ومع أن باستطاعة كل فرد كما قلنا من قبل أن يدرك بسهولة ما قلته، فإنه لما كان هذا الأمر يقرر مصير نظرتنا إلى الدين بأسره، فإني سأقدم برهانا أدق وشرحا أوضح لما أقول؛ ولهذا الغرض يجب أن نبين: أولا أن المعرفة العقلية، أي المعرفة الصحيحة لله،
6
ليست كالطاعة هبة لكل المؤمنين. ثانيا أن المعرفة الوحيدة التي طلبها الله من جميع الناس بلا استثناء، على لسان الأنبياء، والتي لا يمكن إعفاء أحد منها، هي معرفة العدالة الإلهية والإحسان الإلهي. ومن السهل استخلاص هاتين الحقيقتين من الكتاب ذاته: (1)
هناك نص واضح كل الوضوح في سفر الخروج (1: 3) يقول الله فيه لموسى كي يبرز له عظمة الفضل الذي أكرمه به: «أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إلها قادرا على كل شيء، وأما اسمي يهوه فلم أعلنه لهم.» ولكي نشرح هذا النص يجب أن نلحظ أن «الشداي» تعني بالعبرية «الله الكافي»
7
لأنه يعطي كل فرد ما يكفيه، ومع أن لفظ «سداي» يستعمل في كثير من الأحيان بمفرده للدلالة على الله، فإنه يجب ولا شك أن نفهم ضمنا كلمة «ال» أي الله، على الدوام، كذلك يجب أن نلحظ أننا لا نجد مطلقا في الكتاب اسما آخر غير «يهوه» للتعبير عن ماهية الله المطلقة، التي لا تربطها صلة بالمخلوقات؛ ولذلك يقول العبرانيون: إن هذا الاسم، وحده هو الذي ينتمي إلى الله بالمعنى الصحيح، أما الأسماء الأخرى فلا تشير إلا إلى صفاته. والواقع أن التسميات الأخرى لله، التي يستخدم فيها الاسم أو الصفة، تعبر إما عن صفات ملائمة له في علاقته بالمخلوقات، أو عن تجليه من خلالها؛ فمثلا «ال - و» مع الحرف الزائد «ه» «ألوه»، تعني فقط قادر - كما هو معروف. وعلى ذلك فهذا الاسم لا يلائم لله، بمعنى أنه وحده هو «القادر» كما نقول إن بولس وحده هو الحواري. وباستثناء هذه الحالة، تضاف صفات إلى هذه الكلمة «ال» للتعبير عن صفات هذه القدرة مثل: العظيم، الجبار، العادل، الرحيم ... إلخ. أو إذا أردنا فهم هذه الصفات المختلفة مرة واحدة استعملنا الكلمة في صيغة الجمع لتفيد المفرد، ويكثر استعمال هذه الطريقة دائما في الكتاب، ومن ثم فعندما يقول الله لموسى في الفقرة المذكورة: إنه لم يكشف عن نفسه قبل ذلك لآبائه باسم يهوه، يعني أن العبرانيين القدماء لم يعرفوا أية صفة لله تدل على ماهيته المطلقة، ولم يعرفوا إلا آثاره ووعوده، أي إنهم عرفوا مظاهر القدرة الإلهية من خلال الأشياء الحسية. ولنلحظ أن الله يتحدث إلى موسى هكذا، لا ليتهم قدماء العبرانيين بالكفر، بل على العكس ليثني على تصديقهم وإيمانهم، فمع أنهم لم يعرفوا الله معرفة حقة مثل معرفة موسى له، فإنهم صدقوا وعود الله القاطعة التي لا تخلف، على حين أن موسى شك في الوعود بالرغم من أفكاره الأكثر عمقا، التي كونها عن الله، واعترض على الله بأنه وضع اليهود في أسوأ المواقف بدلا من أن يمنحهم الخلاص الموعود. وإذن فلما كان الأجداد قد جهلوا اسم الله الحقيقي وأخبر الله موسى بهذا الجهل ليثني على سماحة نفوسهم وصدق إيمانهم، وليذكر موسى بالفضل الفريد الذي وهبه إياه، فإننا نستطيع أن نصل من هذا إلى نتيجة أولى واضحة كل الوضوح، وهي أنه لا يمكن لأي أمر أن يجبر الناس على معرفة صفات الله،
8
وأن هذه المعرفة هبة خاصة لعدد قليل من المؤمنين، ولا حاجة بنا من أجل البرهنة على ذلك إلى الاستشهاد بنصوص من الكتاب، ألا يبدو واضحا حقيقة أن معرفة جميع المؤمنين بالله لم تكن متساوية؟ ألا يبدو واضحا أن مجرد الحصول على أمر لا يكفي لاكتساب الحكمة (أو الحياة أو الوجود)؟ إن الرجال والنساء والأطفال
9
لديهم القدرة نفسها على إطاعة الأمر، ولكن ليس على ممارسة الحكمة. وإذا اعترض أحد قائلا بأننا لا نحتاج إلى معرفة صفات الله بل نحتاج إلى الإيمان به في يسر ودون برهان، كان ردي هو أن الاعتراض ينطوي على مغالطة
Page inconnue