على أعدائهم وسط تصفيق العامة لهم، وتلقي مظاهر التكريم، لما تقاتلوا بكل هذا القدر من سوء النية، ولما تملك نفوسهم كل هذا الغضب، وهذا ما تؤكده التجربة ذاتها - فضلا عن العقل - بأمثلة كثيرة من الحياة اليومية، فمعظم القوانين التي تأمر كل فرد بما ينبغي أن يعتقد، وتحرم عليه أن يتكلم أو أن يكتب ضد هذا الرأي أو ذاك، قد وضعت لإرضاء أناس لا يطيقون أن يروا غيرهم معتزين بشخصيتهم المستقلة، أو بالأحرى استسلاما لغضبهم. وهؤلاء هم الذين يستطيعون بسهولة، بما لديهم من نفوذ ضار، تحويل إخلاص العامة الميالة إلى الفتن، إلى غضب عارم، وإثارتها ضد من يريدون هم أنفسهم أن يقضوا عليهم.
أليست السيطرة على غضب العامة واندفاعها أفضل من وضع قوانين لا يمكن أن يرفضها إلا محبو الفنون والفضيلة وحدهم، ومن سقوط الدولة إلى هذا الحضيض الذي لا نستطيع فيه تحمل وجود بعض الشرفاء من بين رعاياها. إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها. إنها لمصيبة فادحة أن يعامل بعض الأفراد على أنهم أعداء الدولة ويساقون إلى الموت بلا ذنب ارتكبوه وبلا جرم اقترفوه، بل لمجرد كونهم يعتزون بشخصيتهم، بحيث تصبح المقصلة، التي يرتعش منها الأشرار، مسرحا عظيما تمثل عليه أدوار رائعة من الشجاعة وقوة التحمل، على حين لا يلحق بالسلطة العليا إلا العار؛ ذلك لأن من يعلم براءته لا يخاف الموت كما يخافه المجرمون، ولا يطلب العفو، ومن لا يعذبه تأنيب الضمير لذنب اقترفه، يقبل الموت في سبيل غاية نبيلة على أنه شرف، لا عقاب، ويصبح عظيما حقا لأنه ضحى بحياته في سبيل الحرية، فأي مثل يعطيه هؤلاء بموتهم الذي لا يفهم سببه الأغبياء والجبناء، ويحقره دعاة الفتنة، ويعظمه الفضلاء؟ إن كل ما يستخلصه الحاضرون من هذا المشهد الأليم هو أن عليهم إما أن يسيروا في خطى أولئك الشهداء، وإما أن يصفقوا لجلاديهم.
أما إذا أردنا أن يكون الولاء، لا التهاون والنفاق، هو الجدير بالتقدير، وألا تضعف السلطة العليا أو تخضع لدعاة الفتن، فيجب الاعتراف لكل فرد بحريته في الرأي، وحكم الناس بحيث يعيشون في سلام بالرغم من اختلافهم وتعارضهم في الآراء. ولا يمكننا أن نشك في أن هذه الطريقة في الحكم هي أفضل الطرق وأكثرها اتفاقا مع الطبيعة الإنسانية ، ففي الدولة الديمقراطية (وهي أقرب نظم الحكم إلى حالة الطبيعة) بينا أن جميع الناس يتفقون على العمل بإرادة مشتركة، ولكنهم لا يتفقون على أن يبدوا آراءهم أو يفكروا بطريقة واحدة.
5
وبعبارة أخرى، فلما كان الناس يعلمون أنهم لا يستطيعون دائما الاجتماع على رأي واحد، فقد اتفقوا على العمل بالرأي الذي تجتمع عليه أغلبية الناس، وعلى إعطائه قوة القانون مع الاحتفاظ بحقهم في إلغاء هذا القرار الأول عندما يجدون ما هو أفضل منه، وكلما قلت حرية الرأي عند الناس ابتعدوا عن حالة الطبيعة، واشتد عنف السلطة.
وهناك أمثلة كثيرة على أن الحرية لا تمثل أي ضرر لا تستطيع السلطة العليا تجنبه بمفردها، وعلى أن احترام الناس لهذه السلطة وحدها يمنعهم من أن يسيئوا إلى بعضهم البعض مهما كان بينهم من اختلاف في الآراء. ولسنا في حاجة إلى الذهاب بعيدا لكي نهتدي إلى هذه الأمثلة، فلدينا مثلا مدنية أمستردام، التي جنت ثمار هذه الحرية فنالها من ذلك أعظم الفائدة، وحازت إعجاب جميع الأمم الأخرى، ففي هذه الجمهورية المزدهرة وفي هذه المدينة الرائعة يعيش الناس، من كل جنسية ومن كل طائفة في وفاق كامل، وإذا أراد أحد أن يستدين فإنهم يسألون فقط إن كان غنيا أو فقيرا، جديرا بالثقة أو مشهورا بالخداع، ولا يهمهم معرفة دينه أو مذهبه؛ لأن هذه الاعتبارات لا تتدخل في كسب القضية أو خسرانها إذا رفع الأمر يوما إلى القضاء. ولا توجد طائفة، مهما كانت مكروهة، لا يتمتع أنصارها بحماية السلطة العامة لها (بشرط ألا تسبب هذه الطائفة أي ضرر لأي فرد، وأن ترد لكل ذي حق حقه وأن تحيا حياة شريفة). وعلى العكس عندما تدخل رجال الدولة، وتدخلت دول الأقاليم من قبل في الجدل اللاهوتي بين المعاتبين وأعداء المعاتبين
6
حيث الانقسام والفتنة، وأثبتت الأمثلة العديدة عندئذ أن القوانين الموضوعة للدين لإنهاء الجدل تثير الناس أكثر مما تصلحهم، وأن كثيرا من الناس يتخذون من هذه القوانين ذريعة ليفعلوا ما يشاءون. وفضلا عن ذلك فإن الانقسام إلى شيع لا ينشأ عن رغبة صادقة في معرفة الحقيقة لأن هذه الرغبة تؤدي إلى الطيبة والتسامح، بل عن شهوة عارمة للحكم. ومن ذلك يتبين بوضوح لا يقبل أي شك أن دعاة الفتنة هم أولئك الذين يدينون كتابات الآخرين ويثيرون غضب الشعوب ضد مؤلفيها، وليسوا هم المؤلفين الذين لا يكتبون إلا للعلماء، ولا يعتمدون إلا على العقل وحده. أما مثيرو الشغب الحقيقيون فهم الذين يريدون في دولة حرة القضاء على حرية الرأي، التي لا يمكن قمعها.
وهكذا نكون قد بينا أنه: (1)
يستحيل سلب الأفراد حريتهم في التعبير عما يعتقدون. (2)
لا يهدد الاعتراف بهذه الحرية حق السلطة العليا أو هيبتها، ويستطيع الفرد الاحتفاظ بحريته دون تهديد لهذا الحق بشرط ألا يسمح لنفسه بتغيير قوانين الدولة المعترف بها أو بأن يفعل شيئا ضد القوانين القائمة. (3)
يستطيع الفرد أن يتمتع بهذه الحرية دون أن يكون في ذلك خطر على سلامة الدولة أو ضرر يصعب إيجاد علاج له. (4)
لا يجلب التمتع بهذه الحرية أي خطر على التقوى. (5)
لا فائدة من القوانين الموضوعة بشأن المسائل النظرية العقلية. (6)
وأخيرا، فإن تمتع كل فرد بحريته لا يهدد - كما بينا - سلامة الدولة، أو التقوى أو حق السلطة العليا، بل هو بالإضافة إلى ذلك ضروري للمحافظة على ذلك كله.
والواقع أنه عندما يحاول الناس سلب خصومهم هذه الحرية، وعندما تقدم معتقدات المنشقين للمحاكمة، لا مواقفهم واتجاهاتهم الإنسانية (التي هي الشيء الوحيد الذي يمكن إدانته)، تكون تلك الأحكام التي توقع على الشرفاء أمثلة للاستشهاد، وتثير في نفوس الحاضرين من التعاطف، بل من الرغبة في الانتقام للضحايا، أكثر مما تبعثه في نفوسهم من الخوف، ثم تفسد العلاقات الاجتماعية ويضيع حسن النية، على حين تقوى شوكة التملق والخداع، ويصيب أعداء المتهمين الغرور لأن السلطات سايرتهم في غضبهم، ولأن رؤساء الدول أصبحوا مشايعين لذلك الرأي الذي جعلوا من أنفسهم رسلا له، وبالتالي يتجرءون على اغتصاب حق السلطة العليا وعلى النيل من هيبتها، ويصل بهم الصلف إلى حد الادعاء المباشر بأن الله قد اختارهم بحيث يضفون على قراراتهم صبغة إلهية
7
يريدون أن تخضع لها السلطة العليا، التي هي إنسانية محضة. ولا يجهل أحد أن هذا الوضع مضاد على طول الخط لمصلحة الدولة. وكما فعلنا في الفصل الثامن نختتم عرضنا فنقول: لو أردنا أن نضمن سلامة الدولة، فيجب أن نجعل التقوى والدين مقتصرين على ممارسة العدل والإحسان، كما يجب أن ينصب تشريع السلطة العليا في المجالين الديني والدنيوي على أفعال الرعايا وحدها، وأن يترك لكل فرد حريته في التفكير والتعبير.
وهكذا انتهيت من معالجة جميع المسائل التي اعتزمت بحثها عندما شرعت في الكتابة، ولم يبق لي إلا أن أعلن صراحة أنني أقدم عن طيب خاطر كل ما كتبت للسلطات العليا لوطني لكي تفحصه وتحكم عليه، فإن بدت لها إحدى قضاياي معارضة لقوانين البلاد أو ضارة بالمصلحة العامة، فإني أتراجع عنها؛ ذلك لأني أدرك أنني بشر وأن من الممكن أن أكون قد أخطأت، ولكني على الأقل حاولت بقدر طاقتي ألا أقع في الخطأ، وحرصت بوجه خاص على ألا أكتب شيئا يتعارض مع قوانين بلدي أو يتنافى مع الحرية والأخلاق الحميدة.
8
Page inconnue